الطبقة العاملة
في تقدير جولدمان، فإنه كلما اقترب النص اقترابًا دقيقًا من التعبير الكامل المتجانس
عن رؤية العالم عند طبقة اجتماعية، كان أعظم تلاحمًا في صفاته الفنية.
١ وقد يجيد كاتب الطبقة البرجوازية التعبير عن الطبقة العاملة، بكل ما تحياه
من آلام وتطلعات وأنماط حياة، لكنه لن يكون في مثل صدق الفنان الذي تنجبه الطبقة
العاملة. ربما يؤدي افتقار الأديب العامل إلى التعليم الكافي، وقلة محصوله اللغوي،
وظروفه النفسية والاجتماعية القاسية … ربما يؤدي ذلك إلى صعوبة تعبيره عن مشاعره في
اقتدار لغوي، لكن الأعمال التي يكتبها أدباء الطبقة العاملة تظل — مع هذا — أشد صدقًا
وتأثيرًا من الأعمال التي يكتبها أدباء البرجوازية، هؤلاء الذين لا يملكون — ربما —
إلا التعاطف والنية الحسنة، ويعوزهم الصدق الكامل الذي تحتِّمه المعايشة الكاملة. ولعلي
أومن بنفس إيمان جوركي إنه في وسع الطبقة العاملة أن تخلق أدبًا خاصًّا بذات الطريقة
التي خلقت بها صحافة خاصة. ولعلي كذلك أتفق مع يوسف إدريس في رأيه أن التناول الأدبي
لقضايا الطبقة العاملة يتسم بظاهرتين أساسيتين: الأولى أن بعض النصوص تضع فوق العامل
هالة نورانية من التقديس والعصمة من الخطأ. والثانية — في المقابل — تنتسب إلى المعايشة
البرجوازية للطبقة العاملة، فهي تحقِّر العامل، وتضعه في مستوًى أدنى من الشخصيات الأخرى.
والمثل أتصوَّره بالنسبة للظاهرة الأولى — في أعمال محمد صدقي،
٢ وشخصية العامل في رواية «الشوارع الخلفية» لعبد الرحمن الشرقاوي، وبالنسبة
للظاهرة الثانية أعمال ثروت أباظة وغيرها.
٣
•••
رواية «الشارع الجديد» لعبد الحميد جودة السحار، تظل — على الرغم من أهميتها، كتعبير
صادق عن
آمال الطبقة العاملة، ومناقشتها لهمومها ومشكلاتها — أقرب إلى أدب الطبقة الوسطى. غاية
ما في الأمر إنها قد توصف بالتقدمية، وحتى تلك الصفة يصعب أن تطلق عليها؛ فهي تدليل على
أنه «حتى بعد نجاح ثورة ٢٣ يوليو، وتأكيد الاتجاه إلى الاشتراكية، وبروز العمال
والفلاحين كقوتين رئيسيتين من قوى الشعب المتحالفة، لم يظهر في مصر أدب عمال، أو أدب
فلاحين، فما زال الأدب يُكتب بأيدي أبناء الطبقة الوسطى والمثقفين، ولهم.»
٤
الشارع الجديد (١٩٥٢م) محاولة لدراسة الطبقة العاملة، والوقوف على طبيعة استجاباتها
للأحداث الطارئة على المجتمع المصري، ولكنها لا تجاوزها إلى التعبير عن نصرة تلك الطبقة
في صراعها مع غيرها من طبقات المجتمع. إنها تعالج مشكلات الطبقة العاملة، باعتبارها
ميدانًا خصبًا للدراسة في غاية أدبية أو تاريخية، بأكثر من أن تكون اتجاهًا سياسيًّا.
ومن ثَم، فالفنان لا ينادي في ثنايا روايته بمطلب سياسي أو اجتماعي معين، مثل النهوض
بمستوى معيشة الطبقة العاملة، أو تحقيق العدالة لأبنائها. وكان توخي الفنان للواقعية
دافعًا لأن يعقد جلسات طويلة مع بعض العمال، يستوضحهم مشكلاتهم — ربما لنشأته
البرجوازية، وفهمه القاصر لهذه المشكلات، فهو من أسرة تعمل بالتجارة، أجاد تصويرها في
رواية «في قافلة الزمان» — فبصرف النظر عن اهتمامات العمال الحقيقية، التي لم تكن تعدو
جوعًا جنسيًّا، أو مشكلة إدمان. وكانت أشبه بالمفاجأة للفنان الذي كان يخطط للشارع
الجديد على أنها قصة سياسية، فإننا لا نجد هذا السعي الشديد إلى الواقعية بين أدبائنا،
أو نكاد، بعكس كُتاب الغرب، حتى الذين ينتمون إلى مجتمعات رأسمالية، مثل بلزاك الذي كان
يجري بحوثًا اجتماعية على عشرات الأسر في أحياء باريس القديمة، قبل أن يبدأ في كتابة
عمل جديد، وزولا الذي كان يحتفظ في جيبه بنوتة صغيرة يسجل فيها كل ما يعنى له من
انطباعات وملاحظات، واديث هوارتن التي كانت روايتها «ثمرة الشجرة» نتيجة لدراسة واقعية
لمشكلات عمال النسيج في نيو إنجلند.
مع ذلك، فإن «الشارع الجديد» تختلف عن روايات تشارلز ديكنز — مثلًا — التي تصور واقع
المجتمع الإنجليزي في بداية العصر الصناعي الرأسمالي، حيث لم تكن ثمة قوانين تحمي
العمال، وكان غاية ما تهدف إليه الرأسمالية الصناعية الناشئة هو زيادة الإنتاج بأقل
التكاليف، دون أن تعنى بأحوال الأطفال الذين يعملون في أقسى الظروف ست عشرة ساعة كل
يوم، والنساء اللائي كن يعملن في المصانع أيضًا، وفي نفس الظروف السيئة. واستطاع ديكنز
أن يعرض لذلك كله في وثائق فنية، مثل رائعته «الأزمنة الصعبة» التي تصور طرق اصطياد
الأطفال لتشغيلهم في المصانع، والمناخ غير الإنساني الذي كانوا يعملون فيه، فهي —
بالتالي — وثيقة حية، صادقة، للنظام الرأسمالي الإنجليزي في القرن التاسع عشر، ونظرته
إلى الإنسان على أنه آلة رخيصة يجب استغلالها إلى أقصى طاقتها، باعتبار أن تعويضها أسهل
من تعديل الآلات العادية.
على أننا نستطيع أن نصف «الشارع الجديد» بأنها أول عمل روائي يعرض للطبقة العاملة
في
بدايات القرن، ذلك لأن الوجود المادي للطبقة العاملة لم يكن قد تأكد بعدُ بصورة واضحة،
بينما كانت فئات الفلاحين والتجار والموظفين — وحتى الحرفيين — تؤدي دورها.
•••
اختار الفنان حي القباري — وكفر عشري تحديدًا — مسرحًا لأحداث روايته، ولعل مبعث
ذلك
أن منطقة القباري كانت أكثر المناطق ازدحامًا بأبناء الطبقة العاملة، ففيها كانت تتم
معظم عمليات الشحن والتفريغ والنقل والتشوين، وبالتالي، فقد أصبحت مركز جذبٍ شديد
للمهاجرين من فلاحي الوجه البحري والصعيد. ثم ما لبثت أن تحوَّلت إلى منطقة تركز للطبقات
الكادحة، وصار لها كل خصائص المناطق المتخلفة
Slums.
وقد لعبت ترعة المحمودية دورًا أساسيًّا في عملية التكثف السكاني في تلك المنطقة،
باعتبارها الطريق المائي الذي يمتد من أقصى الصعيد إلى الإسكندرية، والذي — بواسطته —
يصل مهاجرو الوجه القبلي مع البضائع المجلوبة. وكان الطابع الريفي الذي تتسم به المنطقة
— الترعة والحياة بجوارها — دافعًا لأن يختار أبناء الصعيد الإقامة فيها، باعتبار
ألفتهم لذلك المشهد في قراهم النائية. وكان دحروج واحدًا من «الجيوش الزاحفة» إلى
الإسكندرية من الجنوب — على حد تعبير الفنان — سعيًا وراء الرزق.
٥
وحي القباري جزء من قسم ميناء البصل الذي بدأ يتكوَّن قبيل عام ١٨٥٠م كخلايا سكانية
على
جانبَي ترعة المحمودية، بالقرب من مصبِّها، وحول محطة القباري للسكة الحديد التي بدأ
نشاطها، ثم التحمت مع خلية أخرى كانت قد تكونت بجوار ضريح سيدي القباري، غربي منطقة
محطة السكة الحديد، وطفقت تنمو تدريجيًّا شمالًا بشرق. ويقول تقرير عن حي القباري إن
نسبة أهل الإسكندرية ٥٥٫٩٪، وإن أكثر الباقين من أهل الصعيد، حتى إنهم يكوِّنون مجتمعًا
شبه صعيدي؛ فحي الصعايدة في شرقي المنطقة معروف بثقافته الخاصة، وفي هذا الحي عدة حارات
معروفة جميعها باسم حارة الصعايدة.
وهنا يجدر أن نشير إلى حديث الفنان عن الآلاف الذين يأتون الإسكندرية كل عام من أقصى
الصعيد، يقطعون رحلة شاقة على الأقدام، يتندر عليهم أبناء الإسكندرية بالقول إنهم جاءوا
يعدون الفلنكات. رحلة قاسية، مليئة بالجوع والعري والتسول في البلاد والقرى. حين يصل
الإسكندرية يبدأ ماسح أحذية، ثم بائعًا للسميط، فبائعًا للخضار، وقد يفلح في أن يفتح
دكانًا صغيرًا، أو يصبح تاجرًا في الوكالة، وربما بدأ عامل بناء يصعد الأدوار حاملًا
قصة الخرسانة على كتفه، ثم يصبح — فيما بعد — مقاولًا لأعمال البناء.
٦
•••
يبقى اختيار الفنان لذلك البيت المطل على التقاء البحر بالمحمودية، إن يونس هو الذي
اختار، ودافع عن اختياره بأنه لم يكن قصير النظر يوم اشترى البيت «فهو ثروة كبيرة. إنني
قبل أن أقدِم على شرائه اطلعت على التخطيط الجديد لهذه المنطقة، أطلعني عليه موظف كبير
في الحكومة، فوجدت أن شارعًا كبيرًا سيشق هذا الحي، وأن هذا البيت سيقع على ناصية ذلك
الشارع الجديد.»
٧ ثم مات يونس، وطوى معه أمله بأن يشق الشارع الجديد في حياته، ولم تكتحل
عيناه برؤية الشارع، ولم يُكتب لجسده أن يسير فيه. وورث علي عن أبيه حلم الشارع الجديد،
فلو أن ذلك الشارع اخترق الحي، وأصبح البيت على ناصية، لارتفعت قيمة البيت، وأصبح من
المقبول بيع نصيبه، والإفادة من ذلك في تدبير حياته، بعد أن أفلست تجارته، وران الظلام
على حواشي المستقبل.
٨ ثم بدأ الأحفاد يتساءلون: أين ذلك الشارع الجديد الذي وُلدنا ونحن نسمع عنه؟
٩ وكان في مقدمة الأسئلة التي قدمها زكريا بعد انتخابه نائبًا في البرلمان:
ماذا تنوي وزارة الأشغال عمله بشأن الشارع الجديد؟ وأجاب الوزير المسئول بأن الوزارة
أدرجت المبالغ اللازمة لشق هذا الشارع في ميزانية هذا العام والوزارة مقيدة بهذا
المشروع، وتأمل أن تبدأ في تنفيذه قبل نهاية هذا العام.
١٠ ولم يأخذ حلم يونس سبيله إلى الواقع إلا بعد قيام ثورة يوليو، عندما جاء
العمال لهدم أول بيت في الحارة — وليسطِّروا بمعاولهم السطر الأول في قصة الشارع الجديد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن البيت — أو الحارة التي يقف البيت على ناصيتها بالتحديد — تفصل
بين حيَّين متناقضين «حي على ضفتها العالية، يقطنه خليط من أهالي الإسكندرية وفقراء
الفلاحين الذين جاءوا إليها يلتمسون العيش، وحي على ضفتها المنخفضة يعيش فيه الصعايدة
الأشداء، وكان الصعايدة يعتبرون أنفسهم أهل الحي وأصحابه، ومن عداهم غرباء دخلاء.» ولم
يكن يجمع بين أبناء الحيَّين إلا محاولة الهرب من الواقع الذي كانوا يحيون أسارى له،
بأن
ينطلقوا — متى حل المساء — إلى حلقات السهر المتباينة — وإن اتحدت في الهدف — لقضاء
سواد الليل في غيبوبة الخمر أو المخدرات. وربما زاد أحدهم، فاستسلم لحلم تغيير ذلك
الواقع، مثل «سيد» الذي كان يحرص على شراء أوراق اليانصيب.
والواقع أن هذه الحارة ليست واقعًا ميكانيكيًّا مثل زقاق المدق أو خان الخليلي، لكنها
نسيج خيال الفنان «استعنت في رسم تفاصيلها بالصفات البارزة في الحارات التي رأيتها،
وانطبعت سماتها في ذاكرتي.»
وعلى مستوى الخيال كذلك — أو الرمز بتعبير أدق — تقف معارك الصعايدة والفلاحين التي
كانت تدور عبر صفحات الرواية، تعبيرًا بالغ الدلالة عن التناقضات الحادة، والعنيفة، التي
كان يحياها المجتمع المصري عند اشتداد خلافاته الحزبية، أو في فترات القهر السياسي.
