الفلاحون

محمد مفيد الشوباشي في «طلائع الأحرار» يقصر تناوله على الحكومية المصرية، باعتبارها الطاحونة التي حرصت سلطات الاحتلال على أن تلقم فاها كل الطاقات المتعلمة. ثم يعرض الشوباشي لإسهام طبقة المثقفين — والموظفين بالذات — في الإعداد للثورة، يأتي في مرحلة تالية لاشتراك بقية فئات الشعب وطوائفه. لهذا، فإن ما يهمنا هو الوقوف عند بعض الأعمال الأدبية التي تعرض لقطاعاتٍ أخرى من الشعب المصري في تلك الفترة التي تعد بداية مرحلية لبحث الذات المصرية عن نفسها — بعد سني الضياع التي تلت هزيمة العرابيين — ثم اكتشاف تلك الذات في أحداث الحرب العالمية الأولى، وتأكيدها في ثورة ١٩١٩م.

•••

يذهب محمود تيمور إلى أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل هي «أول قصة مصرية كُتبت على النمط الغرب.»١ «فعهد «زينب» كان بدء تحرر الأدب من السيطرة العربية القديمة، واستلهامه من الأدب الغربي؛ أي بدء ظهور النفوذ الغربي في أدبنا العصري.»٢ ويقول يحيى حقي: «من حسن الحظ أن القصة الأولى في أدبنا الحديث قد وُلدت على هيئة ناضجة جميلة، فأثبتت لنفسها — أولًا — حقَّها في الوجود والبقاء، واستحقَّت — ثانيًا — شرف مكانة الأم في المدد منها، والانتساب إليها، وإلا أين كنا نداري وجوهنا لو التفَّ القماط على خلقة دميمة مشوَّهة، تجد عذر غثاثتها، أنها من إنتاج قلم غشيم في الكار؟»٣ ولعلي أميل إلى رفض الرأي بتحديد البداية على أساسٍ فني، دون مبرر على الإطلاق، بل إن أستاذنا يحيى حقي يُسقِط — تمامًا — صدور أية محاولة سابقة ﻟ «زينب»، حين يحمد الله على أن الوليد الأول (!) جاء مكتمل الصحة، ولا يعاني تشوهات خلقية، بينما صدرت قبل «زينب» — الفصول السابقة دليلنا — بضعة أعمال روائية تعاني السذاجة في مجموعها، لكنها تظل وثائق فنية لصورة المجتمع المصري في مطالع القرن العشرين. ربما جاءت ذات خلق دميمة شوهاء، لكنها تنتسب إلى الفن القصصي. ولأنها تجارب أولى، فهي لا بد أن تتسم بأخطاء التجربة وسذاجتها. بل إن أحدًا لم يلتفت إلى «زينب» بالذات، إلا بعد أن أعيد طبعها عام ١٩٢٩م «وعُرف أنها لهيكل باشا، فأخذت أهمية في الأدب العربي الحديث، لمقام هيكل باشا، لا لما فيها من الفن.» يقول يحيى حقي في تقديمه لرواية «عذراء دنشواي» بأنها هي البذرة التي مهدت لمحمد حسين هيكل أن يكتب في ١٩١٢م رواية «زينب»، وجعل حوادثها تجري في الريف، وبعض أبطالها من الفلاحين. بل إن «عذراء دنشواي» — في تقدير حقي، وفي تقديري أيضًا — تمسكت بأهداب الواقعية، بينما غرقت «زينب» في رومانسية شاعرية، لا تقبل الأضداد.٤ بل إن عبد الحميد إبراهيم يُرجِع أصول رواية «زينب» إلى الأدب الفرنسي، وأنها كانت تأثرًا من الفنان بأعوام إقامته في فرنسا، وتوجهت نحو النموذج الغربي، تستلهمه المضمون والشكل، فتحولت إلى قرية من قرى سويسرا أو فرنسا، وأصبحت زينب نفسها نسخة شبيهة ببطلات الروايات الغربية، وتنتهي الرواية في جو رومانسي حزين، يقترب إلى جو الروايات الرومانسية التي كانت شائعة في فرنسا حينذاك، وبخاصة رواية ألكسندر دوما «غادة الكاميليا».٥
ويعتبِر أحمد حسين الطماوي رواية «في وادي الهموم» لمحمد لطفي جمعة أسبق — زمانيًّا ومكانيًّا — من «زينب» هيكل، و«عذراء» محمود طاهر حقي، وغيرهما من الروايات التي صدرت في مطالع القرن العشرين. صدرت «في وادي الهموم» عام ١٩٠٥م، بينما صدرت «عذراء دنشواي» عام ١٩٠٧م، أما «زينب» فقد صدرت عام ١٩١٢م.٦

إن كل المحاولات التي سبقت «زينب»، مثل «حديث عيسى بن هشام» و«ليالي سطيح»، تُنتسب — في تقدير يحيى حقي — إلى المقامة، وليس إلى فن الرواية. ومن ثَم فإن «زينب»، حتى لو جاءت صورة شوهاء، كانت ستظل الأولى لعدة اعتبارات: إنها تخلصت من أسلوب المقامة، وتوخت السهولة والبساطة في العرض والتناول … إنها أقرب في قضيتها إلى الرواية في أصلها الأوروبي … إنها لجأت إلى العامية في الحوار، وإنها عالجت — لأول مرة — وضع المرأة في عمل روائي. إن لهيكل — على حد تعبير الكاتب — فضلًا في اتخاذ الريف والفلاحين موضعًا لأول رواية مصرية. وكما قلنا، فإن اجتهاد يحيى حقي غادر صفحات كتابه، ليصبح اجتهادًا أساسيًّا، أو مسلَّمًا به، في كل الدراسات النقدية التالية.

فهل تُعد زينب — بالفعل — أول رواية مصرية؟

لقد كتب يحيى حقي دراسته في أثناء عمله بدار الكتب، وبالتالي فقد أفاد من كل المراجع التي تضمها الدار، وقدَّم لنا — للمرة الأولى — بعض الرواد من الأدباء الذين كانوا شبه مجهولين مثل عيسى عبيد وشحاتة عبيد وغيرهما من أدباء ما بعد «زينب» — إن جاز التعبير — ولم يبذل الجهد نفسه في دراسة البدايات الأولى التي تنفي أن «زينب» كانت هي الرواية الأولى، بحيث توضع رواية هيكل في موضعها المتأخر — نسبيًّا — بين المحاولات الروائية المصرية الأولى، وينقذ أصحاب تلك المحاولات من الإهمال غير المبرر، فلا يغيبون عن الدراسات التي تؤرخ للرواية المصرية منذ بداياتها. ربما اعتمد يحيى حقي على ما كتبته مجلة السفور بأنها أول رواية خطَّها قلم مصري رجيح في شئون الأدب ومعرفة الحوادث المصرية الصميمة. أو لعله اعتمد على الرأي بأن «زينب» هي «نوع الروايات التي يرجى أن يظهر فينا نحن — المصريين — تأثيره، لأنه يخاطبنا بلغة نفوسنا، وباللسان الذي نتحدث به في بيوتنا وشوارعنا.» وربما اقتنع حقي بما كتبه عباس حافظ أن «زينب» هي ما يذكره في بدايات «فن القصة المطولة».٧ وربما استند حقي — في حكمه غير المبرر — إلى ما قدَّم به عبد العظيم طاهر الشهابي رواية جلال الدين نصوح «الأسرة المنكودة، صفحة من جهاد شباب الثورة»، التي صدرت في ١٩٢٥م، «إن الرواية ظلت بعيدة عن أقلام الكُتاب، فلم نر حتى ١٩٣٥م — وقت كتابة المقدمة — رواية مصرية، باستثناء «زينب» للدكتور هيكل، وبعض روايات لا تصور من حياتنا إلا النزر اليسير.» ذلك ما كتبه الشهابي، واستند إليه — فيما يبدو — يحيى حقي، برغم أن كل المقومات التي جعلت من «زينب» الرواية الأولى تتوافر — بسخاء — في عشرات الأعمال التي سبقتها.٨ إن دراسة «المتن»، وليس الاعتماد على اجتهادات سابقة، هو ما يهب البحث العلمي قيمته الحقيقية. وأحرى بنا — في هذا الإطار — أن نعيد دراسة كل الأعمال الروائية المصرية الرائدة — دون التقيد باجتهاد مسبق — ليمكن أن نجيب عن السؤال: هل «زينب» هي أول رواية مصرية. لقد صدرت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى عام ١٩١٢م — وهو العام الذي صدرت فيه «زينب» — أكثر مائة وخمسين رواية مصرية، بعضها يعاني السذاجة الفكرية والفنية، بحيث يصعب أن ينتسب إلى فن الرواية على الإطلاق، وبعضها الآخر يحمل مقومات تكنيكية ومضمونية تجاوز الصورة التي ظهرت بها «زينب» هيكل. إن الموضوعية تقتضي دراسة كل تلك الأعمال، بحيث يستند إسقاطها من المسار الروائي المصري إلى ما تحمله — أو لا تحمله — من قيمة. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: هل قرأ أي من الباحثين الذين وضعوا «زينب» في موضع الأمومة لكل الروايات، كل الأعمال السابقة لرواية هيكل؟ وهل أتيح لهم — بالفعل — قراءة تلك الروايات، أو بعضها: «مظالم الآباء» لخليل كامل (١٨٩٧م)، «مقاتل مصر» لمحمد العبادي (١٨٩٧م)، «المهندس المصري» لميخائيل فرح (١٨٩٧م)، «الفلاح المجتهد، النصر المبين» لوهبة إبراهيم منصور (١٨٩٧م)، «اليتيم أو حياة شاب مصري» لأحمد حافظ عوض (١٨٩٨م)، «الفتاة الشرقية» لمحمد حسين (١٨٩٨م)، «عجائب الحدثان» لراغب دميان (١٨٩٨م)، «آيات العبر» لأحمد فهمي (١٨٩٩م) «ذل الغرام» لأحمد لطفي (١٩٠٠م)، «مدهشات القدر» لحسن حسني (١٩٠٠م)، «خفايا مصر» لمحمود حسيب (١٩٠١م)، «شهداء الإخلاص» لأحمد أنور (١٩٠٢م)، «يا قلبي ما لك والهوى» لنسيب المشعلاني (١٩٠٢م)، «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين» لمحمد كاظم ميلاني (١٩٠٢م)، «ثمرات الثبات» لإبراهيم أنور (١٩٠٣م)، «الحسناء الوفية» لأحمد رفعت (١٩٠٣م)، «الفتى الطائش» لحسن عفيفي (١٩٠٣م)، «القصاص العادل» لخليل فهمي (١٩٠٣م)، «اليتيمتان» للسيد محمد الزعبلاوي (١٩٠٣م)، «الأخ الغادر» لمنصور رفعت (١٩٠٣م)، «ما قدِّر كان» لعبد العزيز صبري (١٩٠٤م)، «قلب الرجل» للبيبة هاشم (١٩٠٤م)، «الحب الطاهر» لمحمد أحمد (١٩٠٥م)، «الفتى الريفي» و«الفتاة الريفية» لمحمود خيرت (١٩٠٥م)، «شهداء الإباء» لمصطفى إبراهيم (١٩٠٥م)، «الجزاء العادل»، «حسن الختام»، «السنان الفيلسوف» لأحمد حافظ عوض (١٩٠٥م)، «متاعب الهوى» لصالح القاضي جودت (١٩٠٥م)، «نهاية الغرام» لمحمد صادق العنتبلي (١٩٠٥م)، «دنشواي» لعبد الحليم دلاور (١٩٠٦م)، «محاسن العصر» لحسن توفيق (١٩٠٩م)، «الشريف المنتحر» لكامل فرح (١٩١١م)، «مصرع الظالمين» لتوفيق سعيد الرافعي (١٩١١م)، «على سفح الجبل» لإسماعيل عبد المنعم (١٩١١م)، «الحب الطاهر» لإسماعيل عبد المنعم (١٩١٢م) … إلخ.٩ وقد سأل عبد العال الحمامصي أستاذنا يحيى حقي حول هذه النقطة — بعد أن عرضت لها بالمناقشة في «المساء» وانتصرت — فنيًّا — لرواية محمود طاهر حقي «عذراء دنشواي» التي سبقت رواية هيكل في الصدور،١٠ فأجاب حقي بأنه عدل عن رأيه في المقدمة التي كتبها لرواية طاهر حقي، عندما أعيد طبعها.١١ ولعله يجدر بنا ملاحظة أن يحيى حقي عدَّد من العيوب في «زينب» ما يقضي عليها — من الناحية الفنية — تمامًا. يقول: «ما أرخصها براعة لمن يمتشق القلم لتفنيد هذه الحكاية. الباب مفتوح أمامه على مصراعيه ليقول ما يشاء في غلوها في الرومانسية، وحلولها المفتعلة، وانتقالاتها بغير تمهيد، وتمييع عواطف البطلين، وتكرار الوصف، والتأثر بفلسفات مسيحية لا نعرفها، ومجيئها بصور لا يألفها أدبنا أو قصصنا.»١٢

