دنشواي
معلم في طريق الثورة
كانت حادثة دنشواي التي أُعدِم فيها بعض الفلاحين، بتهمة قتل ضابط إنجليزي، أصيب
بضربة
شمس، وأُرسلت المشانق إلى دنشواي من قبل أن تبدأ المحاكمة. كانت هذه الحادثة بمثابة
الهزة العنيفة لصحوة هائلة، شملت أبناء الأمة جميعًا، بل إنها أضحت دافعًا قويًّا للثورة
الشعبية الهائلة في عام ١٩١٩م. وكما قال أحد الكُتاب الإنجليز، فقد «أظلمت هذه الكارثة
الأيام الأخيرة لكرومر في مصر، وأسرعت في رحيله عنها.»
١ وقد عرض غالبية المؤرخين لحادثة دنشواي على أنها حادثة ضباط إنجليز خرجوا
للصيد، فأحرقوا جرنًا، وحدث ما حدث، لكن قيمة رواية «عذراء دنشواي» (صدرت الطبعة الأولى
في يوليو ١٩٠٩م) — كما يقول يحيى حقي — أن مؤلفها لم يصطنع أشخاصه اصطناعًا، بل أخذهم
بأسمائهم ومواطنهم ومِهنهم من واقع الحياة.
كتب محمود طاهر حقي الرواية عقب الحادثة مباشرة، ونشر أجزاءها منجمة — يوميًّا —
في
جريدة «المنبر». وكما يقول الفنان، فقد لاقت الجريدة رواجًا كبيرًا بمناسبة نشر الرواية
فيها، وكان حكمدار العاصمة منسفلد باشا يرجوه أن يخفِّف من لهجة الرواية، مراعاة للأمن،
نتيجة الانفعال الجماهيري.
٢
الفنان لا يقف عند الوقائع الظاهرة دافعًا لكل ما حدث، لكنه يفتش عن المسبِّبات الفعلية
لها، مع اعترافه بأنه لم يضع كل الحقيقة، لأنه — كما يقول في المقدمة — خشي على نفسه
من
البطش. وبرغم هذا، فإنه لم يحدث — كما يقول حقي — أن أقبل الناس على قراءة رواية ما
«مثل إقبالهم على قراءة «عذراء دنشواي»، لا لأنها عرفت كيف تركب موجة الانفعال الشعبي،
بل
لأنها عرفت أيضًا — بالغريزة والسليقة — كيف تصبُّ حادثة دنشواي في قالب فيه من الفن
القصصي أنفاسه، إن لم يكن عطره كله، احتضنها جيله، واحتضنها الجيل الذي يليه.» كانت
«عذراء دنشواي» أول رواية مصرية مؤلَّفة تصدر في عدة طبعات، كل طبعة بآلاف النسخ، تنفد
فور
صدورها لتصدر طبعة أخرى، واستطاعت — والكلام ليحيى حقي — أن تهيئ أذهان عامة القراء
لتقبُّل الفن القصصي «فالروايات التي بين أيدي عامة القراء في عهدها قليلة جدًّا، وأغلبها
مترجم يقصد به التسلية، وبعضها مؤلَّف، ولكن لا يتصل بوجدان الشعب؛ فهي إما روايات
تاريخية عن عهودٍ مضت، قصدها الإشادة بالأمجاد، وإما روايات تهدف إلى الموعظة، وتُقام
على
سيل من الحِكم والأمثال، فجاءت «عذراء دنشواي» تربط الرواية — لأول مرة — بوجدان الشعب
في
معاصرة واقعية»، بالإضافة إلى أن «عذراء دنشواي» هي «أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين،
تصف حياتهم ومشكلاتهم، وتنقل لنا لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم، فيدل
كل هذا عليهم.» «وأكاد لا أعدو الحقيقة كثيرًا إذا قلت إن «عذراء دنشواي» هي البذرة
التي مهدت في نظري لمحمد حسين هيكل أن يكتب في سنة ١٩١٢م رواية «زينب»، وجعل حوادثها
تجري
في الريف، وبعض أبطالها من الفلاحين، وإن «عذراء دنشواي» تمسَّكت بأطراف أهداب الواقعية،
على حين غرقت «زينب» في رومانسية شاعرية لا تقبل الأضداد.»
٣
والواقع أن رواج رواية «عذراء دنشواي» — إبان صدورها — لم يكن لقيمتها الفنية، بقدر
ما
كان تعبيرًا عن الشعور العارم الذي خلقته حادثة دنشواي، وما تلاها من محاكمات ظالمة،
وأحكام بالجَلْد والسجن والإعدام. ويقول محمود طاهر حقي إنه ألَّف «عذراء دنشواي» بعد
الحادثة
مباشرة «وكانت أولى رواياته، وقد نشر أجزاءها يوميًّا في جريدة «المنبر». ولاقت الجريدة
رواجًا كبيرًا بمناسبة نشر القصة فيها، فكان الحكمدار يطلبني في إدارة الجريدة — وكانت
بجانب المحافظة — ليرجوني أن أخفِّف من لهجة القصة، حفظًا على الأمن لتوتُّر الأعصاب
من
جراء هذا الحادث الأليم، فكنت أستمع — في بعض الأحيان — إلى نصحه، مما كان له أحسن
الوقع في نفسه.»
