الثورة بين الروائي والمؤرخ

قلعة الأبطال١ رواية لعبد الحميد جودة السحار،٢ تدور أحداثها في تلك الفترة الحاسمة من تاريخنا القومي، أعني بها سنوات حبلى بالظلم والسخط الشعبي، منذ أواخر عهد الخديو إسماعيل، ونفيه، واعتلاء توفيق العرش، إلى قيام الثورة العرابية، وبداية عهد الاحتلال. لجأ الفنان إلى خلق حكاية حبٍّ ساذجة قوامًا لروايته: فثمة شابان، هما حامد ويوسف، أحبَّ كلٌّ منهما سعدية ابنة عمة حامد اليتيمة، ويخطب يوسف سعدية من جدها الشيخ إبراهيم، فيجد فيه حامد غريمًا يكنُّ له بالغ العداء. وتنشب الثورة العرابية، ويهدد الأسطول البريطاني البلاد، فيلتقي يوسف وحامد في طابية صالح، دفاعًا عن الوطن، وتنهال القذائف على الطابية الصغيرة، ويصاب ذراع يوسف، فيهرع إليه حامد، يخلع عنه قميصه، ويضمد له جرحه. ثم تصيب شظية حامدًا في صدره، وتطيح أخرى بساعده، فيشترك حامد ويوسف في حشو مدفع الطابية بالقنابل، يناولها أحدهما للآخر، فيطلقها في وجوه الأعداء: «وأحس حامد وهنًا يدبُّ في أوصاله، فنادى في صوتٍ ضعيفٍ: يوسف … يوسف … فزحف يوسف إليه، حتى إذا حاذاه، رنا إلى وجهه فألفاه ذابلًا، يلتقط أنفاسه في جهدٍ، وبالدم ينزف من صدره، فمدَّ يده السليمة، ووضع كفَّه على الجرح، فلم يلتفت حامد إلى ما فعل، وقال في صوتٍ واهٍ: اذهب إليهم، أصبحوا في حاجة إلى رجلٍ يرعاهم، قل لجدي إني مت وأنا قرير العين، وبلِّغ سعدية سلامي، وأسبل حامد عينيه في وهن، ثم فتحهما في جهدٍ، وهمس: اذهب … ماذا … تنتظر؟ وصمت حامد، وطال صمته، فهتف يوسف في لوعة: حامد … حامد … وظل حامد صامتًا، فقد أطبق شفتيه إلى الأبد، واستمر يوسف يرنو إليه باسر الوجه، يصرف أنيابه في حنق، ثم راح يزحف، حتى إذا ما غادر القرية، كان الظلام قد ران على الكون، وبلع كل شيء في جوفه.»٣

زاوج الفنان بين الواقع التاريخي والواقع الفني، في دينامية، حركتها الأولى في عهد الخديو إسماعيل، الذي شلَّ اقتصاديات البلاد — كما تصوِّر الرواية — ببذخه وإسرافه. ويُنفى الخديو إسماعيل خارج مصر، ويعين توفيق بدلًا منه، ويأمل الشعب في الخديو الجديد خيرًا، لكن الظنون ما تلبث أن تخيب، فيظهر عرابي، ويتقدم إلى الخديو بمطالب الشعب، وتحاك المؤامرات من قناصل الدول الأجنبية، حتى تبلغ الأحداث ذروتها باقتحام الأسطول البريطاني للمواني المصرية، بداية لاثنين وسبعين عامًا من الاحتلال.

•••

ثمة مبررات لقيام الثورة العرابية، أوردها الفنان في ثنايا روايته، فقد اقترض الخديو إسماعيل من الدول الأجنبية ١١٦ مليون جنيه، في حين لم تكن ميزانية مصر كلها تزيد عن سبعة ملايين ونصف مليون من الجنيهات، ويتضح تأثير ذلك كله على حياة الشعب، وبخاصة فئاته الكادحة، عندما ينظر إبراهيم — مثلًا — إلى أرضه التي تعهدها بجهده، فيؤلمه أنها يابسة مجدبة «ومن أين له أن يرويها إذا كان الأجانب قد تحكَّموا حتى في الماء؟»٤ كان جبي الضرائب يتم بطريقة تناقض أبسط قواعد الخُلق والإنسانية، فثمة جابي الضرائب وشيخ البلد وبعض الخفراء، ويتوقف الركب أمام بيوت القرية واحدًا بعد الآخر. ويقول الجابي للشيخ إبراهيم: إما أن تدفع المال الآن، أو نرهن له — المرابي اليوناني — أرضك، ليؤدي المال عنك، ويقول الشيخ إبراهيم: ليس عندي ما أدفعه الآن … أمهلوني شهرًا.

– لو أمهلناكم جميعًا لخربت البلاد، إما أن تدفع أو تتركه يؤدي دَين الحكومة عنك.

– لن أرهن أرضي أبدًا، ما دام فيَّ نفس يتردد.

– سنرى.

ويلتفت إلى شيخ البلد والخفراء، ويقول لهم: اجلدوه! ويضيف قائلًا للشيخ في لهجة معتذرة: ما كنت أحب أن يُجلَد شيخ كبير مثلك، لكنك عنيد، وكانت الجنسية المصرية في الجيش الوطني مبعث زراية واحتقار. يقول عمار في مرارة: «إذا أردت أن تكون شيئًا مذكورًا في الجيش المصري، فلا ترتكب أكبر حماقة وتولَد من أبوَين مصريَّين، بل عليك أن تكون «مصريًّا» في جيش مصر، فالويل للفلاح.»٥ ويصف إلياس الأيوبي معاملة الضباط الشراكسة والأتراك للجنود المصريين بأنها «معاملة السيد للخدم والعبيد»، «أما الصف ضباط فكانوا كلهم أو جلهم، مصريين، ويعاملون جنودهم كما يعامل الإخوان إخوانهم.»٦
ويتلقى أحمد عرابي من عثمان رفقي ناظر الجهادية، أمرًا بحفر الترعة التوفيقية، ويرفض عرابي إشفاقًا على جنوده من أن يعملوا كسخرة، حتى في أراضي الخديو، ثم يشرع عثمان رفقي في سنِّ قانونٍ يمنع ترقِّي المصريين العاملين في الآلايات تحت السلاح، وكان كل رتب الجيش الكبيرة في أيدي الأتراك والشركس.٧ بل إن الضباط الجراكسة بدءوا في عقد اجتماعات دورية في منزل الفريق خسرو باشا، للتناقش في وجوب إعادة المماليك، ثم بلغت الأحداث ذروتها بصدور الأمر العالي، بتقديم عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي إلى المحاكمة، ويحاول الخديو — بوسيلة غادرة — القبض على عرابي ورفيقيه، لكن الضباط والجنود المصريين يحبطون المحاولة في مهدها، وتشير كل الدلائل إلى العاصفة المرتقبة.

•••

وكان حرص الفنان على الواقع التاريخي، دافعًا لأن يكتب فصلًا عن حدثٍ ما في حياة العاصمة، ثم يتلوه بفصلٍ آخر عن تأثير ذلك الحدث في حياة الريف. فالخديو إسماعيل — مثلًا — يقترض من الدول الأجنبية بلا حسابٍ، ويدفع الفلاح لقاء تلك القروض أرضه ومحصوله، وهكذا. ومن هنا، فإن النبض التاريخي لقلعة الأبطال صادق في مجموعه، لولا أن الفنان أغفل الظواهر الإيجابية، ربما ليزيد من قتامة العصر، فبالرغم من اتسام العهد الإسماعيلي بالذاتية وحب الظهور، دون التفات إلى هاوية الديون الأجنبية التي ابتلعت كل تطلعات «مصر أوروبا» (كانت حقيقة الديون الأوروبية على إسماعيل ٤٥٫٥ مليون جنيه، زادها المضاربون إلى حوالي ٩٠ مليون جنيه، أي إلى الضعف)٨ وبالرغم من ولع إسماعيل بالجانب المظهري في الحضارة الأوروبية: مدن وطرق وعمارات وقصور وحدائق ودار للأوبرا وأخرى للآثار ومتحف ودار للإحصاء ومصلحة للمساحة وأحياء بأكملها مثل الإسماعيلية والتوفيقية وعابدين، وفتح شوارع جديدة، وإقامة كوبري قصر النيل ليصل الجزيرة بالقاهرة، وسكك حديدية وبريد وتلغراف، وغاز استصباح في العديد من الشوارع والميادين، بينما الريف المصري ينتمي — بتخلُّفه القاسي الزري — إلى القرون الوسطى، وبالرغم من أنه أسلم شئون البلاد إلى الجاليات الأجنبية من الأكراد والجركس والأرمن والألبان، ولم يعُد الشعب المصري سوى بقرة حلوب، تدر الضرائب التي تبتدعها عقلية حاكمٍ شرِه (تتحدث الأم في «فتاة مصر» عن الجد الذي كان يمتلك ثروة هائلة «لكن أيام إسماعيل لم تترك له شيئًا»).٩ وبالرغم من الصورة البشعة التي ترك عليها البلاد بعد اعتزاله الحكم: فالخزانة مفلسة (خلال سنوات تولي إسماعيل حكم مصر، ارتفع الدَّين القومي من ٣٣٠٠٠٠٠ جنيه، إلى ٩١٠٠٠٠٠ جنيه، وفي عام ١٨٧٦م أفلست مصر)١٠ والجيش يعاني سطوة الضباط الشراكسة والأتراك ومؤامراتهم، وجماهير الشعب تشكو فداحة الضرائب وتعدُّدها، والتجارة أسيرة اضطراب البلاد … بالرغم من ذلك كله، فإن تركيبة المجتمع تخللتها هزات عنيفة، أحدثت فيه ما يشبه الصحوة، وقد أخذت هذه الصحوة — في الدرجة الأولى — مظهرًا ثقافيًّا؛ وجدت تعاليم الأفغاني — أذكِّرك بمعطيات العطار والطهطاوي في بدايات الصحوة — أرضًا رخوة في نفوس المثقفين المصريين، وتعاظمت قوة الرأي العام، وأعلنت الحركة الوطنية عن نموها، كما تمثَّل في المظاهرة العسكرية التي قادها البكباشي لطيف سليم في أخريات عهد الخديو إسماعيل، وفي الكتابات الصحفية التي نالت الخديو إسماعيل بقسوتها في الإعلان — فيما بعد — عن الحزب الوطني، الذي شمل في عضويته كلَّ من يحيا على أرض مصر، وتخلَّى الأزهر عن سلبية الكتب الصفراء، وارتفعت بين أروقته مناقشات جادة، مثمرة، في الحياة العامة ومشكلات المجتمع، وكانت ميزانية التعليم في عهد سعيد حوالي الستمائة جنيه سنويًّا، فبلغت في عهد إسماعيل ثمانين ألفًا، بالإضافة إلى ريع بعض الأراضي، وتأسست في عهده — ولأول مرة في ولايات الإمبراطورية العثمانية — مدارس البنات، وأنشئت دار الآثار العربية، واقتنت دار الكتب كميات هائلة من الكتب والمخطوطات القيمة، وتضاعف عدد المدارس الابتدائية، والعالية. كما أنشئت مدارس خاصة بالجنود، وندرت أعداد الأميين بين جنود الجيش المصري، وتقدمت وسائل الطباعة، وصدر الكثير من الكتب الأدبية والمدرسية، والعديد من الصحف والدوريات، ووفد إلى مصر عددٌ من مثقفي الشام، أسهموا في ازدهار الصحافة والمسرح والكتاب، وفي نشر الوعي بعامة، وإن أدى بعضهم أدوارًا سلبية نشير إليها في مواضعها، وتكوَّنت جمعية المعارف الأدبية التي قامت بمهمة إعادة طبع التراث القديم، وأنشئت المطابع الوطنية في الإسكندرية والقاهرة، وظهرت — لأول مرة — الصحافة السياسية المعارضة، التي شكَّلت — رغم تعرضها للإغلاق بعد أعدادٍ من بدء صدورها — عنصرًا إيجابيًّا في المقاومة، وقد أوجدت تلك الصحوة الفكرية سبيلًا إلى صحوة أخرى سياسية، تبدت ملامحها في الدعوة إلى إنشاء مجلسٍ نيابي يشارك الحكومة مسئولية الحكم، ويفرض رقابة الشعب على القوانين والإجراءات المنفِّذة لها، وقد أنشئ هذا المجلس بالفعل، ربما نزولًا على الضغط الشعبي، وربما استكمالًا للمظاهر التي حاول بها إسماعيل رسم الملامح الأوروبية على وجه الظاهرة، وإن أكد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا، أن مناقشات المجلس برهنت على أن هناك حركة شرعية للشعب المصري، سعيًا للحصول على النصيب الأكبر من حكم بلادهم. (يروي أحمد شفيق عن والده، أنه لما عقد مجلس النواب اجتماعه الأول، دعا السكرتير الأعضاء أن يقسِّموا أنفسهم ثلاثة أقسام: حزب اليمين الذي يؤيد الحكومة، وحزب اليسار الذي يعارض الحكومة، وحزب الوسط الذي يتبنى اتجاهًا معتدلًا، وصاح النواب في صوتٍ واحد: إننا ننحاز بالطبع إلى جهة اليمين … فكيف نكون ضد الحكومة؟)١١
أراد إسماعيل — كما أشرنا — أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، لكن توالي البواعث السلبية أفضى إلى نتائج مماثلة … فقد أسرف في الاستدانة، وهبطت أسعار القطن بعد انتهاء الحرب الأمريكية، وتسابق الإنجليز والفرنسيون في التدخل، في صورة مراقبة مالية ثنائية، عملت على ابتزاز أموال الفلاحين وموارد الخزانة، وانخفض منسوب النيل في ١٨٧٧م، فلم يُزرع أكثر من ٨٠٠ فدان، وانتشر الطاعون البقري، وهبط سعر القطن بصورة قاسية، وانتشرت المجاعة في الوجه البحري فأودت بحياة الآلاف، ولم يتقاضَ الموظفون مرتباتهم لأشهرٍ متوالية. ثم تشكَّلت وزارة من عناصر متمصرة وأجنبية، أقدمت على العديد من التصرفات، كانت ذروتها خلع الخديو إسماعيل، وتعيين ابنه توفيق مكانه.١٢ والملاحظ أن الصحف المصرية ناصرت الخديو توفيق منذ الأيام الأولى لتوليه منصبه، ولما تأخر فرمان السلطان بتولية الخديو الجديد، شنَّت الصحف أقوى حملة للدعوة إلى صدور الفرمان.١٣