•••

«زينب» تنبئ بمستقبل واعد، لكن هيكل لا يكتب سواها حتى عام ١٩٥٠م، فيكتب بعض القصص القصيرة، ورواية هي «هكذا خلقت»، ويرحل … فلماذا كتب زينب؟ أكاد لا أشك في أن الرواية لم تكن باكورة خطة سار عليها المؤلف (أذكر قوله ليوسف السباعي إنه اكتفى بزينب، فسنُّه ومركزه لا يسمحان بمعاودة هذا العمل!) لماذا كتب «زينب» إذن؟ لقد صدرت الرواية في عام ١٩١٢م بهذا العنوان «زينب: مناظر وأخلاق ريفية، بقلم مصري فلاح» فهو إذن يخجل من ذلك العمل الذي أقدم على كتابته. يقول هيكل إنه كتم اسمه خشية «أن تجني صفة «الكاتب القصصي» على اسم «المحامي»»، لكن يحيى حقي يرى أن مبعث الخجل هو الحديث عن الحب في القصة لا تأليف القصة ذاته. فلماذا لا يكون المستقبل السياسي الواعد هو الدافع لأن يحذف هيكل اسمه؟ أصدِّق هيكل في خشيته من أن تجني صفة الكاتب القصصي على اسم المحامي، فالمحاماة في ذلك العهد كانت وثيقة الصلة بالسياسة. لكن السؤال يظل قائمًا: لماذا كتب هيكل الرواية؟ يقول هيكل: «ولعل الحنين وحده هو الذي دفع بي لكتابة هذه القصة، ولولا هذا الحنين ما خطَّ قلمي فيها حرفًا، ولا رأت هي نور الوجود، فقد كنت في باريس طالب علم يوم بدأت أكتبها، وكنت ما أفتأ أعيد أمام نفسي، ذكرى ما خلَّفت في مصر مما تقع عيني هناك على مثله، فيعاودني للوطن حنين، فيه عذوبة لذَّاعة لا تخلو من حنان، ولا تخلو من لوعة.»١٣

ولأن الحنين — في قول هيكل — هو الدافع الأساس لكي يكتب روايته، فقد غلبت الرومانسية حتى في تذكُّره لحياة الفلاح. ثمة العبارات الإنشائية التي تسرف في التحدث عن طيبة البشر، وجمال الطبيعة، والبساطة التي تغلِّف كل شيء. لم يعُد هو الريف الذي نعرفه، بل ولا الذي كان موجودًا في أوائل القرن العشرين. إنه ريف آخر صنعه «الحنين» الذي عني بالجوانب الجميلة، وأهمل ما عداها. وفي تقديري أن زينب ليست نتاجًا للحنين فحسب، لكنها انعكاس للاهتمامات المبكرة التي وجدت متنفسًا في عمل أدبي. بدأ جمال عبد الناصر — على سبيل المثال — وهو في المرحلة الثانوية، في كتابة رواية هي «في سبيل الحرية»، وكتب مصطفى كامل مسرحية هي «فتح الأندلس»، ثم شغلتهما الأحداث السياسية تمامًا. وهذا هو ما فعله هيكل: لقد كتب «زينب»، ثم اشتغل بالسياسة، حتى أصبح رئيسًا لأحد الأحزاب، فلم يكتب رواية أخرى طوال حياته السياسية، فيما عدا بعض المؤلفات التاريخية والأدبية، مثل «ثورة الأدب» و«حياة محمد» و«تراجم مصرية وغربية» وغيرها. ثم ألغيت الأحزاب — بعد قيام ثورة ١٩١٩م — فعاوده الحنين إلى كتابة القصة — أو قل هو الخوف من ذَوْي الشهرة — وكتب «هكذا خلقت» وبعض القصص القصيرة.

«زينب» — عدا الحنين، وتكرار وصف طبيعة الريف مظهر من مظاهر هذا الحنين — ثمرة وعي سياسي لم يكتمل، أفرغه المؤلف في قالب أدبي، لكن الحدس السياسي الساذج يدفع صاحبه إلى حذف اسمه من الرواية. ولنقرأ تبريره لهذا الحذف، الذي اعتبره يحيى حقي خطأ يستحق المؤاخذة: «لقد دفعني إلى اختيار هاتين الكلمتين — مصري فلاح — شعور شباب لا يخلو من غرابة، وهو هذا الشعور الذي جعلني أقدِّم كلمة «مصري» حتى لا تكون صفة للفلاح إذا هي تأخرت فصارت «فلاح مصري»، ذلك أني ما قبل الحرب، كنت أحس — كما يحس غيري من المصريين، ومن الفلاحين بصفة خاصة — بأن أبناء الذوات وغيرهم ممن يزعمون لأنفسهم حق حكم مصر، ينظرون إلينا — جماعة المصريين، وجماعة الفلاحين — بغير ما يجب من الاحترام، فأردت أن أستظهر على غلاف الرواية التي قدَّمتها للجمهور يومئذٍ، والتي قصصت فيها صورًا لمناظر ريف مصر وأخلاق أهله. إن الفلاح المصري يشعر في أعماق نفسه بمكانته، وبما هو أهل له من الاحترام، وأنه لا يأنف أن يجعل المصرية والفِلاحة شعارًا يتقدم به للجمهور، يتيه به، ويطالب غيره بإجلاله واحترامه.»١٤

ألا يضرب هيكل — هنا — على وتر السياسة؟

لكن الناقد عادل أبو شنب يشير إلى دافع آخر، لا يقل — في تقديره — عن الدوافع السياسية أو الاجتماعية التي حالت دون وضع هيكل اسمه على رواية «زينب»، وهو أن الرجل «لم يكن يعرف مدى تقبُّل القراء لهذا اللون الأدبي الجديد، وكشْف اللثام عن شخصه في مؤلفاته التالية يعني أن النتيجة إيجابية، وأن القراء قد استساغوا الرواية، وأقبلوا عليها، وهو اعتراف بالفن الجديد.»١٥

خلاصة الأمر إذن أن هيكل عندما كتب «زينب» كان حريصًا على اسمه كمحام، بأكثر من حرصه على صفة الفنان، وبالتالي فقد حذف اسمه، واختار — بدلًا منه — اسم «مصري فلاح»، وربما اضطر — كما يقول فتحي غانم — لأن ينتظر حتى تقوم الحرب العالمية الأولى، ويُقال فيها الملايين من البشر، وتنهار المعتقدات القديمة، وتُزلزل التقاليد الرجعية، قبل أن يعترف في أعقاب الحرب بأنه مؤلِّف «زينب».

وقد اعتبر زكي نجيب محمود رواية هيكل «تجسيدًا لدعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، فضلًا عن أنه يعرض في أحداثها لعيوب المجتمع التقليدي الذي يحُول دون امرأة ورجل متحابين، لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين متفاوتتين من حيث الغنى والفقر.»١٦

