اليقين الديني في حياة الإنسان المصري
إن الإيمان بالله، وبالقدر، وبالآخرة، والحساب، والثواب، والعقاب … خصائص أساسية
في
معتقدات الإنسان المصري. وهي تستند — بصورة أساسية — على القرآن الكريم والكتاب المقدس
والأحاديث النبوية ودروس علماء الدين. ويتداخل مع هذا الإيمان تراث آلاف السنين من
الإيمان بظواهر الطبيعة، وبالمعتقدات الأسطورية. ويُرجِع بعض الدارسين باعث رفض الشعب
المصري عقيدة إخناتون الجديدة، إلى أنها أغفلت التراث الديني خلال آلاف السنين، وأرادت
محو عبادات الآلهة الأخرى في فترة قصيرة هي حياة إخناتون، لأن هدف إخناتون هو التقويم
العقائدي، لكنه أهمل قوة تأثير المعتقدات الشعبية، ومدى تمسُّك الناس بها، حتى لو كان
المقابل دينًا جديدًا ممتازًا.
١ ولعل أصدق وصف لتوالي الأديان في الحياة المصرية ما كتبته لوسي وف جوردون:
«يبدو تاريخ مصر كما تكون الرقعة التي نُقشت عليها كتابات قديمة، مُحيت الواحدة بعد
الأخرى، واختلطت آثارها بعضها فوق بعض، فقد كتب الإنجيل فوق هيرودتس، وكتب القرآن فوقهما.»
٢ إن جذور الاحتفالات الدينية تعود إلى العصر الفرعوني، والكثير من العبارات
التي كانت تتردد في احتفالات المصريين القدامى، لا تزال تتردد في الموالد التي تقام
الآن. وكما يقول علماء الآثار، فإن المركب التي يجرُّها الناس في احتفالات مولد سيدي
أبي
الحجاج الأقصري، وسط مظاهر التهليل والدعاء والتكبير، ليست إلا امتدادًا للاحتفال بمركب
الإله آمون، الذي كان من المعالم الدينية في مصر القديمة. كانت المركب تغادر معبد
الأقصر في احتفال ديني فخم، وتتهادى على صفحة النيل بين المباخر والصلوات والأدعية، إلى
طريق الكباش الذي يمتد أمام معبد الكرنك، ثم تُحمل المركب إلى قدس الأقداس، فتقام
المراسم الدينية للاحتفال. وكان الفراعنة يؤمنون بأن نصيب الإنسان أو قدره يكتب عليه
قبل ميلاده، ولا يملك تغييره. وكان الكهنة وحدهم هم الذين يملكون القدرة على الكشف عن
هذا القدر، إذا تسنى لهم معرفة مولد الشخص، ويستعينون في ذلك بالنجوم والكواكب. وحين
يعجز المرء عن السيطرة على ظروفه، وما يحيط به، بالعلم والمعرفة، فإنه يلجأ — غالبًا
—
إلى المعتقدات الغيبية والخرافة. اللجوء إلى عالم ما وراء الطبيعة هو الملاذ الذي يلجأ
إليه الإنسان عندما يواجه العثرات، أو تضيق أمامه السُّبل. إنه ينسِب إلى قوى الطبيعة
كل
ما يحتاج إلى تفسير. ثمة ثور يحمل الدنيا على قرنَيه، له أربعة آلاف عين، وأربعة آلاف
أذن، ونفس العدد من الأنوف والأفواه والألسنة والأقدام، وبين كل قدم وأخرى مسافة تُقطَع
في خمسمائة سنة. «فالذي يحملها ثور قوي، ونحن نثق به وبقرنه.»
٣ فإذا تعب الثور «نقل الأرض من قرن إلى قرن، وعندها تقع الزلازل التي
يحسُّها أهل الأرض.» يقول زيدان: «الدنيا يحملها ثور على قرنه، وحين يتعب ينقلها على
القرن الثاني، وحين ينقلها تتزلزل.»
