الحرب العالمية الأولى

في ٢٨ يوليو ١٩١٤م بدأت الحرب العالمية الأولى بإعلان النمسا الحرب على الصرب بمناسبة اغتيال ولي عهد النمسا وزوجته في مدينة سيراييفو بيد أحد الإرهابيين من أبناء الصرب.١ ونشرت الصحف المصرية مقتل ولي عهد النمسا، واضطراب الأندية السياسية الكبرى — التعبير للفنان — خوفًا من نشوب الحرب بين النمسا والصرب، وما قد يؤديه ذلك إلى حرب طاحنة عامة، تشترك فيها كل دول أوروبا.٢ وفي قصة محمود طاهر حقي «بائعة اللبن» يشير الفنان إلى إرهاصات الحرب، حين وصل القطار المسمى إكسبريس الشرق إلى محطة مصطفى باشا، عند الحدود التركية البلغارية، وعرف الركاب من معاملة رجال الأمن القاسية، أن الأرشيدوق ولي عهد النمسا والمجر قد اغتيل في البوسنة على يد صربي متطرف.٣ لم يعبأ الراوي — على حد تعبيره — فإذا كانوا قد اغتالوا ولي عهد إمبراطورية النمسا، فقد انتحر من قبل ولي عهدها السابق «هذا بيد عمرو، وذاك بيد نفسه، بل منيت نفسي وقتذاك بأن الفرصة ستسنح لي برؤية الاحتفال بتشييع جنازته في فيينا، ولم يدُر في خَلَدي — في تلك اللحظة — أن ما خلته حادثًا يمر ككل حادث يماثله، سيبدِّل الأرض غير الأرض، وأن العالم سيُقذَف به في أتون من جحيم أربع سنوات، ثم يصلى نارها عشرات السنين، إلى أن يتدارك الله عباده برحمته.»٤ قال ناثان (الوارث): «الناس يتوقعون الحرب العامة من يوم إلى آخر، وأصبح كل ذي مال حريصًا على ما لديه خشية الوقوع في أزمة مالية تضطرب لها البلاد. وقد سمعت اليوم أن النمسا شهرت الحرب على الصرب، وأخذت تُطلِق مدافعها على عاصمتها بلغراد، فإذا صح الخبر — ولا أظنه إلا صحيحًا — فستعلن روسيا الحرب على النمسا، وتعلنها ألمانيا على روسيا، وتعلنها فرنسا على ألمانيا.»٥ وقد تنحاز إنكلترا إلى جانب فرنسا وروسيا فتعلن الحرب على ألمانيا، وتركيا على إنكلترا وروسيا وفرنسا، فيشتبك العالم كله في حرب طويلة الأمد، كثيرة الويلات.٦ وتباينت التوقعات بين استحالة الانتصار على ألمانيا لأنها «الآن في أحسن أدوار حياتها، وكل أمة تحسدها وترهبها»، وبين التأكيد على أن ألمانيا ستخسر كل شيء.٧ ردَّد عزيز ما قيل إن ألمانيا تستعد لهذه الحرب أربعين سنة كاملة.٨ وأذيع أن ألمانيا تتفوق — بصورة واضحة — في الغواصات والمدافع الضخمة ومناطيد زبلن وغيرها من الأسلحة المتقدمة التي لم يكن عند الحلفاء ما يماثلها.٩ وقيل إن ألمانيا خرقت معاهدة دولية وقَّعت عليها قبل ثمانين عامًا من نشوب الحرب، كما وقَّعت عليها إنجلترا وفرنسا. وتنص المعاهدة على ضمان استقلال بلجيكا وحيادها، فلا يجوز أن تغزوها، ولا أن تهاجمها، ولا أن تجعلها طريقًا لجيوشها.١٠ وصارحت اليهودية إستير عشيقها السوري — قبل أن تنشب الحرب — إنها ستضطر إلى هجره، لاحتياجها إلى المال في مواجهة ارتفاع الأسعار بما ستعجز موارده المالية عن تدبيره!١١ ويقول جون بيرسفال John Percival: «لو لم تكن الدول العظمى متأكدة من أي من الآخرين تكره أكثر، إلا أن جميعها كانت — بطريقة ما — توَّاقة للقتال. وقد وجدت ألمانيا، بخاصة في الدبلوماسية العدائية المدعومة بالتهديد باستعمال القوة، وسيلة ذات فائدة للحصول على ما تريد. وعندما اغتيل فرديناند، أرشيدوق النمسا في سراييفو في ٢٨ يونيو ١٩١٣م من قبل ما نسميه الآن بالإرهابي المحتضر، تسببت تأثيراته بالنسبة إلى إمبراطورية هابسبرج الهزيلة في ثورة عارمة من التهديد والإنذار بين ألمانيا وروسيا. وقوبل التحرك العسكري من أحد الجانبين بتحرك عسكري من الجانب الآخر، حتى وصلت المجابهة الدبلوماسية إلى إعلان الحرب دون رغبة واعية من كلا الطرفين تقريبًا.»١٢
حين طرقت الحرب الأبواب، بدأ الصرب في التعبئة العامة، اختفت عربات الركوب بعد أن جمعوا الجياد، حتى المملوكة للأفراد.١٣ ثم تطورت الأحداث: أعلنت روسيا الحرب على النمسا مناصرة للصرب (حتى أوائل القرن، كانت روسيا القيصرية تعاني التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وغلبة الأوتوقراطية الفاسدة، وعدم الإنتاج. ثم ظهرت الإمبراطورية الروسية كدولة ناهضة، لها تأثيرها المؤكد في السياسة الدولية (التطور الاقتصادي في مصر، ١١٢)) وأعلنت فرنسا الحرب على ألمانيا والنمسا مناصرة لروسيا. ثم دخلت بريطانيا الحرب إلى جانب روسيا والصرب وفرنسا ضد النمسا وألمانيا. ونشر ولي عهد ألمانيا منشورًا وزَّعه على جميع أفراد الجيش الألماني، قال فيه: «احملوا على الإنجليز حملات قوية أينما وجدتموهم. وإذا رأيتم أمامكم الأعداء من أجناس مختلفة — فرنسا وبلجيكا وإنجلترا والهند وغيرها — فاتركوهم، واهجموا على جنود الإنجليز.»١٤ وقد بدأت المعارك الجوية كعامل مساعد للمعارك الأرضية؛ كان واجب الطيارين مقتصرًا على الاستطلاع ببطء، وكان المعارك تجري دفاعًا عن حرية أداء واجب الاستطلاع، ثم زاد — بالتدريج — مدى الطيران، وسرعته، حتى دانت الغلبة لسلاح الطيران في ساحة المعركة.١٥ وتطوعت أعداد كبيرة من السوريين واللبنانيين في الفرقة الأجنبية الفرنسية، أو جيش الشرق الفرنسي. وقال الأب الشيخ: «يظهر أن الله أراد أن يطيل في أيامي لأشهد أعظم حرب نُشبت في العالم، وقد صدق حدسي يوم قلت إن أوروبا كلها ستشتبك بعضها مع بعض في هذه الحرب الكونية.»١٦
لم تشارك الدولة العثمانية في الحرب عند اندلاعها في ١٩١٤م، لكنها وقَّعت مع ألمانيا معاهدة سرية بالآستانة — في اليوم التالي لنشوب الحرب — تعهد فيها الألمان بمساعدة الأتراك على تحقيق حلم الدولة الطورانية، وتشمل تتريك القوقاز، وتوحيد الشعب التركي في الأناضول وإيران وما وراء القوقاز وروسيا وآسيا الوسطى، في دولة تركية إطارها القومية الواحدة والشعب الواحد.١٧ كان تقدير البعض أن اشتراك تركيا في الحرب القائمة معناه الجنون، وأنها ستزج نفسها في أتون نار لا خلاص لها منه «بعد أن قُهِرت في حربين متواليتين ليس العهد بهما ببعيد.»١٨ ولكن ألمانيا واصلت ضغطها على مدى ثلاثة أشهر، بهدف فتح جبهات متعددة في القوقاز وإيران ومصر تشتت دول الحلفاء. وأخيرًا (٥ نوفمبر ١٩١٤م) دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا واليابان، وحين أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا، وأرسلت مصر سفنها — غازية — لطرابلس، قرر طلبة الجامعة المصرية أن يُضرِبوا عن درس الأستاذ الإيطالي.١٩