٤ ويضيف يحيى حقي أن محمود طاهر حقي «لم يكن يملك كل حريته وهو يكتب «عذراء
دنشواي»؛ فقد كان سيف الإرهاب يمس الرقاب، وقد أخبرني بنفسه — ولا أخاله إلا صادقًا —
أنه تعرض لتهديدٍ شديد من الحكمدار الإنجليزي للعاصمة.»
٥
•••
الملاحَظ أن بدايات الرواية المصرية جاءت — في غالبيتها — تعبيرًا عن واقع القرية
المصرية في مطالع القرن العشرين: «عذراء دنشواي»، «الفتى الريفي»، «الفتاة الريفية»،
«زينب»،
وغيرها، مما يضع في إطار المراجعة ما يذهب إليه البعض — كأنه مسلَّمة! — بأن الرواية
هي
فن المدينة العربية الحديثة الأول، سواء من الزاوية التي تُعَد بها المدينة الحديثة
المجال الحيوي للطبقة الوسطى الفاعلة في المدينة، والمشكلة في علاقاتها، أو من الزاوية
التي تُعد بها الطبقة الوسطى، وهي الطبقة المنتِجة لفن الرواية، والمستهلِكة له.
٦
ومع أن يحيى حقي اعتبر «زينب» أول رواية مصرية فنية متكاملة، فإنه يقدم رواية «عذراء
دنشواي» بأنها «أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين، تصف حياتهم ومشاكلهم، وتنقل لنا
لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم، فيدل كل هذا عليهم، والإطار هو مناظر
الطبيعة في الريف: سماؤه وأشجاره، ليله ونهاره، حقوله وأجرانه، زرائبه وأبراج حمامه.
إنها أول رواية تُدخِل الفلاح في نطاق الكرامة الإنسانية، بل تنظر إليه نظرة تمجيد. ارتفع
مجلس الفلاحين للسمر ونظر الشكاوى في «عذراء دنشواي» إلى مقام أعرق نوادي المثقفين في
المدن الراقية بكل معانيه؛ إذ أعضاؤه من طبقة واحدة وفكر واحد، ويشتغلون بمهنة واحدة،
وللقرويين حرية في الفكر والمناقشة؛ فللابن أن يحاجَّ أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وللمرأة
حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء.»
٧ ويقول يحيى حقي في «دمعة فابتسامة»: «صدقني إذا شهدت لك أنه لم يحدث لرواية
أخرى — وربما إلى اليوم — أن أقبل الناس على قراءتها مثل إقبالهم على قراءة «عذراء
دنشواي»، لا لأنها عرفت كيف تركب موجة الانفعال الشعبي، بل لأنها عرفت أيضًا — بالغريزة
والسليقة — كيف تصب حادثة دنشواي في قالبٍ فيه من الفن القصصي أنفاسه، إن لم يكن عطره
كله، احتضنها جيلها، واحتضنها الجيل الذي يليه. لا أذكر في أي عام قرأتها، ربما في سنة
١٩١٤م، ولكن لا أنسى إلى اليوم كم ارتجَّ قلبي لها رجة عنيفة.»
٨
حتى القول بأن هيكل خشي من أن تجني صفة الروائي على مكانته المهنية والسياسية
والاجتماعية على السواء «فما كان المجتمع يقبل من محامٍ فاضلٍ من أسرة فاضلة، ومن عضو
مؤسِّس في حزب الأرستقراطية المصرية، كبار الملاك، حزب الأمة، الذي تحوَّل إلى حزب الأحرار
الدستوريين، أن يعرَّف بصفة كتابة الروايات التي يكتبها ويطالعها مَن لا مكانة لهم بارزة
في القوم، والتي لا تُستخدَم إلا في التسلية والتفكُّه وإضاعة الوقت الفارغ، وأن تدور
هذه
الرواية فضلًا عن ذلك، حول موضوع غرامي يتغنَّى بعاطفة الحب في مجتمع كان لا يزال ينظر
إلى كل ما يتصل بهذه العاطفة، على أنه أدخل في باب ما يَحسُن السكوت عنه.»
٩ هذا القول، تنقصه الموضوعية إلى حدٍّ كبير، في ملاحظة أن الصفات السلبية التي
كانت لمن كتبوا الروايات قبل هيكل، يصعب — لاعتباراتٍ واضحة — أن تنسحب على محمود طاهر
حقي.
