التنظيمات السرية
إذا كانت الأعمال التي تناولناها — فيما سبق — تعرض لبانورامية المسار الاجتماعي
والسياسي للحياة المصرية، منذ بداية عهد الاحتلال، في مضمونية سلبية، تكتفي بتصوير
الضغوط العنيفة التي يتعرض لها المجتمع المصري، فإن رواية محمد مفيد الشوباشي «طلائع
الأحرار» تضغط على الانتفاضة التي بدأت تسري في جسد الأمة، متمثلة في التنظيم السري الذي
كان ممهِّدًا — بتعاليمه ومبادئه ونضاله — لثورة ١٩١٩م.
ولعل تأكيد الفنان لحركة المقاومة المتمثِّلة في التنظيم السري، مردُّه إلى أن «طلائع
الأحرار» صدرت في الأربعينيات، بعد أن أضيفت التنظيمات السرية إلى سجلات التاريخ. أما
الحديث والسبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين وليالي سطيح وليالي الروح الحائر
وغيرها، فقد صدرت في العهد نفسه الذي عبَّرت عن أحداثه، لذلك، فإن مجرد التعبير عن
المعاناة القاسية التي كان يتعرض لها المجتمع المصري آنذاك، يُعَد تعبيرًا قياديًّا عن
دور
الفن. من هنا، تأتي دلالة الكلمات التي قدَّم بها المويلحي «حديث عيسى بن هشام»: «وإن
كان
في نفسه موضوعًا على نسق التخييل والتصوير، فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال
مسبوك في قالب حقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن نصف ما عليه
الناس في مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعيَّن اجتنابها، والفضائل التي يجب التزامها.»
نفس الدلالة يعطيها بيتا الشعر اللذان قدَّم بهما حافظ إبراهيم «ليالي سطيح»:
يا رب أخرجني إلى دار الرضا
عجلًا فهذا عالم منحوس
ظلوا كدائرة تحوَّل بعضها
عن بعضها فجميعها معكوس
تبدأ أحداث «طلائع الأحرار» في صبيحة يوم من فبراير عام ١٩٠٤م — العام الذي تم فيه
الاتفاق بين فرنسا وإنجلترا، بأن تُطلِق كلٌّ منهما يد صاحبتها، تلك في شمال أفريقيا،
وهذه
في مصر
١ — وتنتهي بالصحوة الهائلة التي شملت البلاد بعد مذبحة دنشواي.
ولعل اختيار الفنان لعام ١٩٠٤م منطلقًا لأحداث روايته،
٢ لأن ذلك العام هو الذي تحتمت فيه المواجهة بين القوى الوطنية وسلطات
الاحتلال، فلم تعُد فرنسا ترفع البلايا عن الشعوب — كما وصفها بذلك مصطفى كامل — وخرج
طلبة المدارس العليا في مظاهرات صاخبة، هاتفين بسقوط فرنسا الخائنة! ووجدت سلطات
الاحتلال الفرصة مواتية لصرف مصطفى كامل عن جهاده، بعد أن تبددت الآمال التي عقدها على
مؤازرة فرنسا، فأوعزت إلى الخديو أن يمنحه رتبة الباشوية، لكن الزعيم الشاب لم يقنط،
وواصل مسيرته، أما الباب العالي، فقد أسلم نفسه إلى نهاية قاسية ومهينة. وبالإضافة إلى
الحقيقة الماثلة، وهي أن الدولة المستعمِرة والدولة الأمل — إنجلترا وفرنسا — كانتا
تسيطران معًا على ثلثَي مساحة العالم العربي (٦٧٫٨٪) وأكثر من ثلاثة أرباع الشعب
العربي (٨٢٪).
٣ فإن جلاء فرنسا السهل عن فاشودة في ١١ ديسمبر ١٨٩٨م كان ملمحًا واضحًا في
اعتزام الاحتلال البريطاني مدَّ بقائه في مصر، وعدم معارضة فرنسا — في المقابل — لهذا
الاحتلال. كان الاستعمار الفرنسي يطمح لإحلال وجوده محل الاستعمار البريطاني، لكنه —
كان يرفض مجرد مبدأ مناقشة عودة مصر إلى الخلافة العثمانية. وكان لما حدث تأثيره المؤكد
في مواقف غالبية الساسة المصريين، فاتجهوا لمهادنة الاحتلال ومحاولة كسب رضائه. وتبيَّن
لمصطفى كامل أنه — بلجوئه إلى فرنسا لتساعده على تحقيق الاستقلال — إنما كان يحرث في
البحر. ثم كانت اتفاقية السودان في عام ١٨٩٩م، والتي خَوَّلت إنجلترا رسميًّا حق الاشتراك
في إدارة الحكم في السودان، أو بمعنى محدد: إنهاء الوحدة بين مصر والسودان. وكان الذي
وقَّع على الاتفاقية بالنيابة عن الحكومة المصرية، بطرس غالي الذي توضَّح إسهامه في
الحياة السياسية المصرية — في البداية — بصياغة وثيقة هزيمة العرابيين، وانتهاءً
بالموافقة على مد امتياز قناة السويس، مرورًا بتوقيع اتفاقية السودان، ورئاسة محكمة
دنشواي، وآراء غريبة في الشعب الذي خرج — للأسف — منه. أقول: كانت اتفاقية السودان ذات
تأثير مماثل لحادثة فاشودة. ثم جاء الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا في ١٩٠٤م ليبدِّد
أي
ضباب مساندة فرنسا للحركة الاستقلالية المصرية. يقول السير كمبل (فتاة مصر) «مصر صارت
لنا الآن بعد الاتفاق الأخير مع فرنسا.»
٤ يضيف أحمد شفيق باشا: «حتى إذا ما كان إتمام هذا الاتفاق، أفقنا كلنا من
سُباتنا، وعلمنا أن لمصر أن تعتمد على نفسها فقط دون مساعدة أي دولة أخرى؛ لأن كل دولة
تضحي بكل مصلحة لأي بلد آخر — ولو كانت على حقٍّ — مقابل مصالحها الخاصة.»
٥
لقد كانت النتيجة الحتمية لاتفاق الجنتلمان بين بريطانيا وفرنسا في الثامن من أبريل
١٩٠٤م، والذي نصَّ على ألَّا تتدخل فرنسا في موقف بريطانيا واحتلالها الأراضي المصرية،
مقابلًا لعدم تدخل بريطانيا في موقف فرنسا من بلاد المغرب العربي واحتلال أراضيه؛ صار
من «حق» بريطانيا أن تستمر في احتلال مصر لفترة غير محددة، بينما أطلقت يد فرنسا في
المغرب، وكانت النتيجة الحتمية لذلك الاتفاق هي تمزيق اتفاقية مؤتمر لندن ١٨٤٠م بضمان
استقلال مصر، ولم تعُد بريطانيا في حاجة إلى تكرار وعودها بالجلاء عن الأراضي المصرية،
وهو الوعد الذي حرصت على إطلاقه منذ بداية الاحتلال في ١٤ سبتمبر ١٨٨٢م. وكان ذلك
الاتفاق بداية صداقة جديدة بين الدولتين، وصلت إلى درجة التحالف في الحرب العالمية
الأولى، وكتبت «الأهرام» (٢١ / ٤ / ١٩٠٤م): «إن هذا الاتفاق هو أعظم عمل سياسي افتُتح
به
القرن العشرون؛ لأنه لم يبقَ بين فرنسا وإنكلترا؛ أي أعظم دول الأرض استعمارًا ومدنية
وحضارة، خلاف على شيء حيوي في بقعة من بقاع الأرض، بعدما شبعت الدولتان من الأملاك التي
دخلت تحت يدهما، ولم يبقَ من أرض معدَّة للاستعمار تتسابقان لامتلاكها سوى الأملاك التي
لم يحن — في عُرف أوروبا — اقتسامها.» أما ما كان يبدو عطفًا من فرنسا على الأماني
المصرية، فلم يكن عن قناعة حقيقية بقدر ما كان تكتيكًا ضمن استراتيجية لم يُتَح لها
التحقق. من هنا، أصبحت القوى الوطنية أمام سبيلين: إما الركون إلى اليأس، واعتبار أن
«يوم جلائهم ويوم نشور الخلق مقترنان» — كما يقول حافظ إبراهيم في قصيدته المشهورة —
وإما الإيمان بالمصرية التي تتغلب على كل الغزاة. كانت تلك المعاهدة حلقة في سلسلة
طويلة من الاتفاقات الودِّية بين دول الاستعمار، ومساندتها بعضها لبعض، في الوقوف أمام
مناطق النفوذ في أملاك الإمبراطورية العثمانية التي كان قد سرى الوهن إلى كيانها، فضلًا
عن محاصرة الاستعمار الألماني الناشئ المتطلِّع إلى أفريقيا وآسيا، والذي كان منافسًا
خطيرًا للدول الاستعمارية الكبرى، وبخاصة إنجلترا وفرنسا وروسيا. ويقول الشوباشي: «كانت
تلك المعاهدة نقطة تحوُّل من عهد إلى عهد، فلم يبقَ بعدها مجال لحسن الظن بإنجلترا.»