•••

كان من النتائج المباشرة للحملة الفرنسية، تعرُّض نظام الإقطاع لهزة عنيفة، نتيجة لهزيمة المماليك، وإقصائهم عن الحكم، ومصادرة أطيان الملتزمين منهم، وقتل وتشريد الكثيرين، وتحريض المصريين على الثورة ضدهم.١٧ والواقع أن الملتزمين لم يكونوا ملاكًا للأرض، وإنما كانوا — في بداية أمرهم — مجرد محصِّلي ضرائب، ثم تطور الالتزام، فأصبح يُعطى لسنة واحدة، ثم لعدة سنوات، ثم أصبح يُعطى لمدى الحياة. وبعد أن كان الالتزام لا يُورَّث، أصبح لورثة الملتزم أن يستبقوه في أيديهم إذا ما دفعوا «الحلوان» للدولة.١٨ ثم منح محمد علي لنفسه، ولأفراد أسرته، أطيانًا واسعة من الأبعادية باسم «رزقة الآمال»، جعلها ملكًا مقيدًا في فبراير ١٨٣٧م، ثم صارت ملكًا مطلقًا في فبراير ١٨٤٢م، وعُرفت تلك الأطيان باسم «الجفالك».١٩ ثم كانت أطيان «مسموح المشايخ»، بنسبة خمسة أفدنة من كل مائة فدان من المعمور، نظير خدمات المشايخ للحكومة، وأطيان «مسموح المصاطب»، نظير قيام المُهدى إليهم الأطيان بإطعام المساكين والمسافرين.٢٠ وأرض الوسية، تلك المساحات الشاسعة من الأراضي التي أقطعها محمد علي للملتزمين الذين كانوا يتولون جباية الضرائب، يستغلونها طيلة حياتهم، ولا يدفعون عنها ضرائب. كان ذلك كله ملامح في صورة الإقطاع في الريف المصري، ثم تأكد الواقع الذي كان يحياه الفلاح المصري بأمر الخديو في ١٨٦٩م، بتكليف الأطيان على أكبر أولاد المتوفى، على أن يقسم الإيراد على الورثة الباقين، توخيًا لعدم تفتيت الملكية الزراعية. وعلى الرغم من هذا، فقد حرص ملاك الأراضي على هجرة الريف والإقامة بالمدن، مما دفع القرية المصرية أشواطًا في طريق التخلف. في ٢٠ يوليو ١٨٥٦م وقعت اتفاقية بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، تنص على قيام الحكومة بتوريد الفلاحين للعمل في خدمة الشركة. وقد امتدت السخرة حتى أُلغيت في ١٩ ديسمبر ١٨٨٩م، لكن بقاياها ورواسبها ظلت ممتدة إلى عهد غير بعيد.٢١
وقد حرصت سلطات الاحتلال — منذ استقرار أوضاعها في مصر — على سياسة التخصص. تميزت الفترة من ١٨٨٢م إلى ١٩١٤م بالتوسع في الزراعة، وفي زيادة حجم رأس المال المستثمَر في مشروعات الري الكبرى، وإنشاء شبكة من الترع والقنوات، ومد شبكات الخطوط الحديدية … إلخ.٢٢
كما حرصت سلطات الاحتلال — في الموازاة — على أن تكون معظم مساحة الأراضي المنزرعة للقطن. وكان الهدف — في التحليل الاقتصادي — تجويع الشعب المصري، بصرف نظره عن إنتاج القمح، وتحويل الموارد الاقتصادية إلى زراعة القطن. كان الإقدام على التخصص في زراعة القطن أكبر من مزاياه، لأن الاقتصاد القومي توقف على غلة واحدة، ترتبط أسعارها بظروف عالمية خارجة عن إرادة مصر. ثم يلح السبب الأهم، وهو أن إنجلترا كانت متحمسة لزراعة القطن لأنه مادة خام تلزم لأكبر صناعاتها آنذاك.٢٣ ثمة من دافع عن القطن باعتباره أنسب الحاصلات على الإطلاق لمصر في ظل الظروف التي كانت سائدة من حيث ندرة الأرض ورأس المال.٢٤ الرأي الذي دعا إلى توسيع زراعة القمح نسي، أو تجاهل أهمية نظرية التكاليف النسبية في ظل اقتصاد يقوم على التخصص بين الدول، واتباع مبدأ حرية التجارة «فماذا يضيرنا لو أنتجنا قطنًا، وحصلنا على كميات أكبر من القمح عن طريق التبادل الدولي؟»٢٥ أما الاعتقاد بأن مساوئ الاعتماد على محصول واحد ترجح مزايا التخصص، فهو قول يعوزه التحليل المنطقي، ويفتقر إلى الإثبات الإحصائي.٢٦ وإذا سلمنا — جدلًا — بأن مستوى المعيشة يصح الحكم عليه بالزيادة أو النقصان، وفقًا لزيادة أو نقص الكمية التي يستهلكها الفرد في المتوسط من القمح، فالفرض يشوبه الكثير من الأخطاء، لأن ارتفاع الأسعار ومستوى المعيشة يجعل الإنسان يقلل من استهلاكه للخبز، لإشباع رغبات أهم.٢٧
وكان نشوء طبقة العمال الزراعيين — وهم الذين تعد قوة سواعدهم على العمل في الأرض رأسمالهم الوحيد — بإلغاء السخرة رسميًّا في ١٨٨٩م، ثم صدور قانون المحاكم المختلطة الذي أسقط حق المالك الجديد في ملكيته إذا أهمل زراعتها، كما نص في بنوده على أن يدفع الفلاح ديونه نقدًا، بعد أن كان يدفعها عينًا، مما ألجأ الفلاحين إلى رهن أراضيهم لكبار الملاك والمرابين من المصريين والأجانب، وتحوَّل صغار الفلاحين بالتالي، إلى ملَّاك فقراء يبيعون قوة عملهم جزءًا من العام للغير. أما إلغاء السخرة الذي حاولت سلطات الاحتلال أن تضفي عليه سِمة إنسانية وإصلاحية، فهو لم يكن — في واقعه — سوى تنظيم اقتصادي، بعد أن هاجرت أعداد كبيرة من الفلاحين إلى المدن فرارًا من العمل الإجباري، في حفر الترع وشق الطرق لإصلاحها. وارتفع — في ظل الاحتلال — عدد الملَّاك الذين يملكون أكثر من ٥٠ فدانًا من ١١٢٠٠ مالك عام ١٨٩٤م إلى ١٢٤٨٠ مالكًا عام ١٩١٤م. وزادت أملاكهم من ١٩٧٧٠٠٠ فدان في ١٨٩٤م إلى ٢٣٩٧٠٠٠ فدان في ١٩١٤م.٢٨ ويقول إبراهيم عامر إن الفلاحين ظلوا «يُساقون بالكرباج للعمل في مزارع الخديو، وفي مزارع الباشوات المحظوظين، وكان المرابون يستكتبون الفلاحين مستندات بديون ذات فائدة خيالية، وكانت المحاكم المختلطة ذات القضاة الأجانب تحاكمهم بمقتضى قوانين أجنبية، وبلا دفاع، وتنتزع أراضيهم منهم.»٢٩
ويرجع رفعت السعيد بيع أملاك الدائرة السنية في الفترة بين أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، إلى «أن الصدام بين الخديو عباس حلمي الثاني وبين سلطات الاحتلال، قد نبَّه كرومر إلى ضرورة إضعاف الأسرة المالكة، وتخفيضها من مرتبة الحليف إلى مرتبة التابع المطيع.»٣٠ أراد اللورد كرومر أن يجرد الأسرة المالكة من ملكياتها الكبيرة، وصادف ذلك التصرف قبولًا هائلًا بين كبار ملاك الأراضي، وتوزعت الأرض — بالشراء — بين أسر يوسف كمال وطف الله وبشرى حنا وسلطان وعمرو وشعراوي، وغيرها. «وهكذا نُزعت الدائرة السنية من مالك واحد غني، ووُزِّعت على عدة ملاك أغنياء، أغلبهم من صنائع الإنجليز.»٣١
أما قانون المحاكم المختلطة — وما تفرَّع منه من قوانين أدت إلى تجريد آلاف الفلاحين من أراضيهم — فقدَ بُعدًا آخر مهمًّا في نشأة طبقة العمال الزراعيين، مجردة من كل ملكية إلا قوتها البشرية، ذات المقابل المادي الضئيل. ومن ثَم، زادت النسبة المئوية للعمال الزراعيين (وهم مَن عنيت بتصويرهم «زينب» و«عودة الروح» و«الضاحك الباكي» وغيرها من الأعمال الأدبية التي تعرض لفلاح أول القرن) إلى مجموع المشتغلين بالزراعة بين ١٩٠٧م و١٩١٧م من ٣٦٫٣٪ إلى ٥٠٫٤٪، وسجلت السنوات التالية زيادة مطردة في عدد العمال الزراعيين، وأصبح عدد الأُجراء الزراعيين في ١٩٢٧م أكثر من ٦٦٠ ألفًا، وفي ١٩٣٧م حوالي ١٤٥٧٢٦٧ مليون أجير زراعي، وفي ١٩٤٥م أصبح حوالي ٢ مليون أجير زراعي.٣٢
بالإضافة إلى ذلك، فقد جرت الحكومة في بيع أطيانها — والكلام لواصف بك (فتاة مصر) — على أساليب مختلفة «ففي أول الأمر، كانت تعطيهم إيَّاها من غير ثمن، أو تجبرهم على أخذها مجانًا، وهم يمتنعون مخافة أن تُضرب عليها الضرائب من غير أن يجري إليها الماء اللازم لريِّها، وأطياننا لا تنتج شيئًا من غير ري لأنها ليست مثل أراضيكم التي تُروى بماء المطر. ثم لما أصلحت الحكومة الري، وصار في إمكانها إرواء الأطيان البور، امتنعت عن إعطاء الأطيان مجانًا، وعن بيعها بالثمن أيضًا. نعم، إنها تبيع في بعض الأحيان قطعًا صغيرة، ولكنها تطرحها في المزاد العمومي، فيأتي أناس من إخواننا — والتفت إلى الخواجة لافي — لا يقصدون شراء الأرض وإحياءها، بل إغلاء ثمنها، أو يرضيهم المشتري بالمال، فيرفعون ثمن الفدان الذي يساوي جنيهين إلى عشرين جنيهًا، فيضطر الفلاح أن يدفع ثمنًا فاحشًا، ولا يستطيع أن يشتري إلا أفدنة قليلة، ولا يعود قادرًا أن ينفق على إصلاحها. وإذا لم يشترها هو، اشتراها الخواجة إبراهيم، أو الخواجة إسحاق، وباعه إيَّاها الفدان بثلاثين جنيهًا أو أربعين، وقسَّط ثمنها عليه بالربا الفاحش.»٣٣
كانت ديون الفلاحين — قبل الاحتلال — لا تزيد عن سبعة ملايين جنيه، ثم بلغت — بعد الاحتلال — أكثر من ٢٢ مليونًا من الجنيهات. وبلغت المتأخرات لدى البنك الزراعي وحده ٤١٦٨٨٧ جنيهًا في يناير ١٩١٠م. وكانت البنوك تغري الفلاحين بتلك الديون، ثم تأخذ — حين يعجزون عن سدادها — في نزع ملكية الأراضي. ومن هنا جاء قول سيد درويش: «شوف البلاوي … والبنك ناوي … يرفع دعاوي … عشان يتاوي … في فلوسنا واحنا متجندلين.» وثمة أعداد من المرابين غير المصريين، كانت الفوائد التي يقرضونها تصل إلى ٢٠٠٪ أو أكثر. فقد أحجم الأثرياء من المسلمين عن التعامل بالفائدة، لأن الإسلام يحرم التعامل بالربا.٣٤ وأخيرًا، فإن يوسف نحاس يشير في كتابه «الفلاح» إلى أنه «مما يزيد من نفقات الفلاح، ما يضطر إلى دفعه أحيانًا في استرضاء رجال الإدارة، ولا سيما المسيطرون على الري منهم.» كان الفلاح قليل الثقة بالمطربشين، لأنهم لم يمثِّلوا — في نظره — إلا التسلط والعسف، فثمة ضابط البوليس وطبيب الصحة ومهندس الزراعة، وغيرهم من موظفي الوزارات والمصالح الذين تصوروا واجبهم الوحيد مضايقة الفلاح، وتحصيل الضرائب أو المخالفات منه، واللجوء إلى القسوة في معاملته. ولا شك أن الرشوة، والحرص على إخفاء المجرم، بصرف النظر عن طبيعة جريمته، ومدى حظه من التبرئة أو الإدانة، وتوجس الفلاحين من أي مشروع للدولة … ذلك كله تعبير مباشر عن نظرة الفلاحين إلى السلطة القائمة، فالرشوة هي السبيل الوحيد إلى قلب الحاكم، أو المنوبين عنه، مثل مهندس الري، أو العمدة، أو شيخ الخفراء. والحرص على إخفاء المجرم مبعثه إدراك فطري بأن السلطة تصدر عن الظلم، وأن ظلمها يكتسب صفة العموم، ومن ثَم، فإن واجب المواطنين أن يعينوا بعضهم بعضًا، والتوجس الدائم من مشروعات الدولة تصور يقيني أن الدولة لم تحاول لهم الخير أبدًا. وفي ظل ذلك التوجس يمكن أن نضع قانون الخمسة أفدنة لحماية الملكية الزراعية (أول مارس ١٩١٣م)، ويقضي بعدم جواز نزع ملكية أطيان الفلاح الذي يملك خمسة أفدنة فأقل، فضلًا عن مسكنه وآلاته الزراعية، ودابتين من الدواب التي تُستخدم للجر.٣٥ الأمر نفسه بالنسبة لإلغاء الكثير من الضرائب الصغيرة، ومنها المفروضة على المعديات والماعز وغيرها، وتخفيض ضريبة الأرض بنسبة بسيطة، وتحسين شروط قروض البنك الأهلي للفلاحين، وبيع أراضي الدائرة السنية إلى شركة أجنبية، قسَّمتها إلى قطع، وباعتها للمصريين. وأفادت هذه الإجراءات «كبقية كبار الملاك ومتوسطيهم، وأرضتهم.»٣٦ كذلك فقد كان من العوامل التي صرفت جماهير الفلاحين عن دعوة مصطفى كامل — بالإضافة إلى تمركز الدعوة أصلًا في القاهرة والإسكندرية — اتجاهها إلى الخلافة العثمانية. فقد كانت المظالم التركية لا تزال حية في جسد ووجدان الفلاح المصري، وكان لا يزال يردد المثل «آخرة خدمة الغز علقة.» ولعل المصرية الخالصة التي كانت إطارًا لثورة ١٩١٩م، كانت هي الدافع الأهم لانضمام الفلاحين إليها منذ أيامها الأولى.
وعلى الرغم من كل المواجهات والعقبات، فقد استطاع عمر لطفي أن ينشئ مصلحة التعاون، وعيَّن لها الموظفين، ووضع استراتيجية العمل التعاوني في البلاد. ثم بدأ في نشر الوعي بأهمية إنشاء الجمعيات التعاونية، بحيث يقوم الفلاحون بأنفسهم تأليف جمعيتهم التأسيسية، ويتخذون كل الخطوات التالية لإنشاء جمعية القرية. ثم أنشئ — فيما بعد — اتحادات المراكز، لتتولى الإشراف على الجمعيات التعاونية، وتوجيهها، ورقابة إداراتها، والإشراف على حساباتها.٣٧ والحق أن الحركة التعاونية قد عرفها العالم قبل دعوة عمر لطفي بعشرات الأعوام، فقد أنشئت أول جمعية تعاونية في العالم كجمعية منزلية في بلدة روتشديل Rochdale الإنجليزية عام ١٨٤٤م، وكانت تتألف من ثمانية وعشرين من صُناع النسيج، دفع كل واحد جنيهًا واحدًا ليضعوا اللبنة الأولى في بنية التعاونية في العالم. وما لبثت جمعيات التعاون المنزلي أن انتشرت، وأعقبها إنشاء جمعية تعاونية لتجارة الجملة، ثم اتحاد عام لوضع القواعد والتشريعات والتخطيط والمراقبة ومراجعة الحسابات.٣٨