•••

لقي الأتراك هزيمة عسكرية حاسمة، وفشلت الحملة العثمانية على مصر خلال يناير-فبراير ١٩١٥م. وفي ١٩١٧م كانت تركيا قد فقدت نصف جيشها بسبب المرض أو الموت أو الفرار من الخدمة العسكرية، واضطرت قواتها للتقهقر من بئر السبع، فاندفعت قوات اللنبي، واحتلت غزة كمقدمة لاحتلال القدس. وفي ٣٠ أكتوبر ١٩١٨م، استسلم الأتراك بعد استسلام ألمانيا باثني عشر يومًا، وأُسدل الستار على الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف. أما ألمانيا، فتعود هزيمتها إلى عدة عوامل، أهمها: ضآلة إمكانياتهم البشرية على مستوى المقاتلين والعاملين وراء جبهات القتال، بالقياس إلى ما كان عليه تفوق الحلفاء … دور البحرية البريطانية في تعويض أي نقص في المؤن كانت تعانيه قوات الحلفاء في أية جبهة من جبهات القتال … تدخُّل الولايات المتحدة، مما كان له أثره المباشر في رجحان كفة الحلفاء. وقد خرجت الولايات المتحدة — كما يقول دافيد تومسن «أعظم دولة دائنة في العالم» فقد كانت دول أوروبا مَدينة لها بألفي مليون جنيه إسترليني، وفشلت مساعي لويد جورج لإنشاء أوروبا متحدة، رغم تحذيره من أن «أوروبا كلها تسُودها روح الثورة، وهناك إحساس عميق، لا بالتذمر فحسب، بل أيضًا بالغضب والتمرد بين العمال ضد ظروف ما قبل الحرب. وقد أصبح النظام القائم بأكمله من جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية موضع تساؤل من جانب جماهير السكان في أوروبا، ومن أدناها إلى أقصاها.»٢٠ وخولت فرنسا حق استغلال مناجم السار، غربي الرين، تعويضًا عما لحق الفرنسيين من الخسارة، من جراء تخريب مناطق الفحم في شمالي فرنسا. وضُمَّت إلى بلجيكا بعض الأراضي الألمانية، ورُدَّ إلى فرنسا إقليما الإلزاس واللورين، وأعيدت دولة بولندا المستقلة، وسُمح لها بممر إلى البحر، وضُم بعض الأراضي الألمانية إليها. وتكوَّنت دولة تشيكوسلوفاكيا، وضُمَّت بوهيميا إليها، وتم تجريد ألمانيا من السلاح، وتحديد قواتها المسلحة، وإن لم يرضخ الألمان لذلك التحديد طويلًا، كما صودرت أملاك ألمانيا في مراكش والصين وسيام وأفريقيا الاستوائية، وتخلت لليابان عن ميناء كياو شاو Kiaw Chaw وجزائر مارشال Marchal. كما تخلت فرنسا وبريطانيا وهولندا عن جميع مستعمرات أفريقيا والمحيط الهادي. واعتبر نهر الراين نهرًا دوليًّا، يُشرف عليه مجلس دولي، ونُزع سلاح قناة Kiel الألمانية، وأُعلن حيادها. وفي ١٩٢٣م احتلت فرنسا منطقة «الروهر» بدعوى تقصير ألمانيا في أداء أقساط ديون التعويضات، لكنها ما لبثت أن تخلت عن «الروهر» في العام التالي، بعد فوز أحزاب اليسار التي كانت تحبِّذ الاتفاق مع ألمانيا. وصحب هذا تسوية للتعويضات، حصلت ألمانيا بمقتضاها على قرض كبير. وكان لتلك الاتفاقية تأثيرها المباشر في تمتع العالم باستقرار نسبي على المستويَين الاقتصادي والسياسي، بلغ ذروته — أي الاستقرار — في مؤتمر لوكارنو.٢١ وعلى الرغم من الأخطار التي تبدت في الأفق القريب، فإن العالم استطاع أن يستعيد ما فقده، وأن يلائم بين نفسه وبين المتغيرات الجديدة، وأن يحقق تقدمًا واضحًا. ففي ١٩٢٥م استطاع الاقتصاد العالمي أن يحقق زيادة بلغت ١٨٪ عما كانت عليه في عام ١٩١٣م، مقابل زيادة في السكان قدرها ٦٪ مما يعني زيادة نصيب الفرد من الكم الإنتاجي، وبتعبير آخر: ارتفاع المستوى العام للحياة.٢٢ ومن ناحية ثانية، فقد كسبت البلشفية أراضي في العديد من المناطق، ففي ٢١ مارس ١٩١٩م أعلنت جمهورية سوفييتية في بودابست، وفي أوائل أبريل أعلنت جمهورية سوفييتية أخرى في ميونيخ. وحدثت اضطرابات، حتى في البلاد المحايدة، مثل هولندا وسويسرا، وسُحِق تمرد شيوعي في فيينا. كان قادة الثورة يدركون جيدًا أن بقاء الثورة في امتدادها فورًا إلى خارج الحدود، وأن مهمتهم الأولى هي العمل على دعم الثورة، والتعجيل بها. وقال لينين: لقد قلنا ونقول إن كل شيء يتوقف في نهاية المطاف على ما إذا كانت الثورة العالمية ستنتصر أم لا. ففي النهاية لا خلاص لنا إلا بالثورة العالمية، والثورة العالمية وحدها. ونحن إذ ننبذ الدعامة العالمية، إنما نطرح أحسن أسلحتنا، وأمضاها جيدًا.٢٣ وكتبت البرافدا في نوفمبر ١٩١٨م «أن المغزى العالمي الكبير لثورة أكتوبر، هو أولًا أنها مجرد حقيقة وجودها، قد شيدت جسرًا بين الغرب الاشتراكي والشرق المستعبَد، وخلقت بذلك جبهة ثورية جديدة تبتدئ من برولتاريي الغرب، وخلال الثورة الروسية، تصل إلى الشعوب المضطهدَة في الشرق ضد الإمبريالية العالمية.»٢٤ لكن القوات البيضاء — على حد تعبير هاوس في مذكراته الباريسية — والمعسكر الرأسمالي عمومًا، بدأ يسترد الأراضي المفقودة، حتى «أصبحت جمهورية روسيا السوفييتية معزولة تمامًا عن أي عون خارجي في عالم رأسمالي معاد.»٢٥ ثم ما لبث الصدام أن خف شيئًا فشيئًا، وفي صيف وخريف ١٩١٩م بدأت الموجة الثورية تنحسر بسرعة في جميع أنحاء أوروبا، وقضى الفشل في ميونيخ وبودابست على ما بقي لدى الجماهير من إيمان ثوري، وأعلن لينين في اجتماع الحرب بموسكو في نوفمبر ١٩٢٠م: «ليس لدينا فترة التقاط أنفاس فحسب، بل إن لدينا أيضًا مرحلة جديدة أصبح فيها مركزنا الأساس في إطار الدول الرأسمالية مضمونًا.»٢٦
وقُدرت خسائر الحرب العالمية الأولى بعشرة ملايين من القتلى، وعشرين مليونًا من الجرحى. ولأن الولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلا في وقت متأخر، فإنها لم تتكبد سوى ١٥ ألف قتيل، راح أقل من نصفهم في المعارك الفعلية، وتُوفي الباقون بسبب المرض، منهم حوالي ٢٥ ألف جندي ماتوا بوباء الأنفلونزا، بينما فقدت بريطانيا ٧٤٤ ألفًا، وجنود دول الكومنولث ٢٠٢٠٠٠، وفقدت فرنسا ومستعمراتها ١٤٠٠٠٠٠، وألمانيا ١٨٥٥٠٠٠، والمجر ١٠٠٥٠٠٠، وخرجت النمسا فقيرة مفلسة. تقلصت الإمبراطورية الواسعة ذات السبعين مليونًا من السكان، تحوَّلت إلى دولة مقصوصة الأطراف، يسكنها نحو ستة ملايين نسمة.٢٧
وكان من بين ما انتهت إليه الحرب احتلال القوات الإيطالية والفرنسية لأجزاء من الدولة التركية، بل إن اليونان — التي كانت، ذات يوم، إحدى الدول التابعة لتركيا — احتلت قواتها مناطق مهمة من الأناضول! خرجت تركيا من الحرب محطمة تمامًا. ارتفع في عاصمتها أعلام ثلاث دول، وعانت الخزانة إفلاسًا، وتحوَّل الجيش التركي إلى شراذم بلا سلاح.٢٨ وكانت دول البلقان قد اتحدت — للمرة الأولى في تاريخها — ضد تركيا، وكانت الجماهير المصرية تتابع أحداث الحرب التي كانت قائمة بين دول البلقان وروسيا من جهة، والدولة العثمانية من جهة أخرى، فقد اشتركت في الحرب قوات من الجيش المصري تأييدًا لدولة الخلافة.
وقد خلقت سنوات الحرب نقصًا مروعًا في المواد الخام والمواد الغذائية، وأصيبت وسائل المواصلات بتدمير شديد، وتعرضت التجارة الدولية لكساد واضح، وتغيرت صورة العالم الجغرافية والسياسية، وحدث تغيُّر عميق في سلوكيات الإنسان، وأعلن عدد كبير من الكُتاب أن المدنية الأوروبية في سبيلها إلى الزوال السريع، وأن العالم سيعود إلى الصورة التي كان عليها قبل الثورة الصناعية.٢٩ وفي ١٩٢٨م وقع ميثاق كيلوج-بريان الذي بدأت به الولايات المتحدة إسهامها في الشئون الأوروبية، لكن حلول الأزمة الاقتصادية في عام ١٩٢٩م، دفع كل الدول إلى محاولة إنقاذ اقتصادها القومي من التصدُّع.٣٠
ويقول الحكيم: «كان للحرب العالمية الأولى من الآثار ما يصيب الإنسان بالدوار. فقد كانت هذه أول حرب بشرية يشترك فيها العالم كله بالأعباء العسكرية والمدنية، وينتج عنها — تبعًا لذلك — من الأفكار ما يقلب الأوضاع في كل مجال من مجالات النشاط البشري. ففي الأدب والفن شاهدت مولد السوريالية وثورتها ضد المنطق العقلي. وكان زعماؤها من الشباب المقترب منا وقتئذٍ في السن. كما عشت في جو نخبة من الفنانين المجدِّدين المجاهدين الأيام، كانوا في الفن التشكيلي بيكاسو، وفي الشعر كوكتو، وفي المسرح بيتوييف.٣١ وفي يونيو ١٩١٧م، عُرضت أول مسرحية ذات اتجاه فني سوريالي، وهي مسرحية الشاعر الفرنسي أبولينير «أثداء تيريزيا».