وكانت تلك المعارك — في البداية — أشبه برد فعل تلقائي لسطوة الاحتلال الذي أحكم قبضته
على كل شيء «ولم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك.» لهذا فقد تعدَّدت، وتلاحقت، في صورة
يومية: «وداعبت أذنيه أصوات موسيقى نحاسية، وأخذ الصوت يتضح حتى صار دويًّا، وتسللت إلى
غرفته أضواء خافتة، سرعان ما انداحت حتى راحت تتراقص على الجدران، فذهب إلى النافذة
ينظر، فرأى الفلاحين قادمين يحملون المشاعل، وثلاثة رجال في ثياب صُفر مهلهلة، ينفخ
أحدهم في بوق، ويضرب ثانيهم بالصنوج، ويدق ثالثهم بقوة طبلًا كبيرًا، فتنبعث من آلاتهم
تلك الجلبة المدوية، وأخذ بعض الرجال يرقصون على الأنغام، يقفزون كالقردة في الهواء،
وهم يطوحون بهراواتهم مرة، ويديرونها فوق رءوسهم مرات، ولاحت في نهاية الركب عربة يجرُّها
جوادان، التفَّ حولها رجال شداد يرفعون عصيهم في الهواء، فهم حرس الشرف الساهر على راحة
العروس وأمنها. وراح الركب ينحدر الهوينى من ضفة الحي العالية إلى الضفة المنخفضة،
وانساب حتى دنا من مقهًى صعيدي، فلم يتمهل الركب، ولم يقف ليؤدي التحية، فقام رجل صعيدي
في يده هراوة ضخمة، واتجه إلى الموسيقى، وطلب من الرجال الثلاثة أن يقفوا ويدقوا السلام
تحية، ثم ينصرفوا في أمان، فأعرض عنه الرجال، واستأنفوا سيرهم، فهب من في المقهى والدم
يغلي في عروقهم لما لحقهم من عار، رفض الدخلاء تحيتهم، فحقَّ القتال. فمشى الرجال إلى
الرجال، وجلجل في الحارة قرع الراوي للهراوي، وارتفعت أصوات النساء حادة وقد امتزجت
بأنَّات الجرحى وزئير الرجال، وانهزم الفلاحون، وراحوا ينسحبون، والصعايدة يتصايحون صيحات
النصر والظفر. تقهقر الفلاحون، وراحوا ينسحبون، والصعايدة في أثرهم يجدون، وقد بدت
الحماسة في حركاتهم وصيحاتهم، ودنوا من العالية. وما هي إلا لحظات حتى انهالت عليهم
الزجاجات المحشوة بالزلط والرمل من كل ناحية، من النوافذ، ومن سطوح الدُّور، ومن الأبواب،
ومن الشقوق. وشاركت النسوة الرجال في مناوءة الصعايدة الذين وقعوا في الشرك دون تدبُّر
أو تفكير، حتى العروس كانت تلقي قذائفها عليهم. وسالت الدماء، وتضعضع الهجوم، وانسحب
الصعايدة إلى مقهاهم مدحورين، يضمِّدون جراحهم، وعلي في شرفته يرقب ما يدور، وقد انتقلت
حرارة المعركة إلى صدره، فانفعل بها، وامتلأ حماسة وزهوًا. كان يحب القوة، وإذا بالحي
الذي يقطنه ينبض بالقوة والحياة.» ثم زادت معارك الصعايدة والفلاحين، بعد نشوب الحرب
العالمية الأولى، تعبيرًا عن رفض المصريين لتلك الحرب، باعتبار أنها لا تمثِّل بُعدًا
من
أبعاد اهتماماتهم. وتأخذ «الزفة» مسارها الطبيعي، وتتوقف المعارك — لأول مرة — إثر قيام
ثورة ١٩١٩م؛ فقد كانت الثورة سبيلًا لأن يأتلف الصعايدة والفلاحون. أقبلت الزفة تتهادى،
وهبطت الحارة، حتى إذا بلغت المقهى الصعيدي، صدحت الموسيقى بالسلام، فانضم الصعايدة إلى
الفلاحين، وانطلقوا معهم مستبشرين، يشاطرونهم فرحهم. وكانت هذه أول زفة تمر في الحي
بسلام، دون أن تتقارع الهراوات، وتتطاير الكراسي، وتسيل الدماء. نامت الحزازات، ووُئدت
النعرات، واتحد الجميع للنضال من أجل القضية الواحدة. على أن المعارك ما تلبث أن تعود
بعد احتداد الخلافات الحزبية وتفاقمها، لتتوقف — مرة ثانية — بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م،
توهمًا من المصريين أن الزعماء وقَّعوا بالفعل «معاهدة الشرف والاستقلال»، ثم تزداد
المعارك — بعد ذلك — عنفًا وحِدَّة، لتتوقف — تقريبًا — إبان اشتداد الأعمال الفدائية
في
القناة، ثم تتوقف — تمامًا — صبيحة الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م.
أما انسحاب الفلاحين، وتتبُّع الصعايدة لهم، ثم وقوعهم في الشرك الذي يُعَد لهم في
كل
مرة، فقد أراد الفنان أن يرمز إلى الزعماء الذين كانوا يُستدرَجون للمفاوضات، ووقوعهم
في
الشرك، وعودتهم إلى المفاوضات مرة أخرى، دون أن يتذكروا ما كان.
•••
يبقى — ثالثًا — اختيار الفنان لأبطال روايته. إن أصلهم — على حد تعبيره — «زرع في
مصلحة السكة الحديدية، وفرِّع في الغرز والحانات.» كانت المخدرات سر مأساة «الثيران»
في
«الشارع الجديد». وبصرف النظر عن البواعث التي كانت تدفع «الثيران» إلى تعاطي المخدرات،
فمن المؤكد أن المخدرات كانت هي الدرب الذي قطعه أزواج بنات يونس نحو المأساة؛ فالعودة
من العنابر يتبعها البحث عن النقود بأية صورة، وبأي أسلوب:
– أريد نقودًا، أي نقود، لا أطمع في كثير.
– أعرف أنك لا تطمع في أكثر من ثمن الأفيون والحشيش.
~ تعرفين أنني قنوع.
– ليس عندي ما أملأ به البطون لأعطيك ما تنفقه على مزاجك.
١١ وتغيِّب المخدرات الرجال عن كل شيء، حتى عن مشكلات الأسرة والزوجة والأولاد.
ويكبر الأطفال في غيبة من رقابة الأب، الذي غيَّبته المخدرات في عالم سحري، لا يفيق حتى
إلى صيحات الأم:
– ألا تزجر أولادك العفاريت، حطموا رأسي، أنت سبب كل هذا البلاء. كل قطرة فيك امتزجت
بالحشيش. وضعت بذرتهم من الحشيش، فجاءوا وقد عُجِنوا بماء العفاريت. أنت يا رجل: ألا
تفيق
أبدًا لتؤدبهم كما يؤدب الناس أولادهم؟!
١٢ كان هَم سيد وأبناء خالاته أن يلتحقوا بالعنابر، ليتناولوا أجورًا تمكِّنهم
من أن يحرقوا الحشيش ويشربوا الخمر.
١٣ أما شراء أوراق اليانصيب فكان البديل لسيد عن الخمر والمخدرات؛ اليانصيب
يضعه في دائرة الحلم دومًا، أما المخدرات والخمر فهما ينسِّيانه واقعه … ولكن ألن يفيق
أبدًا؟!
١٤ وقد حاول يونس أن يقوِّم من أحوال أزواج بناته، ثم أدركه اليأس، وألِف ما هم
عليه من بلادة وخمول، ولم يعُد ينظر إليهم إلا على أنهم ثيران تخصِّب أبقاره، وتملأ عليه
البيت بالبنين والبنات. نحن نلحظ أنهم كانوا جميعًا من العمال، ومن عمال العنابر
بالذات؛ لهذا فإن عزيزة تقول متفاخرة: أبي من العنابر، وأزواجنا من العنابر، وأولادنا
للعنابر، فلو أنصفنا لأعددنا لهم من الآن الثياب الزرق بدل المدارس وتعب القلب. حتى
سليمان الصغير، كانت أمه تعده لأن يدخل العنابر يومًا، فهي لا تفتأ تذكر له أنها ستلحقه
بدكان حداد يتدرب فيه، حتى يصبح أهلًا للالتحاق بالعنابر، ويومها يصبح رجلًا كأبيه.
لكن الفنان أهمل حياة العنابر تمامًا، واكتفى بأن يعرض النتيجة، وهي انغماس الثيران في
تعاطي الخمر والحشيش دون أن يستوقفه السبب، وهو الواقع الموضوعي للحياة داخل العنابر.
كانت مطالب العمال — عند جلوسه إليهم قبل أن يكتب روايته — لا تتعدى المخدرات والجوع
الجنسي، نتيجة مباشرة للواقع الأليم الذي لفَّهم بقساوته وضبابه. «إنهم يحرقون همومهم
مع
أنفاس الحشيش.»
١٥ وقد أثبتت البحوث الرسمية بالفعل «أن الطبقة العاملة — بصفة عامة — هي
الأكثر تعاطيًا للحشيش من غيرها من الطبقات.»
١٦ لكن الفنان أهمل السبب، واكتفى بالنتيجة، ثم سار مع أبناء علي وصفية في
رحلة انسلاخهم من طبقتهم إلى طبقة أخرى، بعد أن حطموا — بالعلم — تلك السُّلطة التي تحتِّم
عليهم أن يعملوا — يومًا — في العنابر، وأصبح منهم الضابط والطبيب والمحامي. أصبحوا
طبقة أخرى، حتى بالنسبة لعمَّاتهم اللائي يقمن في نفس الدار، ونفس الحي. حتى عمتهم التي
كانت تطمع — يومًا — أن يتزوجوا من بناتها، فطنت بغريزتها أنهم أصبحوا غرباء عنها وإن
كانت عمتهم، وإن كانوا أبناء أخيها الذين يسكنون معها في نفس الحارة، ونفس البيت.
١٧ لقد تزوج لبيب وأنجب أولادًا، وأصبح زكريا محاميًا شهيرًا ونائبًا في
البرلمان، ورُقي خالد قائدًا لمحطة الدخيلة الجوية، وسعيد أصبح طبيبًا، وجلال تخرج في
كلية الحقوق والكلية الحربية، ثم عُين وكيلًا للنيابة. ولعله يمكن القول بأنه لم يحقق
ذاته في الشارع الجديد إلا فئة التجار، متمثلة في أبناء صفية التي كانت «من طبقة تختلف
عن الطبقة التي تعيش فيها. كانت من أسرة تجار، لذلك اهتمت بتربية أولادها. «أدركت — منذ
اليوم الأول لزواجها من علي، وقدومها إلى بيت أبيه — أنها تنتمي إلى حياة أخرى. فأسرتها
لا
تعرف إلا النظام في كل شئون أيامها، والصغار يحرصون على طاعة الأكبر سنًّا، أما سكان
بيت يونس فقد كانوا مثلًا سلبيًّا للحرية غير المحدودة. كلٌّ يمارس حياته بالصورة التي
تحلو له، والشتائم يتبادلها الجميع، لسبب ولغير سبب، والمخدرات حلم الرجال، والجنس حلم
الرجال والنساء، فضلًا عن فقدان الطموح الشخصي، والإحساس بأن الحياة من العنابر تبدأ،
وإلى العنابر تعود. ولعله يمكن القول إن ذلك النمط الغريب من الحياة كان يمثِّل ظاهرة
وافدة بأكثر من أن يكون ظاهرة موجودة قبلًا. فعلي لم يكن يعرف إلا دكانه وبيته، وكانت
حياته غاية في الاستقامة، بل إن أخلاقه التي رقت إلى مرتبة الفروسية جرَّت عليه الكثير
من المآزق والمحن، وحسان شغلته قضية البلاد إلى حد التطوع في القوات العثمانية التي
قدمت لغزو مصر. وهو لم يفقد ذاته إلا بعد أن شاهد الموت بعينيه في سني الحرب. أما
البنات، فلسن نعرف لإحداهن حياة خاصة قبل الزواج، ومن ثَم فقد كان «الزوج» — والأزواج
جميعًا — بداية التفسخ الحاد الذي طرأ على حياة الأسرة.
ولأن صفية وفدت على الأسرة، فقد كان من طبيعة الأمور أن تتأثر — وهي المرأة — بما
جرت
عليه الحياة في طوابق البيت الثلاثة، لكنها أصرت أن يكون لها — ولزوجها وأولادها — حياة
أخرى غير حياة البطالة والجنس والمخدرات والمستقبل اليائس. فهي تبدِّل ثيابها فور أن
تنتهي من تجهيز الغداء، وتعيد ترتيب البيت انتظارًا لمقدم زوجها. أما الأخريات فلم يخطر
ببال إحداهن يومًا أن تنزع عنها ثياب المطبخ، وتظل روائح البصل والثوم تفوح منهن وهن
ينتظرن أوبة الثيران.
١٨ وكانت صفية تحمل عن زوجها همومه وهموم أولاده، فما كان يفكر في إطعام
الأولاد أو كسوتهم أو تعليمهم، وما كان يفكر حتى في أمر نفسه.
١٩ ويصارحها علي «كنت أقدر مني على سياسة أسرتنا، فتركت لك قيادها.»
٢٠ وعلى الرغم من رأي عزيزة بأنه لو أنصف علي وصفية لأراحا نفسيهما من تعب
القلب، وأعدَّا أبناءهما للالتحاق بالعنابر «إنهم من العنابر، وليس لهم عيش إلا في العنابر.»
٢١ فإن صفية لم تحاول أن تبني مستقبل أبنائها على الأوهام، قررت أن تبني
المستقبل بيدها، وليس بالاعتماد على مشروع ربما لا يتحقق، وساعدها على القيام بمهمتها
الصعبة ما ورثته عن الحاج أكرم — والدها — بعد وفاته.
٢٢ وإذا كانت صفية قد وافقت — مرغمة — على أن يعمل أكبر الأبناء «لبيب» قبل أن
يحصل على شهادة جامعية، فإنها أصرَّت على أن يخرج بقية الأبناء إلى الحياة ومعهم السلاح
الذي يعينهم على مواجهتها. وتحدد ذلك السلاح في الشهادة الجامعية، وحين أبدى خالد رغبته
في الالتحاق بكلية الطيران، أبدى الأب خوفه وإشفاقه، بينما تساءلت الأم في بساطة:
ولماذا لا يذهب إلى الطيران؟ واستطردت في نبرات قوية: الأعمار بيد الله.
٢٣
•••
هل كان خلو أسرة علي يونس من الفتيات إسهامًا في تحقق الأحلام لأفرادها؟ وهل كان وجود
نفيسة — كفتاة — في أسرة كامل علي إسهامًا في تقوض الآمال التي كانت الأسرة تحاول أن
تصنعها؟
كان الزواج هو النهاية الطبيعية لبنات بيت الشارع الجديد. وإذا كانت صفية تختلف في
نظرتها إلى الحياة عن نظرة عائلة زوجها، فأغلب الظن أن الأمومة التي جعلت من الأطفال
رجالًا، كانت تملك أن تتابع خطوات الفتاة — إن كان ثمة فتاة — في الطريق السليم. أما
نفيسة، فمن المؤكد أنها قد أسهمت في خروج الأسرة من عنق الزجاجة المادي باحترافها
الخياطة. وإذا كانت دمامتها — وبالتالي إدبار الرجال عنها — سببًا في استجابتها لابن
البقال، ثم احترافها الخطيئة بعد ذلك، فإن في مقدمة العوامل التي صنعت مأساة نفيسة، ذلك
التباين الملحوظ بين أفراد الأسرة، والذي كانت الأم تحقق له تماسكه الظاهري. وكانت
الخاصية التي تجمع أبناء صفية هي الحب الذي استطاعت الأم أن تجعل كلًّا منهم يكنُّه
لأخيه. وكانت مجهودات الإخوة لإنجاح شقيقهم زكريا في الانتخابات معلمًا بالغ الدلالة.
إن القروش القليلة التي كان يضعها علي في يد صفية، بعد عودته كل مساء، فضلًا عن السكنى
في بيت أبيه بلا مقابل، تساوي المعاش الذي حصلت عليه أسرة كامل علي، إلى جانب الإيراد
الإضافي الذي كانت تحققه نفيسة من احترافها الخياطة. وإذا كانت مشكلة أسرة كامل علي قد
بدأت بوفاته المفاجئة، فإن مشكلة أسرة علي يونس قد بدأت بإفلاس تجارته، ثم بقبوله حياة
جديدة، يكسب فيها قليلًا، وينام كثيرًا، ويترك للزوجة تدبير أمر البيت بقروش لا تصنع
حياة.
•••
من الثابت علميًّا أن التخدير يجعل من معاناة الحرمان والإحباط والمشقة شيئًا مقبولًا
يسيرًا للذين يكابدونه،
٢٤ «إنهم يحرقون همهم مع أنفاس الحشيش.»
٢٥ الخاصية الأساسية في أثر المخدرات، خلق حالة من الهدوء المفعم بأحاسيس
الراحة والشبع والقناعة، فضلًا عما يجلبه التخدير لمتعاطي الحشيش أو الأفيون من شعور
الانفصال عن الواقع الذي يحيط به، بكل ما قد يشتمل عليه من معاناة وضغوط ومشكلات، وهو
شعور ينتسب إلى الحضارة الدينية الغيبية الاتكالية التي تتعزى عن الواقع بالحياة الآخرة
ذات الحور العين، والنعيم المقيم، والتحرر من أطماع البشر.
جاءت فطومة يومًا إلى سيد زهير، ومعها قطعة من مادة سمراء، رفعتها أمام عينيه بين
أصابعها قائلة: احزر … ما هذه؟
– ما هذا؟
– نصف ريال.
– ما هذا؟
– قرقوشة.
