التجار
رواية عبد الحميد جودة السحار «في قافلة الزمان»، تعرض لحياة أسرة من الطبقة الوسطى
— ومن
فئة التجار بالذات — وتأثير الزمن على حياة الآباء والأحفاد خلال أجيال متعاقبة. فهي
أقرب إلى أسرة ثلاثية نجيب محفوظ، بل إن أحداثها تدور في الحي نفسه، وفي المناخ السياسي
والاجتماعي الذي جرت فيه أحداث الثلاثية، وإن فضَّل السحار أن تعنى روايته بتطورات
الحياة الاجتماعية، بينما أولى محفوظ اهتمامه إلى تطورات الحياة السياسية.
وعلى الرغم من أن أحداث «في قافلة الزمان» تدور في بيئة تجارية خالصة، فإن انسياق
الفنان وراء التعبير عن الجزئيات الصغيرة للتراث الشعبي المصري، مثَّل عاملًا مباشرًا
في
إغفاله هموم تلك البيئة ومشكلاتها. ليس ثمة ما يشير إلى أن هذه الشخصيات التي تحيا عبر
فصول الرواية هي من بيئة بالذات، اللهم إلا بعض الجزئيات الصغيرة التي لا تشكِّل بُعدًا
حقيقيًّا في أحداث الرواية: مستقبل أبناء التجار — مثلًا — لا يشغلهم في شيء، فما على
الوالد إلا أن يفتح لابنه دكانًا، ثم يدعه يبني نفسه بنفسه. وكان التجار أبعد الناس عن
الإحساس بوطأة الغلاء وقيود التموين إبان الأزمات الاقتصادية، حتى إن أم عباس الندابة
أحسَّت بسعادة بالغة عندما قدمت إليها أمينة «طبيخًا طازجًا ترصعه ثلاث قطع من لحم الضأن
الذي ندر في تلك الأيام.» كذلك اكتفى أحمد عبد الجواد التاجر بالحمزاوي بأن يوصي بعض
التجار من معارفه على شراء خزين البيت من السمن والقمح والجبن. أما الواقع السياسي
والاقتصادي لتلك الطبقة، فليس ثمة ما يدل عليه إلا أن التجار كانوا يتعرضون لحملات نهب
مباغتة للجنود الإنجليز، فكانوا يلجئون — من ثَم — إلى فتح جزء من أبواب محالهم،
ويتأهبون لإغلاق ذلك الجزء إذا بدا الجنود في أول الشارع، وقد فوجئ أحمد — ذات يوم —
بجنديَّين إنجليزيَّين، راحا يطوفان ببصرهما على رفوف المحل، ثم أشارا إلى علب السردين،
وطلبا إحضار كل ما على الرف، فأحس حزنًا وغيظًا، إنهما يسلبانه أشياءه، ولا يستطيع أن
يحرك ساكنًا. لقد أصبح كهؤلاء التجار الذين كان يسخر منهم كلما سمع ما فعله الإنجليز
بهم، ووضع علب السردين أمامهما، فلم يكتفيا بها، بل أشارا إلى أصناف أخرى، فأحضرها
لهما، وكاد مرجل غضبه ينفجر، لكنه تحمَّل كارهًا، وصبر، وما كان من طبعه الحِلم أو الصبر.
ومد أحد الجنديين يده ليأخذ النقود من الدرج، فطار صواب أحمد، ودفع الرجل في صدره دون
أن يحس خطر ما يفعل، فزمجر الرجلان، وكشَّرا عن أنيابهما، فأيقن أحمد أن المسألة تحرجت،
وأصبحت مسألة حياة أو موت، ورأى أن يعاجل الرجلين بالهجوم، ليشق لنفسه طريقًا يفر منه؛
فقد كانا يسدان المنفذ الوحيد للدكان. وفي لمح البصر رفع كرسيه، وهوى به على رأس الثاني
قبل أن يفيق من هول المباغتة. وترنَّح الجنديان، وهَمَّ أحمد بالفرار، فجرى نحوهما ليخرج
من
الدكان، فحسِبا أنه يهجم عليهما ليفتك بهما، فارتبكا، ودفعهما في هروبه، فسقطا على شريط
الترام. وأسرع أحمد — مرعوبًا — إلى مقهًى قريب. فلما رأى رواد المقهى خروج المعلم،
أسرعوا لمساعدته، ورأى الجنديان إقبال الرجال وفي أيديهم الكراسي، فلاذا بالفرار، وأغلق
أحمد دكانه على عجل، وأسرع إلى بيته يفكر في أمره. وبطبيعة الحال، فإن الأمر لم ينته؛
ظل الإنجليزيان يترددان على المحل، لكن أحمد تركه لابنه حسن، وآثر أن يختفي في البيت
حتى ييأس الإنجليزيان من العثور عليه. وكانت المشكلة التي ظل علي (الشارع الجديد) يعاني
تأثيرها لفترة طويلة، تعنُّت الشركة الإنجليزية في التعامل معه، ومع كل زملائه من
التجار، وإصرارها أن يأخذ كل تاجر مع الملح صابونًا، حتى لو كان في غير حاجة إليه.