٤ كانت الأرض في بدء تكوينها — كما يقول الحاج إمام — معلَّقة في الفضاء،
فتعبت، وشكت إلى الله، فأرسل لها الله ملاكًا دخل من تحت الطبقة السابعة، وقبض على
طرفيها، وبذلك حملها، ولكن لم يجد لرجليه قرارًا، فأنزل الله له ثورًا من الجنة له
أربعون ألف قرن، وأربعون ألف رجل، ومن القرن إلى القرن خمسمائة عام. وهذا الثور بدوره
لم يجد لرجليه قرارًا، فجعل الله تحته ياقوتة طولها خمسمائة عام، ولم تكفِ الياقوتة،
فأنزل تحتها صخرة فيها تسعة آلاف ثقب، من كل ثقب يتدفق بحر هائل، ولم تجد الصخرة ما
ترتكز عليه، فأهبط الله حوتًا من البحر السابع الذي تحت العرش، فاستقر الجميع عليه.
٥ ويقول الراوي لمحدثته: «لو كنت تعيشين مع مئات الأجيال الماضية، لصدقت
حكاية الثور الذي يحمل الأرض على قرنيه. كنت ستجدين من يكررها على أذنيك منذ ولادتك في
كل لفتة، في كل خطوة، مع كل لقمة تأكلينها، مع كل نسمة تشمينها، فهل تتصورين أنك كنت
ستصدقين غاريبالدي إذا قال لك إن الأرض كرة تسبح في الفضاء، وليس هناك ثور ولا يحزنون؟»
٦ وسألت أمينة ابنها فهمي يومًا عن حقيقة الثور الذي يحمل الأرض، وهل ما زال
على عهده بجهلها؟ ورأى الشاب أن يترفق بها، ويجيبها باللغة التي تحبها، فقال لها إن
الأرض مرفوعة بقدرة الله وحكمته، وعادت المرأة قانعة بهذا الجواب الذي سرَّها، وإن لم
يمحُ من مخيِّلتها ذاك الثور الكبير.
٧ وعندما يشتد المطر والبرق والرعد، فمعنى ذلك أن «جمل الشتا بيجري ورا جمل الصيف.»
٨ وقد يكون علو الرعد علامة على غضب الله.
٩ أما القسم بحياة «الشمس الحرة» أو «البهية اللي تطلع من جبلها»، فهو أثر من
عبادة الشمس. ويقول الصبي: يا شمس يا شموسة … خدي سن الحمار وهاتي سن الغزال! وتقول
البنت: يا شمس يا شموسة … خدي سن الجاموسة وهاتي سن العروسة.
١٠ أما القمر فهو أحد النيرَين الكبيرين اللذين يهبان الحياة وجودها
واستمرارها، ومن ثَم فقد اكتسب أهمية بالغة في تفكير الإنسان، ورفعته بعض الشعوب إلى
مرتبة الألوهية، وتوسَّلت بالمعالم التي تطرأ عليه منذ بداية الشهر العربي إلى نهايته،
وتبني عليها حساباتها من تفاؤل وتشاؤم، وموروثات المعتقدات والعادات والتقاليد
والمراسيم والاحتفالات الخاصة، سواء عند ظهور القمر، أو عند اكتماله، أو عند خسوفه.
وثمة رواية أن المصريين القدامى كانوا يتخيلون جسم أوزوريس ١٤ قطعة، وهي الأيام التي
يتناقص فيه القمر من بدر إلى هلال، ومن سِمات ذلك الصندوق الصغير الهلالي الشكل في جنائز
أوزوريس، تعبيرًا عن المدة التي يتم فيها القمر دورته.
١١ والإنسان يتفاءل بالقمر حين يصبح بدرًا، فهو يتغنى به، ويصِف باسمه محبوبه،
ويجد المؤانسة في رفقته، بعكس الخسوف الذي قد يدخل فيه القمر فينعكس تشاؤمًا في نفسية
الإنسان. وعندما يختنق القمر في السماء، فإن مواكب الأطفال في الأحياء الشعبية، وفي
القرى، تنطلق بين الدروب والأزقة المعتمة، تقرع الصفائح القديمة وآنية النحاس، ويرددون
بصوتٍ منغَّم: يا بنات الجنة … سيبوا القمر يتهنَّى،
١٢ أو: يا بنات الحور، سيبوا القمر، ده القمر مجنون، وما عندناش خبر. أو: يا
بنات الحور … خلُّوا القمر منوَّر، ذلك لأن بنات الحور — في المعتقد الشعبي — هن اللائي
يخنقن القمر انتقامًا منه، لأنه يتأبَّى عليهن.