وسألها عن معنى الكلمة، قالت: كان شهاب أفندي يطلب مني كل يوم قطعة ويعطيني ريالًا،
ولكنها لك بنصف ريال. كنت أموت من الضحك عندما أسمعه يتكلم بعد أن يضعها في سيجارة
ويشربها. ألا تعرفها يا سيد أفندي؟ جرِّب! ضعها في سيجارة وأشعلها تجد نفسك سعيدًا. وضحكت
مرة أخرى قائلة: تعيش بها في الجنة يا سيد أفندي! وأدرك من قولها إنها قطعة من الحشيش.
٢٦
لقد ثبت أن تعاطي المخدرات ينتشر بين الشباب من المراهقة إلى سن الأربعين تقريبًا،
وبين فئات العمال والفلاحين، ثم الموظفين والطلاب.
٢٧ والبواعث — بالطبع — كثيرة مثل مجاراة الجماعة والأصدقاء الحميميين، والبحث
عن المتعة وطلب الراحة النفسية، وتقليد الشباب لسلوكيات من هم أكبر سنًّا، والهروب من
الواقع، والاتقاد باحتوائها على مركبات منشطة للعملية الجنسية. وأشار صالح حمدي حماد
إلى أن ثلاثة أرباع المترددين على مستشفى الأمراض العقلية — في مطالع القرن العشرين —
كانوا من مدمني المخدرات — الحشيش على وجه التحديد — وكان عدد الذين يتعاطون الأفيون
قليلًا جدًّا.
٢٨ وكان تهريب الحشيش إلى داخل البلاد يتم في السفن الحربية البريطانية،
وأحيانًا باسم القنصل الإنجليزي في الإسكندرية.
٢٩ ويقول الحاج حنفي (مذكرات عربجي): «هؤلاء القوم، سواء كانوا أجانب قذفتنا
بهم اليونان أو إيطاليا أو فرنسا، أو شرقيين رمتنا بهم سوريا أو سواحل الأناضول،
تقابلهم مصر على الرحب والسعة، وتكرم وفادتهم، وتنزلهم منزلًا أرحب مما تنزل به
أبناءها، ثم يكون اعترافهم بهذا الجميل استيراد، وفتح الخمامير، والمتاجرة بشر
المكيفات، وإضعاف عقول شباب البلد.»
٣٠ وفي ١٨٩١م أزمعت الحكومة فرض عوائد جمركية على الحشيش لكي تفيد من إيراده؛
لأن منعها — كما يقول محمد فريد في مذكراته — لم يمنع دخوله، ولا تعاطيه جهارًا في
المقاهي، بل يعود عليها بخسارة ما تربحه من الجمرك بلا فائدة.»
٣١
وإذا كانت سلطات الاحتلال قد جعلت من نشر المخدرات بعض أساليبها لتدمير الذات
المصرية، فإن الطبقات الأدنى وجدت في تعاطي المخدرات «مسكِّنًا» للواقع الأليم الذي كان
أفرادها يحيون في إساره! وكما يقول عصام الدين حفني ناصف، «فإن القوانين التي سُنَّت
لمناهضة انتشار المواد المخدرة، لا يمكن أن يكون لها أثر فعَّال؛ لأن العلة الأساسية
باقية، وهي البؤس والتعاسة والشعور بالظلم، وإن الفلاح — والعامل بالضرورة — لا يطيق
هذا الظلم، فيركن إلى الفرار منه باستعمال هذه المغيبات.»
٣٢
وإلى بداية الحرب العالمية الأولى، فإن الحشيش والأفيون كانا المخدرين المعروفين
في
مصر. ثم دخل الكوكايين مصر في نهاية الحرب، واقتصر تعاطيه على أبناء الطبقات الموسرة
«تفتح الزجاجة، ويدور السم القاتل، فلا تسمع إلا حركة الشم وهم يبتلعون ذلك الموت
البطيء يدخل من فتحتَي الأنف الضيقتين، كما يتسرب الطاعون من موبوء إلى أهل بلد آمن
مطمئن، جالبًا معه الخراب فالدمار فالموت.»
٣٣ ثم دخل الهيرويين في فترة ما بين الحربين، وعاد الإقبال، مجددًا — في أعقاب
الحرب — إلى الحشيش والأفيون.
•••
في كتابه «الفلاح» (١٩٢٦م) يشير يوسف نحاس إلى أن الحشيش لا يعرفه إلا أهل المدن.
وهو ما يضعنا أمام السؤال: فكيف عرف أهل الريف الحشيش، بحيث أصبح نبضًا لعشرات الأعمال
الإبداعية؟
ليس في تلك الأعمال — بطبيعة الحال — ما يدلُّنا على منشأ عادة تعاطي الحشيش في الريف
المصري، لكن الظاهرة تواجهنا بشكل حاد، ومؤسف، في العديد من الأعمال. لقد ذهب حميدة إلى
كاتب الدائرة، يحاسبه، بلغ جملة ماله ٢١٦ جنيهًا، صفق قلبه بالفرحة، لكن الكاتب تابع
الحساب «٤٠ جنيهًا قسط شراء، ٦٠ جنيهًا إيجار، ٤٠ جنيهًا كيماوي، ٨ جنيهات خفر، ٨
جنيهات ري، ٨ جنيهات مقابل استخدام آلات، سبعة جنيهات مقابل إدارة، يتبقى ٢٩ جنيهًا،
يأخذ منها الكاتب جنيهًا كبقشيش. وكانت ابنة حميدة تريد جهازًا بأربعين جنيهًا في
الأقل، وبقية الأولاد يريدون ثيابًا، وهو في حاجة إلى عملية الزائدة وأجرتها عشرة
جنيهات … ولكي يفر من ذلك كله، فقد اشترى نصف قرش من الحشيش، ثم تزوج من أخرى، واطمأن
حميدة بعد حيرة، فلم يعُد يحاول أن يفكر كيف سيواجه المطالب المتزاحمة حوله، لقد انتهت
حيرته، لا، لم يعُد حائرًا، لم يعُد حائرًا على الإطلاق.»
٣٤ وعندما كان جبر الإسكافي ينتهي من احتساء فنجان القهوة، ليبدِّد أثر المرارة
التي يخلِّفها الأفيون، يحس — شيئًا فشيئًا — بانسياب في أعضائه وراحة. ويتناهى إلى سمعه
أصوات لاعبي الدومينو أو الطاولة وهم يضربون بقطع اللعب على المائدة، كأنه لحن طبيعي
ينسجم مع الضجة والدخان والقذارة التي تضج بها أركان القهوة. يسمع كل هذا وكأنه يرى
حلمًا، وترتسم في ذهنه أخيلة لأفكار يرى فيها أشباحًا عن الحياة، وتترنَّح في رأسه هذه
الأخيلة، ليخرج منها بهذه الفكرة الغامضة التي تجعله يقبَل الحياة كما هي.
٣٥ ويقول أبو شنب: إن ألذ أوقاتي هي التي ألعب فيها القمار — والقمار عند
الطبقات الأدنى مرادف لتعاطي المخدرات — إني أنسى كل شيء … زوجتي … وأولادي … وبيتي …
وعملي … وأمسي ويومي وغدي … أليس هذا هو أجمل شيء في الدنيا؟!
٣٦
والحجة التي يتذرع بها تجار الحشيش ومدمنوه، أن القرآن لم ينص على تحريمه، بعكس
الخمر. يعيب المعلم كرشة على الحكومة أنها «تحلل الخمر التي حرَّمها الله، وتحرم الحشيش
الذي أباحه!» ويتساءل: ما له الحشيش؟ ويجيب على تساؤله: راحة للعقل، وتحلية للحياة،
وفوق هذا وذاك فهو مدرٌّ للنسل.
٣٧ وعندما يواجه أحد رواد بار مانولي، الشيخ متولي عبد الصمد بالسؤال: أتنكر
يا شيخ متولي أنك كنت أكبر حشاش قبل أن يقطع الكبر أنفاسك؟ يجيبه الشيخ محتجًّا: ليس
الحشيش حرامً، أجرَّبت صلاة الفجر وأنت مسطول؟ الله أكبر! الله أكبر!
٣٨ ويقول سيد عارف عن المعلم زفتة وعباس شفة: قد يستطيعان أن يُمنعا عن الطعام
والشراب. أما «الكيف»، فأمر يهون دونه الدين.
٣٩
وفي كتابه «حياتنا الأدبية» يؤكد صالح حمدي حماد أن ثلاثة أرباع نزلاء مستشفى الأمراض
العقلية من مدمني الحشيش «تلك الآفة المستحكمة في طبقاتنا النازلة خصوصًا، والتي هي
أكبر مصائبنا الأدبية، ومسبِّبات تأخُّر أمتنا، وكثرة سفاهة سفهائنا، وبلاهة وحماقة عوامنا،
كما تحققه المشاهدات والاختبارات الظاهرة.»
٤٠ ويتناول صالح حمدي حماد مشكلة أخرى، هي تعاطي المورفين والأفيون، والتي لا
تقل بلواها في البشر عن الخمر والحشيش «وإن كانت بلادنا قد يندر فيها الآن من يتعاطى
الأفيون القتَّال.»
٤١
•••
«الشارع الجديد» إذن، لا تعنى من واقع العمال إلا بالنتيجة — وهي إدمانهم للجنس وجلسات
الحشيش — تلك النتيجة التي عرفها الفنان في لقاءاته بالعمال. أما البواعث، فهي تبدو
شاحبة، أو أنها أقرب إلى التلاشي. نحن نفتقد ذلك الواقع الذي صوَّره المحامي الفرنسي
جان
فاليه في بحثه القيِّم الذي نشره عام ١٩١١م تحت عنوان «دراسة في أحوال العمال المصريين».
كانت أحوال العُمَّال في تلك المرحلة تشبه — في سوئها وقسوتها وبشاعتها — أحوال العمال
في
أوروبا إبان الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر. وكتبت جريدة «اللواء»: «أنَّا
نرى أن حالة العمال في مصر قد أصبحت أمرًا لا يحسُن السكوت عليه تلقاء استبداد أرباب
العمل الذين ليس عندهم أدنى شفقة.»
٤٢ وكانت تلك الأحوال دافعًا لأن يقوم عمال السجاير بالقاهرة بأول إضراب في
١٨٩٩م للمطالبة برفع أجورهم. فلما نجح الإضراب في تحقيق أهدافه، اتجه تفكيرهم إلى تأليف
نقابة، وظلوا يكافحون من أجل ذلك حتى تألَّفت نقابة عمال السجاير في ١٩٠٨م، وتلا ذلك
تأليف
نقابات أخرى، بلغت تسعًا في ١٩١٠م. وانتزعت الطبقة العاملة مكسبًا آخر بصدور القانون
رقم
١٩ (١٩٠٩م) الذي يقضي بتحريم استخدام الأطفال لأقل من تسع سنوات في محالج القطن.
وما من شك أن الأرضية الزمنية — والمكانية كذلك — التي تقوم عليها أحداث «الشارع
الجديد» تصلح منطلقًا مناسبًا، للتعبير عن مشكلات الطبقة العاملة، منذ بدأ وجودهما يتأكد
ككيان مؤثر في حياة المجتمع المصري (والرواية تبدأ في عام ١٩١٠م). فبعد دخول قوات
الاحتلال، ظهرت الآلة في التفاتيش الكبيرة. بدأ كبار الملاك يستخدمون الجرارات وماكينة
الري، ومن ثَم قَلَّت الحاجة إلى الأيدي العاملة، وتفشَّت البطالة بين الأُجراء من الفلاحين،
فهجروا قراهم إلى المدن بحثًا عن العمل، وقد وجدوا ضالتهم في المصانع الجديدة التي قامت
على رأس المال الأجنبي، والتي قضت — بصورة نهائية — على جماعية المهن الحرفية،
والصناعات اليدوية، مثل صناعة الغزل والنسج، التي كانت مهنة الآلاف من الصناع. فلما
ظهرت الآلات الحديثة في أوروبا، وبدأ إنتاجها يغمر الأسواق المصرية، ركدت هذه الصناعة،
ثم أقيم أكثر من مصنع للغزل والنسيج، فقضى على هذه الصناعة، أو كاد. وكان قانون
الباطنطا الذي أصدره كرومر بمثابة التحطيم النهائي للنظام الحرفي القديم، فقد فرض ضرائب
عالية على كل المشتغلين بالحرف، مما ألجأ غالبيتهم إلى تصفية أعمالهم، والعمل في
المصانع.
•••
كانت نسبة المشتغلين بالزراعة في عام ١٨٩٧م، ٦٨٪، في حين بلغت نسبة المشتغلين بالصناعة
١١٫٥٪، وعلى الرغم من زيادة عدد السكان في السنوات العشر التالية بنسبة ١٦٫٢٪ فقد
زادت نسبة المشتغلين بالزراعة إلى ٧٠٫٥٪ بينما هبطت نسبة المشتغلين بالصناعة إلى ١١٪.
ثم زادت هذه النسبة قليلًا نتيجة للحرب العالمية الأولى، وما صحبها من حصار بحري، حال
دون استيراد الكثير من المنتجات الصناعية. ثم عادت النسبة إلى الهبوط في أعقاب الحرب،
ولم يُتح لها أن ترتفع إلا في أعوام الحرب العالمية الثانية وما تلاها، حتى بلغت ١٢٫٣٪
عام ١٩٤٧م، بينما هبطت نسبة المشتغلين بالزراعة إلى ٦٢٫٤٪.
٤٣
كانت الصناعات الصغيرة إلى أواسط القرن التاسع عشر، تشمل الصناعات المرتبطة بالغذاء،
مثل طحن الحبوب وصناعة الخبز والجزارة وتفريخ الدجاج وإعداد الفول وصناعة الخل واستقطار
العرقي والزبيب وماء الورد وطحن البن وصنع الفطير … إلخ. والصناعات المتعلقة بالثياب،
مثل الغزل والنسيج والصباغة والتطريز والدباغة والأحذية والسروج والبرادع والخياطة،
والصناعات المتعلقة بالمسكن، مثل البناء والنحت والحدادة والنجارة، وصناعات المزاليج
والخراطة والفخار والزجاج والصباغة والحصير … إلخ.
٤٤ وقد واجهت الصناعات الصغيرة التحدي، ممثَّلًا في نظام الاحتكار، والتوسُّع
الإنتاجي للمصانع الحكومية، وزيادة المنافسة الأجنبية، حتى قُضي على بعضها تمامًا، وحل
الكساد بالأحياء التي ازدهرت فيها تلك الصناعات من قبل. ثم ساعد على تدهور الصناعات
الصغيرة ضعف نفوذ تلك النقابات الطائفية في عهد سعيد، ثم إلغاء تلك النقابات في ١٨٨٢م.
٤٥ ثم فرضت سلطات الاحتلال ضرائب باهظة وقوانين، لإتاحة السوق المصرية أمام
السلع الأجنبية. يقول نبيه في «طلائع الأحرار»: «لقد رأيت هذا الشارع يعج بدكاكين
الحدادين والعقادين والسباكين وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات، فما الذي جرَّ الخراب
على
هؤلاء بعد اليُسر؟ إنه الاستعمار الذي غمر الأسواق بمنتجاته، وكاد يقضي على صناعاتنا
القضاء المبرم، ويجعل الأمة ضعيفة عاجزة.»
والحق أن سلطات الاحتلال حرصت — على مستوى الوطن العربي جميعًا — على عرقلة تطور
الاقتصاد الوطني — بصورة طبيعية — من الزراعة إلى الصناعة، توخيًا لتحول واستمرار
الاقتصاد العربي تابعًا للاقتصاد الأوروبي، ومستوردًا منه. فإذا اتجه إلى التصدير فإنه
يصدِّر المواد الخام، لتعود مواد مصنَّعة تزيد في أثمانها الفعلية بضعة أضعاف. ومن هنا
—
على سبيل المثال — كان تحالف الاستعمار مع طبقة كبار ملاك الأراضي أو الإقطاعيين، بحيث
تظل المجتمعات العربية زراعية، ترفض التصنيع والعلم، وتَدين بالتبعية والغيبية والتواكلية.