وبرغم شكاوى التجار التي لم تكن تنتهي، فإن الشركة أصمَّت أذنيها، وواصلت سياسة
«التحميل»، اعتمادًا على أن مصر كلها تخضع لسطوة الاحتلال. وقرر علي — في لحظة حماسة
مفاجئة، أو يأس قاتل — أن يكتب إلى وزير الخارجية البريطاني، يشكو تلك الشركة التي تُرغم
التجار على شراء بضاعة كاسدة لا تحتملها السوق.
١
•••
كان التجار — بصفة عامة — ينتمون إلى الطبقة الوسطى، أو أنهم كانوا من أبرز فئات
الطبقة الوسطى. وكانت الصلة بين فئة التجار اقتصادية أساسًا، فهي تقوم على المصالح
الاقتصادية لأفراد الطائفة. حتى العلاقات الاجتماعية كان يغلب عليها العامل الاقتصادي،
مثلما حدث بين أسرتَي علي وعبد الرحمن (شجرة البؤس). يقول علي لصديقه عبد الرحمن: «إنَّا
اجتهدنا لأنفسنا وأموالنا، واجتهدنا لهذين الشابين، ولا علينا بعد ذلك أن يسعدا أو
يشقيا، أحدهما أو كلاهما. إنها ابنتك الوحيدة، وإنه ابني الوحيد، وإن لك ثروة ضخمة، وإن
لي تجارة واسعة، وإن بيننا شركة بعيدة المدى، وإخاء قديم العهد، فلم يكن بد من أن يقترن
هذان الشابان، ومن أجل أن يصير إليهما هذا المال.»
٢
ويقول يسري في رواية «ثم تشرق الشمس»: «إن الأغنياء الذين وُلدوا فقراء لم يصلوا
إلى
الغنى إلا بخطوة من هذه الخطوات الحاسمة في حياتهم، يقدِمون على تجارة يظنها الناس
بائرة، فإذا هي رابحة … فما لي لا أتخذ هذه الخطوة في حياتي؟»
٣ التاجر الحق — على حد تعبير سليم علوان — ينبغي أن «يكون مفتوح العينين دائمًا»،
٤ فهو يدرك أن التجارة التي تدر المال بلا حساب، قد تبتلعه أيضًا في ساعة
نحس، وأن على التاجر أن يحتاط للمستقبل بشراء عقار مثلًا، وتسجيل ذلك العقار باسم زوجه
أو أحد أبنائه. وكانت تطوف بخاطره — في أحيان كثيرة — سِيَر تجار كبار ممن ربحوا أموالًا
طائلة، وانتهوا إلى الإفلاس والفقر المدقع، وربما إلى الانتحار، أو الشلل الذي أفضى إلى
الموت.
٥ وذلك ما واجهته — على سبيل المثال — الأسرة المكوَّنة من سبعة أفراد (أيام
الطفولة) عندما أصيبت تجارة الأب بخسارة كبيرة. وذاق الأب في «شمس الخريف» حلو التجارة
ومرها، حين أغدقت عليه، فنقل تجارته إلى الإسكندرية، وانتقل وراء حظه، ثم ضاعت ثروته
نتيجة لعوامل قاسية في سوق المنسوجات طمست معها أسماء تجار كانوا من اللامعين، وارتفعت
أسماء كان أصحابها في القاع، وحاول الرجل أن يتفادى الأزمة بسلسلة من المغامرات، أفضت
—
في النهاية — إلى وفاته. وكان والد أحمد (الطريق المسدود) تاجرًا كبيرًا في مدينة
ريفية، ثم أصيب بنكبة في تجارته لم يعمر بعدها سوى عامين، فاضطر أحمد إلى قطع دراسته،
وتسلَّم ما بقي من تجارة الأب الراحل، وراح يكافح للنهوض معها بعض الشيء، حتى استطاع
أن
يحفظ اسم الأب وكرامة العائلة، وظل البيت الكبير مفتوحًا يُشغي بالحياة.