وبالطبع، فقد كانت خيبة أمل مصطفى كامل معلَنة، نتيجة لذلك الاتفاق المشئوم — والتعبير
له — «كان أنصار الاحتلال يقولون في السنين الماضية، إن الداعين للوطنية في مصر،
المنادين باستقلالها، هم آلات لحزب الاستعمار الفرنسي، ولا أظنكم إلا ذاكرين هذه التهم
الفاسدة، والتهكمات الباردة، والاختلاقات الساقطة، ولا أظنكم إلا عارفين بما قيل ويقال
عنا.» وبعد أن أعاد الرجل نفيه للاتهام، وأن الوطنيين المصريين لا يريدون الانتقال من
استبداد إلى استعباد، ولا يطالبون بخروج الإنجليز ليدخلوا تحت حكم جديد، وإنما هم
يطلبون استقلال وطنهم وحريته، «ونتمسك بهذا المطلب حتى آخر لحظة في حياتنا.»
٦ بعد أن أعاد مصطفى كامل النفي، دعا إلى خطة وطنية، بحيث تتحدد العناصر
المؤلفة للأمة اتحادًا لا يقوم فقط على أقوال الكُتاب والخطباء، وينادي بحقوقها ومطالبها
بكل قوة وثبات، وينظر الحال والاستقبال بعين لا تنام. كان مصطفى كامل مؤمنًا باستقلال
مصر في إطار الخلافة العثمانية. وكان — في الوقت نفسه — متأثرًا بمبادئ الثورة الفرنسية
التي تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة. ثم كان الاتفاق الودِّي درسًا لم يحاول مصطفى
كامل أن يستخلصه — قبلًا — من أحداث الثورة العرابية، وأعلن الزعيم الشاب — متأخرًا:
«إن العزلة التي رنا إليها بعثت فينا روحًا جديدًا، أرشدنا إلى الحقيقة التي لا قوام
لشعبٍ بدونها، ولا حياة لأمة بغيرها، ولا وجود لنفرٍ من الناس إذا لم يتبعوها، وهي أن
الأمم لا تنهض إلا بنفسها، ولا تسترد استقلالها إلا بجهودها.»
٧ «إننا لم نيأس، ولن نيأس أبدًا، من مستقبل الوطن العزيز، ولكننا يائسون كل
اليأس في أي تعضيد يأتينا من أوروبا، وأصبحنا نوجِّه همَّتنا ونشاطنا لتعليم الأمة
وتربيتها، بإنشاء المدارس في أنحائها، حيث ينشأ الشباب على أشرف المبادئ الوطنية،
ويتعلمون من الصغر تاريخ العظمة السالفة، ويُرَبون على الثقة بالمستقبل.»
٨ وكتب مصطفى كامل في رسالة إلى مدام جولييت آدم: «ليس في وسعي أن أتسلى عن
همومي أمام هذا الوفاق الإنجليزي الفرنسي المشئوم، الذي سيكون من ورائه أسوأ النتائج
على وطننا التعس، خديوينا السيئ الحظ. كما أنه ليس في وسع جميع مدارس المعمورة أن تربط
المصريين بفرنسا بعد الآن. إن مواطني يكرهون اليوم فرنسا أكثر من إنجلترا نفسها. أقول
ذلك وإن كنت أعلم أنه من القساوة المتناهية أن أقول لك. ولكن: أليست الصراحة أساس كل
مودة وروحها؟ إني أتألم ألمًا مزدوجًا، أتألم لك ولي، وإلا فاذكري أن فرنسا هي أول
دولة صادقت على الاحتلال بعقدٍ رسمي، أذلَّ الوطنيين المصريين والفرنسيين. إنك لا تدرين
مبلغ تشامخ الإنجليز في الوقت الحاضر، فإنهم يسخرون منا نحن صغار الأحلام الذين اعتمدنا
على فرنسا، ولهم الحق أن يسخروا. وإن موقفي الذاتي يصير مع ذلك من أضعف المواقف
وأخطرها، فإن جميع أصدقائي المصريين والفرنسيين الذين كانوا يناضلون بجانبي، أصبحوا إما
أصدقاء للإنجليز، وإما يائسين.»
٩
واللافت أن «طلائع الأحرار» تقصر تناولها على تفاعل طبقة المثقفين — والموظفين بخاصة
—
مع تطورات الأحداث، واختلاف المستوى البياني بصورة حادة في النظرة إلى المستقبل، فلا
يبدو انعكاس الأحداث في القاهرة — مثلًا — إلا في المظاهر الأجنبية التي تبدَّت في محال
البقالة والمقاهي والمخازن الأجنبية، ثم موسيقى القِرب الاسكتلندية التي تسير في شوارع
القاهرة، وتعزف المارشات العسكرية، ثم الضباط الإنجليز الذين يظهرون في خلفية الأحداث،
رغم أنهم المحرِّك الفعلي لها. أما الريف فهو لا يبدو إلا من خلال نافذة القطار الذي
يقل سامي إلى الإسكندرية: بيوت طينية قذرة، وأبواب قصيرة تعلق بها الأقذار، وأسقف
مفروشة بأعواد الذرة، وأجساد ضامرة أنهكتها العلل.
ولعل «طلائع الأحرار» هي أول عمل أدبي يعرض للحكومية المصرية — وفي تلك الفترة بالذات
—
حيث وجد الجهاز الوظيفي — الذي تمتد أصوله إلى عهد محمد علي، عندما عيَّن طبقة من الفنيين
والكتبة في وظائف الدولة، سعيًا وراء الإمبراطورية التي كان يحلم بقيامها — وجد هذا
الجهاز تحديدًا لأبعاده في عهد الاحتلال، حرصًا من السلطات البريطانية على إدارة الدولة
بأعداد من صغار الموظفين الذين تترأسهم قيادات من الضباط والموظفين الإنجليز. ففي خلال
السنوات من ١٩٠٥–١٩١٢م زادت نسبة المصريين في جميع الوظائف من ٤٥ إلى ٥١٪، لكنها هبطت
في الوظائف العليا من ٢٨ إلى ٢٣٪ مقابل زيادة في الإنجليز من ٤٢ إلى ٥٩٪. بالإضافة
إلى امتصاص الطلائع المثقفة، والإلقاء بها في طاحونة الجهاز الوظيفي، واعتبار الوظيفة
الحكومية هي الأمل المرتقَب للطبقة المثقفة، مع التهوين من قيمة المهن الحرة، مثل
المحاماة والصحافة «إن الشباب بعد أن يفارقوا المدارس كلهم آمال في حياة الاستخدام.»