•••

قرية «زينب» ليست سوى واحدة من قرى بوتمكين التي بناها الوزير الأول، ليوهم الإمبراطورة بأن الفلاح هو أسعد خلق الله! وحتى لا نصدر أحكامًا متعسفة، فإننا نسأل: من هو حامد؟ ومن هي زينب؟

إن المبعوث القادم من الخارج، والذي يبهره البون الشاسع بين حضارتين: متقدمة وآفلة، والقاهري الذي يستشعر المرارة للتخلُّف الزري الذي تحياه القرية المصرية، هو بطل أكثر من قصة للنديم، ثم في «زينب» هيكل، و«عودة الروح» للحكيم، و«الأرض» للشرقاوي، و«بعد الغروب» لعبد الحليم عبد الله … إلخ، ولكن تعاطف حامد في «زينب» مع أبناء قريته تحدُّه القيم الطبقية، التي تجد تجسيدًا لها في بعض المواقف، مثل قُبلته الأولى لزينب. إنه يصاب بقشعريرة في جسده، كانت قشعريرة الرغبة، ثم ما لبثت أن تحوَّلت إلى قشعريرة العظمة والترفع، و«خُيل إليه كأن الماضي الطويل المملوء بالعقائد القومية والعادات، يتجمع كله ليسقط بحمله على رأسه.» وحين ترغمه الظروف الطبقية على التخلِّي عن حبِّه لزينب، فإنه يبرر لنفسه رفض هذا الحب، بأن زينب ليست سوى دمية حية محكمة الصنع، يتلهى بالنظر إليها وملامستها، ويسعد برؤيتها تستسلم له، ويسرُّ إذا رأى الدم يصعد إلى خدَّيها وعينيها. ثم يعبِّر حامد عن انعزاله الطبقي، عندما يهم حسن بالرحيل مع القوات المصرية التي تسوقها سلطات الاحتلال لفتح السودان، فلا يجد أمام هذا الموقف إلا أن يقول: معلهش … أهم شوية أيام وترجع! إنها امتداد لنفس النظرة القديمة التي كانت تلقِّب الخصيان والخدم والطواشية، بأصفياء الدين وشجعان الدين وزينة الدين … أما الفلاح فهو — كما يصفه صاحب «هز القحوف» — «شيال الطين»! والكاتب لا يشغله حتى مجرد الأمل في التطوير، فمحسن «ككل إخوانه العمال على ظهر البسيطة. والمصيبة إن تعمَّ تهِن، وتقادم العهد يعطي الفاسد طعمًا تألفه الأجيال أبًا عن جد.» أما الفلاحون في القرية، فقد «تعوَّدوا ذلك الرق الدائم، تعوَّدوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة والوسط، ينحنون لسلطانه من غير شكوى، ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقًا.»

تبدأ رواية محمد زكي عبد القادر «أبو مندور» في ١٩١٨م، وأحداثها تدور بين القاهرة وإحدى قرى مديرية الشرقية التي أمضى فيها الفنان سني الطفولة والنشأة. تتناول العلاقة بين رفعت بك — ابن سعادة المفتش — بالفلاحة صبحة، وهو ما ذكَّرنا بعلاقة حامد وزينب في رواية هيكل، وعلاقة مهندس الري وآمنة في رواية طه حسين «دعاء الكروان».

نحن نستعيد في علاقة رفعت بك بالفتاة الريفية صبحة، ما كان من علاقة بين حامد بزينب في رواية هيكل، فهي ترتفع إليه وتنخفض، وهو ينزل إليها ويرتفع، دون أن يستقر على حال، فإذا ناوشته فكرة اغتصابها — وهو ما لم يدر صراحة ببال حامد — يعروه اشمئزاز أنها أكثر من أن تكون مجرد خادمة، فيرفض أن يحدد مكانتها في مرتبة الخادم.٣٩
تعاطف حامد مع الفلاحين يبلغ — أحيانًا — حد رفض الفوارق الطبقية. وهو ينكر قيمة الأسرة كتنظيم اجتماعي، ما دام هذا التنظيم يحُول بينه وبين الحصول على فتاة اشتهاها، إلا أنه ينتمي — بعقله ووجدانه — إلى طبقة الملاك، بعكس محسن في «عودة الروح» الذي ينتمي بالوراثة إلى طبقة الملاك، لكن انتماءه الحق لطبقة الفلاحين، التي يُعد والده واحدًا منها، وإن كانت أمه التركية تحتقرها، وتسعى جهدها للتقرب إلى الحكام والأجانب. ولعل مبعث حيرة حامد — كما يقول علي الراعي في دراسته المخلصة عن «زينب» — «إنه لا يستخرج من عطفه على الفقراء حافزًا على إلغاء الفقر، بل هو يفعل نقيض هذا تمامًا: يقسِّم وقته بين الثورة على النظام الاقتصادي، وبين العمل على تثبيت أقدام هذا النظام نفسه.» هو مثلًا يعطف على العمال الزراعيين، ويقوم — في الوقت نفسه — بدور الملاحظ الذي «يضمن لصاحب الأرض أن يتم استغلال هؤلاء العمال على أكمل وجه.»٤٠ ولعل رضوان في رواية «الضحية»، يذكِّرنا بما كان يحرص عليه حامد (زينب) في علاقاته بالأُجراء: «ألا تدري يا منصور أنني باختلاطي بأنفار مزرعتنا، ومعاشرتهم معاشرة حقة، حتى لأُحسب كفرد من أفرادهم … جعل هؤلاء يجدُّون في عملهم، ويتفانون في سبيل مرضاتي.»٤١
ومع أن السيد محمود — مالك الأرض — كان، في حقيقته، إقطاعيًّا، يستغل تعب فلاحيه، فإنه — في تقدير الراوي — من أطيب الناس قلبًا، وأصفاهم سريرة، وأحبهم لإخوته.٤٢
طه حسين في «دعاء الكروان» يعيد لنا نظرة حامد — أو الكاتب! — في «زينب» إلى جموع الفلاحين، فأم آمنة تقول لابنتها: «انظري إلى هؤلاء الرجال والنساء، وإلى هؤلاء الفتيان والفتيات، قد ملأهم النشاط، وبعث فيهم الجد حياة لا حد لها، فهم يذهبون ويجيئون، وهم يعملون لا يعرفون كللًا ولا سأمًا، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين، وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصور الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال.»٤٣

•••

على الرغم من غلبة الاتجاه الاجتماعي على الأعمال الأدبية في مطلع القرن العشرين، فإن هيكل أهمل المشكلات الحقيقية للقرية المصرية، واكتفى بأن يصوِّر جموع الفلاحين ساعة تناول الطعام، ليعبِّر — من وجهة نظره — عن أكمل معاني الاشتراكية.٤٤ وليجد في طعام الأسرة الريفية — شيء من الخبز وحصوة ملح — جزءًا من جمال الريف وبركته! أما تعليق الرواية على المصير الذي واجه حسن، فهو أنه «ليس له إلا أن يبقى ساكنًا، حتى يأتي اليوم الذي لا تضيع فيه كلمته من غير أن يسمعها أحد، بل تكون حين ينطقها ذات رنين يقرع آذان المتحكمين في رزقه ورزق أمثاله، والقابضين على حريتهم جميعًا، يقرعها فتفزع لقرعته، وتتجه نحو الصوت فتفهم ما تريد، وتجيبه إلى ما يطلب.» وهو نفس المطلب الذي رفض من أجله عباس في «أنا حرة» — التي صدرت بعد «زينب» بنصف قرن — أن يدافع عن الفلاح، والطبقات الأدنى بعامة: «مش لازم يعيشوا على الإحسان، لازم يفضلوا فقرا، ويمرضوا، ويموتوا، ويشوفوا الغلب، لغاية ما يثوروا ويطالبوا بحقهم.