٦
•••
التاجر — كما يقول ستانلي بول — «هو الذي يحمل الماضي إلى أذهاننا، وهو الذي يحافظ
على العادات والتقاليد القديمة.»
٧ العادة أن التجارة مهنة متوارثة، الابن يرثها عن الأب، والأب يرثها عن
الجد، يستوي في ذلك مجتمع القرية أو مجتمع المدينة. ذلك ما نلاحظه — على سبيل المثال
—
في «شجرة البؤس»، و«في قافلة الزمان» وفي «بداية ونهاية» … إلخ. ويقول الخال (عودة الروح):
«ويا
ويل التجار إذن، إذا كان سيخلفهم أبناء يتركون المهنة، ويسعون إلى وظائف صغيرة.»
٨ وكان والد جمال عازمًا على أن يبتعد ابنه عن الوظيفة الحكومية، وكان رأيه
أنها سجن للعقول، و«ما الموظف إلا أنه آلة ميكانيكية، يعمل اليوم ما يعيده غدًا، مع
العلم أن مرتبه محدود لا يغنيه في يوم من الأيام مهما جد واجتهد، زد على ذلك أن تلك
الوظيفة لا تبعث في المرء إعمال فكره لإعلاء شأنه وزيادة ربحه.»
٩ ونتذكر إصرار مصطفى على ترك التجارة، ومحاولة الاشتغال بالوظيفة. ويصف
الفنان تاجر الشاي محمد بك طلبة بأنه «صورة من رجال طائفة الناجحين في حُسن التدبير وعلو
الهمة والحرص، وتتحرك في أعماقه — دومًا — غريزته التجارية: غريزة الامتلاك، حتى في علاقاته
بالنساء!»
١٠
أما لماذا أقبلت بعض الأسر، والعائلات الريفية، على اتخاذ التجارة مهنة، وتفضيلها
على
الزراعة، فلأن أهل القرى كانوا يُرغمون على امتلاك الأرض وزراعتها، فلجئوا — من ثَم —
إلى
الفرار من الأرض، والاتجار في البن والسكر.
١١
•••
حين أذن أحمد عبد الجواد لزبيدة العالمة أن تحصل من متجره على بضائع بالمجان، سأله
جميل الحمزاوي: كيف يمكن أن يُسدد هذا الحساب؟ قال أحمد عبد الجواد: اكتب مكان
الأرقام: بضائع أتلفها الهوى! من هنا جاء قول جميل الحمزاوي للرجل: «ربنا يزيد ويبارك،
غير أني لا أزال أكرر القول عليك بأنك لو كنت اتخذت من التجار خلقهم كما اتخذت حرفتهم،
لكنت الآن من كبار الأغنياء!»
١٢ «البقالة سر من الأسرار»
١٣ وبينما كان منطق الحاج أكرم (الشارع الجديد) أن التجارة شيء، والإحسان شيء
آخر، فإن رأي علي يونس أن الصدقة الخفية في البيع والشراء. ومثلما كان «الثيران» يجدون
في اشتغال أبنائهم بالعنابر أمرًا محتمًا، فقد كان حسين — ابن الحاج كرم — يؤكد أن
«الدكاكين مصيرنا جميعًا.»
١٤ أما أحمد عبد الجواد فقد كان على يقين بأن متجرًا كمتجره — وإن هيأ له حياة
صالحة — فإنه أعجز من أن يهيئ هذه الحياة لمن يخلفه من أبنائه إذا روعي ما سيفرَّق من
دخله على بقية المستحقين، فلم يعمل على إعداد أحد منهم ليحل محله، لذلك كان رفضه الحاسم
لاقتراح ابنه كمال بأن يدخل مدرسة التجارة لتصوره أنها تُخرِج تجارًا.