١٣ ويشارك البعض بالنقر على طبلة، وتزغرد النساء، وتصبح الاستغاثات وطلبات
الشفاعة بالنبي المصطفى، أن يفك ضيق القمر، ويريح النفوس، فترق بنات الجنة للقمر،
وينسين بهاءه الطاغي.
١٤ الحور العين هن جواري الجنة، لم يسمع بمثلهن بشر، ولم تر مثل جمالهن أعين.
خلف سبعين ثوبًا شفافًا ترى أديمهن الوردي الأبيض، وترى الدماء وهي تجري في عروقهن الزرقاء.
١٥ وقد يغني الأطفال: حاس حاس … بطلوا خنق القمر … واسمعوا دق النحاس.
١٦ وربما ردَّدوا الكلمات: يا بنات الجنة سيبوا القمر يتهنَّى.
١٧ وتظل جعجعة الصفيح صاخبة مدوية، وأدعية النسوة تتعالى:
يا لطيف الطف بنا
نحن عبيدك كلنا
يا لطيف الطف بنا
نحن عبيدك كلنا
ثم يبدأ الخسوف ينقشع، فتطمئن القلوب، وتتعالى الزغاريد والأدعية الشاكرة.
١٨ وعمومًا، فإن الأصوات لا تسكت حتى تنسحب الدماء الحمراء عن وجه القمر.
١٩ ولو أن بنات الحور رفضن إرخاء قبضاتهن عن القمر، فإن نتيجة ذلك أنه يختنق
ويموت، وتحل نهاية العالم.
٢٠ كان الصبية يتوهمون أنهم — بالطرقات العالية — يزيلون خسوف القمر، ولو
علموا — والقول للفنان — أنها قوانين ومعادلات محسوبة ومرصودة، منذ بدء الخليقة، وأن
زوال الخسوف عن القمر مرهون بخروجه من مخروط الظل.
٢١
•••
والقمر — في تصور الإنسان — مرتبط بالطمث عند المرأة، وبالتحول من مرحلة الطفولة
إلى
مرحلة المراهقة، وبالحب والشهوة وتوقد الرغبة الجنسية. وهو يبين عن ذلك كله في الطقوس
والمراسيم والتقاليد التي يستقبل بها اكتمال القمر، ويستقبل بها خسوفه. ومن يطيل القعود
في نور القمر، تصيبه لطشة القمر، فيطير عقله، ويصير ملحوسًا.
٢٢ ويتوجس الناس في الصعيد من سطوة البدر في كمال نوره «عين الجمر في تمامه
تفلج الحجر.»
٢٣ وأما إيمان أبناء الريف ببعض الأشجار، فمردُّه إلى عباداتهم القديمة لأنواعٍ
مختلفة من الأشجار، مثل الجميز والسنط والنخيل. وكان الفراعنة يعتقدون أن الآلهة هاتور
أو توت، قد حبلت فيها. إن الشجرة جماد غير متحرك، لا ينطق، ولا تبدو عليه حياة ظاهرة،
لكنه يهَب الحياة، يهب الثمار والظل والفوائد العديدة، ومن ثَم فقد رمز المصريون للإله
أوزوريس — رمز الموت، ثم الحياة — بشجرة في بعض الأحيان. وكانوا يعتقدون في شجرة جميز
بالصحراء، يسكنها ثالوث من المعبودات، وتأوي إليه أرواح الناس بعد الموت. وظلت هذه
الخرافة باقية بين العامة من خرافات المصريين، وظلت النظرة إلى شجر الجميز يخالطها
الوقار الديني.
٢٤ بل إن البعض يؤمن بأن الأشياء — والنباتات من بينها — لها أرواح.
٢٥ وهم يؤمنون أنَّ لكل مكان ثعبانًا يحرسه.
٢٦ وأن الكلب إذا عوى، مات واحد من أهل الدار.
٢٧ فإذا تواصل نباح الكلاب، فمعنى ذلك أن الصباح سيشهد ميتًا.
٢٨ أما كأكأة الغراب فهي تنبِّئ بالفراق وتشتُّت الأسرة.
٢٩ ويؤمنون أن الخفاش إذا أنشب أظافره في وجه إنسان لا يفلته إلا الطبل البلدي.
