فصل في الحروب الصليبية

حين أعلنت إنجلترا الحماية على مصر، فقد كان ذلك إنهاءً لتبعية مصر لدولة الخلافة العثمانية، وإن واصلت مصر دفع الجزية لتركيا حتى تنبَّه جمال عبد الناصر — بعد قيام ثورة يوليو — إلى تقاضي تركيا الجزية من مصر، بصورة سنوية ثابتة، فأمر بقطعها.

كان ذوي الدولة العباسية بداية ذوي الحضارة الإسلامية بعامة. وفدت حضارات غريبة، وأقوام غريبة، وانحسرت سلطة الخليفة، وتقطَّعت الدولة الواحدة إلى دويلات، وانحسر مدُّ الفتوحات والغزوات الإسلامية إلى جَزرٍ يحاول التصدي — ما أمكن — لغزوات التتار والمغول، إلى آخر القائمة.

وحسب اجتهادي الشخصي، فإذا كان العهد العثماني — بدرجة وبأخرى — حلقة في المأساة؛ فإنه لم يكن هو بداية المأساة، البداية في عهد المعتصم بن الرشيد عندما نقل عاصمة ملكه إلى سامراء، وكوَّن جيشًا من التركمان، صارت لهم — فيما بعد — تقاليد الأمور، ودانت لهم السلطة، حتى لقد وصف الخليفة بأنه:

خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالاه له
كما يقول الببغا

أما وصيف وبغا، فقد كانا وزيرين تركمانيين لخلفاء المعتصم.

وقد جاء على العالم الإسلامي حينٌ من الدهر كان يتقاسم حكمه ثلاثة خلفاء: خليفة فاطمي في القاهرة، وعباسي في بغداد، وأموي في قرطبة، وكان ذلك قبل ظهور الأتراك العثمانيين ببضعة قرون!

عُرف الأتراك بأنهم «أعراب العجم»،١ وعُرف الأتراك قديمًا باسم «الطورانيين»، وعُرفت بلاد التُّرك في اللسان الفارسي باسم «تركستان»، وتشمل كل منطقة آسيا الوسطى، وكانوا همزة الوصل بين العرب والصين. وقد ظهر الأتراك العثمانيون في الأناضول في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي. أجبرتهم قسوة جنكيزخان على اللواذ بأبناء عمومتهم الأتراك السلاجقة الذين كانوا يحكمون الأناضول وشمال الجزيرة الفراتية. وأقطع السلاجقة العثمانيين ولاية قونية، لا لمجرد الاستيطان فيها، وإنما ليشكِّلوا خط الدفاع الأول عن البلاد ضد الغزوات الصليبية، التي كانت تفِد من البلقان والأناضول. واستطاع العثمانيون — بالفعل — أن يشكِّلوا حائطًا ارتدَّت منه الهجمات الصليبية، ثم بدءوا في التوسع حتى استقرت لهم الأناضول، ثم فتحوا القسطنطينية، واتجهوا إلى البلقان، ووصلوا إلى أبواب فيينا، وكانوا يغيرون — من وقت إلى آخر — على بلاد الفرنجة، بهدف استرقاق الأطفال، وكانوا يربُّون هؤلاء الأطفال «المقطوفين» — التسمية الرسمية! — في ثكنات خاصة، تربية إسلامية عسكرية، وتألَّف منهم جيش قوي عُرف باسم «الإنكشارية» وكان غالبية أفراد ذلك الجيش يجهلون أصولهم، ولا يعرفون أسرة غير الجيش الذي ينتمون إليه، وكانت الحرب — عمومًا — هي حاضرهم ومستقبلهم. ثم اتجه العثمانيون — في بدايات القرن السادس عشر — إلى المشرق والمغرب، وكان المماليك يحكمون المشرق، والبايات والدايات يحكمون المغرب، فضلًا عن غزوات الإنجليز والبرتغاليين على الشواطئ الجنوبية.
رحَّب العرب بالعثمانيين أملًا في أن «تكون دولتهم عونًا لهم على دفع أخطار الغزو الصليبي الذي يهددهم من الغرب، والغزو المغولي البربري من الشرق.»٢ كما تزامن الفتح العثماني مع الخطر البرتغالي والانفجار الشيعي في إيران على يد الشاه إسماعيل الصفوي.٣ ويؤكد عبد الله بن رضوان في كتابه «تاريخ مصر» أن علماء مصر كانوا يلتقون سرًّا بالسفراء العثمانيين إلى مصر، يقصُّون إليهم ما يفعله السلطان الغوري من ظلم ومخالفة للشرع، وكانوا يستنهضون عدالة السلطان العثماني لكي يأتي ويأخذ مصر، ويطرد منها الجراكسة.٤

•••

يقول ابن إياس إنه «منذ عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يفتحها — مصر — أحد من الملوك بعدُ عنوة سوى سليم شاه بن عثمان.»٥ واستطاعت القبائل الوافدة من آسيا الوسطى أن تنشئ في الشرق الأدنى دولة إسلامية، حققت منتهى قوتها في القرن السادس عشر الميلادي. وقد بدأ السلطان سليم أعوام حكمه لمصر بتصرُّف في غاية القسوة والبشاعة، حين أقدَم على شنق طومان باي على باب زويلة، وظل جسده معلقًا في مكانه بضعة أيام، قبل أن يأمر بدفنه. وكما يقول ابن إياس، فإنه «لم يعهد بمثل هذه الواقعة في الزمن القديم.»٦ وعاد سليم إلى الآستانة، وفي صحبته نحو ألف وثمانمائة من البنَّائين والمهندسين والنجارين والحدادين والحجارين والمرخِّمين والمبلطين والخراطين … والكلام لابن إياس.٧
تكاد تُجمع الآراء — حتى بعض الآراء المناصرة لدولة الخلافة — على أن فترة الوجود العثماني قطعت العالم العربي عن تيار الحضارة المتدفق عالميًّا.٨ وعلى سبيل المثال، فقد كان البديهي أن يفيد العثمانيون من ذلك الكم الوفير من الفنيين المصريين، وأن ينعكس أداؤهم بالتطور على مناحي الحياة في الدولة التركية، لكن دولة الخلافة ظلَّت — في تقدير البعض — ذيلًا للقرون الوسطى.٩ انعزل الشرق كله — في ظلام الحكم العثماني ومعارك المماليك — عن المشاركة الفعلية في أي تيار حضاري معاصر له.١٠ توقف العقل الإسلامي «عن الابتكار والاكتشاف والاختراع في علوم الفلك والطب والرياضيات، منذ أن سيطر العثمانيون على مقاليد الدولة الإسلامية العظيمة. ففي عصرهم لم تُنشأ مدرسة، ولم تُزرع شجرة، فعشنا تحت ظلمهم نرزح في دياجير الظلم والتخلف والجهل. وعاب خصوم العهد العثماني أن الناس — في أعوام احتلاله — كانوا مشغولين بالإجابة عن السؤال: «كم عفريتًا يستطيع رأس الدبوس أن يحمل؟»١١ ويصف الرحَّالة فولني دولة الخلافة — وقد زار مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات — بقوله: «إن الجهل في هذه البلاد عامٌّ شامل، مثلها في ذلك مثل سائر البلدان التركية، ويشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم وفن، والصناعات فيها في أحط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيًّا.» وقد ظل الحكم العثماني يكفِّر — من خلال آراء علمائه ومشايخه — اختراع الطباعة باعتباره بدعة. ويشير محمد عودة إلى أنه كان من تقاليد الخلافة أن يبدأ الخليفة الجديد — فور توليه الحكم — بقتل أشقائه، وكل من يتصور أنه ينافسه على العرش، كخطوة مهمة وضرورية لتأمين الخلافة.١٢ بالإضافة إلى ذلك، فقد كان المصريون — كما يقول محمد فريد أبو حديد — مُنحَّين «عن التدخل في أمور السياسة بوجه عام، إلا إذا عددنا بعض الأعضاء المصريين في الديوان الذي كان ينعقد بين حين وحين في القلعة، للإشارة على الباشا في أمرٍ يطلب فيه المشورة، أو للتفاوض في شأن من الشئون الهامة، أو لتلقي أوامر السلطان العثماني إذا هو أرسل فرمانًا في أمرٍ من أمور الدولة.»١٣ وقد أسهم الأتراك في إذكاء نيران كراهية المصريين ضدَّهم باحتقارهم المعلَن للمواطن المصري: «فلاح خرسيس»! والموروثات الشعبية المصرية تحفل بالصور والأمثال التي تعيب على الأتراك عنجهيتهم، مثل حكاية التركي الذي أراد التعبير عن شغفه بالرئاسة، وبإذلال الآخرين، فوضع بضع قُلَل في أرض الطريق، وجلس خلفها. كلما حاول البعض تناول واحدة للشرب منها، منعه التركي وقال: أترك هذه … وأشار إلى ثانية … وخذ هذه! ويقول أحمد فارس الشدياق فإنه إذا اتفق في نوادر الدهر أن تركيًّا وعربيًّا تماشيا، أخذ العربي بالسنة المفروضة، وهي أن يمشي عن يسار التركي متحشمًا خاشعًا، فإذا عطس التركي قال له العربي: رحمك الله، وإذا تنحنح قال: حرسك الله، وإذا تخطَّى قال: وقاك الله. وإذا عَثر، عثر الآخر معه إجلالًا له، وقال: نعشك الله!١٤ أما الممارسات البالغة القسوة فقد عبَّر عنها المثل الشعبي: «آخرة خدمة الغز علقة!» أي إن العمل لدى التركي جزاؤه الإيذاء!

والملاحظ أن تعداد الشعب المصري في بداية الحكم العثماني بلغ أربعة ملايين نسمة، تقلَّص — في عهد محمد علي — إلى مليوني نسمة؛ أسرف العثمانيون في التقتيل لسببٍ ولغير سبب، وأسرفوا في المصادرة والتنكيل والتشريد.

•••

هل يتحمَّل المسلمون العثمانيون مسئولية انهيار الحضارة الإسلامية؟

كانت الدولة العثمانية هي آخر الإمبراطوريات الإسلامية. ومِن هذه الزاوية ينبغي أن تتحدد نظرتنا ونقاشنا لكل التطورات التي عاشتها الدولة العثمانية منذ بدأت فتوحاتها، حتى انتهت باتخاذ العلمانية والانفصال عن العالم المسيحي. وبالتحديد، فإن «الغرض» لم يكن بعيدًا عن الكثير من الكتابات التي تناولت دولة الخلافة العثمانية، بل إننا نشم في معظم تلك الكتابات «رائحة صليبية»! وكما يقول السيد الشناوي فإن دولة في العالم لم تتعرض «لمثل ما تعرضت له هذه الدولة من حملات عنيفة ضارية، استهدفت التشهير بها، والنَّيل منها، وقامت بهذه الحملات المكثفة قوتان عاتيتان، هما الاستعمار الأوروبي والصهيونية … وقد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب — عن جهالة وتجاهل أو حقد — تلك الآراء الخاطئة والظالمة في مؤلفاتهم، واستقرت في أذهان الأجيال المتعاقبة من رجال الفكر العربي والإسلامي صور حالكة الظلام عن الدولة العثمانية.»١٥ وفي المقابل، فثمة مَن يشير إلى تأثر النظرة إلى العصر العثماني بما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من مظالم مارستها الإدارة العثمانية — الاتحاد والترقي بخاصة — ضد حركة القومية العربية الناشئة، وما حفلت به من عمليات إعدام وسجن ونفي ومصادرة، وانعكست الأحداث على الروايات المختلفة للمؤرخين، بحيث اتفقت على أن تلك الفترة كانت أسود الصفحات في تاريخ العرب.١٦ وهناك مَن يرى أن معالم الخلافة زالت «منذ أصبح الخليفة يتحدث بغير لغة القرآن، وصارت المنابر أعجمية، واختلفت عليها لغات غير لغة محمد.»١٧ وتقديرات أخرى أن عوامل الضعف قد زحفت على المجتمعات العربية الإسلامية قبل الفتح العثماني بوقتٍ طويل «فهي ترتبط أساسًا بعاملَين رئيسيَّين هما الحكم الاستبدادي، وما اقترن به من إقفال باب الاجتهاد، أي تعطيل النقل، مما أدى إلى تسلط الفكر المحافظ والجمود. ونتج عن ذلك أن أصيب الإسلام بمثل ما أصيبت به المسيحية في العصور الوسطى من تلبيس الدين عقيدة غير عقائده، ونسبة الآراء الدينية الجافة إليه، وهو منها براء.» وفي تقدير عبد الرزاق السنهوري أن «نظام الخلافة لا يمكن أن يكون مسئولًا عن الفتن التي حدثت في الدولة الإسلامية، أو عن عدم احترام الحكام لقواعده وأحكامه. كما أن وقوع الفتن والخلافات ظاهرة يتسم بها تاريخ الدول جميعًا، ولا يمكن القول إن المسلمين كانوا يشذُّون عن هذه الظاهرة، أو أنهم أخذوا بنظام آخر للحكم.» ويضيف السنهوري «إنه لا محل للزعم الخاطئ، والذي يردده كثيرون قائلين إن الخلافة كانت هي مصدر المساوئ التي شهدها التاريخ الإسلامي؛ فالحقيقة هي أنه إذا بحثنا عن سبب الاستبداد الذي مارسته بعض الحكومات الإسلامية زمنًا طويلًا، فإنه لم يكن نظام الخلافة، بل هو خروج هؤلاء الحكام عن مبادئه وأهدافه.»١٨ نعم، كان العثمانيون — منذ لجوئهم إلى الأناضول — بدوًا، لا لغة لهم ولا حضارة ولا مدنية، حتى اللغة استعاروا معظم ألفاظها من العربية والفارسية. مع ذلك، فقد كانوا هم الرادع للغزوات الصليبية، وقضوا — في الوقت نفسه — على حكم المماليك والدايات والبايات. وكان ذلك هو رأي المدافعين عن العهد العثماني، يضيفون إليه أن العرب كانوا متخلفين، فغفا العثمانيون حضاريًّا بغفوتهم، في الوقت الذي كانت أوروبا ترتاد دروب العلم والاختراعات والاكتشافات «فليس صحيحًا القول بأننا قد تخلَّفنا بتخلُّف الأتراك، أو بسببهم، لأننا كنا — حينذاك — متخلفين، قبل مجيئهم إلينا بأحقاب وقرون.»١٩