١٥ (قول طه حسين بأن بيئة «بين القصرين» بيئة تجار فقط — من أدبنا المعاصر، ٨٣ —
يحتاج إلى مراجعة، في ضوء ما حرص عليه أحمد عبد الجواد). وحين أراد ميخائيل (قصة: صفاء)
أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كُتبت له هو في الحياة، فإنه رفض أن يخلفه في إدارة
الحانوت، وإنما أرسله إلى المدرسة المدنية، لا ليحصل على الشهادة الابتدائية وحدها، بل
ليحصل على الدرجة العلمية التي تؤهله للعمل موظفًا بالحكومة «وليسلك بنفسه طريقًا جديدة
غير الطريق التي سلكها هو، وسلكها أبوه من قبل.»
١٦ أما سليم علوان، فإن أبناءه الثلاثة لم يحاولوا مساعدة أبيهم في تجارته،
ومع تعدُّد محاولات الرجل لاجتذابهم إلى التجارة، فلأنهم رفضوا حتى الالتحاق بمدرسة
التجارة، ربما لأنهم نشئوا في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأ فيها أبوهم، وأصبح أولهم
طبيبًا، والثاني محاميًا، أما الثالث فقد أصبح قاضيًا ذا مكانة رفيعة. لقد ربى الرجل
أبناءه في وسط جديد، منقطع الأسباب ببيئة التجار وأوساطهم. وهو وسط يضمر نوعًا من
الاحتقار للمهن التجارية، فأعرض الأبناء عن مهنة أبيهم، وألحُّوا عليه — حين تقدم به
العمر — في وجوب اعتزاله مهنته هو أيضًا.
١٧ ولعل اقتراح أبناء سليم علوان بأن يصفي أبوهم تجارته ليخلد إلى الراحة بعد
نضال طويل، يذكِّرنا بالمصير الذي آلت إليه بالفعل تجارة أحمد عبد الجواد. فهو لم يخلف
فيها ياسين أو كمال بعد أن اختارا الوظيفة، وحين أقعده المرض، لم يكن أمامه إلا أن
يصفِّي تجارته، ويقطع الأسباب الموصولة — لعدة أجيال — بين أسرته وبين التجارة. وهكذا
كان المصير الذي يواجه سليم علوان، بعد أن طالبه الأبناء أنفسهم أن يصفي تجارته، ويخلد
إلى الراحة!
•••
على الرغم من إيمان المصريين بقول الرسول
ﷺ تسعة أعشار الرزق في التجارة،
١٨ فثمة رأي أن المصري لم يكن يحب التجارة، حتى إنه لم يكن يشتغل بها من
المصريين إلا من ضاقت في وجوههم سُبل الرزق الأخرى. وحين كان المصري يشتغل بالتجارة،
كان
يحب العمل بها منفردًا، لأن الشركة — في نظره — تضيِّع البركة.
١٩ لذلك لم تكن للتجار وأصحاب الدكاكين دراية من أي نوع بالمعاملات التجارية
المنظمة، مثل المحاسبة أو مسك الدفاتر.
٢٠ وكما يقول حافظ عفيفي، فقد «عُرف المصري قديمًا بأنه فلاح يحب الأرض، وعُرف
في أدوار كثيرة من تاريخه بأنه محب للصناعة، يتقن كثيرًا من فنونها، ولكن لم يُعرَف عنه
قط ما عُرف عن الفينيقي أو اليوناني أو العربي من أنه تاجر يحب التجارة، ويتقن أساليبها
ويعرف مواطنها.»
٢١ ويذهب رأي إلى أن التجارة لم تحتل في نفسية المواطن المصري «الاحترام
الكافي والتقدير المناسب، وقد تكون رواسب ذلك موجودة في مجتمعنا إلى الآن.»