٣٠ وأن الخفاش الأعمى يفقأ عين الإنسان وهو يحوم في الظلام،
٣١ وصوت البومة (أم قويق في التسمية الشعبية) نذير خراب، وقرب هبوط ملك الموت
إلى الأرض، لا يعود للسماء إلا وفي جعبته روح إنسان.
٣٢
•••
فماذا عن الملائكة؟
الملائكة جمع ملاك، وقد ورد في «القاموس المحيط» أن المَلَك (الملاك) لأنه يبلِّغ
عن الله
تعالى، ووزنه مفعل. وفي الجامع لأحكام القرآن: الملائكة وإحداها ملك. والملائكة أجسام
نورانية، لهم أجنحة بيضاء وأشكال جميلة، ويحبون السلام والخير والرحمة،
٣٣ وإن امتلكوا قدرة على التشكُّل والظهور بأشكال مختلفة، وهم يطيعون الله
تعالى. لا يجوز وصفهم بذكورة ولا أنوثة مطلقًا، منبثُّون في السموات والأرض، مَن أنكر
وجودهم فقد كفر، لأن وجودهم ثابت في الكتاب والسنة والإجماع، لا يعلم عددهم إلا الله.
يأتي في مقدمتهم جبريل عليه السلام، الروح الأمين، سفير الله إلى رسله وأنبيائه، فلم
يُبعَث رسول إلا وكان الوحي إليه بواسطة جبريل. له أجنحة ستة، يتكوَّن كلٌّ منها من مائة
جناح. فضلًا عن جناحين إضافيَّين يستعملهما في اقتلاع المدن والبلدان. ثم يأتي الحفظة،
وهم الذين يتعاقبون على الإنسان لحراسته، حرس بالليل وحرس بالنهار، ويحفظونه من المضار،
ويراقبون أحواله. كما يتعاقب عليه آخرون منهم لحفظ أعماله، وتقييدها من خير أو شر،
ويحفظونه بأمر الله. ثم يأتي «الكرام الكاتبون»، وهم الذين يترصدون الإنسان عن يمينه
وعن شماله، يحصُون حسناته وسيئاته. كل امرئ يجلس على كتفَيه مَلَكان: ملك الحسنات وملك
السيئات، لكن أحدًا لا يراهما، وهذه — كما يقول الجد — «حكمة الله، فهما في شغلهما ليس
لهما دعوة بالبشر، يكتبون كل ما يفعله أو يقوله المرء بلا زيادة ولا نقصان.»
٣٤ أما مَلَك الموت، فهو الموكَّل — وأعوانه — ببث الروح في الجنين، وقبضها حين
يحين الأجل. وقد جاء في بعض الآثار تسمية عزرائيل، له أربعة أوجه، أحدها في رأسه،
والثاني في صدره، والثالث في ظهره، والرابع في قدمه، فيظهر بوجه رأسه للملائكة
والأنبياء والأولياء، وبوجه صدره للمؤمنين، وبوجه ظهره للمشركين، وبالوجه الموجود بين
قدميه للأبالسة والشياطين. وثمة ملائكة آخرون مثل إسرافيل الذي تُعَد وظيفته الرئيسة
—
بالإضافة إلى وظائفه الأخرى — انتظار أمر الله لإنهاء العالم في أية لحظة، فينفخ في
الصور نفخة واحدة، لتقع الواقعة، وميكائيل الموكَّل بطعام الإنسان وشرابه، وأيضًا غذاء
العقول وما تحتاج إليه من علم ومعرفة، وهو المسيطر على جميع العناصر الموجودة فوق
الأرض، أو في البحار. ومنكر ونكير الموكَّلان بسؤال الميت في القبر، ورضوان خازن الجنة،
ومالك خازن النيران. فضلًا عن المبشِّرين للمؤمنين عند وفاتهم، وفي يوم القيامة. وهناك
أيضًا الملائكة حملة العروش «الذين يحملون العرش ومن حوله، يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون
به
ويستغفرون للذين آمنوا.» والاحتفال بسبوع — أو أسبوع — الطفل مردُّه إلى المعتقَد الشعبي
بأن الملائكة تحرس الطفل سبعة أيام، ثم تتركه إلى غيره، وطقوس السبوع لحماية الطفل من
أذى الجن الذي يتحين لحظة انصراف الملائكة.