•••

عاشت دولة الخلافة أكثر من ستة قرون، واستولت على أقاليم شاسعة ومدن في جنوبي شرق أوروبا ووسطها، لم تكن وصلتها من قبل فتوحات المسلمين. وكانت مشكلة الدولة العثمانية — في تقدير البعض — أنها كانت كيانًا عسكريًّا في الأساس، لم تستند إلى بُعد حضاري تنطلق منه، وإنما اكتفت بالفتوحات العسكرية. ويذهب صلاح العقاد إلى أنه من الصعب تصور التخلف الحضاري للدولة العثمانية في ضوء اتساعها، بحيث شملت شبه جزيرة البلقان والمجر في أوروبا وآسيا الوسطى، وشبه جزيرة العرب في آسيا، ثم امتدادها في شمال أفريقيا إلى الجزائر غربًا. أما الادعاء بأن تفوق العثمانيين اقتصر على الجوانب العسكرية، فإن التفوق العسكري لا بد أن يرتبط بتقدم في مجالات الرياضيات وفنون البناء والصناعة والحِرف المساعِدة للعمليات القتالية.٢٠ ولعل في مقدمة الميزات الإيجابية لدولة الخلافة — من وجهة نظر مواطنيها — أنها كانت بلاد كل المسلمين، يعتبِر المسلم نفسه مواطنًا في أي بلد تطؤه قدماه، ولا ينظر المواطن ابن البلد نظرة التساؤل أو الرفض للوافدين من الأقطار التابعة لدولة الخلافة. وفي تقدير المدافعين عن دولة الخلافة، أنها لم تحاول التدخل في حياة الناس على أي نحو؛ تركت لهم أمر تدبير أمورهم على النحو الذي يريدونه. حتى النظام الإداري الذي عرفته مصر في العصر المملوكي تركه العثمانيون على حاله، فيما عدا السيادة التي آلت سلطتها إلى دولة الخلافة. وكان للدولة العثمانية دورها في حماية الثغور المطلة على البحرين المتوسط والأحمر، واتصلت حدود مصر مع حدود دولة الخلافة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصارت لها سوق واسعة بحكم موقعها الجغرافي، وأصبحت في قلب تلك السوق.٢١ كانت الولايات العربية تشغل خُمس مساحة الدولة العثمانية، وتضم نحو نصف سكانها، إلى جانب الموارد الطبيعية الهائلة، وإمكانيات التجارة التي كانت تملكها تلك الولايات.٢٢ وكان الشام — كما يعرفه المصريون — يشمل فلسطين ولبنان وسوريا وشرقي الأردن، كان المسلم — كما يقول آدم ميتز — يستطيع أن يتجوَّل داخل حدود مملكة الإسلام تحت ظل دينه ورعايته، فيها يجد الناس يعبدون الإله الواحد الذي يعبده، ويصلُّون كما يصلي، وكان يوجد في هذه الإمبراطورية الإسلامية قانون عملي يضمن للمسلم حق المواطن، بحيث يكون آمنًا على حريته الشخصية وعلى ممتلكاته.
كان التجار وطلاب العلم ينتقلون من بلدٍ عربي إلى آخر، دون حواجز أو عقبات أو تأشيرات دخول وخروج. لم تكن ثمة قومية عربية، ولا وحدة عربية، ولا شعارات تتغنى بها الإذاعات ليل نهار، مع ذلك فإن حرية الانتقال كانت مطلَقة، فلا جوازات، ولا بوابات تفتيش، ولا مصادرة لحق أحد في الانتقال من بلد إلى آخر. كان معظم المواطنين يعتنقون الإسلام، وينتمون إلى دولة الخلافة الإسلامية؛ كلنا ولاد إسلام على حد تعبير راكب القطار في «عودة الروح». بالإضافة إلى أن المصطلحات القومية المعاصرة — القومية العربية على سبيل المثال — لم تكن قد ظهرت بعد، «ولم تبدأ التفرقة إلا مع الاحتلال.»٢٣ ولا يخلو من دلالة أن خطيب الجمعة في أخميم دعا الله أن ينصر السلطان عبد الحميد، رغم أن ملك مصر آنذاك هو الملك فاروق.٢٤

أما كُتاب الغرب، فقد كانت وجهات نظرهم في دولة الخلافة، تضع في اعتبارها أن تلك الدولة كانت تمثِّل امتدادًا لدول إسلامية سابقة، بدايتها في عصر الرسول ، بل إن معظم وجهات نظر هؤلاء الكُتاب كانت «صليبية»! ويشير زكريا سليمان بيومي في كتابه «قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين» إلى أن المؤرخين العرب الذين عرضوا لتاريخ الدولة العثمانية، كانوا تابعين لمدارس التاريخ الغربية في «الاتجاه نحو مهاجمة الخلافة العثمانية، ولا يرجع ذلك إلى سبق المدارس الغربية في ميدان الدراسات التاريخية فحسب، بل يرجع كذلك إلى التقاء وجهات النظر بين المؤرخين الأوروبيين والمؤرخين العرب حول تشويه تلك الفترة.»

كانت الحروب الصليبية قائمة، ومتواصلة، وإن لم تكن معلَنة، منذ إخفاق الغزوات الصليبية المتتالية، ومنذ سقوط الأندلس، ومحاكم التفتيش، حتى سقوط دولة الخلافة في ١٩٢٤م. (أكاد أقول إن المجتمعات العربية والإسلامية تواجه امتدادات تلك الحروب حتى الآن). لقد أحدثت الفتوحات الواسعة للدولة العثمانية تأثيرها المؤكد في ردود أفعال الدول الأوروبية التي بدت وكأنها تنتظر الغزو العثماني، بعد أن تساقطت دول ومدن أخرى كثيرة، وعلا صوت الفاتيكان باسم الصليب، ولم تكن دولة الخلافة مصدر تهديد لدول الغرب المسيحي فحسب، وإنما للدين المسيحي نفسه، ومن ثَم فقد كانوا يعتبرون صراع أوروبا ضد العثمانيين جزءًا من الصراع المؤكد بين الإسلام والمسيحية.٢٥ ورث العثمانيون الصراع بين المسيحية والإسلام، وبين الشرق والغرب، وكان أخطر ما تمثِّله دولة الخلافة بالنسبة لأوروبا، أنها تقع في قلب القارة الأفريقية؛ ومن هنا كان اتفاقهم الجمعي على وجوب تمزيق الدولة العثمانية، فضلًا عن محاولة احتلال ما يمكن احتلاله من الأقطار التابعة لدولة الخلافة، وهو ما بدأ تنفيذه منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث ساعد على تفتيت دولة الخلافة، وتفشي الأمراض في جسدها، ما نشأ من جمعيات سرية وحركات هدامة وغزو غربي واضح. وفي الفترة من ١٨٩٥م إلى ١٨٩٩م قامت بعض الشعوب المسيحية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية بحركات ترمي إلى التحرر من الحكم العثماني، ومنها الأرمن وأبناء جزيرة كريت، وتدخُّل الدول الأوروبية لإجبار السلطان على إدخال إصلاحات تلبي مطالب تلك الشعوب. وبلغ التدخل حدَّ تهديد السلطان بالعزل، بل ومحاولة تقسيم الإمبراطورية العثمانية بين دول الغرب المسيحي. وكما يقول إبراهيم رشاد، فإن الدول الأوروبية «كانت ترى أن الحكم العثماني الذي يقوم على أساس الإسلام، ويوطد للخلافة في إستنبول، ويسيطر على البلقان، كابوس جاثم دخيل على القارة الأوروبية، ينبغي لها أن تتخلص منه، وتقضي عليه، لتخلص القارة للأوروبيين، وتصفو للمسيحية.»٢٦ أما روسيا القيصرية فكانت تهدف من التدخل في الأمور الداخلية لدولة الخلافة، ومحاولة تقويضها، إلى كسب أرض تطل بالإمبراطورية الروسية على البحر المتوسط.٢٧ وفي ١٥ أكتوبر ١٩٠٨م ضمَّت النمسا البوسنة والهرسك، ثم أعلنت كريت — في اليوم التالي — اتحادها مع اليونان، وأعلنت بلغاريا استقلالها. خرجت مشروعات تقسيم الخلافة العثمانية من سراديب التآمر والسرية إلى موائد المفاوضات، وعُقد بعض تلك المؤتمرات في تركيا نفسها، وأعلن صفوت باشا وزير خارجية تركيا في أحد الاجتماعات: هذا كثير جدًّا … إننا مستعدون أن نترك بلغاريا … ونترك رومانيا … ونترك الصرب … وهذا يكفي! وأفاضت الصحف العالمية في نشر مشروعات التوسيع، والتي بلغت — كما قال دي جيفارا — حوالي المائة مشروع. ثمة بريطانيا التي قررت الاستيلاء على الشام (فلسطين وسوريا ولبنان) وإمارات الخليج، ويمتد نفوذها ليشمل الحجاز واليمن. وكانت قد احتلت — قبل ذلك — مصر والسودان. والحق أن الموعد الذي توقعه الأوروبيون نهاية للدولة العثمانية، تأخر طويلًا؛ فقد أعلن تاليران (١٨٩٠م) أن «الإمبراطورية العثمانية لن تدوم أكثر من خمسة وعشرين عامًا، ويجب على الجمهورية أن تستولي على ما يناسبها من بين أنقاضها.»٢٨ ويقول بيجين في مذكراته إن اللورد كرومر صارح أحد مساعدي هرتزل بأن الإنجليز عازمون — فور سقوط دولة الخلافة — على احتلال فلسطين، والاحتفاظ بها تحت سلطة التاج البريطاني، وذلك لأسباب سياسية واستراتيجية، في مقدمتها وقوع فلسطين على الطرف الشرقي من البحر المتوسط، وتحكُّمها في ضفة من ضفاف قناة السويس، واعتبارها معبرًا لطرق ثلاث قارات.٢٩ أما روسيا فقد كانت هي العدو التقليدي لدولة الخلافة (ولبريطانيا أيضًا!) طيلة القرن التاسع عشر؛ تطلعت للاستيلاء على مناطق البلقان والقوقاز وغيرها من المناطق التي بلغها العثمانيون في عز سطوتهم، مثل بلغاريا ورومانيا وألبانيا والصرب، فضلًا عن أن الدولة العثمانية كانت تسيطر على مداخل البحر الأسود: البسفور والدردنيل وبحر مرمرة، وهي المداخل التي اعتبرها الروس مفتاح بابهم الخلفي.٣٠ بينما تحددت مطامع فرنسا في منطقة الغرب العربي، وأما إيطاليا، فقد اكتفت بالاستيلاء على ليبيا.٣١ ويُرجِع الكولونيل كليتن إلى نابليون فكرة إنشاء مملكة شرقية عظيمة، يَقضي بها على الوجود البريطاني في الشرق «ولم يكن غرضه الاقتصار على فتح مصر، بل كان يقصد استعمارها، فقد قال إنه إذا سكنها أربعون أو خمسون ألف بيت من الأوروبيين، وأدخلوا إليها صنائعهم وشرائعهم وإدارتهم، صار خروج الهند من قبضة إنجلترا أسهل من خروجها منها بالحرب، وتتجزأ — حينئذٍ — السلطنة العثمانية ويزول ظلها كما زال ظل البندقية بقهر النمسا، وتكون بلاد مصر وبلاد اليونان من نصيب فرنسا.»٣٢ فلما نشبت الحرب بين تركيا واليونان — نتيجة للتحرشات اليونانية — وحققت تركيا نجاحًا مؤكدًا، واحتلت أجزاء من الأراضي اليونانية، تدخلت دول أوروبا، بزعامة بريطانيا، فسلبت تركيا ثمرة انتصارها، وأرغمتها على الانسحاب من اليونان.٣٣ وتوالى فصل ولايات دولة الخلافة عن الوطن الأم، فقد انفصلت في الحرب الطرابلسية الإيطالية (١٩١١م) ولايتان هما: طرابلس الغرب وجزائر البحر الأبيض. وفي الحرب البلقانية (١٩١٢-١٩١٣م) ست ولايات هي: بانيه، شقودرة، قوصوه، مناستر، سالونيك، كريت. ثم انفصلت في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م) الموصل، حلب، سوريا، بيروت، بغداد، البصرة، الحجاز، اليمن، فلم يعُد سوى الولايات التركية البحتة، وأصبحت «تركية» بالفعل.٣٤ لم يعُد للسلطنة العثمانية حتى اسمها، لتفسح المجال أمام ظهور الجمهورية التركية الوليدة.٣٥ وكان الهدف من ذلك كله — كما حدَّده التصريح البريطاني الفرنسي للعرب — هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الأتراك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات وإدارات أهلية تبني سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم.» وتنفيذًا لهذه النيات — كما يقول البيان — فقد تم الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات وطنية أهلية في سوريا والعراق اللتين أتمَّ الحلفاء تحريرهما. وكذلك في البلاد التي يواصلون العمل لتحريرها. وقال البيان «إن الحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على القبول بنظامٍ معين من الحكم، وإنما همُّهم أن يحققوا بمعونتهم ومساعدتهم النافعة، إقامة الحكومات التي يختارها أهلها لأنفسهم، وأن يضمنوا لها قضاء عادلًا واحدًا للجميع، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا، وذلك بإثارة هِمم الأهالي، وتشجيعهم، مع إزالة الخلافات التي استخدمتها السياسة التركية.» وكان لذلك التعهد — بالطبع — وقع في نفوس المصريين، لا يقل عن الوقع الذي أحدثته مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون.٣٦
والحق أننا لا نستطيع أن نفصل تحركات المبشِّرين الأمريكان والفرنسيين وغيرهم، في الدول التابعة لدولة الخلافة، يحاولون تنصير المسلمين، وإثارة النعرات الطائفية عند الأقليات المسيحية … لا نستطيع أن نفصل تلك التحركات عن المخطط الذي كان يستهدف تفتيت دولة الخلافة، وفرض سيطرة الصليبيين بدلًا منها. بل إن بعض الاجتهادات التي ترين عليها ظلال، تذهب إلى أن «القومية العربية اخترعتها إنجلترا كسلاح سياسي أكثر مما هو عسكري، عندما أصبحت الحرب حتمية ضد تركيا.»٣٧ ولا شك أن الدول الكبرى أفادت من حقيقة أن العثمانيين اكتفوا بالسيطرة العسكرية والسياسية، في حين حافظت الشعوب التي انطوت داخل حكم الخلافة العثمانية على هويتها الاجتماعية والثقافية. استطاعت تلك الدول الكبرى بذلك خلخلة الإمبراطورية العثمانية، وتفكيكها من الداخل، وكان رأي الرجل أن قوة الإسلام العسكرية ضاعت عندما انهار حكم آل عثمان في الحرب العالمية الأولى.٣٨

