المعتقدات

والواقع أن مصر لم تعرف الحرب بمعناها المادي المباشر، إلا عند هجوم الأتراك على قناة السويس في فبراير ١٩١٥م، وهو الهجوم الذي عرف المصريون تفاصيله بعد انقضاء أحداثه بفترة طويلة. أما الغارات الجوية، فلم تزِد عن غارتين: الأولى بالقرب من البنك الأهلي، حيث أُلقيت قنبلة من إحدى الطائرات، والثانية في الفجالة، حيث أُلقيت قنبلة أخرى من طائرة ثانية، فضلًا عن إرسال ألمانيا لبالون ضخم عبر السماء المصرية ذهابًا وإيابًا، دون أن تحاول المدفعية الإنجليزية التصويب عليه، لأنه كان يطير على ارتفاعٍ شاهق.

ولا شك أن فترة الحكم العثماني التي امتدت أربعمائة سنة، قد أسهمت في ثبات المعتقدات والعادات والتقاليد وغيرها من مظاهر الحياة المصرية، وتواصلها، في استاتيكية لا يشغلها التغيير ولا الحياة في العصر. ظل كل شيء على حاله، إلا في بعض السِّمات الهامشية التي لا تضيف إلى تكوين الصورة بعامة.

وإذا كانت حركة التصنيع التي بدأ المجتمع المصري يشهدها منذ أواخر القرن الماضي قد أحدثت تأثيرها المؤكد في علاقات الأفراد والجماعات، وفي المعتقدات والقيم، وفي العادات والتقاليد، لأن التصنيع «عملية قاسية تمزق النسيج الاجتماعي القائم.»١ فلعلَّه يمكن القول إن الحرب قد أحدثت هزَّة عنيفة في المجتمع المصري، وكانت هي المنطلق الفعلي لتجسيد الشخصية وتأكيدها. وجاء إعلان الحماية — على الرغم من تأكيده للسيطرة العثمانية — إيذانًا بإزالة ما تبقى من آثار السور العثماني الذي عزلها عن العالم الخارجي. وفي دراسته المتميزة عن «القرية المتغيِّرة» جعل محمد عاطف غيث عام ١٩١٤م حدًّا فاصلًا بين القرية القديمة والقرية المتغيرة، ارتكازًا إلى أن الحرب العالمية الأولى التي حدثت في ذلك العام، والأحداث التي مر عليها المجتمع المصري بعد ذلك، حتى الآن، ذات أثر بالغ في التغير الاجتماعي.٢ وإذا كان محمد حسين هيكل قد تخوَّف من كتابة اسمه على رواية «زينب» التي صدرت في ١٩١٢م، فإنه — في أعقاب الحرب — وضع اسمه الحقيقي، أو هوَّنت من تأثيراتها على الرواية؛ ذلك لأن نيران الحرب كانت قد صهرت، وأذابت الآلاف من المعتقدات والتقاليد في أقل تقدير.
مع ذلك، فإنه من الصعب القول إن تأثير الحرب قد امتد إلى المعتقدات والأخلاق المصرية، لأن الحروب، مهما تحدث من تأثير في تركيب المجتمع، فإن هذا التأثير يشمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، لكنه لا يمتد إلى سواها من معتقدات المجتمع وغالبية عاداته، تلك التي تظل ثابتة لفترات طويلة قد تجاوز آلاف السنين. وكما تقول بنت الشاطئ، فإن «الدين أسبق من كل الحضارات المعروفة لنا والمجهولة، فلئن كانت حضارات وديان النيل والرافدين والسند أقدم من الموسوية بآلاف السنين، فإن هذه الحضارات نفسها مسبوقة برسالات الأنبياء المبعوثين في أمم بادت كعاد وثمود وسبأ، والتاريخ الديني موغل في ماضي البشرية من عهد أبيها آدم، ومن بعده نوح، ووجود عناصر دينية من مثل ما في الكتب السماوية الباقية، في التراث الشعبي للأمم الخالية كالفراعنة والبابليين والآشوريين، شاهد على أن هذه البشرية لبثت على طول الزمن وقِدم عهد بالرسل الأولين، تحتفظ في وعيها ببقايا من الرسالات الأولى.»٣ ولعل الشعب المصري بالذات هو أشد شعوب العالم على الإطلاق محافظة على تقاليده وعاداته. فضلًا عن المعتقدات التي لم يطرأ عليها تغيُّر ملموس. مرَّت عليه أدوار مختلفة من التاريخ، غيَّر لغته ودينه عدة مرات، لكن الغزوات العثمانية لم تستطع أن تغيِّر شيئًا من تراثه في المعتقدات التي صنعتها الأجيال وتوارثتها منذ استوطنت الوادي. ربما استطاعت تلك الغزوات أن تُحدث تأثيرًا ما في المدن الكبيرة التي استوطن فيها الآلاف من أبناء الجاليات الأجنبية، فضلًا عن استقطابها للعناصر المتعلمة. ولكن ظلت آلاف القرى والدساكر والنجوع، والغالبية من الشعب المصري التي تفرض الأمية سيطرتها عليها، على مصريتها الثابتة، ومعتقداتها القديمة. كانت مصر — قبل أن تعرف اسمها الحالي — تُسمَّى الأرض الحمراء، والأرض السوداء. أما الأرض الحمراء فهي الصحاري الواقعة إلى الشرق والغرب من وادي النيل، أما الأرض السوداء فهي ضفتا نهر النيل بما تحملانه من خصوبة وحياة. وبقدر ما كره المصريون الأرض الحمراء، وتمثَّلوا الإله «ست» رمزًا لها، صوته هو الرعد، وهو الذي يهز الأرض هزًّا، وتصدر عنه أعمال كريهة «حمراء»، ويرأس الأرواح الشريرة التي تمتلئ بها الصحراء، فإنهم أحبُّوا الأرض السوداء، وحرصوا على البقاء فيها، وتمثَّلوا الإله أوزوريس رمزًا لها، فهو إله الحياة المتجددة والخصوبة والازدهار. ولم تقف نظرة المصريين إلى «ست» عند وصفه بأنه منبع الجدب والفناء والعواصف، بل اعتبروه نصيرًا للأعداء، ووليًّا للقبائل الآسيوية، وأخذ الكهنة يصوِّرون بشكلٍ بارز، الدور المنوط به في قصة أوزوريس، وأصبح يُعتبَر في نظرهم أساس كل شر، فهو الذي ذبح أوزوريس، واشتبك في نضالٍ عنيفٍ مع حورس المنتقم لأبيه، ومن ثَم أصبح خصم إله الشمس، وممثِّل الظلام، ورب القحط والصحراء، وشيطانًا بين الآلهة المصرية. ثم انتهى الأمر بإخراجه من بين المعبودات المصرية، فبطلت عبادته، ومُحي اسمه وصورته حيثما وُجِد. ولما وقف الإغريق القدامى على قصته، قرنوه بإله الشر عندهم «تيفون» العدو الخرافي لزيوس. وقد جسَّد المصريون «ست» في صورة تشبه الحمار. وكان اللون الأحمر هو الشائع له في الشرق القديم، وأظهروا كراهيتهم للون الأحمر، ولذوي البشرة الحمراء من البشر. وحين أرادوا التعبير عن مدى كراهيتهم لملك الفرس، لقبوه بالحمار! وربما لهذا السبب يقذف الطفل في مواجهة قرص الشمس، بالسن التي فقدها: خدي سن الحمار، وهاتي سن العروسة! فالحمار هو «ست» إله الشر، وقرص الشمس هو الإله «رع»، أو التعبير عن الإله «أوزوريس» إله الخير.

لقد تكيَّف ذهن الإنسان المصري مع الحياة الزراعية، التي تؤمن بأن مياه الفيضان تأتي في موعد، وأن زراعة بعض المحاصيل في موعد، والري في موعد، والحصاد في موعد … وأن ذلك الحساب المنتظِم، الدقيق، يرتبط بقوى غيبية، قد تحيل الفيضان إلى طوفان، يبتلع كل شيء. وقد تشح فيه، فيرين الجفاف والجدب على كل ما زرعه الإنسان. وقد يزدهر المحصول، وربما التهمته الطبيعة أو الآفات. ومن ثَم، فقد تميزت حياة الإنسان المصري بالتدين والإيمان، والانتظار في شيء من التسليم، حتى من قبل أن تنشأ الأديان. وحين دخلت الأديان السماوية عالم الإنسان المصري، أو دخل الإنسان المصري عالم الأديان السماوية، فإنه كان مؤمنًا — في الأصل — بالقوى الغيبية، المتحكمة والمسيطرة، والتي يخضع لها كل شيء، حتى أنفاسه. لذلك خلت حياة المصريين من نعرات الطائفية، لأن الممارسات الدينية تعبير عن الإيمان. والإيمان في الوجدان المصري، وفي العقل المصري أيضًا، حتى من قبل أن يعلن إخناتون ثورة التوحيد.

•••

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (هود: ٥٨) في تقدير أحمد حسن الباقوري أن هذه الآية الكريمة تقرر حقيقتَين: أولاهما، أن الشعب المصري — أو شعب وادي النيل — هو موجة بشرية من موجات الجزيرة العربية. ثانيتهما: أن إيمان الشعب الذي خالطته الوثنيات إنما هو بقايا دين سماوي أوحاه الله إلى رسله وأنبيائه قبل وجود أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.٤ المجتمع المصري منذ ثلاثة آلاف سنة — أعني مصر الفرعونية — الذي كان يؤمن ببعض المعتقدات، هو نفسه مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، وربما إلى أيامنا الحالية. التدين هو أقدم المكونات الثقافية في الإنسان المصري. توالت الديانات وتبدَّلت خلال سبعة آلاف سنة من التاريخ المكتوب، لكن نظرته الثابتة إلى «التدين» — كقيمة يجب الحفاظ عليها، والتمسك بها — على حالها، ربما من قبل أن يرفع إخناتون لواء التوحيد. وحين نادى إخناتون — الفرعون منوفيس — بالتوحيد، فهو قد توصَّل إلى ذلك قبل النبي موسى بفترة طويلة. دعا إلى الإله الواحد، وكان يرى في الشمس رمزًا للإله «نور الحياة»، (لم يكن يرى فيها إلهًا كما تظلمه بعض الاجتهادات). وثمة رأي أن الربط بين قصة المسيح عليه السلام وأسطورة أوزوريس وإيزيس واتفاقهما على قيامة الأموات، مثَّل دافعًا للمصريين للقبول بالديانة الوافدة. وقد تعدَّلت الطقوس الدينية في أول دخول المسيحية مصر، حيث أصبحت تلك الطقوس قابلة للاحتواء في الديانة الجديدة، بدلًا من هجرها.٥ أما لفظ «الله» فهو تحريف للفظ «هليو» وهو اسم الشمس رمز الإله. وقد انتقل إلى اليهودية، حتى إن السيد المسيح — في رواية الإنجيل — صاح وهو على الصليب: إيليا … إيليا … لِم تركتني؟ وإيليا هو هليو الذي أصبح «الله» في العربية. واللافت أن تخطيط الكنيسة القبطية يماثل تخطيط المعبد الفرعوني من حيث الأقسام الرئيسة، وهي: الهيكل، صحن الكنيسة، المدخل.٦ لذلك، فإن التاريخ المصري يخلو — على امتداده — فيما عدا استثناءات تؤكد الظاهرة — من النعرات الطائفية التي كانت ستجد مجالًا خصبًا في تجاور أديان سماوية ثلاثة؛ ذلك لأن الممارسات الدينية تعبير عن الإيمان، والإيمان في الوجدان المصري، وفي العقل المصري أيضًا، حتى من قبل أن يعلن إخناتون — كما أشرنا — ثورته الدينية.
التدين هو التربة التي أثمرت خصائص الإنسان المصري ومقوماته. وقد مثَّل على الدوام وازعًا باطنيًّا يدفع إلى الخير، ويحُول دون الشر، ويراقب ويعِظ ويضع تصرفات المرء في إطار محدد من الأخلاقيات المسئولة، أو المسئوليات الأخلاقية. إن عدم الإيمان بالحياة الآخرة، بالبعث، بالحساب والعقاب والثواب، إن عدم الإيمان بذلك كله يعني — في أقل تقدير — إسقاط الجانب الأخلاقي في نفسية الإنسان. ويقول رندل كلارك إن «الدين كان القلب الذي تنبض به الحضارة المصرية.»٧ وكانت ملاحظة هيرودوت أن «المصريين أكثر تقوى من سائر البشر، ويهتمون كل الاهتمام بالشعائر المقدسة.»٨ وذهب بعض المؤرخين إلى أن المصريين تعلَّموا الصلاة قبل أن يتعلموا الكلام، وتعلموا السجود قبل أن يتعلموا المشي.٩ آمن المصريون بالمسيحية، وآمنوا بالإسلام، لكنهم أضفوا على ممارستهم لشعائر المسيحية والإسلام الكثير من الطقوس الأسطورية، وتداخلت معتقداتهم القديمة بصورة وبأخرى مع عقيدتهم السماوية، بل لقد أصبحت تلك المعتقدات على أرضية من المعتقد الديني السماوي تتيح لها البقاء والحياة والاستقرار. وعلى سبيل المثال، فإن فكرة الموالد التي أضفى عليها العصر الفاطمي مظاهر إسلامية، وأتاح لها الاستمرار، ترتبط بفكرة الخلود التي كانت محور الحياة في مصر القديمة. والملاحَظ أن منشور السلطان بعزل عرابي، كان عاملًا رئيسًا في إفشال الثورة، لأن السلطان هو خليفة المسلمين، وما يقرِّره أقرب إلى التعاليم الدينية؛ حرام مخالفته. لهذا كان انصراف الكثير من البسطاء — قوة عرابي الحقيقية — عن مناصرته، خوفًا من مخالفة تعاليم الدين. الإيمان في حياة المصريين تقليد، شيء يتوارثونه، والصلاة هي ملاذ البعض حين تحاصره الظروف القاسية، وهو ما كانت تفعله — على سبيل المثال — المرأة التي «كانت تصلي كلما كانت مهمومة، خصوصًا في الليل عندما تتكاثر على جسمها متاعب النار، وعلى قلبها هواجس الظلمة.»١٠ حتى لو كان الإنسان غير متدين، لو لم يكن يصلي أو يصوم ويؤدي شعائر الدين، فإنه دائمًا يلوذ بالذات الإلهية، حتى في لحظات الهدوء والخلود إلى النفس. بل إن بعض اللصوص يرتكبون جرائمهم بتأثير عقيدة «المكتوب»، وأن جرائمهم «مكتوبة» عليهم ومقدَّرة. وكان موقف سلوى حين تقدَّم الراوي لخطبتها، واضحًا وحاسمًا. إنها لا تجد ما تعترض به عليه بالنسبة للاعتبارات المألوفة التي تهم الفتاة في شريك حياتها، لكنها رفضته لإلحاده المعلَن. تصورت موقفه نزوة عارضة لا تلبث أن تزول، لكنه ظل على رأيه، لم يبدِّله، فأصبح من الصعب عليها أن تقبل الزواج من رجل لا دين له.١١ وربما مارس المجتمع ضغوطه، فيجد من انصرف عن الدين نفسه مسوقًا لإعلان إيمانه، تدينه «كان المسجد القريب في مواجهته، فتدافعت نحوه خطواته.»١٢

•••

وعمومًا، فإن الشعور الديني في الريف أعمق منه بين سكان المدينة؛ ذلك لأن طبيعة عمل الفلاح تجعله أكثر قربًا من الشعور بالقوة الدينية التي تساعده في عمله، منذ يغرس البذرة، حتى تتحوَّل إلى ثمرة، ودورة المحصول، والطبيعة المحيطة به. الفلاح يدفن البذرة وقلبه وجل: هل تنبت، أم تتعفن وتموت؟ مرجع هذا ليس إليه، بل إلى الله، يقف بين يديه خاشعًا، كله رضا، قناعته لا تحد، لا يطلب — الآن — إلا شيئًا واحدًا، أن يهَبها الله من نفحاته حياة تجنِّبها شر ظلمات الأرض، وتُريها النور.١٣ ثمة شيخ الطريقة الذي ينصح بالزواج والطلاق (شجرة البؤس)، والتعليم الديني الذي تحدد في حفظ القرآن حتى ختمه قبل أن يسافر الصبي إلى الأزهر ليواصل التعليم — دينيًّا — في أروقته (الأيام). فإذا أعوزت المرء الحيلة في أمر ما، فإن عدية يس هي أنجع الوسائل للتغلب على المشكلة، أو تحقيق الاستجابة (الأيام)، وثمة التعاويذ والأحجبة والسحر — وهو مذكور في القرآن الكريم (الأيام) — وكُتب الأبطال الشعبيين الإسلاميين ومناقب الصالحين وفتوح الإسلام وغزواته. وهناك — بالإضافة إلى ذلك — تلك المكانة المتميزة التي كان يتمتع بها كل من يرتدي الزي الأزهري في مجتمع القرية (الأيام). وقد حرصت غالبية الأسر على إلحاق أبنائها بالتعليم الديني الأزهري، استفادة من المجانية، ولتعدُّد فرص العمل أمام الحاصل على عالمية الأزهر.١٤ وعدم الصلاة في القرية كبيرة من الكبائر التي لا تُغتفَر، وإذا كانت صلاة الجماعة مستحبَّة، فإنها — في رأي البعض — واجبة الأداء في المسجد، وإلا، فما جدوى الأذان والجامع والجماعة، الصلاة المنفردة بعذرٍ قاهر. أما صلاة الجمعة فهي الواجبة.١٥ وقد أبدى المقريزي استياءه — زمان! — لتقارب المساجد، بما أدى إلى تداخل أصوات المؤذنين «يسمع كل من صلى بالموضعَين تكبير الآخر، وهذا وأنظاره من شنيع ما حدث في غير موضع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.»