١٠ ومع أن التجارة كانت تخلِّف أضعاف ما تخلِّفه الوظيفة من المال، فقد رفض أحمد
عبد الجواد — بين القصرين — أن يكون أحد أبنائه تاجرًا «لم يغِب عن علمه من أول الأمر
أن
متجرًا كمتجره، وإن هيَّأ له حياة صالحة — فإنه أعجز من أن يهيئ هذه الحياة لمن يخلفه
فيه
من أبنائه إذا روعي ما سيفرق من دخله على بقية المستحقين، فلم يعمل على إعداد أحد منهم
ليحل محله. على أن ذلك لم يكن السبب الجوهري لفتوره؛ كان — في الحق — يكبِّر الوظيفة
والموظفين، ويدرك خطرهم ومنزلتهم في الحياة العامة كما لمس ذلك بنفسه، سواء في أصدقائه
من الموظفين أو في بعض اتصالاته الحكومية المتعلقة بعمله، فأراد أبناءه على أن يكونوا
موظفين وأعدهم لذلك.» وربما لهذا السبب حاول مصطفى — عودة الروح — أن يترك المتجر الذي
ورثه عن أبيه في المحلة الكبرى، وجاء إلى القاهرة سعيًا وراء وظيفة. ويقول سطيح: «إن
المصري يعبد خدمة الحكومة، فهو يصرف إليها همَّه، ويقف عليها علمه، فهي إن فاتته فاته
الأمل وفتر نشاطه عن السعي والعمل، وهو لا يفتأ ينتظر الدخول فيها بقية عمره، انتظار
القوم عودة الحاكم بأمره.» (ولعل تلك الفترة هي منشأ المثل العامي القائل: إن جالك
الميري اتمرغ في ترابه). وأقف هنا لأضع فاصلًا بين الحكومية كظاهرة حكومية مصرية، وبين
تعميق الاحتلال لها، فالثابت تاريخيًّا أن حب الإنسان المصري للعمل الحكومي يعود إلى
عهود الفراعنة. ففي النصوص الفرعونية — على سبيل المثال — صورة خِطاب كتبه أب لابنه يقول
فيه: «بلغني أنك أهملت دراستك وسرت وراء ملاهيك. فهل تريد أن تكون فلاحًا تشقى وتكدح؟
لا تكن فلاحًا، ولا تكن جنديًّا، ولا تكن كاهنًا، بل كن موظفًا يحترمك الجميع، ويمتلئ
منزلك خدمًا وحشمًا، وتتربع الثلاثين إلى جانب رجال البلاط.» وعلى الرغم من ذلك الحرص
الاستعماري على تأكيد الحكومية، فقد نشأت بعض التناقضات التي وضعت مصالح الموظفين في
الكفة المقابلة لصالح سلطات الاحتلال، مثل الحرص على أن يكون الإنجليزي، مهما صغر،
رئيسًا للمصريين، مهما كبروا،
١١ وقصر الترقي إلى الوظائف العالية على الأقلية الخاضعة للاستعمار، والتي
دأبت على تنفيذ خططه وأهدافه. حتى تلك الفئة التي حققت بعض أطماعها، رفضت الواقع
لتطلعها إلى المزيد من النفوذ والسلطان (بعد أن وصل عبد المنعم إلى أقصى أمانيه
الوظيفية، نظر إلى القصور المتناثرة على النيل، وقال: أيقدَّر لي أن أعيش يومًا في قصر
من
هذه القصور؟) لكن أصحاب التطلعات يتبيَّنون — فيما بعد — أن الوصول إلى المناصب الرفيعة
لا يعني التمتع بالسلطان المنشود، فهو سيظل من نصيب الموظفين والضباط الإنجليز.
١٢
والحق أن نظرة مثقفي «طلائع الأحرار» إلى مأساة الاحتلال لم تكن يائسة كلها، ولم تكن
آملة كلها، بل إنها لم تكن نظرة واحدة — يأسًا وأملًا — على الإطلاق. وجد عبد المنعم
—
مثلًا — في عهد الاحتلال أرضًا رخوة يبذر فيها آماله، دون اعتبارٍ لنوعية الأرض التي
أثمرت تلك البذور. حدَّد هدفه، وقطع درب الوصولية إلى نهايته، ورقِّي من موظف صغير بديوان
الداخلية إلى رئيس لقلم المستخدمين قبل مرور ثلاث سنوات على تعيينه. ولم يكن عبد المنعم
إلا محصِّلة الظروف الأسرية القاهرة التي أحاطته بقيودها طيلة سني الدراسة، واليأس
الكامل الذي ران على البلاد بعد هزيمة العرابيين، بالإضافة إلى أنه لم يكن ممن تستهويهم
المُثُل والمبادئ، فهو يرغب في الحياة الهانئة، بصرف النظر عن الأساس الذي تقوم عليه.
وكان اليأس المطلَق هو موقف بعض شخوص الرواية «لأن الحالة تزداد سوءًا، ولا مجال لأملٍ
أو
تفاؤل.» وفي المقابل، ارتفع صوت المقاومة إلى حد رفض دعوة مصطفى كامل التي تتسم
بالسلبية، واتِّباع أعنف الوسائل في المطالبة بالاستقلال. «إنهم يزعمون للأمم كافة أنهم
انتشلونا من وهدة الشقاء، فقدَّرنا لهم هذا الجميل، واغتبطنا بإقامتهم بيننا، فكيف تطلب
أن نكتم بغضنا لهم ولصنائعهم؟ أليس في كتمانه تأييد لهذه الدعوى الباطلة؟» أما بقية
الآراء والمواقف، فهي تقرب من الأمل المطلَق، أو اليأس المطلَق، فضلًا عن المواقف
المتفرجة. ثمة رأي يرفض المقاومة: أترى أن نقاومهم؟ وبم؟ لقد قاومهم جيشنا، فكانت
الكارثة المشئومة. أتريد تكرار مأساة عرابي؟ إنها بريطانيا العظمى التي تحتلنا اليوم،
بريطانيا العظمى المسيطرة على نصف العالم، فكيف نستطيع نحن الضعفاء التغلب عليها؟ بم
نقاتل جيوشها التي قهرت الأمم؟ بم نقاوم ساستها الذين دوَّخوا فطاحل السواس؟ بم؟ بم؟
ورأي آخر، يعبِّر عن الضعف والرغبة في الاستفادة: أليس هذا عيبنا نحن المصريين … إننا
غير واقعيين فلا نقر بالأمر الواقع؟ ألم يصبح الإنجليز حكامنا، ولم نعد نملك إلا أن
نطيعهم؟ وزاد أصحاب هذا الرأي، فطالبوا بالاعتراف أن الاحتلال أنقذ البلاد من الفوضى،
ومن الإفلاس: نحن في أشد الحاجة إلى أساتذة مثلهم، فهم أهل دراية في الاقتصاد. أما
أنصار المقاومة، فقد كان الدكتور توفيق الذي قضى فترة طويلة من حياته في فرنسا، يرى أن
الكفاح في سبيل الحرية شاقٌّ ومرير، وهو يتطلب الفطنة والمعرفة وحسن الإدراك، وهذا لا
يكون إلا بالدراسة الطويلة، والفكر العميق. ووجد البعض في «الكتبخانة» أقوى معاقل
الكفاح، بينما رأى البعض الآخر أن العدو لم ينتصر على مواطنيه إلا بتميُّزه عنهم علمًا
ودراية، ومن ثَم فإن وسيلة الخلاص تتركز في الاعتماد على العلم والمعرفة، وطالب البعض
الثالث بالاستعانة بفرنسا «فهي تعبد الحرية، ولن تتوانى عن الدفاع عنها.
– لا! إن فرنسا تهتم بحريتها لا حرية غيرها، إنها تهتم بمصالحها قبل اهتمامها بأي
شيء
آخر، فعلينا أن نكشف لها عن نوايا الإنجليز وخطرهم على مصالحنا جميعًا.
– هل تجعل فرنسا ذلك؟
– إذا كانت تملك بعضًا من نواياهم، فالعلم وحده لا يكفي. يجب أن نكشف الستر للملأ
عن كل
ما يرتكبونه بين ظهرانينا، ونجسِّم لأوروبا الخطر الذي يهدِّد مصالحها في الشرق. وثمة
طرف
أخير وجد تسلية في تتبُّع رواية الاحتلال، وكان ينتظر تتمَّتها كباقي المتفرجين.»
•••
أما أنصار المقاومة، فلم تقف خلافاتهم عند السؤال: كيف تكون المقاومة؟ بل جاوزتها
إلى
السؤال: بمن تبدأ المقاومة؟ طلب البعض أن تكون البداية في أهل القاهرة لأنهم أقرب إلى
قيادات التنظيمات السرية، ولأن الفلاحين ألِفوا الظلم من قديم؛ فمن العسير إيقاظهم «كيف
نستطيع إحياء الموتى؟» لكن بعض الآراء الأخرى نادت بضرورة البدء بالفلاحين؛ إنهم
أكثرية الشعب، ولا سبيل إلى نهوض أمة إلا بنهوض أكثريتها. ورأي ثالث طلب «استنهاض
الأقلية ذات الوعي المتقدم فلا تلبث الأكثرية أن تنهج نهجها.» ورأي رابع بتحويل
الاهتمام إلى الجيش «ولكن هل بقي عندنا جيش؟ أين هو جيشنا؟» (ولعله يجدر بنا أن نشير
إلى أنه قد تكوَّنت في ١٨٨٤م جمعية سرية قوامها العديد من أفراد الجيش المصري — ما تبقَّى
منه
على وجه التحديد! — وكان اسم الجمعية هو «جمعية المودة السرية لضباط الجيش المصري في
وادي حلفا وسواكن.» وقد ضمَّت الجمعية إلى عضويتها تسعة ضباط، و٢٢٠ صف ضابط وجنديًّا).