•••

ومن المهم أن نشير إلى دور الأيدي الصهيونية في غزل المؤامرات التي استهدفت تقويض دولة الخلافة. كانت البدايات أيام نابليون، عندما طالب اليهودي الأيرلندي توماس كورتب في نداء إلى حكومة المديرين في الثورة الفرنسية بالمساعدة على خلق وطن قومي لليهود في فلسطين، وقال في ندائه بالنص: «إن هؤلاء اليهود الذين سيقيمون في فلسطين سوف يحلُّون محل الإمبراطورية العثمانية.»٣٩ ومن الوثائق التاريخية، تلك الرسالة التي بعث بها اليهودي الأيرلندي توماس كوربت إلى حكومة «الدكتوار» — الإدارة — الفرنسية، يدعو فيها الفرنسيين إلى احتلال الشرق، وإيجاد وطن قومي لليهود، يكون ركيزة للاستعمار الفرنسي: «إن اليهود سوف يكونون لكم عنصرًا استعماريًّا ثابت الأركان، يحل في آسيا محل الإمبراطورية الآخذة الآن في الانحلال، إمبراطورية العثمانيين. وسوف يلين هذا العنصر التركي الصلد والمتعصب نتيجة الاحتكاك والاختلاط باليهود القادمين من مختلف البلدان، حاملين مختلف النظريات والثقافات، بل إنني أعتقد أن الصين ذاتها ستتأثر باليهود.»٤٠
لقد كان السلطان سليم الأول (١٥١٢–١٥٢٠م) هو أول حاكم مسلم يُصدِر فرمانًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين وشبه جزيرة سيناء.٤١ عندما حاول يهود إسبانيا الذين لاذوا بالدولة العثمانية من عسف النصارى الإسبان، في عهد السلطان سليمان القانوني (١٥٢٠–١٥٦٦م) أن يواصلوا الهجرة إلى فلسطين وسيناء، وطالبوا السلطان بإلغاء الفرمان الذي كان قد أصدره أبوه، رفض سليمان القانوني في حسم، وأصر على تعزيز الإجراءات التي تكفل منع الهجرة نهائيًّا. وكرر اليهود المحاولة في عهد السلطان عبد المجيد (١٨٣٩–١٨٦١م)؛ قدموا مشروعًا بواسطة وزير خارجية بريطانيا بالمرستون (١٨٤٣م) يسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، والاستيطان فيها، وعلَّلوا الهجرة المرجوة بمحاولة الإفادة من اليهود — إذا استوطنوا إسرائيل — ضد محاولات محمد علي للاستقلال عن الدولة العثمانية. مع ذلك، فقد رفض السلطان عبد المجيد المشروع الصهيوني البريطاني، ورفض حتى مجرد مناقشته مع مندوب من وزارة الخارجية البريطانية. وتكررت المحاولة في عهد السلطان عبد الحميد الذي حدَّد موقفه — حين طلب منه السفير الأمريكي بالآستانة التدخل لمنح اليهود حق الاستيطان في فلسطين: «إني لن أسمح لليهود بالاستقرار في فلسطين ما دامت الإمبراطورية العثمانية قائمة.» وإزاء تعدُّد المحاولات الصهيونية للتسلل إلى فلسطين، فقد أصدر السلطان عبد الحميد في يونيو ١٨٩٨م قانونًا جديدًا ينص على ما يلي: «لا يُسمَح لليهودي الأجنبي من أية تابعية (جنسية) غير التابعية العثمانية بزيارة فلسطين إلا بقصد الزيارة الدينية فقط، شريطة ألَّا تتعدى إقامته في فلسطين أكثر من ثلاثين يومًا. وكل من لا يغادر فلسطين بعد انقضاء هذه الفترة، فسيتم طرده من فلسطين بالقوة، وعلى كل يهودي أجنبي يأتي في زيارة دينية إلى فلسطين، أن يقوم بتسليم جواز سفره عند دخول فلسطين، ويستلم بدلًا منه إذن إقامة من موظفي الدولة العثمانية، ويتوجب عليه أن يدفع تأمينًا ماليًّا يستردُّه بعد انتهاء فترة الزيارة، ومغادرته لفلسطين.»٤٢ لكن المحاولات الصهيونية ظلت على تواصلها إلى حد الإسهام في تقويض دولة الخلافة، وإيجاد قيادات تركية — وعربية — أقل تشددًا، أو متساهلة، وهي القيادات التي استطاع زعماء الصهيونية، باتصالاتهم المباشرة، وغير المباشرة، معها، وبالتسلل، وبالخديعة، والتآمر، أن يقيموا دولتهم على أرض فلسطين منذ الخامس عشر من مايو ١٩٤٨م.

فهل كانت الصهيونية وراء كل تلك المشروعات التي تستهدف تقطيع أجزاء دولة الخلافة؟ وهل يجاوز الأمر مجرد اقتطاع جزء من أراضي الإمبراطورية ضمن مشروعات للتقسيم قائمة ومتواصلة، أو أن الأمر في جملته كان تخطيطًا صهيونيًّا مدبرًا، يهدف — في مقدمة ما يهدف — إلى اقتطاع جزءٍ غالٍ من الوطن العربي لحساب الحركة الصهيونية، وهو فلسطين؟ وهل كان خلع السلطان عبد الحميد ثمنًا لرفضه بيعه قطعة من أرض فلسطين لليهود؟ أو أنه بعض نتائج تحالف دول أوروبا ضد دولة الخلافة؟ أو لأن الدولة كانت تعاني في داخلها بالفعل من التفسخ والانحلال؟

الجواب — في تقديري — أن هدم الدولة العثمانية أصبح ضرورة، لا لدول أوروبا وحدها، وإنما للصهيونية العالمية أيضًا. وكان عزل السلطان عبد الحميد في مقدمة الأهداف التي عمل لها التحالف الأوروبي الصهيوني.

حتى يحصل اليهود على موطئ قدم في أرض فلسطين، فقد أسرفوا في عروضهم إلى حد تعهدهم بوفاء جميع ديون الدولة العثمانية (٣٣ مليون ليرة جنيه إنجليزي ذهبًا) وبناء أسطول جديد للإمبراطورية بتكاليف قدرها ١٢٠ مليون فرنك ذهبي، وإقراض الآستانة مبلغ ٣٥ مليون جنيه ذهبي دون فوائد لإنعاش اقتصادها. وكان المقابل لذلك التعهد السخي هو السماح بدخول اليهود أرض فلسطين في أي يوم من أيام السنة، بهدف الزيارة، والسماح لهم بإنشاء مستعمَرة ينزل فيها اليهود الذين يزورون القدس. لكن السلطان عبد الحميد رفض التعهد تمامًا، وأكد — كما قال هرتزل في مذكراته — أنه لن يتخلى عن شبر واحد من الأرض «فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت إمبراطوريتي يومًا، فإنهم يستطيعون — آنذاك — أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي، فإن عمل المبضع في يدي لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من إمبراطوريتي، هذا أمر لا يكون. إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.»٤٣ وقد دفع السلطان عبد الحميد — بعد أعوام قليلة — ثمن موقفه.
بحسن نية، أو بسوء نية، فإن المخطط البريطاني الصهيوني كان واضحًا، والنتائج الماثلة لاشتراك العرب في الحرب ضد الأتراك، وتقويض دولة الخلافة بالتالي، كانت خطرًا مؤكَّدًا على الاستقلال المنشود للأقطار العربية نفسها، من ناحية، وعلى عروبة فلسطين، من ناحية ثانية. الوقائع التاريخية تؤكد أن الأسرة الهاشمية كانت تعلم بالاتفاق البريطاني الفرنسي السرِّي لتقسيم الأقطار العربية. وأعلن بلفور وعده الأشهر، بل لقد امتدح الشريف حسين هجرة اليهود إلى فلسطين، وأشاد بأثرها في تطوير البلاد، وأكد تشجيعه لها. ورغم تأكيد الأمير فيصل بن الحسين في خِطاب له بدمشق في مايو ١٩١٩م، أن الثورة العربية ثورة قومية، لا يمكن أن نسندها إلى الأمة جمعاء.٤٤ فإنه حين التقى بوايزمان، أبدى الأمير ترحيبه بالبرنامج الصهيوني، وأن العرب سيفيدون للغاية من المشروعات التي وعد اليهود بتنفيذها في فلسطين وشرقي الأردن، وكانتا — آنذاك — قطرًا واحدًا. وتبيِّن ملامح الصورة عن عِمالة مؤكدة في اتفاق وايزمان وحسين في ٣ / ١ / ١٩١٩م، والذي أوضح أنه «عند إنشاء دستور إدارة فلسطين، تُتخذ جميع الإجراءات التي من شأنها تقديم أوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية المؤرَّخ في الثاني من نوفمبر ١٩١٧م. ويجب أن تُتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدًى واسع، والحث عليها بأقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة الكثيفة.»٤٥ ثم عمقت الملامح في اتفاق فيصل-كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي، الذي قبِل فيه فيصل الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، فضلًا عن تجزئة البلاد إلى لبنان وسوريا وفلسطين، وأخيرًا: قبول الوضع الخاص لبريطانيا في فلسطين.

خيانة كاملة!

وحين وجَّه القائد الفرنسي إنذارًا إلى الملك فيصل بتسليم سوريا لفرنسا، رفض الشعب، ووافق فيصل، واعتبر المؤتمر الوطني السوري الحكومة القائمة حينذاك غير شرعية، فأصدر فيصل مرسومًا ملكيًّا بتعطيل جلسات المؤتمر لمدة شهرين، وبدأ في تنفيذ الإنذار الفرنسي، ودارت المعارك غير المتكافئة بين القوات الفرنسية والشعب السوري، والتي انتهت — طبعًا — باستيلاء الفرنسيين على سوريا. ودخول سوريا والأقطار العربية جميعًا، رحلة تخاذل وتشتت جديدة؛ ذلك لأن بريطانيا عيَّنت فيصل في ١٩٢٠م — عقب استفتاء أشرفت عليه المخابرات البريطانية — ملكًا على العراق، كما عيَّنت الأمير عبد الله — نجل الشريف حسين وشقيق فيصل — أميرًا على شرقَي الأردن، بعد اقتطاعه من أراضي فلسطين، وتحويله إلى إمارة مستقلة. وكما يقول الباحث وديع أمين، فإن «تقسيم البلدان العربية بين الاستعمار البريطاني والفرنسي، قد أدى بالتالي إلى تفتيت الحركة القومية العربية في المنطقة، وأصبح على كلٍّ من هذه الحركات أن تستقل بنفسها داخل حدودها الجديدة التي فرضتها القوى الاستعمارية، وأقرَّها مؤتمر الصلح وعصبة الأمم في ذلك الوقت.»٤٦
كان انهيار دولة الخلافة ضياعًا للضمانة العثمانية «التي كانت تهدئ مخاوف عرب فلسطين إزاء الأطماع الصهيونية.»٤٧ وقد أفلحت دسائس يهود سالونيك (مصطفى كمال من مواليد هذه المدينة!) في إشعال نيران الصراع بين العرب وجماعة الاتحاد والترقي. ولم يفطن قادة الأتراك — إلا عند نشوب الحرب العالمية الثانية — أنهم بحاجة إلى العون العربي. يقول السيد فهمي الشناوي: «… فمنذ ١٩٠٨م، هبَّ تيار جديد يدَّعي القول بتحرير إرادة الشعوب في الدولة العثمانية، ويلوِّح بالدستور، ويضمن خلع الرابطة الإسلامية. وكان وراء هذه الحركة الخطيرة التي خدعت أمثال الكواكبي والجزائري هم أتراك الاتحاد والترقي. وطبيعي ألَّا يسعى عثماني إلى تحرير الشعوب الخاضعة له إلا أن يكون في ذلك سر. هذا السر لم يتضح إلا فيما بعد، عندما تأسست إسرائيل، وعندما اكتشف المخدوعون جميعًا أن هؤلاء الاتحاد والترقي ودعاة الدستور ودعاة التحرر هم يهود الدونمة (للحديث عن يهود الدونمة حديث آخر في هذا الكتاب). حينئذٍ صاح خالد العظم رئيس وزراء سوريا، الذي عاصر كل هذه المراحل وحتى الوحدة السورية مع مصر، قائلًا قبل أن يموت: منذ ١٩٠٨م لم يمر يوم واحد أبيض على العرب!»٤٨

وبصرف النظر عن النتائج المتوخاة من إسقاط دولة الخلافة، وإحياء التيارات القومية، فإن فلسطين لم تصبح لقمة سائغة في فم الصهيونية العالمية، إلا بعد سقوط دولة الخلافة، وفي ظل الحكم القومي، نتيجة غير طبيعية، وغير منطقية، لكن كان ذلك كذلك بالفعل. وثمة وجهة نظر في هذه النتيجة الغريبة — لا أجد تعبيرًا آخر — تتلخص في أن التيارات القومية التي وفدت إلى العالم الإسلامي مع الاستعمار الغربي، لعبت دورًا كبيرًا ومريبًا في تكريس التخلف والانحطاط، وممارسة عمليات التجزئة بتوجيه من الاستعمار، فقام على أنقاض الدولة الواحدة التي كانت تجمعها الخلافة دويلات وحكومات وممالك هزيلة، انشغلت بمشاكلها وهمومها التي خلقها لها الاستعمار في بناء الكيان الصهيوني، وتقويته، وإعداده لابتلاع أراضٍ جديدة، وبناء استراتيجيات تتطلع إلى أهداف لا تقف عند حدود جغرافية معينة. وكان سقوط دولة الخلافة في مقدمة الأسباب المفضية إلى ضياع فلسطين، فعقب دخول اللنبي القدس وقوله: «الآن انتهت الحروب الصليبية»، وصلت إلى فلسطين بعثة صهيونية للبدء في تنفيذ وعد بلفور الذي كان قد صدر في ٢ سبتمبر ١٩١٧م.