•••

الدين بُعد أساس في الحياة المصرية، ولعله أهم الأبعاد كلها.

إن ما انتهى إلى العصور الحديثة من مظاهر الحياة في مصر القديمة، يوضح أن الدين — الخير والشر، الثواب والعقاب — كان محور تفكير الإنسان المصري، بصرف النظر عن حظه من المكانة أو العلم. إنه مشغول بدنياه الآخرة، بالقدر نفسه الذي ينسج فيه تطور دنياه الآنية، بل لقد صرفت العقيدة الدينية قدامى المصريين إلى العناية بالحياة الآخرة، ووجَّهتهم إلى بناء قبورهم ومعابدهم، وليس إلى بناء المنازل، ومن بين الآثار العديدة لا نكاد نجد أثرًا حيًّا للبيت المصري، بينما نجد عشرات الآثار الباقية للمعابد والقبور. وكما يقول زكي نجيب محمود، فقد كان المصري طوال عمره «يتدين كما يتنفس.»١٦ ثمة نص أثري، يعود إلى زمن الدولة الوسطى في مصر (حوالي ٢٢٠٠ق.م.) ومعه نص ذكره العهد القديم، ويُنسَب إلى النبي سليمان عليه السلام من سفر الجامعة. وكان النبي سليمان قد صاهر فرعون مصر، بزواجه من إحدى الأميرات المصريات. يقول النص:

«أجسام تتحلل مندثرة، وأخرى تصعد. والآلهة التي وجدت سالف الأزمان، تتمتع بالراحة داخل أهرامها. والنبلاء العظام بدورهم في أجداثهم راقدون. والذين شيدوا معابدهم ماذا كان مصيرهم؟

لم يعُد من هناك عائد ليخبر عما هنالك، فينبئ عن احتياجاتهم، ويطمئن قلوبنا.

كن إذن مرحًا،

واتبع شهواتك ما حييت.»

ويقول سفر الجامعة: «ما يحدث لبني البشر هو ما يحدث للبهيمة، وللفريقين حادثة واحدة، كما تموت هي يموت هو، ولكليهما روح واحدة، لأن كليهما باطل، كلاهما يذهب إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب، وكلاهما يعودان إلى التراب، مَن يرى روح البشر الذي يصعد إلى العلاء، وروح البهيمة الذي ينزل إلى أسفل، إلى الأرض، باطل الأباطيل. كل شيء باطل، جيل يمضي، وجيل يأتي، والأرض قائمة مدى الدهر. جميع الأمور تعي، فلا يستطيع الإنسان أن يشرحها، لا تشبع العين من النظر، ولا تمتلئ الأذن من السماع.»

لقد كان الإنسان المصري أول من آمن بديانة التوحيد، وعلى الأرض المصرية عاشت الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، المسيحية، الإسلام، لكن مصر لم تكن مجرد بلد عاش فيه هذا الدين أو ذاك. لقد تحوَّلت — في كل الأحوال — إلى مركز إشعاع ينطلق منه الدين — أي دين — ويحافظ على استمراريته. وكان «النبيل» المصري موسى هو الذي أنقذ الديانة اليهودية من دمار محقق، ووجدت الرهبنة المسيحية بداية حياتها في الصحراء المصرية. وكانت الإسكندرية هي مهد الطائفة المجهولة في نهاية القرن الثاني للهجرة، ثم أصبحت بعض اجتهادات المسلمين، وأعني بها الصوفية.

•••

الدين في مصر سِمة قومية.

وقد أفرزت تلك السِّمة نتائجها الإيجابية، وفي مقدمتها حفاظ الشعب المصري على حضارته، وعلى دحر الغزاة بالقوة، أو بالمقاومة الصامتة، أو احتواء الغزاة، بتذويبهم في داخله، وفرض حضارته، معتقداته وعاداته وتقاليده. الدعامة الدينية هي الأساس في التكوين الثقافي المصري، وقد مثَّلت — على الدوام — وازعًا باطنيًّا، يدفع إلى الخير، ويحُول دون الشر، ويراقب، ويعِظ، ويضع تصرفات المرء في إطار محدد من الأخلاقيات المسئولة، أو المسئوليات الأخلاقية، والنظام الديني — في تقدير علم الاجتماع — «يلعب دورًا مهمًّا في الضبط الاجتماعي في المجتمع، فهو يوحِّد أيديولوجية الأفراد وقِيَمهم، ويحدد نواحي الخير والشر والثواب والعقاب بطريقة فعالة، ويسهم الدين بنصيب كبير في تكوين الضمير عند الأفراد، بل إن الدين هو العامل الأساسي في تكوين الضمير الذي هو — كما نعلم — المرجع الأول للضبط الاجتماعي الداخلي للأفراد، ويدعم الدين تأثيره في هذه الناحية وغيرها من النواحي، بما يحتوي عليه من فكرة الثواب والعقاب الإلهي، ومن طقوس وعقائد تؤثر تأثيرًا فعالًا على أفراد المجتمع، وتجعلهم رقباء على أنفسهم.»١٧

لكن تلك السِّمة — في تقدير بعض الاجتهادات — أفرزت محصلتها السلبية أيضًا. إن التدين بُعد أساسي في الشخصية المصرية، وإن كان قد ارتبط — أحيانًا — بالخضوع للكهنة، والإذعان السلبي لسيطرتهم، وما يأمرونه به من طقوس ومراسيم، ثم — بعد مئات الأعوام — ما أضفاه الفاطميون من معتقدات وطقوس ومراسيم، أوضحها تفاقم الإيمان ببركات الأولياء والمشايخ وسكان الأضرحة، وتفشي روح الدعة والاستسلام. ضاعف من ذلك توالي المجاعات والأوبئة والمظالم في حياة الشعب المصري. ولعل العصور المتوالية التي واجه فيها الشعب المصري غزوات — لعل أخطرها بلا جدال الحروب الصليبية، فضلًا عن مظالم الحاكمين — قد أفرزت نتائجها السلبية ممثَّلة في التواكلية والاعتذارية والإيمان بالخوارق الدينية والأوهام والأساطير. فهم يقاومون الاحتلال العثماني — على سبيل المثال — بعبارات من مثل: يا رب يا متجلي، أهلِك العثمانلي … ويقامون الاحتلال البريطاني بالقول: يا رب يا عزيز، كبَّة تاخد الإنجليز، وهكذا. فرض اليأس نفسه، وشاعت الخرافة والأسطورة والاتكال على القوى الغيبية. وهي اجتهادات لها بواعثها الموضوعية التي أستأذنك في مناقشتها في فقرات تالية.

•••

إن القوة الوحيدة التي ظلت تملك التأثير في المجتمع المصري — وأغلب الظن أنها ستملكه لقادم السنين — وبخاصة في الريف — هي قوة الدين. وقد وصف سعد زغلول كل فئات المجتمع المصري وطبقاته بغلبة التفكير الديني عليها، فيما عدا الطلبة!١٨ ويقول إدوار ريس: إن الإيمان بالله ورسوله يحتل مكانًا مهمًّا وغير عادي في حياة المصري، بحيث إن تجاهله يُعَد تجاهلًا لأحد العناصر الحاسمة في المسألة المصرية. وكان العامل الديني هو الركيزة التي أفادت الإسكندر المقدوني في احتلال مصر؛ كان على وعي بالبعد الديني في الشخصية المصرية، فعبر الصحراء في زحف لم يستغرق غير أسبوعين من الإسكندرية إلى معبد آمون بسيوة. وجعل الكهنة تستقبله بوصفه ابن جوبيتر. وكتب نابليون في منفاه بسانت هيلانة، أن الإسكندر «قد حقق بعمله هذا من حيث تثبيت دعائم فتحه للبلاد أكثر مما كان يحققه لو بنى عشرين حصنًا، وعزَّز جيشه بمائة ألف من المقاتلين المقدونيين.» وقال نابليون أيضًا: «ليس الذي يعجبني في الإسكندر الأكبر حملاته الحربية، بل أساليبه السياسية. لقد كان محقًّا حين أمر بقتل بارمينون الذي عارض بحماقته تخلي الأزهر عن التقاليد الإغريقية. وكان منتهى حسن السياسة منه أن يذهب لزيارة معبد آمون، فهو بهذا فتح مصر. ولو أنني مكثت في الشرق لأقمت على الأرجح دولة كدولة الإسكندر بذهابي إلى مكة للحج.» وقد حاول نابليون بالفعل أن يترسم خطى الإسكندر، من حيث الإفادة من النوازع الدينية لدى المصريين، فأعد — قبل نزول الحملة إلى الأرض المصرية — منشورًا باللغة العربية، يدغدغ فيه المشاعر الدينية للمصريين. بدءًا بالإعلان أنه هو — وجيشه — يحترمان الإسلام والمسلمين، وانتهاءً بالإعلان عن اعتناقه الإسلام، مرورًا بتكريمه للعلماء، واستضافته لهم، وحضوره مجالسهم، وغيرها من المظاهر التي سعت — في مجموعها — إلى استمالة مشاعر المصريين الدينية. وكتب نابليون إلى كليبر، قائد الحملة الفرنسية من بعده يقول: «إننا إذا كسبنا تأييد شيوخ القاهرة، كسبنا الرأي العام في مصر كلها.» ولعله مما يُحسَب للعلماء إصرارهم على عزل خورشيد، وتولية محمد علي بدلًا منه، تعبيرًا عن «إرادة الشعب». فقد جعل العلماء أنفسهم — بذلك التصرف — سلطة أقوى من سلطة الحكومة. ومع أن محمد علي أدرك قدرة الزعامة الدينية على قيادة الجماهير منذ أعلن السيد عمر مكرم أنه «إذا أصر الباشا على مظالمه، فإننا نكتب إلى الباب العالي، ونثير عليه الشعب، وأنزِله عن كرسيه كما أجلَسته عليه.» واستطاع محمد علي أن يستميل بعض رجال الدين بإقطاعهم مساحات هائلة من الأراضي ليضمن ولاءهم. ويقول الجبرتي في «عجائب الآثار» عن علماء الدين أنهم «قد افتتنوا بالدنيا، وهجروا المسائل ومُدارسة العلم إلا بمقدار حفظ القاموس، مع ترك العلم بالكلية. وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين، واتخذوا الخدم والمنادمة والأعوان وإجراء الحبس والتعذيب والضرب بالفلقة والكرابيج … وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين. وانقلب الأمر فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم بذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والقائظ والمضاف … إلخ.» مع ذلك، فقد حاول محمد علي أن يقضي على المعارضة الدينية المثقفة التي كان يمثِّلها العلماء. عزل عمر مكرم من منصب نقيب الأشراف، ونفاه إلى دمياط، وعيَّن الشيخ السادات بدلًا منه، لكن غالبية العلماء ظلوا على وقفتهم إلى جانب الوجدان الجمعي المصري.

والملاحَظ أن القيادة الفكرية والاجتماعية — إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين — كانت مقصورة على علماء الدين. وكان من المألوف أن يرفض الباعة تقاضي ثمن ما يشتريه أحد المشايخ، أو ينزل الراكب عن بغلته إذا مرَّ به شيخ (من حفظ القرآن فهو شيخ، مهما تكن سنَّه (الأيام، ١: ٣٧). ونتيجة لذلك، كان نشوء طبقة المثقفين في مطلع القرن التاسع عشر باعثًا على ظهور مشكلة الثنائية الفكرية: مدرسة الأزهر القديمة، ومدرسة الفكر الجديد. ثم استطاعت الطبقة الجديدة أن تنتزع القيادة الفكرية من علماء الدين، حتى أصبحت — كما يقول محمد أنيس — «هي العمود الفقري في المجتمع المصري الحديث.»