٤٦
قامت الصناعة إذن على الفلاحين المعدمين الذين اتجهوا إلى المدينة بحثًا عن فرصة
العمل، وعلى الحرفيين الذين بدءوا يعانون البطالة، نتيجة لاندثار نظام الطوائف، إلى
جانب أعداد كبيرة من العمال الفنيين الذين وفدوا إلى مصر من دول البحر المتوسط، مستظلين
بمظلة الامتيازات الأجنبية. كذلك فقد ساعد التقدم الصناعي على ذوي العديد من المهن
الحرفية. وعلى سبيل المثال، فقد حلَّ الترام محل الحمير لنقل الركاب، وتقلصت بالتالي
مهنة
السروجية وما يتصل بها. وبعد أن أصبحت أرضية الحجرات تُصنَع من الخشب بدلًا من البلاط
البلدي، أخذت صناعة الحصر تنقرض … إلخ.
٤٧
والحق إنه يصعب القول باندثار الحرفيين تمامًا من الحياة الاقتصادية، فقد وجدت فئات
الحرفيين ازدهارًا نسبيًّا منذ مطالع القرن العشرين، وبتأثير التشجيع الذي لقيه من الحزب
الوطني، وبالذات في تلك الأعوام القليلة التي تولى فيها محمد فريد قيادة الحزب، حيث قام
بتنظيم طوائف الحرفيين تعاونيًّا ونقابيًّا، وأتاح لها أن تسترد أنفاسها التي كادت تقضي
عليها تمامًا قوانين الاستعمار البريطاني، والتي بلغت ذروتها في قانون «الباطنطا» الذي
صدر في ١٨٩١م، بإلغاء نظام الحِرف، واحتلت الصناعات الصغيرة موضعًا متميزًا في حياتنا
الصناعية والاقتصادية. وحتى عام ١٩١٦م كان الذين يشتغلون بالصناعة يمثلون ١٣٪ من عدد
السكان. وعلى الرغم من هذه النسبة القليلة، فإن معظم هذه الصناعات كانت تعتمد على
الزراعة، مثل حليج الأقطان وتبييض الأرز وطحن الغلال وتكرير السكر واستخراج الزيوت.
بالإضافة إلى بعض المصانع الأخرى الصغيرة، مثل مصنع الأسمنت بالمعصرة، ومصنع الطرابيش
بقها، ومصانع الثلج والصابون والورش الميكانيكية (وكان المصنع يُسمى معملًا). ونتيجة
لذلك، كان النجار وديع في قصة «ثريا» لعيسى عبيد يدخر من ماله ليفتح «ورشة يورِّد فيها
الأثاث للمحلات الكبيرة، بدلًا من أن تشتريها من أوروبا.» والملاحظ أنه قد ظهرت فئة
جديدة من الحرفيين، تعلموا على أيدي الأجانب — وبخاصة الإيطاليين واليونانيين والأرمن
—
صناعات مثل حياكة الثياب والنجارة والسباكة وأعمال الميكانيكا والكهرباء وتشغيل ماكينات
الري وصيانتها، وحلج القطن … إلخ، وبالطبع، فقد كان أكثر ظهور هذه الفئة من الحرفيين
في
المدن الكبرى.
٤٨
•••
بالإضافة إلى طوائف الحرفيين التي بدأت تذوب في داخل المصانع الكبيرة، كانت الهجرة
من
الريف إلى الحضر هي أولى النتائج الاجتماعية التي صاحبت قيام عمليات التصنيع في أواخر
القرن التاسع عشر.
٤٩ لقد انتهى الحظر على انتقال الفلاحين نتيجة للتحول من الإقطاع الشرقي إلى
الملكية الخاصة للأرض، فعادت للفلاحين حريتهم في الحركة والهجرة دون قيود قانونية. ثم
أُلغيت السخرة في ١٩ ديسمبر ١٨٨٩م، وكان قد بلغت ذروتها في عمليات حفر القناة، وفقًا
لاتفاقية ٢٠ يوليو ١٨٥٦م الخاصة بتوريد الفلاحين للعمل في خدمة الشركة. ومن ثَم تضاعفت
حركة انتقال الفلاحين المعدمين من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية بحثًا عن العمل،
وأصبحت المدينة مركز استقطاب لآلاف المهاجرين الذين يريدون دخلًا ثابتًا ومرتفعًا في
العمل بالمصانع والورش الكبيرة، بدلًا من الدخول الزهيدة والموسمية التي يحصلون عليها
من العمل في الريف. كذلك شكَّل العُمال الأجانب الذين قدِموا من بلادهم بحثًا عن فرص
العمل،
بُعدًا هامًّا في الحركة العمالية.
•••
ولكن: ما العوامل التي صاحبت نشوء الطبقة العاملة المصرية؟
لقد كانت بداية كل حرفي - وما زالت - في كنس الدكان، ومسحه، وقضاء الطلبات البسيطة
للعاملين فيه، ثم يبدأ في تعلم الحرفة بالتدريج.
٥٠ كان الصبي يبدأ بحضور حفل «الالتحام» الذي يشارك فيه أفراد الطائفة، فيقرأ
الجميع الفاتحة، ليصبح الطفل صبيًّا لدى الأسطى، ويتدرب لفترة، يأخذ بعدها العهد على
معلمه في حفل آخر يحضره أفراد الطائفة. ويدور حوار بين المعلم والصبي، يستوضح فيه
المعلم ما لدى الصبي من معلومات، ثم يتلو الصبي القسم، وينصت لنصائح المعلم، وينتهي
الحفل بتلاوة بعض آيات القرآن الكريم. يصبح الصبي عاملًا، أو صنايعيًّا، أو مشدودًا،
ويتمنطق بحزام الطائفة على يد النقيب، بحضور الشيخ. والترقية إلى الأسطى أو المعلم هي
الخطوة الأخيرة في حياة الحرفي، ويقام لها حفل كبير تجري فيه طقوس.
٥١ وكان الشيخ يتمتع بسلطة شبه مطلقة على أفراد الطائفة، بدءًا بحق توزيع
الضرائب المفروضة على الأعضاء، وانتهاءً بتوقيع العقوبات التي تصل إلى حد الحكم بالسجن.
٥٢ وكانت بعض الطوائف تصنَّف بحسب عقيدة أفرادها، فكان أبناء الحرفة الذين
يعتنقون ديانة واحدة يؤلفون طوائف خاصة بهم، فضلًا عن أن التجار ألَّفوا طوائف تبعًا
للبلاد التي ينتمون إليها.
٥٣ وكان الحرفيون — ابتداء من المعلم الكبير إلى المعلم الصغير — يعبِّرون عن
مطالب واحدة، ويفهم كل واحد ظروف الآخر ويقدِّرها، مرد ذلك — في الدرجة الأولى — إلى
حاجة
المعلم لمجهودات صنَّاعه وصبيانه، وحبه واعتزازه بذلك الإنتاج الذي تصنعه مهارة العامل
اليدوي، بعكس صاحب المصنع الذي يعنيه جودة الإنتاج ووفرة ما في مصنعه من معدات وآلات،
بينما يأتي العامل في مرتبة تالية. من هنا، جاء — بعد قيام التصنيع بشكله الحديث — ذلك
الاختلاف في الفهم بين طائفتَي العمال وأصحاب الأعمال، نتيجة لاختلاف المصالح التي
تبغيها كل طائفة، فأصحاب الأعمال يطالبون بزيادة الإنتاج وتحسينه، والإقلال من الفاقد
لتحقيق أكبر ربح ممكن، فضلًا عن وجوب طاعة العُمال لأوامر الإدارة، بصرف النظر عن طبيعة
تلك الأوامر. أما العُمال فهم يطالبون بوضع الحدود المنصفة التي تعطي العامل حقَّه —
كما
تعطي الإدارة حقوقها — مثل إنقاص ساعات العمل، وزيادة الأجور، وإفساح المجال للترقي
والحصول على علاوات دورية.
٥٤ وكانت النتيجة الحتمية لذلك كله، هي تغيُّر طبيعة العلاقات نفسها؛ فقد أوجدت
الرأسماليات الكبيرة نقيضها: الطبقة العاملة، وتفشي الوهن في نظام الطوائف. وبعد أن
كانت العلاقات شبه عائلية بين المعلم والصناع، وبينهم وبين الصبيان، في طوائف الحرفيين
المختلفة، أضحت — في المصانع الضخمة — علاقات عمل يحكمها النظام والتخطيط والرغبة
المؤكَّدة في زيادة الإنتاج بالاستفادة — إلى أقصى حد — من جهد العامل وطاقته. تغيَّر
جوهر
العلاقة بين العامل وصاحب العمل بصورة جذرية، بل لم تعُد هناك علاقة في معظم الأحيان؛
لأن أصحاب رءوس الأموال لم يكونوا يعلمون عن العاملين، ولا عن ظروفهم أو أحوالهم
المادية والاجتماعية شيئًا. وقامت «الإدارة» بدور الوسيط بينهم وبين العمال. والإدارة
تنظيم مخطط يضع التعليمات واللوائح التي تدفع طاقة العمل في كل وحدة إنتاجية، لتحقق
أقصى نجاحاتها، بينما دور العمال هو «التنفيذ» والعمل وفقًا للوائح. ومن هنا، حلَّت صلات
معقدة بين العمال وأصحاب رءوس الأموال، بدلًا من تلك الصلات البسيطة السابقة التي كانت
تقوم على المعرفة الشخصية بين المعلم وصُنَّاعه، وبين الصُّناع والصبيان، بل وبين المعلم
وكل
أبناء حرفته. ولم يعُد ثمة مجال أمام العمال للتعبير عن رغباتهم ومطالبهم، وتوصيلها إلى
الإدارة التي تحتل — غالبًا — مباني وحجراتٍ بعيدة عن صالات الإنتاج، ولا تسمح لهم
بالاتصال بها وبالتالي، الاتصال بصاحب العمل — إلا بإذن خاص، وفي حالات معينة. ولم يعُد
أمام العمال إلا الإضرابات وسيلة للإعلان عن مطالبهم. وكانت تلك الإضرابات بمثابة
تأكيد لمولِد الحركة العمالية المصرية، لكن بعض الأقلام أكدت — في المقابل — أن «العامل
إذا انتهى به العمل إلى أخذ نتيجة مساوية لما عمل، كان هذا مطابقًا كل المطابقة لنواميس
العدل المطلق.»
٥٥
في البداية، كانت الإضرابات هي سبيل العمال الأجانب، للإعلان عن مطالبهم، مما دفع
سلطات الاحتلال إلى تقديم المزايا لهم، حتى تعزلهم عن البيئة العُمالية المصرية،
باعتبارهم — وتلك حقيقة يصعب إنكارها — كانوا متأثرين بالأفكار والمبادئ الثورية في
بلادهم، ومن ثَم فقد حاولوا تطبيقها في مجالات عملهم. واشترك العمال المصريون والأجانب
في كل الإضرابات التي بدأت بإضراب عمال لف السجاير. وكان هذا الإضراب بالذات من تنظيم
العُمال الأجانب، واشترك العُمال المصريون فيه بصورة جانبية، وبالقدر الذي أدى إلى التوقف
الحتمي للعمل. وكانت خطة المصريين هي إطالة أمد الإضراب، حتى يضطر أصحاب الأعمال إلى
الإذعان، وطلب المفاوضة. لذلك عمد أصحاب الأعمال إلى استخدام «لفافين» جدد محل
المصريين، فتصدى لهم العمال الأجانب والمصريون، واعتدوا عليهم بالضرب المبرح. ولأن
العمال الأجانب هم أول من لجأ إلى الإضراب، فقد اعتبرته «الجريدة» «داءً جديدًا جلبه
الغرب إلى الشرق، واختار مصر منبتًا خصبًا لجرائمه، تنمو في تربتها الطيبة، وتنتشر في
هوائها المعتدل.» لكن بعض الأقلام أكدت — في المقابل — أن «العامل إذا انتهى به العمل
إلى أخذ نتيجة مساوية لما عمل، كان هذا مطابقًا كل المطابقة لنواميس العدل المطلق.»
٥٦
والحقيقة أن ظروف العمال الأجانب في مصر، كانت أفضل من ظروف العمال المصريين أنفسهم،
لكن تلك الظروف كانت أقل بكثير من نفس الظروف التي تحياها الطبقة العاملة في أوروبا،
لهذا عمد هؤلاء العمال إلى استخدام خبراتهم النقابية، وأساليب العمل الجماعي، لفرض
مطالبهم. ثم جاءت الحرب الأولى، واضطر عدد كبير من العمال الأجانب إلى مغادرة مصر، فصار
العمال الوطنيون أغلبية في الدوائر العاملة. والحقيقة أيضًا، أن الطبقة العاملة المصرية
ظلت — لسنوات طويلة — تعاني انعدام الحقوق. وكانت أحوال العمال بعامة تفوق في سوئها
وقساوتها ما كانت عليه أحوال العمال في أوروبا عند قيام الثورة الصناعية في أوائل القرن
التاسع عشر. لقد كان المبدأ المتعارَف عليه هو أن «الفاعل ديَته أجرته.» بل إن الخواجة
«لافي» في «فتاة مصر» يبرر عدم دفعه أجورًا عالية للعمال بأنه يفعل ذلك «لئلا يعتادوا
الكسل والطمع.» ولم يكن في مصر — حتى عام ١٩٣٣م — قوانين خاصة لحماية العمال، وتنظيم
علاقاتهم مع أصحاب الأعمال. ولم يكن ثمة قانون — كما قال محمد فريد في إحدى خُطبه — يُلزِم
المقاول بدفع تعويض لمن يموت شهيد عمله، أو يفقد أحد أعضائه، فيصبح عديم الكسب.
لقد كانت إضرابات العمال المصريين بمثابة تأكيد لمولد الحركة العمالية المصرية؛ ففي
مايو ١٨٩٤م اعتصم عمال نقل القمح في بورسعيد، طلبًا لزيادة أجورهم.
٥٧ ثم حدث — بعد أيام — إضراب مماثل من عمال الكراكات في بورسعيد، وأطلق مجهول
رصاصتين على «باشمهندس» القناة الفرنسي، فقتله. وفي ديسمبر ١٨٩٩م نظم حوالي ٣٠ ألفًا
من
عمال السجاير أول إضراب كبير. وتعدَّدت الإضرابات والاعتصامات من عمال الشركة الخديوية
للملاحة، وعمال الشحن والنقل والتفريغ بميناء الإسكندرية، وعمال لف السجاير، وعمال
الفحم بجمرك الإسكندرية، وعمال ترام الإسكندرية، وعمال عنابر السكة الحديد بالقاهرة
والإسكندرية، وعمال الترزية، وعمال شركة الغزل الأهلية بالإسكندرية، وعمال مطبعة
الكريدي بالقاهرة … إلخ.
٥٨ وفي أكتوبر ١٩٠٨م نظم عمال الترام إضرابًا للمطالبة بتقليل ساعات العمل من
١٣ إلى ٨ ساعات، وزيادة الرواتب، والحصول على حقهم في الإجازات الاعتيادية والمرضية،
وألَّا يُفصل العامل إلا لأسباب مقنعة. وواجه العمال المضربون ردًّا قاسيًا من قوات
البوليس، أُجهضت به أولى محاولات عمال الترام للإضراب.
٥٩ حتى حوذية عربات الحنطور، أقدموا على الإضراب لإعلان مطالبهم الاقتصادية، وفي صباح ١٨
أكتوبر ١٩١٠م قام عمال السكة الحديد بإعلان إضراب مفاجئ، تعبيرًا عن سخطهم
على تدني الأجور، واضطهاد الإدارة، وإساءة المعاملة، وكثرة الجزاءات التي تُوقع عليهم.