لقد تم ذلك كله للصهيونية في الوقت الذي واكب قيام الكيان الصهيوني، قيام كيانات قومية في الوطن العربي (وهو ما يصعب التحفظ عليه في ظل الظروف الآنية الموضوعية)، وفي ذات الفترة خضع العالم الإسلامي كله لتوجيه ثقافي وإعلامي، استهدف خلق مناخ استهلاكي، شغل الناس بقضايا مادية وقيم استهلاكية بقيت فيها تطلعات الناس وتحركاتهم في هذه الأطر، حتى انتهى الأمر بالأمة العربية إلى ما وصلت إليه، وأصبح الوجود الإسرائيلي أمرًا واقعًا.٤٩ أما فتحي رضوان فقد وجد سببًا آخر لزوال دولة الخلافة، وهو أن تركيا كانت تحكم عددًا كبيرًا من دول أوروبا كالمجر واليونان ورومانيا وبلغاريا، ولأن عهد التحرر كان قد بدأ، فقد تبدَّى مصير دولة الخلافة: التقلُّص، فتهاوي الأجزاء، ثم الزوال!٥٠

•••

والحق أن عوامل سقوط دولة الخلافة لم تفِد من دول أوروبا، ولم تقتصر على ما نسجته المؤامرات الصهيونية، إنما نشأت تلك العوامل أيضًا في داخل الدولة الأم، وفي الأقطار الخاضعة لها. كان شاغل دول أوروبا بالفعل — لأسبابٍ دينية وسياسية واقتصادية، تنطوي جميعها في تسمية الاستعمار — أن تلفظ دولة الخلافة أنفاسها، ليسهل من بعد السيطرة عليها، واقتسام أقطارها المختلفة، بكل ما تعنيه من اتساعٍ لرقعتها الاستعمارية.

لقد اتجهت قوى المعارضة — في داخل دولة الخلافة — نحو هدف القضاء على رمز الدولة من زمن، (حزب الاتحاد والترقي — مثلًا — كان أول من عزل السلطان عبد الحميد) فقد استصدرت من البرلمان العثماني قرارًا بخلع السلطان، ونفيه إلى سالونيك، وتعيين أخيه محمد رشاد الخامس سلطانًا وخليفة بدلًا منه.٥١ (ولعلَّه ينبغي أن نشير — مجددًا — إلى التأثيرات الصهيونية في أداء ذلك الحزب). أعلن الأتراك أنفسهم سقوط دولة الخلافة، لم يتحقق ذلك بغزو خارجي، ولا بثورات في داخل الدولة، أو في أقطارها المختلفة، إنما أعلن ذلك مصطفى كمال أتاتورك الذي كان رأيه أن نظام الخلافة قد جرَّ كل الويلات على بلاده، وأنه يجب أن يختفي تمامًا. وتحوَّل أتاتورك — في بلاده — إلى رمزٍ لتركيا الحديثة، في حين أصبح — في أقطار العالم الإسلامي — رمزًا للتآمر والعِمالة للاستعمار، وأُلقيت ظلال حول أصله وانتمائه الديني، فأُثير الشك بأنه من يهود الدونمة الذين دخلوا الإسلام لتقويضه من الداخل.

أما في أقطار دولة الخلافة، فقد كان أبرز مظاهر الرفض للدولة الأم، والرغبة في الانسلاخ عنها، الحرب العربية التي قادها الشريف حسين بمعاونة الإنجليزي لورانس وقوات الإنجليز ضد قوات الخلافة. وكانت هناك أيضًا حركات التمرد والثورة، والمطالبة بالدستور والإصلاح في أقطار الدولة العثمانية، والتي واجهها ممثِّلو الخليفة بالمزيد من القمع والقسوة. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، أمر جمال باشا (١٩١٥-١٩١٦م) فشُنِق في برج دمشق وبيروت اثنان وثلاثون من أبرز قادة الحركات النضالية العربية، ومنهم: عبد الحميد الزهراوي، عبد الكريم الخليلي، شفيق العظم، صالح حيدر، علي النشاشيبي، سالم الجزايري، وغيرهم.

لقد صار اسم «التركة»، أو تركة الرجل المريض، عنوانًا — كما يقول العقاد — على أقطار دولة الخلافة، أيًّا كان ساكنوها من مسلمين، أو غير مسلمين، ومِن تُرك أو عرب، ومن أوروبيين أو آسيويين أو أفريقيين.٥٢ بدا سقوط دولة الخلافة محتمًا، وأضحت «المسألة الشرقية» شاغلًا للساسة والمؤرخين. كانت مواقف المثقفين المصريين، والمثقفين العرب والمسلمين المقيمين في القاهرة، تتناقض بين الإشفاق على مصير الخلافة، وبين المناداة المعلَنة بوجوب تقويضها، وهو تناقض بلغ — في بعض المواقف — شكل التضاد.
كان حرص غالبية أقطار العالم الإسلامي أن تظل الخلافة عثمانية. ويقول محمد أنيس إن رضوخ الشعب المصري للحكم العثماني لم يكن ضعفًا واستسلامًا، بقدر ما كان من قبيل طاعة أولي الأمر باعتبار تركيا مركز الخلافة الإسلامية.٥٣ ويضيف الفرنسي روبير مونتران: «إن السيادة العثمانية على مصر قد وجدت قبولًا سريعًا، وإنها — بعكس ما حدث في البلدان الأخرى — لم تكن شديدة الوطأة بصفة عامة. كان ثمة قدر ضئيل من القمع العسكري، إذا نحن نحينا جانبًا حملة ١٧٨٥-١٧٨٦م، إلا أن حوادث العصيان والتمرد لم تكن من صنع المصريين في غالب الأحيان، كما أنها لم تكن موجَّهة ضد العثمانيين إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وفي مقابل ذلك، كان العثمانيون يكنُّون بالغ الاحترام للقاهرة التي ظلت تحتفظ في نظرهم بكامل هيبتها.» ثمة مَن وجدوا أن تقسيم الإمبراطورية العثمانية معناه وقوع مصر في قبضة الاحتلال البريطاني إلى الأبد.٥٤ وكان أحمد عرابي يعتبر الخروج على الدولة العثمانية «تدميرًا للإسلام، وخروجًا عن طاعة رسول الله»، وكتب إلى جرجي زيدان: «لم يخطر ببالي الاقتداء بالفاتحين والمتغلبين، ولا تأليف دولة عربية … لأني أرى ذلك ضياعًا للإسلام عن بكرة أبيه، وخروجًا عن طاعة الله ورسوله ٥٥ وأعلن الإمام محمد عبده — في منفاه ببيروت — عقب فشل الثورة العرابية — «أن المحافظة على دولة الخلافة يجب أن تكون ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، عليها نحيا وعليها نموت.»٥٦ أما مصطفى كامل فقد كان رأيه أن بقاء الدولة العثمانية «أمر ضروري للجنس البشري»، وأن العمل على نصرة السلطان واجب المسلمين «فمملكة الخلافة الإسلامية هي — في الحقيقة — مملكتنا وقِبلتنا التي نلجأ إليها، ونحوها نتجه.»٥٧ وذهب مؤيدو دولة الخلافة إلى أن للعثمانيين فضلَ توحيد الأمة العربية، وحمايتها من الصليبيين. وكانت أعداد كبيرة من المصريين تنظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها دولة الإسلام الكبرى، وسلطانها هو سلطان المسلمين، عليهم طاعته وعدم الخروج عليه لأي سبب. وبالطبع، فقد أوجد الارتباط بدولة الخلافة ضعفًا في الإحساس بالوطنية المصرية، حتى عندما دعا مصطفى كامل إلى الاستقلال، فإنه دعا إلى ذلك في إطار الانتماء للدولة العثمانية، وأن على المسلمين «أن يلتفوا جميعًا حول راية الخلافة الإسلامية المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح؛ ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم، وفي بقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية ذاتها.»٥٨ ورغم طرح شعار مصر للمصريين فإنه لم يكن واضحًا في أذهان الكثيرين بصورة محددة. وكان الشعور الشعبي العام أن مصر هي إحدى ولايات الخلافة العثمانية، إلى حد قبول التنازل عن الحق الوطني إن كان المستفيد هو دولة الخلافة، كما هو الحال بالنسبة لمشكلة طابا وغيرها. وكان الرأي العام المصري ضد الثورة التي قادها الشريف حسين ضد دولة الخلافة؛ وجد في تحالفها مع الإنجليز ضد الآستانة ما يدعو إلى إدانتها، حتى إن الرأي العام المصري أدان فكرة العروبة نفسها.٥٩ بل إن خالد العظم يؤكد على أنه «منذ ١٩٠٨م لم يمر على الدول العربية يوم واحد أبيض حتى الآن.»٦٠ وثمة آراء — نقرؤها ونسمعها الآن — عن السلطان عبد الحميد، أنه كان نموذجًا للحاكم العظيم، وأن التاريخ قد افترى عليه! وحين أثيرت فكرة مبايعة الملك فؤاد بالخلافة، فإن معظم الآراء في الأقطار الإسلامية دعت إلى وجوب اقتصار الخلافة على تركيا، وعلى الخليفة عبد المجيد تحديدًا؛ ذلك لأن خلافته كانت ما تزال قائمة، والبيعة له ملزمة لكل المسلمين «لأنه لم يحصل منه ما يحرج مركزه الشرعي، ويضر بمصالح المسلمين.»٦١
أما خصوم دولة الخلافة، فقد أخذوا عليها أخطاء ومعايب محددة، أهمها — في تقدير أحمد بهاء الدين — أنها كانت غير ما سبقها من إمبراطوريات إسلامية، فقد قامت على الفتح والقهر، وكانت تنظر إلى البلاد الإسلامية نفس نظرتها إلى المستعمرات، واعتمدت على نظامها العسكري المنظم، دون أن تسهم — على أي نحو — في الحضارة الإسلامية.٦٢ وكانت دولة الخلافة سببًا — في تقدير خصومها — في تخلف الأمة الإسلامية؛ فقد حجبت المسلمين حوالي سبعة قرون عن حضارة العصر، وفرضت عليهم التخلف، وألقت بهم لقمة سائغة في فم الاستعمار الأوروبي باسم الدين. وفي الوقت الذي تحققت في أوروبا أربع ثورات هي: الديمقراطية في البُعد السياسي، والصناعية في مجال الاقتصاد، والاستراتيجية بالنسبة لتطوير الجيوش، وأخيرًا الثورة الثقافية التي شملت الإصلاح الديني، وتحكيم العقل، وتجديد الخلق والإبداع. في ذلك الوقت كان المسلمون يخضعون لسلطة سياسية فردية، وكان الاقتصاد زراعيًّا إقطاعيًّا، أما الجيوش فقد اضمحلت قوتها، وأصبحت لا تخيف أحدًا، بينما أغلقت أبواب الاجتهاد الديني والعلم والفلسفة، وقُضي على مصادر الإبداع وملكات الإبداع.٦٣ من هنا كان طرب الشعب المصري — على حد تعبير محمد عودة — لسقوط دولة الخلافة.٦٤ ومن هنا أيضًا، جاء قول فرح أنطون لنقولا الحداد — عقب الانقلاب العثماني — «إن سروري بهذا الانقلاب كان عظيمًا، حتى إنه قد مضى عليَّ يومان وأنا لا أنام من شدة التأثر. لقد حان الوقت للعمل، والنهوض بالأمم الشرقية.»٦٥ لقد أصبح معظم الأقطار العربية جزءًا من الإمبراطورية العثمانية مع بداية عصر النهضة في أوروبا، واكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح في عام ١٤٩٨م، أي قبل الفتح العثماني للعراق والشام ومصر، وأصاب ذلك التحوُّل اقتصاد الأقطار الثلاثة بأضرار ظهرت آثارها الفادحة في العصر العثماني.٦٦ ويقول محمد عبد الله عنان: «إن مصر الإسلامية لم تعرف — رغم ما توالى عليها من عصور الاضطراب والفتنة — من الخطوب والمحن، نكبة أعظم من الفتح العثماني، ولم تعرف حكمًا أقسى وأمرَّ من حكم الدولة العثمانية.»٦٧ يضيف صلاح عيسى إنه «منذ دخل العثمانيون أمتنا العربية غزاة ومستعمرين، تدهورت أحوالها الاجتماعية، وتعرضت للاستنزاف الاقتصادي، بل وحُرمَت من الطبقات التي كانت قادرة على تطوير إنتاجها، ودفعها إلى الأمام، كما فعل السلطان سليم الأول الذي نزح بالصُّناع المصريين إلى الآستانة، فتدهورت الصناعة المصرية، وفقدت مصر مكانتها التي تحتلها — في التجارة الدولية — في عصر سلاطين المماليك.»٦٨ وكان أخطر النتائج السلبية التي تحققت في ظل الحكم العثماني، غياب النهضة الأوروبية عن العالم العربي، وهي نهضة شملت الاكتشافات العلمية والجغرافية، والثورات الصناعية والسياسية والاجتماعية، بحيث إنها شكَّلت تحولًا كاملًا في حياة الأوروبيين، وأعطتهم مركز القيادة للعالم، بينما كان العرب يعانون الانغلاق والتخلف بصورة قاسية، بالإضافة إلى تفشِّي التفكك والانحلال، واستلاب بعض الدول الأوروبية أجزاء من دولة الخلافة، مثل النمسا وروسيا اللتين احتلتا أراضي شاسعة من ممتلكات العثمانيين في أوروبا، كما احتلت روسيا أراضي أخرى في آسيا، وتحقق لمصر وبلاد الشام ما يشبه الاستقلال تحت حكم الأمراء المحليين والمماليك.٦٩ والحق أن دولة الخلافة خيبت آمال حتى هؤلاء الذين كانوا يريدون أن تجاري إيقاع العصر، أو تحاول التحديث والتطوير، ومن بينهم كُتاب وساسة وبريطانيون لم يكن شاغلهم تقوية الدولة العثمانية بقدر حرصهم على أن تظل حاجزًا في وجه الأحلام الروسية للتسلل إلى المياه الدافئة.٧٠ إن الاستعمار العثماني «هو استعمار من نوع خاص، تقنَّع بالدين ووحدة الحضارة، وانتهى إلى طمس الشخصية العربية، وتكريس التخلف، وإسدال الظلام التام.»٧١