٣٥
الملائكة — في المعتقَد الشعبي — تسكن السماء، أما الشياطين والجان والعفاريت والمردة
والغيلان وغيرها فهي تسكن باطن الأرض، بينما يحيا البشر على سطح الأرض.
٣٦ لكل إنسان شيطانه الذي يوسوس له بالشر، وملاكه الذي يدعوه إلى الخير،
ومَلَكان رقيبان عليه، يكتبان كل ما يقوله أو يفعله. أحدهما يكتب الخير، والآخر يكتب
الشر، اسمهما رقيب وعتيد، وملكان آخران يحفظانه، اسمهما حافظ وحفيظ، ويقال إن الملكين
الرقيبين يقيمان بين أسنان الإنسان.
٣٧
•••
ثمة اجتهاد ديني، يذهب إلى أن الأرض كانت مسكونة بنوع من المخلوقات العاقلة المكلفة
قبل آدم، وأنهم أفسدوا فيها، وأسخطوا الله، فنفاهم منها إلى الأماكن القاصية الخربة،
أو
استأصل شأفتهم جملة، وعمَّرها بآدم وذريته، واستخلفهم فيها.
٣٨ مخلوقات العالم الأخرى تشبه البشر في كل طرق حياتها، بل إنها تتزاوج —
أحيانًا — مع بني الإنسان، لكنها لا تتخذ — في الأغلب — سِمة البشر، بل تتخذ أشكالًا
مختلفة، مثل الثعابين والعقارب والأسود والذئاب والقطط. وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: نوع
يسكن الأرض، وآخر يسكن البحر، ونوع ثالث يسكن الهواء. وتلك الأنواع الثلاثة إما ملائكة
خُلِقت من النور، أو حينًا خُلقت من النار، أو شياطين هي — في الأصل — من الجن العاصين.
أو
أنها — كما يصفها الفنان — بيض مسالمون، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، وسود عيونهم نار، ولأنفاسهم تأثير الصهد المحرِق.
٣٩ وبالتحديد، فإن العفاريت كلها شريرة، مثلها مثل الغيلان، والمردة شر أنواع العفاريت.
٤٠ لذلك فإن لكل طفل «بعبعًا» يخيفه الأهل به «حتى يرتدع ويزدجر.» ومِن الأسماء
التي نخيف بها الطفل: أم الغولة، أم الشعور، أم بزاز حديد، أبو رجل مسلوخة، أبو فروة.
والملاحَظ أن النساء أقدر على رؤية الجن والعفاريت من الرجال،
٤١ أو أن الاعتقاد في الجن والعفاريت — في المجتمع المصري — أكثر انتشارًا بين
النساء، منه بين الرجال؛ ذلك لأن الظروف التي تعيش فيها المرأة تحرمها من حقها في
التعبير عن نفسها، وعن حاجاتها الإنسانية الطبيعية، فتلجأ من ثَم إلى عالم ما وراء
الطبيعة — والجان والعفاريت تحديدًا — لحل مشكلاتها.
٤٢
وللجن سطوة وتأثير غلَّاب في عالم المجهول. إذا سخَّف أحد فكرة وجود العفاريت، ووجه
بالقول: «يا ابني استغفر الله، ده الجن مذكور في القرآن.»
٤٣ لقد «خلقهم الله تعالى قبل الإنس، وكانوا في الأرض يمرحون فيها، فاغتروا
بقوتهم، فأرسل الله عليهم جندًا من جنود السماء قضوا عليهم. فلما خلق الله آدم خافت
الملائكة أن يكون شأن بني آدم شأن الجن من المفسدين، لأن الإنس والجن مركب فيهما
الشهوات، فيجوز منهما الإفساد، فلما أمرهم الله بالسجود أطاع الملائكة أمر ربهم،
فسجدوا، واهتدوا، وعصى إبليس، فكان من المنظرين، وأخذ جنوده وبَنوه يفسدون في الأرض،
ويوسوسون في صدور الناس، ويبعدونهم عن ذكر الله.»
٤٤ ويقول البطل في رواية «عايدة» إن «الجن أُطلق عليهم هذا الاسم لأنهم يختفون عن
أعين البشر.»