توقف العمل تمامًا في العنابر، ورفع العمال قضبان السكك الحديدية الموصلة إلى الصعيد،
كما وضعوا عوارض خشبية، إشارات حمراء في طريق القطارات. وحاول مدير السكة الحديدية —
وهو إنجليزي — أن يُخرِج قطارًا بالقوة، واستعان بقوات الشرطة، لكن العمال دخلوا معها
في
معركة أسفرت عن ٦٥ جريحًا، وقُدِّم ١٦ من قادة العمال إلى المحاكمة. وكتبت «اللواء»:
«في
إمكاننا أن نقول إن العاصمة لم تشهد منذ دخول الإنجليز إلى مصر حتى اليوم، حادثة كتلك
الحادثة، أظهر البوليس فيها من الشدة والخشونة والقسوة ما أظهره في هذه.»
٦٠ وعلى الرغم من الفض المبكر لهذا الإضراب، فإن إدارة المرفق استجابت إلى
العديد من مطالب العمال، فضلًا عن أنه كان مقدمة لعمل جماعي أكثر تنظيمًا، بل لقد كان
المدخل لتكوين جمعية عمال عنابر السكك الحديدية بالقاهرة، والتي تُعَد أول تنظيم نقابي
في
مرفق السكك الحديدية.
٦١
ومع أن بعض هذه الإضرابات تمت بتحريض، وباشتراك، مع العناصر العمالية الأجنبية، فإن
بعضها الآخر كان موجهًا ضد التفرقة بين العامل المصري والعامل الأجنبي.
٦٢ وكانت مواجهة أصحاب الأعمال لتلك الإضرابات تأخذ — في الأعم — شكل إغلاق
بعض المصانع، والاستغناء عن العمال الذين يُشك في دورهم، في تلك الإضرابات. وكما قلنا،
فقد نظرت الصحف المصرية إلى الإضرابات العمالية — في بداياتها — على أنها «بدعة
أوروبية، انتقلت إلى مصر.» فجريدة اللواء (١٩٠٠م) تعلن أن اعتصاب لفافي السجاير «يظهر
غريبًا في الشرق»، بينما اعتبرته «الجريدة»: «داء» جديدًا جلبه الغرب إلى الشرق. كما
اتهمت الأهرام العمال المصريين بأنهم «يقلدون العمال الأوروبيين تقليد القردة، ولكنه
تقليد مضرٌّ بهم.»
٦٣
ومن الطبيعي أن تكون الخطوة التالية للإضرابات العمالية، سعي العمال إلى إنشاء
النقابات التي تدافع عن مصالحهم، وتضمن حقوقهم. وكانت الحركة النقابية تتسم بما
يلي:
-
ضآلة الأجور، فقد كانت ساعات العمل طويلة، بينما الأجور منخفضة. كان الأجر اليومي
للعامل غير الفني — مثلًا — لا يزيد عن ثلاثة قروش، وأجر الحدث في محالج الأقطان قرشًا
واحدًا، وأجر العامل الفني ٨ قروش. أما الأجور الشهرية فكانت — على سبيل المثال — ٢٨٠
قرشًا لعامل الترام (١٩٠٨م)، و٥٠٠ قرش لسائق قطار السكك الحديدية (١٩١١م).
٦٤
-
زيادة ساعات العمل. فقد كانت ساعات العمل في محالج القطن — مثلًا — تصل إلى سبع
عشرة ساعة يوميًّا، أما المحال التجارية، فقد كانت تعمل ست ساعات في الصباح، وتسعًا في
المساء.
-
التفاوت الكبير بين العمال الوطنيين والعمال الأجانب، حتى لو كانوا متساويين معهم
في الخبرة والإنتاج.
-
عدم وجود قوانين للعمل تكفل تنظيم العلاقة بين العمل وصاحب العمل.
كانت نقابة عمال السجاير المختلطة (١٨٩٩م) المؤلَّفة من عمال مصريين وأجانب، هي أولى
النقابات العمالية في تاريخ مصر. وتكوَّن بعضها (١٩٠٨م) نقابة عمال الترام المختلطة.
ثم —
في ١٩٠٩م — نقابة عمال الصنايع اليدوية. وعمومًا، فقد تمكنت الطبقة العاملة من تحقيق
وجودها خلال الفترة من ١٨٩٥م إلى ١٩١٤م، حتى قامت الحرب العالمية الأولى، فحُظِرت كل
الأنشطة الاجتماعية والسياسية، وأُغلقت دُور النقابات، وتوقف النشاط النقابي تمامًا،
ليعود بعد انتهاء الحرب، ولتتكوَّن في الفترة من ١٩١٨م إلى ١٩٢١م ٣٨ نقابة في القاهرة،
و٣٣ في الإسكندرية، و١٨ في منطقة القناة. وكما كانت الإضرابات — في بدايتها — من صُنع
العمال الأجانب. كذلك اعتمدت النقابات — في بداية تكوينها — على العناصر الأجنبية — ومن
أفراد الجاليتين اليونانية والإيطالية بالذات — لعدم خبرة العمال المصريين ببعض
الصناعات التي تحتاج إلى مهارة فنية خاصة، وبالتالي فلم يكن من السهل تجنُّب وجود قيادات
أجنبية في الحركة العمالية المصرية آنذاك. ويقول روزنتال: «كانت تلك النقابات كلها
تقريبًا للعمال الأجانب، لأن العمال الوطنيين كانوا في ذلك الوقت قلائل في جميع الحِرف
ودوائر العمال بالنسبة إلى زملائهم الأجانب، لكن الوطنيين أخذوا بالنهوض منذ ذلك الحين،
وتعلموا كثيرًا من الحرف الفنية، فكثر الفنيون منهم.» وقد قامت — فيما بعد — إضرابات
وطنية، موجهة ضد التفرقة بين العامل المصري والعامل الأجنبي.
٦٥
وقد جرت أول محاولة لإنشاء حزب عمالي في ١٩٠٨م، حين نشرت اللواء والأهرام إعلانًا
في
١١ يوليو من ذلك العام، عن دعوة عامة يوجهها «حزب المقاصد المشتركة للعمال» إلى أرباب
المهن والصنائع والعمال للاستماع إلى خُطبة يلقيها محمد أحمد الحسن، أحد مؤسسي الحزب،
عن
وجوب انضمام أصحاب الحرف المصرية والأجنبية — على اختلاف طبقاتها — إلى حزب واحد مشترك
المنافع والأعمال الخيرية.»
٦٦
ومنذ تكوَّنت أول نقابة للعمال — نقابة عمال السجاير — فقد كانت غالبية قيادة تلك
النقابة من العمال الأجانب الذين تأثروا — بشكل أو آخر — بالتيارات الاشتراكية
العالمية، مثل روزنتال الذي يقرر في شهادته عام ١٩٢٤م في قضية أحزاب العمال في
الإسكندرية «إنني منذ حداثتي أميل إلى المبادئ الاشتراكية وأحن إليها.» ثم غادر البلاد
أعداد كبيرة من العمال الأجانب، نتيجة لظروف الحرب العالمية الأولى، لكن الأعداد
المتبقية، فضلًا عن القيادات المصرية الناشئة، كانت ذات ميول اشتراكية. ثم كانت تلك
القيادات وراء أكبر إضراب عمالي في تاريخ مصر — بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى — كاد
أن يهدد الحياة الاقتصادية في مصر بالتوقف. ثم قامت ثورة ١٩١٩م، وفي أحضانها تألَّفت
النقابات العديدة، وكانت العناصر الاشتراكية قد استطاعت أن تسيطر على عدد كبير من تلك
النقابات.
ولا تخلو هذه المعلومة — في تقدير بعض القيادات العمالية المصرية — «من مبالغة أو
غرض، رغم توكيد بعض الكُتاب المصريين له، وهم فريق الكُتاب غير المتلاحمين مع الطبقة
العاملة، والذين يستقون معلوماتهم — غالبًا — من مصادر أجنبية. والدليل على ذلك هو نزوع
الحركة النقابية المصرية سريعًا، إلى الارتباط الوثيق بحركة التحرر الوطني، فضلًا عن
أن
عدد العمال الأجانب في مصر — يومئذٍ — كان أقل من أن يجعل منهم قوة مؤثرة في قيام وتوجيه
الحركة النقابية.»
٦٧
•••
كان للطبقة العاملة إذن واقعها الذي يفرض عليها أن تتحرك، وتفرض مطالبها، وهي لم تكن
تفر من ذلك الواقع بالانغماس في الجنس وجلسات الحشيش، وإنما كانت تنظم الإضرابات، وتسعى
إلى تأليف النقابات العاملة، توصلًا إلى تحقيق أهدافها ومطالبها. بل إن عمال السكك
الحديدية — قوام «الشارع الجديد» — قاموا بإضراب عمالي كبير في أكتوبر ١٩١٠م، شاركت فيه
نقابة عمال المصانع اليدوية المنتمية للحزب الوطني.
كانت هيئة السكك الحديدية من أضخم المرافق في مصر على الإطلاق، كانت تشرف على خطوط
طولها ٣١٦٠ كيلومترًا، تمتد من الإسكندرية إلى الخرطوم، وتستخدم نحو ١٢ ألف عامل.
واللافت أن عمال السكك الحديدية كانوا يحيون — آنذاك — ضغوطًا اقتصادية واجتماعية
خانقة، تتبدَّى انعكاساتها في سلسلة الإضرابات التي قام بها عمال السكك الحديدية، سعيًا
وراء تحقيق بعض المطالب، ومن بينها تخفيض ساعات العمل، ورفع الأجور، وتعديل الدرجات،
والترقية بحسب الأقدمية، وتقرير مصاريف بدل سفر، وتوفير ظروف عمل أفضل.
٦٨ وعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للسكك الحديدية قد عالج مشكلات العمال
بصورة جزئية، ووافق على «زيادة رواتب العمال، وتوزيع المكافآت» فإن هذا الحل الجزئي لم
يقضِ على روح السخط التي أخذت تنمو وسط عمال المرفق، فتشكَّلت في منتصف ١٩٠٨م قيادة لعمال
السكك الحديدية باسم «الجمعية السرية لبؤساء السكك الحديدية» قامت بإرسال الشكاوى
والتظلمات والعرائض إلى الصحف، ونجحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد. وتزايد نشاط السكك الحديدية،
وعمال العنابر بصفة خاصة. وقام هؤلاء العمال بإضراب مفاجئ في صباح ١٧ أكتوبر ١٩١٠م، أدى
إلى توقف العمل تمامًا في العنابر، وقاموا برفع قضبان السكك الحديدية الموصلة إلى
الصعيد، ووضع عوارض خشبية وإشارات حمراء في طريق القطارات. وتدخل البوليس بقيادة
الحكمدار هارفي باشا، ونشب قتال مع العمال أسفر عن ٦٥ جريحًا، وانتهى الإضراب بمحاكمة
١٦ من قادته بتهمة الإتلاف، وتعطيل سير القطارات، وإن وافقت إدارة المرفق على الاستجابة
لبعض المطالب، مثل إبطال العمل بنظم المقاولة، وتشغيل العمال باليومية، وبالماهية. وكان
هذا الإضراب مقدمة لتأسيس جمعية عمال عنابر السكك الحديدية بالقاهرة، التي تُعد أول
تنظيم نقابي في هذا المرفق. ثم شارك عمال السكك الحديدية في ثورة ١٩١٩م بإعلان الإضراب
في ١٥ مارس ١٩١٩م لمدة طويلة، انتهت في الثاني من مايو ١٩١٩م، كما خرجوا في مظاهرة كبيرة
ضمَّت نحو أربعة آلاف عامل.
٦٩
وكانت الحرب العالمية الأولى — بكل ما أحدثته من تغييرات في طبيعة الأوضاع الاقتصادية
والصناعية — ثم ثورة ١٩١٩م، وما صحبها من حركة نشِطة لتأليف النقابات التي ترتكز إلى
مفهومات اشتراكية؛ كانت الحرب، ثم الثورة، انطلاقتين متتاليتين نحو بروز الطبقة العاملة،
كقوة لها تأثيرها في مجريات الحياة السياسية، مما دفع التيارات السياسية المتصارعة إلى
خطب ودِّها، أو فرض الوصاية عليها … لكنها استطاعت — بعد معارك معلَنة وتحتية — أن تحتفظ
بذاتها، وتؤكد استقلاليتها، وإن جاء ذلك متأخرًا.
•••
وما من شك أن إشراك العمال في الحركة الوطنية بصورة لافتة، هو — إلى حد بعيد — إحدى
المبادرات الطيبة التي أقدم عليها الزعيم محمد فريد. أدرك محمد فريد أهمية اشتراك
الطبقة العاملة في الحركة الوطنية، فبذل جهدًا عظيمًا لاستقطاب أبناء تلك الطبقة، إلى
جانب المثقفين من أبناء الطبقة المتوسطة. وتبدَّى ذلك في تأييده لإضرابات العمال، ثم
في
مشروع الحزب الوطني لتأسيس الجمعيات التعاونية الزراعية (١٩٠٨م)، ثم تأسيس مدارس الشعب
الليلية لتعليم العمال وتنمية مداركهم. ثم الوقوف وراء تأسيس نقابة عمال الصنائع
اليدوية، ثم في مقالاته العديدة عن وجوب حماية حقوق العمال، وإصدار التشريعات اللازمة
لذلك «إلى الآن، لا يوجد بمصر قوانين خاصة بحماية العمال، ولا قوانين تحدد سنَّهم، ولا
عدد الساعات التي يجب أن يقضوها في العمل، فتجد العمال مثقلي الكواهل بلا رحمة، خصوصًا
في معامل الدخان، ومعامل حلج القطن، حيث يشتغل الأطفال — ذكورًا وإناثًا — في وسطٍ من
أردأ الأوساط، من الوجهة الصحية والأدبية.»
وإذا كان اعتماد مصطفى كامل على المثقفين، كركيزة أساسية في نضاله ضد الاحتلال، فإن
محمد فريد حاول أن يجعل من الطبقات الكادحة ركيزة موازية، وسلك في ذلك سبيلَين:
-
تأسيس الجمعيات التعاونية الزراعية، بهدف القضاء على عسف المرابين المصريين
والأجانب على السواء.
-
إنشاء مدارس الشعب لتعليم العمال، وتبصيرهم بقضية الاستقلال، فضلًا عن إقامة نقابة
عمال الصنائع اليدوية وفروعها بالإسكندرية والمنصورة وطنطا للنهوض بأرباب الحرف
اليدوية، والعمل على تحسين أحوالهم التي كانت قد ساءت نتيجة تدفق المصنوعات الأجنبية.
كانت الخطابة هي موهبة مصطفى كامل: العبارات القوية، والتشبيهات، والاستعارات،
والكنايات. أما محمد فريد، فلم يكن تشغله الخطابة ولا بلاغة القول، بل كان الإنجاز هو
ما يعنيه من خلال الصامت والدءوب، والمصارحة بالحقائق.
٧٠ كانت مهمة فريد هي تحويل الشعارات الوجدانية التي أراد بها مصطفى كامل
إيقاظ الوعي القومي في نفوس المصريين إلى واقع عملي يعتمد على جماهير الشعب في الريف
والمدن. ومن هنا، كان ذلك الاهتمام المفاجئ الذي أبداه الحزب الوطني منذ عام ١٩٠٨م
بالحركة النقابية. نحن نلحظ أن الحزب الوطني — حتى وفاة مصطفى كامل في ١٠ فبراير ١٩٠٨م
—
بل ومنذ بدأ مصطفى كامل نشاطه في أول القرن، إلى قيام الحزب الوطني رسميًّا في ١٩٠٧م،
لم
يكن قد عني بالمشكلات العمالية والنقابية، ولم يكن ثمة ما يشير إلى اتجاه الحزب، أو
زعيمه، نحو العمل النقابي. ثم لم يمضِ على وفاة مصطفى كامل بضعة شهور، وتولى محمد فريد
رئاسة الحزب، حتى قام الحزب — بتأثير فكرة التناقض الطبقي بين العمال وأصحاب رءوس الأموال
— بتشكيل نقابة الصنائع اليدوية، لتصبح أوسع تنظيم نقابي في القاهرة والأقاليم، وإحدى
ركائز الحزب في العمل الوطني جنبًا إلى جنب مع التعاونيات الزراعية ومدارس الشعب. كما
دعا صالح حمدي حماد (١٩١٣م) إلى تأليف النقابات، و«أن تشكَّل من رؤساء كل طائفة من طوائف
العمال جمعية، تضم إلى عضويتها كبار هذه الطائفة، لتدير أمر صغار العمال على قواعد، أو
تؤلِّف لهم جمعية تعاون لادخار جزء من الأجور، يُستثَمر ويُدَّخر لصاحبه، يُنتفَع به
عند الفوز،
وحين الحاجة.»