وكان للعوامل الدينية تأثيرها الطاغي في تطورات الثورة العرابية، إلى حد أن صابونجي يكتب في إحدى رسائله إلى بلنت أن «الدوافع الدينية تلعب دورًا كبيرًا في مثل هذه الظروف، وإن البعض ممن لا تؤثر فيهم العواطف الوطنية والسياسية تقودهم الحماسة الدينية، وكذلك الحالة في مصر. وأخشى مما أراه وأسمعه، أن تعلن الحرب الدينية عند أول بادرة للعداء من جانب أية دولة أوروبية.»١٩ وقد راجت في أثناء الثورة العرابية شائعة تقول إن دجاجة وضعت بيضة مكتوب عليها «نصر من الله وفتح قريب»، واستدل الناس بذلك على قرب الانتصار.٢٠ كما أهدى بعض المواطنين عرابي ثلاثة مدافع: مدفعًا باسم السيد البدوي، وآخر باسم سيدي إبراهيم الدسوقي، ومدفعًا ثالثًا باسم السيد عبد العال.٢١ ولا تخلو من دلالة تسمية جنود الجيش لقائدهم «الشيخ أحمد عرابي».٢٢ وحين طلب النديم الرد على بيان السلطان، الذي يتهم فيه قادة الثورة بالخيانة، ردَّ عليه عرابي في غضب: أيها المجنون! السلطان أكذوبة يصدِّقها الناس، فلها قوة الحقيقة، وكنا نستعين بها لكسبهم. والآن يستعين بها الإنجليز، رغم قوتهم، لأنهم ليسوا بلهاء مثلك! وليس من الحكمة أن نساعدهم في نشر بيان السلطان!٢٣ وكان العامل الديني أحد المبررات المهمة والضرورية التي فتش عنها الإنجليز، واصطنعوها، لدخول قوات الاحتلال. وكتبت جريدة «الأعلام» التي كان يصدرها محمد بيرم تقول «إن القسم من المصريين المعضِّد للإنجليز، محقٌّ، ساعٍ في نفع وطنه، والشريعة تؤيده، فإن الرسول أمر جمعًا من أصحابه، وفيهم ابنته، بالاحتماء بملك الحبشة وهو نصراني، من ظلم مشركي العرب، وأقاموا عنده مدَّة، وهذا دليل لجواز الاحتماء بغير المسلم. وقد استدل به الفقهاء في الأفراد، والعلة جارية في الكل، والحالة الراهنة شاهدة به، فإن لم يكن تسلُّط الإنجليز الذي هو عبارة عن حراسة فقط، مع بقاء الأمور على مجراها، كان تسلط غيرهم وحالة الدين تحت أيديهم معلومة، ولو مع أبناء ملَّتهم.»٢٤ كذلك كان الدافع الديني وراء تعاطف غالبية الشعب المصري مع الآستانة — وقد أدرك الإنجليز ذلك منذ اليوم الأول لدخولهم مصر — فلم يستطع الاحتلال البريطاني أن يقطع صلة المصريين بتركيا، ولا بالخلافة الإسلامية ومقامها الروحي، فظلت عواطفهم، وظل شعورهم، يهوي إلى الآستانة. وكانت الجمهرة الغالبة تؤيد تركيا، وتُعِد كل مصري يتعاون مع البريطانيين، أو يضعف في مقاومتهم، خائنًا لوطنه. وربما لهذا السبب نادى مصطفى كامل بدعوة الاستقلال في نطاق الخلافة الإسلامية.٢٥ وعلى الرغم من أن اللورد كرومر عاب على المصريين جهالتهم الدينية، فإنه اعترف بأنهم يتمسكون تمسُّكًا تامًّا بالإسلام الذي هو إحدى الكلمات المرادفة للوطنية في الشرق.٢٦ لذلك كان كرومر حريصًا — طيلة فترة بقائه في مصر — على ضرورة الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يُعَد تحقيرًا للعقيدة الإسلامية «ولندع هؤلاء الذين يقودون دفة الدولة على حذر، يدكُّون في مكر، الصرح الروحي للمجتمع الإسلامي، فإن ازدراء العقيدة الدينية للشعب بأسره، أمرٌ على جانب كبير من الخطورة، سياسيًّا واجتماعيًّا.»٢٧ بل لقد أعلنت إنجلترا — في منشور قطع العلاقات بينها وبين تركيا — تقديرها لاحترام مسلمي القطر المصري واعتبارهم للسلطان بصفته الدينية، وأعلنت أنها أخذت الحرب على عاتقها دون أن تطلب من الشعب المصري أية مساعدة، لكنها — مقابلًا لذلك — تنتظر من الأهالي، تطلب إليهم، الامتناع عن أي عمل من شأنه عرقلة حركات جيوشها الحربية، أو أية مساعدة لأعدائها.٢٨ ولأن علماء الدين كانوا الاستثناء الوحيد من الصفات التي خضع لها الشعب المصري، مثل «عبيد الوالي» و«عبيد إحسانه» … إلخ،٢٩ فقد حاولت سلطات الاحتلال اصطناع رجال الدين — وعلماء الأزهر بصفة خاصة — وحرصت على إرضائهم، والابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة الشعور الديني.
وكان الدين عاملًا أساسيًّا في «صبر» المصريين على العسف التركي، بينما لم تهدأ ثوراتهم ضد الفرنسيين والإنجليز — ذوي الديانة المختلفة — حتى غادروا البلاد. وعندما اشترط لطفي السيد أن يناصر المصريون إنجلترا في حربها ضد الأتراك، مقابل الحصول على الاستقلال، قال مستشار الداخلية: يا صاحبي … نحن نعرفكم، كما تعرفون أنفسكم … فعندما سيظهر أول طربوش تركي في القناة ستتركوننا، وتجرون وراءه!٣٠
والموروث الشعبي يجد علاقة بين «البرص» واليهود، وأن البرص — مثل اليهود — يكره المسلمين. لذلك فإن الأسرة التي تريد طرد الأبراص خارج البيت، تعلو أصوات أفرادها بالقول: هنا بيت اسمه محمد؛ أي أن صاحب البيت مسلم وليس يهوديًّا، فعلى الأبراص أن تهجره!٣١

•••

إن دعاء الجماهير «يا رب يا عزيز … داهية تاخد الإنجليز» لا يُعَد تعبيرًا عن التواكل المصري الذي يترك الاحتلال لإرادة الله، بقدر ما هو تعبير عن الإيمان المصري الذي يصل إلى حد التصور بأن الأصوات التي تصدر عن القطط وهي جالسة، أوراد تقرؤها القطط، تسبيحًا لله سبحانه وتعالى،٣٢ والذي جعل من نفس «زينب» رحى عذاب أليم، عندما راودت نفسها على أن تهجر عش الزوجية، وتذهب إلى حبيبها إبراهيم، تلقي بنفسها في أحضانه، لكن يمنعها من إتمام المغامرة تذكُّرها ﻟ «عين الله الساهرة المطلعة على كل شيء.» وتسأل: «ترى: هل يسمح بهذا؟ ومع أنها أجابت بالقول: وهل يرضى الإله العادل الرحيم بما أنا فيه من شقاء؟» إلا إنها ظلت في بيتها، وطردت الخاطر اللعين خوفًا من الغضبة الإلهية. وقد اعتاد فهمي عبد الجواد أن يقسم بالكذب لأبيه بأنه لا يشارك في المظاهرات أو أعمال الثورة، فلما طلب الرجل منه أن يقسم على المصحف، رفض في رهبة وخوف، حتى لا يكذب على الله. لم يصدر عن لحظة انفعال،٣٣ وإنما صدر عن شعور عميق بالتدين. لم يجرؤ على مواجهة الأب الجبار من أجل التشفُّع، لأمه الحبيبة،٣٤ لكنه رفض القسم على المصحف حتى لا يحنث بقسمه، فيعرِّض نفسه للعقاب الإلهي. والملاحَظ أن التدين في أغلب الأحوال كان مقصورًا على الرجال. ولم يكن ثمة اهتمام بأن تكون المرأة متدينة، ولا تدخل القيم الدينية في مركزها الخاص. وإذا كانت الأسر تعنى بتدريب أطفالها الذكور دينيًّا، فإنها تهمل ذلك البُعد في حياة البنات تمامًا، ولا يقدَّر تدين المرأة إلا في شيخوختها المتأخرة، فيطلب الأبناء والحفدة دعواتها، وقد يهيئون لها فرصة أداء فريضة الحج.٣٥ وكان انتقال أسرة أحمد عاكف إلى الحسين — بعد غارة السكاكيني — مرده إلى أن «هذا الحي في حِمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد.»٣٦ والجنة لا يدخلها إلا من أسلم، ونطق بالشهادتين.٣٧ وليلة النصف من شعبان لها دعاؤها المهم الذي يحرص المسلمون عليه، يباع في الطرقات، وعلى سلالم الترام، وعند أبواب المساجد.٣٨ وعندما يمسك الرجل — أو المرأة — بالدجاجة في وضع الذبح، فهو يتمتم: بسم الله، الله أكبر، اللهم صبرك على ما بلاكي، ويجعل موتك أفضل من حياكي! ثم ينحرها بحزتين، ويلقي بها أمامه.٣٩
وثمة إيمان يقيني أن ما نفعله في الدنيا يبقى لأبنائنا.٤٠ وكان من بين الأسباب التي أرجعت إليها البغي سيدة (نحن لا نزرع الشوك) وفاة صغيرها أن السماء شاءت أن تعاقبها على حياتها المنحرفة: «ذنبي كبير يا رب. إن كنت قد سرقت أو سلكت طريق الخطيئة، وتوبتي لم ترقَ إلى أمل عفوك وغفرانك، ولكن عقابك أكبر من طاقتي، وعذابك أقسى من قدرتي: أنا لم أقتل ضنى، أو أحرق قلبًا … فلماذا فعلت بي هذا؟» لماذا يا رب؟٤١ كذلك فقد كانت خديجة (بين القصرين) تعلِّل ضعف بِنية عائشة بضعف دينها. تقول: «كلنا نصوم رمضان إلا أنت، تتظاهرين بالصوم، وتندسين في حجرة الخزين كالفأرة، وتملئين بطنك بالجوز واللوز والبندق، ثم تفطرين معنا بنهمٍ يحسدك عليه الصائمون، ولكن الله لا يبارك لك.»٤٢ ولولا الإيمان الديني لما تابت خاطئة قنديل أم هاشم بعد سبع سنوات من الصبر. لقد وجدت نفسها في الإيمان، واستقبلت الحياة الجديدة الشريفة بخمسين شمعة، أنارت بها مقام السيدة زينب. حتى لاعبو القمار الذين كانوا يجتمعون في الخربة، كانوا ينتفضون رهبة إذا تعالى صوت المؤذن بالصلاة، ثم ما تلبث أن تئد تلك الرهبة إحساساتهم الجشعة المتفجرة من القلوب القاسية.٤٣ وتلك الواقعة الأخيرة بالذات، تضعنا أمام استطرادية مطولة نناقش فيها تلك الخاصية التي يتسم بها — بدرجة ما — الإنسان المصري، والتي تتوضح — بصورة مكثفة — في شخصية أحمد عبد الجواد، التاجر بالحمزاوي، وأعني بها الانفصام الديني.

•••

يصف الفنان أحمد عبد الجواد بأن حياته جمعت شتَّى المتناقضات التي تراوح بين العبادة والفساد، وحازت جميعًا رضاه على تناقضها دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتية أو تدبير مما يصطنع الناس من ألوان الرياء، لكنه كان يصدر في سلوكه عن طبيعته الخاصة بقلب طيب وسريرة نقية وإخلاص في كل ما يفعل، فلم تعصف بصدره عواصف الحيرة، وبات قرير العين. وكان إيمانه عميقًا، أجل، كان إيمانًا موروثًا لا دخل للاجتهاد فيه، بيد أن رقة مشاعره ولطافة وجدانه وإخلاصه، أضفت عليه إحساسًا رهيفًا ساميًا نأى به عن أن يكون تقليدًا أعمى، أو طقوسًا مبعثها الرغبة أو الرهبة فحسب، وبالجملة كان أبرز ما يتميز به إيمانه بالحب الخصب النقي. بهذا الإيمان الخصب النقي أقبل يؤدي فرائض الله جميعًا، من صلاة وصيام وزكاة في حب ويُسر وسرور، إلى سريرة صافية وقلب عامر بحب الناس، ونفس تسخو بالمروءة والنجدة، جعلت منه صديقًا عزيزًا يستبق القوم إلى الري من منهله العذب، وبتلك الحيوية الفياضة المشبوبة، فتح صدره لمسرَّات الحياة ولذائذها، يهش للمأكل الفاخر، ويطرب للخمر المعتق، ويهيم بالوجه القسيم، فينهل منها جميعًا في مرح وبهجة وولع، غير مثقل الضمير بإحساس خطيئة أو وسواس قلق، فهو يمارس حقًّا منحته إياه الحياة، وكأنما لا تعارض بين حق الحياة على قلبه، وحق الله على ضميره، فلم يشعر في ساعة من حياته بأنه بعيد عن الله أو عرضة لنقمته. وعندما قال أحمد عبد الجواد لزبيدة العالمة في دعابة: «أأطمع في أن نصلي معًا؟» فإنه استغفر الله، في اللحظة التالية «لأن هذره، وإن كان لا يقف به في سكرة المجون عند حد، إلا أن قلبه لم يكن ليطمئن ويواصل ابتهاجه حتى يستغفر في باطنه صادقًا مما يعبث به لسانه مازحًا.»٤٤ وبعد أن تعقَّب أحمد عبد الجواد زنوبة العوادة، تردَّد في المُضي إلى الجامع لأداء صلاة الجمعة؛ نقض نزقه وضوءه، بل جعله غير أهل للوقوف بين يدي الله. وسار في الطرقات ساعة على غير هدى، ثم عاد إلى البيت وهو يفكر في ذنبه.٤٥ يقول له الشيخ متولي عبد الصمد: ماذا تقول، وأنت المؤمن الورع، في ولعك بالنساء؟

– الحلال غير الحرام يا ابن عبد الجواد، والزواج غير الجري وراء الفاجرات.

– ما ارتضت نفسي يومًا أن تعتدي على عرض أو كرامة قطُّ، والحمد لله على ذلك.

– عذر ضعيف لا ينتحله إلا ضعيف، والفسق لعنة ولو لم يكن بفاجرة. كان أبوك رحمه الله مولعًا بالنساء، فتزوج عشرين مرة، فلماذا لا تنتهج سبيله، وتتنكَّب طريق المعاصي؟!

– أأنت ولي من أولياء الله أم مأذون شرعي؟! كان أبي شبه عقيم، فأكثر من التزوج، وبالرغم من أنه لم ينجب سواي، إلا أن عَقَاره تبدَّد بيني وبين زوجات أربع مات عنهن، إلى ما ضاع عليَّ من النفقات الشرعية في حياته. أما أنا، فأب لثلاثة ذكور وأنثيين، وما يجوز لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدِّد ما يسَّر الله علينا من رزق، ولا تنسَ يا شيخ متولي أن غواني اليوم هن جواري الأمس واللاتي أحلَّهن الله بالبيع والشراء، والله من قبل ومن بعد غفور رحيم. لكن الانفصام الديني لم يكن — في حالة أحمد عبد الجواد — على إطلاقه؛ بمعنى أنه لم يكن يسمح لنفسه بأن ينتقل من الرذيلة إلى الفضيلة دون تمهيدات. وكادت صلاة الجمعة تفوته بعد أن سرقه الوقت وهو يتحدث مع زنوبة في دكان الخواجة يعقوب الجواهرجي «لكنه تردد في المُضي إلى الجامع، ألم ينقض نزقه وضوءه؟ بل ألم يجعله غير أهل للوقوف بين يدي الرحمن؟ عدل عن الصلاة محزونًا متألمًا، فسار في الطرقات ساعة على غير هدى، ثم عاد إلى البيت معاودًا التفكير في ذنبه.»٤٦ ولم يكن الرجل «يصلي صلاة آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس، يؤديها بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان الحياة التي ينقلب فيها جميعًا.»٤٧ الرجل أقرب، في معتقده، وفي تصرفاته، إلى المرجئة الذين تتلخص فكرتهم في أن الإيمان عمل وجداني خالص لا يتأثر بالسلوك الخارجي وتصرفات الجوارح. وهي مدرسة تنسب إلى الرسول حديثًا يقول فيه: «لا تنفع مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة.» وتعبِّر سناء (العيب) عن شخصية أحمد عبد الجواد، والشخصيات المشابهة له، بالقول: «الظاهر الرجالة دول عندهم لكل مبدأ دوسيه؛ الشرف في بيته غير الشرف في عمله، والحرام في الليل غير الحرام في النهار، والفضيلة ما تمنعش الرذيلة. كله موجود مع بعض في حالة تعايش سلمي.»٤٨ وكان السيد رضوان الحسيني — زقاق المدق — في بيته حازمًا حاسمًا وعلى فظاظة، فهو في ذلك أقرب إلى أحمد عبد الجواد في بيته، لكن التباين بين الرجلين — فيما عدا ذلك — كان بلا حدود، فلم يكن رضوان الحسيني يعاني الانفصام الديني، ولم يكن يزاوج بين حياتين، بل كان خالص التدين، عميق الإيمان، لا يجول بذهنه — لحظة — خاطر عابث أو شرير.

وقد يبدو الانفصام الديني أمرًا مألوفًا، باعتباره جزءًا من انفصام السلوك الحياتي لأحمد عبد الجواد «فلا الناس يعرفون السيد الذي يقيم في بيته، ولا أهل البيت يعرفون السيد الذي يعيش بين الناس.» لكن الانفصام — في الحق — خاصية يتسم بها — بدرجة ما — الإنسان المصري: أداء شعائر الدين، والانكباب على المعاصي، بإيمان لا يحد أن الله غفور رحيم. تلك أيضًا حياة المعلم نونو (خان الخليلي) الذي يؤمن بأن المرضية والمعصية كالنهار والليل لا ينفصلان، وفوقهما مغفرة الله ورحمته. وتلك حياة العمدة (هارب من الأيام) يحرص على أداء الفروض في أوقاتها، لكنه يحرص كذلك على الرشوة. يقول لفاطمة: اللهم ثبِّت قدمي اليمنى على الصراط المستقيم … الحمد لله … هذا شيء عظيم … أسأل عني أحد اليوم؟

– لا.

– ألم يُحضر صالح أبو سعد الله فراخًا؟

– يا سيدي إننا ما زلنا في الفجر.

– ولكنه مدين يا فاطمة … الدين يا بنتي … أينسى أحد دينه؟

– وهل اقترض صالح منك يا سيدي؟

– نعم.