– وولادهم … الأطفال الغلابة اللي ما لهمش ذنب؟

– ودول كمان لازم يموتوا علشان أهاليهم تثور … يموتوا ولا يعيشوا على الإحسان!٤٥
هيكل يتحدث عن تلك الخُطى البطيئة، «يقضي فيها الفلاح طول نهاره وراء ثوره، تحت حر الشمس، يلفح الهجير وجهه ولا يتأفف. ويتعاون الجميع على جمع ما يحصدونه، ويعدونه أحمالًا، وينتظر بعضهم الجمل الذي ينقلها إلى الجرن، في حين يرجع الآخرون أدراجهم إلى دورهم، فيقضون نهارًا قليلًا نومه، مشتغلين بتجريد بهائمهم التي تنتظر أيام الحرث القريبة. وهناك على شواطئ الغدران والترع يقضون ساعات نيامًا تحت الشجر، تعوِّضهم عن كدِّهم، وتعدُّهم لعمل الليل المقبل.»٤٦
ومع ذلك الواقع المجحف الذي يلتف حول رقاب الفلاحين، فإنهم «قد تعوَّدوه كما تعوَّده آباؤهم من قبلهم. تعوَّدوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط، وتعوَّدوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطاته من غير شكوى، ومن غير أن يُدخِل إلى نفوسهم قلقًا. يعملون دائمًا ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قُوته الحقير.»٤٧ «وما كان لأحد من العمال أن يشكو حر الشمس أو لظى القيظ. هم يسيرون دائمًا بخُطًى ثابتة وأقدام قوية. لهم اليوم من الصبر والاحتمال ما كان لأجدادهم في العصور الفائتة: ذلك الجَلد الذي يبتدئ مع القِدم ويسري في الزمان من فلاح فرعون إلى فلاح إسماعيل، وإلى فلاح اليوم، والذي يجود على هاته الطائفة التعيسة بشيء من السعادة في الحياة، ويجعلها أمام تلك اللانهاية من الفقر تحتمل مضض الأيام، وعلى وجهها الناشف ابتسامة القانع.» وأخيرًا، فإن الكاتب يجد في ذلك الواقع الذي يحياه الفلاحون، أمرًا محتَّمًا وباقيًا وممتدًّا. ينظر حامد إلى زينب التي غشيها حزن وكآبة، ويتساءل: هل أصاب أهلها ما كدَّرها؟ لكن ماذا عساه يصيبهم وهم فقراء الأمس، فقراء اليوم، فقراء الأبد؟
هيكل يعترف بالظلم الذي يرسف الفلاح في أغلاله، لكنه يرصد — كيف؟! — قبول الفلاح بواقعه، وعدم ميله إلى الشكوى، بل وعدم إدراكه قسوة الظروف، وإن نصح السادة بأن يعينوا أرقَّاءهم على مواجهة تلك الظروف لكي تُتاح لهم حياة إنسانية طيبة.٤٨ ولعل ذلك ما توصَّل إليه حسن مفتاح (العنقاء) من أنه لم يسمع بفلاح ثار على مالك ظالم!٤٩

التقرير الذي يكتبه مثقفو «طلائع الأحرار» يعطي واقعًا متغيرًا عن ذلك الذي يصوره هيكل في «زينب»: «إن تطور الريف كان أبطأ من سير السلحفاة بسبب عوامل مختلفة، بعضها خاص بظروفه، وبعضها متعلق بمصلحة مَن يستغلونه، فالفلاحة في ذاتها لا تتطلب جهدًا فكريًّا، وهي لذلك لا تعين على نمو الفكر … وأصحاب الأراضي الزراعية، والمسيطرون على زمام الحكم، يؤثِرون بقاء الفلاح على جهله حتى يضمنوا دوام رضاه بحاله وخضوعه لهم، وبذل عرقه لتهيئة أسباب رخائهم، وتوفير وسائل ملذاتهم، وعلى ذلك ظل أهل الريف يعيشون على الفطرة، لا ينفذ إليهم بصيصٌ من نور العلم، ولا يتخطَّى حدود ربوعهم أثرٌ من آثار الحضارة، فلم يبدِّلوا وسائل الفلاحة، ولم يعرفوا الصناعات الزراعية، وكاد يقف بهم الزمن، فلم يتقدموا في سبيل تحسين معاشهم، وظل تحصيل إيجار الأراضي وجباية الأموال، تستنزف أقواتهم إلا ما يقيم الرمق، فاستبد بهم الفقر، قرين الجهل، وقعد بهم العجز عن مناهضة المستغلين، والتطلع إلى خلع نير العبودية. لم يستطيعوا إلا الخضوع للعمدة الذي كان يتحكم في مصائرهم بما له من سلطان في اختيار خفراء الترع الذين يسهرون سخرة على سلامة الجسور، وفي تجنيد مَن يصلح للانخراط في سلك الجيش، وإبعاد الخطِرين على الأمن، أو الزج بهم في السجن … واستكانوا كذلك لصاحب الأرض المتحكم في أرزاقهم، المهيمن على مصائرهم. أثقلتهم أعباء العوز والاستبداد، وصرفتهم عن التفكير فيما يجري وراء حدود قراهم، وأطفأ فشل ثورة عرابي على الطغيان كلَّ بصيص من أمل في مستقبل أفضل، فلم يعبَئوا بمن يحتلون كراسي الحكم في القاهرة، ومَن يعسكرون في القلعة: أهُم من الأتراك أم من العجم؟! وقد استطاع الإنجليز أن يسيطروا على أولئك المستضعفين بعد أن قبضوا على صمام الأمان؛ أي بعد أن هيمنوا على العمدة الذي كان يتلقَّى الأوامر من السلطة المحلية الخاضعة لهم، وعلى صاحب الأرض الذي ظفر في عهدهم بالطمأنينة بعد أن هددت الثورة العرابية حقَّه في التملك والسيطرة. على أن المحتلين لم يكتفوا بذلك، بل أرادوا أن يفوزوا برضا الأهلين ومودتهم حتى يضمنوا دوام احتلالهم دون أن يعكِّر صفاءه أية قلاقل أو اضطرابات قد يضمرها المستقبل، فأخذوا يتوددون إليهم بإظهار عطفهم عليهم، والرغبة في إنقاذهم من عسف سادتهم، ورد حريتهم إليهم. ولم يلبثوا أن استصدروا قانون مجالس المديريات الذي خوَّل لممثلي الشعب حق الإشراف على كنس الشوارع ورشها، وحفر الترع وتطهيرها. وهكذا بر الإنجليز بوعدهم، فمنحوا الشعب ذلك الدستور الفريد! لم ينخدع أهل الريف في تلك الأخاديع الإنجليزية، لكن نسمات من الرخاء المرموق هبَّت على القرى إبان الاحتلال، فقد اطمأن المرابون الأجانب إلى وجود الجيش المحتل، فبسطوا أكفَّهم بعد القبض، وأقبل الفلاحون على الاقتراض لتفريج ضيقهم، غير عابئين بالعواقب الوخيمة. وراح بعضهم يدخن ويشرب القهوة والشاي، وأدمن بعضهم الآخر احتساء الخمر، وانتشرت حوانيت الروم في الريف لتسد مثل هذه المطالب، عارضة سلعها لمن يعوزه النقد بثمن آجل. ولم يستطع العملاء المحرومون مقاومة الإغراء، وتهالكوا على مثل هذه المتع التي حرموها … ولكن الليالي الملاح لم تدم إلا ريثما حلَّت آجال الديون، فلم يرحم المرابون دائنيهم، وقاضوهم أمام المحاكم المختلطة — محاكم الامتيازات الأجنبية — مطالبين بما تراكم من أقساط الديون، وفوائدها الفاحشة، ومصاريف التقاضي الباهظة، وأتعاب المحامين الأجانب القاصمة … وهكذا انقلبت رقة الحال إلى إملاق، وضيق ذات اليد إلى إفلاس، وعادت الحال إلى أسوأ مما كانت عليه.»

قيمة هذا التقرير — المطول شيئًا — تأكيده بأن واقع الفلاح المصري لم يكن أمرًا قديمًا ومحتمًا وباقيًا وممتدًّا، لكنه كان حلقة في سلسلة المؤامرات التي واجهها عبر عهود التاريخ المتعاقبة. فضلًا عن أن الضغوط السياسية والاقتصادية العنيفة، من سلطات الاحتلال والإدارة المصرية وطبقة ملاك الأراضي، كانت أقوى من إرادة الفلاح المصري في تغيير الواقع الذي يحياه، فهو لم يكن فقير الأمس، فقير اليوم، فقير الأبد، بقدر ما كان ذلك المتمرد الثائر الذي يسعى لتغيير واقعه كلما واتته الفرصة، وكانت مشاركته العنيفة في ثورة ١٩١٩م دليلًا مؤكدًا على الثورية العنيفة التي تمور في أعماقه.

يتحدث الراوي (محاولة للخروج) عن ناس في قريته، مرضى، في بطونهم جزء تالف، يظل يفرز الماء بلا انقطاع، حتى تمتلئ البطون مرة أخرى «رأيت كثيرًا منهم وأنا صغير، لونهم أصفر وأسود، عيونهم صفراء تمامًا وبُنية، نحاف جدًّا، بطونهم كبيرة جدًّا، مثقلة بالماء، يجلسون ساكنين بجوار الحيطان ينظرون للعالم نظرات مليئة بالإدانة.»٥٠ ويعرض الراوي في «مذكرات المرحوم الشيخ العزازي» — في سخرية معلَنة — لحركة الفلاحين في خفة ونشاط، لا يُسمع لهم تجشؤ لأن طعامهم — حسب تعبيره — أبسط من أن يزحم معدة، أو يورث خمولًا، وكذلك الطبقة العاملة الفقيرة عندنا «إنما يتجشأ الزعماء وكبار الموظفين والشيوخ والنواب والعُمَد والأعيان، فإنهم يحشون بطونهم لحمًا وشحمًا وفطيرًا وفاكهة، حتى إذا اختمر كل ذلك في أجوافهم، ثار التنور، وجعلت الغازات تثور وتفور.»٥١ ويضيف الراوي «نرحم خيول العربات في الأرياف، ونسترعي لها نظر جمعيات الرفق بالحيوان، لأنها مسكينة تعلو جبالًا وتنزل جبالًا، وتحمل أثقالًا، ومَن لنا بجمعية للرفق بالفلاح المسكين الذي يذهب ويجيء في تلك السُّبل، حافي القدمين، منهوك البدن، يحمل فوق ظهره أثقال الفقر والنصب، لا ترحمه مصلحة الطرق، فتشق له في الأرض طريقًا معبَّدًا تقوم على حافة شجيرات يستظل بظلها. ومن أحق بالرحمة من الفلاح الذي يقضي نهاره عاكفًا على العمل في الأرض، تصهره شمس الصيف في الظهيرة، ويأكله برد الشتاء في السحَر من غير سلوة، يتعزى بها في داره المظلمة القذرة الخالية من الهواء، المملوءة بآثار الفاقة، الساكنة دائمًا سكون الحزن والخشوع. ومن أحق بالرحمة من الفلاح الفقير الذي يُساق في هذه الأيام إلى النيل يحرسه، مخافة أن يطغى فيضانه على أملاك الأغنياء وقصورهم، يُكلَّف ذلك من غير أجر، ويُترك له زرعه من غير زارع، وماشيته بلا راعٍ، وعائلته بلا عائل، ثم يسير إليه في شر طريق.»٥٢