«عذراء دنشواي» تستمد قيمتها من تفوقها الفني، بالقياس إلى الأعمال السابقة لها،
بالإضافة إلى اقترابها الحميم — وهذا هو السبب الأهم — من المشكلات الآنية للمجتمع، لكن
الإرهاصات في «علم الدين» لعلي مبارك، و«لوحات» النديم، و«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم،
و«ليالي
الروح الحائر» لمحمد لطفي جمعة، و«زينب» لمحمد حسين هيكل، وغيرها. كما أضافت ترجمات
السباعي والمنفلوطي والزيات والجميل والمازني لإبداعات كبار الروائيين الأوروبيين …
أضافت تلك الترجمات إلى فن الرواية المصرية من خلال أصول الرواية في أوروبا.
•••
«ظلم النقاد «عذراء دنشواي» حين اعتبروا «زينب» فاتحة الفن الروائي المصري.» ذهب
يحيى حقي
إلى ذلك الرأي، فتلقَّف النقاد رأيه — في سلفية لا نُحسَد عليها! — وانتفت كل الاجتهادات
التي ترى في «زينب» رواية تلي «عذراء دنشواي» باعتبارها محاولة رائدة. ومع أن يحيى حقي
قد
عدل عن رأيه في «فجر القصة المصرية»، وأكد — في حوار صحفي — أنه أخطأ في نسبة الريادة
إلى
«زينب»، وأن «عذراء دنشواي» هي الأجدر بالتسمية، فما زلنا نقرأ اجتهادات سلفية تؤكد أن
«زينب»
هي «الرواية العربية التي يعتبرها النقاد بالإجماع — أو يكاد — باكورة الرواية العربية
الفنية.»
١٠
الطريف — والمؤسف — أن أحد النقاد نسب إلى نفسه — فيما بعد — ببساطة، اجتهادنا الذي
أقرَّه أستاذنا يحيى حقي، ووافق على نتائجه قبل أن ينشر الناقد مقالته بأكثر من عشرين
عامًا. وذهب الناقد إلى أن «زينب» «تحولت إلى أداة تقييم خاطئ؛ لأننا نقيس بها ما تلاها
من أعمال، بينما لو اعتمدنا «عذراء دنشواي» لاختلفت النتائج.»
١١
•••
يقول محمد زهران (عذراء دنشواي) متنهدًا: «هوه محمد زهران بقى عنده حمام من السنة
اللي فاتت. مصطادوه الإنجليز كله.» ولقد كان الصيد بالفعل — في تلك الفترة — هواية
يمارسها الأجانب في كل أنحاء البلاد. تروي لوسي دف جوردون عن حوادث مشابهة لتلك التي
أفرزت مأساة دنشواي. كان ذلك في الأقصر (يناير ١٨٦٤م، أي قبل الاحتلال البريطاني لمصر):
طلب بعض الوطنيين من الكاتبة أن تحثَّ مواطنيها من السياح أن يراعوا في صيدهم للحمام،
فلا
يقتلوا الحمام الذي يملكه الفلاحون. وتقول الكاتبة: «لقد سمحت لجيراني أن يقولوا بأن
هذا الحمام ملكي، حيث إن أسرابه تعشش فعلًا فوق منزلي. وأذنت لهم أن يقولوا إن السيدة
تعترض على أن تصاد دواجنها، وخاصة أنني رأيت بعض الحمام تصيده بنادق الصيادين في شرفتي،
بينما كنت جالسة فيها.»
١٢ وفي كتاب روذنستين «دمار مصر» نقرأ أن ضابطَين إنجليزيَّين كانا يصطادان بجوار
قرية «كفرة»، القريبة من الأهرام، فأصابا طفلًا صغيرًا، ونشب بينهما وبين والد الطفل
وأهالي القرية عراك، انتهى بمقتل والد الطفل برصاص أحد الضابطَين. ومع أن الضابطَين
ارتكبا جريمة القتل، فقد أحيل الفلاحون إلى محكمة مخصوصة، حكمت على اثني عشر منهم
بالجلد والأشغال الشاقة. وحادثة أخرى بطلها طبيب إيطالي كان يصيد في حقل قمح بشبرا،
وهجم عليه الفلاحون، وحاولوا انتزاع بندقيته، فانطلقت وقُتِل الطبيب. والغريب أن الفلاحين
— هذه المرة — حُكِم عليهم بالبراءة؛ لأن القتيل لم يكن ضابطًا إنجليزيًّا! وفي حادثة
دنشواي بالذات، جاءت إدانة الأربعة الذين حُكم عليهم بالإعدام، على الرغم مما قرَّره
الطبيب الإنجليزي — واسمه فولات — من أن السبب المباشر لموت الكابتن بل «كان هو ضربة
الشمس، وليس الجرح الذي حدث برأسه نتيجة لضربات عنيفة بآلة غليظة.» ولا يعني اتهام
الحكم البريطاني بالتعسف في أحكامه، أن أبناء دنشواي قد استسلموا لاعتداء الضباط
الإنجليز على القرية؛ فالحق أنهم قاوموا بكل ما يملكونه من عِصي وأسلحة بدائية، حتى حمت
سلطات الأمن بعض الضباط، وهرب منهم اثنان جرحى، لكن أبناء دنشواي لم يقتلوا الضابط الذي
أقيمت من أجله المحاكمة؛ كان ضابطًا جبانًا، ظل يلهث في الشمس المحرقة من دنشواي إلى
سرسنا، حتى سقط صريعًا بضربة شمس.