إذن
فلا أمل إلا في ثورة شعبية، بل لا أمل إلا في ظهور زعيم يقود الجماهير إلى النصر،
وكان أصحاب الرأي الأخير هم أنصار الزعيم الشاب مصطفى كامل. أما الحتمية التي اتفقت كل
تلك الآراء المتباينة عليها في إيقاظ الشعب بعد سني اليأس الطويلة، وإعادة الثقة إلى
نفوس الجماهير التي صُدمَت في ساستها وهم يعلنون ولاءهم لقوات الاحتلال. وفي المقابل
من
تلك المواقف جميعًا كان حسَّان (الشارع الجديد) يدعو إلى الحرب سبيلًا للقضاء على كل
التناقضات التي عبَّر عنها أبطال «طلائع الأحرار». وكان يتحيَّن الفرصة لمحاربتهم، ويحرص
ألَّا تفلت من يده: لن يخرج الإنجليز من بلادنا إلا إذا حاربناهم.
– وكيف نحاربهم؟
– ننضم إلى تركيا … ونغريها بحربهم.
وقد بعث إلدون جورست، المعتمد البريطاني في مصر (١٩١٠م) إلى إدارة جراي وزير الخارجية
البريطاني، تقريرًا عن نشاط الجمعيات السرية في مصر، قال فيه: «أثبتت التحقيقات وجود
جمعية سرية سياسية، تضمنت لائحتها استخدام القوة لتحقيق أغراضها.»
١٣ وذكر جورست: إن التحقيق في حادثة الورداني أظهر أن الجمعيات السرية قد نمت
نموًّا «يوجِب الأسف.» وأضاف: «إن هذه الموجة — يعني العمليات الفدائية — ربما أدت بالبعض
ممن استولى عليهم الرعب من رسائل التهديد التي يتلقونها يوميًّا، إلى العدول عن القيام
بواجبات وظائفهم.» ويتحدث عبد المنعم شميس عن جمعية اليد السوداء: كان مقرها في شارع
عبد الدايم بعابدين، بالإضافة إلى فروع في الحلمية الجديدة والسيدة زينب وطولون وغيرها
من الأحياء، وكان أصحاب المطابع الصغيرة من المصريين يطبعون منشورات الجمعية دون مقابل.
١٤ ويذهب يونان لبيب رزق إلى أن جمعية اليد السوداء لم تكن ذات وجود حقيقي،
فقد دارت المنشورات التي وزعتها حول القبض على الشيخ عبد العزيز جاويش. ولما بُرئ الرجل
وأفرج عنه، اختفت منشورات الجمعية، واختفت الجمعية نفسها. ولعل عددًا من كوادر الحزب
الوطني استخدموا اسم اليد السوداء لدفع الحكومة إلى الإفراج عن الشيخ جاويش.
١٥
والحق أن أسلوب المقاومة المسلحة الذي لجأ إليه أبطال طلائع الأحرار كان رد فعل
لتصرفات سلطات الاحتلال، فضلًا عن تأثُّر الشباب بموجة الإرهاب والحركات الفوضوية التي
كانت منتشرة في الغرب آنذاك. وإلى جانب ذلك فقد كانت المنشورات ظاهرة واضحة في الحياة
السياسية المصرية، وفي نضال المصريين ضد الاحتلال البريطاني. ثمة منشورات لُصقَت
بالجدران، وكتب عليها بتوقيع «جمعية إنقاذ الوطن»:
يا أهل مصر تيقظوا من نومكم
وابكوا على مصر السعيدة واندبوا
فوزيركم قد باعها للإنجليز
وثمة منشورات أخرى، تناثرت في الميادين والشوارع والحارات والأزقة، وعلى أبواب
المصالح الحكومية والمباني العامة، تدعو إلى الثورة ضد الاحتلال.
وفي تقديري أن التنظيم السري في «طلائع الأحرار» لم يكن روائيًّا مطلقًا، بمعنى أنه
ارتكز على أساس من الواقع. فقد كان ثمة تنظيمات سرية في تلك الفترة، فضَّل أعضاؤها أن
تصدر في تصرفاتها عن إرادتها الخالصة، دون انتماء لأحد الأحزاب، على الرغم من انتماء
غالبيتهم إلى الحزب الوطني. كان الحزب الوطني — في رأيهم — منارة إشعاع وطني تعطي الأمل،
ورئيسه مصطفى كامل زعيمًا وطنيًّا بأكثر مما هو رئيس حزب. وكان لجوءهم إلى استخدام القوة
يعني — في الدرجة الأولى — شجب أهم بنود دعوة الحزب الوطني، التي عبَّر عنها مصطفى كامل
بقوله: ألم نكن أول الدَّاعين للسكينة، المطالبين أبناء وطننا بأن يعملوا بعزمٍ وهِمة
وصراحة، ولكن مع السكينة والمحافظة على الأمن العام؟ ألم نجعل أساس سياستنا وقاعدة
خطتنا وروح أعمالنا استخدام الوسائل السلمية لنيل حقوقنا، والتمسك بالطرق القانونية دون
غيرها. من هنا، فضَّل أعضاء التنظيمات الذين ينتمون إلى الحزب الوطني أن يتخلَّوا عن
عضويتهم عندما اصطدمت إرادتهم بسياسة الحزب السلمية. ثم اتخذ هؤلاء الأعضاء موقفًا
مؤيدًا للوفد في ثورة ١٩١٩م، وما تلاها من أحداث، امتدت إلى ١٩٢٤م، وهو موقف يتناقض —
بصورة جذرية — مع موقف الحزب الوطني.
ولعل هذه الجمعية الروائية التي يقدمها الشوباشي في «طلائع الأحرار» هي جمعية «الاتحاد
الإسلامي» التي يرجع تاريخ إنشائها إلى ٥ فبراير ١٩٠٥م — الفترة نفسها تقريبًا — والتي
تُعَد أول تنظيم سري في مصر، وهو ما تنبِّئ عنه جمعية الشوباشي. يقول برنامج «جمعية الاتحاد
الإسلامي» الذي عُثِر عليه ضمن أوراقها بعد حادثة مقتل بطرس غالي، إن «القصد منها مساعدة
المصريين، خصوصًا أعضاءها، ويجب على كل عضو ألَّا يفشي أي سر من أسرار الجمعية. وإذا
رأت
الجمعية أحدًا منها متكاسلًا في الدروس، يلزمها أن تحثَّه وتقنعه، ويلزم أعضاء الجمعية
اتِّباع الشرع الشريف بقدر الإمكان.» ومن بنود تكوين الجمعية أنه «يجب على كل عضو أن
يكتم
أسرار الجمعية، وأن يحلف اليمين. وجلسات الجمعية سرية، ولا يحضرها غير الأعضاء، ويجوز
بنوع استثنائي أن يسمح للغير — والغير في جمعية الشوباشي هو سامي منصور — بعد أخذ رأي
الجمعية.» أما المبدأ الذي تعمل من أجله الجمعية، فهو «مصر للمصريين وإيجاد حكومة
دستورية». والوسيلة لذلك هي:
-
أولًا: التأثير على العامة، وتأليف قلوبهم بما يأتي: تكليف لجنة من الجمعية
لوضع خُطب تُلقى على العامة … حث الخطباء بالمساجد على إلقاء الخُطب
العصرية … دخول بعض الأعضاء في طرق الصوفية، وتفهيم مشايخها عن الحالة
الحاضرة، وكيف تأخر الدين وانتشر الفساد … عمل أدوار وأغانٍ وأناشيد عن
الحالة الحاضرة لتُغنَّى في المجتمعات، ويحفظها طلبة الكتاتيب والمدارس …
وضع روايات تمثيلية باللغة الدارجة لتُمثَّل في جهات الأرياف، لمحاربة
الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة … وضع قصص حماسية باللغة العامية على
نسق عنترة وأبي زيد … عمل جمعيات تعاون للشعب، ونقابات للصناع في أنحاء
القطر المصري.
-
ثانيًا: التجارة: الدعوة للتجارة الوطنية، ومقاطعة التجارة الأجنبية تمامًا …
عمل مجموعة «دليل» بأسماء التجار الوطنيين، وتوزيعها على الجهات …
إنشاء شركة مصرية تجارية للقيام بعمل المنسوجات المصرية، والمصنوعات
الأخرى … فتح قهاوٍ ومطاعم على الطراز الحديث … إحياء الروح الصناعية
والتجارية في نفوس الأهالي.
وتمضي بنود تكوين الجمعية لتصل إلى أهم نقاطها «يجب على كل عضوين أن يكوِّنا جمعية
مركَّبة من عشرة، بشرط عدم معرفتهم لأحد غيرهم، وأن تُسمَّى هذه الجمعيات باسمٍ واحد،
وأن
تكون من بين الطبقات المتعلمة على اختلاف أنواعها، وألَّا يُبت في القرارات ذات الأهمية
إلا بعد أخذ رأي الأغلبية، وبعد عرضها على الجمعيات كلها، والموافقة عليها، ولا رئاسة
في الجمعيات، ولا بد لكل جمعية من لغة مخصوصة، ويجب تحليف العضو اليمين حتى يُعتبَر عضوًا
عاملًا، ولا يدخل إلا بعد اختباره اختبارًا تامًّا.»