– هل اقترض منك فراخًا يا سيدي؟

– يا مغفلة … أرأيت أحدًا يقترض فراخًا من العمدة؟

– أنا الأخرى أتعجب يا سيدي!

– لقد حكمت له في قضية أمس، فأقسم أن يحضر لي فراخًا اليوم … اليوم فجرًا … وها هو ذا الفجر يولي، وهو لم يجئ. كم أنت ثرثارة يا فاطمة … الفجر سيفوتني … الله أكبر … الله أكبر … أصلي الصبح ركعتين فرضًا حاضرًا لله العلي العظيم … الله أكبر.٤٩ وكان عبد الحليم باشا عيسى — السكرية — يطلب من رفاق السهرة — قبل أن يبدأ جلسة «الشذوذ» — أن ينتظروا حتى يصلي العشاء.٥٠ وقد عُرف عن الزوج أنه يستطيع أن يتحدث في أحكام الدين، ويتمثَّل بآيات الدين بالإحاطة والمرونة نفسها التي يتحدث بها عن الخمر وأنواعها.٥١ وكان سليم باشا شلبي — الحصاد — يحفظ القرآن والأحاديث، منذ أيام دراسته في الأزهر، لكنه لم يكن يعمل بما يحفظ، اللهم إلا في إخراج زكاة ماله.٥٢ ويسأل الراوي (المرايا) زهران حسونة: ألا ترى يا حاج في العمل في السوق السوداء ما يناقض ورعك؟ فيجيب الرجل: للدنيا أسلوب في المعاملة، وللآخرة أسلوب آخر.٥٣ وكان السيد عبد المتعال يصلي ويفسق، ويقول بأن الميزان قد خُلق بكفتين، واحدة للحسنات، وواحدة للسيئات.٥٤ الأمر نفسه بالنسبة لباسيلوس صاحب «الكرمة» بالسكاكيني، كان يحرص على التقوى أيام الآحاد، وفي صباح الاثنين يبدأ ستة أيام من معصية الله وسرقة الزبائن وغش الكونياك.٥٥ أما الحاج شلبي — قصة لتيمور بنفس الاسم — فهو يَدين بالإسلام، ويفخر بانتسابه إليه، لكنه لا يؤدي أي فرض من فرائضه، وفي يقينه أن كل ما يرتكبه من الموبقات والخطايا سيغفره الله في الآخرة بشفاعة النبي ، فالمسلم — ما دام قد ردد الشهادتَين، ذات يوم، بصدق، ومهما تتدنس حياته — له الجنة، وأن تعرض قبل أن يدلف من بابها لحساب يسير. وحين يأتي موعد الصلاة كان زهران حسونة (المرايا) ينتحي وصحبه جانبًا فيما وراء البار، يؤدون الصلاة، وهو يؤمهم لأنه الوحيد بينهم الذي أدى فريضة الحج.٥٦ والحق أن زهران حسونة يُعَد مثلًا متفوقًا للانفصام الديني، فقد كان يعمل في السوق السوداء، في تجارة الثقاب والويسكي، ثم اشتغل في المواد الدينية، ولم يكن يخفي ذلك، بل كان يبدي استعداده لتقديم الخدمات لأصدقائه. وسُئل يومًا: ألا ترى يا حاج في العمل في السوق السوداء ما يناقض ورعك؟ فأجاب بثقة: للدنيا أسلوب في المعاملة، وللآخرة أسلوب آخر.

– ولكن الله لا يمكن أن يرضى عن تجويع الفقراء!

– إني أكفِّر بالصلاة والصوم والزكاة، فماذا تريد؟٥٧

ويقول رجل في حانة تاكي (بين القصرين): ولكن الخمر حرام!

ويأتيه الجواب: وهل ضاقت السُّبل؟ زَكِّ! حج! أطعِم المساكين! أبواب التكفير واسعة، والحسنة بعشرة أمثالها.٥٨
وكان الرجل (كل شيء على ما يرام) يسرق وهو يطلب من الله الستر والعفو، بل إنه يحرص على أن يتم ابنه تعليمه، وأن يحفظ القرآن. إنه يسرق لأن البطون لا تعترف بعجز الأيدي؛ لذلك فهو لا يجد إلا كلمة واحدة يقولها للمحقق: «أعمل إيه؟ كنا جعانين!»٥٩ وعلى الرغم من أن عزيزة (الأقدار) انغمست في الرذيلة إلى أذنيها، فإنها كانت تعمد — بعد أن تودِّع آخر عشاقها — إلى الماء، فتطهِّر جسدها، وتصلي مستغفرة، وتتلو آيات القرآن.٦٠ وحين توشك المرأة على فعل الزنا، فإن كل ما يشغلها هو أن تدفع الرجل إلى القسم على المصحف بألَّا يفضحها!٦١ ومع أن عزيزة احترفت البغاء، فإنها كانت إن ودعت آخر زوارها، عمدت إلى الماء، وطهَّرت جسدها، ثم اتجهت إلى القِبلة تستغفر ربها وتصلي، وتقرأ آيات من القرآن.٦٢ وتقسِم المعلمة توحيدة بالنبي حين تهدد بالانتقام ممن يزورون بونات التردد على بيت الدعارة الذي تملكه.٦٣ وبعد أن أقنع شكري أفندي سناء — العيب — بالسكوت عن جريمة تقاضيهم للرشاوى، قال ببساطة: الفاتحة على كده! ورد الجميع قائلين: الفاتحة.٦٤ وكان السيد عبد المتعال — البيت الصامت — يصلي ويفسق ويقول: إن الميزان قد خُلق بكفَّتين، واحدة للحسنات، وواحدة للسيئات.٦٥ حتى أفراد عصابة كمال الطبال (هارب من الأيام) الذين يقتاتون الجريمة، أقسموا له يمين الولاء على المصحف، ولم يفكر أحدهم أن يحنث بيمينه! وهو ما يذكِّرنا باختلاف اللصوص في رائعة سرفانتس دون كيخوتة، على طريق تقسيم ما نهبوه. فلما سألهم رئيس العصابة عما يريدون، قالوا: نحن نريد العدل في قسمة ما سرقناه، العدل! قيمة إنسانية كبرى، لا صلة لها بما أقدم عليه اللصوص، وما يريدون العدل من أجله.
إن الله موجود في وعي هؤلاء جميعًا، قوة هائلة مسيطرة، تملك الثواب والعقاب. لكنها قوة رحيمة أيضًا. وليس ثمة بأس في أن يرتكب المرء المعصية، ما دام حريصًا على فروض الدين، والحسنات — لا بد — يُذهبن السيئات. وكما يقول الراوي فإن اللص يخرج على هيئته، وهو يسأل الله الستر والنجاح!٦٦ ولا يخلو من دلالة أن بعض المغامرات الجنسية التي كان يقدِم عليها شباب قرية الشرقاوي — الأرض — إنما كانت تتم داخل المصلى! وارتكازًا إلى اعتقاد العامة بأن المسلم — بنطقه بالشهادتين — سيد الناس، ولا بأس بما ارتكب.٦٧ وإلى أن الله واسع المغفرة، فإن الإنسان المصري يؤخر توبته — في الأغلب — إلى سن متأخرة، ثم يحرص على أداء الفروض الدينية ليمحو — ما استطاع — ذنوبه!٦٨ وكان ذلك ما فعله توفيق أفندي عندما اقترب من سن المعاش.٦٩

•••

ثمة تعبير عن الانفصام الديني في الشخصية المصرية بأنه وفاق بين المثالية والواقعية، ووئام بين القِيَم الدينية والقِيَم العلمانية.٧٠ والحق أن الانفصام الديني على المستوى الشخصي، كان انعكاسًا بصورة ما للانفصام الديني على مستوى المجتمع ككل، وبالذات منذ بدأت مظاهر الحياة الأوروبية تشكِّل تيارًا واضحًا في الحياة المصرية. فثمة محافظة متشددة، يقابلها أخذ بالأساليب الغربية. وثمة دعوة إلى الإكثار من أئمة المساجد، تقابلها دعوة جديدة بفتح بيوت البغاء بترخيص من الدولة. وثمة سلطة تقوى لعلماء الدين — والأزهر بالذات — توازي إقدام الناس على استغلال مبدأ «الحرية الشخصية» حتى الخديو كان يجمع بين الاحتفال بليالي رمضان وليلة «البلُّو» التي يمتد فيها السهر إلى الصباح، وبين الحج إلى مكة، والسفر كل عام في رحلة طويلة إلى أوروبا. أما القول بأن الانفصام الديني هو سِمة الطبقة الوسطى وحدها،٧١ فلعله يتضح من الأمثلة الروائية — ومن الواقع — أن الانفصام الديني هو مرض الغالبية العظمى من أفراد الشعب المصري، وأن «جراثيم» المرض تتمثَّل في الاجتهادات الدينية التي تجد الجنة مآلًا نهائيًّا لمن ينطق بالشهادتين، وأن المغفرة هي الجواب الإلهي لكل من أسرف على نفسه، وأن الحسنات يُذهبن السيئات، وأن الدين يُسر لا عسر … إلخ. ولعلنا نذكر قول العامة في مجال التناقض بين التمسك بأهداب الدين، وبين التحرر الأخلاقي بأن «دي نقرة، ودي نقرة»،٧٢ بل إن البعض يجد في «الدين» عقبة رئيسة «وقفت بين الأيديولوجية الشيوعية وبين الجماهير المصرية، هي التعارض بين التفسير الفلسفي المادي للكون في النظرية الماركسية، وبين الطبيعة الروحية والنظرة الميتافيزيقية للشعب المصري.» وفيما يتصل برجل المدينة، على وجه التحديد، فلعلي أوافق فتحي غانم على أن الله موجود — في أغلب الأحيان — في منطقة اللاوعي، لأن رجل المدينة يتصرف في حياته العملية بدوافع عملية، يحكمها منطق المصلحة المادية البشرية.٧٣ ومن هنا، يتخذ مجتمع المدينة موقفًا حاسمًا، محددًا، إزاء كلمات معينة مثل الإيمان والإلحاد والنجاسة والطهر والإثم والتوبة والسقوط والخلاص واللذة والندم، لكنه يحرص أن يضعها في إطار المجردات، تحرُّزًا من غلبة الوجدان الديني. إن رجل المدينة يشغله التفكير الدنيوي، ويُعنى — في الوقت ذاته — بأداء فروضه الدينية، دون أن يصاحب ذلك اهتمام مماثل بالتفكير الديني، والدراسات الدينية المتطورة.

ويتصل بتلك الظاهرة، ظواهر أخرى، أفرزها الفهم الخاطئ لتعاليم الدين:

فالناس — أحيانًا — يمارسون الشعائر الدينية، ويرددون كلمات الله ورسوله دون تدبُّر أو وعي:

– أرى سيدي الفاضل يجلس كل يوم مع جارنا لتلاوة أحاديث النبي.

– نعم يا ولدي، وعلى بركة الله.

– قراءة أحاديث النبي ذات فوائد عظيمة، لعلَّكم وجدتم فيها شيئًا يعزز بعض آراء النحويين.

– نحن نقرؤها يا ولدي على بركة الله.

– ألم تجدوا في معاني أحاديثه نظريات تتفق أو تدحض بعض نظريات علم الاجتماع؟

– نحن نقرؤها يا ولدي على بركة الله.

– ألم تجدوا فيها شيئًا من سياسة الأمم؟

– نحن نقرؤها يا ولدي على بركة الله.٧٤
ومع أن الحديث النبوي يقول: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُسكن الجنة، وفيه أُهبط، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرًا إلا أعطاه إياه.» مع ذلك، فإن الاعتقاد قائم، ليس بين عامة الناس فقط، وإنما بين العديد من المتعلمين أيضًا، أن في يوم الجمعة ساعة نحس، ينبغي على المرء أن يأخذ حذره منها.٧٥
والمعتقد يؤكد أن البركة كلها تأتي من الصلاة حين توجب،٧٦ وأن دخول المسجد يجب أن يكون — أولًا — بالقدم اليمنى.٧٧ وثمة من يعتقد أن السحلية تحمل في بطنها مفتاح الجنة،٧٨ وقد علَّم الله الديك أوقات الصلاة، فإذا جاء وقتها سبَّح بحمده تعالي: تبارك القدوس، فتجيبه ديكة الأرض داعية،٧٩ وعندما ينجو الإنسان من خطر، فإنه يُرجِع ذلك إلى بركة دعاء الوالدين.٨٠ وترك الحذاء مقلوبًا حرام، لأنه — هكذا — يواجه الملائكة بما يغضبها.٨١ وعندما نريد سفر شخص ما، فإننا نركب فردة حذاء على طرف الأخرى.٨٢

ولباب زويلة تأثيره المباشر في الحياة المصرية، في المعتقدات المصرية على وجه التحديد. المرضى والغلابة وذوو الحاجة يلجئون إليه من أنحاء مصر، يدق المريض بالصداع مسمارًا في الباب ليسكن الصداع في رأسه، والذي خلع سنًّا يدسها في أحد شقوق الباب حتى لا يتكرر ما حدث، وذوو الحاجات يكتبون حاجاتهم في ورقات مطوية، ويعلقونها بخيط في مسامير الباب، والنساء يعلقن أشرطة من قمصانهن المستعمَلة، تعلق بها رائحة العرق على أحد المسامير الكبيرة، مشفوعة بدعواتهن ومطالبهن. وكانت أعداد المترددين على الباب تتضاعف عند قُرب الامتحانات، لتقديم العرائض والالتماسات التي تطلب النجاح يحملها الطلبة وأولياء الأمور.