•••

وعلى الرغم من الملاحظات التي تقلل من القيمة المضمونية لرواية «زينب»، تلك التي يدينها عبد الرحمن الشرقاوي إدانة مباشرة على لسان الصبي في رواية «الأرض»: «على أن قرية زينب لم تعرف طعم الكرابيج كما عرفت قريتي، ولم تذُق قرية زينب اضطراب مواعيد الري، ولم تجرِّب بول الخيل يُصب في الأفواه. ولم تعرف قرية زينب زهو النصر وهي تتحدى القضاء والإنجليز والعمدة والحكومة وتنتصر لبعض الوقت. وزينب، التي لم تكن أبدًا على الرغم من كل شيء جميلة كوصيفة، لم تذهب إلى قاعة الطحين ذات يوم لتعود إلى أمها باكية، كما صنعت وصيفة عندما رأيتها لأول مرة بعد أن انقطعت عن رؤيتها طوال شهور الصيف.»٥٣ على الرغم من ذلك، فإن «زينب» تستمد قيمتها الحقيقية من أنها أول عمل روائي مطول يعرض لبيئة الفلاحين. ربما غلبت عليه المسحة الرومانسية التي تعنى بمشاهد الطبيعة أكثر من عنايتها بالمشكلات الحقيقية للفلاح المصري. لكن قيمة «زينب» — وقتها — في ذلك اللون الذي يصفه محمود تيمور، بأنه يهبط بالقارئ من سماء الخيال العليا، حيث يعيش الناس كالملائكة فوق الضباب، إلى الأرض التي نحيا عليها، حيث نرى الناس بشرًا مثلنا، على فطرتهم التي خُلِقوا عليها.
ومع أن نظرة الحكيم إلى الفلاح تختلف تمامًا عن نظرة هيكل، فهو يقول في «عودة الروح»: إن هذا الشعب الذي نحسبه جاهلًا، ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم، والقوة في نفسه ولا يعلم. هذا شعب قديم. جيء بفلاح من هؤلاء، وأخرج قلبه، تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجارب ومعرفة، رسب بعضها فوق بعض.» والرواية — إلى ذلك — تأثر من الفنان بواقع الريف المصري في مطلع القرن العشرين، وما كان يداخله من شعور غامض أحيانًا، واضح أحيانًا أخرى، بضياع الفلاح وهوانه. فضلًا عن أن الحنين كان هو الباعث الأول لأن يكتب الفنان «عودة الروح»، لكن الحنين أضفى نوعًا من «الجمالية» على أرضية الواقع، فجاءت «عودة الروح» — كما يقول غالي شكري — «أغنية حالمة للريف المصري.» إن الفنان يطل بنا على حياة الفلاح من نافذة مرتفعة، تجد في المشهد البانورامي معاني وشعارات رائعة مبتكرة، مثل الآلاف العشرة من السنين التي يحملها الفلاح المصري على كتفيه، والضغط على أصالتنا وأفضالنا على أوروبا، وأن الفلاح الذي يدَّعي البعض عدم أصالته هو أصل الأصول … إلخ، تعبيرات ضخمة تشيد بفضيلة الفلاح وصبره وتاريخه الطويل، لكنها لا تصدر عن رؤية متأنية لمشكلات الفلاح الاجتماعية. بل إن الفنان يعتبر وضع الفلاح الاجتماعي وحياته المسمومة، رمزًا رائعًا عن ارتباطه بحيواناته ونومه معها في مكان واحد (ألا يذكِّرنا ذلك بأسمى معاني الاشتراكية التي يجدها هيكل في التفاف جموع الفلاحين حول طعام الغداء، كل مجموعة تأكل من طبق واحد؟!) وكان ذلك ما أكده — فيما بعد — أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق. تحدث صحفي أجنبي عن الحالة السيئة التي يحياها الفلاح المصري، وأنه ينام مع البهائم في حجرة واحدة، وبيته مظلم لا ماء فيه ولا نور. فقال أحمد حسنين: «بالعكس، إن الفلاح المصري يحب هذه الحياة … وهو لا يكون سعيدًا إلا إذا نام مع ماشيته ودواجنه، وافترش الأرض الطيبة، وجلس في ضوء الشمعة الشاعري.»٥٤ محلاها عيشة الفلاح! ولعلنا نجد الصورة الحقيقية لواقع الفلاح المصري في مصارحة الراوي (يحكى أن) الفلاحين بحقارة شأنهم، وشظف عيشهم، «وذكرت لهم أولادهم ونساءهم وأكواخهم، ورسمت لهم طريق الإصلاح إذا أرادوا، ثم أسهبت في موضوع الإدارة والعمل، وكيف أنهم يستطيعون أن يأتوا بالعجب العجاب إذا شعروا بوجودهم، وصمموا على أن يبرروا ذلك الوجود.»٥٥ وتقول الفلاحة في مسرحية «مصر الجديدة» لفرح أنطون: «هم أولاد الذوات دول تملِّي يعاكسونا، يخدُم زرعنا من الغيطان، واحنا ندور نستلف من فلان وعلان، واحنا اللي نزرع ونجلَّع ولا نطلش منهم حاجة … وكمان ياخدوا الفلوس اللي احنا عايزينها. يا رب احم الفلاحين من الذوات وأولاد الذوات!»٥٦ والحكيم يشيد بالفلاحين لأنهم يجتمعون على الألم، شاعرين بالسرور، ولذة الاتحاد في الألم، بينما العمال في أوروبا يجتمعون ليحسُّوا جراثيم الثورة، وعدم الرضا بما هم فيه. وبديهي أن الشعور ﺑ «جراثيم» الثورة يفوق الشعور باللذة على الظلم والرضا بالواقع مهما يكن مذلًّا وأليمًا، والقول بأن الجاهلين والمخدوعين هم السعداء وحدهم بيننا — على حد تعبير أولفر كاونليت بطل مسرحية «الحياة الأسرية» لكرانفيل باركر — ينطوي على مغالطة واضحة، فالسكوت على القهر والظلم لا يعني الرضا بذلك … لكن ماذا يملك الإنسان الأعزل؟٥٧ مع ذلك، فإنه يجدر بنا الإشارة إلى ذلك الحرص من الفنان — عبر صفحات الرواية — على تأكيد «الجماعية» في حياة الفلاح المصري، وفي حياة الشعب المصري بعامة، ابتداء بهذه الفقرات من نشيد الموتى: «عندما يصير الزمن إلى خلود، سوف نراك من جديد؛ لأنك صائر إلى هناك، حيث الكل في واحد، وانتهاءً بصيحة الطبيب المندهشة: هو انتم؟ وبرده هنا كمان جنب بعضكم؟ الواحد جنب أخوه؟ مرورًا بقول الطبيب ذاته في بداية الرواية: ليس غير الفلاح يستطيع هذه الحياة. هو وحده الذي — على الرغم من رحب داره – لا بد له أن ينام هو وامرأته وعياله وعجله وجحشه في قاعة واحدة.» وبمشاعر الحنين التي أحس بها محسن في بلدته، إلى حياة الشعب في شارع سلامة: ماؤه وجوُّه الذي يستطيع أن يعيش فيه، حياة الجماعة تلك، حتى في متاعبها ولحظاتها الشقية … وبذلك الرمز عن تضامن القردة، والمتمثل في القردة التي جعلت من أجسادها سلَّمًا تدلَّى في البئر لكي تصل إلى الماء. فلما صوَّب إليه الدكتور حلمي رصاص بندقيته، لم يشأ أن يتحرك، واستقبل الموت ببساطة دون أن يترك آثار مهمته. ويقول الجندي السوداني: إن القردة لا تترك آثارها، ولن تدع دم القتيل يذهب هدرًا، وبالفعل، ثارت القردة لقتيلها في أحد جنود الحملة. كذلك فلعلَّه من المطلوب أن نضع نسبة إنصاف الفلاح المصري، والإشادة به، إلى المفتش الفرنسي، في إطاره الموضوعي، باعتباره رأيًا أجنبيًّا غير منحاز، وليس تبرؤًا من الحكيم على طريقة ناقل الكفر ليس بكافر.٥٨ قد تكون للحكيم نظرته المترفعة، وانتقاداته غير المنصفة، لواقع الفلاح المصري، لكن حيلة الإشادة بالفلاح المصري على لسان أجنبي ربما تُحسب لفنية الرواية. والحق أن الفنان لم يكن قد أدرك في صباه — بصورة واضحة — حقيقة الواقع المؤلم، الذي كان الفلاح يحيا في إساره، فهو يكتب في سيرة حياته: «كانت حياة الريف في تلك المرحلة من حياتي، جميلة، على الرغم مما كان يداخلني من شعور، غامض أحيانًا، واضح أحيانًا أخرى، بضياع الفلاح وهوانه. فقد كان من الأمور العادية أن أرى الفلاحين يبركون ويمدُّون أعناقهم إلى الترعة بجوار مواشيهم، ليشربوا جميعًا بنفس الطريقة، وقد فعلت أنا نفسي ذلك مرات معهم.» من هنا، فإن «زينب» و«عودة الروح» لا تعدَّان تعبيرًا عن واقع الفلاح المصري، ذلك الأيوب الذي طال صبره على ظلم الإقطاعيين والكشافين والمحتسبين والباشوات.

•••

إن ذروة المأساة في سخرية الفلاح من نفسه: «ربنا سبحانه وتعالى خلق الناس اللي بتفهم من تراب الجنة الناعم، وبعدين فضلت شوية نخالة خشنة، احتار يعمل فيها إيه، فراح راميها وقال: كوني عبادي الفلاحين، فكانت.»٥٩ ويقول الراوي (من آثار مصطفى عبد الرازق): «الفلاح المصري أكثر الناس عناء في السعي إلى تحصيل العيش، وأقلهم متاعًا، وأضيقهم رزقًا.»٦٠ ويتساءل محسن (الحب أقوى من الموت): «ما قيمة حياة فلاح؟ إنهم يموتون كثيرًا كالذباب، ويولدون كثيرًا كالبعوض، ولا تحس الدنيا بذهابهم ومجيئهم.»٦١

وإذا كان التعاطف السلبي هو موقف حامد ومحسن من قضية الفلاح، فما موقف الطبقات التي تحصل على نتاج كدِّه وشقائه؟ ذلك ما يعرضه محمد تيمور في قصته «في القطار» (١٩١٧م) التي يدور فيها حوار بين عدد من ركاب قطار يتسلَّون بمناقشة قرار وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية:

يقول راكب شركسي: يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى!

فالتقطت الجريدة من الأرض، وقلت: وأية جنابة؟

– إنك ما زلت شابًّا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.

– وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟

– فقطب الشركسي حاجبيه، وقال بلهجة الغاضب: هناك حل آخر.

– وما هو؟

فصاح بملء فِيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: السوط، إن السوط لا يكلف الحكومة شيئًا، أما التعليم فيتطلب أموالًا طائلة. ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.

وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة — حفظه الله — كفاني مئونة الرد، فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت، ولو كنت تسكن الضياع مثلنا، لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني من الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.

فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب، وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟

– أنا مولود بها يا بيه.

– ما شاء الله.

جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه، ثم ينظر لنا ويضحك. أما التلميذ فكانت على وجهه سيماء الاشمئزاز. ولقد هَم بالكلام مرارًا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنِّه، ولم أطق سكوتًا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام ألَّا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.

فالتفت إليَّ العمدة، كأني وجهت الكلام إليه، وقال: أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجيبك أن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال. وأشار بيده إلى الشركسي: ولا ينبئك مثل خبير.

فاستشاط التلميذ غضبًا، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: الفلاح يا حضرة العمدة …

فقاطعه العمدة قائلًا: قل يا سعادة البك لأني حُزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.

قال التلميذ: الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعوِّدوه غير ذلك. فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه، لكنتم وجدتم فيه أخًا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه، فعمد إلى الإضرار بكم تخلُّصًا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحًا وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين.

فهز العمدة رأسه، ونظر إلى الشركسي، وقال: هذه هي نتائج التعليم.

فقال الشركسي: نام وقام، فوجد نفسه قائم مقام.

أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكًا، وصفق بيده وقال للتلميذ: برافو يا أفندي … برافو … برافو.

ونظر إليه الشركسي وقد انتفخت أوداجه، وتعسَّر عليه التنفس وقال: ومَن تكون أنت؟

– أين الحظ والأنس يا أنس.