•••

إذا كان الروائي التاريخي — في تقدير أنتوني بورجس — هو مؤرخ ليست لديه حساسية مؤقتة لتذوق التاريخ، إنما هو روائي اكتسب موهبة الخيال القصصي للتاريخ بصفة عامة١٤ فإن عبد الحميد جودة السحار قد لجأ إلى خلْق حكاية حبٍّ لتكون قوامًا لروايته، ثم فصَّل ثوبها التاريخي من مصادر عدة، فهي إذن تجربة غير معاشة بالنسبة لكاتبها، بعكس «عذراء دنشواي» — مثلًا — التي وضعها محمود طاهر حقي كتأثُّر حاد بالمأساة الرهيبة التي أتيح لأبناء جيله أن يعاصروها، كانت «عذراء دنشواي» تعبيرًا عن المأساة الدامية التي عاشتها القرية المسكينة، والتي كانت إرهاصًا بثورة ١٩١٩م، وأكاد أتصور عبد الحميد السحار، إثر نشوب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م يفتش عن مضمون يصلح نبضًا لرواية جديدة، يواكب بها المسار الثوري، فلا يجد إلا ثورة عرابي في ١٨٨١م، ومن هنا، تبدَّت صورة عرابي في «قلعة الأبطال» كأنه إله إغريقي، لا تجد النقائص سبيلها إلى طبائعه أو تصرفاته.
فهل كانت تلك الصفات التي اتسم بها عرابي في «قلعة الأبطال» ثوبًا فضفاضًا على جسدٍ هزيل؟ هل كان عرابي — كما يصفه حسين مؤنس — أقل بكثيرٍ من المهمة التي تصدى لها، وأن مواهبه كانت أقل من الموقف بكثيرٍ؟١٥
ربما نجد الجواب في كتاب «بلنت» عن الثورة العرابية: «لم أرَ في حياتي رجلًا يستطيع أن يكسب إجماع القلوب على حبِّه من النظرة الأولى، مثلما رأيت في شخص عرابي. فقد كان واضحَ الإخلاص في كل قولٍ ينطقه، وكل حركة يخطوها، ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر لم يبرز قبل عرابي في مدى ثلاثة قرون في الأقل، فلاح بسيط إلى حد أن يصبح داعية إصلاح، أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقًّا إلى الثورة، وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم «الوحيد»، ولقد استحق هذه التسمية حقًّا.»١٦ بل إن أحمد شفيق، الذي كان صريحًا في عمالته للأسرة الخديوية، يؤكد في مذكراته أن عرابي وصل إلى «أنه صار الحاكم الوحيد بأمره، ولم يبقَ لتوفيق شأنٌ يُذكَر.»١٧ وأنه قد «سادت الروح العرابية في الأمة بأسرها، وجعلت كل الطبقات في صعيدٍ واحدٍ، ممتزج بعضها ببعض.»١٨
قلعة الأبطال — في دوافع كتابتها وتوقيتها — ذات مناخٍ يناقض — تمامًا — كل المناخات التي صدرت فيها أعمال أدبية وتاريخية، تعرض لتلك الفترة المهمة من تاريخنا القومي، ومن هنا، جاء اختلافها — بصورة حادة — عن تناول الرافعي — مثلًا — لحياة عرابي العظيم. نبض «قلعة الأبطال» حماسة وإعجاب، وتجاوز عن الأخطاء، بينما «الزعيم أحمد عرابي» للرافعي محاولة للتفهُّم المخلص، يصعب تكاملها أمام ضغط الظروف السياسية والاجتماعية، وكان لطبيعة الفترتين — قبل الثورة وبعدها — تأثيرٌ حتمي في اختلاف نظرة الفنان والمؤرخ. ثمة اتفاق بين المؤرخ والفنان على أن الحركة العرابية ليست انحرافًا عن الطريق الوطني الذي عرفته في عهد إسماعيل — وأعني به اليقظة الشعبية الهائلة التي جعلت من الشعب قوة لها تأثيرها — وإنما هي توسع في طاقته، لكن الرافعي لا يجد حرجًا في أن يصف عرابي بأنه «أصبح ديكتاتورًا محضًا»، بل إنه يضع تحليلًا لشخصية عرابي، يرى فيه أن عرابي «كان بلا نزاعٍ ذا شخصية قوية جذابة تؤثر في الأفراد والجماعات، فله من هذه الناحية أخص صفات الزعماء، ولولا هذه الموهبة لما استطاع أن يجتذب إليه ضباط الجيش وجمهرة الأمة، وينال ثقتهم، ويملي إرادته عليهم. وكانت له أيضًا موهبة الكلام والخطابة والصوت الجهوري، وهذه أيضًا من مزايا الزعماء التي تحبِّبهم إلى نفوس الجماهير، وقد كان لخُطبه تأثير السحر في نفوس سامعيه، وكان — بلا مراء — يريد الخير لبلاده، ويريد لها الحرية والاستقلال، وعلى هذا الأساس قامت دعوته.»١٩ ثم يضيف الرافعي: «على أنه، إلى جانب ذلك، لم يكن له حظٌّ كبير من الكفاءة السياسية وبُعد النظر، ومن هنا جاء شططه في كثير من المواطن، وعدم تقديره للأمور وملابساتها، وعرابي معذور في ذلك؛ لأنه لم ينل حظًّا كبيرًا من الثقافة والإلمام بشئون السياسة وأطوارها … فهو لا يعدو أن يكون ضابطًا من تحت السلاح، لم يتخرج في المدارس الحربية ولا المدنية، لم يعلِّم نفسه بنفسه تعليمًا ناضجًا، ولم يكن له من العبقرية ما يغنيه عن الدرس والتحصيل. إن الفرق كبير بين عرابي وبين كافور — مثلًا — في إيطاليا، أو واشنطون في أمريكا، أو كونشيسكو في بولونيا، أو كوشوت في المجر … ولو وُفِّقت الثورة العرابية إلى زعيم مثل كافور، لسارت في سبيل الفوز، ولعرف كيف يدير السفينة بمهارة وكفاءة.»٢٠ ثم يؤكد الرافعي بأن شخصية عرابي: «لم تساعد على إنجاح الثورة، بل كان بها من نواحي الضعف والنقص ما جعلها أهم العوامل في إخفاقها.»٢١
أما عبد الحميد جودة السحار، فإنه يقدم لنا شخصية عرابي في صورة مغايرة: «ذاع اسم عرابي بين الناس، وراح الشعب يتحدث عن الفلاح الذي تحدَّى الحكومة في إعجابٍ، وأقبل كثير من الأعيان والمشايخ على الاتصال به، فكان يحدِّثهم في تواضعٍ جم، فيجذبهم إليه بابتسامته العذبة، ورقته الأصيلة، وبيانه المتدفق الذي كانت قلوبهم تتفتح له. أدرك الشعب أن عرابي واحد منهم، فتركزت فيه كل آمالهم، وكان أول فلاح — منذ قرون — يصعد إلى ذروة الشهرة السياسية، ويثور في وجه الظلم الذي ران على البلاد، فخفقت له الأفئدة، وهرع إليه المظلومون يبثُّونه آلامهم، فهطلت عليه، من أنحاء البلاد، العرائض المفعمة بالشكوى والآمال في العدل والنصفة والإحسان، وأحس الجنود — لأول مرة — زهوًا بأنفسهم، فقد صاروا محطَّ رعاية الأهل والأصحاب، كلما عادوا إلى قراهم في إجازاتهم. كان الفلاحون يلتفون حولهم، يسألونهم — في لهفة — عما فعله عرابي، فيقصُّون عليهم أنباءه، فتنبثق الأماني في صدورهم، فقد وجدوا فيه النبراس إلى طريق الخلاص.»٢٢
والواقع أن الرافعي — بصرف النظر عن الضغوط السياسية والاجتماعية — وبالرغم من أن المؤرخ — كما يقول اللورد أكنون بحقٍّ — يجب أن يتخلص، ليس من التأثير غير المناسب للأزمنة السابقة فحسب، بل من التأثير غير المناسب لزمنه هو أيضًا، كان مخلصًا مع نفسه في تقويمه للثورة العرابية بعامة، فهو مؤرخ الحزب الوطني الذي كان يرى في الثورة العرابية «هوجة» أدت إلى دخول الاحتلال، وأنها «كانت بلاءً محضًا، وشرًّا صرفًا على البلاد.»٢٣ مع أن الاحتلال البريطاني لم يكن ليعدم حججًا أخرى في الظروف، ومن السذاجة تصور الإنذار البريطاني، وما تلاه من أحداثٍ، مهَّدت لاثنين وسبعين عامًا من الاحتلال، إنه كان ردَّ فعل لعملية إعادة بناء القلاع والطوابي، أو إنه كان لإنقاذ عرش الخديو من السقوط، أو للدفاع عن المصالح الأجنبية في البلاد. لقد بلغ التنافس على الفتوحات الاستعمارية ذروته في ١٨٦٠م بين كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وقال كلفن: «يجب أن تنتهز بريطانيا هذه الفرصة التي لم تسنح منذ ٧٥ عامًا، وهي فرصة اشتغال فرنسا وألمانيا في صراعهما، وإمكان احتلال مصر دون خطر الحرب مع فرنسا.»٢٤ كان رأي إلهامي (الذئب والفريسة) أنه إذا كانت مصر مطمحًا لأحدٍ، فلن يكون إلا الذئب الإنجليزي؛ كل الظروف تؤيد هذا الاحتمال.٢٥ معنى ذلك أن احتلال مصر كان جزءًا من مخططٍ واسع المدى لقيام إمبراطورية بريطانية جديدة في وادي النيل، وجنوبي الجزيرة العربية، حتى يصبح البحر الأحمر بحيرة بريطانية، تتحكم فيه إنجلترا، وتفرض عليه سيطرتها، بما تقيمه من قواعد حربية عند مداخله، سواء في عدن، أو في السويس، أو في السودان. لذلك تم شراء بريطانيا لأراضي الشيخ عثمان في عدن، وأعدت حملة السودان، في عام واحد هو ١٨٨٢م، لقد تسللت إنجلترا إلى أفريقيا بهدفَين ظاهرَين، أحدهما إنساني، والثاني علمي. فأما الهدف الإنساني فهو محاربة النخاسة، وأما الهدف العلمي فهو الكشف عن منابع النيل، وكان الهدف الحقيقي — بالطبع — هو الاستعمار. وكما يقول يونان لبيب رزق، فإن ما اعتقده إسماعيل من أنه يستخدم الأوروبيين لتحقيق السياسات المصرية في أفريقيا، قد انقلب، فعملوا على تحقيق مصالح الدوائر الاستعمارية التي كانوا جميعًا، وبدون استثناء، على علاقة وثيقة بها، أو ببعضها.٢٦
كان احتلال مصر حلمًا يراود الخيال الاستعماري البريطاني منذ الحملة الفرنسية، لتأمين مواصلات الإمبراطورية إلى مستعمراتها في الشرق من ناحية، وليسهل القضاء على حركات التمرد في تلك المستعمرات من ناحية ثانية. ثم جاهر الساسة البريطانيون — منذ فتح قناة السويس للملاحة — بأنه يتحتم — لكي تستطيع إنجلترا تحقيق سيادتها في العالم — إحراز مركز قوًى في مصر «وليكن ذلك بوضع قناة السويس تحت سلطانها.»٢٧ وإن أرجع البعض إقدام الإنجليز على احتلال مصر، إلى الظروف الاقتصادية العالمية، فقد تولَّد منها البحث عن المواد الخام، وفتح أسواقٍ جديدة للمصنوعات الأوروبية، في البلدان الزراعية المتخلفة.٢٨ من هنا «لم يكن العرابيون هم الذين أتاحوا الفرصة أمام المستعمرين البريطانيين، ولم يكن العرابيون هم الذين مهَّدوا السبيل أمام الاحتلال، بل كانوا هم حماة الوطن، خاضوا معارك الدفاع عنه، حتى غلبتهم قوة أكبر من قوتهم، في حربٍ لم تكن متكافئة الأطراف.»٢٩
ولعلِّي أعفي سياسة إسماعيل التي اتَّسمت بالسفه والإسراف، من سعي إنجلترا وفرنسا لاحتلال مصر. يقول محمد عودة: «كانت الدولتان تجدان في إسراف إسماعيل مبررًا لسياستهما معًا، وتحمِّلانه تبعة أعمالهما في مصر.»٣٠ وإذا كانت سياسة إسماعيل مبررًا لما انتوته الدولتان، فإن «النية» في احتلال مصر كانت قائمة قبل تولي إسماعيل الحكم، وبالتحديد منذ تبدت أهمية قناة السويس بالنسبة للهند وأفريقيا.٣١ ولعله من المهم أن نشير إلى أن المذكرة الرسمية التي قدمتها الحكومة الفرنسية إلى حكومة بريطانيا — في أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر مباشرة — تبلِّغها فيها أن «الحكومة الفرنسية لا تعارض في تقدُّم البريطانيين في مصر إذا كانت الحكومة البريطانية قد قررت ذلك.»٣٢