وكانت المساجد — إلى إنشاء وزارة الأوقاف — تعاني القذارة وكومات التراب، لأن معظم المترددين عليها من أبناء العاصمة والريف، كانوا يعتقدون أن تراب المساجد مقدس ينبغي ألَّا يخرج منها، فإذا خرج، جعل يصيح حتى تحمله الملائكة إلى موضعه! وقد عانى إمام المسجد من ذلك الاعتقاد، حين صعد المنبر ليلقي خُطبة الجمعة، كلما نقل قدمه من درجة إلى أخرى، ثار الغبار الراكد، فراح يعطس، وأجهش بالعطاس من حوله.٨٣
إذا أصيبت زراعة الفلاح من القطن، اعتقد أن ذلك من الله، فإذا نجا المحصول، فإن ذلك من الله أيضًا، ولن يفيد في الأمر علم ولا مقاومة. يقول لطفي السيد: «مررنا بكتَّاب في إحدى القرى، فوجدنا قلَّة في عدد التلاميذ. فقلت للشيخ: أظن أنك صرفت الأولاد لتنقية الدودة. فقال: ليس في بلدنا دودة، لأني أذَّنت الأذان الشرعي في الجهات الأربع للقرية، فامتنعت الدودة بإذن الله تعالى. قال هذا، وكنا نشم رائحة الدودة حولنا في المزارع.»٨٤
والقدرية هي «مرض» الغالبية من أفراد الشعب المصري كما يقول الضابط مراد.٨٥ ثمة الاعتقاد اللامحدود بالقضاء والقدر، إلى حد الإيمان بأنه لا ينجي حذر من قدر. ورغم أن محجوب أفندي لجأ إلى قريته فرارًا من الغارات الجوية المتعاقبة على القاهرة، فإنه لم ينسَ أن يعقِّب على ذلك بقوله: «ولو أن المكتوب مكتوب.»٨٦
وأخطر من الاتكال على القوة التي تعدل وتنصف، ذلك الرضا الغريب بالواقع، انطلاقًا من تصور خاطئ بأن ما يحدث هو عقاب إلهي لخطايا الناس وأوزارهم. كل ما يعانيه المرء هو ابتلاء من عند الله، وما مقدَّر مكتوب، لا دخل لأحد فيه. وحين وقف الراوي لخُطبة الجمعة، فإنه أتى بالحمد والصلاة، ثم تحدث للمصلين في تعدُّد الزوجات، وأكد أنه «يقلع الحب من أساسه، لأن الحب موحد لا يقبل الشرك، وإذا ذهب الحب فعلى السعادة العفاء.» وما كاد الرجل ينطق بهذه الكلمات، حتى وقف المأذون والفقهاء، وصاحوا: «هذا هو علم آخر الزمان! لم يبقَ إلا أن نسجع من فوق منابر الوعظ الديني الكلام عن النسوان والحب … وماذا جرى من خطب الشيخ البولاقي والشيخ السقا التي تذكِّرنا بالموت، وتحبِّب إلينا الفقر؟»٨٧
بل إن التأثير الديني السلبي، يتبدَّى في المعاملات التجارية في الإجابة عن السؤال: من الذي يرفع هذه الأسعار — في البورصة — يومًا، ويخفضها يومًا؟ يقول الرجل: لقد سمعت أن هاتفًا من السماء يهبط ساعة الفجر، يعلن في همس غير مسموع بما يقرر أسعار اليوم.٨٨
أما تحقيق الآمال، فإن وسيلته الدعوات المتصلة للسماء، وزيارة أضرحة الأولياء، وتقديم النذور، دون سعي إلى تحقيق ذلك بواسطة المرء نفسه، أو بواسطة العلم. ثمة من تتردد على أضرحة الأولياء المشهورين بكراماتهم في طرد العقم عن فروج النساء، ومن تدق مسمارًا في جذع شجرة بالذات، وتلف عليه خصلة من شعرها … إذا فعلت ذلك، فإنها ما تلبث أن تحبل.٨٩ وعندما تأخر الحمل بالسيدة حنان، ذهبت إلى مغارة سيدي المغاوري في المقطم، وإلى كنيسة مار جرجس، وتمرغت أمام الشيخ المسلم، وتمسحت بأعتاب القديسة المسيحية، فأنعم الله عليها بالحمل.٩٠ وكانت عدِّية ياسين هي وسيلة الأب في «الأيام» لتحقيق كل ما يرجوه. ثمة عدِّية صغرى في صغار الأمور، وعدِّية وسطى في الأمور الهامة، وعدِّية كبرى في الأمور التي تمس حياة الأسرة كلها. فأما الصغرى، فكانت في أن يخلو إلى نفسه، فيقرأ السورة أربع مرات، وأما الوسطى فكانت في تلاوتها سبع مرات، وأما الكبرى فكانت في أن يتلوها إحدى وأربعين مرة، ويتبعها — عقب كل تلاوة — بدعاء يس: يا عصبة الخير بخير الملل!٩١ وعندما تعدِّل الحكومة فترة الري، يمسك الشيخ الشناوي إمام القرية (الأرض) بمسبحته، ويرفع رأسه بها، ويطالب الموجودين بقراءة عدية يس على من قصَّر مواعيد الري.٩٢ ويقول الباشا: فإن غاية ما ينتهي إليه أمره — الفلاح — في رفع الألم عنه، أن يعلو صياحه استغاثة بالمشايخ والأولياء.٩٣ وارتكازًا إلى البُعد السلبي في الإيمان الديني، فإن السماء هي عالم الفقراء، مقابلًا للأرض التي استولى عليها الأغنياء. وحين يبدي الشيخ نوفل استياءه لهذا التقسيم الجائر، ويتساءل: من الذي اختار لنا هذا؟ يقول له عم فضل: استغفر … استغفر يا نوفل … وفي السماء رزقكم وما تُوعَدون.٩٤ المعنى نفسه يعبِّر عنه عم جمعة في قوله: إن لهم الدنيا، ولنا الآخرة.٩٥ ويتساءل بعض الأتقياء: لماذا يمد الله للظالم في أسباب النعمة؟ فيرد عليهم بعض الأشقياء المحرومين بأن النعم قد تكون من عذاب الله. ثم يضحون من منطقهم هم أنفسهم، داعين الله أن يعذبهم في الدنيا باللحم والفطير والموز.٩٦ وإذا كان النعيم هو ثواب المؤمن في الآخرة، فإن الإنسان — بصرف النظر عن ثرائه أو فقره — ربما حوسب على خطيئته — والظلم بخاصة — في حياته، أو في أبنائه من بعده؛ فالظلم هو أوسع الأبواب السبعة التي فتحها الله لجهنم.٩٧ إن أي ذنب نرتكبه في الآخرين، لا بد أن يردَّه الله فينا، أو في أولادنا. من هنا كان إشفاق الست فاطمة على مصير الخادمة سيدة، وأن ذلك المصير في عنقها، ولن يغفر الله لها أي تقصير في حقها، وسيردُّه لها في ابنتها.٩٨
وتبلغ الاستكانة الدينية مداها في القول إن طاعة ولي الأمر — حتى لو كان محتلًّا أجنبيًّا، أو حاكمًا ظالمًا — مما يقول به الشرع. وكيف يكون الحال إذا لم يطع الناس أولياء الأمر منهم؟ وقد كان ذلك ما يؤمن به الخال.٩٩ حتى عندما أُعلنت الحماية على مصر في الحرب العالمية الأولى، استقبلها الخال بتسليم وهدوء، وأن واجبه — كمواطن — يتحدد في معرفة واجبه نحو الحكم أيًّا يكن.١٠٠

•••

اللافت أن اللجوء إلى الله يصدر في حالة العجز وعدم القدرة. ومن ثَم، فإن الإيمان الديني يجد نفوذه الأعم في الطبقات الأدنى التي تجد في الدين — وتجسيداته من صلوات وأدعية وأولياء ونذور — ملاذًا أخيرًا، باعتبار أن الله هو «القوي على كل قوي.» والإيمان الديني يجد تطهره من شوائب الخرافات، بالتحرر — ابتداء — من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فيلجأ الإنسان إلى أداء الفرائض المعلومة، لإيمانه بالذات الإلهية، وليس فرارًا سلبيًّا من ضغط اقتصادي أو اجتماعي. من هنا، يقِل — إن لم ينعدم — دور الوسطاء، سواء كانوا من علماء الدين، أم من الأولياء الأحياء والموتى. بل إن الإيمان الذي يقصر اجتهاداته على مجرد الاقتراب من الذات الإلهية سيرفض — بالضرورة — كل ما يصدر عن الخرافة، مثل الإيمان بالأشباح والمردة والعفاريت.

•••

ومركز عالِم الدين في المدينة يهبط — بدرجات — عن مركز عالِم الدين في القرية. ذلك ما أدركه بوضوح الشيخ حسين عندما نزل في أيامه الأولى بالقاهرة إلى الشوارع، مزهوًّا بجبَّته وقفطانه وحذائه اللامع، وفي وهمه أن الأعين جميعًا سوف ترمقه بالإجلال وبالإكبار، أليس ذلك هو حظه في القرية؟ لكنه ما يلبث أن يتبيَّن انصراف الناس عنه إلى ما يشغلهم من حديث أو عمل أو لهو.١٠١ ولعل تأثير عالِم الدين في القرية المصرية يبين في قول خالد: «ما دام شيخنا قد أمر بذلك، فهو خير.»١٠٢ أما النظرة إلى «العمامة» في المدينة فهي قد تضعها في إطار من التزمُّت وقلة التمدُّن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال، «ونحو ذلك من معانٍ منفِّرة.»١٠٣ وفي «أيام» طه حسين، يضغط الفنان على الفرق في المكانة بين علماء الدين في المدينة، وعلماء الدين في القرية: «فبينما يروح العلماء ويغدون في القاهرة، لا يحفل بهم أحد، أو لا يكاد يحفل بهم أحد، وبينما يقول العلماء فيكثرون في القول ويتصرفون في فنونه دون أن يلتفت إليهم أحد غير تلاميذهم في القاهرة، ترى علماء الريف، وأشياخ القرى، ومدن الأقاليم، يغدون ويروحون في جلال ومهابة.»١٠٤
من هنا، يأتي قول أحمد أمين إن العامة في مصر — خاصة في المدن — يجلُّون العمامة ظاهرًا، ولا يجلُّونها باطنًا.١٠٥ بل إن أحمد أمين يُدين «بعض رجال الدين الذين شايعوا الحكومات الظالمة، وأيدوها، وتآمروا معها، وبثُّوا في نفوس الشعب الاستسلام للأقدار، وانتظار نعيم الآخرة بعد حرمانهم من نعيم الدنيا.»١٠٦ ولا يخلو من دلالة ملاحقة الصبية لمرتدي العمامة بالهتاف: شد العمة شد! تحت العمة قرد!١٠٧ ويقول الزوج لامرأته، معتذرًا عن عدم ذهابه إلى درس العصر بالمسجد، إن الإمام — الشيخ مروان — «يعيد ما يقول، ويقول ما يعيد، بطريقة رجل يحفظ كلمات معادة عن ظهر قلب، كالببغاء، كالآلة، ودائمًا بلا روح.»١٠٨
ويُرجِع فتحي رضوان تدني مكانة علماء الدين في نظر العامة، إلى أن «العمامة لم تكن وقفًا على أهل العلم والدين، باعتبارها — مع الجبة والقفطان — زيًّا علميًّا، فقد لبسها جميعًا عدد لا يُحصى من أعيان الريف ممن لا يقرءون ولا يكتبون، ولبسها عدد عديد من أهل الحِرف من مأذوني الشرع وخدمة المساجد، والمتسولين الذين يتخذون من القرآن وسيلة للاستجداء، وعمال المدافن. ولما كان هؤلاء أكثر اتصالًا بالناس من علماء الدين بحق، وكان — من جهة أخرى — مدرسو اللغة العربية ممن يلبسون العمائم والجُبب والقفاطين، وتلاميذ المدارس لا يرحمون مدرسيهم من ضروب شقاوتهم اللفظية والعملية، فقد أصاب لقب الشيخ أذًى كبير.»١٠٩

•••

يقول قاسم أمين في «المرأة الجديدة»: «من العيب أن الجرائد وأصحاب الأفكار يرمون كل يوم علماء الدين الإسلامي بأنهم السبب في انحطاط وتأخر الأمم الإسلامية عن سواها في المدنية، ويصفونهم بالتساهل في فهم الدين، وعدم مراعاة أحكامه، ثم إذا تحركت غيرة لغرض يظن فيه خيرًا للأمة، تحوَّلت أنظارهم إلى هؤلاء العلماء واستفتوهم عن رأيهم فيه، وغاب عنهم أن الذين يحاربون الإصلاح، ولا يفرضون لتعلمهم العلوم العصرية فائدة تعود عليهم في تهذيب عقل، أو استكمال أدب، أو تقويم عمل، ولم يقبلوا تدريس علم الجغرافيا والتاريخ إلا رغم أنفهم، ليس لهم مقام لا من العلم، ولا من الدين، يسمح لهم بإبداء رأي في شأن من شئون الأمة، فضلًا عن مسألة من أهم مسائل الاجتماع البشري.»١١٠ ويأخذ الراوي موقفًا سلبيًّا — معلنًا — من علماء الدين عندما يفكر في الدعوة إلى الإسلام في حديقة هايد بارك بلندن، بعد أن رأى للأديان فيها دعاة. لكن ناصحًا شفيقًا نبَّهه إلى أنه «ليس من اللائق أن تكون هيئة كبار العلماء منصرفة إلى تكفير المسلمين في مصر، فيخرج لها في لندرة من يدعو الكفار إلى الإسلام.»١١١
وتاريخيًّا، فإنه حين شهد الشرق أقسى لحظات الدمار على أيدي الدول الأوروبية التي تنافست في اختطاف أقطاره، فإن الشيوخ والدراويش اكتفوا بالقول لأتباعهم، ومن لاذ بهم: إن هذا من غضب الله عليكم، لخروجكم عن الدين، وتهاونكم في حقوق الأولياء، وتمردكم على الاعتقاد فيهم! وكان الأولى أن يقولوا: جاهدوا! ادفعوا هذا الشر عنكم وعن دينكم!١١٢

وقد وصف الجبرتي (١٧٥٤–١٨٢٢م) علماء الدين في عصره بأنهم «يأخذون الجعالات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتهم ونظير صيانتها، واغتروا بذلك، واعتقدوا به، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومُدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية … وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد أمراء المماليك، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعذيب والضرب، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية، والحصص، والالتزام، وحساب الميري، والفائض، والمضاف، والرماية، والمرافعات، والمراسلات، زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة، والتفاقم، والتكالب على سفاسف الأمور، وحظوظ الأنفس على الأشياء الواهية.»

والملاحَظ أن مصدر التراكم الرأسمالي الوحيد — أعوام الحملة الفرنسية — كان في يد العلماء، بالإضافة إلى التجار طبعًا. كان غالبية العلماء يمارسون أعمالًا تجارية «وكانوا في مأمن من مصادرة أموالهم، وذلك لمركزهم المتميز في المجتمع.»١١٣ وقد أدارت زوج الشيخ الشرقاوي أمواله، واستثمرتها له، واشترت عقارات وبيوتًا للتأجير، ومنزلين للسكن ودكاكين ووكالات وحمامات. أما الشيخ المهدي، فقد استثمر أمواله في تجارة القطن والأرز والكتان. وامتلكت عائلة البكري معمل تقطير لصناعة الخل، ودكانًا لصناعة الزبيب، وآخر لطحن البن، وبضعة مخابز ومقاهٍ، ومتاجر لبيع الغلال. وكان للشيخ محمد البكري صفقاته المعلَنة مع تجار الجملة والتجزئة.١١٤ وقد بلغت المواقف الغريبة لبعض علماء الدين، حد الادعاء بأن «من نعم الله على المصريين أن سخَّر لهم الأجانب يقومون عنهم بالأعمال الاقتصادية والمالية، حتى يتفرغوا هم — المصريون — لعبادة الله.»١١٥ بل إنه رغم محاولات التنوير التي بذلها محمد عبده وعبد الرازق والمراغي وشلتوت وغيرهم، فقد أفتى المفتي في ١٩٤٤م بابتعاد اقتراح عضو مجلس الشيوخ محمد خطاب بتحديد الملكية الزراعية عن جادة الإسلام.١١٦