وقهقه عدة ضحكات متوالية، ولم يبقَ في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورًا، وعلى الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة: أدبسيس فلاح.

ثم وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة، لولا أن التفتَ العمدة إلى الأستاذ وقال: أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية.

فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض وقال: وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا.

– هل التعليم أفيد للفلاح أو الضرب؟

فقال الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا» قال النبي : «لا تعلِّموا أولاد السفلة العلم.»

وعاد الأستاذ إلى خموله، وأطبق أجفانه مستسلمًا للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول: حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.

فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال: إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجَّح وبغى واستكبر، وأنكر وجود الخالق.

فصاح الشركسي والعمدة: لك الله يا أستاذ.

وقال الشركسي: كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، واليوم يشتمه ويهم بصفعه.

وقال العمدة: كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.

ووقف القطار في قليوب، فقرأتُ الجميع السلام، وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره وهو يعدو بين المروج الخضراء لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.٦٢
ولا شك أن طرح قضية تعليم الفلاح — في هذه الوثيقة الفنية المهمة — «حتى يرتقي إلى مصاف أسياده» يرفض ذلك التعاطف السلبي الذي يتَّخذه بعض أبناء الطبقات التي تحيا على جهد الفلاح وشقائه، مثل حامد (زينب) ومحسن (عودة الروح). السعي للتغيير المادي — ومحاولة تعميم التعليم أحد جوانبه — هو ما كانت تتطلبه قضية الفلاح من المناصرين الحقيقيين لها، وليس مجرد إبداء المشاركة والتعاطف بكلمات فارغة جوفاء، مثل قول حامد، تعبيرًا عن سوق سلطات الاحتلال لحسن إلى السودان: معلهش … أهُم شوية أيام ويرجع! وكما يقول مفيد الشوباشي، فإن «زينب» و«دعاء الكروان» اقتصرتا على نوع واحد من اعتداء السادة ملاك الأراضي على مسوديهم، وهو الاعتداء على العرض، وأغفلتا الاعتداء على سائر حقوق الفلاحين.٦٣
والغريب أن ذلك الواقع الذي فرض إساره على الفلاح المصري، أصبح من المعايب التي تؤخذ عليه، في العديد من الأعمال الأدبية التي صدرت في مطلع القرن. فهو قد أصبح «لا يصلح جِلده إلا بجَلْده»، وأن «غاية ما ينتهي إليه أمره في رفع الألم عنه أن يعلو صياحه استغاثة بالمشايخ والأولياء.» وهو «أولئك الفتية الأشداء الأصحاء … ما خلتهم إلا أسود حرب، ولكنهم — لنَكَد طالعهم — لا عمل لهم في وطنهم إلا حرث الأرض والقيام عليها.» وهو تلك المواكب البائسة في طريقها من القاهرة إلى القرى، وثمة «رائحة كريهة قوية تشبه رائحة الفراخ تنبعث منهم» … إلخ. بل إن الكثير من الفلاحين كانوا يعتبرون البول الدموي علامة صحية، فهو يدل على كثرة الدم.٦٤

•••

يلاحظ يوسف الشاروني أن الرجل في رواية «أبو مندور» لمحمد زكي عبد القادر في وضع السيادة ثلاث مرات بالنسبة للمرأة، الخادمة، في بيته، فهو السيد طبقيًّا، وهو السيد بانتمائه إلى جنس الذكور، الرجال، وهو السيد — ثالثًا — بانتمائه إلى مجتمع المدينة الذي يَدين له بالسيادة — عادة — مجتمع القرية.٦٥ تقول صبحة (أبو مندور) «بالليل أنام على الشوك، حاقعد طول عمري في التفتيش أروح وآجي، أستحمل رزالة متولي الناظر والخولية … اشتغلي يا بنت أنت وهيه … اللوزة دي سايباها ليه يا بت … سلسلة من الشتائم لا تنتهي … وآخر النهار أروح مهدودة، ألقاك أنت يا محمد لابس جلابية مقطعة، وأبويا مش قادر يشيل دراعه من الفأس طول النهار، وأمي مشدودة عمالة تشتم وتلعن.»٦٦ الزوجة الفلاحة تقطع — في حر الظهيرة — المسافة الواسعة بين القرية والحقل، حاملة طعام زوجها، وعلى كتفها رضيعها، وفي أحشائها جنين اكتمل نموه، وأوشك أن يطرق أبواب الحياة.٦٧ وتعبِّر صبحة عن سخطها المكتوم بقولها لمحمود: «كنت بتشوفني هادية، ساكتة، كأني مش باحس ولا باعرف. أنا كنت باغلي من جوه، لكن أعمل إيه؟»٦٨ وكان حامد يشترط في المرأة التي يريد أن تكون له حبيبة وزوجة ثلاثة شروط، أولها أن تحوز إعجابه، والثاني أن تكون أداة لحفظ النوع، والثالث أن تكون من طبقته «وذلك لأن ما أصبح بين الطبقات من الفروق صار فظيعًا لدرجة أن يَعد الكثيرون من دونهم من جنس أحط، وهم فوقهم من جنس أرقى.» ويلاحظ عبد المحسن طه بدر أن الفنان يعطي الثقل الأكبر للشرط الأخير، فإذا كانت زينب، بنت الطبيعة، وملكة القرية وعروسها، تحقق لحامد الشرطان الأولان، فإنها لا تحقق الشرط الثالث والأساس، فهي إذن «لا تصلح إلا ملهاة للمؤلف وموضوعًا للذته الشخصية والوقتية، ولكنها لا تصلح له زوجة أو حبيبة.»٦٩ ولعل الرأي نفسه تذهب إليه إقبال بركة في القول بأن زينب الفلاحة المصرية الجميلة لم تكن تشغلها السياسة، ولا تشكو من ظلم اجتماعي أو اقتصادي، وحوارها مع مالك الأرض يدل على الألفة والود، ولا يشي بصراع طبقي، مع أنه بين فقيرة وغني، بين امرأة ورجل، لكن عندما يختار لها أبوها زوجًا غير ذلك الذي أحبَّته، وتمنَّت الزواج منه، تبدأ مشكلتها.٧٠ من هنا فإن ثورة حامد — الرأي ليحيى حقي — لا طائل تحتها — إنها لا تستهدف حتى مجرد التغيير، «بل ترمي إلى التمجيد وحسب، تمجيد الوضع الراهن بكل ما فيه من محاسن ومساوئ.»
كانت زينب إذن أبعد ما تكون عن ذلك العرش السامق الذي يرى علي الراعي أن «هيكل» قد أجلسها عليه، ووضع تحته عبارة «زينب، من كبيرة المجاهدات لقوى الطبيعة العاتية.» إنها مَثل للفتاة التي تقيم أكثر من علاقة بأكثر من رجل، مما يشوِّه الصورة الوضيئة للفتاة القروية الساذجة التي يجتهد المؤلف في أن يقدمها لقارئه، فهي تعِد نفسها لزواج حسن. قدر لا تملك الفرار منه، مع ذلك فهي تسلم نفسها لعناق إبراهيم وقبلاته، فهو حبها الذي أخلصت له منذ أغمي عليها بين يديه، لكنها — في ذات الوقت — تسلم شفتيها لحامد يعتصرهما كيف شاء. والواقع أن العلاقة بين الفلاحة البسيطة التي تتميز عن زميلاتها بمسحة من الجمال، أو بكثير من الجمال، وابن المدينة الثري، أو حتى الموظف العادي كانت نبضًا للعديد من الأعمال الروائية والقصصية، وانتهت إلى الفشل الذي صنعته الفوارق الطبقية. ولعل زينب هي فاطمة في قصة عيسى عبيد «مأساة قروية»، تلك التي أحبَّت فخري الابن الوحيد لسعيد باشا، صاحب الأطيان الواسعة التي تعمل أجيرة فيها مع آلاف الشبان والفتيات، لكن فاطمة تنسى الفوارق الطبقية الحادة التي تفصل بينها وبين صاحب الأرض، وتندفع في علاقتها معه — على الرغم من خطبتها لمحمد ابن عمها — حتى تسلمه نفسها يومًا، بعد أن طمأنها الشاب بقوله: «ما تخافيش يا فاطمة وأنا معاك … دانا أحميك برقبتي.» وقد عبَّر الفنان عن العاطفة المشبوبة التي تبدَّى فيها استسلام الفتاة وإقدام الشاب «بحدأة هبطت بقوة على شجرة التوت التي تظللهما، حاملة بين مخالبها كتكوتًا يحتضر، وكان يُسمع له أنين ضعيف مخنوق، ولم تكد تستقر على أحد أغصانها حتى لحق بها غراب منقاد بحاسة الشم القوية الخاصة بالطيور الجارحة، فتعلق على غصن يحاذيه، ولبث في مكانه يراقبها بخوف وجبن وهو ينعق بكل قواه. وكأن الحدأة كانت واثقة من قوتها وتفوقها على خصمها، فلم تعِره أدنى أهمية، وواصلت — ببطء — التهام فريستها الصغيرة. وعلى أثر النعيق جاءت عصبة غربان، حاولت سلب الحدأة فريستها، فبسطت هذه جناحيها القويين — إشارة التهديد. وما إن انتهت من عملها، حتى ألقت نظرة ازدراء باردة على أعدائها الجبناء، الذين لم يجسروا على الانقضاض عليها، ثم حلَّقت في الجو، فتفرَّقت الغربان.» ولكن الحدأة الآدمية لا يستطيع أن يفعل شيئًا لحماية فاطمة، فقد أصابته رصاصة من بندقية محمد. أما فاطمة، فقد قتلها أبوها وابن عمها — الذي تغلَّبت كرامته على حبِّه — وألقيا بجثتها في بحر شربين: والأمر المدهش أن هذه المأساة المؤلمة، لم تترك تأثيرًا قويًّا في نفسه، وربما أصبح الآن لا يفكر مرة واحدة في تلك التي ماتت من أجله. وبعد نصف قرن تقريبًا، تظهر زينب ثالثة، هي «نعناعة»، لكن شعور نعناعة بالفارق الطبقي دفعها لأن تتخلى — ببساطة — عن ذلك الحب الغريب، وتحرص على حياتها الزوجية وأولادها،٧١ بعكس الضياع الذي واجهته فتحية في نداهة يوسف إدريس حين استسلمت لغواية شاب المدينة.٧٢ وعلى ذلك، فإنه يصعب الاقتناع بأن هيكل كتب زينب «ليجسد فيها دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، وليعرض في حوادثها عيوب المجتمع التقليدي، الذي يحُول دون امرأة ورجل متحابين، لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين متفاوتتين من حيث الغنى والفقر.»٧٣