إن ذلك التنظيم الذي «استهدف تنظيم فئات الشعب لمواجهة سلطات الاحتلال» هو — في واقعه
— جمعية «طلائع الأحرار» بدءًا من طريقة اختيار العضو، إلى وضعه تحت التجربة، قبل أن
يصبح
عضوا عاملًا. فضلًا عن الأهداف التي تقوم عليها رسالتها، مثل تنظيم فئات الشعب،
والتأثير على العامة، وتكوين النقابات والجمعيات، والدعوة إلى مقاطعة التجارة الأجنبية.
نفس الأهداف تقريبًا، لولا أن انتماء بعض الأقباط لجمعية «طلائع الأحرار» قد يختلف مع
اسم «جمعية الاتحاد الإسلامي» وبرنامجها. وربما أضاف الفنان بعض الأسماء القبطية
تأكيدًا لوحدة عنصرَي الأمة في العمل السري، من قبل أن تحيله ثورة ١٩١٩م واقعًا معلَنًا،
بالإضافة إلى أن أسماء تلك التنظيمات السرية، وبرامج تكوينها، لا تعني الوقوف أمام تحرك
كل فئات الشعب وطوائفه نحو الهدف المحدَّد، وهو مقاومة الاحتلال. وكان إبراهيم ناصف
الورداني عضوًا في جمعية سرية، في مقدمة أهدافها «جعل مصر للمصريين بوسائل كثيرة منها
الثورة.»
١٦ وتألَّفت تلك الجمعية — وغيرها — نتيجة للقوانين التي أصدرتها حكومة بطرس
غالي في ١٩٠٩م، وأهمها قانون المطبوعات، وقانون النفي الإداري.
١٧ وكان سعد زغلول من بين الشخصيات التي هدَّدتها الجمعية، أرسلت إليه خِطابًا
باسم «جمعية الإرهاب» تنذره فيه «بسوء العاقبة إذا استمر على تعقُّب الطلبة ومطاردتهم.»
١٨ وقال الخطاب: «قد خنت أمتك، ولا بد من قتلك ولو بعد حين.»
١٩
وتُعد الفترة التي تبدأ بقيام الحرب العالمية الأولى، هي أخصب الفترات التي مارست
فيها
التنظيمات السرية نشاطها، وإن أشار مستشار الداخلية في ١٩٠٩م إلى وجود جمعيتين سريتين،
الأولى باسم «جمعية الإصلاح الأزهري» بقيادة الشيخ علي أحمد الجرجاوي، والثانية باسم
«الاتحاد الأزهري» بقيادة الشيخ فهيم قنديل. وكانت هاتان الجمعيَّتان وراء إضراب طلبة
الأزهر في ١٩٠٩م، بحيث إن الطلبة والعلماء — كما قال جورست في برقية له إلى جراي —
«كانوا منظمين جيدًا.»
٢٠ وانتشرت — لفترة — ملصقات «جمعية إنقاذ الوطن» على الأبواب والجدران
والأعمدة، في الميادين والشوارع والحارات، وكان من بين النداءات المكتوبة: «يا أهل مصر
… أين النخوة العربية؟ أين النخوة الوطنية؟ إلى متى أنتم سكارى، وقد أصبحتم حيارى؟ أفيقوا
من النوم أيها القوم!» وتلقَّى النظار تهديدات بالقتل إن لم يعملوا على إخراج
الإنجليز من مصر: «أيها النظار الفجَّار، والرؤساء الأشرار، طالما ارتكبتم المظالم،
ودرستم المعالم، وخربتم البلاد، وأفسدتم العباد، وهدمتم النجد، حيث لا أب لكم فيه ولا
جد، وقد تحدد لكم أربعة من الشهور تجمع؛ إما أن تعملوا على إجلاء الإنجليز من البلاد،
وإما إجلاء أرواحكم من الأجساد.»
٢١ لقد اختفى النشاط الحزبي — أو كاد — وخلا الميدان إلا من نشاط أفراد
التنظيمات، حتى نُسبَت إليهم بعض الأمور التي يصعب التأكد من صحتها، بل هي — في الواقع
—
موضع شكٍّ شديد. وعلى سبيل المثال، فإن كمال إسماعيل يُرجِع نجاح الحركة الوطنية في منع
مد
امتياز القناة حتى عام ٢٠٠٨م، إلى اغتيال أفراد التنظيم السري لبطرس غالي، وهو رأي يعوزه
الدليل المادي؛ فالمفروض أن فشل المشروع الاستعماري بمدِّ أجل امتياز قناة السويس، يُعد
أحد نجاحات الحركة الوطنية بقيادة محمد فريد. كان بطرس غالي في مقدمة المؤيدين لمشروع
مد امتياز القناة،
٢٢ ففي أواخر ١٩٠٩م وأوائل ١٩١٠م أجرى المستشار المالي البريطاني مفاوضات مع
شركة قناة السويس لمد امتياز القناة أربعين عامًا أخرى، ينتهي في ٢٠٠٨م بدلًا من ١٩٦٩م
مقابل أربعة ملايين من الجنيهات تدفعها الشركة للحكومة المصرية على أربعة أقساط في أربع
سنوات متتالية، ابتداء من ديسمبر ١٩١٠م، مع التزام الحكومة المصرية — عقب انتهاء
الامتياز القديم — بالتنازل عن نسبة من أرباحها. وقد أظهرت الحكومة المصرية — برئاسة
بطرس غالي — تحمسًا لإتمام ذلك الاتفاق، لولا المقاومة العنيدة التي خاضها أعضاء
الجمعية العمومية، تساندهم الصحافة الوطنية والرأي العام المصري الذي كان يتابع
التطورات بوعي واهتمام؛ لذلك فقد اعتبر مصرع بطرس غالي ثمرة مناقشاته مع أعضاء الجمعية
العمومية، والتي كانت تستهدف مد امتياز القناة.
ظل المشروع في طي الخفاء قرابة عام، على أمل أن تحصل وزارة بطرس غالي على موافقة
الجمعية العمومية لإقراره في غفلة من الشعب، لقاء أربعة ملايين من الجنيهات، تدفعها
الشركة للحكومة على أربعة أقساط سنوية، لكن محمد فريد استطاع أن يحصل على نسخة المشروع
في أكتوبر ١٩٠٩م، ونشره في جريدة «اللواء». وكتب يقول: كيف يجوز لهذه الحكومة أن تتساهل
في أمر إطالة أمد الشركة، مع علمها أن هذه القناة كانت السبب في ضياع مصر؟ وكل مصري
حر يتوق لأن يراها ملكًا لمصر، حتى لا يبقى لأوروبا وجه للتدخل في أمورنا. واضطرت حكومة
بطرس غالي — تحت ضغط الصحافة والرأي العام — إلى عرض المشروع على الجمعية العمومية،
التي اضطرت إلى رفضه.
«طلائع الأحرار» جزء أول من ثنائية أو ثلاثية، كان محمد مفيد الشوباشي ينوي التأريخ
بها
لتلك الفترة المهمة من حياة الشعب المصري، لكن الفنان اكتفى بالجزء الأول من ثنائيَّته
—
أو لعلها ثلاثية، أو لعله اعتبر «الخيط الأبيض» جزءًا ثانيًا وثالثًا — دون أن يمضي في
عمله الإبداعي، فيعرض لنا — مثلًا — تلك السنوات القلائل التي كانت إرهاصًا وممهدًا
لثورة ١٩، وبصفة خاصة منذ بداية الحرب العالمية الأولى، عندما أصبح الحزب الوطني وجودًا
نظريًّا نتيجة لهجرة رئيسه محمد فريد إلى المنفى في مارس ١٩١٢م، ثم وفاة عدد من أعضائه
المؤسِّسين، وغياب معظم أعضائه في المنفى والسجون والمعتقلات في بداية أيام الحرب. وكان
المعنى المباشر لذلك — بالإضافة إلى ما ترتب على إعلان الحرب، من فرض الأحكام العرفية
وإعلان الحماية، وخلع الخديو عباس الثاني — هو تحمُّل التنظيم السري لكل عبء العمل
الثوري. ثم تعرُّض التنظيم السري لهزة عنيفة شلَّت حركته، وأوقفتها تمامًا، عندما استغلت
سلطات الاحتلال حادثة إلقاء قنبلة على موكب السلطان حسين، فعمدت إلى اعتقال معظم أعضاء
التنظيم السري، مثل أحمد سابق وعبد الله حسني وعلي صادق ويعقوب صبري وعبد الرحيم سرور
ومصطفى حمدي وعبده البرقوقي. كما تم نفي شفيق منصور ومحمد عوض جبريل … لكن أفراد
التنظيم استطاعوا — بعد فترة وجيزة — أن يستردُّوا حركتهم، ويسهموا في إخصاب الحركة
الوطنية، انطلاقًا إلى ثورة ١٩، حتى قُضي عليه تمامًا، مع كل التنظيمات السرية المشابهة،
بعد حادثة اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري في عام ١٩٢٤م.