لم تكن الحادثة وليدة ذاتها، ولا كان مبعث ثورة أبناء دنشواي إصابة فردية، أو احتراق
جرن، وإنما جذور الحادثة مغروسة في أرض دنشواي لسنوات طويلة من العسف واللامبالاة
والعبث بكل القيم. ثمة رأي أن الحادثة ترتبت على عوامل بعيدة وعامة، وعوامل مباشرة؛
فأما العوامل البعيدة والعامة فهي التذمر الموجود في الريف، وروح العداء المتزايد ضد
الاحتلال، بالإضافة إلى سياسة تصعيد الإرهاب التي اتبعها الاحتلال؛ وأما العوامل
المباشرة، فهي استياء أهالي دنشواي من صيد الحمام، واشتعال ثورتهم حين أصابت طلقات
الضابط الجرن، فاشتعلت فيه النار، وحين أطلقوا الرصاص على الأهالي، فأصابوا أربعة رجال.
١٣ بل إن حادثة دنشواي لم تكن الأولى من نوعها؛ سبقها أكثر من صدام بين
الفلاحين من ناحية، وبين سلطات الاحتلال وجهات الإدارة من ناحية ثانية، حتى أنشئت
المحكمة المخصوصة عام ١٨٩٥م — قبل حادثة دنشواي بسنوات — لمحاكمة المصريين الذين يعتدون
على ضباط وجنود جيش الاحتلال.
١٤ كانت الكوارث التي تنتج عن رحلات الصيد — قبل حادثة دنشواي — كثيرة، حتى
طالبت «الأهرام» (٣٠ / ٣ / ١٨٨٧م) بوضع قانون لأرباب الصيد «يسيرون بموجبه، ويقف بهم
عندهم،
فإننا نرى الرجل منهم يجوس خلال حقل الوطني في طلب طريدته، لا يردُّه عنها شيء، وفي ذلك
ما لا يخفى من عدم العدالة.» وقد تكررت إشارات الصحف الإنجليزية إلى أنه «بمجرد أن يبدأ
موسم الصيد، يهرع الأوروبيون من مختلف الجنسيات إلى الحقول، ويتلِفون مشروعات الفلاحين.
وقد تكاثرت شكوى الفلاحين من ذلك، دون جدوى؛ لأن الامتيازات الأجنبية تحُول دون عمل شيء.»
١٥ إن محمد زهران يشكو إلى العمدة ما حدث، فيقسم له العمدة بأنه سيأتي له
بتعويض عن الحمام الذي اصطاده الإنجليز، ويكتفي العمدة بالقسم دون محاولة لتنفيذ وعده.
وعندما يهمُّ الضباط الإنجليز ببدء رحلتهم، يرى أحدهم وجوب أخذ تصريح من القائد، لكن
رفاقه يسخِّفون رأيه، لا لوداعة ولِين في طبيعة المصريين، بل لضعف وجبن وتملق من شعب
غريب
الأخلاق. ولا يفوت الفنان أن يصف الكابتن بول بأن الضعف يظهر على ملامحه، وثمة عوامل
تخللت سطور القصة، كانت — في مجموعها — قوامًا للحادثة. كانت الشمس حامية تلهب الأرض
بشواظ من نار، لكن الضباط الخمسة يصرُّون على أن يقطعوا جزءًا كبيرًا من رحلتهم سيرًا
على الأقدام … «ويلعن — المترجم — الساعة التي جاء فيها دليلًا لهؤلاء الجن الذين
يريدون السير على الأقدام في ذلك الحر الشديد. وتصل العربات إلى دنشواي، ويسأل المترجم
حسن محفوظ عمدة البلدة: يا ترى ممنوع الصيد هنا ولَّا لا؟
– ممنوع الصيد بين المساكن والأجران، وإنما إذا كانوا عاوزين يصطادوا، يبعدوا حبَّة.
ويطلق اللفتنانت سميث خرطوش بندقيته، فيسقط حمامة وأخرى، ثم «… يلوح عن بُعد دخان
ونار مشتعلة» ويصرخ المستر بورتر: لقد حرقت شيئًا بنار بندقيتك بالفتنانت … انظر إلى
الدخان … كف كف عن الطلق.
فيجيبه الآخر في بساطة: وماذا يهمني؟ وكيف أترك هذه الحمامة الطائرة تفر مني؟
ثم أطلق رصاص بندقيته مرة ثالثة.»