•••

كان في الجزيرة العربية — عند قيام الحرب — خمس إمارات هي:

  • الحجاز، وحاكمها الشريف حسين.

  • إمارة السعوديين في نجد بزعامة السلطان عبد العزيز، وكانت تربطه بإنجلترا معاهدة صداقة.

  • إمارة الرشيد في حائل شمالي نجد، وكانت موالية للأتراك.

  • إمارة الإدريسي في عسير وتهامة، وكانت تحيا على المعونة الإنجليزية.

  • إمارة الزيود في اليمن بعامة الإمام يحيى، وكانت على صلة طيبة بالأتراك.

وقد أدى دخول تركيا الحرب ضد الحلفاء في نوفمبر ١٩١٤م، إلى بروز العرب كقوة مؤثرة؛ فقد كان وجود القوات التركية في العراق والشام والجزيرة العربية، معناه تهديد المصالح الاستراتيجية البريطانية في منطقتَي قناة السويس والخليج. فضلًا عن تهديد الملاحة في البحر الأحمر، وإمكانية إعلان الجهاد للدفاع عن المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، بل وتحويل الأجزاء البعيدة في العالم الإسلامي، مثل الهند ومراكش، إلى مناطق توتُّر ضد الوجود الاحتلالي لفرنسا وإنجلترا. كانت بريطانيا هي التي قامت بتمويل — وتسليح — الوهابيين، وهي التي يسَّرت لهم سُبل إقامة عروش في نجد، ثم الحجاز.٣٢ وفي بدايات الحرب، عرض اللورد كتشنر على الشريف حسين تعهدًا من دولته، بمؤازرة الدول العربية الآسيوية في نيل الاستقلال، إن بادروا هم — العرب — بإعلان الثورة ضد دولة الخلافة. وتؤكد الاجتهادات المؤيدة لثورة الشريف حسين ضد دولة الخلافة، أنه لم يقدِم على تلك الخطوة، ولم يضع يده في يد السير هنري ماكماهون نائب ملك بريطانيا في مصر، إلا بهدف حصول الأقطار العربية على استقلالها. كان الدافع الأساس لاتصال السلطات البريطانية بالشريف حسين، ما تتميز به إمارة الحجاز من أهمية استراتيجية بالغة في المنطقة الخاضعة للسيطرة التركية، ضمن إمارات الجزيرة، فضلًا عن مكانة الشريف حسين في العالم الإسلامي، وهي المكانة التي تتيح له الدعوة — منفردًا — إلى الجهاد. وكان الشريف حسين يعاني صدمة الرفض التركي لمطالبه في لا مركزية الحكم، أو الحكم الذاتي، داخل إطار الإمبراطورية العثمانية. رفض الباب العالي المطلب بشدة، فوضع أمام الأقطار العربية احتمالًا وحيدًا. ثم زاد العسكريون الأتراك، فنصبوا المشانق في دمشق وبيروت، وأعدموا العشرات من رجال الصحافة والسياسة والكُتاب والشخصيات الوطنية. وثمة اجتهادات وجدت في تجاوزات جمال باشا، الحاكم التركي للشام — وقد لقِّب بالسفاح — سببًا مباشرًا في تحوُّل الموقف العربي من تأييد دولة الخلافة إلى مناصرة الثورة عليها.
كانت الحرب باعثًا لتصاعد الشعور الوطني، الذي يستهدف الحرية والاستقلال، سواء عن دولة الخلافة، أم الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي. وقد اتجهت نية الزعامات العربية — في البداية — إلى مساعدة دولة الخلافة. وعُقد — بالفعل — مؤتمر لهذا الغرض في مارس ١٩١٥م بمنزل شكري الأيوبي باشا، واتخذوا قرارات بمساعدة دولة الآستانة، لكن أحكام الإعدام ضد الزعماء والوطنيين العرب، أحدثت ردود فعل عنيفة في كل الأقطار العربية، وتحوَّل الغالبية إلى الثورة ضد الأتراك، وبايعوا الشريف حسين في زعامته للثورة. ويقول ساطع الحصري: «هذه الثورة التي بدأت من مكة المكرمة، تحت زعامة أمير مكة، لم تكن ثورة حجازية، بل كانت ثورة عربية بكل معنى الكلمة. إنها كانت ترمي إلى استقلال الولايات العربية بأجمعها، وكانت تصبو إلى تكوين دولة عربية جديدة موحَّدة، تنهض بالأمة نهضة حقيقية، تعيد إليها مجدها السابق … ولذلك اشترك في الثورة، وقام بأعبائها رجال من مختلف الأقطار العربية، فكان بينهم السوري والعراقي واللبناني والحجازي والفلسطيني، كما كان بينهم المسلم والمسيحي.»٣٣ وكان اعتماد الثورة العربية — في الحقيقة — على وعود بريطانية بإقامة دولة عربية موحدة، مستقلة. وفي تقدير يحيى حقي أن الإنجليز دبَّروا خلع الشريف حسين بالغزو الوهابي، لطي صفحة وعودهم الكاذبة له باستقلال الجزيرة العربية تحت إمارته. مع ذلك فإنهم لم يعطوا الحجاز لقمة سائغة للملك عبد العزيز بن سعود، فقد وقَّع على ظهر السفينة التي أقلَّته هو أيضًا خارج بلاده، على معاهدة يتنازل فيها الحجاز لشرق الأردن عن ميناء العقبة.٣٤ أما في ليبيا، فقد استولى السنوسيون (١٩١٧م) على بعض الواحات المصرية، وظل احتلالهم لها حتى الآن «والله وحده يعلم متى ينتهي.»٣٥ ومن الطريف — والمؤسف — أنه بينما كانت قوات الثورة العربية تشن هجماتها على الحاميات التركية، فإن بريطانيا وفرنسا توصَّلتا إلى اتفاقية سايكس بيكو التي قسَّمت مناطق الوطن العربي بين الدولتين. وظلت تلك الاتفاقية سرًّا غير معلَن، حتى كشفت عنه حكومة الثورة في الاتحاد السوفييتي عام ١٩١٧م. والواقع أن فرنسا أعلنت موقفها المؤيِّد — صراحة — للاحتلال البريطاني، غداة تأكُّد هزيمة العرابيين في التل الكبير، فقد بعث سفير فرنسا بالعاصمة البريطانية برقية تهنئة إلى اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا. وردَّ جرانفيل على التهنئة بقوله: «إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوروبي، ولو انهزم الجيش الإنجليزي، لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابًا للتعصب الإسلامي.»٣٦ بل لقد هنَّأ كلارك — رئيس وزراء فرنسا — السفير البريطاني في باريس على انتصار القوات البريطانية في التل الكبير، وقال: إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر ينتج ثمرة طيبة لفرنسا في تونس والجزائر.٣٧ واللافت أن الوعود البريطانية شملت أوطانًا قومية أخرى لليهود والأكراد واليونانيين والآشوريين وغيرهم، ثم ذابت تلك الوعود جميعًا — ما عدا وعد بلفور — في معاهدة سايكس بيكو.