•••
إن المثقفين هم المحرك الفعلي لأحداث «طلائع الأحرار»، مع ذلك فإن الاتهام الذي يوجِّهه
نبيه — وأبطال «طلائع الأحرار» بعامة — إلى مصطفى كامل، أنه كان يتصور حل المشكلة إذا
وصفها وصفًا بليغًا،
٢٣ وأنه لم يجاوز في دعوته أوساط المثقفين «مصطفى كامل يقصر دعوته على
المثقفين، ويكتفي باستثارة مشاعرهم … ولكن قوة البلاد الحقيقية تكمن بين جموع الشعب
الحاشدة. انظر حولك الآن، فماذا ترى؟ ألَا ترى دكاكين خاوية ومقاهي يربو عددها على عدد
الدكاكين المفتوحة؟ إني أكبرك بعشر سنوات، لقد رأيت هذا الشارع يعج بدكاكين الحدَّادين
والعقادين والسباكين وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات. فما الذي جرَّ الخراب على هؤلاء
بعد اليسر؟ إنه الاستعمار الذي غمر الأسواق بمنتجاته، وكاد يقضي على صناعتنا القضاء
المبرم، ويجعل الأمة ضعيفة عاجزة لا تستطيع الفكاك منه. وقد أصبحت حال الفلاحين بعد
وقوعهم في حبائل المرابين الأجانب أسوأ من حال أهل المدن … هذه الحقائق لا يدركها الشعب
حق الإدراك، فإذا كشفنا له عنها، وأطلعناه على الخطر الذي يتهدد رزقه، هبَّ مدافعًا عن
كيانه، واستمات في مكافحة الاستعمار، وحينئذٍ نخرج من مكامننا ونقوده في كفاحه.»
وإذا افترضنا صواب هذا الرأي، فإن مثقفي «طلائع الأحرار» تأييد من الفنان بسلامة
استقطاب الزعيم الشاب للمثقفين، فقد كانوا هم نواة التنظيم السري الذي شارك في تهيئة
النفوس للثورة. لكن الرواية بعامة، تتسم بالنقد العنيف لزعامة مصطفى كامل (وهو ما فعله
محمود تيمور في «المصابيح الزرق». يقول السيد العتر لزميله: أنسيت ما قاله مصطفى كامل:
لو
لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا، فيرد عليه مأمون: إني لا أفهم هذه الفلسفة يا
سيدي، لقد شبعنا من مثل هذا الكلام الأجوف) ثم الحرص على شق سبيل مغاير تمامًا لكل
الخطوات التي اتخذها الزعيم الشاب. ثمة اجتماعات وخطط وتنظيم سري يرفض النهج السلمي
الذي يتبعه مصطفى كامل في دعوته، ويجد انتصاره المرتقَب في المقاومة المسلحة. ومن
الطبيعي أن المآخذ التي قلَّل بها الفنان من قيمة الدور الذي قام به مصطفى كامل في كل
الأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت نبضًا للرواية، تضع أمامنا علامة استفهام ضخمة
عن حقيقة دور صاحب «اللواء» في تلك الفترة المهمة من حياة المجتمع المصري. وبالنظر إلى
طبيعة المرحلة التي عبَر فيها الشعب عنق الزجاجة من انتكاسة الثورة إلى قيام ثورة ١٩،
فإن معنويات أفراده كانت قد تأثرت بكل ما طرأ من أحداث، حتى لقد أعلن أن المصريين هم
أسلس أمم العالم مراسًا وقيادًا. وكان اليأس قد بسط جناحين من ظلام على كل فئات الشعب
وطبقاته «ولم يكن ثمة مظهر من مظاهر المقاومة والحياة، فلا دعوة للجهاد، ولا جماعات
سياسية، ولا اجتماعات ولا خُطب ولا معارضة، في داخل الهيئتين اللتين أنشأهما الاحتلال،
وهما مجلس شورى القوانين، والجمعية العمومية.» ثم ظهر مصطفى كامل على مسرح الأحداث
(١٨٩٠م)، وكان همه الأول استرداد المصريين لثقتهم بأنفسهم؛ لأن «ثقة الأمة بنفسها هي
الأساس الذي يُبنى عليه مجدها، ويشاد غدها وسُؤددها.» وعلى الرغم من إدانة مصطفى كامل
للعديد من مواقف عرابي في أحداث الثورة، فقد وصفه بأنه كان سليم النية «وغاية ما يؤخذ
عليه أنه تعجَّل كثيرًا، وانخدع كثيرًا.» والملاحظ أن «الحزب الوطني» هو نفس الاسم الذي
كان لحزب العرابيين، (رغم الرأي المتعسف الذي قوَّم به حزب مصطفى كامل، الثورة العرابية).
وقد بدأ يكتب مقالاته في «الأهرام» باسم مستعار «مصري صادق» و«مصري أمين» و«مصري».
وكوَّن في شبابه الباكر جمعية باسم «جمعية أحباء الوطن»، وهو اسم لا يخلو من دلالة. وفي
٢٠ يناير ١٨٩٣م تزعَّم مظاهرة ضد «المقطم» (أذكِّرك بفتاة مصر وفتاة الفيوم)، وفي ١١
فبراير
١٨٩٣م نشر أول مقال له في «الأهرام» — بتوقيعه الصريح — بعنوان «نصيحة وطني».
٢٤ وفي ١٩٠٤م أصدر مصطفى كامل كتابه الثاني بعد كتاب «المسألة الشرقية»، وركز
فيه على إعجابه بنهضة اليابان السريعة، وتمنى أن تحذو بلاده حذوها، لأنها مصر سبقت
اليابان إلى الحضارة الحديثة، وإلى إقامة دولة قوية في عهد محمد علي في وقت كانت فيه
اليابان في ظلمات البداوة.
٢٥ وبلغ فكر مصطفى كامل درجة عالية من الوعي، في يقينه بأنه لا فائدة من
المخترعات الأوروبية الحديثة، مثل التلغراف والتليفون والفونوغراف وغيرها «إذا كنا نئنُّ
من استبداد مخترعي هذه الآلات الجميلة، وإذا لم تصلح إلا لتعجِّل باستبدادنا.» وذهب إلى
أن «المسألة المصرية الحقيقية ليست مسألة الاحتلال البريطاني، بل هي مسألة تأخر الشعب
المصري، وعدم شعوره بحقوقه الشرعية.» لقد حاول مصطفى كامل أن يبني النجاح على أمرين:
خارجي، وهو انتظار فرصة الحوادث الدولية، والثاني داخلي، وهو نشر العلوم والمعارف بين
المصريين، وإدانة تصرفات سلطات الاحتلال، بحيث تقترب الأمة — شيئًا فشيئًا — من معنى
الوطن،
وتلتفُّ حوله، حتى تصير وإياه جسدًا واحدًا لا سبيل إلى العبث بكيانه.
وبصرف النظر عن السِّمة الشاعرية لأسلوب دعوة مصطفى كامل، فقد كان الواقع هو الأساس
الذي قامت عليه، إلى حد أنه يعبِّر في إحدى رسائله عن يقينه المؤكد بأن ما لا يشعر به
المصريون في أعقاب الاحتلال لا بد أن يكون سببًا لطلب الاستقلال في المستقبل. وفي رسالة
أخرى بعث بها إلى شقيقه علي كامل من باريس قال فيها: «لقد تعرَّفت هنا بطلاب روسيين
وبولونيين ويابانيين، فرأيتهم جميعًا منكبِّين على العلم، ولكني أؤكد لك أن المصري أقواهم
عارضة، وأعلاهم ذكاء، ولا ينقصه إلا الإرادة التي هي أس النجاح.» وعلى الرغم من وصف
سعد زغلول لمصطفى كامل بأنه «نصاب خدَّاع ومنافق كذاب، وليس بشيء.»
٢٦ ثم وصفه في موضع آخر بأنه «مجنون».