٤٥ ويحدد عبد الحميد يونس علاقة الجن بالبشر في سبعة تصنيفات هي: الجن يعين
البشر … الجن يلحق الأذى بالبشر … الجن يخطف آحادًا من البشر لأغراض خاصة … استبدال
الجن بواحد من البشر … زيارة أفراد من البشر أرض الجن … عاشقة من الجن لواحد من البشر.
وكما يقول الفنان فالجان نوعان: بيض، مسالمون، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر، وسودٌ، عيونهم نار ولأنفاسهم أوار.
٤٦ وثمة عشرات الصور التي تُعَد تجسيدًا لتلك المعتقدات الأسطورية، تأكيدًا لقول
إدوار لين «ليس بين الشعوب العربية شعب أشد إيمانًا بالخرافات من المصريين، وأظهر هذه
الخرافات جميعًا هو الإيمان بالجن والعفاريت.» وحواديت الحجرات — بداية — ترتبط بقصص
الأسفار والملوك والجنيات والقصور المسحورة واللصوص والحوريات الجميلات المعذبات،
والغيلان، والمخلوقات التي نصفها سمك ونصفها إنسان، وست الحسن، والشاطر حسن.
٤٧ وعلى الرغم من أن حواديت الأمهات والجدات — قبل أن يخلد الأطفال إلى النوم
— تترك تأثيراتٍ بالغة في نفسية الطفل، فإن غالبية تلك الحواديت تنبض بالعفاريت والجان
والمردة. إن غالبية الأطفال المصريين هم الراوي في «قصة حياة» للمازني، حين كانت تجرُّه
أمه
من يده بالرغم منه، وترقده على السرير، وتغطِّيه باللحاف وهي تحدِّثه عن العفاريت، وتصِف
له ما يصيب الأطفال الذين لا يسمعون الكلام، ولا يفعلون ما يؤمرون. وتروي له قصصًا يقف
لها شعر الرأس ويتقبَّض الجلد عن «أبو رجل مسلوخة» وغيره، فيتضاءل، ويدخل بعضه في بعض،
ويطلب منها ألَّا تتركه حتى يغلبه النوم، فإذا نام راح يحلم بالعفاريت والأمساخ والليل
والحشرات.
٤٨
تقول الموسوعة الإسلامية العربية الميسرة: «الغول حيوان خرافي، اعتقد فيه العرب
الجاهلون، وهو عندهم من الخوارق. ورُوي أن بعض الآدميين تزوج من إناث الغيلان. ومما يشير
إلى وجود علاقة بين هذا الحيوان الخرافي وبين الأساطير والديانات القديمة، ما يُروى عن
علاقته ببعض الظواهر الطبيعية كالبرق والرعد. والمشهور أن الغول يهلك بضربة واحدة من
السيف، فإذا ضُرب الثانية عاش.
وأول الواجبات — بعد ولادة الطفل مباشرة — أن يصيح أحد الرجال بالأذان وبالإقامة
في
أذنه اليمنى، حتى يدفع عنه شر الجن.
٤٩
– وحين تظهر بقع زرقاء في مواضع من الجسد، فإن ذلك قد يكون من فعل الجان.
٥٠
وتحيا العفاريت — في أثناء النهار — تحت الأرض. فإذا أقبل الليل، وأُطفئت الأنوار،
صعدت العفاريت من تحت الأرض، وملأت الفضاء حركة واضطرابًا وتهامسًا وصياحًا.