•••

في الساعة العاشرة والنصف صباح يوم ٥ نوفمبر ١٨٥٤م، وصل الإسكندرية فرديناند ديلسبس، يحمل في حقيبته مشروعًا لشق قناة السويس،٣٣ وكان معنى إنشاء القناة، قبول بريطانيا لقاعدة رئيسة في الطريق القصير إلى الهند،٣٤ وبدايةً، فقد حاولت الحكومة الإنجليزية أن تقضي على المشروع بكل السبل، ولجأت حتى إلى سلاح التشهير، وأشاعت في العالم كله أنباء السخرة في القناة، ووباء التيفود الذي صرع الآلاف من العمال والفلاحين، والضرائب التي يعاني فداحتها المصريون، بل والنتائج السلبية التي يحملها المشروع إلى الاقتصاد الأوروبي. لكن القناة أصبحت واقعًا، ولم يعُد أمام إنجلترا إلا أن تغيِّر من استراتيجيتها وتكتيكاتها، سعيًا إلى هدف محدد: أن تحتل القناة لتحمي مصالحها في الهند، فضلًا عن تحقيق أطماعها الاستعمارية القديمة. وكان تصرف إسماعيل في أسهم القناة بالبيع للحكومة الإنجليزية في عام ١٨٧٥م، هو الممهد الحقيقي لاحتلال مصر. فقد أصبح الخديو أسيرَ ديونه الباهظة، ومن ثَم حرصت السياسة البريطانية على التدخل في شئون البلاد، وعرض معوناتها المتكررة التي زادت من فداحة المشكلة. وكان دور بعثة «كيف» إلى مصر في العهد الإسماعيلي — كما يقول المؤرخ ماك كون — هو جمع المعلومات التي تمكِّن إنجلترا، فيما بعد، من فرض وصايتها المالية والإدارية على مصر.٣٥
إن قصة الصراع الفرنسي الإنجليزي لاحتلال مصر، تبدأ في ١٧٨٩م بالغزو الفرنسي. ويذهب محمد عودة، في تحليله الممتاز لأحداث الثورة العرابية، بأنه «تقرر الاستيلاء على مصر، وضمها إلى الإمبراطورية سنة ١٧٦٣م، بعد عقد معاهدة باريس بين فرنسا وبريطانيا. وكانت المعاهدة قد حسمت النزاع الطويل الذي امتد منذ بداية الاكتشافات الجغرافية الكبرى حول الهند، واشتركت فيه كل دول أوروبا الاستعمارية، وبدأ به عصر الرأسمالية والاستعمار.»٣٦ ثم يتفاقم الصراع، ويتواصل، باحتلال الإنجليز السواحل المصرية في ١٨٠١م بحجة إخراج الفرنسيين، وخروجهم منها في العام التالي مباشرة، ثم في محاولة الغزو الإنجليزية عام ١٨٠٧م، واشتراك الأسطولَين الفرنسي والإنجليزي في تدمير الأسطول المصري في ميناء نافارين، وإرغام الدولتَين على توقيع معاهدة كوتاهية التي تنازلت بها عن معظم ممتلكاتها في آسيا، وتهديد مصر بالغزو — ١٨٣٨م — إذا أعلنت استقلالها عن الدولة العثمانية، بل وإنذار تركيا إذا عقدت اتفاقًا مع مصر تعلن فيه استقلالها. ثم كان حفر قناة السويس بداية فصلٍ جديدٍ في المأساة، حرصت فرنسا — من خلاله — على أن تحُول دون تحقيق الأطماع المماثِلة للأطماع الإنجليزية، وكانت حريصة على مبدأ الاحتلال المشترك حتى تمنع إنجلترا من الانفراد بمصر، فإذا أخفقت في هذا المسعى — اقترحت أن يحتل مصر جنود الخلافة العثمانية، باعتبار أن «الرجل المريض» يعاني لحظات الوفاة، بينما انفراد إنجلترا باحتلال مصر قد يضمُّها لحوزتها إلى الأبد، وانتهى بالفعل فصل من المأساة، بدخول قوات الاحتلال، ليبدأ فصل آخر. ويقول إرنست رينان Ernest Renan «إن البرزخ الذي تم حفره الآن سوف يكون — مستقبلًا — ساحة للمعارك، إن بوسفورًا واحدًا يكفينا حتى الآن لمشاكل العالم، لقد خلقت برزخًا ثانيًا يفوق في أهميته الأول بكثير! ففي حالة الحرب سوف يكون ذا أهمية قصوى، إنها نقطة الاحتلال التي من أجلها سيتصارع العالم بأكمله، لقد حددت الميدان للمعارك الكبرى في المستقبل.»٣٧
والواقع أن رأي الرافعي لم يكن بدعًا ولا متفردًا، فثمة مَن يذهب إلى أن البريطانيين «لم تكن عندهم فكرة واضحة عن كيفية حل مسألة مصر.»٣٨ باعتبار أن جرانفيل — وزير الخارجية البريطانية آنذاك — قال في منشورٍ وجَّهه إلى الدول، إن القوات الإنجليزية سيتم سحبها من مصر في أقرب وقت. والسؤال هو: ماذا كان بوسع وزير الخارجية البريطانية — غير ذلك — أن يقول؟
ولا شك أن خطط السلب والتقسيم التي اندفعت غالبية الدول الأوروبية — وفي مقدمتها بالطبع فرنسا وإنجلترا — إلى تنفيذها، لم تكن وليدة ذاتها، فقد كان ثمة أساسٌ جعل من تحقيق السيطرة على الولايات العثمانية أمرًا مطلوبًا، وملحًّا، هو إمكانية تلك السيطرة فعلًا، وكما يشير عرابي في مذكراته، فقد كثرت دسائس الحكومة، وظهر عزمها على اغتيال قادة الثورة الذين حاولوا إحباط المؤامرات المتكررة، وكان السير مالت قنصل إنجلترا دائم التردد على الخديو دون غيره من ممثلي الدول الأوروبية، وكان يسقي رياض باشا — والتعبير للنديم — من تلك الحياض، فيحاول رياض من ثَم إقناع الخديو بضرورة الالتجاء إلى الإنجليز. ويقول عرابي: «فأوجسنا من ذلك خيفة على مصير بلادنا، وخشينا من مطامع إنجلترا التي كانت ترمي إلى التهام وادي النيل، أسوة بما فعلته فرنسا بتونس حتى يتم التوازن الذي تدَّعيه أوروبا، فعرضنا مخاوفنا على جلالة أمير المؤمنين ليحيط علمًا بما كان جاريًا في مصر، ولكيلا يتورط في تصديق ما قد يصل إليه من دسائس أعداء البلاد.»٣٩ وقد جعل من توجس عرابي حقيقة مؤكدة ما كتبه كلفن بعد يوم عابدين بعشرة أيام: «أرى أنه ليست الحال الحاضرة بطبيعتها إلا هدنة، وأن ما وصلنا إليه من التسوية ليعطينا مهلة نستجم فيها، ونلم فيها بالقوى التي تعمل حولنا، ونسعى في الاستفادة منها، والقضاء عليها.»٤٠
كانت أوروبا تنصت إلى لهاث أنفاس الرجل المريض، وتتهيَّأ لاقتسام التركة الهائلة، ومن الطبيعي أن تحاول كلُّ دولة سلبَ ما تستطيع الحصول عليه من أقسام الإمبراطورية العثمانية قبل أن يقضي الرجل المريض تمامًا، وينجح الآخرون — بالمبادرة — في تحقيق ذلك، ومن ثَم، فقد شهدت المنطقة سعارًا محمومًا للسلب والاقتسام. وكان الرجل المريض يجتاز — أيامها — أخطر الفترات: راحت القوات التركية تلعق جراحها بعد الحرب الضارية ضد القوات الروسية، وبدأت دول أوروبا في تنفيذ مخططاتها لاستلاب الولايات العثمانية بتقويض الأوضاع داخل تلك الولايات بواسطة عملائها، بل وبتقويض الأوضاع داخل الأقطار التركية ذاتها، بواسطة عملاء من المتتركين — يهود الدونمة مثلًا — ثم بمحاولات الغزو التي نجحت في تقليص حجم الإمبراطورية شيئًا فشيئًا، حتى تأتي الحرب العالمية الأولى، وتسقط الخلافة، وتعلن الجمهورية، فلا يقتصر جهد الحكومة التركية على الاكتفاء بحدودها الطبيعية، لكنها — ربما انطلاقًا من نظرية علم النفس: التوحُّد بالمعتدي — تولي ظهرها لولاياتها السابقة، وتتجه إلى العدو «أوروبا» بهدف أن تصبح جزءًا منها، فتلبس الزي الأوروبي، وتنادي بالعلمانية، وتكتب باللغة اللاتينية، وتمارس عادات الأوروبيين، وتضطهد الجنس العربي، ولعل بسمارك كان أكثر الساسة الأوروبيين صراحة في التعبير عن مطامع دول القارة في الولايات العثمانية، فهو قد أشار على بريطانيا باحتلال مصر، بل وضم سوريا وكريت وقبرص إلى أملاكها، ونصح النمسا بضم البوسنة والهرسك وما تستطيع انتزاعه من أملاك السلطان، وعرض على إيطاليا جزءًا من طرابلس الغرب، وعلى فرنسا تونس، فضلًا عن اشتراكها — أي فرنسا — مع إنجلترا في اقتسام النفوذ في مصر وسوريا. أما روسيا، فقد ترك لها السيطرة على البوغازين٤١ كانت تلك هي الصورة الحقيقية لإمبراطورية الرجل المريض، التي تحوَّلت ولاياتها إلى طعامٍ ميسور للدول الأوروبية. أما القول بأن الأطماع التي كانت تتهدد السلطنة العثمانية من دول أوروبا قامت على أرضية دينية فقط، فهو ينطوي على مغالطة شديدة، وسذاجة، يشابه ما أعلنه نابليون أنه قدم إلى مصر لحماية المسلمين، بل إن القضية إذا كانت قد عكست، أو عبرت في أطرها العامة، عن صراع الشرق والغرب، فإنها كانت — في الدرجة الأولى — استلاب الغنائم التي تخلفها وفاة الدولة العثمانية، والتلخيص الأدق للمأساة، أنها «هذه الحقيقة البسيطة جدًّا، وهي أن وقوع مصر فريسة للإمبريالية كان أمرًا محتومًا لا مناص منه، حتى يفرض — إن لم يتولَّ إمارة البلاد — تلك الشخصيات المسخ المهلهلة التي تحمل أسماء عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وحتى لو لم تحدث هوجة عرابي، فقد كنا — وكل الشعوب الأوروبية — نمثِّل أمام أوروبا قصة الحمل والذئب، مأكولين مأكولين.»٤٢ كانت الجزائر أول دولة أفريقية تخضع للاستعمار الأوروبي، استولت عليها فرنسا في ١٩٣٠م.٤٣ ثم توالى في الفترة بين عامَي ١٨٧٦م و١٩١٢م احتلال واستعمار القارة الأفريقية — ماعدا ليبريا والحبشة — بواسطة سبع دول أوروبية، هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا، ومجموع مساحتها واحد على ١٥ من مساحة القارة الأفريقية.
كانت الضربة التي تعرَّض لها محمد علي من قوى الغرب في معاهدة ١٨٤١م بداية تفكيك الأسس الاقتصادية والسياسية للدولة الحديثة التي حاول حاكم مصر إنشاءها، وهو ما شهدته الفترة من أواخر أيام محمد علي، إلى حكم سعيد، ولم يُتَح للخط البياني في عهد إسماعيل أن يظل في تصاعده؛ قضت عليه المؤامرات الاستعمارية المتوالية، بداية بالديون، وانتهاءً بالتدخل المسلح. كان لفرمان فبراير ١٩٤١م تأثيره المباشر في القضاء على التصنيع في مصر، فقد نص على عدم زيادة عدد أفراد الجيش المصري في وقت السلم عن ٨٠٠٠، ومنع انتشار سفن حربية في مصر إلا بإذن السلطان، وقصُر حق التوارث لمحمد علي على مصر، في حين صدر فرمان آخر يمنع التوارث بالنسبة للسودان، وكانت النتيجة المباشرة لنقص القدرات العسكرية، وخروج سوريا وبلاد العرب وجزيرة كريت من حكم محمد علي، إلى زيادة المنتجات الصناعية المحلية عن حاجة الاستهلاك، كما نص الفرمان على أن تنفذ مصر المعاهدات التي وقعتها تركيا، وستوقعها، بما فيها المعاهدة التجارية التي وقعتها مع إنجلترا في ١٨٣٨م، فتسمح لرعايا بريطانيا بالاتِّجار في المنتجات الزراعية والصناعية في جميع أقطار الدولة العثمانية بما فيها مصر، دون قيدٍ أو شرط. ونصَّت — كذلك — على إبطال احتكار الحاصلات الزراعية، وإلغاء الرخص التي كانت تصدر بهذا الشأن من الحكومة المحلية، وأصدر محمد علي قراره بالفعل بإلغاء احتكار الحاصلات الزراعية والصناعية، عدا القطن، في ٢٣ نوفمبر ١٨٤١م، ثم إلغاء احتكار القطن بداية من ٢٦ مايو ١٨٤٢م.٤٤ وأغلق — في الفترة نفسها — العديدَ من المصانع الحكومية، ولحق التدهور بالترسانات والصناعات المدنية، وتكدست الآلات والمعدات البالية في المخازن الحكومية، وتناقصت أعداد العاملين في المصانع الحكومية إلى ما يقرب من النصف، ولم يفلت من التدهور سوى مصانع الأقمشة الشعبية والطرابيش، ثم أغلقت المصانع الباقية — تقريبًا — في عهد عباس الأول، ومنها مصنع الطرابيش، وهُدِم مصنع الورق، وتحوَّل مصنع المنصورة إلى ثكنات للجنود، واقتصر ما تبقى على المخابز وبعض مصانع الأقمشة لسد احتياجات الجيش، بالإضافة إلى مصنع البنادق والمطبعة الأميرية ومدبغة الإسكندرية.٤٥ ومع إلغاء الاحتكار، وقلة إنتاج المصانع الحكومية، وإغلاق معظمها، فقد واصلت الصناعات الصغيرة تدهورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بسبب صعوبات التحويل، وازدياد حدة المنافسة الأجنبية، حتى قُضي على بعضها، وحلَّ الكساد في المناطق التي ازدهرت فيها الصناعات الصغيرة من قبل، وساعد على تدهور تلك الصناعات ضعف نفوذ النقابات الطائفية في عهد الوالي سعيد، حتى أُلغيَت تمامًا في سنة ١٨٨٢م.٤٦
لقد أعلن ريتشارد بيرتون — ١٨٥٣م — أن مصر هي المائدة التي تتنافس الدول الغربية في التهامِها، وأن الدولة التي ستتمكَّن من احتلال مصر — قبل سواها — ستظفر بكنزٍ عظيم.٤٧ كما أعلن ملنر — فيما بعد — أن بريطانيا ظلَّت أكثر من مائة عامٍ تسعى لاحتلال مصر.٤٨ وكان أهم ما توصَّل إليه لوثار راتمان — بعد مراجعته المتأنية للأرشيف الدبلوماسي في فيينا، والتقارير الدبلوماسية لقناصل بعض الدول الأوروبية في الدول العربية — إبان قيام الثورة العرابية في مصر، أن النظرة إلى عرابي تحدَّدت — بالنسبة لكل الأطراف الأوروبية — في الخطر الذي كان يمثِّله ضد الاستعمار الأوروبي، ممثَّلًا في احتلال فرنسا للجزائر، وامتداد سيطرتها إلى المغرب وتونس، واحتلال بريطانيا للعديد من مناطق الخليج العربي، وتطلُّعها إلى السيطرة على قناة السويس، كطريقٍ حيوي إلى الهند.
من هنا، كان الاجتهاد الوحيد الذي يمكن للقيادة المصرية — منذ التآمر الأوروبي التركي على العسكرية المصرية، إلى ظهور العرابيين — أن تتحرك من خلاله، وتحقق الاستقلال عن السلطنة العثمانية، وتصد الأطماع الأوروبية … كان الاجتهاد الوحيد، أن تلتفت القيادات المتعاقبة إلى تنمية القدرات العسكرية المصرية، باعتبارها الضمانة الأرجح تأكيدًا في تحقيق الاستقلال، وفي صد الأطماع الأجنبية في آنٍ، لقد أصبح الشعب المصري — بتجنيد أفراده — جزءًا، بصورة وبأخرى، من السلطة الحاكمة. إن الجيش هو ركيزة الحكم، بل إنه وسيلة الحاكم لحماية حكمه. وقد اتسعت مساحة المصريين في الهرم العسكري — رأسيًّا وأفقيًّا — فزادت أعداد «أولاد العرب»، ووصل العديد من الضباط إلى رتبة اليوزباشي في الجيش، والأمور في الإدارة، ثم سافر بعضهم في بعثات محمد علي، ليرقوا — بعد عودتهم — إلى رتبة الأميرالاي، وإذا كان تحديد الجيش بما لا يزيد عن ١٨ ألف جندي، عقبة عانى منها المصريون طويلًا في سبيل تنمية قدراتهم العسكرية، فإن فرمان مايو ١٨٦٦م كان قد أعطى مصر حقَّ زيادة جيشها إلى ٣٠ ألف جندي، بدلًا من ١٨ ألف جندي، ثم منحها فرمان يونيو ١٨٧٣م حقَّ زيادة الجيش إلى أي عددٍ تريد. وبالتالي، فقد كان تدعيم الجيش المصري أمرًا مطلوبًا وملحًّا، فضلًا عن أن تمصير القوات المصرية وتسليحها وتدريبها، أيًّا كان عدد تلك القوات، كان سيغيِّر تمامًا من نوعية الصورة، من قبل أن تسفر الأطماع الإنجليزية عن نفسها صراحة. فقد كان الضباط يدخلون المدرسة الحربية بتعليمٍ محدودٍ لا يتجاوز الابتدائية، يمرُّون خلال مجهرٍ استعماري خاص بفحص أصولهم الطبقية، وكانوا — في الأغلب — من أبناء الضباط، أو من أبناء الأسر الإقطاعية، أو الثرية، الذين فشلوا، وعجزوا عن مواصلة التعليم.٤٩ ويقول أوكلاند كولفن في مذكرة إلى المسئولين الإنجليز: «إن قادة الثورة ينظرون لأنفسهم كأن أحداث ٩ سبتمبر — مظاهرة ميدان عابدين — قد أهَّلتهم للحصول على حرية البلاد الدستورية، وهم يتشبَّثون بهذا الأمل. كما تشبَّثوا بزيادة الجيش إلى ١٨ ألف جندي، وهو ما طلبوه في ٩ سبتمبر.» ويضيف كولفن أن هناك اعتقادًا راسخًا «لدى كلٍّ من العسكريين والمدنيين بأن التهديد بالتدخل من جانب بريطانيا وفرنسا ما هو إلا تهويش، فَهُم لا يعتقدون أن الدولتين العظميين ستتدخلان، ولذلك يتمسكون بانتزاع مطالبهم كاملة.»٥٠