٧١
والواقع أن اهتمام محمد فريد بالحركة العمالية لم ينطلق من خواء، فقد كان يعقد
المقارنات — دومًا — بين واقع العمال في مصر وواقعهم في الخارج، وكان تقديره أن الطبقة
العاملة هي الأرض الصالحة لبذر النضال ضد الاحتلال، وإن كان يعوزها الوعي السياسي،
٧٢ فهو يلقي خِطابًا في مارس ١٩١٢م يقول فيه: «إن أمامنا الآن في اعتصاب عمال
الفحم في إنجلترا أكبر برهان على قوة الاتحاد، فقد اعتصب منهم ما يزيد على المليون،
ووقَّفوا حركة الأعمال في هذه المملكة التي إن وقفت حركتها بضعة أيام، أصبحت في خطر داخلي
عظيم … انظروا ما هو حاصل في ألمانيا، وإلى ما وصل إليه العمال من النفوذ في مجلس
نوابهم، وكذلك في فرنسا وغيرها، ثم أرجعوا البصر إلى حال العمال أمس في مصر، سواء كانوا
عمال الصنائع أو عمال الزراعة، وانظروا تحكم الشركات الأجنبية مثل شركات الترامواي
والسكك الحديدية وما شاكلها في معاملة العمال.» ودعا محمد فريد إلى «العناية بنقابة
عمال الصناعة، وبث مبدأ التضامن والدفاع عن حقوقهم، واستصدار القوانين الضامنة لهم عدم
التكفف عند الشيخوخة، أو عقب الإصابة، مما يمنعهم عن الكسب.»
٧٣ ويكتب «اللواء» عقب إضرابات عمال الترام (٥ أغسطس ١٩١١م) «إن قضيتكم هذه
ليست قضية عمال الترامواي فقط، بل هي قضية جميع العمال في مصر، وقد جاءت حادثتكم بعد
حادثة عمال العنابر، دليلًا على أنه أصبح في مصر قوة لا يستهان بها، وهي يقظة قوى طبقة
العمال في البلاد الشرقية، وتنبُّههم إلى مصالحهم وحقوقهم ورغبتهم في أن يكونوا بشرًا
كسائر البشر.»
٧٤
ثم عرفت البلاد — لأول مرة — المظاهرات الشعبية المنظمة التي كانت تضم عشرات الألوف
من طوائف الشعب المختلفة: تجتمع في حديقة الجزيرة، ثم تسير إلى قلب القاهرة، هاتفة
بالاستقلال، حتى تقف في مواجهة قوات البوليس وجنود الاحتلال، فتشتبك معها في معارك
ضارية، ويسقط العشرات. «دخلت الجماهير، الأفندية والعمال والفلاحون مرة أخرى وبخطى
حثيثة إلى المعركة، وبدأت إرهاصات الانتفاضة المقبِلة تلوح. انطلق الرصاص ضد الخونة،
وسارت أولى المظاهرات الشعبية الكبيرة، وساور الخوف والقلق ساسة الاحتلال، وصاحوا
«عرابي مرة أخرى»، وبدءوا سياسة قمع جديدة إزاء ماردٍ بدأ يصحو ويتقلب، وكانت الثورة
القادمة في حاجة إلى قيادة شعبية مناضلة تتمرس بالكفاح بين الجماهير، وتعدها للمرحلة
الجديدة للميدان الجديد في الشارع.»
٧٥
أدرك محمد فريد أن التحرك النضالي يجب أن يجاوز أسلوب الشعارات والخطوط العامة، إلى
أسلوب أكثر واقعية وارتباطًا بالجماهير التي تضع التحرك نحو تحقيق أهداف النضال. لم تكن
مواجهة الاستعمار — في تقديره — مجرد خُطب لإشعال الحماسة الوطنية. ذلك دور أدَّاه —
باقتدار — سلفه مصطفى كامل، لكنه قام بخطوة أكثر إيجابية بالعمل على الالتصاق
بالجماهير، ومحاولة تحريكها، والإفادة من التنظيمات النقابية، والحركات الثورية في مصر
والعالم. كان مصطفى كامل يدعو المصريين إلى الإيمان بوطنهم، ويفضح الاستعمار، ويحرض
الدول الأجنبية ضده. أما محمد فريد فقد اتجه إلى تنظيم الشعب نفسه، إلى تنظيم فئات
الشعب المختلفة. وإذا كان مصطفى كامل هو رجل الكلمة الثورية، فإن محمد فريد هو رجل
الفعل الثوري، ذلك التزامه الذي حرص عليه منذ تولى قيادة الحزب الوطني في ١٤ فبراير
١٩٠٨م، بعد شهرين فقط من إعلان تأليف الحزب. اتجه إلى الجماهير المصرية، بدءًا بتنظيم
قواعد الحزب الشعبية، وانتهاءً بتشجيع إنشاء النقابات العمالية، والتأكيد على حقوق
أفرادها؛ ولأن الدستور كان أحد أهداف محمد فريد الأساسية، فقد طالب به في عريضة طبع
منها بضعة ألوف، ودعا الشعب إلى توقيعها، وإرسالها إليه، ليقدمها إلى الخديو. وتسلَّم
محمد فريد الدفعة الأولى من التوقيعات ٤٥ ألف توقيع، ثم الدفعة الثانية ١٦ ألف توكيل.
وتوالت التوقيعات، وقدمها محمد فريد بنفسه إلى الخديو تطالب «بإنشاء مجلس نيابي يكون
عونًا لحكومتكم السَّنيَّة على نشر العلوم والمعارف، ويساعدكم على ترقية البلاد.»
٧٦ وفي ديسمبر ١٩٠٨م — بتأثير تحركات محمد فريد — أصدر مجلس شورى القوانين
قرارًا «يطلب من حكومة الجناب العالي إعداد مشروع قانون يمنح الأمة الاشتراك الفعلي مع
الحكومة في إدارة أمورها الداخلية، وتدبير شئونها المحلية.» وبالطبع، فقد أحدثت تلك
التحركات تأثيرها في جموع الشعب، تجمَّع طلبة الحقوق صباح التاسع من نوفمبر ١٩٠٨م — يوم
العرض السنوي لقوات الاحتلال — وراحوا يهتفون: يعيش الاستقلال، وردَّد الهتاف آلاف
المواطنين الذين تجمعوا في المكان نفسه، وهتف جنود الاحتلال في استعراضهم: ليحيا الملك!
— ملك إنجلترا بالطبع — فهتفت جموع المواطنين: ليحيا الاستقلال! لتحيا الحرية!
وكانت معركة مد امتياز قناة السويس من أخطر المعارك التي خاضها محمد فريد في قيادة
الحركة الوطنية. كانت حكومة بطرس غالي تُعِد لمد الامتياز — في سرية وتكتم — أربعين سنة
أخرى
مقابل ٤ ملايين جنيه، تدفعها الشركة على أربعة أقساط سنوية. وظل المشروع مودعًا في أدراج
السرية عامًا كاملًا. ثم تمكَّن محمد فريد من أن يحصل على نسخة منه، قبل أن ينجح رئيس
النظار بطرس غالي في إقراره بأيام قليلة، وبادر إلى نشره ﺑ «اللواء» في أكتوبر ١٩٠٩م
متسائلًا: «كيف يجوز لهذه الحكومة أن تتساهل في أمر إطالة أمد الشركة، مع علمها أن هذه
القناة كانت السبب في ضياع استقلال مصر، وكل مصري يتوق لأن يراها ملكًا لمصر، حتى لا
يبقى لأوروبا وجهًا للتدخل في أمورنا؟»
٧٧ كان هجوم محمد فريد على المشروع جرس تنبيه للملايين المصرية، وتبدَّت ردود
الأفعال في مظاهرات، ومقالات صحفية، واجتماعات جماهيرية متواصلة، ومأزق للسلطتين
التنفيذية والتشريعية، واجهتاه بتمثيلية اشترط ممثِّلها الأول أن يسدل الستار برفض
المشروع قبل أن يشارك — في البداية — بتأييده. وقد طالبت اللجنة الإدارية للحزب الوطني
بعرض المشروع على الجمعية العمومية قبل البت فيه، واضطرت الحكومة — تحت ضغط الرأي العام
— إلى دعوة الجمعية العمومية للانعقاد. وانتهت اللجنة المتفرعة عن الجمعية العمومية إلى
وجوب رفض المشروع بإجماع الآراء، وحددت جلسة ٤ أبريل ١٩١٠م لمناقشته، وتولى سعد زغلول
وزير الحقانية — آنذاك — الدفاع عنه، ورُفِض المشروع — ختامًا — بإجماع الآراء.
•••
يسأل أبنوم في محكمة الآخرة: خبِّرني كيف يترك زعيم أمته في محنة ليجاهد في
الخارج؟
يقول محمد فريد: دبَّروا للزج بنا في السجن.
يقول أبنوم: ولكن الزعيم الحق يعلم أنه خُلِق للسجن أو القتل، لا للجهاد في الخارج.
يقول محمد فريد: كان الجهاد في الخارج ضمن خطتنا الوطنية منذ أيام مصطفى كامل.
يقول أبنوم: قد يُقبَل كعملٍ إضافي لاستكمال العمل الأصلي في الداخل، أما أن تهاجر
أنت
والقادة تاركين حزبكم بلا قيادة حقيقية، فهو تصرف بعيد عن الشجاعة والحكمة معًا.
٧٨
كانت سلطات الاحتلال قد خططت لبقاء محمد فريد في السجن دومًا؛ يخرج منه ليعود إليه.
أودع السجن لمدة ستة أشهر في أول عام ١٩١١م، ثم وجد نفسه — بعد تسعة أشهر — مطلوبًا مرة
ثانية للسجن. وبعد إلقائه خِطابه بالجمعية العمومية للحزب الوطني في مارس ١٩١٢م استُدعي
للنيابة. ويقول محمد فريد في مذكراته «وفي هذه اللحظة صممت على ترك مصر.» أدرك أنه لو
لم يفطن إلى ما دبرته له سلطات الاحتلال، فسيقضي ما تبقى من حياته في السجن. يقول
لزوجته: «لقد تأكدت يا عائشة أن الاحتلال وأعوانه سيزجون بي في السجن غدًا. إنني لم أقل
لك الحقيقة عندما حضر الضابط أمس. لقد حققت النيابة معي هذا الصباح، ورفض وكيل النيابة
أن ينفذ الأوامر الصادرة بالقبض، ونقلوا التحقيق إلى وكيل نيابة آخر. إنهم يريدون
إعادتي إلى السجن، وكلما خرجت أعادوني إليه مرة أخرى. يريدون أن يُسكِتوا صوتي، وأن
يقصفوا قلمي، ولكني لهم بالمرصاد، ولن يصلوا لي مرة أخرى. لقد عزمت أن أهاجر إلى
أوروبا، أحاربهم وأحمل عليهم في كل مكان. ولقد عهدتك — يا زوجتي — سندًا وعونًا في
الدعوة التي كرست لها حياتي، وطالما احتملت من أجلي، فاصبري وتجلَّدي. إنني أنا، وأنت،
وأولادي، وكل ما أملك، فداء مصر.»
٧٩ وغادر البلاد — سرًّا — في ٢٦ مارس ١٩١٢م، وفي ٣١ مارس ١٩١٢م أصبح محمد فريد
في مأمن من قبضة السلطات البريطانية. وصل إلى الآستانة تنفيذًا لقراره — الذي لم يكن
يملك، موضوعيًّا، سواه — بعد أن أسفرت السلطات البريطانية عن نيَّاتها في معاودة مصادرة
حريته.
٨٠
لم يكن ما فعله محمد فريد إذن فرارًا من النضال، لكنه فرار من السجن الذي لم يكن
يتيح
له الحركة التي أثمرت إيجابيات عديدة في منفاه الاختياري بين تركيا وألمانيا وسويسرا.
كان لجوءُه إلى المنفى نوعًا من المقاومة ضد الوجود الاحتلالي في مصر. وكتبت جريدة
«العلم» التي كان يصدرها الحزب الوطني ترجو «أن يبقى رئيسنا بعيدًا عن مصر ليعمل على
تحقيق أمانيه آمنًا مطمئنًا حتى لا تقطع عليه أيام السجن حِبال العمل … وإن من الجناية
على الأمة أن يختزل أبطالها أيام عملهم.»
٨١ وأشارت «المقطم» إلى أن الحكومة المصرية أخذت تفاوض حكومة سويسرا، بهدف
تسليم محمد فريد، لاتهامه بتهمٍ جنائية، وأنه ينتظر وصول جواب حكومة سويسرا من ساعة لأخرى.
٨٢ كما تحدثت «الأهرام» عن المفاوضات المتبادَلة مع الحكومة الفرنسية — النائبة
عن الحكومة السويسرية في علاقاتها مع الحكومة المصرية — لطلب جلب محمد فريد.
٨٣ وإذا كان محمد فريد قد آثر الفرار بحريته وحرية حركته إلى الخارج، وقدَّم
إسهامات فعلية لصالح القضية المصرية، فإن عبد الرحمن فهمي حين شعر أن الخطر يحدق به —
والتعبير له — فضَّل أن يعتزل الحياة السياسية.
٨٤ ويقول محمد عودة: «عرف محمد فريد العالم الخارجي كما لم يعرفه زعيم مصري،
وأدرك القوى الحقيقية المعادية، وكيف يمكن، ومع من، يجب التحالف أو التعاون، ولكن لا
تجدي هذه المعرفة بغير وجهها الآخر، وهو معرفة واقع مصر، ونبض مصر، وقوى مصر الجديدة،
والانغماس فيها. وربما لو بقي محمد فريد في مصر، وسُجِن، وخرج، ثم سُجِن، ولو تقدم
المظاهرات ونظمها، وعاش بين الطلبة والعمال والفلاحين، لظل زعيم الثورة، لكنه بقي بعيدًا.»
٨٥ كان محمد فريد غائبًا في أوروبا في أثناء نظر دعوى ديوان الشيخ الغاياتي
«وطنيتي»، ومن الطبيعي أنه كان يدرك من تفاهة الاتهام، مقابلًا لتحويل القضية إلى محكمة
الجنايات، وماذا تعنيه سلطات الاحتلال بالاتهام، وبالمحاكمة … لكنه قرر أن يعود إلى مصر
ليواجه مصيره. وقد انهالت عليه رسائل الأصدقاء تطلب منه عدم العودة إلى القاهرة حتى لا
يواجه عقوبة السجن، لكن فريد يقضي على كل تردد في نفسه، بعد أن أرسلت إليه ابنته الشابة
فريدة تدعوه للعودة إلى مصر، ومواجهة مصيره: «لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به
على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يُقال بأنكم هربتم.» … و«أختم جوابي
بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها، أن تعودوا
وتتحمَّلوا آلام السجن.» ويصل فريد إلى القاهرة، وتستدعيه النيابة لتحقق معه في المقدمة
التي كتبها لديوان الغاياتي. ويحال
إلى المحاكمة، ويقف في قفص الاتهام صامتًا هادئًا، يرفض الدفاع عن نفسه، ويرفض أن يدافع
عنه أي محام؛ فالمسألة برمتها لا تعدو مهزلة سخيفة! وبالهدوء والصمت يواجه الحكم عليه
بستة أشهر. ورغم نحيب المئات الذين شهدوا المحاكمة، فإنه يسلِّم نفسه إلى حراسه ليواجه
—
في داخل السجن — محاولات الاستمالة والغواية بإرادة نادرة. في غرفة السجن، يقول له —
بالفرنسية — كولسن باشا مدير مصلحة السجون: إنني أسعى للعفو عنكَ إذا وعدتَ بتغيير خطتك.