•••

كانت دعوى اللورد كرومر أن الفلاحين يحيون في ظل الاحتلال، في ظروف مغايرة لتلك التي كانوا يحيونها قبله. لم تعد هناك سخرة ولا كرابيج. ثم وقعت حادثة دنشواي لتقوض ادعاء كرومر من أساسه.٧٤ ويشير مؤلف «دنشواي» إلى أن الريف قبيل الحادثة، كان ينقسم إلى ملاك أغنياء، أفادوا من سياسة الاحتلال الزراعية، وزادت ثرواتهم، فرضوا عن الاحتلال، وفلاحين وصغار ملاك فقراء تأثروا سلبًا بتلك السياسة، نتيجة عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لتحسين أحوالهم.٧٥ لم يحمل الفلاحون ولاء للاحتلال — كما تصور من اعتبروا الإنجليز أصدقاء لأصحاب الجلابيب الزرقاء — فقد خلت سياسة الاحتلال الزراعية من البعد الاجتماعي، فكان الرخاء الناتج عنها من نصيب كبار الملاك. كما حدث استقطاب في الملكية الكبيرة، عددًا ومساحة، وتعرضت الملكيات الصغيرة للتفتيت، وزادت أعداد الفلاحين المعدمين.٧٦ وعلى حد تعبير الكاتب، فقد كان كبار الملاك يبيعون القطن، وينثرون ذهبه تحت أقدام الغواني والراقصات، ومن ورائهم يزحف بنك الأراضي والبنك العقاري ناشبًا مخالبه.٧٧ ولا يخلو من دلالة أن نسبة المشتغلين بالزراعة في أراضٍ استأجروها — عام حادثة دنشواي (١٩٠٦م) — ٤٠٪، أما عُمَّال الزراعة الأُجراء فقد بلغوا ٣٦٪.٧٨

•••

كانت الثورة إذن هي المنقذ «الوحيد لخروج الفلاح من أزمة الواقع» وقد يكون من المبالغة تصور أن الفلاح المصري أسهم — بصورة مباشرة — في الإعداد لثورة ١٩١٩م، لكنه — بلا جدال — كان يخفي، على حد تعبير مفتش الآثار الفرنسي في «عودة الروح»، قوة نفسية هائلة، وقد تبدَّت تلك القوة النفسية الهائلة في المرحلة الأولى من ثورة ١٩١٩م، التي كشفت — بالجهد الثوري الهائل للفلاح المصري — عن الطبيعة الثورية للشعب المصري بصفة عامة. ولا يخلو من دلالة قول جريدة «البروجريه إجبسيان» المصرية: «إن الفلاح المصري قد بدأ يخرج من صمت العبودية الذي كان يرزح تحته قرونًا، وبدأ يجأر بالشكوى مما لم يرِد عن مثله في مصر.» ويقول محمد فريد: «ومما يزيد سروري أن شعراء الأرياف وضعوا عدة أناشيد وأغانٍ في مسألة دنشواي، وما نشأ عنها، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية، وفي موضوع قناة السويس، ورفض الجمعية العمومية لمشروعها، وأخذوا ينشدونها في سمرهم وأفراحهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة.»٧٩

ولا يخلو من دلالة قول هاشم (الملح) تعبيرًا عن مطالب الفلاح: الرغيف أولًا، ثم الثورة.

قال فوزي: الفلاح طول عمره يأكل، ولم يثُر.

قال أحمد: الكلمة أولًا، ثم الثورة.٨٠

هوامش

(١) مقدمة محمود تيمور لمجموعة محمد أمين حسونة «أوراق الورد»، ١٩٣٢م.
(٢) المرجع السابق.
(٣) يحيى حقي، فجر القصة المصرية، وزارة الثقافة، الطبعة الأولى، ١٩٦٣م، ٤١.
(٤) يحيى حقي، عطر الأحباب، ١٤٩.
(٥) عبد الحميد إبراهيم، الرواية العربية والبحث عن الجذور، كتاب التأصيل، ٣٣.
(٦) أحمد حسين الطماوي، محمد لطفي جمعة في موكب الحياة والأدب، عالم الكتب، ٥٩.
(٧) عباس حافظ، خبير بالنساء، دار الجمهورية، سبتمبر ١٩٥٥م، ١٢.
(٨) جلال الدين نصوح، الأسرة المنكودة، صفحة من جهاد شباب الثورة، مطبعة العلوم ١٩٣٥م، ٣.
(٩) في الحقيقة أن هذه الأعمال ليست كل ما سبق «زينب» في الصدور، إنها مجرد أمثلة. ولأن فهارس دار الكتب غير دقيقة، فإن الرقم الذي توصلت إليه — منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى عام ١٩١٢م، يزيد عن ١٥٠ رواية مصرية، بالإضافة إلى روايات أخرى صدرت في الفترة نفسها، ولم تشِر إليها دار الكتب في فهارسها، لأن نظام الإيداع لم يكن طُبِّق بعد.
(١٠) صدرت «عذراء دنشواي» في ١٩٠٧م، بينما صدرت «زينب» في ١٩١٢م.
(١١) عبد العال الحمامصي، هؤلاء يقولون في السياسة والأدب، اقرأ، ١٣٢.
(١٢) فجر القصة المصرية، الطبعة الثانية، ٥٢-٥٣.
(١٣) محمد حسين هيكل، زينب: مناظر وأخلاق ريفية، مكتبة النهضة المصرية، المقدمة، ١٠.
(١٤) زينب، ٨.
(١٥) عادل أبو شنب، صفحة مجهولة في تاريخ القصة المصرية، الهلال، ديسمبر ١٩٧٢م.
(١٦) الفكر المعاصر، يناير ١٩٦٧م.
(١٧) الأصول التاريخية، ٣٠-٣١.
(١٨) المرجع السابق، ٢٢.
(١٩) تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ٥٥.
(٢٠) المرجع السابق، ٧٥ وما بعدها.
(٢١) تاريخ الطبقة العاملة المصرية منذ نشأتها حتى ١٩١٩، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٩.
(٢٢) التطور الاقتصادي في مصر، ٥.
(٢٣) المرجع السابق، ٦.
(٢٤) المرجع السابق.
(٢٥) المرجع السابق، ٩.
(٢٦) المرجع السابق، ١٣.
(٢٧) المرجع السابق، ٧.
(٢٨) شهدي عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية، ١٢.
(٢٩) إبراهيم عامر، الأرض والفلاح، ٨٦.
(٣٠) الطليعة، مارس ١٩٦٩م.
(٣١) يحيى حقي، خليها على الله، ٣٧.
(٣٢) يوجد ثلاثة أنواع من العمال الزراعيين: الأول: التملية الذين يُستأجرون للعمل في مزارع معينة، وعددهم قليل نسبيًّا … والثاني: عمال اليومية الذين يُستأجرون للعمل لقاء أجر يومي، ويقدَّر عددهم بحوالي ٧٠٪ من مجموع سكان الريف. والثالث: عمال التراحيل، وهم يرحَّلون إلى مناطق العمل في مواسم معينة، ثم يعودون إلى قراهم.
(٣٣) يعقوب صروف، فتاة مصر، مطبعة المقتطف، ١٩٢٢م.
(٣٤) الأرض والفلاح، ٩٩.
(٣٥) تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ٩٧.
(٣٦) دنشواي، ٥٤.
(٣٧) مذكرات مجاهد تعاوني، ١٣١.
(٣٨) المرجع السابق، ١٤٣.
(٣٩) محمد زكي عبد القادر، أبو مندور، الكتاب الماسي، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٣م، ٣٢.
(٤٠) علي الراعي، دراسات في الرواية المصرية، ٨٦.
(٤١) الضحية، ٣٨.
(٤٢) زينب، ٢٤.
(٤٣) طه حسين، دعاء الكروان، دار المعارف، ١٩٤٢م، ٧٦-٧٧.
(٤٤) حين أنشئ الحزب الديمقراطي، حرص عزيز ميرهم على توجيهه نحو الاشتراكية، بينما عمل هيكل على توجيهه نحو الفردية، واختلف الاثنان بما كاد يؤدي إلى حل الحزب، وإن اختفى الحزب — فيما بعد — نتيجة للمناخ السياسي المغاير الذي أعقب نشوء ثورة ١٩١٩م (من محاضرة لمحمد شفيق غربال في الجلسة الخامسة لمجمع اللغة العربية في ٤ / ١١ / ١٩٥٧م).
(٤٥) أنا حرة.
(٤٦) زينب، ٢٢.
(٤٧) زينب، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٦٣م، ٢٢.
(٤٨) زينب، كتاب الهلال، ١٩٥٢م، ١٠-١١.
(٤٩) لويس عوض، العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، ٢٣٠-٢٣١.
(٥٠) عبد الحكيم قاسم، محاولة للخروج، هيئة الكتاب، ١٩٨٧م، ١٧١.
(٥١) صفحات من سفر الحياة، من آثار مصطفى عبد الرازق، دار المعارف، ١٩٥٧م.
(٥٢) فكر مجهود، من آثار مصطفى عبد الرازق.
(٥٣) عبد الرحمن الشرقاوي، الأرض، دار الشعب، ١٩٧٠م، ٢٦٦.
(٥٤) أحمد بهاء الدين، فاروق ملكًا، روز اليوسف، ٣٦.
(٥٥) محمود طاهر لاشين، يحكى أن، مشروع المكتبة العربية، ٨٢.
(٥٦) فرح أنطون، مسرحية «مصر الجديدة ومصر القديمة».
(٥٧) يصف محمد فريد الفلاحين قبل نشوب الثورة بأعوام، إنهم «يبدون في الظاهر غير مبالين أو مكترثين، لكنهم في الواقع يناصبون الإنجليز العداء بشدة.» (الأهرام، ٨ / ٩ / ١٩٧٢م).
(٥٨) الروائي والأرض، ٨٩.
(٥٩) يوسف إدريس، أبو الهول، أليس كذلك، مركز كتب الشرق الأوسط.
(٦٠) ملاحظات مسافر، من آثار مصطفى عبد الرازق.
(٦١) يوسف جوهر، الحب أقوى من الموت، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب.
(٦٢) في القطار، مؤلفات محمد تيمور، المكتبة العربية.
(٦٣) محمد مفيد الشوباشي، الأدب الثوري عبر التاريخ، كتاب الهلال، ١٥٤.
(٦٤) عبد الحليم عبد الله، للزمن بقية، مكتبة مصر، ١٩٦٨م.
(٦٥) يوسف الشاروني، في الرواية المصرية المعاصرة، كتاب الهلال، ١٩٧٣م، ٧.
(٦٦) أبو مندور، ٥٥.
(٦٧) يوسف جوهر، جراح عميقة، هيئة الكتاب، ١١٠.
(٦٨) أبو مندور، ٩٢.
(٦٩) الروائي والأرض، ٦٦-٦٧.
(٧٠) إقبال بركة، هي في عيونهم، هيئة الكتاب، ١٩٩٦م، ١٧.
(٧١) محمد صدقي، ابتسامة القمر، شرخ في جدار الخوف، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
(٧٢) يوسف إدريس، النداهة، روايات الهلال.
(٧٣) يحيى حقي، فجر القصة المصرية، هيئة الكتاب.
(٧٤) فتحي رضوان، مشهورون منسيون، كتاب اليوم، ٣٦.
(٧٥) دنشواي، ٥٥-٥٦.
(٧٦) المرجع السابق، ١٤.
(٧٧) محمود البدوي، الفرقة الأجنبية، حارس البستان، الدار القومية للطباعة والنشر.
(٧٨) دنشواي، ٥٥.
(٧٩) علي الغاياتي، وطنيتي، مطبعة منبر الشرق، ١٩٤٧م، ١٤.
(٨٠) ضياء الشرقاوي، الملح، هيئة الكتاب، ١٩٨٠م، ٣١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