أثبتت معارك الثورة العرابية، أنه، برغم الفارق النوعي والكَمي بين سلاح القوات المصرية والقوات الإنجليزية، فإنه لولا خيانة بعض العناصر التركية والشركسية والبدو، وغلبة السلبية الدينية على تصرفات القادة المصريين، ومن بينهم عرابي نفسه، فربما كانت الحملة الإنجليزية قد واجهت المصير نفسه الذي واجهته — من قبل — حملة فريزر. والحق أن قيادة الجيش حاولت — وإن جاء ذلك متأخرًا — تمصير كوادره المختلفة، وبالذات في الرتب الأعلى، فأحيل ٣٠٠ من الضباط الشراكسة والأتراك إلى المعاش لتجاوزهم السنَّ القانونية، ثم تلتها حركة ترقيات لأعدادٍ كبيرة من الضباط المصريين، من بينهم بعض قادة الثورة، مما أنهى — بصورة شبه كاملة — السيطرة الأجنبية على الجيش، فلم يبقَ من الضباط الشراكسة سوى ٨١ ضابطًا فقط، كما حاول عرابي — منذ تولَّى نظارة الحربية التي كانت مثلًا للفوضى — أن يستعد للطوارئ، فعني بإصلاح حصون السواحل، ونظم احتياطي المدفعية، وأمر بزيادة التدريبات وتحسينها. ثم يبقى السؤال الذي تفرضه الموضوعية: هل كانت الطريق ممهدة إلى تحقيق القوة العسكرية المصرية، وسط الأطماع الأوروبية، ومؤامرات الباب العالي، والأوتوقراطية الخديوية، وضآلة الإمكانات؟

وإذا كان «سحب القوات الإنجليزية القريب» هو الوعد الذي دأبت سلطات الاحتلال على إعلانه، منذ السابع عشر من سبتمبر عام ١٨٨٢م، إلى الثامن عشر من يونيو عام ١٩٥٦م، فإن الدول الاستعمارية الأخرى — وفي مقدمتها فرنسا — كانت حريصة على أن تضع مصر — دومًا — على خريطتها الاستعمارية، لكن الاحتلال البريطاني فرض وجوده من قبل أن تعود القوات الفرنسية التي لم يكن قد مضى على جلائها سوى عشرات قليلة من السنين، ونتيجة لذلك، اتخذت فرنسا موقفَ التأييد من الاحتلال البريطاني انتظارًا لقرب الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا على اقتسام الغنيمة، فلما استبان لها عزم بريطانيا على الاستئثار بالسُّلطة، بدأت في مخاصمة الاحتلال، والتنديد به، بل وتبني المطالب الوطنية للزعماء المصريين، وتأتي كلمات أحمد بطل «الخيط الأبيض» لمفيد الشوباشي، لتعطي المغزى المباشر لوجود قوات الاحتلال البريطاني: «فأنا لم أكد أرى بين من احتلُّوا بلادنا، أو وفدوا عليها بقصد استغلالها، رجلًا واحدًا رحيمًا، إنساني الشعور. إن سبْق بلادهم في ميدان الصناعة، بخبرتهم في جمع الأموال، وطمعهم في تكديس المزيد منه، حملهم على ازدرائنا وإهدار كرامتنا.»٥١ إن محمود ناصف — الشخصية التي أجاد أبو المعاطي أبو النجا التقاطها من ركام الأحداث في روايته «العودة إلى المنفى» — يقول متألمًا: الخوف من تدخل أجنبي مسلح قد يوقعنا فيما هو شر من التدخل المسلح، وكان هذا القول صائبًا، فقد ضغط بلنت — على سبيل المثال — في أحاديثه ورسائله لقادة الثورة — أنه لا شيء يمنع الإنجليز أو غيرهم من التدخل العسكري، مثل تأكدهم من أنهم سيواجهون شعبًا ثائرًا، ومستعدًّا للدفاع عن كل شبرٍ في أرضه.٥٢

كان الرافعي، إذن، مخلصًا في نظرته للثورة، باعتبارها الباعث لدخول قوات الاحتلال، وإن قصرت هذه النظرة — ربما لأسبابٍ وطنية؛ أي تتصل بمواقف الحزب الوطني ومبادئه — عن الإلمام بأبعاد الظروف السياسية في العالم آنذاك، والمخططات الاستعمارية التي وضعت مصر على خريطة الإمبراطورية المتوقعة من قبل أن تختمر الثورة في رءوس قادتها. أما السحار، فلم يكن ينتمي إلا إلى مصريته وحدها، دون أن يعبِّر عن انتمائه بالولاء لحزبٍ أو تشكيل؛ لهذا، فقد اختلفت نظرته إلى الثورة العرابية عن نظرة الرافعي، إنها نظرة محايدة، أو هي تنحاز إلى جانب عرابي ورفاقه.

•••

يقول الرافعي تعليقًا على رفض النصيحة الإنجليزية الفرنسية المشتركة بأن يغادر عرابي مصر، لقاء رفع التهديد الأجنبي: «ولو أن عرابي قبِل هذه المقترحات، وغادر البلاد، لكان ذلك تضحية منه في سبيل مفاداتها من التدخل الأجنبي المسلح، ولتركها على الأقل في ظروف أسعد حالًا، وأهون من رحيله عنها بعد هزيمة التل الكبير.»٥٣ وبصرف النظر عن أن الاحتلال البريطاني لم يكن ردَّ فعلٍ لأحداث الثورة العرابية، وأن الثورة كانت وسيلة لو لم تنشأ لاختلقت إنجلترا وسيلة ووسائل أخرى، أقول: بصرف النظر عن ذلك، فإن الوضع الذي كان يحيا في إساره الشعب المصري قبيل نشوب الثورة، لم يكن يختلف كثيرًا عن الوضع بعد اندحارها، اللهم إلا تخلي الاحتلال العثماني عن أحد مواقعه للاحتلال الإنجليزي، وحلول الجاليات الأوروبية شيئًا فشيئًا، محل الجاليات الشركسية والتركية، بالإضافة إلى تضخم الحجم الكيفي لطبقة كبار الملاك المصريين، لتنعزل عن الملايين المصرية — التي تحيا تلك الطبقة على فقرها — وعن الأوتوقراطية الخديوية، والاتجاه بالولاء لسلطات الاحتلال. ومع ذلك، فإن النصيحة المتأخرة، المتكررة، تنطوي على مغالطة واضحة من واقع اجتهادات الرافعي نفسه، فقد كانت إنجلترا وفرنسا تتحينان الفرص للانقضاض على السيادة المصرية، وإذا خانهما التوفيق في انتهاز فرصة ما، فلا بد أنهما كانتا ستلجآن إلى وسيلة أخرى، حتى يتحقق الهدف: «تدل الدلائل والبيِّنات على أن الحكومة البريطانية كانت مبيِّتة نيَّتها على ضرب الإسكندرية واحتلال البلاد مهما كانت الأسباب والملابسات.» ثم يعدِّد الرافعي تسعة أمثلة لتأكيد رأيه.

وقد لجأت الدولتان؛ فرنسا وإنجلترا، بعد ثمانين عامًا من تلك الأحداث، وبرغم المتغيرات العميقة والعنيفة التي شهدها العالم، وفي مقدمتها: تقلُّص المد الاستعماري بصورة واضحة، إلى حيلة أشد سخفًا مما كانتا تتذرعان به في محاولاتهما الاستعمارية السابقة، حين دفعتا إسرائيل إلى إعلان حرب مفاجئة، تلاها توجيه إنذار إلى كلٍّ من مصر وإسرائيل بإبعاد قواتهما من منطقة قناة السويس، حرصًا على سير الملاحة الدولية، وكانت أساطيل الدولتين — التي أعدَّت نفسها علانية خلال الأشهر السابقة — تنتظر الرفض المصري المؤكد، لتبدآ التدخل، فالاحتلال.