في رواية «أمام العرش»، يسأل إخناتون علي بك الكبير في محكمة الآخرة: ألا يُعتبَر استقلالك بمصر تمزيقًا لوحدة الإسلام، دين الإله الواحد؟

يجيب علي بك الكبير: «كان العثمانيون يمارسون الظلم والفساد، تحت شعار إسلام زائف. وهالني ما يلقى أهل مصر من عذاب، فلم أجد من سبيل إلى إسعادهم في ظل إسلام حقيقي إلا بالتحرر من ربقة العثمانية.»٧٢ والثابت تاريخيًّا أن سكان مدينة حلب انخفضوا إلى الثلث، بعد أن مات معظم السكان أو هربوا، بسبب الأوبئة والضرائب الباهظة، وأُرهق الفلاحون بالجباية، فهجروا الأرض وماتت الزراعة. ويصف أحمد فارس الشدياق موقف الحكام الأتراك من أبناء البلاد بقوله: «فأما رجاله، فإن للتُّرك سطوة على العرب وتجبُّرًا، حتى إن العربي لا يحل له أن ينظر إلى وجه تركي، كما لا يحل له أن ينظر إلى حرم غيره. وإذا اتفق في نوادر المرات أن تركيًّا وعربيًّا تمشيا، أخذ العربي بالسنة المفروضة، وهي أن يمشي على يسار التركي محتشمًا خاشعًا.» ويصور الشدياق علاقة العربي بالتركي بأنه إذا «عطس التركي قال له العربي: رحمك الله! وإذا تنحنح قال: حرسك الله! وإذا تخطَّى قال: حرسك الله! وإذا عثر عثر معه الآخر إجلالًا له.»٧٣ ويتساءل الشدياق: «ولم أدرِ ما سبب تكبُّر هؤلاء الترك هنا على العرب؟ إن النبي كان عربيًّا، والقرآن أُنزل باللسان العربي، والأئمة والخلفاء الراشدين والعلماء كانوا كلهم عربًا. غير أني أظن أكثر الترك يجهلون ذلك، فيحسبون أن النبي كان يقول: شويله بوبليه أبقالم قبالم … لا والله ما هذا كان لسان النبي، ولا لسان الصحابة.»٧٤ وكان رأي جمال الدين الأفغاني أن على دولة الأتراك أن تتجه إلى التعريب، باعتبار أن اللسان العربي هو لسان الدين، لكنها فعلت العكس، فحاولت تتريك العرب: «لقد أهمل الأتراك أمرًا عظيمًا، وهو اتخاذ اللسان العربي لسانًا رسميًّا، وسعت لتعريب الأتراك، فكانت في أمنع قوة. إنها لو تعرَّبت لانتفت بين الأمتين — العربية والتركية — النعرة القومية، وزال داعي النفور والانقسام، وصاروا أمة عربية بكل ما في اللسان العربي من معنى، وفي الدين الإسلامي من عدل، وفي سيرة أفاضل العرب من أخلاق، وفي مكارمهم من عادات. كيف يُعقَل تتريك العرب، وقد تبارت الأعاجم في الاستعراب وتسابقت، وكان اللسان العربي لغير المسلمين، ولم يزل، من أعز الجامعات وأكبر المفاخر، فالأمة العربية هي عرب قبل كل دين ومذهب!» وبالإضافة إلى محاولات التتريك، فقد علت نعرة قومية سخيفة واستعلاء، حتى إن صورة التركي في الموروث الشعبي تحددت في هيئة الطاغية والمتغطرس. ولعلنا — في ضوء ذلك — نستطيع أن نتفهم دعوة أديب إسحاق ﺑ «تمييز» العرب عن بقية شعوب الدولة العثمانية، بحيث يتوضح في المراكز المتفوقة بالدولة؛ ذلك لأن «العرب هم سكان أرض الميعاد التي تشرفت في الإنجيل والتوراة والقرآن.» ومن ثَم فإنه ينبغي أن تكون «لغتنا العربية هي الأولية في سائر مراكز دولتنا العلية، وبأن يكون فضلاؤنا وعقلاؤنا في أعلى الوظائف الشرعية والعسكرية.» بل إنه يزيد فيطالب بأن تتخلى الدولة العثمانية عن الطابع القومي، لأن «المأخوذ الآن عند سائر الدول أساسًا للتمدن، ودستورًا للعمل هو لا تقوية إلا بالتسوية، ولا نجاح إلا بالإصلاح، ولا سلام ولا عدل إلا بأن القول يسبق الفعل، ولا تمدُّن ولا إصلاح عوائد إلا بحرية الأديان والأفكار والجرائد.»

•••

لقد أسرف السلطان عبد الحميد في تذكير شعوبه بأن الجامعة الإسلامية هي التي تربط بينهم، وأسرف في التحذير من القضاء على الرابطة الدينية التي تجمع بين العرب والأتراك والألبان واليونان وغيرهم، لكن تلك التذكيرات والتحذيرات لم يزامنها — في الحقيقة — محاولات لتأكيد تلك الرابطة. وحين سأل بطرس غالي باشا ناظر خارجية تركيا عما إذا كان قد زار مصر، قال الناظر: إنني أمضيت عمري في السفارات الأوروبية، ولم أعرف آسيا. كأنه — والتعبير لأحمد شفيق باشا — يحسب أن مصر في آسيا.٧٥ ويقول جمال باشا في مذكراته (١٩١٠م)، إنه عندما شكا لعزيز المصري من نمو المشاعر العربية ضد الأتراك، فإن عزيز المصري قال له في حسم: «إن العرب على حق … فماذا صنعتم لهم أيها الأتراك سوى سعيكم لإفنائنا واحتقارنا حتى تتوقعوا المعاملة الوردية من جانبنا؟ هل نسيتم أنكم في الآستانة إذا ناديتم كلبًا ناديتموه بلفظ عربي؟ وإن أردتم أن تصفوا شيئًا عويصًا غامضًا، قلتم إنه يشبه الشِّعر العربي؟»٧٦ وقد اشتُهر عن الأتراك تقديسهم لجنكيزخان وتيمورلنك وهولاكو، وغيرهم ممن شوَّهوا الحضارة العباسية في بغداد ودمشق.٧٧ وبلغ الاستبداد التركي حد حظر بعض الكلمات — في عهد السلطان عبد الحميد — من الصحف، مثل: استغلال، يقظة العرب، الأمة العربية، الثورة الفرنسية، الحرية، الإخاء، المساواة … إلخ.٧٨ وإذا كانت ديكتاتورية التركي، أو العثماني، تتوضح في النكتة الشهيرة عن تركي وضع العديد من القلل ليشرب من إحداها، منعه وأشار إلى أخرى قائلًا: بل اشرب من هذه! تلك النكتة لا تُعَد شيئًا بالقياس إلى النظرة القاسية المتزامنة مع الأفعال القاسية التي كان يعامل بها الأتراك العرب. ففي أحد الكتب المدرسية التركية، يأتي القول: «أكون عربيًّا لو فعلت كذا»!٧٩ ولأنهم كانوا يدركون جيدًا ظلمهم للعرب، فقد قال أحد قادتهم: «إن لم نعامل العرب كما نريد، عاملونا بما نستحق.»٨٠ وجاء في كتاب «تاريخ المستقبل» للكاتب التركي جلال نوري باشا: «إن المصلحة تقضي على الآستانة أن تُكرِه السوريين على هجر أوطانهم، وبلاد العرب يجب تحويلها إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي ينبغي أن تكون لغة الدين.»٨١ وفي ١٩١٢م تلقى قائد تركي خِطابًا جاء فيه: «عرِّضوا العرب لرصاص العدو، واعملوا على التخلص منهم، لأن قتلهم يفيدنا. أما الأكراد فاحتفظوا بهم لأنهم يلزمون لنا.»٨٢ وفي ١٩١٥م قام بعض جنود الأتراك في بيروت بتحطيم لافتات الأطباء في واجهات عياداتهم، لأن كلمة «دكتور» كُتبت بالكاف، وطالبوا بأن تُكتب بالقاف (دكتور تُكتب دقتور) فهي هكذا تُكتب بالتركية، مع ملاحظة أن ٤٠٪ من مفردات اللغة التركية قد تأثرت باللغة العربية. وقد عاب أحد زعماء الأتراك تلك العنصرية التي اتسمت بها ممارسات بلاده ضد الأقطار العربية، وأنها «لا يمكن أن تنجح مع العرب، لأن عددهم كبير، كما أن نسبتهم إلى مجموع نفوس الدولة زادت زيادة كبيرة بعد حرب البلقان، وضياع ولايتنا الأوروبية. وفضلًا عن ذلك، فإن لغتهم قوية، ولها مناعة كبيرة، لكونها لغة الدين والقرآن. ولهذه الأسباب كلها يجب أن تعرف أن كل محاولة لتتريك العرب محكوم عليها بالفشل، فمن الخير لنا أن نتفاهم معهم بأي شكل كان، لكي نتخلص من مشاكلهم ونركز جهودنا ومواردنا لإصلاح وتعمير بقية بلادنا.»٨٣ وقد ذهبت آراء بعض المنتقدين لدولة الخلافة إلى أنها لم تُظهِر اهتمامها بالأقطار العربية إلا بعد أن تحررت دول البلقان من السيطرة العثمانية، ولم يعُد أمام العثمانيين سوى الأقطار العربية كمورد للسلطان، ولخزينة الدولة. وفي الوقت الذي كان آلاف الشبان العرب يموتون في جبهات القتال لصالح دولة الخلافة، فإن آل عثمان كانوا يمارسون حياة الترف والدعة داخل القصور.٨٤ ثم بلغت دولة الخلافة من الضعف ما جعل الإمام أحمد الشريف السنوسي (١٨٦٧–١٩٣٣م) يصف الأتراك بأنهم قد أصبحوا مقدمة النصارى! وكان والده الشريف السنوسي، مؤسِّس السنوسية، يقول: «الترك والنصارى … إني أقاتلهم معًا»!
كانت بعض الآراء «القومية» ترى أن الممارسات التركية هي التي أملت على القيادات العربية سعيها في اتجاه الاستقلال عن دولة الخلافة. تحددت مطالب العرب — صدر العهد الدستوري — في الحرية والمساواة. ثم كانت الثورة العربية — وغيرها من الحركات والتنظيمات — رد فعل طبيعيًّا لحملة التتريك التي رفع لواءها زعماء جمعية تركيا الفتاة، وقيادة جمعية الاتحاد والترقي بعد وصولهم إلى السلطة.٨٥ جاء الاتحاديون من الغرب بالفكرة القومية التي ترتكز للانتماء إلى ثقافة معينة، وجنس بالذات، وأحدث ذلك التعصب رد فعل بين عرب الشام والعراق، فبدءوا في الترويج لفكرة القومية العربية.٨٦ مارس الاتحاديون العنف لكبت الأصوات المعارضة، فجاوز العرب مطالبهم إلى وجوب نَيل الاستقلال، وكانت الثورة العربية صورة لتلك المطالب. إنها لم تكن «عصيانًا مدنيًّا مسلحًا، أو تمردًا عسكريًّا محليًّا على السلطة العثمانية الحاكمة، وإنما كانت حركة تحررية استقلالية تعبِّر عن طموحات أمة نهضت من كبوتها، وأفاقت من سُباتها، وتمسَّكت بهويتها.»٨٧ لقد تعدَّدت المؤتمرات والتشكيلات التي تعنى بإبراز الهوية العربية؛ ففي ١٩١١م عُقِد بالعاصمة الفرنسية اجتماع شهده عدد من القيادات العربية: عوني عبد الهادي ورفيق التميمي من فلسطين، وتوفيق يوسف السويدي من بغداد، ورستم حيدر من بعلبك، وجميل مردم من دمشق، وعبد الغني العريس ومحمد الحمصاني من بيروت. وتقرر إنشاء «الجمعية العربية للفتاة» (١٩٠٩–١٩١١م) أسوة بجمعية تركيا الفتاة، أعضاؤها من الشباب ذوي الحس القومي العربي، بعد إعلان الدستور العثماني (١٩٠٨م)، وتنامت القومية التركية في مواجهة القوميات الأخرى التي كانت تخضع لسيطرة الدولة العثمانية. لقد أظهر الانقلابيون الأتراك تعصبًا شديدًا لقوميتهم، أفرز — في المقابل — ردود أفعال بين أبناء القوميات الأخرى، والعرب من بينهم، وقد حددت الجمعية الوليدة هدف إنشائها بأنه «النهضة بالعرب وإيصالهم إلى مصاف الأمم الحية.» وكانت الجمعية تهدف إلى الاستقلال التام، وانضم إليها عدد كبير من الشباب العرب، مثل شكري القوتلي وفارس الخوري من دمشق، وإبراهيم هاشم من فلسطين، وغيرهم.٨٨ وفي ١٩١٢م تكوَّن في القاهرة «حزب اللامركزية العثمانية»، وانتُخب رفيق العظم رئيسًا، وإسكندر عمُّون نائبًا للرئيس، بالإضافة إلى عضوية الشيخ رشيد رضا والدكتور شبلي شميل وسامي الجريديني. وأجرى الحزب اتصالات بالولايات العربية، وأقام فروعًا له في كل منها، وتحددت دعوته في المطالبة باستقلال الولايات العربية على أساس الوحدة اللامركزية بينها وبين الآستانة.٨٩ وفي يونيو ١٩١٣م عُقد في باريس أول مؤتمر عربي في التاريخ الحديث، يناقش وحدة العرب السياسية، واشتراك الأقطار العربية في إدارة أمور بلادهم على أساس اللامركزية، وجعل اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية.٩٠ وفي أواخر ١٩١٤م اتصلت جمعية «الفتاة» بجمعية «العهد» التي أنشأها عزيز المصري، وكانت تضم الضباط العرب العاملين في الجيش العثماني، واتفقت كلمة قيادات الجمعيتين على توحيد القوى والجهود، ترقبًا لما تسفر عنه الحرب العالمية الأولى.