٢٢ كان المصريون — أعني أصحاب رءوس الأموال — يفضِّلون استثمار أموالهم في
الزراعة، فضلًا عن أن نظام الامتيازات كان يتيح للأجانب ما يصعب حصول المصريين عليه،
فرجحت كفة الأجانب دومًا، واقتصرت تجارة الجملة — والتجزئة أيضًا — أو كادت، على
الأجانب. كان التجار يعانون تضخم نفوذ الجاليات الأجنبية. وإذا كان الشوام والأتراك قد
سيطروا على الوظائف المهمة في الحكومة المصرية، فإن نشاطهم قد امتد ليشمل أعمال السمسرة
والرهونات والتجارة، فضلًا عن أن البيئة التجارية المصرية واجهت الأزمة نفسها التي
واجهتها البيئة المصرية عمومًا. كانت الزراعة هي المهنة الغالبة في الريف المصري،
والصناعات البسيطة هي المهنة التي يُقبِل عليها أبناء المدينة، بينما أصبحت التجارة شبه
مقصورة على الجاليات الأجنبية، مثل اليونانيين والإيطاليين والشوام والأتراك والأرمن
والإنجليز والإيرانيين وغيرهم. بل إنه من بين تجار حي الجمالية — وهو حي ظل محتفظًا
بسِماته الوطنية — إيرانيون وأتراك ومغاربة وحضارم وفلسطينيون … إلخ، والشوارع التي كانت
مكتظة بالمحال التجارية والصناعية المصرية، أصبحت — كما يقول اللورد كرومر في تقريره
—
مزدحمة بالمقاهي والدكاكين المملوءة بالبضائع الأوروبية. كانت تلك المتاجر مصرية تمامًا
إلى عهد إسماعيل، ثم بدأت تقوم على أطلالها دكاكين قوامها البضائع الأوروبية، نتيجة
للديون التي أثقل بها إسماعيل اقتصاد الدولة. يطلب الأفغاني من النديم أن يعود إلى
الإسكندرية، فيسأل النديم: ماذا أفعل في الإسكندرية؟ يجيب الأفغاني: «تسألني ماذا
تفعل هناك؟ اذهب إلى الإسكندرية، وستجد هناك آلافًا من اليونانيين والقبارصة
والمالطيين والفرنسيين والإنجليز والشوام والمغاربة ووجِّه سؤالك لهم، قل لهم لماذا تركوا
بلادهم، وجاءوا إلى بلدك؟ لماذا قطعوا مئات الأميال فوق المياه لا يملكون غير ثيابهم،
إلى بلاد لا يعرفون حتى لغتها، ليصبحوا — بعد شهور — أصحاب دكاكين ومقاهٍ وملاهٍ ومدارس
وصحف
وكنائس بينما تسألني أنت ماذا أفعل في الإسكندرية؟»
٢٣ ثم تأكد — في عهد الاحتلال — النفوذ الأجنبي على الحياة التجارية المصرية.
ومنذ انفصال السودان في ١٨٨٢م اعتزل الكثير من التجار، وتحوَّل بعضهم إلى الزراعة، بعد
أن
كانت التجارة بين القطرين نشاطهم الرئيس.
٢٤ ويشير محمد أنيس إلى ظاهرة أعقبت دخول قوات الاحتلال مصر، فقد تكاثرت
المحال الجديدة في الشوارع الجديدة، وانتقل مركز الحياة التجارية من الجمالية إلى وسط
البلد: محمد علي وعبد العزيز والعتبة … إلخ، كما انتقلت قيادة الحركة التجارية من أيدي
أصحاب العمائم والجبب أو الجلابيب إلى أيدي لابسي الطرابيش والبدل.
٢٥ وبعد أن كانت القاهرة مركزًا رئيسًا لتجارة البضائع السودانية والعربية
والشرقية، تحوَّلت التجارة الرئيسة إلى شبه المحصول الواحد، وهو القطن الذي كان تصديره
مقابلًا لاستيراد البضائع الأوروبية المصنَّعة إلى مصر. كذلك فقد عانى التجار الوطنيون
من
الضرائب الباهظة، بينما كان التجار الأجانب يُعفَون من الضرائب إطلاقًا، بحكم قوانين
الامتيازات الأجنبية،
٢٦ وتحوَّل — بتأثير ذلك — تجار وطنيون كثيرون إلى مهن أخرى، بعد أن أحكم
الأجانب — تساندهم الامتيازات — سيطرتهم على تجارة الجملة، ووصلوا — بدكاكينهم — إلى
قلب الريف: «هذه المتاجر الجديدة التي أخذت تنشأ في المدينة على غفلة من أهلها، لا
يدرون كيف جاءت إليهم، ولا كيف استقرت فيم، وإنما هو بناء يقام لا يعرف أهل المدينة من
يقيم، ولا لمن يقام، ثم ينظرون فإذا عمارة فخمة ضخمة قد ارتفعت، وقد أقبل عليها قوم
جاءوا من القاهرة فملئوها بضائع وعروضًا، وأحاطوها بألوان من الزينة والبهجة تدعو الناس
وتغريهم بها. أما علي وأصحابه ومتاجرهم هذه القديمة القذرة المهمَلة القاتمة، فعليهم
وعليها العفاء، ثم سعوا إلى شيخهم وتحدثوا إليه في ذلك، فإذا هو يرى مثل ما يرَون. ثم
يحدثهم عن أشراط الساعة، ويعظهم فيُبغِض إليهم الغنى، ويحبِّب إليهم الفقر، ويؤكد لهم
أن
أكثر أهل النار من الأغنياء. ويقول صديقه عبد الرحمن: ولست أدري ما الذي سلَّط علينا
هذه
الشياطين، شياطين يأتوننا من يونان، وشياطين يأتوننا من إيطاليا، وشياطين يأتوننا من
بلاد الإنجليز. صدقني أبا خالد أن الله قد غضب علينا، وقد بحثت كثيرًا عن أسباب هذا
الغضب. وقد سألت شيوخي في الأزهر والأولياء الصالحين، فلم أجد عند أحد منهم شيئًا.»