٢٧ وقد أدَّى ظهور مصطفى كامل بالفعل إلى تغيير دفَّة الحركة الوطنية من تيار
اليأس، إلى تيار التعلق بالأمل. تقول إيزيس في رواية نجيب محفوظ «أمام العرش» عن مصطفى
كامل: «إنه الابن الذي أيقظت حماسته الوجدان الوطني، بعد أن كاد الاحتلال يخمد أنفاسه.»
٢٨ وقد صادفت دعوة مصطفى كامل — في بدايتها — دهشة من بعض المصريين الذين بعُد
عن تصورهم أن ينتزع أبناء البلاد استقلالهم — يومًا — من براثن الاحتلال «يجلون عن
بلادنا؟ أتصدِّق هذه الخرافة؟» ومن هنا كانت صعوبة الدور الذي قام به مصطفى كامل، ودور
زعماء ثورة ١٩. ومن المهم أن نضغط على حقيقة هامة، هي أن مصطفى كامل قد أسهم بخُطبه
البليغة (يقول أنور أحمد — بحق — إن الخطابة كانت وسيلته الكبرى لتحقيق رسالته الوطنية
٢٩ (خطباء صنعوا التاريخ، اقرأ، ١٦٩)) ومقالاته التي تنبض بحب الناس والأرض
ومعاداة الاحتلال، في بعث الحركة الوطنية، وعلى حد تعبير شكري عياد، فقد كان مصطفى كامل
هو التعبير القومي عن الثورة الرومانسية،
٣٠ لكنه لم يكن — كما وصفه الرافعي — باعث الحركة الوطنية على الإطلاق، لأن
الزعامة — مهما تسمو في عبقريتها — لا يمكن أن تحيل الموات حياة. إن نبيه وسامي وعبد
اللطيف وغيرهم من مثقفي «طلائع الأحرار» الذين رفضوا النهج السلمي الذي اتَّبعه مصطفى
كامل،
كانوا سينطلقون في مسيرتهم إلى مداها، حتى لو تأخر، أو انتفى، ظهور الزعيم الشاب. وقد
اعترف اللورد كرومر بأن هذه «الوطنية الحقيقية استمرت حية طوال الاحتلال، ولو أن صوتها
كان خافتًا إلى حد كبير.» وثمة فقرات من مذكرات محمد فريد، توضح أن «الرعاع» (يذكِّرنا
—
للأسف — بالأوصاف التي كان يطلقها الجبرتي على البسطاء من أبناء الشعب المصري الذين
كانوا يقاومون الاحتلال الفرنسي وولاية محمد علي) قاموا في مدى أشهر قليلة بالتعدِّي
على
خواجة إنجليزي، وعلى بعض العساكر الإنجليز عند عودتهم من المدافن، وعلى ثلاثة من
البحارة الإنجليز في بورسعيد.
٣١ ويضغط الراوي في «فتاة الفيوم» (١٩٠٤م) — وهو عميل إنجليزي — على أن «الدلائل
— كما كانت قبل الثورة العرابية تمامًا — تنذر بشرٍّ قريبٍ.»
٣٢ ولعلَّه لا يخلو من دلالة صدور قرار الباب العالي في يناير ١٨٩٥م — تلبية لطلب
الإنجليز — بتشكيل محكمة خاصة لكل من يعتدي على الإنجليز من الوطنيين، يرأسها ناظر
الحقانية الإنجليزي، وتضم إلى عضويتها ضابطًا كبيرًا من جيش الاحتلال، ومستشارًا، وقاضيًا
إنجليزيًّا من محكمة الاستئناف الأهلية، ورئيس محكمة مصر أو الإسكندرية، و«تحكم بغير
قانون
بحسب ما يتراءى لها بأي عقوبة تراها.»
٣٣ ومن المؤكد أن ظهور مصطفى كامل قد عجَّل بالانتفاضة في جسد الشعب المصري،
الذي أفلح الزعيم الشاب في مخاطبة وجدانه — قوام تصرفاته اليومية — لكن هذه الانتفاضة
كانت هي الحدث المتوقع دومًا من الإنسان المصري الذي قاوم عشرات الغزاة في مراحل تاريخه
المتعاقبة. أما اقتصار دعوة مصطفى كامل على المثقفين، مما ألجأ مثقفي «طلائع الأحرار»
إلى
تكوين الجمعيات السرية؛ فهو محاولة لاستقطاب هذه العناصر التي أدركت سلطات الاحتلال
خطورة دورها، فمرَّغت غالبيتها في تراب الميري، وأحاطت البقية الباقية بالمنافسين
الجهلاء … فتعدَّدت صراعات المحامين بالكتبة العموميين، والأطباء بحلاقي الصحة … إلخ،
ذلك
لأن المثقفين كانوا أقدر على تفهُّم طبيعة المرحلة، وعلى التحرك من خلال الواقع
الاستعماري، الذي شدَّد قبضته على البلاد. بالإضافة إلى أن مواجهة الجماهير — بصورة
مباشرة — بحقيقة واقعها، لم تكن مما تتطلَّبه طبيعة المرحلة، بقدر ما كان البدء بطبقة
المثقفين هو السبيل الأول لبعث الانتفاضة في جسد الشعب المصري. وقد تمثَّلت هذه الطبقة
—
بداية — في طلبة الحقوق، ونادي المدارس العليا. ثم ارتفع خطُّها البياني، حتى بلغ ذروته
باقتناء خادم عبد المنعم (طلائع الأحرار) لصورة الزعيم الشاب، اعترافًا بالدور الهام
الذي قام به لبعث الإرادة الشعبية. كوَّن مصطفى كامل في المدارس العليا الثلاث التي كانت
قائمة آنذاك — الحقوق والطب والهندسة — لجانًا للحزب الوطني تدعو إلى محاربة الاستعمار
وطلب الاستقلال.
٣٤ وقد انبثق من تلك اللجان نادي المدارس العليا الذي اتخذ مقرًّا له في ميدان
الأوبرا، يلتقي فيه الطلاب بقياداتهم، وبقيادة الرأي في البلاد، لمناقشة التطورات السياسية.
٣٥ وفي ٣٠ مارس ١٩٠٩م قام الطلبة بمظاهرات احتجاجًا على صدور قانون المطبوعات، ساروا في
الشوارع هاتفين: فليحيا العدل، فليحيا قانون المطبوعات، فليسقط الاستبداد
وحكومة الفرد.
٣٦ وفي تقديري، أنه لو لم يحقق مصطفى كامل جماهيرية مؤكدة، لما وقف التاريخ عنده بغير
كلمات قليلة. فقد كان محمود سليمان باشا — مثلًا — يعبِّر عن موقف الزعامة
الموازية لزعامة مصطفى كامل، الذي كان يمثِّل — في الدرجة الأولى — فكرة اللاحزب، ومن
هنا
— كما يقول لطفي السيد — كان خروج الأمة كلها وراءه.
وقد واجهت مسيرة مصطفى كامل النضالية، الكثير من الانتقادات وعلامات الاستفهام، فقد
كان يهاجم الاحتلال، ويطالب بالاستقلال التام، لكنه لم يوضح لأتباعه كيف؟ «فلكي
يتحرك الناس، ينبغي أن يعرفوا كيف يتحركون؛ لا بد أن نرسم لهم الخطوات الأولى على
الأقل، وأهم من ذلك: لا بد أن يعرفوا إلى أين؟ ومن يقود المسير؟»
٣٧ وثمة دعوته إلى استقلال مصر طبقًا لمعاهدة لندن (١٨٤٠م)، أي أن تكون الدولة
مستقلة استقلالًا ذاتيًّا، تحت ظل الخلافة التركية. يجيب مصطفى كامل على سؤال عن جنسيته
بقوله: مصري عثماني، ثم يوضِّح قائلًا: ليس في الأمر جنسيتان، بل في الحقيقة جنسية
واحدة، لأن مصر بلد تابع للدولة العلية.
٣٨ وللأسف، فإن أخطر التهم التي تأثرت بها مسيرة مصطفى كامل — حتى بعد رحيله —
أنه كان مأجورًا للباب العالي «يدعو إلى تثبيت سيادته على مصر، في مقابل المبالغ التي
كانت ترد إليه منه، وردًّا لجميل الإنعام عليه برتبة الباشوية.»
٣٩ كان المصريون قد عانوا ويلات العسف التركي عبر سنوات حكمه الطويل، فضلًا عن
أن تركيا نفسها لم تعُد الدولة الأم التي تنضوي الشعوب تحت لوائها؛ فقد تقلص نفوذها إلى
درجة رهيبة، حتى أصبحت المؤامرات ضد الخليفة تهدد النظام من الداخل.