– إن ما تطلبه مستحيل.
– إنني لا أطلب منك تغيير مبادئك، بل تخفيف لهجتك.
– …
– أنت إذن تريد قضاء الستة شهور في السجن؟
– نعم … وأزيد عليها يومًا إن أردتم.
وبعث محمد فريد — من داخل السجن — رسالة إلى لطفي السيد الذي كان يدعو في «الجريدة»
إلى
العفو عنه، يطلب إليه أن يمتنع عن طلب العفو «فإن هذا ما لا أقبله ولا أرغب فيه.»
٨٦ ثم يزوره في السجن الدكتور عثمان غالب، مبعوثًا من الخديو، ويقول
له: إن الخديو مستعد للعفو عنك إذا قدمت طلبًا بذلك.
– أنا لا أطلب العفو، ولا أسمح لأحدٍ من عائلتي بطلبه عني، وإذا صدر العفو فلن أقبله.
وفي الساعات التي سبقت الإفراج، يكتب في مذكراته: «مضى عليَّ ستة أشهر في غيابات
السجن، ولم أشعر قطُّ بالضيق إلا عند اقتراب أجل خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر،
وهو سجن الأمة المصرية الذي تحدُّه سلطة الغزو، ويحرسه الاحتلال.»
٨٧ محمد فريد عاد إلى مصر إذن وهو يعلم تمامًا بنية تقديمه إلى المحاكمة،
ومواجهة عقوبة السجن، ويرفض — حين يواجه المحاكمة بالفعل — أن يدافع عن نفسه بكلمة،
ويرفض أيضًا كل محاولات الغواية داخل السجن. وقبل أن يغادر أسوار السجن، يصارح نفسه بأن
السجن الكبير الذي تحوط أسواره مصر، أشد قسوة من السجن الصغير الذي يواجهه.
ولعل خير تعليل لما سُمي بفرار محمد فريد هذان السؤالان اللذان طرحهما أحمد بهاء
الدين: هل يبقى محمد فريد في مصر مغامرًا بحريته التي سوف تضيع، فلا يستطيع أن يصنع
لوطنه شيئًا، أو يفرُّ بعقيدته من مصر، مضحيًا بوطنه وأسرته، محتفظًا بحريته؟
٨٨ كان السجن وسيلة متأخرة لجأت إليها سلطات الاحتلال بعد أن أخفقت كل الوسائل
الأخرى لتقليص دور محمد فريد في تنشيط الحركة الوطنية، وفي قيادتها. وقد عبَّر فريد عن
إدراكه للمخطط الذي دُبِّر له: «حقيقة، لم أشعر بأي انشراح عند حلول أجل مفارقتي لهذه
الغرفة الضيقة التي قضيت فيها مائة وستًّا وسبعين ليلة كاملة، لعلمي أني خارج إلى سجن
أضيق، ومعاملة أشد، محرومًا من الضمانات التي منحها القانون العام للقتلة وقطَّاع الطرق،
فلا أثق أني أعود لعائلتي إن صدر مني ما يؤلم الحكومة من الانتقاد، بل ربما أوخذ من محل
عملي إلى النيابة، فالسجن الاحتياطي، فمحكمة الجنايات، إلى السجن النهائي! وستبقى
حالتنا كذلك حتى نسترد حريتنا.»
٨٩ وبعد الحكم على محمد فريد بستة أشهر بسبب ديوان «وطنيتي»، علَّق أمين الرافعي
على الحكم بأن هناك إجماعًا على الاستياء «إجماعًا على أن الحكم صارم، إجماعًا على أنه
إذا
كان لا بد من الحكم، فكان إيقاف التنفيذ واجبًا، إجماعًا على الدهشة من تفاوت الأحكام
في
قضية واحدة، ولتهمة واحدة، إجماعًا على التساؤل عن سر هذا التفاوت الغريب، إجماعًا على
أن
قانون إحالة جنح الصحافة على محكمة الجنايات، مع حرمان المتهم من الضمانات التي يتمتع
بها اللصوص وقطَّاع الطرق وسفاكو الدماء، كان من أشد الضربات التي آلمت الأمة.»
٩٠
وقد تحددت أبعاد الصورة منذ خروج محمد فريد من السجن، بعد الأشهر الستة التي قضاها
في
قضية تقديمه لديوان الغاياتي، والتفاف الجماهير المصرية حول زعامته بصورة لم تعرفها
البلاد من قبل، ربما حتى أثناء زعامة مصطفى كامل. صار واضحًا أن خطة سلطات الاحتلال
تتجه في إثناء محمد فريد عن السير في الدرب إلى غايته، بأية وسيلة. فشلت محاولات
الترغيب، وتعطيل الاجتماعات، ومصادرة الصحف الوطنية … إلخ، ومن ثَم كان اللجوء إلى تقديم
فريد للمحاكمة بأية تهمة، ليغيب في السجن بضعة أشهر، أو بضع سنوات، تغيب صورته بالتالي
عن الجماهير المصرية، ويُقدَّم — بعد المحاكمة — إلى محاكمة أخرى، بتهمة أخرى، وهكذا
… حتى
يعجز الرجل تمامًا عن أداء دوره في الحياة السياسية، فيدركه اليأس من مواصلة النضال،
أو
أن تحل — في غيابه — زعامات جديدة، ربما تكون أشد ميلًا إلى المهادنة مع سلطات
الاحتلال، أو اختلاق زعامات عميلة. ولم يعُد أمام محمد فريد إلا أن يهاجر بمبادئه،
ليواصل النضال في الخارج حتى تتحقق — في وطنه — تلك المبادئ. كانت الخطة الواضحة هي نفي
الرجل في داخل مصر، باختلاق التهم التي تدفع به إلى السجن، حتى يتلاشى دوره الإيجابي
في
الحركة الوطنية، فآثر أن يُنفى بإرادته إلى الخارج؛ ليواصل الدعوة لقضية بلاده. وبديهي
أن محمد فريد أفاد القضية المصرية — بعد نفيه الاضطراري إلى الخارج — أضعاف ما كان قد
يتسنى لها من فائدة — بزعامته — وهو في الداخل، بل لقد كان محتمًا أن يذوي دور محمد
فريد تمامًا، بعد أن يتكرر دخوله السجن، وغيابه عن الساحة السياسية، الوطنية.
•••
حين تسلل محمد فريد إلى سفينة الركاب الروسية «الملكة أولجا» لم يكن يتصور — هو نفسه
بل الآخرون — أنه لن يعود إلى مصر ثانية، لكنه أمضى خارج مصر سبع سنوات وسبعة أشهر
وتسعة عشر يومًا، حتى أدركه الأجل في برلين يوم السبت ١٥ نوفمبر ١٩١٩م. وعمومًا، فقد
ترك
محمد فريد في السنوات القلائل التي تولى فيها قيادة العمل الوطني، بصمات واضحة على
مظاهر الحياة السياسية، ودفع بالأماني الوطنية خطوات فسيحة في سبيل التحقيق، بالرغم من
التجاهل التام والعقوق الذي صادفه الرجل بعد رحيله المفاجئ إلى الخارج، فرارًا من قبضة
سلطات الاحتلال.
ولعله يمكن القول إن كل النتائج السلبية التي عاشها الواقع المصري، بعد اختيار محمد
فريد أوروبا منفًى دائمًا، مثل إحداث بعض الشروخ في قيادة الحركة الوطنية من قِبَل الخديو
وسلطات الاحتلال، وتوقُّف إنشاء النقابات العمالية والأندية والروابط، وإغلاق عدد كبير
من
مدارس الشعب … إلخ، كل تلك النتائج السلبية، كانت ستحدث — غالبًا — لو أن محمد فريد ظل
في موقعه كرئيس للحزب الوطني، وزعيم للحركة الوطنية، ذلك لأن خطة السلطات البريطانية
والخديو — في آنٍ معًا — كانت تهدف إلى أن يُنفى في الداخل، بإيداعه السجن كلما خرج منه،
بديلًا لمنفاه الاختياري في الخارج. ومن المؤكد أن وجوده في الخارج قد أفاد القضية
المصرية أضعاف ما كان سيفيدها لو أنه ظل صيدًا لمؤامرات الإنجليز والخديو … وهل كان
سيقول على تحقيق تلك الفائدة على الإطلاق؟
وبعد أن وصل محمد فريد إلى الآستانة، أشاع بعض العملاء أنه بعث — قبل سفره من مصر
—
برقية إلى وزير خارجية بريطانيا، يشكو فيها تصرفات سلطات الاحتلال إزاءه شخصيًّا، ويطلب
منها التدخل لإنصافه، وقرأ فريد ما كتبته صحف الآستانة حول البرقية المزعومة، فكتب إلى
جريدة «جون ترك» يقول: «إني لو حُكِم عليَّ بالموت، وكانت حياتي معلَّقة على كلمة تخرج
من فم
وزير إنجليزي، لفضَّلت ألف ميتة على مخاطبة هذا الوزير في شأني، فلقد رفضت طلب العفو
عني
من الخديو، وهو حاكم البلاد الشرعي، عندما حُكم عليَّ في العام الماضي بالسجن ستة أشهر،
وفضَّلت البقاء مسجونًا على إمضاء طلب العفو.»
٩١ إشاعة ثانية، وصلته وهو بالآستانة، أن الخديو أعطاه ثلاثمائة جنيه كنفقات
للسفر، وأنه هو الذي أشار عليه بالهجرة من مصر، وكان مصدر الإشاعة الخديو شخصيًّا، ورئيس
وزرائه محمد سعيد باشا. ولم يكتف محمد فريد بتكذيب الخبر لمن نقلوه إليه، وإنما بعث
بخِطابٍ مسجل (١١ يونيو ١٩١٢م) إلى الخديو الذي كان يمضي إجازة الصيف في قصره بالسفور:
«لقد علمت من الأخبار الواردة من مصر، أنكم كلَّفتم أحد إخواني ممن يترددون عليكم بأن
ينصحني بالسفر عقب استجوابي بالنيابة، في ٢٥ مارس ١٩١٢م قبل هجرة فريد في ٢٦ مارس، وأنكم
سلَّمتم له مبلغًا من المال ليوصله إليَّ، مساعدة لي على مصاريف السفر … ولكني أكتمه
الآن،
فاستغربت جدًّا حصول هذا الأمر بعدما كتبته لكم بخصوص حادثة حامد العلايلي والثلاثمائة
جنيه التي أخذها باسمي، وطلبت منكم عمل تحقيق بخصوصها، ولكنكم أهملتم أمرها. وبعد أن
أعلمتكم أني أترفَّع عن قبول أي مساعدة منكم ولو كنت في أحط دركات الفقر، مع أني — بحمد
الله — في سعة من العيش، فلتكونوا على ثقة بأن كل ما يؤخذ منكم باسمي هو من باب النصب،
وإني لا أقبل، ولن أقبل منكم أي مساعدة ما دامت مهمتي الجهاد في تحرير البلاد من
الإنجليز، ومِن كل مَن يعاونهم على توطيد قدمهم في مصر، كائنًا من كان، والسلام على من
اتبع الهدى. المخلص لمصر: محمد فريد.»
٩٢ وبعث إليه أحد أصدقائه ينبِّئه بانفضاض بعض أنصاره من حوله، والتحاقهم بوظائف
حكومية في ظل موافقة سلطات الاحتلال وسطوتها، فكتب إلى صديقه يقول: أما أنا فسياستي لن
تتغيَّر، ولو بقيت عليها وحدي. وعرضت عليه الحكومة العثمانية — وهو في منفاه — بعض
المناصب الهامة، ومن بينها عميد كلية الحقوق بالآستانة، لكنه اعتذر عن قبول أي منصب،
حتى يضع كل وقته وطاقاته في خدمة القضية التي نذر لها نفسه.
٩٣
•••
اتسمت الفترة منذ رحيل فريد عن مصر إلى قيام الحرب العالمية الأولى، بتفاقم الخلاف
بينه وبين الخديو عباس، في حين توثَّقت علاقته بدولة الخلافة لمواجهة ملاحقة سلطات
الاحتلال البريطاني له.
٩٤ مع ذلك، فإن محمد فريد ظل على شعاره «مصر للمصريين» الذي يرفض الولاء إلا
لمصر وحدها، حتى وهو في منفاه بالآستانة. كانت ظروف الحياة في الآستانة في أثناء إقامة
محمد فريد بها، في غاية القسوة. فالعودة إلى مصر تعني زجَّه في السجن، وأوروبا مشغولة
إلى
أذنيها بأهوال الحرب، لكنه كان يناقش — بهدوء — خطط الأتراك في الحقوق المصرية، دون أن
يشغله ما قد يجرُّه عليه ذلك من غضب الأتراك ونقمتهم. كان ما يعنيه أن يدافع عن القضية
التي وهبها ذوب نفسه. ولم يجد حرجًا — في ظروف حصاره الغريب — في أن يعلِّق في عروة بدلته
شعار «مصر للمصريين»،
٩٥ وأبلغه المسئولون الأتراك أن الصدر الأعظم ينقم عليه نزعته المصرية،
وإعلانه شعار مصر للمصريين، وقوله «إن الجيش العثماني لا يمكث في مصر بعد جلاء الإنجليز
عنها أكثر من أربع وعشرين ساعة، ثم يجلو هو عنها.»
٩٦ وقيل للرجل إنه في حالة عودته إلى تلك الأحاديث سيواجِه عقوبات عنيفة
وقاسية، فقال محمد فريد — ببساطة — إن «مصر للمصريين» ليس شعارًا للمساومة ولا للتباهي،
لكنه مبدأ وقضية حياة، وإن مصر لا بد أن تكون للمصريين.
٩٧ وبينما كان الشيخ عبد العزيز جاويش يتزعم اتجاهًا واضحًا نحو الخلافة
العثمانية، بكل ما تنطوي عليه من تبعية لتركيا، وعبد الله طلعت يرأس اتجاهًا يحرص على
التبعية للخديو، فقد ظل محمد فريد حريصًا على الحركة الوطنية المصرية، وعلى السلامة
المصرية عمومًا، فهو يتناقض مع الخديو عباس حول قضية الدستور، أو القضية الديمقراطية،
لكنه — في الوقت نفسه — يأمل في نجاح الغزو التركي الألماني إبان الحرب العالمية
الأولى، حتى تعود مصر إلى أهلها.
٩٨ ويروي العقاد أن طلعت باشا — أخطر رجال الدولة التركية في عهده — كان يعجب
لأن محمد فريد وصحبه ينكرون على الأتراك حكم مصر، مع أنهم — في تقديره — يتكلمون
التركية خيرًا مما يتكلمه أهل الآستانة. لكن فريد وصحبه ظلوا يحملون شعارهم «مصر
للمصريين»، ويعلنون استنكارهم حتى تعذَّر عليه البقاء في العاصمة التركية، فهجرها إلى
أوروبا.
٩٩ كان عدد الطلبة المصريين الذين يدرسون في أوروبا نحو ستمائة طالب، نصفهم —
في الأقل — يدرس في الجامعات الفرنسية. وقد حرص فريد — منذ رحيله إلى أوروبا — على
زيارة الطلبة المصريين في أماكن إقامتهم ودراستهم، وكان يهدي إليهم مسدسات على أنها
ساعات سويسرية، ويحثُّهم على التدرب على استعمال الأسلحة والمفرقعات في المناطق الجبلية
في فرنسا وسويسرا وهولندا وبلجيكا.