•••

لعل من أهم الخطوات التي اتخذتها سلطات الاحتلال — غداة قيام الحرب العالمية الأولى — تنحية الخديو عباس حلمي الثاني، وتنصيب السلطان حسين كامل بدلًا منه. ويرى محمد عودة أن الهدف الحقيقي من عزل الخديو عباس، ربما لم يكن الخلاص منه، وإنما حسم التناقض القائم في دعوى بريطانيا من الاحتلال، وتنفيذ ما طالب به كرومر، وضم مصر — نهائيًّا — إلى الإمبراطورية البريطانية، وإقامة نظام حكم جديد، يبدأ بالخلاص من الأسرة العلوية نهائيًّا.٣٨
والثابت — تاريخيًّا — أن الخديو عباس لم يكن شخصية محبوبة على المستوى الجمعي، حتى الشيخ الأزهري (مآذن دير مواس) الذي أتيح له أن يكون قريبًا من الخديو، ما لبث أن وجد فيه مخادعًا، خسيسًا، ويتسم بالبخل والشح الشديدين.٣٩ فلماذا تعاظم رد الفعل الشعبي إلى حد ترديد الأغنيات مجهولة المؤلِّف والملحن — فهي أغنيات شعبية إذن! — مثل: الله حي! عباس جي! وغيرها؟ حتى الشيخ سلامة حجازي، أنشد مسرحية «هملت» التي ترجمها عبده طانيوس — تعمدًا أو مصادفة: عمٌّ يخون وأم لا وفاء لها … أمٌّ ولكن بلا قلب ولا كبد، إشارة إلى عزل الخديو عباس حلمي الثاني، وتنصيب السلطان حسين كامل بدلًا منه! ويقول الشيخ متولي عبد الصمد: «ثم أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس، مؤيَّدًا بجيش من جيوش الخليفة لا يعرف له أول من آخر.»٤٠ بل إن رجب (النفس الحائرة) يلخص الصورة السياسية القائمة في عهد الخديو عباس حلمي الثاني بأنها مشادة بين اللورد كرومر والخديو. اللورد يريد أن يستأثر بالسلطة، وأن يفعل ما يريد، والخديو يحاول ما وسعه أن يتخلص من سلطة الاحتلال الإنجليزي.٤١ وقد حرص الإنجليز — بعد أن وُلي فؤاد عرش مصر — على أن يظل في خوف من عودة الخديو عباس.٤٢ ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ما كتبه عبد الرحمن فهمي في ١٢ أبريل ١٩١٩م إلى سعد زغلول: «ظهرت في الأيام الأخيرة حركة غريبة جدًّا، وهي الهتاف للخديو عباس، وبالبحث علمنا أن من بين المشجعين عليها الحزب الوطني.»٤٣ وكتب في الرسالة نفسها: «بحثت عن سبب المناداة بحياة عباس، فوجدت أنها دسيسة آتية من سعيد باشا باتفاقه مع أعضاء الحزب الوطني — الصوفاني — فحاربتها بشدة، إلى أن زال أثرها.»٤٤ وإلى أعوام الحرب العالمية الثانية، كان المعلم كرشة (زقاق المدق) يضع على جدار مقهاه صورة للخديو عباس.٤٥
بالإضافة إلى العامل الديني الذي يشكِّل رابطة وثيقة بين مصر ودولة الخلافة، فإن المصريين ناقشوا عزل الخديو عباس في إطار الكرامة الوطنية. اعتبروا ما حدث مشكلة قومية تتصل برمز الدولة، لا بمجرد حاكم عزله الإنجليز، وعيَّنوا آخر بدلًا منه. فضلًا عن أن المصطلحات الجديدة التي استحدثتها سلطات الاحتلال، مثل «الحماية»، و«السلطان»، و«المندوب السامي» وغيرها، أعطت تأثيرات سلبية في نفسية المواطن المصري.٤٦ قد يكون لأعداد من المثقفين في الخديو المعزول رأي، لكن الشعب — في مجموعه — بكى لعزله ونفيه، بكى فعلًا، وأُلِّفت الأغنيات الشعبية، وطالب الناس — سرًّا وعلانية — بعودة أبي الفلاح، التسمية التي كانت تُطلَق على الخديو المعزول، وهو البرنس في تسمية أخرى، وقد اشتُهر عنه أنه كان ينفق نصف إيراده على الفلاحين.٤٧ وقد ظل الخديو المعزول منفيًّا في أوروبا حتى مات.٤٨