٤٠ وكان من بين الانتقادات التي وُجِّهت لمصطفى كامل أيضًا — والحزب الوطني
بالتالي — تحالفه الشهير مع الخديو عباس، مع أن عباس هو ابن توفيق الذي رحب باحتلال
الإنجليز مصر، بالإضافة إلى أن اصطدام الخديو عباس الوقتي بسلطات الاحتلال لم يكن
لتحرير المصريين، وإنما لتوسيع سلطة العرش. ورغم الدرس الذي أفاده مصطفى كامل من الثورة
العرابية — كما قال الرافعي — فإنه ما لبث أن جاهر بعداوته للخديو عباس، بعد أن تبدَّى
انحيازه إلى السياسة البريطانية، إلى حد عرض مقاسمة المعتمد البريطاني له في حكم البلاد
حكمًا مطلقًا، وقال مصطفى كامل: «إن مصلحة الشعب المصري تقضي بأن تكون الحركة الوطنية
بعيدة عن الجناب العالي.»
٤١ كان الخديو قد انقلب على مصطفى كامل، وطعنه في ظهره بسياسة الوفاق مع
المعتمد البريطاني. وعلى الرغم من ابتعاد مصطفى كامل عن الخديو، نتيجة لتلك السياسة،
فقد ظل يواجه الاتهام بأنه كان صنيعة الخديو، حتى أنكر الخديو ذلك الاتهام في مذكراته،
وأعلن أن مصطفى كامل هو الذي بدأ بنشر الفكرة الوطنية في شباب مصر «وهو الذي هز الروح
المصرية فأيقظها من غفوتها.» وعاب البعض اعتماد مصطفى كامل على عون فرنسا، متوهمًا أن
الخلاف بين الدولتين الاستعماريتين سيمتد لفترة طويلة، لكن آماله ذَوَت وانهارت عندما
وقَّعت الدولتان اتفاقهما الودي. ونتيجة لهذا الخطأ، واجه مصطفى كامل اتهامًا بأنه كان
عميلًا لفرنسا. ولاحظ البعض ضيق نظرة مصطفى كامل الشمولية لتطورات المستقبل أنه قد ناقض
دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة المصرية، وشنَّ عليها حملة قاسية، إلى حد التشكيك في وطنية
قاسم أمين. والحق أن القول بأن مصطفى كامل نادى بتبعية مصر لدولة الخلافة العثمانية،
يجد ردًّا واضحًا فيما كتبه مصطفى كامل نفسه في اللواء (٢ / ٥ / ١٩٠٦م)، بأن الوطنيين
المصريين لا يريدون الانتقال من استبداد إلى استعباد، ولا يطالبون بخروج الإنجليز
ليدخلوا تحت حكم جديد، وإنما هم يطلبون استقلال وطنهم وحريته «ونتمسك بهذا المطلب، حتى
آخر لحظة في حياتنا.» ثم رد مصطفى كامل في اللواء (٦ أكتوبر ١٩٠٧م) على محرر صحيفة
«لاندنيدانس بلج» البلجيكية بأنه «أخطأ كثيرًا — المحرر — بقوله إننا نريد حرية مصر
لإعادتها إلى حكم الأتراك، فقد صرَّحنا ألوف المرات بأننا نريد مصر للمصريين، وبأن
انعطافنا أو نفورنا من دولة لا يؤثر شيئًا على هذا المبدأ الرئيسي لحياتنا وأفعالنا.
إذا كانت الدول العظمى قد اتَّبعت الآن سياسة التحالف، فمن ينكر على مصر المظلومة
المهضومة اتباعها خطة التحالف؟!» ونشرت جريدة «ذي تريبيون» الإنجليزية في ١٨ سبتمبر
١٩٠٦م تعليقًا لمصطفى كامل عن علاقة الوطنيين المصريين بتركيا، جاء فيه: «إن أولئك الذين
يظنون أننا نعطي مصر للدولة العلية، ونهدم بأيدينا حقوقنا التي اعترفت لنا بها أوروبا
هم إما جهلاء أو متعمدون قلب الحقائق. قلت ألف مرة أو أكثر: إن مصر للمصريين، وإننا أهل
لحكم أنفسنا بأنفسنا، وإنه لمن المضحك أن يتصور إنسان أننا نريد إبدال دولة أجنبية
بدولة أجنبية.» أما مؤاخذة مصطفى كامل بامتزاج الوطنية بالدين في تفكيره، فقد أعلن في
خُطبة له بالإسكندرية عام ١٩٠٠م: «قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، وأن الدعوة
إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أرى أن الدين والوطنية توءمان متلازمان، وأن
الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حبًّا صادقًا ويفديه بروحه، وما تملك يداه.
ولست فيما أقول معتمدًا على أقوال السالفين الذين ربما اتهمهم أبناء العصر الحديث
بالتعصب والجهالة، ولكني أستشهد على صحة هذا المبدأ بكلمة بسمارك أكبر ساسة هذا العصر،
وهو خير رجل خدم بلاده ورفع شأنها، فقد قال هذا الرجل العظيم بأعلى صوته «لو نزعتم
العقيدة من فؤادي، لنزعتم محبة الوطن معها.».»
٤٢ وكان رأي الزعيم الشاب أن كيان مصر السياسي يتوقف على تبعيته لتركيا،
باعتبارها زعيمة العالم الإسلامي، فإذا انفصل الكيان الصغير عن الكيان الكبير فإن معنى
ذلك أن تصبح مصر حقًّا مستباحًا للإنجليز.
٤٣ وأما القول بأن اتجاه مصطفى كامل لفرنسا إنما كان اتجاهًا لشعارات الثورة
الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، فهو قول ساذج ومرفوض من واقع السياسة
الاستعمارية الفرنسية، والتي كانت مصر بالذات في إطار أحلامها، فضلًا عن تأكيد
المسئولين الفرنسيين — في أكثر من مناسبة — أنهم لا يعرفون طرقًا فعالة «تضطر الإنجليز
إلى الجلاء عن مصر فورًا، وعلى ذلك ينبغي الانتظار لوفاء عهودها من نفسها.»
٤٤
وثمة بُعد آخر يتصل بشخصية مصطفى كامل، وهو غلبة إحساسه بالزعامة إلى حد تصور مواطنيه
غير أهل لتلك الزعامة. ففي ١٨٩٥م — مثلًا — كتب خِطابًا لصديقه فؤاد سليم حجازي، قال
فيه:
إني لا أستطيع الاعتماد على أحد من أبناء جنسي، وإني إذا صودرت يومًا بأية صورة كانت،
لا أجد من أمتي عضدًا أو نصيرًا … وهذا ما يحزنني كثيرًا. والكلمات تشي بأن إحساس مصطفى
كامل بالزعامة كان يُحكِم تصرفاته وأقواله، حتى من قبل أن يقطع خطوات فعلية في طريق
الخدمة العامة. وكان إنجازه الوحيد — إلى ذلك العام — هو تقديم لوحة رمزية لمجلس النواب
الفرنسي، ضمَّنها أبياتًا من الشعر تطلب الغوث من الحكومة الفرنسية.
على أن تلك الانتقادات وعلامات الاستفهام، وحتى الأخطاء، يصعب أن ترتكز عليها إدانة
ما لمصطفى كامل. ولعل الزعيم الشاب يصدق عليه — إلى حدٍّ بعيد — قول جيبون: «يجب أن تكون
الأزمنة ملائمة للمواهب غير العادية.» قد يأتي الرجل في زمان غير مناسب، وقد يحتاج
الزمان إلى الرجل فلا يجده، لأنه لم يظهر بعدُ. وكان مصطفى كامل بالفعل موهبة غير عادية
في زمن ملائم، ومن ثَم أصبح رمزًا للانتفاضة التي بدأت تسري في جسد الأمة. وإن كان
التأثير الأقوى — في تقدير البعض — بين الفئات المثقفة من الطبقة الوسطى، من الطلبة
والموظفين والمحامين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة.
إن الوثائق والمراسلات التي كشفت عن طبيعة الدور الذي قام به مصطفى كامل في حياتنا
السياسية، والنوازع الحقيقية لذلك الدور، تؤكد أن الزعيم الشاب كان مناضلًا مصريًّا،
اجتهد، فأصاب وأخطأ، لكنه — بالقطع — لم يكن ينتمي إلا إلى مصريَّته وحدها.
ورغم مُضي عشرات الأعوام على وفاة مصطفى كامل، فإن الرجل في رواية «شمس الخريف» كان
يُسمي
مصطفى كامل «السيد الخالد»، وكان يسمِّيه — أحيانًا — «سيد الخالدين»، وكان يتعهد ذكراه
بمناسبة، وبلا مناسبة.
٤٥
هوامش