أما مؤاخذة الرافعي لعرابي بأنه «لو بادر عندما نشبت الحرب إلى سد القناة، لعجز الجنرال ولسلي عن الوصول بجيشه إلى الإسماعيلية، ولكنه لم يفعل، فكان إحجامه وبالًا على مصر» وهي المؤاخذة نفسها التي أشار إليها صلاح عيسى في مقالة له،٥٤ تلك المؤاخذة التي لم تجد ردًّا، حتى من المتعاطفين مع عرابي، والمتفهمين لتطورات الأحداث بصورتها الموضوعية، مثل محمود الخفيف، فقد وهبنا الفنان من خلال اجتهاده في مصادر رواية «العودة إلى المنفى» برقية أرسلها المجلس العرفي الذي كان يمثِّل سلطة الحكومة آنذاك، إلى عرابي في كفر الدوار، تضع للصورة أبعادها الواضحة، المحددة.٥٥ والدلالات التي تبين عنها تلك البرقية، أن رأي المجلس العرفي كان يتجه إلى عدم تحريك قوات الجيش إلى منطقة القناة، حتى لا يوصف مثل هذا العمل بأنه تهديد لحيدة القناة، فضلًا عن ردم القناة ذاتها، وأن عرابي هو الذي طلب تحريك قوات من الأسلحة الثلاثة إلى منطقة القناة، وأن احتلال السفن الحربية البريطانية مداخل القناة، جاء بعد أسبوع من تاريخ البرقية العرابية، ومن ثَم فقد أصبح ردم القناة أمرًا غاية في الصعوبة، إن لم يكن مستحيلًا؛ لأنه كان بوسع السفن البريطانية أن تطلق نيران مدافعها على العمَّال الذين يحاولون ردم أي جزءٍ من القناة، وهو ما حدث — فعلًا — حين حاول المصريون ذلك.٥٦
ويوجه الرافعي إلى عرابي تهمتَين متناقضتَين: أولاهما جهله بالعلوم العسكرية، والثانية أنه لم يقُد القوات بنفسه.٥٧ وبديهي أن الاكتفاء بالقيادة السياسية لمن غابت عنه العلوم العسكرية — لو أن ذلك صحيح — هو مما يحسب للزعيم الذي يقدِّر المسئولية، والمثل القاسي، القريب، في يونيو ١٩٦٧م، حين تولَّت القيادة السياسية مسئولية قيادة المعارك الحربية! ومع ذلك، فإن رأي مؤلف كتاب «مصر الإسلامية والحبشة المسيحية» أنه كان يصبح ضابطًا من خيرة الضباط في قطر غير القطر المصري.٥٨ التهمة التي طالما واجهها المصريون أنهم قد يكونون متميزين ومتفوقين، لكنهم عاجزون عن الإدارة كأفراد، أو حتى كجماعة، فلا بد للأجنبي من أن يتولى التخطيط والإشراف على التنفيذ، وقد كتب أوكتاف بوريللي يصف عرابي بأنه «دجال يدعو إلى الرثاء، وهو دليل على عجز بني جنسه حين يُترَكون لتدبير شئونهم بأنفسهم.»٥٩ وكان عرابي يدرك جيدًا — في الحقيقة — معنى مصرع القائد، أو أسره، في شعبٍ يؤمن بالزعامة من زاويتها الدينية، ويبني على ذلك حسابات التفاؤل والتشاؤم، والإقدام والنكوص. ومع ذلك أيضًا، فإن عرابي لم يكن بعيدًا عن المعارك تمامًا، بل إنه تولى القيادة فعلًا في التل الكبير، بعد أن أسفرت المأساة عن كل ملامحها. وحين وصل عرابي إلى القاهرة من التل الكبير، فقد كان ذلك — في الحقيقة — لمواصلة النضال، والدفاع عن العاصمة. والفرار من المعركة تهمة أخرى يوجهها إليه الرافعي، ولو أنه أراد الفرار، فمن المؤكد أنه لم يكن سيعدم الوسائل. وإذا كانت الجماهير المصرية قد احتفت بالنديم، طيلة تسع سنوات، فإنها كانت تستطيع الأمر نفسه بالنسبة لقائد ثورتها أحمد عرابي. وكان بوسع عرابي أيضًا — بمعونة أتباعه — أن يفرَّ إلى خارج البلاد، فضلًا عن أنه كان باستطاعته الفرار من المصير الذي كان شبه مؤكد، لو أنه وافق على مغادرة مصر، والحياة في الخارج بشروطٍ غاية في السخاء، فقد وسَّط «مالت» سلطان باشا، والأزمة في ذروتها، والأسطولان الإنجليزي والفرنسي يتهددان الإسكندرية — وسَّطه لكي يعرض على عرابي أن يغادر البلاد بصحبة ثلاثة من رجاله — ولم يكد سلطان يبدأ حديثه، حتى طلب منه عرابي — في غضبٍ — أن يكفَّ عن الحديث، وأكد إصراره على عدم ترك مصر مهما تأزَّمت الأمور. وهو ما حدث بالفعل. وفي المذكرات التي أودعها لدى بلنت، يعلن عرابي عدم تذكُّره لعرض روتشيلد بمعاشٍ سنوي قدره أربعة آلاف جنيه له، مقابل الهجرة إلى خارج مصر. لكنه يروي عرضًا آخر قدَّمه القنصل الفرنسي، بأن يتقاضى عرابي ٥٠٠ جنيه في الشهر، بشرط السفر إلى باريس، والحياة هناك مثلما كان يعيش الأمير عبد القادر. ورفض عرابي، وقال: إن واجبي يقضي عليَّ بأن أدافع عن بلادي، وأموت في الدفاع عنها، لا أن أهجرها، وحتى اللحظة الأخيرة، كان مصير عرابي بيده، بمعنى أنه لم يُقتَل، أو يُؤسَر، وكان في استطاعته أن يذوب في الجماهير المصرية التي آمنت بزعامته، لكنه عاد إلى القاهرة بعد هزيمة قواته في التل الكبير، فحاول الدفاع عنها «وصلنا محطة أنشاص، فوجدنا هناك قطارًا، فركبناه، وأسرعنا إلى القاهرة، لاتخاذ الوسائل اللازمة لحفظها من الأعداء، قبل وصولهم إليها. ولكن القاهرة كانت خالية من الجنود تمامًا، فيما عدا ألفًا من الخفراء بدون ضباط، ونحو ٤٠ من جنود السواري فلما شاهدنا كل ذلك، رأينا أن الأَولى حقن الدماء، وحفظ القاهرة من غوائل الخراب والدمار، كما حصل في الإسكندرية، ما دامت المقاومة لا تجدي نفعًا، وفضَّلنا تقديم أنفسنا فداء عن الأمة المصرية سيئة البخت.» واتجه عرابي وطلبة إلى معسكرات العباسية، وسلَّما سيفيهما للقائد البريطاني باعتبارهما أسيرَي حرب.
وإذا كان الكتاب الذي قرأه عرابي — في عهد سعيد — عن الحملة الفرنسية على مصر، من أولى الهزَّات التي جعلت ذلك الفلاح ينتبه إلى وجوب خلاص مصر لأبنائها، فإن عرابي ظل يحيا عصره، ويطلُّ على تطورات السياسة العالمية، وكما يقول الإمام محمد عبده، فقد كان «يطالع في الجرائد، وفي بعض الكتب المترجَمة من اللغات الأوروبية، ويسمع من بعض المطلعين على أحوال ممالك أوروبا، إن مجالس النواب في تلك الممالك هي القائمة على حفظ أصول النظام، وهي القاضية على كل حاكم بالتزام حدوده، والحاجبة للاستبداد في الأرواح والأموال، والحافظة للحرية الشخصية في الأعمال.»٦٠ وكان في مقدمة الهموم التي شغلت زعماء الحركة، أن يوثقوا علاقاتهم بممثِّلي الدول الأوروبية. وحتى يفوت عرابي — قبل مظاهرة عابدين — فرص الدس والتدخل على قناصل الدول الأجنبية — كما أبلغ الخديو من قبل — أن آلايات الجيش ستحضر إلى ساحة عابدين في الرابعة بعد ظهر الجمعة ٩ سبتمبر «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها، وأن هذه المظاهرة العسكرية ذات أهداف سلمية تقتصر على أحوال البلد الداخلية.»٦١ أصبح عرابي — كما وصفته الجمعية العامة — حامي حمى الديار المصرية،٦٢ وعلى حد تعبير أحمد شفيق باشا، فقد كان مبدأ الحركة العرابية أن «مصر للمصريين».٦٣ وأشار الإمام محمد عبده في مذكرات منفاه إلى ما أشاعه «هذا الخبر بين الناس على حسب العوائد في مصر، وعلم الكثير من الأعيان والعلماء والموظفين بإصرار الضباط على طلب ماس بالوزارة، وأحسوا بخلافٍ بين الخديو ورئيس نظاره، فهبَّ عند ذلك جميع الراغبين في تغيير الحال من علماء وأعيان وذوات كرم ومقرَّبين من الجناب العالي، واتَّحدت وجهتهم في الغاية، وإن اختلفت الدواعي والبواعث؛ فطلاب مجلس النواب يؤمِّلون في التغيير أن ينالوا تشكيله، والمتضجرون من استبداد بعض المأمورين، والخائفون من أن يؤخذوا بالشبه يرجون بالتبديل كشفًا لكربتهم وأمنًا على أنفسهم، والواجدون على السلطة الأجنبية يرجون شفاء شيء من وجدهم، والذوات الكرام الطامعون في رجوع سلطتهم على أبدان الرعية وأموالها يطمعون في إرضاء شرهم، والأجانب الربويون يتطلَّعون إلى انقلابٍ تزيد به الشدة المالية، حتى تتسع لهم طرق الكسب الماضية، وقنصل فرنسا البارون درنج يسعى إلى الانتقام من رياض باشا، ويجب أن يأتي خلفٌ له يمكنه مجاراته في مطالبه، والجناب الخديو لا يكره أن يتخلَّى رياض باشا عن رئاسة النظار، بل تلك أمنية من أمنياته.»٦٤ وكتب بلنت: «لم تعرف مصر من قبل، مثل الفرح والسعادة التي غمرتها منذ ذلك اليوم. لقد تحقق انتصار الحرية، وكان انتصارًا رائعًا جاء بعد ليلٍ طويلٍ مخيفٍ، وغمرت روح السعادة جميع الطبقات والطوائف من مسلمين ومسيحيين ويهود، وشاطرهم الفرح الأوروبيون المتعاطفون مع الحركة الوطنية، وحتى بعض القناصل، وربما لم يحدث منذ قرن أن فاض هذا الشعور. وكان الرجال يوقفون بعضهم البعض بدون سابق معرفة، ويتعانقون فرحًا بتلك الحرية الجديدة التي بدأ عهدها، وأصبحت الكلمات المعبِّرة عن الحرية والمساواة والتقدُّم تُتدَاول بين الناس، بل وتسيطر على أفكارهم، وسرت الطمأنينة إلى النفوس بذلك الإشراق الجديد، وأحسَّت مصر بأنه قد صار لها كيان ورجال وحكام تختارهم بنفسها، بعد أن انتهى حكم الظلم والجهالة الذي طال عليه الزمن، وبعد أن تأكدوا أن الحكم النيابي في الطريق إليهم.» وفي رسالة إلى جلادستون، أشار عرابي إلى أنه عند إطلاق أول قذيفة على الإسكندرية، سيلجأ — عرابي — إلى رجال الدين، للحض على إثارة الجهاد في سوريا وبلاد العرب والهند، ونبَّه عرابي إلى أن مصر تقع في طريق مكة والمدينة «وجميع المسلمين يحتم عليهم دينهم تأمين الطريق إليهما.»٦٥ وأضاف عرابي: أكرر القول بأن أول قنبلة تُرمى بها مصر، ستكون سببًا في سفك الدماء في آسيا وأفريقيا، وتبعة ذلك كله ستقع على كاهل إنجلترا.٦٦ ويؤكد صابونجي، من خلال تتبُّعه مسار الثورة، إنها كانت منطلقًا لثورة عامة يقوم بها المسلمون في آسيا وأفريقيا.٦٧ أصبح — في نظر العالم الإسلامي — مدافعًا عن حقوق الإسلام ضد عدوان الغرب.٦٨ ففي الشام، حمل الرجال السلاح، وأعدُّوا كتائب من المجاهدين، لكن السلطات التركية منعتهم من الإبحار إلى مصر، وبعث حافظ الكعبة الملحق بشريف مكة، رسالة إلى عرابي يمتدحه فيها، ويبلِّغه أن جميع الناس في مكة يدعون الله أن ينصر عرابي، وأن الصلوات تقام من أجله، ومن أجل نجاحه، في الكعبة وعند قبر إسماعيل وزمزم وعرفات ومنى، وفي كل مكان مقدس في مكة. ووصف عرابي بأنه «حامي حمى الإسلام والدولة الإسلامية.»٦٩ وأُلقيَت الخُطب في مساجد دمشق وتونس وغيرها من العواصم الإسلامية، تقديرًا للثورة العرابية، وإنها ثورة كل المسلمين.٧٠ ولقَّب الخطباء عرابي بحامي الإسلام والمسلمين. وبالطبع، فإن كل تلك المواقف تنفي الاتهام الذي وُجِّه إلى عرابي بأنه كان — بحسن نية، وهو رأي أستاذنا فتحي رضوان، أو بسوء نية، وهو رأي السيد فهمي المنشاوي — عميلًا للاستعمار البريطاني الذي حرَّضه على إثارة نعرات التعصب والطائفية ضد الدولة العثمانية، فالثورة عليها بالتالي، مما يسهل للإنجليز احتلال مصر وسلخها عن الخلافة العثمانية، توصلًا إلى الهدف الذي أفلحت مخططات الاستعمار والصهيونية — فيما بعد — في تحقيقه، وهو تقويض دعامات الخلافة العثمانية.٧١ أما القول بأن عرابي قضى أيامه الأخيرة منبوذًا من قومه، فهو ينطوي على مغالطة. أشير إلى ما رواه إبراهيم رشاد في مذكراته من أن سيرة عرابي كانت تملأ الحي كله — السيدة زينب — بعد عودته من سيلان «وكنَّا نحيِّيه أثناء ذهابه إلى مسجد السيدة ليؤدي صلاة الجمعة.»٧٢

•••

كان التاريخ في الأدب العربي — يومًا — أحد فروعه، والأدب والتاريخ ينتميان إلى بعضهما بالفعل بأكثر من وشيجة، فإذا كان الأدب هو التعبير الوجداني عن الإنسان، فإن التاريخ هو الراصد لمنجزات رحلة الإنسان في توالي الحقب، ومن الصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن نفهم بواعث تصرفات الإنسان ومنجزاته ومواقفه، دون فهم عواطفه ومشاعره وانفعالاته. وكما يقول المؤرخ والأديب الفرنسي «ألان دوكو» فإن الأدب هو التشخيص الفني للتاريخ، وما حدث من انفصالٍ بين الأدب والتاريخ في صالح الأدب أيضًا من حيث رؤاه الاجتماعية.