•••

على أن ذلك الموقع المهم الذي يشغله علماء الدين على خارطة الحياة الاجتماعية، بصرف النظر عن تفاوت النظرة إليهم، يقابله رفض العديد من الأعمال الأدبية، فرأيها في علماء الدين يبلغ حد السخرية منهم، فلا هم لهم في الدنيا — كما يقول الفنان في «قلعة الأبطال» — إلا ملء الكروش. ويقول سطيح: «السعادة كل السعادة في شياخة السجادة، وإن أسعد الناس حالًا وأرخاهم بالًا، جالس فوقها، يجري رزقها من فوقها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمد الدهور.» وكان أهم ما استوقف فتى «الأيام» خصومة الشيخ عبد العزيز جاويش لشيوخ الأزهر. كان يرى أنهم آفة هذا الوطن، يحُولون بينه وبين التقدم بما كانوا يلِجون فيه من المحافظة، ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديو ومصانعتهم للإنجليز.١١٧ ويصِف محمود طاهر لاشين بعض علماء الدين — في العشرينيات — بأنهم فئة من المشعوذين يتخفَّون وراء أصباغ التهويمات الروحية والشهقات الدينية. أما عالِم الدين في قصة «واعظ الليمان»، فإنه يحدِّث المساجين عن وجوب الصلاة والزكاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، دون أن يعنيه إلا الحصول على مرتبه ليبني بيتًا على حافة الترعة، مثل الشيخ رشيد والشيخ سلمان ابنَي قريته وزميلَي الدراسة.١١٨ وأما الشيخ عبد ربه، فقد أجهد نفسه، ولجأ إلى كل ما أوتي من بلاغة لدعوة الناس إلى الرضا بالواقع وطاعة أولى الأمر، سعيًا لأن «تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام.»١١٩ ويسعى الشيخ أبو طاقية — بكل السُّبل — لفرض سيطرته على من حوله، فهو يرد للشيوخ شبابهم بوصفات سحرية، ويمكِّن للنساء بصلاته مع الجان فرص التغلب على غريماتهن، وتحقيق رغباتهن الماجنة.١٢٠ وقد حقق الشيخ الدجال في رواية «الأقدار» أغراضه وشهواته بدفع النسوة إلى الاستسلام له، إما مكرهات تحت وطء الحاجة، أو اتقاء لشر فضيحة قد يحوك الشيخ خيوطها حولهن.١٢١ أما مأذون عزبة قصر مظهر، فقد حدد هدفَين منذ اللحظة الأولي: أن يستثمر أموالًا لم يكن يملكها في أقرب وقت ممكن. بدأ يحض العزَّاب على الزواج، ويحض المتزوجين على الطلاق، ثم تبيَّن له قلة الربح من هذه العمليات، فعمد إلى كتابة الأحجبة وقراءة الأوراد، وحاول السحر والتنجيم وقراءة الطوالع الفلكية وزجر الطير وعلم الأثر والطف واختلاج الأعضاء وضرب الرمل وأسرار الحروف والتصريفات والطلاسم، ثم بدأ يدعو لنفسه في القرى المجاورة، حتى أصبح له مكانة وصيت.١٢٢ ولأعوام، غاب الشربيني، قبل أن يظهر وقد غيَّر اسمه إلى عبد الله المدني، وأطلق لحيته، واعتمَّ بعمامة خضراء، وزعم أنه مهاجر من جيرة رسول الله، وراح يبيعه للبسطاء ترابًا في لفافات من الورق أكد أنه من تراب قبر الرسول، وأنه يشفي من كل الأمراض، وبرَّر ما فعله بالقول: الرزق له أحكام!١٢٣ ويحزن الحاج علي لقول أحمد إن الحاج إبراهيم قد أقسم طلاقًا ثلاثة ألَّا يشتري منه أرضه، فيطمئنه أحمد: يا عمي … صلِّ على النبي … غدًا يجد ألف شيخ وشيخ يؤكدون أن يمينه غير محرجة ولم تقع، وأن لا بأس عليه أن يشتري الفدان ما شاء له الشراء.١٢٤ أما الحاج إبراهيم، فقد لجأ إلى فتوى مشكوك فيها بأن نقد الشيخ الذي أمده بالفتوى ريالًا، لينصحه بالعودة إلى زوجته، بعد أن طلقها ثلاثًا. كان الحاج — في فتوى الشيخ — في أشد الغضب والزعل، والشيطان وسوس له، ومن ثَم فإن يمينه لا يعتد به.١٢٥ ومع أن الشيخ مبارك لم يتلقَّ تعليمًا في أي معهد ديني، فإنه كان حريصًا على أن يرتدي الجُبة والقفطان والعمامة المكورة. ذلك أن العمامة كانت تفتح له أبوابًا لا يؤهله مركزه لولوجها، وتدنيه من كبراء ألِفوا أن يقرنوا العمامة بالعلم والتقوى والصلاح «ولم يكن على شيء من ذلك، ولا كان يعنيه إلا رزقه ولا يبالي غيره، فترك الثياب تُوهِم كما تشاء، وتبلغه ما تستطيع.»١٢٦ ويقول محمد عفت لأحمد عبد الجواد: «إنك كسائر الوعاظ، ألسنتهم في دنيا، وقلوبهم في دنيا أخرى.»١٢٧ وقد عاش الشيخ الشناوي (الأرض) حياته ذيلًا للعمدة، وللسلطة، فهو يقف مع السلطة ضد قريته، لأنه بلا أرض تعنيه يدافع عنها، فهو إذن بلا شرف. الأرض هي الشرف. خضرة تبيع جسدها لقاء كسرة خبز، بينما هو يبيع علمه وأخلاقياته من أجل حياة أقل خشونة!
وكان محمود العكل واحدًا من هؤلاء الذين تاجروا بالدين، بدأ تجارته الغريبة، وكل ما يملكه فدان من الأرض وبناية متهالكة، وجلباب يلفُّه حول وسطه، وجسد يعاني الأمراض، وفأس يضرب في الأرض ليضمن القمة. ثم — لا أحد يدري متى، ولا كيف — راح العكل يتحدث عن التعاويذ التي ورثها من جدٍّ له كان من كبار أولياء الله الصالحين، وتعدَّدت نصائحه للرجال والنساء، فالمرأة التي حُرمت من الذرية تجد لدى العكل من الوسائل ما يحقق لها الأمل، والعانس التي تعدَّت عمر الزواج يصبح من السهل أن يأتي لها ابن الحلال راكعًا، والمرأة التي يميل بختها يتكفَّل ابن العكل بأن يعيد لها الهناء، والمرأة التي لا يعيش لها ولد يضمن حجاب العكل أن تجد أمومتها في أكثر من ولد، وكل شيء في القرية أصبح خاضعًا لبركة محمود العكل. ومن خلال ذلك أصبح فدان العكل خمسة عشر فدانًا، لقاء تناقص أفدنة آخرين إلى قراريط، وضياع أفدنة بأكملها، فدية أو نذرًا أو هِبة، لتحقيق الأمل، وشارك الكثيرين على أبقار وجواميس، وتحولت الجلابية إلى جبة وعمامة، والفأس إلى مسبحة من الكهرمان، فضلًا عن خواتم الذهب التي رصعت أصابع يديه. وكان أهالي القرية يقابلون الحياة الجديدة بهدوء ورضا؛ فكل ما حصل عليه العكل بركة، والبركة من عند الله. لكن القرية بدأت تتهامس بأمر العكل، حين تزوج إحدى المترددات عليه، بعد أن أقنع زوجها — بالخديعة — بتطليقها، وحوَّل الصغار التهامس إلى فعل إيجابي، لما علت — فجأة — أناشيدهم الهجائية، ثم علت تساؤلات الكبار عن حقيقة كرامات العكل، ولماذا لا تنجيه من مضايقات الصغار، وتجاسرت النساء فتجمعن حول زوجته ومرَّغنها في التراب، ولم يعُد أمام محمود العكل إلا أن يصحب زوجه إلى قرية أخرى، حرص ألَّا يذكر اسمها لأحد.١٢٨

•••

ويرجع يعقوب صروف ذلك الفساد الذي تجده الأعمال الأدبية سِمة لعلماء الدين، إلى أن «أئمة الدين عندنا على غاية الفقر، فهم في حاجة دائمة إلى أغنيائنا، فيسترضونهم ولا يعارضونهم في شيء»،١٢٩ بعكس الحكيم الذي يصف علماء الدين بأنهم «أول من ينعم بمملكة الأرض.» ومن بين مواقف الإدانة لعلماء الدين، تلك المواقف السلبية حيال ما يُعرَض عليهم من مشكلات دنيوية. اعترف حامد — زينب — للشيخ مسعود اعترافًا كاثوليكيًّا، وظن أنه وجد عنده الهداية، فلم يزِد الشيخ عن قول: نعم! الموقف نفسه الذي تعرض له — بعد ذلك بأجيال — سعيد مهران — اللص والكلاب — أمام الشيخ الجنيدي، الذي اكتفى بأن يرد على كل سؤال لسعيد المتحير بقوله: توضأ وصلِّ. بل إن شيخ المسجد يرفض أن يحتمي نساء حي الدعارة بمسجده لواذًا من الغارات الجوية، ويبرأ من أن تطأ أقدامهن النجسة أرض المسجد.١٣٠ وعندما واجه الرجال خطر قتل المزروعات، نتيجة للتحديد المتعسف لمواعيد الري، اكتفى الشيخ الشناوي — فقيه القرية — بأن يرفع يديه بالمسبحة، ويقرِّبها من عينيه، ويطلب من الموجودين أن يقرءوا عدية ياسين على من قصَّر مواعيد الري، لينتقم الله منه بحق جاه النبي!١٣١

•••

والواقع أن تلك الإدانات التي تنبض بها الأعمال الأدبية ضد معتقدات المصريين، وإيمانهم بالأولياء، وسلطة المشايخ، إنما تعبِّر — في الدرجة الأولى — عن رأي مبدعيها، لكنها لا تعبِّر عن الصورة الموضوعية للمجتمع المصري. إنها أشبه بصرخات احتجاج ضد التهويمات والخزعبلات والموروثات البالية، لكن وادي الإيمان الذي كان — ولا يزال — يحيا فيه المجتمع المصري، ما لبث أن بدَّد صداها، وظل الإيمان بعالِم الدين على أنه يحمل مصباحًا هادي النور، يحبِّب الناس في الله، ويحبِّب الناس للناس، ويلقي بهذا المصباح على مشكلاتنا الحيوية أشعة ثابتة غير مرتجفة، ترى الناس على ضوئها طريق هُداها.

•••

مع ذلك، فثمة تأكيد على جوانب إيجابية في دور علماء الدين في الحياة المصرية. الشيخ شحاتة القصبي (العودة إلى المنفى) مثلًا — شخصية مغايرة. وهو شخصية حقيقية. يصِفه عبد الله النديم بأنه «شيخ من الصالحين المنقطعين إلى الله تعالى، ولكنه يأكل من كسبه، ويقيم ببيته، ولا يطلب من الناس شيئًا، ولا يأخذ عوائد من مريديه كما يفعل أشياخ الطرق، بل بيته مفتوح للصادر والوارد، وكرمه زائد، وفضله مشهور.»١٣٢ وكان الشيخ القصبي وراء اختفاء النديم طيلة تسع سنوات، في أعقاب هزيمة العرابيين. وكان إيواء العمدة الشيخ الهمشري للنديم، رضوخًا لطلب الشيخ القصبي، لأن غضب الشيخ — في تقدير العمدة — من غضب الرحمن.١٣٣ ولما أراد الشيخ إبراهيم (الأرض) أن يعبِّر عن رأيه في المأمور، لم يجد إلا أن يتلو أمامه بصوت منغوم: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، وظل الشيخ يعيد الآية، ويكررها، حتى سرت موجة من الضحك الفاهم بين الفلاحين، وتبدَّت عصبية المأمور في دخان السيجارة الذي راح ينفثه من أنفه. ورغم تنبُّه شيخ البلد للقارئ: «شوف لنا آية غير دي في عرضك»، فإنه ظل يعيد تلاوتها، حتى أعلن المأمور غضبه: «صدق الله العظيم. طب يا أخي ما تقرا آية: وحشرناهم يوم القيامة وفدًا»،١٣٤ إشارة إلى حزب الوفد الذي كانت جهة الإدارة تعمل ضده لصالح حزب الشعب. ويهَبنا الفنان صورة أخرى مضيئة لعالِم الدين. عمل الرجل — بعد تخرجه في الأزهر — مدرسًا بالصعيد، ثم ناظرًا لمدرسة أولية في قرية مجاورة. فلما جاءت حكومة حزب الشعب، بادر بمقاومتها، وطلب من الأهالي أن يقاطعوا الانتخابات التي قامت بها. فلما زُوِّرت الانتخابات، أراد نائب حزب الشعب زيارة مدرسة الشيخ حسونة، فرفض الرجل أن يستقبله، وأغلق أبواب المدرسة، وصرف التلاميذ. وزاد الشيخ فحذَّر النائب من زيارة قريته، وهدَّده بأن يقطع الفلاحون رقبته بالفئوس، وكان أول ما طالب به النائب بعد عودته إلى عاصمة الإقليم، نقل الشيخ حسونة إلى مكان بعيد، أو فصله. ونُقل الشيخ مدرسًا إلى قرية بعيدة، يحتاج — حتى يعود منها — إلى ركوب «وابور البحر».١٣٥ ومع أن السيد رضوان الحسيني (زقاق المدق) لم يكن من خريجي الأزهر، فإنه كان يحرص دائمًا على «ألَّا يفوته يوم من حياته دون صنع جميل، أو ينقلب إلى بيته ملومًا محسورًا، وإنه ليبدو، لحبِّه الخير ولسماحته، كما لو كان من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع، وإن كان في الواقع لا يملك إلا البيت الأيمن من الزقاق، وبضعة أفدنة بالمرج.» وقد وجد فيه سكان بيته مالكًا طيب القلب والمعاملة، حتى إنه تنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن فيما يتعلق بالطابق الأول، رحمة بساكنيه البسيطين، فكان رحمة حيث حلَّ، وحيث يقيم.

•••

والحديث عن التأثير الديني في المجتمع المصري، يضعنا بالضرورة في مواجهة واحد من أهم وأخطر التيارات التي فرضت نفسها بقوة على المجتمع المصري، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. ذلك هو تيار الجامعة الإسلامية (سنعرض له تفصيلًا في الجزء الثاني) الذي لم يكن يتفق مع النمو الذاتي المستقل للشعب المصري، ويتناقض — بصورة جذرية — مع اتجاه الوطنية المصرية. فهو يذهب — على حد تعبير الإمام محمد عبده — إلى حد أن «من له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية، ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة لبقاء حوذته وليس للدين سلطان في سواها، وإنا والحمد لله على هذه العقيدة، عليها نحيا، وعليها نموت.» وقد تدعَّم اتجاه الجامعة الإسلامية بجولات الأفغاني في البلاد الإسلامية، وكأنه يطوف أقاليم متعددة لوطن واحد، يدعو إلى الوحدة الإسلامية، ضد مظاهر السيطرة الأوروبية الاستعمارية. ونتيجة لذلك، فقد أعرض المسلمون — على حد تعبير الإمام — عن «اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات، ما عدا عصبيَّتهم الإسلامية، فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده، يلهو عن جنسه وشعبه، ويلتف عن الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقد.» ثم يدعو الإمام إلى إقامة حكومة إسلامية تضم إليها أقطار العالم الإسلامي باعتبار «أن العصبية الإسلامية تفوق العصبية الجنسية.» ومع أن دعوة الأفغاني والإمام كانت تضغط على وجوب إصلاح أحوال المسلمين، في مواجهة فساد الحكام الذي ينخر داخل الأقطار الإسلامية، والوقوف في وجه الموجة الأوروبية الاستعمارية الزاحفة، فإن هذه الدعوة تحوَّلت — فيما بعد — على يد الشيخ رضا بالذات — إلى اعتناق صريح لدعوة الجامعة الإسلامية، التي تجعل من الخلافة سلطة حقيقية تخضع لها كل الأقطار الإسلامية، لأن «الإسلام دين وجنسية اجتماعية وسياسية للمسلمين. هذا هو الواقع، وإن كرهه أقوام يودُّون أن يكون دينًا فقط، لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية والاجتماعية، لما لأولئك الأقوام من المصلحة في ذلك.»

وقد تبدَّت خطورة ذلك الاتجاه في حادثتَين: تعود أولاهما إلى عام ١٩٠٦م، عندما احتلت تركيا قرية طابا القريبة من العقبة، وأدى ذلك إلى وقوع أزمة سياسية بين تركيا وإنجلترا، انتهت بانسحاب القوات التركية من طابا. والغريب أن جريدتَي «المؤيد» و«اللواء» وقفتا إلى جانب الاحتلال التركي للقرية المصرية، وأن «مصر لا تمانع في أن تكون طابا تركية.» أما الحادثة الثانية، فقد وقعت في عام ١٩١١م عندما غزت إيطاليا برقة وطرابلس الغرب — وكانتا آنذاك ولايتين عثمانيتين — ونشبت الحرب بين إيطاليا وتركيا، فنشطت حركة التبرع لتركيا، لمعاونتها في نفقات الحرب بتشجيع من اللورد كتشنر. وكتب لطفي السيد ثلاث مقالات متوالية بعنوان «سياسة المنافع لا سياسة العواطف»، دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب، وإنفاق الأموال المصرية في الأمور النافعة للوطن. وقد أثارت تلك المقالات الثلاث عاصفة من النقد العنيف ضد لطفي السيد، واتهمه البعض بمناوأة دولة الخلافة الإسلامية، واتهمه البعض الآخر بالإلحاد، مما اضطره إلى الانسحاب من تحرير الجريدة.

ثم كانت ثورة ١٩١٩م، وما لحقها من تطورات، عاملًا حاسمًا في القضاء على فكرة الجامعة الإسلامية، وفي توحيد عنصرَي الأمة، سعيًا لمواجهة ما بعد قيام الثورة.