٢٧
كان تجار الخمور — في مجموعهم — من غير المسلمين، وتجار العبيد من أبناء الواحات
وأسوان وإبريم، بينما اقتصرت طائفة الصاغة على المسيحيين واليهود، ومعظم تجار الحمزاوي
من السوريين المسيحيين.
٢٨ كما تحوَّلت التجارة الخارجية بصورة كاملة؛ فبعد أن كانت مقصورة على الواردات
السودانية والعربية والشرقية، سيطر اليونانيون — والأوروبيون عمومًا — على حركة التصدير
والاستيراد، يُصدَّر القطن إلى أوروبا، وتُستورد البضائع والصناعات الأوروبية إلى مصر.
٢٩ ثم تحددت الصورة احتكارًا من كل جالية لتجارة بعينها، فالبقالة لليونانيين،
والمنسوجات الحريرية والدانتيلا للفرنسيين، والأصواف والأقطان والبياضات والفحم
للإنجليز، والسجاير للأرمن، والمشروبات الروحية للأروام — اليونانيين — والإيطاليين.
أما تجارة الغلال، فقد كانت في أيدي فئات وجاليات مختلفة، وإن ظلت الغالبية من المصريين.
٣٠ أفاد الأجانب من قوانين الامتيازات، في المقابل من الضرائب الباهظة التي
فُرضَت على التجار الوطنيين. وفي «حديث عيسى بن هشام» نجد التاجر الذي يستبدل بتجارته
إقامة
العمارات وبيعها، والتاجر الذي يفضِّل الاشتغال ببيع الأقطان في البورصة … إلخ.
٣١ وعندما مات والد مصطفى (عودة الروح) أراد الشاب بيع متجره لتاجر أجنبي، لكن
خاله رفض الفكرة تمامًا، وقال في غضب: «يا للعار على وطني يترك محل تجارته لأجنبي
يحتله، ويصبح محل مانيفاتورة راجي الشهير فرعًا للخواجة كازولي الرومي.»
وفي الحقيقة أن تفضيل الشخصيات الروائية التي تعمل بالتجارة، للعمل الوظيفي — وليس
العكس — هو السِّمة التي تطالعنا بها الأعمال الأدبية، فيما عدا بعض النماذج التي يمكن
أن
تشكِّل استثناء للقاعدة. فحين ران الكساد على الحياة التجارية تحوَّل عدد من التجار إلى
وظائف الحكومة مثل الصديقين في «شجرة البؤس»، طلبا إلى الشيخ أن يتوسَّط لهما عند الباشا
المدير، فهما يجيدان القراءة والكتابة والحساب. وعُيِّن الرجلان في وظائف الحكومة فعلًا:
خالد كاتبًا في المحكمة الشرعية، وسليم كاتبًا في المديرية. ثم تأكدت الحكومية في
المجتمع المصري، حتى إن انزعاج أحمد عبد الجواد من رغبة ابنه كمال في الالتحاق بمدرسة
التجارة وكان — كما أشرنا — يتصور أنها تخرج تجارًا لم يكن وليد الاقتناع بالمكانة
الاجتماعية المتميزة التي ينالها صاحب الوظيفة فحسب، بل كان يعلم أن متجره أعجز من أن
يهيئ هذه الحياة لمن يخلفه من الأبناء، فلم يعمل على إعداد أحد منهم ليحل محله.
٣٢ ولعله من الصعب إغفال ذلك الحدث المهم، وأعني به تصفية أحمد عبد الجواد
لتجارته المتوارثة أبًا عن جد، بينما الأبناء والأحفاد قد اختاروا دروبًا مغايرة تمامًا
للتجارة. فثمة مَن اختار الوظيفة الحكومية، وآخر فضَّل العمل بالصحافة، وقطع الجميع شوط
التعليم إلى نهاية المرحلة الجامعية. ولم يكن العمل بالتجارة مما يخطر لأحدهم على بال.