والحق أني لا أقصد انتصارًا للفنان على المؤرخ، ولا هو اتهام للرافعي بافتقاد الموضوعية. ثمة عوامل عديدة تخضع لها تفسيراته التاريخية، مثل المناخ السياسي والاجتماعي الذي أرَّخ فيه للثورة العرابية.٧٣ ونظرته التي تدين بالولاء لمبادئ الحزب الوطني، وهو ما لا يُعَد مأخذًا على كل المؤرخين، منذ القديس أوغسطين الذي فسَّر التاريخ من وجهة نظر صحيحة باباوية، وكارلايل الذي عشق البطولة الفردية، وأقام تحليلاته التاريخية عليها، وفيشر الذي عبَّر عن وجهة النظر الإمبراطورية التوسعية التي كانت بريطانيا تعتنقها آنذاك، والعقاد الذي أحب الوفد في شخصية زعيمه سعد زغلول، وهيكل الذي عبَّر عن رأي الأحرار الدستوريين في مراحل التاريخ المصري الحديث، وأحمد حسين الذي أقام دراسته للتاريخ المصري على مراحل حياته السياسية، منذ مصر الفتاة إلى الحزب الاشتراكي، ورفعت السعيد الذي عني في تناوله للتاريخ المصري بالبُعد الاجتماعي، الأمر نفسه بالنسبة لكامل زهيري والشهيدَين شهدي عطية الشافعي وإبراهيم عامر وطارق البشري وصلاح عيسى وعبد العظيم رمضان وغيرهم.

ليس اتهامًا للرافعي إذن، أنه فسَّر وقائع الثورة من وجهة نظره التي تعبِّر — في الدرجة الأولى — عن رأي الحزب الوطني، بل إن الرافعي المؤرخ ليس إلا تأثُّرًا بالغًا باتجاهات الحزب الوطني للاستعانة بالجوانب التاريخية في النضال السياسي. إن الواقعة مقدسة، والرأي حر، ومن الصعب أن يلتزم المؤرخ في تفسير الوقائع بالحيدة المطلَقة، فهو يخضع لظروف بيئته وعصره، والفكرة التي يؤمن بها، ويعبِّر عنها، وثمة فارق أن نعرض لأحداث التاريخ بما يخرج بها عن واقعها الموضوعي، وأن نفسر التاريخ بما يعبِّر عن النظرة التي تحمل مفهومًا معينًا، وربما أخضع تفسيراته لذاتيته وعاطفته، لكنه لم يجن على موضوعية الحقائق، وكان حريصًا على بُعد الواقعة التاريخية عن الزيف والتحريف.

أخيرًا، فإننا يجب أن نضع في الاعتبار، الأثر الوجداني الذي يحمله كلٌّ من الفنان والمؤرخ للثورة العرابية بعامة، فلم يكتب السحار قلعة أبطاله إلا لتعاطفه مع الثورة، أما الرافعي، فقد كانت دراسته للثورة حلقة من سلسلة تأريخه لمصر الحديثة، منذ الحملة الفرنسية، إلى الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م.

أتفق مع المؤرخ الإنجليزي «ميوري» في أن «التاريخ علم، لا أكثر ولا أقل، فإن أنت حسبته فنًّا من الفنون، أخرجته عن مجال الصدق والدقة، وليس التاريخ فرعًا من فروع الأدب بأية حال من الأحوال.»٧٤ العمل الفني هو تجربة الفنان، كما أن التاريخ هو تجربة المؤرخ. من هنا، فنحن نناقش في الفنان — بداءة — عمله الفني، بينما ندرس فكر المؤرخ ونوازعه، لنجد اختلافًا جذريًّا بين الزعيم الذي يقود ثورة ضد الأسرة الخديوية، والمؤرخ الذي يدين بالولاء لحزبٍ، يجد سياسته في الارتباط برأس هذه الأسرة.

•••

إن الاختلاف في رؤية الثورة بين «قلعة الأبطال» وكتابات الرافعي، مردُّه اختلاف موقف الفنان والمؤرخ من الثورة بصورة جذرية، بعكس الكتاب الذي سمَّاه مؤلفه يوسف صبري — أو يوسف أفندي حسن صبري، كما حرص على تسمية نفسه — «فتاة الثورة العرابية».٧٥
فتاة الثورة العرابية رواية أدبية، تاريخية، سياسية، اجتماعية، غرامية، مصورة، ثم أشار إلى أن ذلك الكتاب هو الحلقة المفقودة في سلسلة التاريخ المصري الحديث، وأنه قد استمد أحداثه من مذكرات المرحوم أحمد عرابي باشا بخط يده المحفوظة بدار الكتب، وأنه قد «كتب مقدمتها وزير الحربية والبحرية أحمد عرابي باشا سنة ١٩٠٣م.»٧٦ الكتاب الذي ألَّفه يوسف صبري، يرفضه التاريخ والفن في آنٍ؛ فهو لا ينتسب إلى فن القصة بقدر ما يُعَد تقريرًا ساذجًا، حاول به كاتبه أن يرضي كلَّ الأطراف. فضلًا عن أن مقدمة عرابي ليست سوى رسالة من زعيم الثورة العرابية إلى «بلنت» يعرض فيها تاريخ حياته، فقد غادر عرابي الحياة من قبل أن يكتب يوسف صبري روايته التاريخية الأدبية … إلخ، وربما يخضِع المؤرخ تفسيراته لضغوط سياسية أو اجتماعية، توصلًا إلى استكمال الحلقات التي تتألَّف منها سلسلة التاريخ في فترة ما — وهو ما يستحق المؤاخذة في كل الأحوال — بعكس العمل الروائي الذي يرفض أية محاولة للقهر. وفي تصوري أن أحدًا لم يطلب من يوسف صبري أن يكتب تلك «الصفحة المفقودة من سلسلة التاريخ المصري الحديث»، فلماذا كتبها؟
فتاة الثورة العرابية تبدأ بالخديو سعيد باشا الذي يُعَد «مثالًا للكمال والميل إلى الخير، وبذل كل مرتخص وغالٍ في سبيل تقدُّم بلاده، والعمل على رفاهيتها، والسعي في بثِّ الأمن بين أرجائها …» وتنتهي بالزعيم الوطني أحمد عرابي، ذلك الشجاع الباسل «لا يخشى في الحق لومة لائم»، مرورًا بالخديو إسماعيل الذي أغفل الكاتب رأي عرابي فيه، وهو ما تعبِّر عنه مذكرات عرابي التي يزعم الكاتب أنه استمد منها أحداث كتابه، فجعله — عرابي — يقول: إن الخديو بعيد عن المظالم بُعد السماء عن الأرض.٧٧ حتى الشيخ مبروك، الذي يكره الظلم إلى الممات، يُنطِقه الكاتب بالقول: «إن مولانا الخديو لا يحب الظلم، ولا يرضاه مطلقًا.»٧٨ ثم الخديو توفيق الذي «كان يحيا على حبِّه للمصريين وحب المصريين له.»٧٩ كما أصبح شريف باشا — في كتاب يوسف صبري — «ذا سياسة حكيمة، وأسلوب جميل.»٨٠ أما الأحداث المهمة التي كانت منطلقًا لتجسيد الثورة، فقد تحوَّلت في «فتاة الثورة العرابية» إلى شيء آخر، يختلف تمامًا عن الصور التاريخية الموضوعية التي انعكست في المؤلفات التاريخية عمومًا. فيوم نفي إسماعيل — مثلًا — «من أيام مصر المعدودة، ازدحمت في صبيحته العربات والأقدام على أبواب السراي للتوديع، يُظهِرون له عواطف الأسف وعلائم الميل.»٨١ «وكان من أشد تلك المظاهر تأثيرًا في النفوس، منظر العُبدان والجواري يودعون سيدهم وسيداتهم بأدمعٍ مُزجَت بدماء القلوب، ويرفعون أصواتهم بالبكاء، حتى كادت الأرواح تزهق حزنًا وغمًّا، ثم رمى إسماعيل ثغر الإسكندرية بنظرة الوداع، تلك النظرة التي رماها نابليون على شواطئ فرنسا، فسلام لك يا من تركت الوطن يبكيك، لقد بكيت على فراق مصر، ولكن مصر بكت، وستبكي، ما دام النيل يجري، على ابنها البار.»٨٢ وفي المقابل من هذه العبارات الإنشائية، فإن محمد فريد يشير في مذكراته إلى «آثار إسماعيل باشا التي تخلد له في قلوب المصريين من الكراهية، ما لا يمحوه الدهر ولا الزمان.»٨٣ فقد حمل معه — على سبيل المثال، في رحلة منفاه، رغم ما خلَّفه من أوضاعٍ اقتصادية سيئة — أوراقًا مالية بثلاثة عشر مليونًا من الجنيهات، والكثير من النفائس.
كما أكد عرابي أن إسماعيل «أكثرَ سفك الدماء من غير مراجعة حكم شرعي، ولا قانون عادل، وسلبَ الأموال من كل الرعايا، وخرب البيوت، ابتغاء الشهوات البهيمية.»٨٤ ويقول الرافعي: «إن إسماعيل لم يكن مؤيَّدًا من الشعب، ولا من ضباط الجيش، لأنهم كانوا يعتقدون أن سياسته هي التي أفضت إلى التدخل الأجنبي، وقد حاول أن يستثير إخلاص ضباط الجيش وولاءهم إذا اشتدت الأزمة، ووصلت إلى حد امتشاق الحسام، ولكنه آنس فيهم فتورًا عن مناصرته بالقوة.»٨٥ والواقع أن كل الذين خرجوا لوداع إسماعيل في رحلة النفي، كانوا من الموظفين والجاليات الأوروبية.٨٦ أما الوطنيون، فقد كانوا مشغولين بمحاولة مداواة الجراح التي خلَّفها في جسد الأمة المصرية حكم خديو يعاني نقائص نفسية عدة، وفي تقدير يوسف صبري أن الخديو لم يستجب لمطالب الجيش يوم المظاهرة العسكرية التي أرغم فيها الجيش «توفيق» على قبول مطالبه، إلا «لصفاء نيَّته، وحبه لشعبه، وميله للسكينة، ومنع ما من شأنه إحداث القلق والاضطراب،٨٧ وهو الذي يتفانى في سعادة شعبه، قبل طلباتهم.»٨٨ وأما مظاهرة سبتمبر، فالكاتب يبدو في وصفه لأحداثها ملكيًّا أكثر من الملك، بمعنى أنه يفوق حتى المؤرخين الإنجليز في التعبير عن موقف الخديو. فالخديو — كما يروي يوسف صبري — لم يبعث في طلب زعماء الثورة إلا لكي ينصحهم أن يكفُّوا عن إجراءاتهم، وذلك «خشية أن يحدث ما لا تُحمَد عقباه، وخوفًا على رعيته وبلاده من الهمجية والإذلال.»٨٩ وكما يشير كتاب «أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه»، فقد أجاب الخديو رفاقه إلى مطالبهم، وفي نيَّته أن يغدر بهم متى حانت الفرصة،٩٠ وحتى يهرب الكاتب من المواجهة المشهورة بين عرابي وتوفيق، فقد حوَّلها إلى مواجهة أخرى بين عرابي والسير كلفن: «… فكفَّ عرابي عن الكلام، وأشارت القناصل على الخديو بالدخول إلى السراي، ففعل، ولكن قنصل إنجلترا كان يذهب ويجيء بين الخديو وعرابي، فقال لعرابي: إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديو، ولا وجه لزيادة الجيش لأن البلاد في طمأنينة، فضلًا عن أن مالية مصر لا تساعد على ذلك، أما التصديق على القانون فسينفذ بعد اطلاع الوزراء عليه، أما عزل شيخ الإسلام، فلا بد من إسناده إلى أسبابٍ:

– اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي، لم أقدِم عليها إلا لأنهم أنابوني بتنفيذها بواسطة هؤلاء الجنود البواسل لأنهم إخوتهم وأولادهم، وهم القوة التي يُنفَّذ بها كل ما يعود على الوطن بالمنفعة، واعلم أننا لن نتنازل عن هذه الطلبات، ولا نبرح هذا المكان ما لم تُنفَّذ.

– إذن تريد تنفيذ اقتراحك بالقوة، الأمر الذي يُخشَى منه ضياع بلادكم.

– ذلك لا يكون … ومن ذا الذي ينازعنا في إصلاح داخليتنا؟ وإذا كان هناك مَن يجرؤ على ذلك، فاعلم أننا نقاومه أشد مقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا، ولا يبقى في مصر رجل واحد تجري في عروقه الدماء المصرية.

– وأين هذه القوة التي ستقاوم بها؟

– في وسعي أن أحشد في زمنٍ يسيرٍ مليونًا من العساكر طوع إرادتي.

– وماذا تفعل إذا لم تنل طلباتك؟

– أقول كلمة أخرى.