وعلى الرغم مما حدث، فإن الأهالي سكتوا «وسلَّموا أمرهم لله، وكش كل إنسان في مكانه
بدون أن ينبس ببنت شفة.» واكتفى محمد عبد النبي وزوجته بالنظر — في حسرة — إلى النار
المشتعلة في جرنهما، لكن الحدث ينمو بصورة بالغة «… وبينما هما في حسرتهما إذ جاءت
رصاصة، فأصابت مبروكة، فوقعت من على النورج تتخبط في دمها، وسرى هذا الدم الأحمر القاني
إلى القش الأبيض الناصع، فكان المنظر مؤثرًا، فقام محمد عبد النبي وأكبَّ على وجهها وهو
يبكي بكاءً مرًّا، وفي أثناء بكائه، نظر فإذا النار مشتعلة في جرنه، فازدادت مصيبته،
وصرخ بأعلى صوته على الصيادين: يا ناس حرام عليكم … يا ناس موش كده … موِّتوا مراتي
وحرقتوا جرني. وفي أثناء صياحه، وقعت حمامة مقتولة على رأسه، فاستولى على قلبه الحزين
الرعب، فنطَّ من الجرن، وأخذ يعدو من الخوف، وترك امرأته مضرجة بدمائها، فالتفَّ حول
جرنه
الأهالي، وأخذوا يُطفئون النار. أما هو فسار مسرعًا جهة الصيادَين باضطرابٍ عظيم، وصرخ
فيهما: «حرام يا ناس.» وتجمَّع الرجال، وأطلق المستر بورتر رصاص بندقيته، ظنًّا منه أن
الرجال ينوون الاعتداء عليه، فأصاب ثلاثة. وثار الرجال، ونشبت معركة «الضباط يضربون
الأهالي، والأهالي تضرب الضباط»، ويلوذ الكابتن بول بالفرار بعد أن تشجَّ رأسه طوبة،
ثم
يبلغ الحدث ذروته بموت الكابتن بول، ثم المحاكمة الظالمة، وأحكام الإعدام التي أعدَّت
المشانق قبل النطق بها. فقد أحيطت القرية برجال البوليس لمنع الأهالي من الخروج، وأوقف
العمدة والخفراء، وحل بدلًا منهم خفراء من القاهرة، وأُلقي القبض على كل من اشتُبه فيه،
فبلغ عدد المقبوض عليهم ٢٥٠ شخصًا.»
١٦ وصدر بيان عن سلطات الاحتلال في بدايات التحقيق، ولم تكن المحكمة قد انعقدت
بعد، يهاجم الأهالي، ويمتدح الضابط القتيل.
١٧ وكشفت المقطم (١٩ / ٦ / ١٩٠٦م) عن اعتزام سلطات الاحتلال تنفيذ حكم الإعدام في
بعض أبناء دنشواي، حين نشرت أنه قد تم تجربة المشانق التي ستحيط برقاب متهمي دنشواي في
مخازن البوليس المصري. ومع أن وزارة الداخلية سارعت بنفي الخبر، فإن الجماهير المصرية
أدركت طبيعة الأحكام التي أُعدَّت لأبناء دنشواي. وفي اليوم نفسه الذي شهد تنفيذ أحكام
الإعدام كتبت «المؤيد» أنه قد تمت تجربة المشنقة في مخازن البوليس «كل هذا قبل أن تجتمع
المحكمة، وقبل أن تُصدِر أحكامها.»
١٨
•••
وفدت أنباء المعركة إلى قصر الدوبارة، وأمر اللورد كرومر بتعيين الهلباوي في وظيفة
المدعي العام، وتشكيل محكمة خاصة تضع في اعتبارها وأحكامها «ألَّا يُراق دم إنجليزي
بسهولة وبساطة.» وكانت تلك المحاكمة استمرارًا في سياسة كرومر التي جرى عليها في أواخر
عهده، والتي تنهض أساسًا على عدم الاكتراث بالرأي العام المصري، وازدرائه، ورميه
بالتعصب والغفلة، والتأكيد بأن حكم مصر لن يصبح — بزيادة نفوذ الجاليات الأجنبية —
خالصًا لأهلها. وأدرك أبناء دنشواي خطورة موقفهم، عندما نظر محمد زهران إلى السماء
بعينين دامعتين، وصرخ: الله يخرب بيتك يا محمد يا شاذلي وييتم أولادك ولا توعى تقوم من
مطرحك لأنك السبب في ده كله. وقال الحاج عمران — بعد أن يلمِّح الرجال بوفاة الكابتن
بول: المسألة أكبر من الأول، والمصيبة رايحة تنزل على دماغنا كلنا.
ولكن: هل أخطأ أبناء دنشواي حقيقة؟ يقول السيد العوني ببساطته الريفية: «يعملوا إيه
بس يا مسلمين … يا خلق هوه … بقه ييجوا يهجموا على حمامنا اللي بنتعيش منه، ويصطادوه،
ويقتلوا نسوانَّا، ويحرقوا زرعنا، وبرضه نسكت لهم؟»
ويرسم لنا الفنان صورة قلمية رائعة لجو المحاكمة، ثمة أمر من الهلباوي لأحد حجابه
بشراء لِترَين من الكولونيا، ورشِّها في قاعة المحاكمة «اتقاءً لرائحة القرويين». ثم
وقف
الهلباوي، بعد أن أقسم على أن ينزل الصواعق على رءوس المتهمين؛ لأن رائحتهم سبَّبت له
عسر
الهضم.