ولعله يجدر بنا الإشارة إلى أن تصورات العرب — وتحركاتهم — لعلاقتهم بالدولة العثمانية، أخذت أربعة اتجاهات رئيسة هي:

  • الاستقلال الذاتي، في نطاق الدولة العثمانية. بدأ ذلك الاتجاه في عهد محمد علي، واستمر في عهود خلفائه إلى الحرب العالمية الأولى.

  • اللامركزية بما يضمن للعرب إدارة شئونهم، وجعل العربية لغة رسمية في الولايات العربية، والسعي لحل المسألة القومية بما يستبعد الحل الاستعماري.

  • التمسك بدولة الخلافة. وكان في مقدمة الداعين إلى هذا الاتجاه هو الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، فضلًا عن بعض المسلمين العرب في الدولة العثمانية كالإمام محمد عبده والشيخ أسعد الشقيري وشكيب أرسلان وغيرهم. وحلَّل أصحاب ذلك الاتجاه تطورات الأحداث بأن انسلاخ مصر من الدولة العثمانية يعني ضعف الدولة العثمانية، وضعف الدولة العثمانية يعني إتاحة الفرصة للاستعمار الأوروبي، فيقوِّي من حصاره للدولة العثمانية من ناحية، ويجد في مصر لقمة سائغة من ناحية أخرى. كان الحائل دون ضم مصر إلى الإمبراطورية هو حقوق دولة الخلافة التي تكفلها معاهدات دولية. وعبَّر مصطفى كامل عن ذلك بقوله: «ماذا يكون مصير البلاد المصرية لو تنازلت تركيا عن حقوقها لإنجلترا، أو تعاهدت معها على ذلك بمعاهدة شبيهة بالمعاهدة الفرنسية الإنجليزية، أي تصير ولاية إنجليزية؟»

  • اتجاه قطري انفصالي، تطور منذ رفاعة الطهطاوي، تبلور في مصر — على سبيل المثال — في شعار «مصر للمصريين».

والواقع أن المطلب الأشد وضوحًا، كان هو سعي العرب لتحقيق اللامركزية، دون أن يجاوز ذلك إلى الانفصال عن دولة الخلافة، لكن الشائعات المعلنة عن اتفاق الدول على اقتسام تركة المريض الذي يعاني شبه الموت، عقب هزيمة القوات التركية في الحرب الإيطالية (١٩١١م) والحرب البلقانية (١٩١٢م) … تلك الشائعات المعلنة، دفعت الشباب العربي إلى استباق الأحداث بطلب الاستقلال، ووُزِّعت المنشورات في العديد من الأقطار العربية، تؤكد أن تركيا تسعى لبيع بعض المرافق العربية. وقال واحد من تلك المنشورات: «انظروا في موقف بلادكم قبل أن يسلمكم تُيوس الآستانة إلى ذئاب أوروبا.»٩١
والملاحظ أن قضية العروبة والإسلام لم تُطرَح إلا في نهايات الدولة العثمانية. فتح العرب مصر، فتوضحت — واستمرت — هويتها العربية، الأمر نفسه في بلاد الشام والعراق وبلدان الشمال الأفريقي، وفي بلاد فارس ظلت الفارسية هي لغة الحياة العامة، وظلت العربية هي لغة الدين. وظني أنه لو لم يحرص الأتراك على أن يعاملوا المنطقة العربية في إطار التابع والمتبوع، ولو لم يحرصوا على تتريك الثقافة العربية بدلًا من تعريب الثقافة التركية، فربما استمرت دولة الخلافة العثمانية عقودًا أخرى تالية، أو لما انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه. بل إن مستقبل دولة الخلافة العثمانية كان سيتغيَّر لو أن حكامها كانوا أكثر استنارة؛ ذلك لأن الأقاليم المسلمة الخاضعة للدولة كان خضوعها طوعيًّا، باعتبار إسلامية الدولة الحاكمة، وأنها هي التي تدافع عن «بيضة الإسلام».٩٢ وكما يقول فتحي رضوان فإنه «لو تنبَّه العرب إلى أهمية شفاء الرجل المريض لتغيَّرت الأحوال.»٩٣ ولعلي أشير إلى رأي محمد أحمد خلف الله بأن «عالمية الإسلام تكون هي الأكثر تحققًا عندما ينضم العالم الإسلامي الذي لم يتعرب إلى العالم الإسلامي الذي قد تعرب.»٩٤

•••

الاتهام المحدد الذي يوجهه محمد عودة إلى دولة الخلافة، أنها «حجبت عن الأمة العربية أهم حدثَين في التاريخ الحديث، وهما الثورة السياسية (الديمقراطية)، ثم الثورة الصناعية، وهما الثورتان اللتان نقلتا مركز القوة والحضارة إلى الغرب الأوروبي، وغزلت عناكب التخلف نسيجها في أقطار ودويلات العالم العربي، بحيث سهل على الاستعمار الأوروبي أن يقتطعها من دولة الخلافة، وأن يضمَّها إلى إمبراطورياته.»٩٥ لقد كانت دولة الخلافة تعاني لحظات احتضار قاسية، بينما كان الغرب المسيحي يحيا لحظات مخاض باهرة، بدءًا بتحدي سيطرة الكنيسة على الفكر، وتوالي الثورات السياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية، وارتفاع صيحات — ومحاولات — التجديد من المفكرين والباحثين والأدباء، وإنجاز العديد من الكشوف الجغرافية. وأدَّت العزلة الطويلة التي أحاطت بالوطن العربي إلى زيادة جموده وانحطاطه. كان نيقولا الأول قيصر روسيا (١٨٢٥–١٨٥٥م) أول من أطلق لقب «الرجل المريض» على دولة الخلافة. قال لأحد محدِّثيه (١٨٣٣م): «ليس في استطاعتي أن أبعث الحياة في الموتى، إن الدولة العثمانية دولة ميتة، ولا أظن أن هذا الجسم العجوز سيقوى على المحافظة على الحياة، إنه في حالة انحلال في جميع النواحي.» وكتب «كوكفيل»: «أود أن أعرف سر هذه الحشرة التي تأكل هذا الجسم الآسيوي الكبير، حتى تسلمه لسيطرة قارتنا الصغيرة — أوروبا — التي كثيرًا ما ارتعدت أمامهم في الماضي. إن الأمة الإسلامية التي وصفها الرحالة القدامى بأنها أمة ذكية، بل وحتى ألمعية، ينخر فيها فساد لا علاج له، ظل يجرها إلى الأسفل خلال القرون الماضية، فهوت إلى الأسفل، بينما كنا نحن نرتقي إلى أعلى. إن الأجناس الأوروبية ستسيطر على جميع الأجناس الأخرى، ولا شيء على وجه الأرض يقدر على مقاومة ذلك.»٩٦

فهل كان بوسع دعاة الديمقراطية، والعلم الحديث، ونبذ السلفية — أو النقلية في أقل تقدير — هل كان بوسعهم أن يفعلوا شيئًا في إطار التخلف الذي كان سِمة الحياة في أقطار الدولة العثمانية؟

هذا هو السؤال.

لقد عنيت التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر بالسؤال ومحاولة الاستكشاف والتطلع إلى نشر التنوير واللحاق بالعالم المتقدم، وهو ما عبَّرت عنه في البداية أفكار حسن العطار والطهطاوي، ثم — من بعدهما — الكواكبي والريحاني وأحمد لطفي وفرح أنطون وقاسم أمين وعشرات غيرهم ممن أخلصوا لقضايا الريادة في الوطن العربي … مع كل تلك التطورات، فقد أثيرت الأسئلة: لماذا تبقى هذه الهيولا — دولة الخلافة — في عصر القوميات والعصبيات؟ ألم يكفِها أنها رانت على الشرق الإسلامي منذ القرن السادس عشر، فلا هي أفادت الشرق، ولا الشرق أفاد منها؟ ألم يكفِها أنها قامت على أنقاض المماليك والروم والصقالبة والإمارات التي خلَّفتها إغارات الصليبيين والتتار، ثم لم تعمل شيئًا إلا أنها ركدت، فركدت معها كل هذه الأقطار؟ ألم يكفِها أن الغرب نهض نهضته المادية في مطالع القرن السادس عشر، فتوغَّل في البحار، واستعمر الشرق اقتصاديًّا قبل أن يستعمره بقوة النار والحديد، ثم تزوَّد بأسباب الحضارة والعمران، وهي بعدُ تغطُّ في نومها، وترى في عالم الأحلام ما كان من مجدٍ آمنٍ وهمًا من الأوهام؟٩٧ ويقول إلياس فرح: «كانت نزعات التسلط والاستبداد داخل الحكم العثماني تعطي — بسلوكها العنصري ونظامها المتخلف — فرصة مناسبة للغرب لكي يطرح نفسه في صورة قوة حضارية حديثة تؤمن بالحرية والتقدم.»٩٨ وتروي لوسي دف جوردون عن بعض أبناء الأقصر قوله: «نحن مسلمون حقًّا، لكننا سوف نحمد الله لو أنه أرسل إلينا أوروبيين ليحكمونا، فإن الشعور هنا ضد الأتراك لا ضد المسيحيين.» وتكتب في رسالة لوالدتها: «قال لي شريف عظيم من أشراف الوجه البحري: ألست تعلمين أنني مسلم؟ بلى! لكنني أدعو الله أرحم الراحمين أن يرسل إلينا الأوروبيين ليحكمونا وينقذونا من هؤلاء الأوغاد.»٩٩ والحق أننا لا ندري مدى صحة هاتين الروايتين، لكنهما — في ضوء روايات أخرى، مشابهة، تحتاجان إلى مناقشة موضوعية.
لم يكن للدولة العثمانية — عبر توالي العقود — من حق السيادة على مصر إلا التسمية وحدها. الفرمان الشاهاني الذي يصدر بتولية الوالي أو الخديو كان مجرد وسيلة، واجهة لتأكيد حق السيادة العثمانية، لكن السيادة العثمانية الفعلية كانت قد تقلصت إلى حد التلاشي. أفلح في ذلك ولاة مصر على تعاقب ولاياتهم، وتعاظمت الشخصية المصرية شيئًا فشيئًا — برغم الطابع التركي الذي اتسم به الحكم، فضلًا عن قصر ضباط الجيش — أو غالبيتهم — على الأتراك، في حين حُجِب عن المصريين حق تولي المناصب العالية.١٠٠ وحين قدِمت الحملة الفرنسية إلى مصر، لم تكن العلاقة الرسمية بين مصر وتركيا تجاوز الخطبة للسلطان، وحق السلطان في تعيين الباشا، أو الوالي، ثم «الميري»، أو الجزية.١٠١ ثم تقلَّصت فعالية دولة الخلافة في مصر، حتى أصبحت مجرد اسم لا يعبِّر عن مدلول حقيقي، اللهم إلا مظهر الجزية السنوية، في حين تعاظمت الامتيازات الأجنبية بصورة واضحة. ويقول المارشال ويفل في كتابه عن «اللنبي»: «قليل من البريطانيين مَن كان يعرف أن مصر كانت تتمتع باستقلالها الذاتي تحت السيادة التركية منذ عهد محمد علي، وأن هذا الاستقلال كاد أن يكون تمامًا إذا استثنينا الامتيازات الأجنبية.» لكن الاحتلال البريطاني غيَّر من تلك الصورة الاستقلالية المؤكدة إلى حد كبير. أصبحت مصر دولة مستقلة اسمًا، مقيَّدة الحرية بالفعل، ودانت أمور البلاد للمعتمد البريطاني «وخضعت الحكومة المصرية للسيطرة البريطانية التي راحت تنهج سبيل الانحطاط بمستوى المصريين، حتى عمَّ الفقر والجهل والمرض، وشرعت في فصل السودان، ولم يكن أمامها إلا إلغاء الدستور الذي كان قائمًا قبل الاحتلال، فألغته.»١٠٢

•••

أيًّا يكن الأمر، فإنه — أمام المتغيرات التي شهدها العالم جميعًا، حتى الولايات التابعة لها — كان يجب على صورة الخلافة أن تتغير، أن تنهض، وتواكب العصر، وتعود — كما كانت — قوة عالمية مؤثرة، وقد حدثت تغييرات بالفعل، لكنها اتسمت بالمأساوية القاسية.