•••

حين أعلنت إنجلترا قرار الحماية «أحسَّت مصر كلها أن قلبها قد أصيب بطعنة خنجر، وهبط عليها الغم، وعاشت في وجوم.»٤٩ ولأن ألمانيا دخلت في صف الرجل المريض في الآستانة، فقد أكرم أهل قرية خربتا الطبيب اليوناني جورج أفستيادس، حين افتتح عيادة في قريتهم، سموه الدكتور الألماني، تكريمًا له، وتشفِّيًا في الإنجليز الذين فرضوا الحماية على مصر.٥٠ وفي تقدير فتحي رضوان أن بريطانيا اضطرت إلى إعلان الحماية على مصر في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م، بما يناقض الرأي أنها «انتهزت فرصة الحرب وأعلنت الحماية.» كانت بريطانيا صاحبة السلطة الفعلية في مصر، وكان إعلانها المتجدد أن الاحتلال مؤقت. وكان الوضع — عمومًا — بلا تسمية قانونية له، فهو يريحها من الدخول في مشكلات قانونية وسياسية، فضلًا عن الاطمئنان إلى موقف تركيا صاحبة السيادة القانونية على مصر، فهي لم تكن تستطيع شن حرب على بريطانيا. فلما خابت التقديرات، لم يكن أمام بريطانيا — مضطرة — سوى إعلان قرار الحماية، وكان قرارًا صعبًا!٥١ ومنعت السلطات البريطانية الحكومة المصرية من التعامل مع ألمانيا والنمسا والمجر، وحظرت تصدير أي شيء مصري إليها، واستولت على جميع السفن الألمانية والنمساوية الراسية في الثغور المصرية.٥٢ وإلى قيام الحرب، فقد كان القول بأن مصر بلد زراعي، أشبه بالحقيقة التي يصعب نقضها، ولم يكن من المتصور أن تصبح الصناعة — يومًا — أحد مصادر الدخل القومي، لكن توقف حركة الاستيراد من الخارج، أفسح المجال أمام الصناعات المحلية، وشجع على الاستثمار فيها، ونبَّه الاقتصاديين المصريين إلى وجوب الاهتمام بالمشروعات الصناعية. اضطر المصريون — لسد احتياجاتهم في مواجهة توقُّف الواردات، أو صعوبة وصولها — أن ينشئوا صناعات لم تكن موجودة في حياتهم من قبل. نشأت صناعات عديدة مثل صناعة الأخشاب والتغذية، والملابس، والفخار، وأدوات البناء، والتعدين، والجلود، والزجاج، وبعض الصناعات الاستخراجية.٥٣ ومهدت تلك الفترة لظهور التيار الرأسمالي المصري،٥٤ فبالإضافة إلى محاولة سد احتياجات السوق لبعض الصناعات، فإن أسعار الحاصلات الزراعية كانت قد بدأت في الانخفاض من ١٩٠٢م، مما دفع القوى الرأسمالية إلى الاتجاه نحو الصناعة.٥٥ كما كان تعذُّر السفر إلى المصايف الشرقية أو الأوروبية — طيلة أعوام الحرب — دافعًا لإقبال العديد من الأسر المصرية — ربما لأول مرة — على قضاء إجازات الصيف في الإسكندرية.٥٦
وإذا كان أمين الرافعي قد عطَّل جريدته «الأخبار» حتى لا تنشر قرار إعلان الحماية،٥٧ فإن السلطان حسين كامل صرَّح لمراسل «الأسوشيتد برس» (١٢ / ١٠ / ١٩١٦م) بقوله: «أعتقد أن مستقبل مصر مكفول تحت حماية بريطانيا العظمى أعظم الدول الحرة. وكانت حالة الحكومة في عهد الخديو السابق كبيتٍ له ثلاثة أبواب، هي: الحكومة المصرية، والخديو، والوكالة البريطانية. وكانت كل من هذه القوات الثلاث تؤدي عملها على حدة، كأنما هي مستقلة عن القوتين الأخريين، فكانت النتيجة أن الناس لم يعودوا يدرون إلى أي باب يسيرون. أما الآن فقد امتزجت هذه القوات الثلاث، وتوحدت مصلحتها، وصارت تسعى لغرض واحد، وهو خير مصر وإسعادها.»٥٨ ورغم كل المحاولات التي بذلها السلطان حسين كامل لتحسين صورته في أعين الجماهير، فإن الجماهير لم تغفر له أنه قد وُلي العرش بإرادة الإنجليز، وكانت ترافقه حراسة مشددة في كل مكان يذهب إليه.٥٩ أما «الجريدة» فقد توقفت عن الصدور في بداية أعوام الحرب، حاول لطفي السيد ومعاونوه أن يصلوا إلى تدارك ما يخافون من توقف الجريدة، لكن غلبتهم الظروف، فتعطلت الجريدة نهائيًّا.٦٠ وإذا كان قانون الطوارئ الذي صاحب قيام الحرب قد أسكت الصحف السياسية المعبِّرة عن الأحزاب، فإن أزمة الورق أدت إلى صدور كل من الجريدتين المتبقيتين «الأهرام» و«المقطم»، في ورقة واحدة من صفحتين، تتضمنان برقيات وكالات الأنباء وأخبار الوزارات، وغيرها مما يصح تسميته بالأخبار التقليدية.٦١ ويشير سلامة موسى إلى أن الناس كانوا يقرءون الأخبار بالأسلوب الذي يريده الإنجليز، و«اشتركت في بعض المجلات الأمريكية كي أصل عن طريقها إلى الأخبار الصحيحة، فكانت إما تُمنَع من الوصول إليَّ، وإما تُقص أوراقها التي تحمل أخبارًا غير ملائمة للإنجليز.»٦٢ وقد تكرر تأجيل اجتماعات الجمعية التشريعية مرة بعد أخرى، حتى تعطلت تمامًا.٦٣ وتبع إعلان الحماية أيضًا، صدور قانون التجمهر الذي يمنع تجمُّع الأشخاص، ومع أن القانون صدر في ١٨ أكتوبر ١٩١٤م، فإن الاجتماعات حرِّمت عقب إعلان الحرب مباشرة «وروقب المصريون الوطنيون مراقبة شديدة للغاية.»٦٤ وجمعت الشرطة العِصي الغليظة من الناس حفاظًا على الأمن،٦٥ وأُغلق نادي المدارس العليا والنقابات العمالية وبعض الموالد المهمة كمولد السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، حتى الموالد التي عجزت سلطات الاحتلال عن إلغائها، كان يتولى مراقبتها أحد قادة قوات الاحتلال.٦٦ كذلك فقد تحوَّلت المسارح إلى كازينوهات وصالات يرتادها جنود بريطانيا والدول المتعاونة معها، فهي تستقبل طيلة النهار القطارات القادمة من مدن الأقاليم، محمَّلة بالجنود الذين تركوا معسكراتهم في تلك المدن، وقدِموا إلى القاهرة للبحث عن المتعة في ملاهيها،٦٧ وأقعد المرض سلامة حجازي، واختفت الفِرق المسرحية فيما عدا فرقة جورج أبيض برواياتها التقليدية، وبعض فِرق الأرياف الهزيلة … والتعبير لفاطمة اليوسف.٦٨ وظهر الكوكايين — لأول مرة في مصر — عام ١٩١٦م؛ استوردته قوات الاحتلال لإجبار جيادها على عدم النوم.

•••

كان فهمي (بين القصرين) تعبيرًا عن قطاعات كبيرة من المصريين، وجدوا في انتصار الألمان — الذي تمنَّوه! — انتصارًا للترك بالتالي، بحيث تعود دولة الخلافة إلى مجدها القديم، ويعود إلى الوطن الخديو عباس والزعيم محمد فريد. من هنا، جاء قوله لياسين: إن هجوم هندنبرج الأخير شديد الخطورة، ولا يبعد أن يكون الهجوم الفاصل في هذه الحرب.

«وكان ياسين يعطف على آمال أخيه، ولكن في هدوء متسم بقلة الاكتراث؛ تمنَّى مثله أن ينتصر الألمان، وبالتالي الترك، وأن تسترد الخلافة سابق عزَّتها، وأن يعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن، ولكن أمنية من هذه الأماني لم تكن لتشغل قلبه في غير أوقات الحديث عنها، وقد قال وهو يهز رأسه: مضى أربع سنوات ونحن نردد هذا الكلام.

فقال فهمي برجاء وإشفاق: لكل حرب نهاية، ولا بد أن تنتهي هذه الحرب، ولا أظن الألمان ينهزمون.

– هذا ما ندعو الله أن يتحقق، ولكن ماذا يكون رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟

ولما كانت المعارضة تشعل حدَّته، فقد علا صوته وهو يقول: المهم أن نتخلص من كابوس الإنجليز، وأن تعود الخلافة إلى سابق عظمتها، فنجد طريقنا ممهدًا.

وتدخلت خديجة في الحديث متسائلة: لماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا بلن ليلقي بقنابله علينا؟!

وراح فهمي يؤكد — كعادته — أن الألمان قصدوا الإنجليز بقنابلهم لا المصريين، فانتقل الحديث إلى مناطيد زبلن وما يقال عن ضخامتها، حتى استوى ياسين في جلسته، ونهض إلى حجرته ليرتدي ملابسه تمهيدًا لمغادرة البيت إلى سهرته المعتادة.»٦٩ حتى كلمات الغزل التي يتابع بها ياسين زنوبة العوادة، لا تخلو من «تأثير» الأحداث: فردة ثدي من صدرك تكفي لخراب مالطة، وفردة إلية تطيِّر مخ هندنبرج. ثم يقول ياسين لنفسه: يا خراب بيتك يا ابن عبد الجواد. يا شماتة الأستراليين فيك يا أنا يا طريد الأزبكية وحبيس الجمالية. الحرب يا هوه. شنَّها غليوم في أوروبا ورحت ضحيتها أنا في النحاسين. وتقول أمينة: ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس! فيهز أحمد عبد الجواد رأسه، ويتمتم قائلًا: متى؟ متى؟ عِلم هذا عند ربي. ما نقرأ في الجرائد إلا عن انتصارات الإنجليز، فهل ينتصرون حقًّا، أو ينتصر الألمان والتُّرك في النهاية؟ اللهم استجب!٧٠