ودافع الهلباوي في مرافعته عن الفوائد التي جنتها مصر في وجود الاحتلال، واتهم فلاحي
دنشواي بأنهم «عصابة من البلطجية قتلت جنديًّا من جنود بريطانيا العظمى التي حرَّر
احتلالها مصر، ورقَّاها، وعلَّمها مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية.» (ذلك
— أيضًا
— هو رأي يعقوب صروف في روايته «فتاة مصر»). لم تكن براعة لفظية لإدانة متهمين أبرياء
—
استمرارًا للبراعة التي اشتهر بها الهلباوي في أنه يستطيع التعبير عن وجهة نظر المدعي
والجاني في آنٍ — لكنها كانت تعبيرًا عن موقف العِمالة الذي ارتضاه الرجل لنفسه، وهو
الموقف الذي وضعه في بوتقة المأساة إلى نهاية حياته. ثم ردَّد الهلباوي ما رواه الإنجليز
عن بواعث الحادثة، وملابساتها، وتفصيلات وقائعها. وأكد أن أهالي القرية أطلقوا الرصاص
لقتل الضباط الإنجليز، وليس للدفاع عن أنفسهم. وقال الهلباوي في مرافعته: «لا يوجد مصري
لا يشاركني في شعوري نحو الحادثة؛ ولذلك أطلب الحكم على المتهمين بأشد عقوبة.» وقال:
«فإذا تقدمت إليكم، وطلبت رفع كل رحمة من نفوسكم لمعاقبة هؤلاء المتهمين، وخصوصًا رؤساء
العصابة، لا أكون مغاليًا.»
١٩
ويقف الشاهد الأول — الميجر بن كوفين — أمام هيئة المحكمة، ويطلب الرئيس عرض المتهمين
عليه، فلا يتذكر الميجر وجهًا واحدًا. وأوشك أن يقول ذلك، لولا أن نظرات أحد الجالسين
على منصة الحكم جمَّدت الكلمة بين شفتيه. ويختار الميجر علي عبد المنعم محفوظ «عقابًا
له عن عدم حلقه ذقنه.» ثم يشير إلى محمد مصطفى محفوظ «لأنه كان كبير البطن»، ثم محمد
درويش زهران لوجهه الكئيب، وهكذا … ثم تصدر الأحكام، ويتم التنفيذ، ويورد الفنان دنشواي
بأسلوب مؤثر، يطلب لها الخلود، وأن يرفرف دومًا حمامها، وأن تُقص على الأجيال التالية
مأساتها الأليمة.
واللافت في «عذراء دنشواي» أن البطل الفرد يغيب، ويحل بدلًا منه البطل الجماعة. الجماعة
هي التي تتعرض للظلم، وهي التي تثور وتتحرك، وتواجه العقوبات القاسية أيضًا! ويشير
محمود كامل إلى أن السبب الأول في القبض على عائلة محفوظ — كما دلَّت التحقيقات، وكان
العدد الأكبر من المتهمين منهم — يرجع إلى عداء قديم بين العمدة السابق لدنشواي محمد
الشاذلي ونائب العمدة عمر زايد، وبين حسن علي محفوظ. وعندما صعد حسن محفوظ الذي جاوز
الخامسة والسبعين إلى المشنقة، صاح وهو يتجه إلى قريته وبيته وأبنائه بنظرة وداع أخيرة،
ودعا الله أن يخرب بيت العمدة ومن عاونه على الإيقاع به، وأن يظلمه كما ظلمه.
٢٠ يشير الكاتب أيضًا إلى أن الحادثة وقعت بجانب جرن المؤذن محمد عبد النبي، لم
يكن شاهدها سوى الضباط الإنجليز أنفسهم «وهؤلاء لا يمكن أن يتبيَّنوا وجوه عشرات الأطفال
والرجال والنسوة، الذين تجمهروا حولهم، وألقوا عليهم الطوب أو ضربوهم بالعصي.»
٢١
•••
وإذا كان مما يدين الإنجليز بالقطع، أنهم شكَّلوا محكمة استثنائية، كي يحاكموا فلاحين
وادعين — القول للخديو عباس — لم يرتكبوا جرمًا إلا الدفاع عن حقوقهم وممتلكاتهم،
«ولكن جرمهم في ذلك لا يُقاس بجرم أولئك المصريين الذين قبِلوا، بغير اعتراض، الاشتراك
في
تلك المحكمة، وأباحوا للدولة المحتلة تلك الترضيات التي ما كانت لتجرؤ على المطالبة
بها، لو أنها أحسَّت من جانبهم مقاومة بسيطة. إن الوزراء المصريين لم تبدر منهم مبادرة
للتخلص من ذلك الشرف المحزن، شرف محاكمة مواطنيهم، ولم تند عن شفاههم كلمة طيبة واحدة.»