بدأت دعوة القومية العربية — وإن أخذت أكثر من تسمية — تعبِّر عن نفسها من خلال تشكيلات وجمعيات، مثل «القحطانية» و«اللامركزية» و«العهد».١٠٣ ويقول فتحي رضوان إن تأليف عزيز المصري أول جمعية عربية في دولة الخلافة باسم «الجمعية القحطانية» لم يكن بهدف القضاء على الدولة العثمانية، وإنما كان الهدف تجديد الدولة، ومدَّها بأسباب الحياة، ليجعلها دولة اتحادية؛ للعرب حكمهم الذاتي في إطار دولة تجمعهم مع الأتراك، على غرار النموذج الذي كانت عليه النمسا والمجر.١٠٤ وبالطبع، فقد أسهمت الحركات الداعية إلى القومية العربية، وغيرها من القوميات التابعة للدولة العثمانية، في تغيُّر موقف الكثيرين من الأتراك ممن كانوا ينادون بالعالمية الإسلامية، ويستنكرون مبدأ «القومية» لأنه يضر بوحدة الأمة الإسلامية. ومِن هؤلاء الشاعر محمد عاكف الذي دفعه ابتعاد القوميات غير التركية عن الإمبراطورية العثمانية — إبان الحرب العالمية الأولى — إلى الاقتراب من القومية — أو الوطنية — التركية، والتحق فعلًا بالحركة الوطنية بقيادة مصطفى كمال. نشأت فكرة القومية التركية مقابلًا لفكرة القومية العربية، وكانت الفكرتان بديلًا للوطنية العثمانية. وكان الفكرة التركية — في البداية — حركة لغوية أدبية، ثم بدأت دراستها من الناحية التاريخية، وانتقلت — بعد ذلك — إلى ميادين الحكم والسياسة.١٠٥
وثمة آراء تذهب إلى أن الثورة العربية كانت «أول قنبلة أُطلقت على الخلافة العثمانية.»١٠٦ كان الهدف المعلَن لشريف مكة حسين بن علي هو وحدة الأقطار العربية واستقلالها، وإن لم تخفِ الدول الاستعمارية محاولاتها استغلال الواقع المتردي الذي كانت تحياه الشعوب العربية تحت حكم الأتراك، بتحريك تذمُّر هذه الشعوب، الأمر الذي بلغ ذروته في حرب الشريف حسين ضد دولة الخلافة. يقول لويد جورج: «وجد أن بالإمكان نسف قدرات العدو عن طريق استغلال تذمُّر الأمم الخاضعة له، فمئات السنين من النير، جعلت تعايُش العرب تحت حكم الأتراك مستحيلًا.»١٠٧
فبعد أن انضمَّت تركيا إلى ألمانيا في حربها ضد الحلفاء، بعث اللورد كتشنر وزير حربية إنجلترا في ٣١ أكتوبر ١٩١٤م، ببرقية إلى الشريف حسين يقول فيها: «إذا ساعد العرب بريطانيا في هذه الحرب، فإن بريطانيا ستقدم كل مساعدة ممكنة في حالة وقوع أي اعتداء خارجي عليهم. كما أنه من الجائز أن يتولى الخلافة عربي أصيل في مكة أو المدينة.»١٠٨ وحين دخلت قوات الإنجليز بغداد، فإن الهدف المعلَن كان هو التخلص من شر الأتراك، بحيث لا يعود العراقيون يسمعون باسمهم الشنيع، بعد أن «قلبوا النعيم بؤسًا، والسعادة شقاء، والخصب جدبًا، والعمران خرابًا.»١٠٩
ويقول لورانس في تقرير له (١٦ / ١ / ١٩١٦م): «إن نشاط حسين — الشريف حسين — يبدو مفيدًا لنا، لأنه يتفق مع غاياتنا العاجلة، وهي تحطيم الكتلة الإسلامية، وهزيمة الإمبراطورية العثمانية وتقويض بنيانها. ولأن الدول التي سوف يقيمها حسين خلفًا للأتراك تكون طيِّعة لنا مثلما كانت تركيا قبل أن تصبح صنيعة للألمان. وإذا عوملت هذه الدول بالأسلوب الصحيح، فإنها ستبقى في حالة تخبُّط سياسي.»١١٠ وحين دُعي عزيز المصري للاشتراك في الثورة العربية، تردد في الموافقة، وقال «إنه لم يعرف على وجه التحديد، ما أهدافها، وما إذا كان الشريف قد أشعل الثورة لكي يمنع احتلال بلاده من قوة أجنبية، أم لكي يدافع عن الخلافة ويحصل في ظلها على الاستقلال.»١١١ وقد اعترف المؤرخون العسكريون بدور فيصل بن الحسين في تحقيق القوات البريطانية انتصارها على قوات الخلافة العثمانية في معركة القدس. فقد تحدد دور القوات العربية في تجميد جيش تركي كامل شرق نهر الأردن، فخفَّف ذلك من كثافة المدافعين الأتراك في مواجهة هجوم قوات اللنبي. كما أسهمت المساندة العربية لقوات الحلفاء في تمزيق صفوف القوات العثمانية، وهو ما تبدَّى — في مستواه الأدنى — في انتقال أعدادٍ كبيرة من الجنود والضباط العرب من جانب القوات العثمانية إلى القوات المناوئة لها.
وللأسف، فإن ثورة العرب ضد دولة الخلافة لم تصب في أرض العرب، بل — على حد تعبير محمد أنيس — «في تيار الإمبراطورية البريطانية وحليفتها الصهيونية.»١١٢ يقول أنيس صايغ: «إنما أكثر ما أخذه القوميون على الحسين هو أنه عمل وأبناؤه على توطيد الحكم التركي في شبه الجزيرة، ومقاومة حملات التحرر التي قام بها أكثر من أمير عربي، بينما كان الوطنيون السوريون والعراقيون يؤلِّفون الجمعيات، ويخاطرون بحياتهم للتخلص من الحكم الدخيل، وبينما كان عزيز المصري يغامر بحياته لفصل الوطن العربي عن الخلافة العثمانية، فيدخل السجن ويقترب عنقه من المشنقة، وبينما كان النواب العرب في مجلس المبعوثين ينددون بحملات الأتراك ضد الثائرين في شبه الجزيرة … كان الحسين وأبناؤه يقودون قواتهم لتسير — جنبًا إلى جنب القوات العثمانية — لإحباط الثورة والفتك برجالها.» ثم كان يوم العاشر من يونيو ١٩١٨م، عندما هاجم الشريف حسين على رأس رجاله، الحامية التركية في مكة بأسلحة ومعدات إنجليزية … كان ذلك اليوم بداية النهاية الحاسمة لدولة الخلافة، وبداية — في المقابل — لانقسامات مؤلمة في خريطة الوطن العربي، بحيث تحوَّل — في فترة قصيرة نسبيًّا — إلى دويلات وشراذم. وقد كتب الأمير شكيب أرسلان في ١٩١٦م مقالًا بعنوان: «لماذا لم يشترك شكيب أرسلان والشيخ عبد العزيز جاويش بالثورة العربية» أكد فيه أنه «لم يمنعنا من الاشتراك في الثورة العربية سوى اعتقادنا أن هذه البلاد العربية ستصبح نهبًا مقسمًا بين إنجلترا وفرنسا، وتكون فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود. وهذا التكهن كان عندنا مجزومًا به، حتى إني كنت أقول قبل الحرب: لو ارتفع الغطاء ما ازددت إلى استقلال العرب، ولا تسقط بها البلاد في هوة الاستيلاء الإفرنجي، لما سبقني أحد إلى رفع لواء الثورة على الأتراك. فأما بين الدولة العثمانية، وبين الإفرنج، فكنت أفضِّل الدولة العثمانية، ولم أزل أعلن ذلك على الملأ.»١١٣ ليس صحيحًا، والقول لطارق البشري: «أن انهيار الدولة العثمانية حرَّر العرب، إنما الصحيح مما نشاهده في تاريخ القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى، أن انهيارها صحبه تفتُّت العرب وتناثرهم دويلات شتى لم تجتمع هذه الساعة، وسقوط الدول العربية أكثر فأكثر فريسة الاستعمار الأوروبي والغربي والنظام الاستبدادي للدولة العثمانية صحيح، وما عاناه منه العرب صحيح، ولكن المقارنة بين حكومات العرب بعد الدولة العثمانية وبين استبداد عبد الحميد لا ينتهي بنا إلى تفضيل الحاضر مهما كانت بشاعة الماضي، ثم إن في استعانة الدولة العثمانية بالأجانب، والسماح لهم بالنفوذ في ديارنا، يقابله استعانة الثورة العربية بالإنجليز في ١٩١٦م، واحتلال الغرب بلادنا من بعد.»١١٤ ويقول محمد أنيس: «لقد ظن فيصل بن الحسين أنه كسب عرشًا عندما دخل دمشق، وأعلن نفسه ملكًا عليها في أول أكتوبر ١٩١٨م، لكنه نسي أن عمله هذا أدى إلى هلاك ٣٥ ألف جندي وضابط تركي، هلكوا في الفيافي الممتدة من المدينة إلى دمشق عطشًا وجوعًا، ونتيجة لهذا، تمكَّن الجنرال اللنبي من دخول القدس دخول الظافرين. وبينما كان الشريف حسين وأبناؤه يحكمون على إخوانهم في الدين بالموت، كان الجنرال اللنبي يعلن في القدس: اليوم انتهت الحروب الصليبية!»١١٥ مقابلًا لقوله في جدة إنه يريد أن يقبِّل اللنبي في جبينه الذكي!١١٦ وفي ٢٠ فبراير ١٩١٩م قرر مؤتمر الصلح فصل البلاد العربية الآسيوية عن الدولة العثمانية، ووضعها تحت وصاية عصبة الأمم. والغريب أن دول الغرب التي ساعدت الأقطار العربية على الانسلاخ عن دولة الخلافة، كانت هي التي رفضت — من قبل — محاولات محمد علي، التي استهدفت نشوء إمبراطورية عربية في المنطقة. كانت محاولات محمد علي تهدف — في المحصلة النهائية — إلى الوحدة والتجمُّع، وإن انسلخت الأقطار العربية عن دولة الخلافة. أما مساعدة دول الغرب للأقطار العربية على الانسلاخ من الدولة العثمانية، فقد كان سعيًا لتفتيت دولة الخلافة وتقويضها. ساعدت دول الغرب الأقطار العربية على تحقيق استقلالها، لا لتحقيق هدف محمد علي في إقامة الدولة العربية الكبرى، ولا حتى في تحقيق الأحلام المشوَّشة للشريف حسين، وإنما لتحقيق هدفَين، أحدهما تكتيكي، والآخر استراتيجي. أما الهدف التكتيكي فهو الإسهام في تقطيع دولة الخلافة بإعلان استقلال الأقطار العربية، وتحويلها إلى ملكيات وإمارات ومشيخات. أما الهدف الاستراتيجي فهو السطو على تلك الأقطار وابتلاعها، بحيث يغادرها الاحتلال التركي — وكان في آخر أيامه — ليحل بدلًا منه استعمار جديد، هو — للأسف، وكما أكدت كل الشواهد — امتداد للحروب الصليبية! (الدلالة واضحة في قول اللنبي عند دخوله القدس: الآن، انتهت الحروب الصليبية! وفي توجه الجنرال الفرنسي «جورو» إلى المسجد الأموي، عقب دخوله دمشق، يسأل عن قبر صلاح الدين، وهناك استل سيفه، ووضعه فوق القبر وهو يقول: ها قد عدنا مرة أخرى يا صلاح الدين!) واللافت أنه حين لحقت الهزيمة بالدولة العثمانية، عوملت بقسوة لم تحدث مع الدول الحليفة لها، والتي شاركتها الحرب، فالهزيمة. فقد حُكِم عليها بالزوال، وانتهى وجود الدولة العثمانية من الناحية العملية، ولا يخلو من دلالةٍ ما كتبه جور وزير المستعمرات البريطاني إلى رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن (١٩٣٨م): «إن الحرب — الأولى — علَّمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، ليس الإمبراطورية وحدها، بل فرنسا أيضًا، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة.»١١٧

•••

في كتاب لورنس «أعمدة الحكمة السبعة» ما يؤكد زيف الوعود البريطانية التي قُدِّمت للعرب: «إذا انتصرت بريطانيا في الحرب، فستكون وعودها للعرب كالورقة الميتة، ولو أنني كنت ناصحًا شريفًا، لسرَّحت رجالي، ولمنعتهم من المخاطرة بأرواحهم لمثل هذا. ومع ذلك، فإن المساعدات العربية كانت أداتنا الأساسية، لكسب الحرب في الجبهة الشرقية.»١١٨ المعنى نفسه — تقريبًا — أشار إليه اللنبي في تقريره عن حملته على فلسطين بقوله إنه مدين بفوزه للمعونات المصرية المختلفة.١١٩
والحق أنه كان بوسع الأقطار العربية أن تحقق مكاسب مؤكدة، مستغلة في ذلك الظروف القائمة آنذاك، لولا تحوُّل المد العربي إلى مجرد مؤامرة تستهدف تنصيب الشريف حسين حاكمًا على الحجاز، فتحوَّل الهدف الجماعي إلى هدف فردي، عشائري. والملاحظ أن غالبية الرأي العام المصري استنكرت «تمرد» الشريف حسين على دولة الخلافة باسم القومية العربية، واعتبرت ذلك مروقًا من الدين، وإن كانت التأثيرات السياسية التركية على مصر — عند نشوب الحرب العالمية الأولى — قد غابت عن مصر في الحقيقة. لم يكن يربط مصر بدولة الخلافة — كما يقول توفيق الحكيم — إلا خيط شبه رمزي. من هنا فإن الناس لم يكونوا يشعرون بوطأة حكم الأتراك شعورهم بالاحتلال البريطاني. ويضيف الحكيم: «كنا طول مدة الحرب نتطلع إلى ناحية القنال ننتظر مجيء الأتراك والألمان لينقذونا من الاحتلال البريطاني. وكانت الأخبار تتوافد كل يوم عن رؤية جيوش قادمة عبر قناة السويس، بهذا الأمل كنا نعيش طول الحرب الأولى.»١٢٠
جيش للترك بطور سينا
وغدًا بالنصر يواتينا

وعند سقوط دولة الخلافة، فإن الطبقة الوسطى في مصر — وهي الطبقة ذات التأثير الفعلي في مجريات الأحداث آنذاك — كانت تحاول اقتطاف ثمار ثورة ١٩١٩م، سواء بالنضال ضد السراي، التي صوَّر لها عملاؤها إمكانية تحوُّل الخلافة من إسطنبول إلى القاهرة، أو ضد الاحتلال الإنجليزي، بممارساته ومؤامراته التي كانت تستهدف إفراغ كل خطوة استقلالية من مضمونها الفعلي، أو ضد الزعماء السياسيين الموالين لسلطات الاحتلال، والعاملين في خدمتها بصورة وبأخرى.