•••

والحق أن فؤاد لم يكن يُعد نفسه — على الإطلاق — لتولي العرش، فبعد أن اختلف بقية الأمراء — إلى حد التطاحن! — في مَن يخلف الخديو عباس، استقدم الإنجليز أغاخان زعيم الطائفة الإسماعيلية، ثم ما لبثوا أن ابتلعوا مخططهم لتوليته عرش مصر، بعد أن علموا باستحالة ذلك في ضوء المذهب السُّني الذي يَدين به المصريون، بينما الأغاخان ينتمي إلى أحد مذاهب الشيعة.٧١ ثم تولى السلطان حسين كامل عرش مصر، وكما يقول اللورد ملنر، «فقد قبِل أن «يكون سلطان مصر الأول مع علمه بثقل أعباء هذا المنصب، واشترك بشجاعة وإخلاص في تحمُّل المشقات التي يقتضيها تدبير أمور بلاد إسلامية تحتلها دولة مسيحية محاربة لسلطان هو خليفة المسلمين.»٧٢ وتُوفي السلطان حسين كامل في ١٩ أكتوبر ١٩١٧م (اليوم الذي بدأت فيه أحداث «بين القصرين») وتنازل ابنه الأمير كمال الدين عن جميع حقوقه في وراثة السلطنة، ووقَّع وثيقة بذلك، وإن وافق شقيقه الأمير فؤاد — في اليوم نفسه — على قبول عرض الحكومة البريطانية بتولي عرش السلطنة. وكان اختياره لأنه «شخصية ليِّنة، سهلة الانقياد، وليس له في مصر أصدقاء كثيرون ممن يضطر إلى اللجوء إليهم طلبًا للعون، وبذلك فلن يثير في وجهها المتاعب.»٧٣ وأصدر فؤاد بيانًا قال فيه: «نُعلم رعايانا أننا قد تولينا بالاتفاق مع الدول الحامية عرش الدولة المصرية.»

ولا شك أن الحرب كانت محور أحاديث الأسر المصرية جميعًا، وليست أسرة أحمد عبد الجواد وحدها. وكان «إذا وقع حادث جديد في الحرب أو سواها، تراه أصبح موضوع الحديث في كل مكان، يعاد حتى للمرة الخامسة أو السادسة في كل مجلس، ويورَد بأساليب متنوعة، ثم يجسَّم ويكبر فيصبح قبَّة كبيرة، وإن هو إلا حبة صغيرة.» كان غالبية المصريين يتمنون فوز الأتراك، وكانت جلسات المقاهي تكاد تقتصر على التحدث في النصر المؤكد القريب الذي سيحرزه العثمانيون، وأن ساعة دخولهم القاهرة معروفة، وإن لم تعلنها الآستانة:

جيش للترك بطور سينا
وغدًا بالنصر يواتينا٧٤
ويذهب محمد نجيب إلى أن المصريين الذين وضعوا خطة الثورة وقتذاك، لم يكونوا يرغبون في دخول الأتراك بلادهم حبًّا في سواد عيونهم، أو بياض وجوههم، ولكن رغبة في خلاص وطنهم من نِير الاحتلال البريطاني.٧٥ بل إن حسان (الشارع الجديد) أعلن — قبيل نشوب الحرب — أنه لن يخرج الإنجليز من بلادنا إلا إذا حاربناهم. ويواجهه السؤال: كيف نحاربهم؟ فيجيب: «ننضم إلى تركيا ونغريها بحربهم.»٧٦ ويقول الحكيم: «كنا بقلوبنا مع الألمان والأتراك، وقد كانوا في جانب واحد ضد الإنجليز الذين كنا نمقتهم، ونتمنى الخلاص من احتلالهم. كان الشعور بكراهية الإنجليز شيئًا طبيعيًّا كالهواء الذي نتنفَّسه، ولا يجادل فيه، ولعل الفضل في إثارة الشعور العام ببغض الإنجليز هو للمجاهد مصطفى كامل.»٧٧ ويقول إبراهيم (النفس الحائرة): إن الحركة المصرية التي يحمل عليها مصطفى باشا كامل، ستقلب الحال رأسًا على عقب في هذا القطر، فلا تعود ترى في القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه إلا من ينادي مطالبًا بالحرية وبالاستقلال.»٧٨ وقد تم ضبط مؤامرة خطَّط لها مجموعة من أبناء المنصورة لمساعدة الأتراك «عند دخولهم مصر بإحداث شغب فيها.»٧٩ ولم يكن اتجاه مؤيدي ومعارضي دعوة مصطفى كامل بانتماء مصر إلى دولة الخلافة، حرصًا على تبعية مصر إلى الآستانة؛ فالمؤيدون كانوا يجدون في التمسك بالسيادة التركية — حتى لو كانت ضعيفة أو مظهرية — وسيلة فقهية دولية للتخلص من ربقة الاحتلال البريطاني، ثم يسهل التخلص من التبعية لتركيا. أما المعارضون فقد كانوا يجدون في دعوة مصطفى كامل محاولة لاستخلاص استقلال مصر من إنجلترا، وتسليمه لتركيا،٨٠ وإن ظلَّت أعداد — قليلة نسبيًّا — من المصريين تنتصر لدولة الخلافة لأسباب دينية. وبالنسبة لانتصار مشاعر الغالبية العظمى من الشعب المصري للألمان لأسباب استقلالية تتمثَّل في هزيمة بريطانيا، مما يتيح لمصر تحقُّق استقلالها، وأسباب دينية تتمثَّل في أن دولة الخلافة كانت هي العدو الذي تحاربه إنجلترا، فإن الأسباب الاستقلالية، الوطنية، كانت هي محرك مشاعر بعض المثقفين من المصريين الذين كانوا يجدون في هزيمة القوات البريطانية على أيدي قوات المحور فرصة لانتزاع الاستقلال المصري من أنياب الأسد البريطاني.

•••

كتب سعد زغلول في يومياته (٢٣ / ٥ / ١٩١٧م) أنه أبلغ بعض أصدقائه بأن «الحرب إذ انتهت بانتصار أحد الفريقين المتحاربَين، فليس لهذه البلاد نصيب في الاستقلال، وليس لحر الشمائل إلا أن يرحل عنها، لأنه يصبح غريبًا عنها ذليلًا مهيض الجناح.»٨١ وهي وجهة نظر يغلب عليها التشاؤم، لكنها لا تخلو من صحة. والحق أن الانتصار للألمان في مواجهة الإنجليز، أو العكس، يبين عن خاصية سلبية تتسم بها الشخصية المصرية بعامة، وهي الاعتماد على الآخرين في تحقيق مطالبنا: يا مين يجيب لي حبيبي! لا نعتمد على الذات، وإنما على مجهودات الآخرين، وما يمكن أن يفعلوه من أجلنا! يدافعون عن حقوقنا، يحاربون الخصوم نيابة عنا، يثأرون لما تلقيناه من طعنات! والنتيجة — في كل الأحوال — قاسية. والمثل الأوضح عندما اعتمد مصطفى كامل على فرنسا، فخذلته بالاتفاق مع إنجلترا على اقتسام المصالح في المنطقة، واعتمد على تركيا قبل أن تصبح دولة الخلافة ماضيًا، وتتحوَّل تركيا إلى دولة علمانية تتجه ناحية الغرب الأوروبي! وقد أوصى اللورد كرومر — بالفعل — حكومة بلاده في ١٩١٦م بأن تضم مصر نهائيًّا إلى الإمبراطورية البريطانية.٨٢ مع ذلك، فقد تتابعت محاولات اغتيال السلطان ووزرائه وبعض المستشارين الإنجليز، نجح أقلُّها، وأخفق غالبيتها. وكما يقول محمد أنيس، فقد «كانت محاولات فردية ليس بينها ترابط بين شباب الحزب الوطني الصغير السن، وبدا اليأس واضحًا في أوساط هذا الحزب بشكل حاد، حتى إن محمد فريد كان يعبِّر في مذكراته عن دهشته الشديدة حينما ثارت جماهير الشعب المصري في أبريل ١٩١٩م.»٨٣