– وما هي؟

– لا أقولها إلا عند القنوط.»٩١
ويبدو أن الكاتب استوقفه السؤال في تأييده الساذج لكل الأطراف: لماذا قامت الثورة إذن؟ ولم يجد يوسف صبري إلا أن يعلق على مشجب النفوذ الأجنبي كلَّ تطورات الأحداث وتفاقمها. فالأجانب هم الباعث الحقيقي لكل ما حدث، نتيجة لتدخلهم «في أمور البلاد، واستئثارهم بها، واشتداد وطأتهم على العسكرية، وطموح أبصارهم إلى ما أوجب استحكام الضغائن في صدور الجهادية عمومًا، واستياؤهم من الأجانب، بسبب قطع مرتباتهم»، فمن الذي أتاح الفرص للتدخل الأجنبي؟ حتى مأساة الحبشة التي كانت تعود — في الدرجة الأولى — إلى مطامع إسماعيل الاستعمارية والتوسعية،٩٢ ينسبها الكاتب — ببساطة — إلى الجنرال الأمريكي لورنج، أركان حرب الجيش المصري، فهو — في رأيه — المسئول، مع قسيس فرنسي وبعض الضباط الأجانب، في تدبير الخديعة للجيش المصري، حتى أصبحت الهزيمة أمرًا محتمًا «لأنه لم يكن من صالح الدول العربية أن تستولي مصر على الحبشة»، ثم «رجعت فلول الجيش المصري من الأراضي الحبشية التي كانت احتلتها، فلم يقابلها أحد في مصر إلا بقلبٍ مغلق ووجه عابس، وقد عزم الجناب الخديوي على معاقبة القائد العام وجميع الباشوات الذين كانوا بالحملة — وكانوا من الشراكسة — لكنه رجع عن عزمه لأسبابٍ سياسية خارجية، فقلَّدهم النياشين، وأقام كلًّا في مركزه.»٩٣
لقد خان القادة الأجانب مطامع إسماعيل، وأحلامه التوسعية. ورغم ارتباط مسئولية الخديو بمسئولية القادة، فيما انتهت إليه حرب الحبشة، إلا أن الكاتب يحرص على شجب كل إدانة لإسماعيل، ثم لكل الأطراف — الحاكمة والوطنية — ما عدا النفوذ الأجنبي الذي حمَّله الكاتب مسئولية ما حدث … ولكن آلاف الضباط والجنود المصريين الذين أفلتوا من مذابح الحبشة، عادوا وقد أفعمهم السخط، وكان من بينهم أحمد عرابي الذي أرجع إلى تلك الحرب «اتجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه»، وهو غضب كان متجهًا — في الدرجة الأولى — إلى الخديو. لقد بلغ عدد الأسرى من الضباط والجنود المصريين ٢١٨٩، لم يعُد منهم إلى مصر سوى مائة وثلاثين، وقُتِل الآخرون جميعًا. أما الذين قُتِلوا في ساحات القتال، فقد بلغوا ١١١٤ جنديًّا وضابطًا.٩٤ أما الشعب المصري، فقد تحمَّل — بمفرده — تكاليف الحملة: عشرة آلاف من الجمال والخيل والبغال، وكميات هائلة من الفول والذرة والتبن والشعير، وجميعها أُخذَت بوعودٍ كاذبة، بخصم أثمانها من الضرائب المطلوبة منهم،٩٥ فضلًا عن تكاليف الحملة المادية.٩٦

ومن المهم القول إن طموحات إسماعيل التوسُّعية لم تكن تستهدف الاستعمار كتوسُّعٍ وسيطرة واستلاب ثروات، بقدر ما كان شاغلها إقامة الإمبراطورية المصرية، تقليدًا — لا أكثر! — للإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية! وقد شجَّع الأوروبيون إسماعيل في فتوحاته؛ أمدُّوه بالمرتزقة والسلاح، لا بهدف إقامة الإمبراطورية المصرية التي كان يحلم بها، وإنما بالتمهيد للغزو الأوروبي القادم على مصر، وعلى أفريقيا جميعًا، كانت القوات المصرية بمثابة دوريات الاستطلاع، أو عمليات جس النبض في داخل أفريقيا، وقد أدَّت الدور المرسوم لها — للأسف — على أفضل نحوٍ، ثم جاء اليوم الذي فرض فيه الاستعمار الأوروبي سيطرته على مصر، مثلما فرضها على دول القارة.

لقد واجه إسماعيل نفسه محاولة قتل من ملك شندي؛ لأنه كان — في نظره — «من الغزاة الغاصبين الذين يستحقون أن يُنتقَم منهم.»٩٧ لم يعتبر السودانيون محمد علي — عندما فتح السودان، ووصل إلى حدود الحبشة — أجنبيًّا عنهم؛ لأنه أنقذ مصر من فوضى المماليك وظلمهم، وأراد بفتح السودان أن يحقق الهدف نفسه. وكما يقول الحبشي فإن أحدًا من السودانيين لم يشعر بشيء «لأن حاكم مصر يجب أن يكون — بطبيعة الحال — حاكمًا للسودان.»٩٨ فضلًا عن أن المماليك الذين كانوا في السودان آنذاك، مارسوا القهر والعسف، أما دافع التآمر على قتل إسماعيل، فلأنه كان قد أهان ملك شندي «نمر» حين لطمه على وجهه لما تلكأ في دفع الغرامة المالية التي طلبها إسماعيل منه، لتحريضه السودانيين على الثورة، أسرَّها نمر في نفسه، وأزمع الانتقام، وفرَّ نمر — بعد تكشف المؤامرة — إلى حدود الحبشة، بينما أقدم محمد بك الدفتردار على إحراق شندي، وقتل الآلاف من أبنائها.٩٩
تكلَّفت الحملة على السودان أكثر من مليون جنيه — فلوس زمان! — ولم تتجاوز نتائجها إنشاء ثلاث نقط عسكرية، وخطَّ حدودٍ خياليًّا، تشكل مديرية خط الاستواء، ولم تكن الطريق بين تلك النقط الثلاث مأمونًا ولا معبَّدًا، ومع ذلك فقد أدَّت الحملة إلى تشويه سمعة مصر، وإنقاص هيبتها بين سكان تلك المناطق، وهو ما جنت منه بريطانيا ثمارًا مؤكدة، وثمة رسالة من وزير بريطاني إلى بيكر في أواخر ١٨٧٣م يقول فيها «مهما يكن من أمر تجارة الرقيق، فإن حملتك لا بد أن تكون قد أدت إلى بسط النفوذ البريطاني في مصر.»١٠٠

•••

والواقع أن حرب الحبشة تمثِّل إرهاصًا مؤكدًا بالثورة العرابية، الدور نفسه الذي تمثِّله حرب فلسطين بالنسبة لثورة ١٩٥٢م. كان حلم إسماعيل أن يجعل النيل كله مصريًّا،١٠١ وأعلن رجال الحاشية — حينذاك — في بساطة ساذجة: «إن الأمور سائرة على ما يرام، وقد حان وقت الإقدام والعمل، أما وقد اشترينا زيلع واحتللنا هرر، فإن اكتساح الحبشة بات أمرًا لازمًا ولم يعُد منه مناص.»١٠٢ وقد أنفق على حملتَي الحبشة وحملات السودان أكثر من مليونَي جنيه،١٠٣ بالإضافة إلى الحملات العسكرية الثلاث إلى عسير وكريت والبلقان، التي تكلَّفت أكثر من ثلاثة ملايين جنيه «في وقتٍ البلاد فيه في أشد الاحتياج إلى تلك النقود.»١٠٤ كما دفع إسماعيل للحصول على فرمان تغيير مجرى الوراثة ثلاثة ملايين جنيه،١٠٥ ودفع لرجال الآستانة والسلطان، وما صرف في ولائم وهدايا لهم للحصول على فرمانات أخرى تؤكد أحقيته وورثته في عرش مصر ما يقرب من ٣٧ مليون جنيه.١٠٦ وقد توافرت الأموال لتحقيق أحلام إسماعيل، ربما بأكثر مما كان يطلب، وكان وراء ذلك خطة مدبَّرة. يقول لاندز: «كانت خزانة إسماعيل مجرد حافظة نهب، فلم تكن المسألة عندهم هي مسألة كم، وإنما كانت مسألة كيف: كيف يشجعون الوالي على الإنفاق في الأشياء السليمة؟ كيف يجبرونه على الاقتراض من جماعة معينة؟ كيف يقرضونه مبالغ بأكثر الطرق إغراء؟ كيف يضعونه في القيد أيضًا؟»١٠٧ كانت الخطة تتلخص في الترغيب بالاقتراض مقابل فوائد باهظة، والإسراف في ذلك حتى تغرق مصر في الدَّين تمامًا، وتسيطر بيوت المال الأوروبية على اقتصاديات البلاد ومرافقها تمامًا.١٠٨ فإذا عجزت مصر عن السداد — وكان ذلك هدفًا أساسيًّا — اتُّخذ العجز ذريعة للتدخل في شئون البلاد، تمهيدًا للاحتلال، فالاستعمار. وبصرف النظر عن جماعية التنفيذ، أو ثنائيته، أو العمل بصورة منفردة، فقد كانت كل الدروب تفضي إلى الهدف الموحد. وبالفعل، فقد التفَّت شِباك الديون حول «الصيد» جيدًا، وبدأ الإعداد للخطوة التالية، للابتلاع، فصدر العديد من الكتب في العواصم الأوروبية عن الخديو الذي بدَّد — بسفاهته — أموال مواطنيه ودائنيه، وأوحت بأن التدخل هو التصرُّف الحاسم الذي يحفظ لبيوت المال الأوروبية حقوقها،١٠٩ وكان صندوق الدَّين الذي أصدر إسماعيل قانونه في مايو ١٨٧٦م خطوة أولى في التسليم للتدخل الأوروبي في الشئون الداخلية لمصر.

•••

وعلى الرغم من اختلاف الظروف الموضوعية بين الحملة الحبشية — ١٨٧٥م — وحرب فلسطين — ١٩٤٨م — فإن الأولى كانت تعبيرًا عن رغبة الحاكم في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف، بينما كانت الثانية درءًا لخطرٍ قائمٍ على بلدٍ عربي، هو فلسطين، وخطر متوقع على الوطن نفسه … ولكن الخيانة كانت هي القاسم المشترك بين الحملة الحبشية وحرب فلسطين. تصدى لقيادة الحملة ضباط من الشراكسة، يعاونهم مجموعة من ضباط أركان الحرب الأمريكيين، وسهَّلت هيئة أركان الحرب لجواسيس الأحباش، ومن بينهم ذلك القس الذي أشار إليه يوسف صبري في «فتاة الثورة العرابية»، فرصة التعرف على كل أسرار القوات المصرية، ومدى استعدادها. ثم أسهمت في وضع الكمائن لها، حتى انتهت الحرب بإبادة ثلاث فرق كاملة، وخسارة ثلاثة ملايين جنيه، فضلًا عن الأسلحة والمعدات، وكانت هذه الحملة عاملًا مهمًّا في بيع مصر حصتها من أسهم قناة السويس إلى إنجلترا، وكانت — في الوقت نفسه — معلمًا في طريق الثورة المرتقبة. فقد أحدثت الحملة أثرًا سيئًا في نفوس الضباط والجنود المصريين — وهو ما يتبدَّى بصورة واضحة في تصرفات عمار (قلعة الأبطال) — وأزعجهم بصفة خاصة، أن الخديو لم يحاكم القيادات الشركسية والأمريكية الخائنة، بل استبقاها في الجيش، وأنعم عليها بالأوسمة والنياشين، ومن ثَم فقد بدأ يستقطب العناصر الوطنية في الجيش. ويشير بلنت إلى أن عرابي عاد من الحملة ساخطًا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، إليها يرجع اتجاه نفسه نحو السياسة، وزيادة كراهيته وغضبه، وهو غضب كان متجهًا في الدرجة الأولى إلى الخديو.١١٠

ألا يذكِّرنا ذلك كله — في صورته الشاملة — بالإرهاص الذي تمثِّله حرب فلسطين لثورة ١٩٥٢م؟

إن آلاف الضباط والجنود المصريين الذين أفلتوا من مذابح الحبشة، عادوا وقد أفعمهم السخط، وكان من بينهم أحمد عرابي الذي أرجع إلى تلك الحرب «اتجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد غضبه»، وهو غضب كان متجهًا — في المقام الأول — إلى الخديو.١١١ ولا يخلو من دلالة انضمام عرابي — عقب حملة الحبشة — إلى جمعية سرية كانت قد تألَّفت برئاسة علي الروبي، إبان حكم إسماعيل، بهدف الدفاع عن العنصر الوطني في مواجهة العناصر الأجنبية «وتمكَّن، بجرأته وفصاحته، أن يصبح الرئيس الفعلي لهذه الجمعية منذ عام ١٨٧٧م.»١١٢

•••

أما يعقوب صروف في روايته «فتاة الفيوم» فإنه يضغط على «حقيقة» أن الثورة لم تكن وليدة الإرادة الشعبية، بل ولم تكن وليدة إرادة قادتها، لكنها كانت بتحريضٍ كلٍّ من الخديو إسماعيل والأوروبيين، فالخديو هو الذي غرس بذرة الثورة في تربة الحياة السياسية المصرية، في محاولة لمقاومة السيطرة الأجنبية التي كانت تهدد عرشه، وكانت وراء عزله من بعد، أما الأوروبيون، فقد كانت الثورة هي فرصة الاستعمار الأوروبي في التدخل، بواسطة إحدى دوله، كي يأمن الأوروبيون على ديونهم.

وفي تقديري، أن يعقوب صروف لم يكن يشغله التناقض في تحليله لبواعث الثورة، بقدر ما كان يشغله تشويه صورة الثورة، وحقيقة بواعثها وأهدافها، فلم تكن «فتاة الفيوم» — مثل شقيقتها «فتاة مصر»، وسنعرض لهما في فصلٍ قادم — سوى محاولة لتبرير الوجود الاحتلالي في مصر، في السنوات التي بدأ فيها المجتمع المصري يفيق من صدمة الاحتلال.