٢٢ وقد حاول الهلباوي — في رواية يحيى حقي — أن يشتري الغفران بدفاعه البارع
عن إبراهيم ناصف الورداني الذي اغتال بطرس غالي باشا، وحاول أن يشارك الحياة الحزبية،
مدافعًا عن حق مصر في الاستقلال، لكنه كان يواجه بالهتاف: ليسقط جلاد دنشواي. حتى هؤلاء
الذين كانت تبهرهم كلماته التي تفيض وطنية وحبًّا لمصر، كانوا يشاركون سواهم الهتاف:
ليسقط جلاد دنشواي!
٢٣ وإذا كان الهلباوي قد عانى حتى الموت من تهمة الخيانة، فإن أحمد فتحي زغلول
لم يواجه التهمة بالحدة نفسها، وإن أثارت مكافأته على عضوية المحكمة، بتعيينه وكيلًا
لنظارة الحقانية في فبراير ١٩٠٧م … أثارت تلك المكافأة مشاعر المصريين، وأرسل واحد
وثلاثون من الشخصيات العامة المصرية برقية إلى الحكومة البريطانية يطلبون منع ذلك
التصرف «باعتباره جرحًا تعمَّد كرومر أن يصيب به الشرف الوطني.»
٢٤ صاغ أحمد فتحي زغلول حيثيات الحكم، فأشار إلى أن الأهالي هم الذين أشعلوا
النار عمدًا قبل أن يهاجموا الضباط، وأن الجريمة وقعت على ضباط عُرفوا بالبسالة «وكان
في
إمكانهم صيد المعتدين بدلًا من صيد حمامهم، ولكنهم ظنوا جميلًا، فسلَّموا عدتهم ليسلموا،
فكان العطب فيما فعلوا» (دنشواي، ٨٨). وإذا كان الهلباوي قد قام بدور الادعاء، فإن
زغلول كان هو العضو المصري الوحيد في هيئة المحكمة، بالإضافة — طبعًا — إلى رئيسها بطرس
غالي الذي تعدَّدت — حتى اغتياله بيد مناضل مصري — مواقف عِمالته للاحتلال الإنجليزي.
ومع
كل السخائم التي نالها عرابي بقلم لطفي السيد، بدعوى أنه منح الفرصة لكي يدخل الاحتلال
البريطاني مصر، فإن لطفي السيد يصف فتحي زغلول بأنه قد عمل لمبادئ الحرية، وللمُثُل
العليا، والتفاني في خدمة بلاده، وأنه كان رجلَ تقدمٍ تطوري، وأنه شديد الذكاء، قوي
النفس، حسن الإخلاص، ومن أرباب المذاهب وليس من أرباب المناصب.
٢٥ أما الدفاع عن المتهمين، فلم يكن من القوة والجرأة — على حد تعبير محمود
كامل — بحيث يتناسب مع خطورة القضية، وأهميتها من الوجهة القومية والوطنية، والوجهة الجنائية.
٢٦
•••
ثمة قصة قصيرة لعبد الحليم عبد الله بعنوان «ابن العمدة»، ينفي فيها تهمة ضرب أبناء
قرية دنشواي للكابتن بول بالحجر في رأسه. أقدم على ذلك ابن عمدة القرية ووحيده، وكان
طالبًا يقضي إجازة الصيف. ودار بين الابن ووالده حوار طويل. الابن يصر على أن يقبض عليه
والده باعتباره «الفاعل»، والأب حريص على إلصاق التهمة بالآخرين، خوفًا على حياة ابنه،
وعلى منصبه:
– لعلك تعلم يا أبي أنني أنا الذي ضربت الضابط الصياد.
– لا علم لي بذلك … احذر يا بني أن يعلم أحد بهذا النبأ.
– إذن … فسينال العقاب غير مرتكب الجريرة … وهذا ما لا يحتمله ضميري.
– وماذا تريد أن تفعل أيها المجنون … هل يخوض النارَ أحدٌ بمحض إرادته؟
– اصغ إليَّ يا أبي … هذا شيء لا مجال للنقاش فيه … ولك الآن أن تختار أحد أمرَين:
فإما
أن تسلِّمني للعقاب بوصفك ممثِّل الحكومة في هذه القرية، وإما أن أسلم نفسي بنفسي. وألقى
العمدة القبض على ابنه، لا ليسلِّمه إلى السلطات، ولكن ليخفيه في عزبة بعيدة حتى تصدر
الأحكام ويتم تنفيذها. وظل الابن يعاني نزف الضمير رغم مُضي الأعوام على المأساة، حتى
وجد فرصة التكفير في ثورة ١٩١٩م «قاد الجماهير بروح قوية، وحمل رأسه على كفَّيه، وهو
يعتقد
أنه سيموت … ولكن موته كالصلاة التي تُقضى، على حين أنه كان يجب أن تُؤدَّى في وقتها
المحدود. لم يرهبه رصاص الإنجليز في شوارع المدينة، وكم من سلاح استولى عليه منهم بيده
العزلاء، وقلبه المسلح باليقين والغيرة، ثم أطلقه على عدوه، ثم أكب عليه ليقول له في
أذنه، والدم ينزف منه: قتلتك حمامة من دنشواي … وهو لا يعلم، كم كانت هذه الكلمة تشفي
غلة صدره.»