المصابيح الزرق

يقول توفيق الحكيم: «يظهر أن الحروب، وما تثيره في الأمة من هزَّات اجتماعية، ترغم المشتغِل بالفن على الاستقاء من هذا المنبع، وتدفعه إلى الاستيحاء مما يضطرب فيه هذا المجتمع. هكذا كان الحال أيضًا بالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى، فقد كان المجتمع المصري — وقتئذٍ — يهتز لأمرين: الخلاص من الاحتلال، والتخلص من الحجاب.» وعلى الرغم من أن «المصابيح الزرق» (١٩٦١م) لمحمود تيمور، هي العمل الروائي الوحيد الذي يرتكز إلى قلب الحرب العالمية الأولى، فإن الرواية تعاني تهاوي الأبعاد الزمنية، مما يصح معه أن تُنتسَب إلى أي موقع في الخريطة الزمنية للاحتلال الإنجليزي منذ ١٨٨٢م إلى ١٩٢٤م. كان الدافع لكتابة المصابيح الزرق — كما يقول تيمور — هو رأيه بعد قيام ثورة ١٩٥٢م، بوجوب كتابة الفترة التي عاصرها في كتاب جديد «وكتبت فعلًا رواية «المصابيح الزرق» وهي تدور حول الحرب العالمية الأولى، ووطأة الاحتلال والجيوش الأجنبية في بلادنا.» وربما تضغط الرواية على وجود الاحتلال الإنجليزي — وهو واقع فرض نفسه منذ دخول قواته القاهرة — ولكن الحرب لا تشكِّل عنصرًا أساسيًّا في تكثيف الأحداث أو نموها، فقد كان الاحتلال — مثلًا — وليست الحرب، هو السبب الذي قامت عليه نتيجة قتل وفيق الصغير، أردته رصاصات جنود الإنجليز، ولم تقتله قنابل الحرب لأنها لم تقتل أحدًا من أبناء المدن المصرية على الإطلاق. حتى النشيد الذي كان الصغار يرددونه، وهو:

هل تعلمون تحيتي
عند القدوم إليكم
أنا إن رأيت جماعة
قلت السلام عليكم٨٤
هذا النشيد، لم يكن قد ظهر إلى قيام الحرب الثانية. وفي الحقيقة أن «جو» الحرب لم يأخذ إلا بضع فقرات في مقدمة الرواية: «… الإسكندرية، يوليو سنة ١٩١٦م، الحرب العظمى — أعني الحرب العالمية الأولى — قارب عمرها السنتين، وليس في مستطاع أحد أن يتكهن بنهايتها، ولا أن يدري مَن يكتب له الغلبة، ومَن يكون المهزوم. الملل قد تسلل إلى القلوب، والثغر مكتظ بالمصيفين من كل فَج؛ إذ حيل بينهم وبين الترحُّل إلى المصايف الأجنبية في الشرق، أو في الغرب. وحرب الغواصات في البحر بالغة الذروة، فما من يوم ينبلج صباحه، إلا حملت إلينا فيه الصحف أنباء البواخر الغرقى، هذا فضلًا عن الفيض الزاخر من جنودٍ تابعين لجيش الاحتلال الإنجليزي، تضيق به منافذ الإسكندرية يمنة ويسرة. كانوا كمثل أرتال الجراد المنتفض، مختلفة ألوانهم وصورهم، وإن جمعتهم شارة واحدة، وانضووا تحت عَلمٍ واحد … نراهم حين نُصبح وحين نُمسي، يدافعوننا بالمناكب في الطرق، أنوفهم شوامخ، وعلى سيمائهم عنجهية واستفزاز، وفي المخازن التجارية لا يدعون لنا ما نشتريه حتى الفُضالات، وفي المشارب والمطاعم والأندية العامة يزحموننا ويتبوءون المقاعد المختارة في صخب وهياج.»٨٥ تمضي الرواية بعد ذلك، لتروي قصة امرأة تحيا حياتَين، فهي في حارة الرذيلة، المومس «نواعم» التي يشتعل جسدها بالعهر والأنوثة، وهي في شقتها الخاصة، بهية الأم والابنة التي ترعى — بكل الحنان والعطف — طفلها الصغير ووالدها، وتحب — نواعم أو بهية — شابًّا وطنيًّا، وتسمح له — بعد ممانعة طويلة — أن يتعرَّف إلى حياتها الخاصة، بعد أن تقدمه إلى والدها وابنها على أنه خطيبها الطبيب في المستشفى الذي تعمل فيه. ويقسِّم الشاب وقته بين زيارة نواعم «الغانية الطروب» وزيارة خطيبته بهية «مثال الحشمة والعفاف» … «وكنت أتخذ لكل من الزيارتَين ما يلائمها، فأصبحت لي — أنا أيضًا — في الحياة شخصيتان متميزتان؛ إحداهما تناقض الأخرى تمام المناقضة. والذي أدهشني أنني لم أحس في الأمر من غرابة أو شذوذ، بل لقد ألفيته يساير المألوف من المشاعر الطبيعية للسادة بني البشر.» ويومًا، نظَّم وفيق مع جده وبعض الأطفال «مظاهرة منزلية» ينادون فيها بسقوط الاحتلال، وانضم إليها عدد من شبان الحي أصروا على أن يتحوَّل اللعب إلى حقيقة، وأن يخرجوا بالمظاهرة إلى الشوارع. وتضخم عدد المتظاهرين حتى ملَئوا الشارع تمامًا. وأمسك وفيق بالعلم المصري يهز به النفوس، وبغتة، برزت كتيبة من جنود الاحتلال، أطلقت رصاصها على المتظاهرين، فهوى رفيق مضرجًا بدمه. وكان ذلك الحادث بداية لتقمص الأم شخصية ثالثة، وهي أشجان الأم الثكلى التي لم يعُد يشغلها من الحياة سوى الانتقام لطفلها. وأقنعها الشاب أن تنشئ مشغلًا لفن التفصيل والحياكة، وكذلك «نلقنهن درسًا في الأماني القومية، نعدهن ليكن مواطنات رشيدات، وأمهات لجيل جديد يعرف تبعاته نحو بلده حق المعرفة، ويقدِّرها خير التقدير.» «وتحوَّل يوم افتتاح المشغل إلى مظاهر وطنية تعالت فيها الهتافات بحياة الوطن، وتأجج الحماس، واشتدت الفورة، ثم تناهت إلينا من خارج القاعة جلبة وتصايح، وانطلقت القذائف مدوية. وعلمنا أن دورية من الجند البريطانيين، قد تسامعت بنبأ الحفل وما يجري فيه، فخفَّت إليه تفضُّه، وعمَّ الهرج والمرج مَن في القاعة. وامتدت يد أشجان إلى الراية المخضبة بدم ولدها الشهيد، فانتزعتها وتلفَّعت بها، ثم مثلت على المنصة تهتف بحياة الوطن، وتحث الأهلين على الجهاد، فتجمَّع حولها لفيف من الشبان، وأخذوا يردِّدون النداءات الحماسية، في أصوات محمومة. وتكاثر الجمع حول أشجان، وإذا هي محمولة على الأكتاف، وإذا الجميع يخرجون بها إلى الحديقة، وأنا معهم، يحدوني باعث لا طاقة لي بدفعه. وتتابعت الأحداث في سرعة مذهلة، وألفيتني أرفع عقيرتي بالهتاف، أجاري القوم في تصايحهم دون خشية، واشتد إطلاق النار، وأحسست قوة عارمة تسوقني إلى أشجان، ومناكب الجمع تتمايل بها يمنة ويسرة، والقذائف حولنا تقصف. ولمحتها تضع يدها على صدرها وتترنَّح، وما هي إلا أن تهاوت، والراية على جسدها تنبسط، ففزعت إليها أتلقاها بين ذراعَي، وأهويت على جسدها أتحسَّسه، وقد شقَّت حلقي صيحة هلع، وأنا أناشدها أن تخبرني ماذا دهاها، فما راعني إلا دمها يتدفق من بين جوانحها، ممتزجًا بدم الشهيد، على ديباجة الراية الحمراء، راية الوطن.»
وعلى الرغم من أن الراوي لم يتحدث عن وجوب طرد قوات الاحتلال إلا بعد أن أخذ الضابط البريطاني فتاة الليل منه، بحيث — كما قال هو لنفسه مرة — نقم عليهم، لا لأنهم إنجليز، ومحتلون، بل لأنهم عشَّاقها الذين ينافسونه فيها، ويزاحمونه عليها.٨٦

«المصابيح الزرق» إذن، انعكاس صادق لطبيعة الحياة في عهد الاحتلال، وليس للحرب العالمية الأولى بالذات، ذلك بالرغم من أن اختيار الفنان للإسكندرية مسرحًا لأحداث الرواية، يعود إلى أنها لم تكن غريبة عنه؛ فقد كان يقصدها للاصطياف، ويجوب أحياءها صباح مساء، وبالرغم من أن كل ما تضمنته الرواية — من المشاهد والكلام للفنان مرآة مجلوة لتلك العهود — والصور والعهود.» ومن هنا يصعب أن نقف أمام «المصابيح الزرق» طويلًا، باعتبارها تعبيرًا مؤكدًا عن تأثيرات الحرب العالمية الأولى في الحياة المصرية.