١٠٠ وعني بإنشاء حركة طلابية من الطلبة المصريين الذين يتعلمون هناك، ليصبحوا —
بعد عودتهم إلى مصر — من قيادات الحزب الوطني، ومن أعضائه، ولتظل الحركة الوطنية
المصرية قوية، ومتصلة. ثمة الجمعية المصرية في أكسفورد ببريطانيا، والجمعية المصرية في
لندن، وجمعية الطلبة المصريين في ليون، وجمعية الطلبة في مونبلييه، وجمعية الطلبة
المصريين في باريس، وجمعية النيل في جنيف، وجمعية إخوان النهضة العلمية المصرية في ألمانيا.
١٠١ وكان عدد الطلبة المصريين في أوروبا — قبيل الحرب العالمية الأولى — ٧٠٠
طالب، منهم ٤٠٠ طالب في فرنسا وحدها.
١٠٢ والملاحَظ أنه بعد انقضاء أشهر قليلة على سفر محمد فريد إلى الخارج، عيَّنت
الحكومة المصرية بعض موظفيها لمراقبة الطلبة الذين يدرسون في جامعات أوروبا. ويقول محمد
فريد في مذكراته، إن تلك الوظيفة «لم تفكر فيها الحكومة إلا بعد هجرتي من مصر.»
١٠٣
وقد استطاع محمد فريد أن يربط قضية الاستقلال المصري بقضية الاشتراكية الدولية. شارك
في كل مؤتمرات الاشتراكية الدولية، وقدَّم إليها جميعًا مذكرات ضافية بمطالب مصر … مؤتمر
بروكسل في ١٩١١م … مؤتمر برن في فبراير ١٩١٩م … مؤتمر لدسرن في أغسطس ١٩١٩م.
١٠٤ واستطاع فريد أن يفوز — في مؤتمر بروكسل — بالقرار التالي: «يظهر المؤتمر
تأييده للأمة المصرية، التي تعمل لبلوغ غاياتها بالوسائل السلمية. ويرى أن مبادئ الحق
والعدالة، وكذلك مصلحة التجارة الدولية تقضي باستقلال مصر وحيدتها، وأن تكون محكومة
بحكومة أهلية دستورية.»
١٠٥ كما شارك محمد فريد في مؤتمر السلام باستوكهلم (أغسطس ١٩١٠م) ومؤتمر السلام
في جنيف (١٩١٢م) ومؤتمر السلام في لاهاي (أغسطس ١٩١٣م) ومؤتمر الأجناس المضطهدة (١٩١٦م).
والحق أن محمد فريد لم يخفِ ميله إلى الاشتراكية منذ فترة باكرة، ففي أول يوليو ١٩١١م
نشرت «اللواء» مقالًا عن الاشتراكية في مصر، جاء فيه: «إن المصري كان لا يعرف شيئًا عن
الاشتراكية قبل عهد إسماعيل، من الموظف الصغير إلى العامل الحقير، إلا أن تطور النظام
الاجتماعي أدى إلى ظهور الاشتراكية، ونظرًا لأن الأموال المستثمرة أجنبية، وأن هناك
الدَّين المصري الرسمي والأهلي، فإن نظرية إدخال مبدأ الاشتراكية في الحكم، لا يمكن
تطبيقها على حالنا في مصر بدون خطر يهدد كياننا، أما الاشتراكية من حيث تعاليمها
الاجتماعية، فإننا في مقدمة مَن يدعو إليها ويبشِّر لها، لأننا نرى فيها الضمان لحفظ
التوازن ما بين غنينا الجاهل المتكبر وفقيرنا المجد البائس.»
١٠٦ ولعلنا نتبيَّن خطورة اتجاه محمد فريد إلى الاتجاه الاشتراكي العالمي في
مطالع القرن، بأن قادة الوفد المصري رفضوا — في باريس عام ١٩٢٠م — أن يتصلوا بالأحزاب
الاشتراكية الفرنسية لتسهم في الدعاية للقضية المصرية، حتى لا يُتهَم الوفد بالشيوعية،
وفضَّل القادة الذين كانوا يعبِّرون عن انتماءاتهم الطبقية والفكرية إلى كبار الملاك
وكبار
الرأسماليين، أن يرسلوا مبعوثًا إلى أمريكا للدعاية للقضية المصرية. كذلك فقد لبَّى محمد
فريد دعوة مؤتمر الأجناس المضطهَدة الذي عُقد بلندن في فبراير ١٩١٤م، وضغط في خُطبته
أمام
المؤتمر على مبدأ مصر للمصريين.
١٠٧ وكانت السيدة درايهيرست الأيرلندية قد بعثت إليه دعوة لحضور المؤتمر،
فاعتذر بأنه يود ذلك، لكن ضيق ذات اليد يمنعه. واتصلت السيدة بمن تعرفهم من المصريين،
وطرحت أمامهم المشكلة، فتبرعوا بقيمة تذكرة السفر من جنيف إلى لندن والعودة، وأسهمت هي
ببقية المبلغ وكان ١٦٥٫٢٥ فرنكًا، وقبِل محمد فريد الدعوة! وفي أعقاب الحرب العالمية
الأولى مباشرة، تكوَّنت اللجنة المصرية للدفاع الوطني، وفي الثاني من أبريل ١٩١٩م طالب
محمد فريد باسم اللجنة، مؤتمر الصلح المنعقد بباريس:
والحق أنه كان بوسع محمد فريد أن يجاوز أسوار المحنة القاسية، بعد انقطاع المعونة
التي كان يُبعث بها إليه، وأن يجد الوسيلة المادية التي تمكِّنه من السفر إلى بلد ذي
جو
دافئ، حرصًا على حياته. أقول: كان بوسع محمد فريد أن يجاوز أسوار المحنة لو أنه عاد إلى
مصر من فوره، وقبِل واحدًا من المناصب الكبرى التي عُرضت عليه. وتنقَّل الرجل بين
المستشفيات المجانية في سويسرا للعلاج من مرض في الكبد، وأهمل في عجز نصائح الأطباء بأن
يعالج مرضه بالدفء والغذاء. ولعلها لا تخلو من دلالة مؤلمة، تلك الرسالة التي بعث بها
محمد فريد إلى أسرته، يطلب أن ترسل له — في أيام العيد — بعضًا من الكعك! ومن رسائل
فريد إلى أسرته ما كتبه في ١٧ أكتوبر ١٩١٣م: «وصلني خِطابكم الرقيم ١٢ أكتوبر ١٩١٧م،
ودهشت
جدًّا من الخبر الذي تذكرونه، وهو أن الخديو رتَّب لي ٧٠ جنيهًا في الشهر، فإن هذا الخبر
غير صحيح، ولم أتقابل معه مطلقًا، ولم أره من بعد. وكيف أقبل مرتبًا، وأبيع حرية ضميري؛
إذ لم أستلم إلا ما يرسله إليَّ إسماعيل كامل بك، وهو خمسة عشر جنيهًا كل شهر. ومرتب
هذا
الشهر لم يصلني. ومن الغريب جدًّا أني اعتدت هذا الضيق حتى أصبح عادة، بعد أن كان لا
يكفيني لمصروف جيبي ضعف ذلك، فسبحان مغير الأحوال.» ثم قامت الحرب العالمية الأولى،
وانقطع الراتب الذي كان يصل محمد فريد كل شهر من زملائه في الحزب الوطني، واضطر لقبول
مساعدة الباب العالي التي ما لبثت هي الأخرى أن انقطعت بتأثير دسائس الصدر الأعظم!
يقول حسان (الشارع الجديد): الناس لا يفرقون بين من يبذل روحه في سبيلهم، وبين من يزهق
أرواحهم في سبيله. إنهم قد يعرضون عن الأول، وقد يهللون للثاني، ويهتفون. إنني أذكر
أيام كنت في إسطنبول، قابلت هناك محمد بك فريد، كان يضحي بكل شيء في سبيل بلاده، بماله
وراحته وصحته، فماذا فعلت له بلاده؟ لا شيء! نسيَته، وهتفت لمن أذلُّوها وسقوها كأس الهوان!
١١٣ ثم ساءت صحة محمد فريد، ونصحه الطبيب — لكي يتغلب على مرض الكبد — أن يعود
إلى مصر التي تتميز بجوها الحار — أصلح الأجواء، نسبيًّا، لعلاج المرض — وصارح الطبيب
—
واسمه شرونف — مريضه أن يعدل عن سياسته، ويهادن سلطات الاحتلال على أساس الحماية، حتى
يتسنى له العودة إلى مصر. لكن فريد اعتذر عن قبول النصيحة قائلًا إنه لا يقبل الحماية
مطلقًا، ولا ما يشبه الحماية، ولا يبالي ما يصيب صحته وحياته، في سبيل مبدئه وواجبه.
١١٤ ويتصور الفنان مرارة محمد فريد بعد قيام ثورة ١٩١٩م، فهو يعاني الشعور
بالوحدة، ووقوفه كالمتفرج ومواكب الثورة تمر أمامه، لا أحد يلتفت إليه، ويقول له: تعال
معنا، نحن في حاجة إليك. بل لا أحد يلقي عليه السلام، إذا كان انضمامه إلى الثورة غير
متاح، فعلى الأقل يُطلَب منه الرأي والنصيحة. إن له خبرة كبيرة بالقضية، وبالموقف الدولي،
وله اتصالات كثيرة بالأحزاب وأقطاب السياسة في أوروبا، حتى هذا لم يحدث!»
١١٥ ثم زادت صحة محمد فريد تدهورًا، وعاود الطبيب تقديم نصيحته، وأخبره بأنه قد
التقى في ذلك العام (١٩١٩م) بعدد من الشخصيات الإنجليزية في برن عاصمة سويسرا، وتحدث
إليهم في شأن عودة محمد فريد، فرحبوا بذلك، شريطة أن يقبل مبدأ الاتفاق معهم، فأصر فريد
على الرفض. وزاد إلحاح المرض عليه، فأعاد الطبيب النصح، وعاود فريد الرفض. رفض حتى منطق
أن يكون القبول على أساس ظروفه الصحية التي ستعاني خطورة لو ظل في برلين حتى شتاء ١٩١٩م.
وظل الرجل على رفضه، وإصراره ومعاناته، يمتصه المرض، وتتحيَّفه الحاجة، ويستعرض — بالرغم
منه — معالم رحلته منذ جاءه المرض: تنقُّله بين المستشفيات المجانية في سويسرا للعلاج
من
المرض، صمته العاجز أمام نصائح الأطباء بأن علاجه في الدفء والغذاء، اشتغاله بالاحتطاب
في سويسرا عام ١٩١٦م ليوفر قُوت يومه، رفضه التحذيرات التي تشفق على صحته وحياته، عرض
الإنجليز بإعطاء مصر الاستقلال الداخلي وإصراره على الاستقلال التام، معاناته خيانة
التلاميذ والأصدقاء، وحصار الجواسيس. وفي ذكرى ١٤ سبتمبر ١٩١٩م — أي قبل وفاة محمد فريد
بشهرين — كتب الوصية، أو رسالة الوداع للمصريين: «إن الصوت الذي يناجيكم اليوم لصوت
منعته الظروف من الارتفاع في صحف مصر من نحو سبع سنوات، ولكن منعه من الارتفاع على ضفاف
وادي النيل لم يكن عقبة تعوقه عن الدفاع عن القضية المصرية. إن صوت هذا الضعيف لم يخفت
يومًا، ولم يتأخر بما تفرضه عليه الوطنية طرفة عين، بل كان يزداد قوة ونشاطًا كلما
تراكمت أمامه الموانع وتكدَّست العقبات. إن هذا الصوت يناجيكم من وراء البحار ليهنئ الأمة
المصرية على تضامنها وتضافرها، والمطالبة بحق أمنا المظلومة مصر، لا فرق في ذلك بين
أبنائها وبناتها مسلمين وأقباطًا.»
١١٦ وفي اليوم السابق على وفاته، قرأ له بعض مريديه — وهو على فراش المرض —
عددًا من صحيفة «مصر»، فأبدى إعجابه «أنها صارت محط أقلام كبار الكُتاب، فصارت بذلك
ركنًا من أركان الوفاق بين أبناء الأمة، وبالأحرى ركنًا من أركان حرية الأمة المصرية.»
١١٧ ثم دخل في غيبوبة، أفاق منها مساء السبت ١٥ نوفمبر ١٩١٩م، وكان حوله عدد من
التلاميذ والأصدقاء، يقاومون البكاء. وانتزع من آلام المرض ابتسامة وسأل: هل تحسبون أني
أجزع من الموت؟ الموت حق لا بد منه، ولكنني أخاف أن أموت قبل أن أرى مصر حرة مستقلة.
وتبدَّى له الموت حقيقة قريبة، فيقول لمن حوله: لست أخاف الموت، لأن الموت حق لا بد منه،
ولكن ما كنت أتمناه أن أرى مصر متمتعة بتمام استقلالها. ثم جمع — في لحظات حياته
الأخيرة — زملاءه وتلاميذه الموجودين في برلين، أوصاهم بالاتحاد، وأن يواصلوا المسيرة
حتى يتحقق الاستقلال، ثم قال: «إني أنا وأولادي وكل عزيز لديَّ فداء لمصر. لقد قضيت
بعيدًا عن مصر سبع سنوات، فإذا مت فضعوني في صندوق، واحفظوني في مكان أمين، حتى تُتاح
الفرصة لنقل جثتي إلى وطني العزيز الذي أفارقه، وكنت أود أن أراه.»
١١٨ ثم أغمض عينيه، ومات، مات في الأيام نفسها التي كانت الجماهير المصرية تهدر
في شوارع القاهرة بما نذر محمد فريد حياته من أجله. وفي صباح الثلاثاء الثامن يونيو
١٩٢٠م، وصل جثمان محمد فريد إلى ميناء الإسكندرية، واستقبله عدد كبير من المسئولين
وأفراد الشعب العادي، بالإضافة إلى الحاج خليل عفيفي الذي تكفل بنفقات إعادة جثمان محمد
فريد. ووصل النعش بعد ظهر الأربعاء ٩ يونيو إلى محطة القاهرة، واستقبله — كما قالت
الأهرام — أعيان وموظفون ووفود أقاليم وفتيان كشافة وتلاميذ مدارس. وسار الموكب من
ميدان باب الحديد إلى شارع نوبار، فميدان الأوبرا، ثم شارع البوسطة، إلى جامع قيسون،
حيث صُلِّي على الفقيد.
•••
كان محمد فريد أشد من ينطبق عليه التشبيه المعروف بأنه قد وُلد وفي فمه ملعقة من
ذهب،
فقد كان يملك حوالي ألف ومائتي فدان، وبضع عمارات، ووظيفة مرموقة، ومستقبلًا واضح الملامح
والقسمات، لكنه ارتاد دربًا مغايرًا، عانق الموت في نهايته، وهو يرتدي بدلة صيفية في
عز
الشتاء، ولم يكن يملك شيئًا على الإطلاق. ولنتأمل كلمات العقاد: «… وما لهم قيادات
الحزب الوطني التي خلفت الرجل في تسيير أمور الحزب ولمحمد فريد وقد حاولوا تعريضه للقتل
في الآستانة لأنه يطالب باستقلال وطنه، ثم تركوه يموت في مستشفيات ألمانيا، وأخذوا
المال الذي أُرسل إليه، فبدَّدوه في حانات إيطاليا ومواخيرها.»
١١٩
اختار محمد فريد طريق النضال من أجل استقلال مصر، فضلًا عن أنه كان من أخلص الزعماء
—
إن لم يكن أخلصهم على الإطلاق — للقضايا الاجتماعية، ووضعها في كفة مقابلة لقضية
الاستقلال.
هوامش