•••

كان التعليم الديني — حتى بداية القرن التاسع عشر — هو صورة التعليم في مصر. الكتاتيب التي تقوم على حفظ القرآن الكريم، وتعليم القراءة والكتابة، فإذا أراد الطالب مواصلة تعليمه، ألحقه أهله بالأزهر ليتلقى دراسة دينية كذلك (أذكِّرك ﺑ «أيام» طه حسين). فلما أراد محمد علي نشر التعليم الحديث، بدأ بالمدارس الخصوصية، ثم أنشأ المدارس الأخرى التي تمد المدارس الخصوصية بالتلاميذ، وقد اصطبغ ذلك النظام بالعسكرية الصارمة، إلى حد احتجاز الطلبة وإقامة الحرس عليهم في الليل والنهار! ويحدد إبراهيم عامر ثلاثة اعتبارات، يمثِّل أحدها دافعًا لأولياء الأمور بإلحاق أبنائهم بالأزهر: تمتُّع طلبة الأزهر بالإعفاء من التجنيد الإجباري … «الجراية» التي يكفلها الأزهر لطلبته … المكانة الاجتماعية المتميزة التي تتحقق لخريج الأزهر، في الريف تحديدًا.١٣٦
ومن الطبيعي أن يكون الأزهر — عبر تاريخه الطويل — هو واجهة الحياة الدينية في المجتمع المصري. وكان علماؤه يمثِّلون الزعامة الشعبية، وإن عبَّروا — أحيانًا — عن الرجعية الفكرية.١٣٧ لقد كان المشايخ — في عهد محمد علي — أقرب إلى شيوخ الطوائف الحرفية، من حيث امتلاكهم الإقطاعيات والعقارات. مع ذلك، فإنه إلى ما بعد عهد محمد علي، فقد كان المشايخ هم فئة المثقفين الوحيدة في المجتمع المصري. ويحدد فولرز بواعث تمتُّع الأزهر بمكانته المرموقة بأنها «وقوع الأزهر في مكان يتوسط العالم الإسلامي، وقربه من الحجاز، وأهمية مصر الاقتصادية وصبغتها العربية، وامتداد القارة الأفريقية فيما يلي مصر. وأهم من ذلك كله ما لوادي النيل من ثقافة عقلية قديمة العهد، تركت فيه بذورًا صالحة لنمو العلوم والآداب.»١٣٨ وقد حرص الأفغاني طوال الأعوام الثمانية التي قضاها في القاهرة على أن يلتقي بمريديه وتلاميذه في بيته بخان الخليلي، أو في قهوة متاتيا التي كان يوزع فيها السعوط بيُمناه والثورة بيُسراه. ولم يدخل الأزهر إلا زائرًا ومصليًا، دون أن يسند ظهره إلى أحد أعمدته ليلقي دروسه. كانت الصورة شبه الثابتة هي شيخ المذهب الذي يصل إلى مجلسه محاطًا بطلبته «منهم من يحمل نعلَيه، ومنهم من يحمل المحفظة، وآخرون يسيرون في عرض الموكب تكميلًا للأبهة … ولم يكد يفرغ الأستاذ من الدرس، حتى تزاحم عليه الطلاب يقبِّلون يده، كما تزاحموا عليها يمسُّونها بشفاههم … وخرجت من الدرس مملوء النفس بالسأم، والصدر بالحرج.»١٣٩ وعلى الرغم من أن مهمة العالِم الأزهري لم تكن تنتهي داخل جدران الجامع، فهو يواصل أداءها في بيته، يستقبل تلامذته في البيت، يناقشهم في أبحاثهم ويوجِّههم،١٤٠ فإن الراوي يذهب إلى القول: «أصبحت لا أجد لما أحضره من دروس الأزهر طعمًا، ولا أشعر بفائدة في تكوين مَلَكة ولا تهذيب ذوق لهذه الأبحاث المجدبة التي أفني فيها حياتي جاهدًا.»١٤١ ويشير طه حسين إلى أن «المدة التي قضيتها في الأزهر كانت فترة انتقال، فكان محمد عبده يفسر القرآن على طرق حديثة، والشيخ المرصفي يعلِّمنا الأدب، وكلاهما يذم الطرق الأزهرية، وكان قاسم أمين يقول بحرية المرأة، وفتحي زغلول يترجم لنا كتبًا قيمة، و«الجريدة» تنادي بمعايير جديدة في السياسة والاجتماع، فكنا في اضطراب ذهني لا نستقر، وعرفنا نحن تلاميذ الشيخ المرصفي أن طرق الأزهر عتيقة، فكنا نتكلم ونتناقش عن الإصلاح الذي كان يقول به الشيخ محمد عبده.»١٤٢ كان رأي محمد عبده المعلَن هو «إما أن يصلح الأزهر، أو يسقط.»١٤٣ ويقول الراوي: «أذكر أنني كنت أسير مرة مع الأستاذ الشيخ محمد عبده عقب استقالته من الأزهر، فقال في حديثه — رحمة الله عليه — يظنون أنني بخروجي من الأزهر تركته مرعًى خصبًا لشهواتهم ترتع حيث تشاء، إلا أنني ألقيت بين جوانح هذا المكان شعلة لا تنطفئ، إن لم تلتهب اليوم أو غدًا، فستلتهب في ثلاثين عامًا، وستكون ضرامًا.»١٤٤ وقد أشارت لجنة إصلاح الأزهر التي تألَّفت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر برئاسة فهمي باشا زغلول، إلى أن الكثيرين من أبناء الأزهر كانوا يعتبرون استبدال الحنفيات بالميضات أمرًا منافيًا للدين، وحفظ الكتب في مكان خاص ضد تعاليم الدين، وتعليم العلوم الحديثة مُفسِدًا للدين. ويبين الراوي عن تواصل تأثير الحياة الأزهرية في طريقة التدريس بالجامعة المصرية، بذلك الدعاء الذي كان يبدأ به الأساتذة — ما عدا خريجي الإرساليات — دروسهم، لرئيس مجلس الإدارة والوكيل وجميع الأعضاء، وقال أحد الأعضاء مداعبًا: لم يبقَ إلا أن يقول هؤلاء: الفاتحة لمجلس إدارة الجامعة المصرية، ولسائر أمواتنا وأموات المسلمين!١٤٥ ثم لم يعُد الأزهر هو «المعهد» الوحيد الذي يُخرِج المتعلمين. ثمة دار العلوم التي تُخرج مدرسي اللغة العربية، ومدرسة القضاء التي يتولى خريجوها مناصب القضاء الشرعي (يشترط في القاضي الشرعي أن يكون على مذهب الإمام أبي حنيفة — أحمد أمين، حياتي، ٥٤)، ومدارس المعلمين الأولية التي تخرج مدرسي التعليم الإلزامي.١٤٦ ويجيب الراوي عن سؤال للشيخ: «أما وقد سألتني يا فضيلة الأستاذ عن دراستي، فإني قد سئمت دروس الأزهر، ولم أعد أستطيع أن أستمر على الاشتغال بتلك الأبحاث العقيمة؛ إنني أشعر بأنها تجني على عقلي وذوقي. قال الشيخ: يا بني، أنا أعرف ذلك السأم الفعلي، وهو يدلُّني منك على ما تفرسته من فطرة صالحة. استعِد لدخول دار العلوم، فإنها على ما فيها من النقص أقل إضعافًا للغرائز القوية، وإسقامًا للعقل السليم من الأزهر.»١٤٧

•••

مع ذلك، فإن جمود الأزهر لم يصل إلى الحد الذي أصبح فيه أهم ما يعوق الفكر الحر، على حد تعبير سلامة موسى. لا شك أنه كان للأزهر دوره الإيجابي في الحياة المصرية. كان — والوصف للفنان — قلب القاهرة النابض، لا تندلع الثورة إلا منه، ولا يعلو الصراخ والشكوى إلا من مآذنه.١٤٨ وكان رأي نابليون في الأزهر أنه المدرسة التي تقابل السوربون عند الفرنسيين، وأنه المركز الوحيد الذي يستطيع أن يضرب للناس المثل، فيقتدي به الرأي العام في العالم الإسلامي، وفي مذاهب الإسلام الأربعة.١٤٩ وقد استطاع الأزهر — بالفعل — عبر القرون التي عاشتها مصر في قبضة الحكم التركي أن يحمي التراث العربي والإسلامي، ويصونه من التبدد والضياع. ولعل ذلك الدور الخطير الذي قام به الأزهر في تلك الأوقات القاسية والعصيبة من حياة الشعب المصري، هو أعظم ما أدَّاه الأزهر في تاريخه الطويل. كذلك كان الأزهر هو المعقل الذي خرجت منه ثورة القاهرة الأولى، لتقوِّض أماني الفرنسيين بإمكان استمالة المصريين، وعلماء الأزهر على وجه الخصوص، بإذكاء شعورهم الديني والقومي. لم يقتصر دور الأزهر في مقاومة الفرنسيين — كما ذهبت بعض الروايات التاريخية — في الجلوس داخل أروقة الجامع الكبير، ومعهم فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية، وطوائف الفقراء وأرباب الأشاير، يقرءون الأذكار، ويدعون، ويتلون اسم الله تعالى. وصل التيار الديني الثوري — الذي يمثِّله الأزهر — إلى قِمم عديدة خلال الثورات المتعاقبة للشعب المصري. وكان في مقدمة عوامل صمود الجماهير في أحداث الثورة العرابية تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ عليش — مفتي الديار المصرية — والشيخ العدوي والشيخ الخلفاوي وغيرهم من علماء الأزهر بمروق توفيق عن الدين كمروق السهم من الرمية، لخيانته دينه ووطنه، وتقرر استمرار عرابي في الدفاع عن البلاد.١٥٠ وخطب الشيخ عليش في أول يونيو ١٨٨٢م، ممتدحًا الجيش الذي خلَّص البلاد من الوقوع في أيدي الكفار، وأثنى على قادة الجيش، وعلى وطنيَّتهم. ثم أفتى الشيخ عليش بمروق الخديو توفيق من الدين كمروق السهم من الرمية، لخيانته دينه ووطنه. وقرأ الإمام محمد عبده هذه الفتوى في الجمعية العمومية في ٢٢ يوليو ١٨٨٢م، بعد أن عزل الخديو عرابي، ورفضت الجمعية أمر الخديو، وقررت عدم تنفيذه.١٥١ وحتى تُوقِف الحكومة إضراب طلاب الأزهر في ١٩٠٩م، عُقِد اجتماع شارك فيه الخديو وسعد زغلول وبطرس غالي وحسين رشدي، وتقرر «رفت كل طالب وعالِم يمتنع عن الدرس، وتوقيف كل من يريد منع غيره منهم، وأن يُصدر شيخ الجامع الأزهر بذلك إعلانًا.»١٥٢ وأصبح الأزهر في ثورة ١٩١٩م قلعة من أهم وأخطر قلاع الثورة، بل وأضحى رمزًا للتسامح الديني وللوحدة بين عنصرَي الأمة. كان مشايخ الأزهر هم الطبقة المستنيرة من أبناء مصر الصميمين — والكلام لمحمد فريد أبو حديد — «جاءوا جميعًا من قُراها وأريافها ومدنها، فكانوا من بين صفوف الشعب وأبناء الأرض، ويحسُّون ما يحس الناس، وينظرون بأعينهم، ويسمعون بآذانهم. وقد زادوا على إخوانهم ميزة كبيرة، فإنهم حفظوا في صدورهم نصوص الشريعة والآراء المختلفة في أحكامها، وحفظوا ما تخلَّف من تراث القرون من عُرف، وما يبيحه القانون الإسلامي للأفراد من حقوق وحريات، فكان من الطبيعي أن يقفوا من الشعب المصري موقف الزعامة في كل حادث جليل، وأن ينطقوا باسمه، ويعربوا عما في قلبه من الآمال والآلام.»١٥٣ وقد قاد الأزهر مقاومة الشعب المصري ضد الاحتلال الفرنسي، في الفترة من ١٧٩٨م إلى ١٨٠١م، وهي الفترة التي تلت سقوط دولة المماليك أمام الغزو الفرنسي، و«لم يبِت جيش الاحتلال ليلة واحدة هادئة، طوال ثلاث سنوات.»١٥٤ كان الأزهر هو رمز سيادة الأمة، ومركز قيادتها، وما إن سقطت دولة المماليك في معركة إمبابة، حتى أصبح الغزاة والأزهر وجهًا لوجه، فانتزع الأزهر زمام المبادرة، وقاد نضال الجماهير المصرية.١٥٥ وكما يقول طه حسين، فإن «الأزهر هو المؤثر الأول في الحياة المصرية الحديثة، منذ اتصلت مصر بأوروبا اتصالًا دقيقًا منظمًا في أواخر القرن الثامن عشر، فهو الذي تلقى الحضارة الحديثة من أصحاب بونابرت حين وفدوا بها إلى مصر، وهو الذي أرسل رواده يلتمسون هذه الحضارة في مواطنها، بعد أن عاد الفرنسيون إلى بلادهم، وهو الذي نقل العلوم والآداب الأوروبية إلى اللغة العربية أول ما نُقلت.» والواقع أن دور الأزهر — كمعقل مهم للحركات الوطنية والسياسية والاجتماعية، قد بدأ يتقلص ويشحب منذ ثورة القاهرة ضد الاحتلال الفرنسي، وما تلا ذلك من حرص سلطات الاحتلال على إضعاف نفوذ الأزهر بالقوة حينًا، وبالتهادن مع علمائه حينًا آخر. ثم كانت سياسة محمد علي بإنشاء مدارس على النمط الحديث دربًا جديدًا في ذلك الاتجاه. فقد كانت هذه المدارس هي معامل التفريخ التي خرجت منها طبقة المثقفين الجدد، والمتأثرين بالتيارات الفكرية الأوروبية، وبالفكر الليبرالي البرجوازي على وجه الخصوص، ونشأت الثنائية الفكرية التي كانت العسكرية المصرية تمثِّل أحد طرفَيها، ثم صُفِّي الجيش — بعد القضاء على الثورة العرابية — وتمثَّل ذلك الطرف في المثقفين المصريين، هؤلاء الذين يُعَد مصطفى كامل تجسيدًا لهم. فقد بدأ حركته حين كان طالبًا، ثم اعتمد الحزب الوطني — في الدرجة الأولى — على قطاع الطلاب في مقاومة الاحتلال. وكانت ثورة ١٩١٩م — مقدماتها وأحداثها ونتائجها — تأكيدًا لدور الفكر الليبرالي — ثم الاشتراكي فيما بعد — في الحياة المصرية. وقد ظلت مدرسة الأزهر على قوتها وسطوتها، لكن تأثيرها الحقيقي والفعال في مكونات الحياة المصرية تضاءل بصورة مؤكدة. حلَّت بدلًا من الزعامة التقليدية لعلماء الدين، زعامة المثقفين والأفندية كالمحامين والصحفيين وغيرهم. وفي المقابل، فقد «عمد زعماء الدين إلى أشياء اتخذوا منها وسيلة لإقرار سلطانهم لا سلطان الدين، كقولهم بالتكفير والمروق والردة إذا ما بدا في الأفق من أثر التطور الفكري ما يمس ذلك السلطان الذي يحاولون — من ناحيته — الاحتفاظ بما لهم من سلطان.»١٥٦ وعلَّق سعد زغلول على أحداث الأزهر في ١٩٠٩م بأن «علماء الأزهر ضِعاف العزيمة، صغار الأحلام، واسعو الذمم، لأنهم كانوا يقررون ما يطلبه الخديو منهم، ويشهدون الزور تقربًا منه، كما فعل أبو الفضل وكيل مشيخة الأزهر، ويحملون غيرهم على كتمان الشهادة أو تزويرها.»١٥٧ بالإضافة إلى ذلك، فقد واجه الأزهر — نتيجة لإسهاماته في الحياة الوطنية المصرية — حربًا معلَنة بدعوى الاستنارة والتطوير. فقد قُدِّمت — على سبيل المثال — في ١٩٢٩م إلى مؤتمر التعليم بجنيف، رسالة من مثقف مصري معروف، قال فيها: «ولقد خلق الأزهر في طبقة معينة من السكان عقلية خاصة، عقلية تتصادم مع مبادئ القرن العشرين ومُثُله العليا، عقلية أسدلت حجابًا كثيفًا، وأقامت حائلًا منيعًا بين ما نسميه العقلية الأزهرية وعقلية سائر الشعب المصري، عقلية لا تتفق إلا مع العصور القديمة الفطرية التي نشأ فيها ذلك المعهد المبجل العظيم!» كما كتب اللورد لويد المندوب السامي البريطاني (١٩٢٥–١٩٢٩م) تقريرًا عن أثر الأزهر في بدء الاحتلال البريطاني، أكد فيه أن طلبة هذا المعهد — الأزهر — كانوا يحملون معهم التعصب المقترَن بالغطرسة، وقلما اتصفوا بالمرونة الفكرية أو خصب الخيال. وكم كانت تكون خطوة التقدم في ميدان التربية عظيمة لو انتُشل ذلك المعهد العظيم من وهدته، لو تم ذلك لزالت — تدريجيًّا — روح التعصب وعدم التسامح التي طالما عاقت تقدُّم مصر.١٥٨