وحين أقدم موظف في الحكومة على مزاولة التجارة، دون أن يعرف أسرارها، انتهى به الأمر
إلى إنفاق كل ما ادَّخره من مال، وأغلق الدكان.
٣٣
•••
التجارة — عمومًا — مهنة رابحة، وقد استطاع سيد زهير في متجره الذي لا يزيد عن ظل
شجرة على جانبي الطريق، أن يحقق في موسم القطن أرباحًا تربو على المائتي جنيه.
٣٤ قال لنفسه: لماذا لا أكون مثل السيد أحمد جلال الذي بدأ حياته فقيرًا مثلي،
ثم استطاع بكدِّه أن يبني لنفسه تجارة عظيمة؟
٣٥ بدأ أحمد جلال حياته عاملًا عند أحد تجار الغلال، ثم اقتصد من أجره بضعة
جنيهات، بدأ بها تجارة صغيرة، فاشترى بضعة قناطير من القطن، كان يجمعها من الفلاحين
رطلين أو بضعة أرطال في كل صفقة، ثم حمل ما اشتراه على عربة نقل، ثم اتسعت تجارته،
وأنشأ محلجًا عظيمًا، وأصبح إبان الحرب العالمية الثانية أكبر تاجر قطن في دمنهور.
٣٦ ولجأ سيد زهير إلى بعض التجار من أصدقاء أبيه، يستوضحهم عن الأسواق
وأسرارها، وتلقَّى أول دروسه في تجارة الأسواق، وخرج بفوائد لا تُتاح إلا لمن يتبادلون
أنفاسهم مع الناس، ويعرفون من الحكم ما لا تعلمه لهم القراءة أو التأمل.
٣٧ وعندما أراد مصطفى (عودة الروح) أن يصفِّي المحل الذي ورثه عن والده،
والسفر، قال له خاله ناصحًا: «يا بني البركة كلها في المحل ده! هو المحل ده اللي جاب
الأطيان والأملاك كلها.»
٣٨ ولأن سليم علوان — صاحب وكالة العطارة بزقاق المدق — كان — على حد تعبيره —
تاجرًا ابن تاجر، فقد حقق ثراءً مؤكدًا إبان الحرب العالمية الأولى، ثم تضاعفت ثروته
في
الحرب العالمية الثانية.
٣٩ لذلك تقول أم حميدة لابنتها: «إذا تزوج رجل مثل السيد سليم من فتاة، فهو في
الواقع إنما يتزوج من أهلها جميعًا … كالنيل إذا فاض أغرق البلاد!»
٤٠ والتاجر متفوق اجتماعيًّا عن الحرفي، ذلك ما قدَّره — ببساطة — عم عزوز صانع
الفوانيس، وأن الفارق واضح بينه — كحرفي — وبين التاجر.
٤١ وهو ما يتبدى في الحلم الذي عاشه الشاب في قصة «شباك النبي» (١٩٠٩م) بأن يقتصد
مائة جنيه ليفتح دكانًا صغيرًا لبيع القماش.
٤٢ وكان محمد عمر يضع التجار والوزراء والعُمَد والمشايخ والعلماء وكبار
المزارعين في قائمة الطبقة السرية.
٤٣ وإذا كان التاجر — كما وصفه ياسين (قصر الشوق) — سيد نفسه،
٤٤ فإن رضا حمادة (المرايا) أكد في ثقة أنه «لا يوجد تاجر شريف.»
٤٥ ويقول متري: «ليس في التجارة شيء اسمه قانون، التجارة في حقيقتها هي تنظيم
النصب، والإثراء بعقد الصفقات على الورق فقط، وبدون شقاء، وبدون عرق.»
٤٦ لكن التاجر الذي تتعرض سمعته لما يشينها، يخاف منه التجار، ويحذرون التعامل
معه؛ ذلك ما واجهه الأب في قصة المازني «لو عرف الشباب».