•••
ولعل قصة «الأشول» لمحمود البدوي قد تأثرت — بصورة مباشرة — بحادثة دنشواي. إنها
تبدأ
في أعقاب ثورة ١٩، حين خرج جنديان بريطانيان من المعسكر في مدينة أسيوط، وسارا على
الخيل بين المزارع، وكان الجو لطيفًا، فأوغلا في السير، وعاودا النزهة في اليوم التالي.
وفي اليوم الثالث كانا يعدوان بجوادَيهما، فدهس أحد الجوادَين غلامًا صغيرًا كان يلعب
بجوار الترعة، وهمَّا بالفرار، لكن رصاصة مفاجئة أصابت أحدهما، فسقط على الجسر. وبعد
لحظات، كانت القرية قد حوصرت تمامًا، وفُرض عليها حظر التجول، واستمر التحقيق أسبوعًا
كاملًا. وقرر الطبيب الشرعي أن الرصاصة انطلقت من مسافة تزيد عن مائة متر، وأنها أصابت
القلب مباشرة؛ لذلك، فإن القاتل لا بد أن يكون بارعًا في إصابة الهدف. وقدِم من القاهرة
ضابط مصري اشتُهر في أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين، بدأ بجمع السلاح من كل بيت
في القرية، وقبض على جنود الريف. أما من لا يملك سلاحًا، فقد كان يشدُّ وثاقه ليُضرب
بقسوة حتى يغمى عليه. ثم تحوَّل الضابط إلى أصحاب السلاح، فرسم دائرة بجمع القرش، وأصابها
من مسافة عشرين مترًا، ثم طلب منهم أن يتناوبوا إصابة الهدف، فأخطئوا جميعًا. وأخذه
الإحساس بالزهو، فكتب اسمه على الحائط بطلقات الرصاص. وزاد تصفيق الناس من حماسته، فأمر
أحد الفقراء أن يقف بجوار الحائط، وعلى لبدته الحمراء بيضة ودجاجة (وهنا نتذكر قصة وليم
تل) وارتفع التصفيق مرة ثانية، فأمر الخفير بأن يخلع اللبدة، ويضع البيضة على رأسه
مباشرة. ولم تبدر كلمة اعتراض من أحد، حتى الخفير ألجمه الخوف فسكت «وخيم السكون،
واستقرت العيون كلها على رأس الخفير، وكفَّت القلوب عن الخفقان، واستعد الضابط ليضرب
ضربته. وفي هذه اللحظة مرق شيء كالسهم وهو يصفِّر من فوق رأس الضابط، وطارت البيضة، وتلفَّت
الضابط والناس مذعورين، فوجدوا رجلًا يقف وحده بعيدًا وراء الساحة، ويمسك بيده
اليسرى بندقية قصيرة، ولم يحادث الرجل الأشول أحدًا، وإنما تقدم في خطًى ثابتة بعد أن
ألقى سلاحه، إلى غرفة السلاحليك.»
٢٧
كان الأشول هو القاتل الفعلي إذن … فلماذا سلَّم نفسه، وقد كان في منجاة من العقاب؟
ربما أثاره زهو الضابط بقدرته الفائقة على إصابة الهدف، فأصاب الهدف دون أن يفكر في
اللحظة التالية. وربما أشفق أن تصيب الرصاصة رأس الخفير، فيكفِّر عن ذنب لم يرتكبه،
وربما أغضبه الإذلال الذي تعرَّض له كل أبناء قريته من ضابط خائن، فافتداهم بحياته …
أيًّا كان السبب، فما من شك أن موقف الأشول يعبِّر عن لحظة مصرية عميقة، تنبض بالحب
والغضب والثورة في آن.
وفي قصة «حدث في دنشواي» للخضري عبد الحميد، أعلن محروس أن الانتقام من الإنجليز،
قد
أصبح واجبًا عامًّا وفرضًا على الجميع «واجبنا أن نمحو كل أثر للمحتل، لنرفع الرءوس
بكرامة، ولنطمئن على حياتنا وأعراضنا.»
٢٨ وقد ظل حمام دنشواي يحلِّق في الفضاء، ويحط على الأبراج ويرتفع عنها، كما
كان يفعل دائمًا، إلى عام ١٩٥٦م، عندما خرج آخر جنود الاحتلال من بورسعيد، فرحل أحد
أحفاد الشهداء إلى القرية، ومعه عدة أزواج من حمام بورسعيد، أطلقها في جو القرية كما
يطلق البشير، فاختلطت بسلالات الحمام الذي أثار صيده مذبحة عام ١٩٠٦م، لقد تشكل وجدان
أبناء الجيل — على حد تعبير يحيى حقي — في ظل طعنة دنشواي.
٢٩
هوامش