هوامش

(١) التصنيع والعمران، ٨.
(٢) محمد عاطف غيث، القرية المتغيرة، دار المعارف، ١٥.
(٣) العروة الوثقى، العدد العشرون.
(٤) الهلال، سبتمبر ١٩٧١م.
(٥) ك. ك. والترز، الأديرة الأثرية في مصر، ت. إبراهيم سلامة إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة.
(٦) المرجع السابق، ٥٩.
(٧) رندل كلارك، الرمز والأسطورة في مصر القديمة، ت. أحمد صليحة، هيئة الكتاب، القاهرة ١٩٨٨م، ٢٤.
(٨) ياروسلاف تشرني، الديانة المصرية القديمة، ت. أحمد قدري، القاهرة ١٩٨٧م، مقدمة المراجع، هيئة الآثار المصرية.
(٩) الكاتب، يناير ١٩٧٥م.
(١٠) محمد عبد الحليم عبد الله، حلم آخر الليل، مكتبة مصر.
(١١) عبد العال الحمامصي، الخلاص، هذا الصوت وآخرون، هيئة قصور الثقافة.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) يحيى حقي، حصير الجامع، أم العواجز، هيئة الكتاب.
(١٤) يوسف المعناوي، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٦م، ٩٢.
(١٥) عبد الفتاح الجمل، الخوف، الطبعة الأولى، مطبعة عبده وأنور أحمد.
(١٦) الأهرام، ٥ / ١٢ / ١٩٨٣م.
(١٧) علم الاجتماع، ١٦٠-١٦١.
(١٨) مصطفى النحاس جبر، سياسة الاحتلال تجاه الحركة الوطنية ١٩٠٦–١٩١٤، ٩٧.
(١٩) بلنت، التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر، ٧٩٦.
(٢٠) مذكراتي في نصف قرن، ١: ١٨٢.
(٢١) أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، ١٠٦.
(٢٢) أقلام ثائرة، ٢٤، وللأديب الراحل عصام الدين حفني ناصف مخطوطة، لم تكتمل، عثرت عليها بين أوراقه، أرجع فيها فشل الثورة إلى تربية أحمد عرابي الدينية.
(٢٣) العودة إلى المنفى، ٢: ٨١.
(٢٤) جريدة «الأعلام»، ٣١ يناير–٢٥ فبراير ١٨٨٥م.
(٢٥) يقول عيسى عبيد في إهدائه لمجموعة «إحسان هانم» إلى سعد زغلول، لأن الحركة الوطنية «سبق أن أيقظها عن طريق الدين سلفكم المجيد فقيد الوطن المرحوم مصطفى كامل باشا.»
(٢٦) Cromer: Modern Egypt - VII PP. 132-133.
(٢٧) Cromer: Ibid VII - PP 233-234.
(٢٨) الأهرام، ٨ / ٣ / ١٩٦٩م.
(٢٩) لغة الإدارة في القرن التاسع عشر، ٢٦٦.
(٣٠) الأهرام ٧ / ٣ / ١٩٦٩م.
(٣١) سناء البيسي، صاحب البيت اسمه محمد، أموت وأفهم، الدار المصرية اللبنانية.
(٣٢) عبد الفتاح الجمل، الخوف، ١٠٥.
(٣٣) سامي خشبة، شخصيات من أدب المقاومة، دار الآداب.
(٣٤) المرجع السابق، ١٢٣.
(٣٥) القرية المتغيرة، ١٠٥.
(٣٦) خان الخليلي، الرواية.
(٣٧) عبد العال الحمامصي، أطفال الله، بئر الأحباش، أصوات أدبية.
(٣٨) يحيى حقي، دعاء، من فيض الكريم، هيئة الكتاب.
(٣٩) خيري شلبي، وكالة عطية، شرقيات، ٨٧.
(٤٠) عبد المنعم الصاوي، دولت، مكتبة مصر، ٢١٣.
(٤١) نحن لا نزرع الشوك، ٩٠٧.
(٤٢) بين القصرين، ٣٦.
(٤٣) عبد الحميد جودة السحار، الشارع الجديد، مكتبة مصر ١٩٥٢م، ٨٨.
(٤٤) بين القصرين، ١٠٦.
(٤٥) قصر الشوق، ١٠٩.
(٤٦) المصدر السابق، ١٠٩.
(٤٧) بين القصرين، ٢٣.
(٤٨) يوسف إدريس، العيب، مكتبة مصر، ٨٢.
(٤٩) ثروت أباظة، هارب من الأيام، دار المعارف، ٧.
(٥٠) السكرية، ١٦٨.
(٥١) ثروت أباظة، وجهات نظر، ذكريات بعيدة، دار القلم.
(٥٢) عبد الحميد جودة السحار، الحصاد، مكتبة مصر، ٢٤٣.
(٥٣) نجيب محفوظ، المرايا، مكتبة مصر، ١٢٠.
(٥٤) محمد عبد الحليم عبد الله، البيت الصامت، مكتبة مصر، ١٤٨.
(٥٥) أحمد رشدي صالح، مرسي أفندي والشمعدان، ألوان من القصة المصرية، دار النديم.
(٥٦) المرايا، ١١٨-١١٩.
(٥٧) المصدر السابق، ١٣٠.
(٥٨) بين القصرين، ٩٢.
(٥٩) محمد عبد الحليم عبد الله، كل شيء على ما يرام.
(٦٠) يوسف المعناوي، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٤٦م، ٢١.
(٦١) عبد الحكيم قاسم، جدل الوهن والعنف، ديوان الملحقات، مختارات فصول.
(٦٢) يوسف المعناوي، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٤٦م، ٢١.
(٦٣) يوسف السباعي، نحن لا نزرع الشوك، مكتبة الخانجي، ٦٠٧.
(٦٤) يوسف إدريس، العيب، مكتبة مصر، ٧٢.
(٦٥) محمد عبد الحليم عبد الله: البيت الصامت، مكتبة مصر، ١٤٨.
(٦٦) أحمد بهجت، مذكرات صائم، مركز الأهرام، ٢٩.
(٦٧) أحمد أمين، محمد عبده، الخانجي، ١٩٦٠م، ١٥.
(٦٨) ثروت أباظة، ثم تشرق الشمس، دار المعارف، ١٩٧.
(٦٩) صلاح ذهني، في الدرجة الثامنة، ٨١.
(٧٠) بدر الدين أبو غازي، الشخصية المصرية المعاصرة، المدير العربي، أبريل ١٩٧٢م.
(٧١) يوسف الشاروني، دراسات في الأدب العربي المعاصر، ٦٨.
(٧٢) يشير عاطف غيث إلى أن القروي «قد لا يكون في أعماقه متدينًا، ولكنه يحرص أن يَظهر بهذا المظهر حتى لا يفقد مركزه القيمي في نظر الآخرين، وكلما ازداد تعبُّد القروي، وإقامته للشعائر الدينية زادت قيمته» (القرية المتغيرة، ١٠٤). ثم يلاحظ الكاتب أن الرقابة العائلية ودور السلطة فيها في رعاية الجوانب الدينية، قد زالت في الأعوام الأخيرة، لأسباب موضوعية، لهذا، فإن أعدادًا من القرويين لا يحرصون الآن، مثلًا، على الصلاة الفردية أو الجمعية أيام الجُمع، ولم يَعُد مقياس التدين يدخل في تقويم الشخص كما كان من قبل، بل إن المقياس الأول هو المركز الاجتماعي والاقتصادي، بدليل أن هناك مَن يجاهر، مثلًا، بإفطاره في رمضان دون أن يناله الجزاء المادي والاجتماعي الذي كان يمكن أن يناله من قبل، وأن مشاركة القروي في إحياء الشعائر الدينية قلَّت بصورة ملحوظة، وقلَّ الذين يزورون الأولياء، أو يذهبون إلى الموالد التي تقام لهم، وهبطت معدلات النذور، وارتبطت المواسم الدينية والأعياد بالمجاملات الاجتماعية العادية، بينما تختفي الآن مظاهرها الدينية، المصدر السابق ١٢٦-١٢٧).
(٧٣) روز اليوسف، العدد ١٨٠٠.
(٧٤) مؤلفات محمد تيمور، ٣٥٧.
(٧٥) علاء الديب: الحصان الأجوف، صباح الجمعة، روز اليوسف.
(٧٦) عبد الرحمن الشرقاوي، قلوب خالية، الكتاب الذهبي، ٧١.
(٧٧) الخوف، ١٩.
(٧٨) أحمد طوسون، مفتاح الجنة، مجرد بيت قديم.
(٧٩) سعيد الكفراوي، العروس، سدرة المنتهى، كتاب الغد.
(٨٠) سعيد عبده، ماضٍ يتثاءب، آخر ساعة، ٢١ / ٣ / ١٩٧٦م.
(٨١) خيري عبد الجواد، ظل الحبيب، حكايات الديب رماح، هيئة الكتاب.
(٨٢) نعمات البحيري، متتالية الحب والخوف والسفر، العاشقون، هيئة الكتاب.
(٨٣) من آثار مصطفى عبد الرازق، دار المعارف، ١٠٢-١٠٣.
(٨٤) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، كتاب الهلال، ٨٢.
(٨٥) يوسف السباعي، طريق العودة، مكتبة الخانجي، ٩٢.
(٨٦) عبد الرحمن الشرقاوي، قلوب خالية، الكتاب الذهبي، ١٢.
(٨٧) صفحات من سفر الحياة، من آثار مصطفى عبد الرازق.
(٨٨) زكي نجيب محمود، الفكر المعاصر، أغسطس ١٩٦٧م.
(٨٩) نعيم عطية، الإغراء الأخير، دار المعارف، ٨٤.
(٩٠) محمد حسين هيكل، لله في خلقه شئون، قصص مصرية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى.
(٩١) الأيام، ١: ١٠٦.
(٩٢) الأرض، ٦٤.
(٩٣) حديث عيسى بن هشام، ٨١.
(٩٤) أمين يوسف غراب، شباب امرأة، ١٤.
(٩٥) محمود تيمور، الشيخ جمعة، ٥، محمود دياب: أحزان مدينة، ٤٤.
(٩٦) محمد عبد الحليم عبد الله، الجنة العذراء، مكتبة مصر، ٨٢.
(٩٧) المصدر السابق، ٨٠.
(٩٨) نحن لا نزرع الشوك، ٥٠١.
(٩٩) محمود تيمور، اليد السوداء، بنت اليوم.
(١٠٠) المصدر السابق.
(١٠١) ثروت أباظة، الضباب، ١٠٧.
(١٠٢) شجرة البؤس، ١٩.
(١٠٣) أحمد أمين، حياتي، ١٧٢.
(١٠٤) الأيام، ١: ٧٩.
(١٠٥) حياتي، ٢٠٢؛ وصاحب العمامة الخضراء شريف من نسل النبي، قصة حياتي للمازني، ٤٦.
(١٠٦) المرجع السابق.
(١٠٧) يحيى حقي، قنديل أم هاشم، هيئة الكتاب.
(١٠٨) نجيب محفوظ، حارة العشاق، حكاية بلا بداية ولا نهاية، مكتبة مصر.
(١٠٩) فتحي رضوان، ذكريات الصبا، الثقافة، فبراير ١٩٧٦م.
(١١٠) مقدمة «تحرير المرأة».
(١١١) من آثار مصطفى عبد الرازق، ٤٣٤.
(١١٢) محمد فهمي عبد اللطيف، السيد البدوي، ١٣٥.
(١١٣) الأصول التاريخية، ٢٨.
(١١٤) المرجع السابق، ٢٨.
(١١٥) توفيق الطويل، التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ٢١٥.
(١١٦) محمود متولي، شخصيات رأسمالية في التاريخ الاقتصادي المصري، الكاتب، مايو ١٩٧٣م.
(١١٧) الأيام، ١: ٢٢.
(١١٨) محمود السعدني، واعظ الليمان، السماء السوداء.
(١١٩) نجيب محفوظ، الجامع في الدرب، دنيا الله، مكتبة مصر.
(١٢٠) عبد المنعم الصاوي، الضحية، الرواية.
(١٢١) الأقدار، ١١٠.
(١٢٢) عصام الدين حفني ناصف، عاصفة فوق مصر، ٨٣.
(١٢٣) نجيب محفوظ، رحلة، خمارة القط الأسود، مكتبة مصر.
(١٢٤) هارب من الأيام، ١٢٢.
(١٢٥) محمود تيمور، سيدنا، الشيخ جمعة.
(١٢٦) إبراهيم عبد القادر المازني، في الطريق، ٢٤٣.
(١٢٧) السكرية، ٤٩.
(١٢٨) فهمي حسين، المنبوذ، حكايات بسيطة، روز اليوسف.
(١٢٩) فتاة مصر، ١٢٨.
(١٣٠) نجيب محفوظ، الجامع في الدرب.
(١٣١) الأرض، ٧٥.
(١٣٢) عبد الله النديم، كان ويكون.
(١٣٣) العودة إلى المنفى، ٢: ٩٥.
(١٣٤) الأرض، ٣٣٠-٣٣١.
(١٣٥) المصدر السابق، ١٣٦.
(١٣٦) إبراهيم عامر، المصور، ٢ / ٣ / ١٩٦٩م.
(١٣٧) يقول محمود تيمور: «إن سدنة الأزهر كانوا يريدون الطالب برميلًا خاليًا، يملئُونه بما تيسَّر من زاد متحجر متلوث، حتى إذا امتلأ أحكموا سدَّه، ثم ألقوا البرميل يتدحرج على درجة الطريق، قائلين له: فلتذهب على بركة الله!»، الشخصيات العشرون، ١٧-١٨.
(١٣٨) قصة الأزهر، ٢٦.
(١٣٩) كوثر عبد السلام البحيري، مآذن دير مواس، مكتبة الآداب، ٨.
(١٤٠) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١١١–١١٣.
(١٤١) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١١.
(١٤٢) سامي الكيالي، مع طه حسين، دار المعارف، ١٧-١٨.
(١٤٣) الطليعة، مارس ١٩٦٩م.
(١٤٤) من آثار مصطفى عبد الرازق، ٣٢.
(١٤٥) المصدر السابق.
(١٤٦) طه حسين في معاركه الأدبية، ١٠١.
(١٤٧) من آثار مصطفى عبد الرازق.
(١٤٨) يحيى حقي، الأسباب الداعية للدعابة في المجتمع المصري، دمعة فابتسامة، هيئة الكتاب.
(١٤٩) الأهرام، ٢٢ / ٨ / ١٩٦٩م.
(١٥٠) مذكراتي في نصف قرن، ١: ١٧٨.
(١٥١) عبد الحليم محمود، أبو الحسن الشاذلي، دار الكتب الحديثة، ٣٤٩.
(١٥٢) مذكرات سعد زغلول، ١٩٣.
(١٥٣) محمد فريد أبو حديد، مشايخ الأزهر والسياسة في القرن الثامن عشر، الوطن الكويتية، ٢ / ٨ / ١٩٨٥م.
(١٥٤) محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ٨-٩.
(١٥٥) المرجع السابق، ٧.
(١٥٦) المرأة في عصر الديمقراطية، ٦٧.
(١٥٧) مذكرات سعد زغلول، ١٩٨.
(١٥٨) المجلة الجديدة، نوفمبر ١٩٣٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