٤٧
مع ذلك، فلم تكن هموم فئة التجار ومشكلاتها تنفصل عن هموم ومشكلات الطبقة الوسطى
بعامة. لذلك كان اتجاه أبناء التجار إلى الوظائف الحكومية الصغيرة ظاهرة طبيعية، وإن
عبَّر عن فزعه منه خال مصطفى (عودة الروح) في قوله: «يا ويل التجار إذن إذا كان سيخلفهم
أبناء يتركون المهنة، ويسعون إلى وظائف صغيرة.»
٤٨ وللفنان رأي في طباع أبناء التجار، إنهم لا يحسنون ما يحسنه أبناء الموظفين
من تردُّد وجُبن وخور وتملق للرؤساء موروث على مر السنين. بل إنهم يسخرون من ذلك التكلُّف
الممقوت الذي تصطبغ به حياة الموظفين.
٤٩ ومجتمع التجارة تغلب عليه المصلحة بصورة مؤكدة، حتى الزيجات تخضع لمنطق
التجارة والمصالح المتبادَلة. وقد صارح أبو خالد (شجرة البؤس) صاحبه يومًا: «فإن اجتهدنا
لأنفسنا وأموالنا، واجتهدنا لهذين الشابين — يعني ولديهما — ولا علينا بعد ذلك أن
يسعدا أو يشقيا، أحدهما أو كلاهما. إنها ابنتك الوحيدة، وإنه ابني الوحيد، وإن لك ثروة
ضخمة، وإن لي تجارة واسعة، وإن بيننا شركة بعيدة المدى، وإخاء قديم العهد، فلم يكن بد
أن يقترن هذان الشابان، ومن أن يصير إليهما هذا المال.» لم يكن بد من أن يقترن الشابان،
للمصالح المتبادَلة وليس لهدف آخر، عاطفي أو اجتماعي، أو حتى مجرد تكوين أسرة. وعمل
المصري بالتجارة يأخذ — في الأغلب — صفة الفردية، ذلك لأن الشركة — في تقديره — تضيِّع
البركة، من هنا كانت استعانة التجار للأبناء معهم — قبل أن تصبح الوظيفة هي المطمح —
مثلما
فعل الحاج كريم في «الشارع الجديد»، فإذا استعان ﺑ «الغريب» فإنه يحرص على أن تكون صلته
بذلك الغريب صلة حميمة أقرب إلى الصلة الأسرية، وهي العلاقة التي كانت بين أحمد عبد
الجواد وجميل الحمزاوي العامل بمتجره.
•••
واللافت أنه فيما عدا رسالة علي يونس (الشارع الجديد) إلى وزير خارجية بريطانيا،
يشكو
تعسُّف سلطات الاحتلال في معاملة التجار المصريين، وتأييد أحمد عبد الجواد — العيني
والمعنوي — في «بين القصرين» للخديو عباس والحزب الوطني، ثم للثورة فيما بعد، عندما اكتفى
بالتبرع بالمال، والثناء على سعد زغلول ورفاقه والعطف على الشعارات «ولكن بدون ثورة
وبدون سخط وبدون دماء» وشريطة ألَّا «تهدد أمنه في الذهاب والإياب.» بل إنه لما وجد
نفسه منغمسًا — رغم إرادته — في أحداث الثورة، بإجبار جنود الإنجليز له على ردم الحفرة
التي صنعها فتوات الحسينية، همس قائلًا: «إنه لا طعم للحياة في ظل الثورة.» وأردف قوله:
«إخراج شوية بول أهم عندي من إخراج الإنجليز من مصر كلها.»
٥٠ فيما عدا ذلك، فإن دور فئة التجار في العمل السياسي — وكانوا يشكِّلون بُعدًا
مهمًّا في صورة الحياة المصرية أوائل القرن — يشحب تمامًا في الأعمال الأدبية التي تعرض
لتلك الفترة، اللهم إلا إضراب الجزارين في أواخر القرن التاسع عشر، ومناداة علي يونس
بالمقاطعة سلاحًا سلبيًّا، يفضي — إذا أُحسِن استخدامه — إلى نتيجة إيجابية، هي خروج
قوات
الاحتلال:
«نقاطعهم … نعلن بعدم رضائنا عن احتلالهم بلادنا.
– نؤذن في مالطة؛ إنهم أقوياء ولن يأبهوا لصراخنا.
– أتستطيع أن تبقى في هذه الغرفة إذا قاطعناك كلنا وأبدينا لك كرهنا.
– لا.
– كذلك الإنجليز، لن يستطيعوا البقاء إذا خاصمناهم كلنا، وبدت لهم عداوتنا.»
٥١
هوامش