•••

بعد انتهاء الحرب يقول فهمي لياسين: غُلِب الألمان! من كان يتصور هذا؟! لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد ضاعت. لا يزال نجم الإنجليز في صعود، ونجمنا في أفول، فله الأمر! ويقول ياسين: اثنان كسبا الحرب هما الإنجليز والسلطان فؤاد، فلا أولئك كانوا يحلمون بالقضاء على الألمان، ولا هذا كان يحلم بالعرش!٨٧

هوامش

(١) ثورة ١٩١٩ كما عشتها، ١٩.
(٢) خليل بيدس، الوارث، القاهرة ١٩٢٦م، ١٨.
(٣) محمود طاهر حقي، بائعة اللبن، بسمات ساخرة، كتب للجميع، ١٩٥٢م.
(٤) بائعة اللبن.
(٥) يقول محسن: «أليس في كل نساء فرنسا أمهات يلقِّن أطفالهن كراهية الألمان؟ ومن يدري؟ لعل كل نساء ألمانيا يعلِّمن أطفالهن كذلك بغض الفرنسيين؟ ولتكن الأسباب ما تكون، بأي حق تستطيع أم أن تنشئ ولدًا على العداوة والبغضاء؟!»، (عصفور من الشرق، ٣٤).
(٦) الوارث، ٢٩.
(٧) المصدر السابق، ٣٣.
(٨) المصدر السابق، ٣٣.
(٩) المصدر السابق، ٩٠.
(١٠) المصدر السابق، ٥٧.
(١١) المصدر السابق، ٤.
(١٢) ت. حلمي عثمان، الثقافة العالمية، ١ / ١٩٨٧م، ٤٢.
(١٣) بائعة اللبن.
(١٤) جريدة «الأفكار»، ١٣٣٣ه.
(١٥) الثقافة الأجنبية، ١ / ١٩٨٧م.
(١٦) الوارث، ٥٧.
(١٧) محمد رفعت الإمام، القضية الأرمنية في الدولة العثمانية، ٥٨.
(١٨) الوارث، ١٨.
(١٩) طه حسين، الأيام، ٣: ٤٤.
(٢٠) ثورة البلاشفة، ٣: ١٣٦.
(٢١) عصب الحرب، ٥.
(٢٢) المرجع السابق، ١٠.
(٢٣) ثورة البلاشفة، ٣: ٦٠.
(٢٤) المرجع السابق، ٣: ٢٤٤.
(٢٥) المرجع السابق، ١: ١٣٩.
(٢٦) المرجع السابق، ٣: ٢٨٥.
(٢٧) محمد التابعي، مصر ما قبل الثورة، دار المعارف، ٧١.
(٢٨) يحيى حقي، كبش نطاح، صفحات من تاريخ مصر، هيئة الكتاب.
(٢٩) عصب الحرب، ١٠.
(٣٠) المرجع السابق، ٦.
(٣١) الأهرام، ٣٠ / ٧ / ١٩٧١م.
(٣٢) محمد عودة، ميلاد ثورة، روز اليوسف، ٧٨.
(٣٣) ساطع الحصري، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ٢٣٨.
(٣٤) يحيى حقي، بين الروبية وريال تريزة، كناسة الدكان، هيئة الكتاب.
(٣٥) يوسف السباعي، ذاكرة لا تغفل، ليلة خمر، الكتاب الذهبي.
(٣٦) عبد الرحمن الرافعي، الزعيم أحمد عرابي، كتاب الهلال، ١٥٥.
(٣٧) صلاح عيسى، الثورة العرابية، ٣٧٢.
(٣٨) محمد عودة: كيف سقطت الملكية في مصر، ١٢.
(٣٩) كوثر عبد السلام البحيري، مآذن دير مواس، مكتبة الآداب، ١٧٣.
(٤٠) بين القصرين، ٤٨.
(٤١) النفس الحائرة، ٢٤١.
(٤٢) فتحي رضوان، خط العتبة، دار المعارف، ٩.
(٤٣) محمد أنيس، دراسات في وثائق ثورة ١٩١٩، ٤٨.
(٤٤) المرجع السابق، ٤٩.
(٤٥) نجيب محفوظ، زقاق المدق، مكتبة مصر، ١٨٤.
(٤٦) عبد الخالق لاشين، سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية.
(٤٧) لطفي عثمان، المحاكمة الكبرى، ٢٨٧.
(٤٨) جميل عطية إبراهيم، ١٩٥٢، روايات الهلال، ٤٢.
(٤٩) يحيى حقي، ١١ نوفمبر، صفحات من تاريخ مصر، هيئة الكتاب.
(٥٠) علي شلش، الدكتور الألماني، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٥١) فتحي رضوان، مشهورون منسيون، ٥٧.
(٥٢) ثورة ١٩١٩ كما عشتها، ٣٢.
(٥٣) الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حضارة مصر الحديثة.
(٥٤) الأصول التاريخية، ٩٤.
(٥٥) المرجع السابق، ١١٥.
(٥٦) محمود تيمور، أدب وأدباء، دار الكاتب العربي بالقاهرة، ١٦.
(٥٧) محسن محمد، التاريخ السري لمصر، المكتب المصري الحديث، ٣٣.
(٥٨) محمد سيد كيلاني، السلطان حسين، ١٨.
(٥٩) المرجع السابق، ٩٢.
(٦٠) من آثار مصطفى عبد الرازق، ٥٥.
(٦١) عامر العقاد، معارك العقاد السياسية، ٧١.
(٦٢) تربية سلامة موسى، ١١٨.
(٦٣) ثورة ١٩١٩، ٤١.
(٦٤) الأهرام، ١١ / ١١ / ١٩١٤م.
(٦٥) السلطان حسين، ٤٢.
(٦٦) محمد أنيس، أزمة الحركة الوطنية إبان الحرب العالمية الأولى، الأهرام ١٦ / ٢ / ١٩٧٢م.
(٦٧) محمد جلال، القضبان، دار الهنا للطباعة، ١٤.
(٦٨) ذكريات فاطمة اليوسف، روز اليوسف، ٢٧.
(٦٩) بين القصرين، ٦٧.
(٧٠) المصدر السابق، ١٨.
(٧١) محمد سيد كيلاني، السلطان حسين، ٥٧-٥٨.
(٧٢) المسألة المصرية، ٣٧.
(٧٣) عبد الخالق لاشين، سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية، ٩٤.
(٧٤) محمد نجيب، شخصيات وذكريات في السياسة المصرية، كتاب الجمهورية، ١٣.
(٧٥) المرجع السابق، ١٢.
(٧٦) الشارع الجديد، ٤١.
(٧٧) توفيق الحكيم، سجن العمر، مكتبة الآداب، ١٥٦.
(٧٨) النفس الحائرة، ١٣٢.
(٧٩) سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية، ٦٩-٧٠.
(٨٠) تطور الفكرة القومية، ٢١.
(٨١) سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية، ٨٤.
(٨٢) محمد عودة، صعود وسقوط فخامة اللورد كرومر، روز اليوسف، ٨ / ٧ / ١٩٨٥م.
(٨٣) الأهرام، ١٦ / ٦ / ١٩٧٢م.
(٨٤) محمود تيمور، المصابيح الرزق، الناشر الحديث، الطبعة الأولى، ١٠٩.
(٨٥) المصدر السابق، ٦-٧.
(٨٦) المصدر السابق، ٣٧.
(٨٧) بين القصرين، ٣٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