•••

لقد بلغت الإمبراطورية العثمانية أقصى امتداد لها في القرن السادس عشر؛ فقد ضمَّت إليها — في ١٥١٧م — سوريا ومصر، ثم ضمَّت العراق، وفي ١٥٢٩م حاصرت جيوش العثمانيين فيينا، لكنها واجهت مقاومة عنيفة من الأوروبيين بعامة (في أذهانهم الحروب الصليبية التي تناسيناها!) تمكَّنوا من خلالها من إقصاء العثمانيين عن وسط أوروبا، وشاركت روسيا في المعارك، فشنَّت حروبًا متوالية ضد العثمانيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ما لبثت دول أوروبا أن نقلت حروبها ضد دولة الخلافة إلى مصر على يد نابليون في أواخر القرن الثامن عشر، ثم على أيدي الإنجليز في ١٨٨١م.١٢١ ثم قام مصطفى كمال بدوره الذي أعدَّ له جيدًا حين استولى على الحكم، وألغى دولة الخلافة. وبصرف النظر عن الأسئلة المثارة، وما إذا كانت دولة الخلافة كيانًا يستحق الإلغاء بالفعل، أم العكس، فمن المؤكد أن كل التطورات التي أعقبت تولي مصطفى كمال مقاليد الأمور في بلاده، كانت لصالح الاستعمار الأوروبي، وضد المصالح الإسلامية.

هوامش

(١) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، ٧٠.
(٢) التضامن، ١٧ / ١٢ / ١٩٨٣م.
(٣) أحمد عبد الرحيم مصطفي، دعوة لفتح ملف الدولة العثمانية، العربي، أبريل ١٩٧٨م.
(٤) مخطوط رقم ٤٩٧١١ بمكتبة بايزيد في إسطنبول، نقلًا عن، محمد حرب: المشرق العربي يرحب بالعثمانيين، الهلال، سبتمبر ١٩٨٧م.
(٥) ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ٥: ١٥٢.
(٦) المرجع السابق، ٥: ١٧٥–١٧٧.
(٧) المرجع السابق، ٢: ١٤٩.
(٨) الهوية والتراث، ٢٩.
(٩) محمد محمد توفيق، مكانة أتاتورك في التاريخ، الهلال، ديسمبر ١٩٣٨م.
(١٠) فاروق خورشيد، عالم الأدب الشعبي العجيب، هيئة الكتاب، ٢٠٩.
(١١) الوطن الكويتية، ٣٠ / ١ / ١٩٨٧م.
(١٢) محمد عودة، صعود وسقوط فخامة اللورد كرومر، روز اليوسف، ٨ / ٧ / ١٩٨٥م.
(١٣) محمد فريد أبو حديد، زعيم مصر الأول السيد عمر مكرم، كتاب الهلال، ١٩٥١م.
(١٤) عباس خضر، أدب المقاومة، ٣٨-٣٩.
(١٥) السيد الشناوي، مقدمة الجزء الأول من موسوعة دولة الخلافة العثمانية.
(١٦) نلِّي حنا، تجار القاهرة في العصر العثماني، ت. رءوف عباس، هيئة الكتاب، ٢٠٠٧م، ١٢.
(١٧) دعوة لفتح ملف الدولة العثمانية، العربي، أبريل ١٩٧٨م.
(١٨) عبد الرزاق السنهوري، قصة الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم مشرقية، ت. نادية عبد الرزاق السنهوري، هيئة الكتاب، ١٩٨٩م، ٣٩ حاشية.
(١٩) الوطن الكويتية، ٣٠ / ١ / ١٩٨٧م.
(٢٠) الهلال، أبريل ١٩٨٦م.
(٢١) نلِّي حنا، ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية، ت. رءوف عباس، الدار المصرية اللبنانية، ١٥.
(٢٢) المرجع السابق، ٣٨.
(٢٣) الطليعة، نوفمبر ١٩٧٠م.
(٢٤) عبد العال الحمامصي، بئر الأحباش، المجموعة، هيئة قصور الثقافة.
(٢٥) أحمد عبد الرحيم مصطفى، الدولة العثمانية في الكتابات الغربية، الهلال، مايو ١٩٦٨م.
(٢٦) إبراهيم رشاد، مذكرات مجاهد تعاوني، ٢٣.
(٢٧) محمد رفعت الإمام، الأرمن في مصر، ٢٥.
(٢٨) «مصر: ولع فرنسي»، ٣١.
(٢٩) الرأي العام الكويتية، ١ / ٥ / ١٩٨٧م.
(٣٠) العربي، أغسطس ١٩٨١م، ٥٦.
(٣١) أخبار اليوم، مارس ١٩٨٠م.
(٣٢) المقتطف، أغسطس ١٩٢١م.
(٣٣) دنشواي، ٦١-٦٢.
(٣٤) محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ١٤٣.
(٣٥) المرجع السابق، ١٤٣-١٤٤.
(٣٦) ثورة ١٩١٩، ٥١.
(٣٧) مسيرة إسرائيل الطويلة، ٧٣.
(٣٨) فتحي غانم، قضت المحكمة بإحالة الأوراق إلى المفتي، الرجل المناسب، هيئة الكتاب.
(٣٩) السيد فهمي الشناوي، الثورة العربية والأصابع الصهيونية، الدوحة، يوليو ١٨٨٤م.
(٤٠) الدوحة، أغسطس ١٩٨٥م.
(٤١) الدستور، ٢٣ / ١ / ١٩٨٧م.
(٤٢) المرجع السابق.
(٤٣) مذكرات هرتزل، نقلًا عن رفيق النتشة: الإسلام وفلسطين، الرأي الأردنية، ٢٧ / ١٢ / ١٩٨٦م.
(٤٤) اليقظة العربية، أكتوبر ١٩٨٧م.
(٤٥) صبحي ياسين، الثورة العربية الكبرى في فلسطين، النادي الفلسطيني العربي، القاهرة، ١٣.
(٤٦) وديع أمين، الحركة الوطنية في مواجهة المخططات الإمبريالية، الطليعة، أبريل ١٩٧٢م.
(٤٧) الهلال، يوليو ١٩٧٠م.
(٤٨) السيد فهمي الشناوي، قصة تكوين الطبقة المثقفة المصرية بين مقاهي القاهرة ومقاهي باريس، الهلال، أبريل ١٩٧٣م.
(٤٩) حسن التل، الإسلام وتحرير فلسطين، الرأي الأردنية، ٢٧ / ١٢ / ١٩٨٦م.
(٥٠) الهلال، أكتوبر ١٩٨٦م.
(٥١) محمد رفعت الإمام، القضية الأرمنية في الدولة العثمانية، ١٨٧٨–١٩٢٣م.
(٥٢) العقاد، الرحالة كاف، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ٦٦.
(٥٣) الجمهورية، ٢٠ / ٣ / ١٩٦٩م.
(٥٤) الثائر العظيم، ١٥.
(٥٥) علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب، ١٢٠.
(٥٦) السيد فهمي الشناوي، المختار الإسلامي، يناير ١٩٨٥م.
(٥٧) عبد العظيم رمضان، مصطفى كامل في محكمة التاريخ، أكتوبر، ٣٠ / ٩ / ١٩٨٤م.
(٥٨) مصطفى كامل، المسألة الشرقية، ٣٠.
(٥٩) فاروق أبو زيد، أزمة الفكر القومي في الصحافة المصرية، ١٢٥.
(٦٠) الدوحة، يوليو ١٩٨٤م.
(٦١) الكاتب، أكتوبر ١٩٧٠م.
(٦٢) أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، ١٩٨٤م، ١٧٩.
(٦٣) محمد عودة، صعود وسقوط فخامة اللورد.
(٦٤) المرجع السابق.
(٦٥) رفعت السعيد، ثلاثة لبنانيين في القاهرة، ٧٥.
(٦٦) صلاح العقاد، فتح ملف الدولة العثمانية، الهلال، أبريل ١٩٨٦م.
(٦٧) محمد عبد الله عنان، مصر الإسلامية، ١٤٩.
(٦٨) آفاق عربية، أغسطس ١٩٧٧م.
(٦٩) الاتجاهات الفكرية عند العرب، ١١–١٣.
(٧٠) أحمد عبد الرحيم مصطفي، الدولة العثمانية في الكتابات الغربية، الهلال، مايو ١٩٨٦م.
(٧١) محمد عودة، نحو الحلم العربي الكبير، الموقف العربي، يونيو ١٩٨٦م.
(٧٢) نجيب محفوظ، أمام العرش، مكتبة مصر، ١٥٨.
(٧٣) أحمد فارس الشدياق، الساق إلى الساق، مطبعة الفنون الوطنية بالقاهرة، ١: ١٦٣.
(٧٤) المرجع السابق، ٢: ١٣–١٧.
(٧٥) مذكراتي في نصف قرن، ٢: ٥٣.
(٧٦) الهلال، فبراير ١٩٨٧م.
(٧٧) الوطن الكويتية، ١٣ / ١٢ / ١٩٨٧م.
(٧٨) العربي، سبتمبر ١٩٦٨م.
(٧٩) الوطن الكويتية، ١٣ / ٢ / ١٩٨٧م.
(٨٠) المرجع السابق.
(٨١) المرجع السابق.
(٨٢) المرجع السابق.
(٨٣) ساطع الحصري، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ١٦٤.
(٨٤) السلطان عبد الحميد طاغية وليس خليفة.
(٨٥) علي المحافظة، الثورة العربية الكبرى وأثرها في الفكر، اليقظة العربية، أكتوبر ١٩٧٥م.
(٨٦) الهلال، أبريل ١٩٨٦م.
(٨٧) المرجع السابق.
(٨٨) العرب والترك، ١٥٦-١٥٧.
(٨٩) المرجع السابق، ١٥٧.
(٩٠) أكرم زعيتر، الحركة العربية أميرًا للشعراء، العربي، أغسطس ١٩٧٩م.
(٩١) العرب والترك، ١٥٧.
(٩٢) محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ١٧٦.
(٩٣) فتحي رضوان، هل كان الرجل المريض مريضًا؟ العربي، سبتمبر ١٩٨٧م.
(٩٤) محمد أحمد خلف الله، بين العروبة والإسلام، اليقظة العربية، يوليو ١٩٨٥م، ٣٤.
(٩٥) محمد عودة، نحو الحلم العربي الكبير، الموقف العربي، يونيو ١٩٨٦م.
(٩٦) الحوادث، العدد ٨٢٣.
(٩٧) محمد محمد توفيق، مكانة أتاتورك في التاريخ، الهلال، ديسمبر ١٩٣٨م.
(٩٨) إلياس فرح، في اليقظة والنهضة والانبعاث القومي، اليقظة العربية، يوليو ١٩٨٥م.
(٩٩) لوسي دف جوردون، رسائل من مصر، ١٢٤–١٢٦.
(١٠٠) بهي الدين بركات، صفحات من التاريخ، ١١١.
(١٠١) محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ٣٥.
(١٠٢) لطفي عثمان، محكمة جنايات مصر، ٢٣-٢٤.
(١٠٣) محمد أنيس، الأتراك عند نهاية الدولة العثمانية، الهلال، مارس ١٩٨٦م.
(١٠٤) الرأي الأردنية، ٣ / ٥ / ١٩٨٤م.
(١٠٥) محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ١٤١.
(١٠٦) السيد فهمي الشناوي، المؤامرة، المختار الإسلامي، يناير ١٩٨٥م.
(١٠٧) Lloyd George, The Truth …, Vol 11. London, 1938 P. 755.
(١٠٨) نقولا قطان، الثورة العربية الكبرى، الدستور الأردنية، ١٠ / ٦ / ١٩٨٥م.
(١٠٩) جريدة «العرب»، بغداد، ١٢ / ١ / ١٩١٨م.
(١١٠) الهلال، يوليو ١٩٧١م.
(١١١) الهلال، فبراير ١٩٨٧م.
(١١٢) دراسات في ثورة ١٩١٩، ٣٠.
(١١٣) الاتجاهات السياسية والفكرية، ٣٥٢-٣٥٣.
(١١٤) الشعب، ٣ / ٦ / ١٩٨٦م.
(١١٥) دراسات في ثورة ١٩١٩، ٢٩.
(١١٦) اللنبي في مصر، ٦٤.
(١١٧) ملف وزارة الخارجية البريطانية رقم ٣٧١ / ٥٩٥٥ / ١، الهلال، يوليو ١٩٨١م.
(١١٨) السياسة، ١٨ / ٣ / ١٩٢٨م.
(١١٩) The Egyptian Gazette, Nov. 31, 1919.
(١٢٠) توفيق الحكيم، سجن العمر، ١٥٨-١٥٩.
(١٢١) العروبة في ميزان القومية، ٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