هوامش

(١) عبد الحميد جودة السحار، قلعة الأبطال، الكتاب الذهبي، ١٩٥٤م.
(٢) اخترت كلمة «رواية» للتعبير عن الرواية والقصة الطويلة، وكلمة «القصة» للتعبير عن القصة القصيرة والأقصوصة.
(٣) قلعة الأبطال، ١٧٠.
(٤) المصدر السابق، ٢٥٢.
(٥) المصدر السابق، ٦٠.
(٦) تاريخ مصر في عهد إسماعيل، ٣١.
(٧) نبوية موسى، تاريخي بقلمي، هيئة الكتاب، ٢٢.
(٨) عادل ثابت، فاروق، الملك الذي غدر به الجميع، ٥٢.
(٩) يعقوب صروف، فتاة مصر، الطبعة الرابعة، ٢٨.
(١٠) دافيد س. لاندز، بنوك وباشوات، ت. عبد العظيم أنيس، دار المعارف، ١١٥.
(١١) أحمد شفيق باشا، مذكراتي في نصف قرن، ١: ٢٩.
(١٢) محمود عبد المنعم مراد، الثورة المُفترى عليها، طريق الحرية، كتب للجميع.
(١٣) سامي عزيز، الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، المكتبة العربية، ٢٣.
(١٤) أنتوني بورجس، التاريخ والأسطورة في الرواية، ت. طه وادي، الثقافة، يوليو ١٩٨٢م.
(١٥) حسين مؤنس، أكتوبر، العدد ٣٠٧.
(١٦) ينبغي الإشارة إلى الظلال الكثيرة التي تحيط بشخصية بلنت، فقد ظل نصيرًا معلنًا للحركة الوطنية المصرية، وكان — في الوقت نفسه — أحد الخبراء المتخصصين الذين تعود إليهم الخارجية البريطانية في كل ما يتصل بالشئون الخارجية.
(١٧) مذكراتي في نصف قرن، ١: ١٤٧.
(١٨) المرجع السابق، ١: ١٤٧.
(١٩) عبد الرحمن الرافعي، الزعيم أحمد عرابي، دار الهلال، ١٩٥٢م، ٢١١.
(٢٠) المرجع السابق، ٢١١.
(٢١) الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي لمصر.
(٢٢) قلعة الأبطال، ١٠٢.
(٢٣) بلادي! بلادي! ١: ١٨، ويقول لويس عوض: «ولولا الحياء لخرج توفيق الخائن من صفحات الرافعي، كما خرج من صفحات «مصر الحديثة» للورد كرومر بطلًا قوميًّا» (الأهرام، ٥ / ١٠ / ١٩٧٣م).
(٢٤) محمد عودة، ميلاد ثورة، روز اليوسف، ١٠٥.
(٢٥) عبد الرحمن فهمي، الذئب والفريسة، أبوللو، ١٦٠.
(٢٦) الأهرام ٢٥ / ٨ / ١٩٩٤م.
(٢٧) من تقرير اللورد دلهوس نائب الملك في الهند.
(٢٨) محمود عبد المنعم مراد، الثورة المُفترى عليها، طريق الحرية، كتب للجميع.
(٢٩) المرجع السابق.
(٣٠) محمد عودة، الأحزاب السياسية في مصر، الكاتب، يونيو ١٩٦٤م.
(٣١) مع ذلك، فإن محمد عودة يؤكد أن سياسات إسماعيل لم تفشل، وتنهار أحلامه، بسبب ديونه، أو بسبب إسرافه ومجونه، ولكن لتعارضها مع السياسات الاستعمارية في أوج قوة بريطانيا.
(٣٢) كل شيء والدنيا، أول مارس، ١٩٣٢م.
(٣٣) فتحي غانم، تلك الأيام، روز اليوسف، ١٢.
(٣٤) بنوك وباشوات، ١١٥.
(٣٥) من بين ما تعنى به هذه الدراسة، رؤية الواقع التاريخي من خلال النص الأدبي، لذلك فقد لا يبدو دور الاستعمار الفرنسي واضحًا في «قلعة الأبطال»، رغم أن فرنسا كانت قاسمًا مشتركًا في كل المؤامرات التي دُبِّرت ضد الثورة منذ وجهت الدولتان الإنذار المشترك في ٧ يناير ١٨٨٢م، بأنهما تنتويان مقاومة أي أخطار يتعرض لها عرش الخديو، إلى اشتراكهما في المظاهرة البحرية أمام ميناء الإسكندرية، والتي انتهت بانسحاب الأسطول الفرنسي، وقصف الأسطول البريطاني للطوابي الساحلية، ثم احتلاله المدينة، واحتلاله لمصر كلها، ولا يعني انسحاب الأسطول الفرنسي عدم قبول فرنسا مخاطرة الاشتراك في عمل عسكري ضد مصر، بقدر ما يعبِّر عن مخاوفها من تبديد قواتها، بعيدًا عن أرضها المهددة بالغزو الألماني، وتعريض مستعمراتها في الشمال الأفريقي لخطر احتمالات الثورة.
(٣٦) محمد عودة، أحمد عرابي المحنة والثورة، الحلقة الرابعة، روز اليوسف.
(٣٧) ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، المجلس الأعلى للثقافة، ١٦٠.
(٣٨) سامي عزيز، الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، المكتبة العربية، القاهرة، ١٩٦٨م، ١٩٨.
(٣٩) محمود الخفيف، أحمد عرابي، الزعيم المُفترى عليه، كتاب الهلال، ١٩٧١م، ١٠٤.
(٤٠) المرجع السابق، ١٤٨.
(٤١) أحمد عبد الرحيم مصطفى، مصر والمسألة المصرية، دار المعارف، ٤.
(٤٢) حسين فوزي، سندباد في رحلة الحياة، دار المعارف، ١٢٠.
(٤٣) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٤٧.
(٤٤) تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ١٧٩–١٨١.
(٤٥) المرجع السابق ١٨١-١٨٢.
(٤٦) المرجع السابق، ١٥٨.
(٤٧) حسين أحمد أمين، الوطن الكويتية، ٢٦ / ١١ / ١٩٨٦م.
(٤٨) صراع سعد في أوروبا، ٦٩.
(٤٩) أحمد حمروش، مصر والعسكريون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ٨٤.
(٥٠) محسن محمد، الجمهورية ٢٥ / ٦ / ١٩٨١م.
(٥١) محمد مفيد الشوباشي، الخيط الأبيض، مؤسسة التأليف والترجمة والنشر، ٤٩.
(٥٢) محمد أبو المعاطي أبو النجا، العودة إلى المنفى، روايات الهلال، ٢ / ٤٨.
(٥٣) عبد الرحمن الرافعي، الزعيم أحمد عرابي، ١٠٥.
(٥٤) صلاح عيسى، آفاق عربية، مارس ١٩٧٧م.
(٥٥) للرجوع إلى نص البرقية، انظر: الهلال، أكتوبر ١٩٦٩م، أبو المعاطي أبو النجا، لماذا لم يغلق عرابي قناة السويس في وجه الإنجليز؟
(٥٦) المرجع السابق.
(٥٧) الزعيم أحمد عرابي، ٢١٥-٢١٦.
(٥٨) تاريخ مصر في عهد إسماعيل، نقلًا عن مصر الإسلامية والحبشة المسيحية، ٢٢٣.
(٥٩) روبير سوليه، «مصر: ولع فرنسي»، ت. لطيف فرج، هيئة الكتاب، ٢١٩.
(٦٠) مذكرات محمد عبده، ١٤٠.
(٦١) مذكرات أحمد عرابي، ١٠٧.
(٦٢) أحمد عرابي المُفترى عليه، ٢: ١١٧.
(٦٣) مذكراتي في نصف قرن، ١: ١٢٢.
(٦٤) مذكرات أحمد عرابي، ٨٥.
(٦٥) إدوارد بلنت، التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر، اخترنا لك، القاهرة، ٤٩.
(٦٦) المرجع السابق، ٤٩.
(٦٧) المرجع السابق، ٧٧٧.
(٦٨) مصر والمسألة المصرية، ٢٢٩-٢٣٠.
(٦٩) التاريخ السري، ٧٨٣.
(٧٠) المرجع السابق، ٤٩٠.
(٧١) صارحني فتحي رضوان برأيه في لقاء شخصي، أما رأي المنشاوي فهو منشور في «آفاق عربية»، ١٠ / ٦ / ١٩٧٧م.
(٧٢) إبراهيم رشاد، مذكرات مجاهد تعاوني، ٣٥.
(٧٣) رغم هذا، فقد صودر الكتاب — الزعيم أحمد عرابي — لأن حاكم البلاد من أسرة الخديو الذي رفع لواء الثورة ضده.
(٧٤) العربي، أبريل ١٩٧٦م.
(٧٥) يوسف حسن صبري، فتاة الثورة العرابية، مكتبة ومطبعة وورشة تجليد القطر المصري، ١٩٣٠م.
(٧٦) مقدمة الرواية.
(٧٧) يقول عرابي في مذكراته، عن السنوات السبع التي أمضاها إسماعيل في منصب الخديو، إنها كانت وبالًا على المصريين لشدة نزقه، وسوء تصرفه، وعدم إنصافه (مذكرات عرابي، كتاب الهلال، ١٩٥٣م، ١: ٤٤).
(٧٨) فتاة الثورة العرابية، ٤١.
(٧٩) المصدر السابق، ٤٥.
(٨٠) الرواية، ١٢٥.
(٨١) الرواية، ٩٧.
(٨٢) الرواية، ٩٨، ولعلَّه يجدر بنا أن نشير إلى قول الروائي اليوناني ميشيل بيريذس في رواية «أوديسا العصر الحديث»: «كان يومًا عصيبًا على الشعب المصري، وعلى الخديو نفسه، حينما اضطره الإنجليز والفرنسيون إلى مغادرة الأراضي المصرية، فأبحر على يخته «المحروسة»، تاركًا عرشه، ورحل إلى إيطاليا» (ميشيل بيريذس، أوديسا العصر الحديث، ت. حسن عون، ٥٧).
(٨٣) صبري أبو المجد، «محمد فريد: ذكريات ومذكرات»، كتاب الهلال، ١٩٦٩م، ٣٧.
(٨٤) الهلال، مارس، ١٩٧١م.
(٨٥) عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ٢٢٨.
(٨٦) محمود الخفيف، إسماعيل المُفترى عليه، ٢٥٧.
(٨٧) فتاة الثورة العرابية، ١٠١.
(٨٨) المصدر السابق، ١٠٧.
(٨٩) المصدر السابق، ١٠٩.
(٩٠) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ٩٦.
(٩١) فتاة الثورة العرابية، ١١٠.
(٩٢) من السذاجة تصوُّر أن حملات إسماعيل جنوبًا، كانت تستهدف القضاء على النخاسة، فقد بدأ في إعداد حملته، وفي ذهنه تلك الحملة التي قادها في ١٨٢٠م على رأس خمسة آلاف جندي لفتح السودان، فقهر قبائل الشافعية التي تجاوز عدد مقاتليها ٣٠ ألفًا، واستولى على العديد من مدن السودان (مصر الغد تحت حكم الشباب، ١١٥).
(٩٣) فتاة الثورة العربية.
(٩٤) إسماعيل المُفترى عليه، ١١٤.
(٩٥) مذكرات عرابي، ١: ٢٩.
(٩٦) الغريب أن مصطفى كامل حاول هو نفسه «تلفيق» الوطنية لكل الأطراف في مسرح الأحداث، فهو يرفض القول إن عرابي كان متفقًا مع الإنجليز على تسليمهم مصر «فالرجل كان سليم النية، وغاية ما يؤخذ عليه أنه تعجَّل كثيرًا، وانخدع كثيرًا.» وهو يرفض أيضًا القول بأن الخديو استدعى قوات الاحتلال، لكنه خشي على نفسه وبلاده بعد تفاقم الأحداث، وعندما لم يجد نصيرًا ضد العرابيين، اضطر إلى الاستعانة بقوات الإنجليز. بل إنه — كما أسلفنا — لم يجد سببًا للخلاف بين الضباط الوطنيين والجراكسة، وبرغم توضح مؤامرات الضباط الشراكسة ضد العناصر الوطنية في الجيش، فإن مصطفى كامل اتجه بالإدانة إلى الإنجليز الذين أفلحوا — كما قال — في التفريق بين الجراكسة والمصريين في الجيش — المسألة الشرقية. مصطفى كامل يعد الجراكسة مصريين، فقد «قضَوا في مصر حياتهم، واستوطنوا البلاد، وتناسلوا فيها … هم فيها مصريون، لا فرق بينهم وبين سلالة الفراعنة القدماء» (المرجع السابق).
(٩٧) عبد الكريم السكري، ليست هي، مطبعة ملجأ أمير الصعيد ببني سويف، ١٠.
(٩٨) المصدر السابق، ١٠.
(٩٩) المصدر السابق، ١١.
(١٠٠) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٧١.
(١٠١) تاريخ مصر في عهد إسماعيل، ٧٠.
(١٠٢) المرجع السابق، ٧٤.
(١٠٣) المرجع السابق، ٢٤٩.
(١٠٤) المرجع السابق، ٢٤٦.
(١٠٥) المرجع السابق، ٢٤٩.
(١٠٦) المرجع السابق، ٢٥٠.
(١٠٧) بنوك وباشوات، ١٤٧–١٨٤.
(١٠٨) أنشئت بنوك زائفة لمجرد عقد القروض مع الخديو بالربا الفاحش (فصول من المسألة المصرية، ٢٠).
(١٠٩) بنوك وباشوات، ٢٣٤.
(١١٠) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ٣٠.
(١١١) المرجع السابق.
(١١٢) ميلاد ثورة، ٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