٥١ إنها تبدأ حياتها في العالم السفلي — في الأغلب — عند قدوم الليل. الليل هو
مملكة الجن،
٥٢ ذلك لأنه في الليل تموت الأشياء، وتفرض روح الصمت سيطرتها. وقد عانت أمينة
طويلًا من دنيا الليل الحافلة بالأرواح والأشباح، «ولكي يطمئن قلبها اعتادت أن تطوف
بالحجرات، مصطحبة خادمتها، مادَّة يدها بالمصباح أمامها، فتلقي في أركانها نظرات متفحصة
خائفة، ثم تغلقها بإحكام، واحدة بعد أخرى، مبتدئة بالطابق الأعلى، وهي تتلو ما تحفظ من
سور القرآن دفعًا للشياطين، ثم تنتهي أخيرًا إلى حجرتها، فتغلق بابها وتندس في الفراش
ولسانها لا يمسك عن التلاوة حتى يغلبها النوم. ولشد ما كانت تخاف الليل في عهدها الأول
بهذا البيت، فلم يغِب عنها، هي التي عرفت عن عالم الجن أضعاف ما تعرف عن عالم الإنس،
أنها
لا تعيش وحدها في البيت الكبير، وأن الشياطين لا يمكن أن تضل طويلًا عن هذه
الحجرات القديمة الواسعة الخالية، ولعلها آوت إليها قبل أن تُحمَل هي إلى البيت، بل قبل
أن ترى نور الدنيا، فكم دبَّ إلى أذنيها من همساتهم، وكم استيقظت على لفحات من أنفاسهم،
وما من مغيث إلا أن تتلو الفاتحة والصمدية، أو أن تهرع إلى المشربية، فتمد بصرها
الزائغ من ثقوبها إلى أنوار العربات والمقاهي، وترهف السمع لالتقاط ضحكة أو سعلة تسترد
بها أنفاسها. ثم جاء الأبناء تباعًا، ولكنهم كانوا أول عهدهم بالدنيا لحمًا طريًّا لا
يبدِّد خوفًا ولا يطمئن جانبًا، وعلى العكس ضاعف من خوفها بما أثار في نفسها المتهافتة
من إشفاق عليهم وجزع أن يمسهم سوء، فكانت تحويهم بذراعيها، وتغمرهم بأنفاس العطف،
وتحيطهم في اليقظة والمنام بدرعٍ من السور والأحجبة والرُّقى والتعاويذ. أما الطمأنينة
الحقة فلم تكن لتذوقها حتى يعود الغائب من شهرته. ولم يكن غريبًا — وهي منفردة بطفلها
تنوِّمه وتلاطفه — أن تضمَّه إلى صدرها فجأة، ثم تتنصَّت في وجلٍ وانزعاج، ثم يعلو صوتها
هاتفة
وكأنها تخاطب شخصًا حاضرًا: ابعد عنا، ليس هذا مقامك، نحن قوم مسلمون موحدون. ثم تتلو
الصمدية في عجلة ولهوجة. وعندما طالت بها معاشرة الأرواح بتقدُّم الزمن، تخفَّفت من مخاوفها
كثيرًا، واطمأنت لدرجة إلى دعاباتهم التي لم تجرَّ عليها سوءًا قطُّ، فكانت إذا ترامى
إليها حس طائف منهم قالت له في نبرات لا تخلو من دالة: «ألا تحترم عباد الرحمن! الله
بيننا وبينك فاذهب عنا مكرَّمًا.»
٥٣ وفضلًا عن ذلك، فقد كانت أمينة ترفض أن يتردد اسم الجن في جنبات الدار، حتى
لو جاء ذلك في آيات القرآن الكريم التي كان يستذكرها الصغير كمال، فهو ينظر في الكتاب
ويقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا حتى أتم السورة، «ولاح في عيني الأم التردد والحيرة؛
إذ كانت تحذِّره من التفوُّه باسمَي العفريت والجن درءًا لشرورٍ تذكر بعضها على سبيل
التخويف، وتمسك عن البعض إشفاقًا ومبالغة في الحيطة، فلم تدرِ كيف تتصرف وهو يتلو أحد
الاسمين الخطيرين في سورة شريفة، بل لم تدر كيف تحُول بينه وبين حفظها، أو ماذا تفعل
لو
دعاها — كالمعتاد — إلى حفظها معه. وقرأ الغلام في وجهها هذه الحيرة، فداخلها سرور ماكر،
وجعل يبدأ ويعيد، ضاغطًا على مخارج الاسم الخطير وهو يلحظ حيرتها، متوقعًا أن تفصح
أخيرًا عن إشفاقها في لون من ألوان الاعتذار، ولكنها على شديد حيرتها لاذت بالصمت. فمضى
يعيد عليها التفسير كما سمعه، حتى قال: ها أنت ترين أن من الجن من استمع إلى القرآن وآمن
به، فلعل سكان بيتنا من هؤلاء الجن المسلمين، وإلا ما أبقوا علينا طوال هذا العمر.
فقالت المرأة في شيء من الضيق: لعلهم … ولكن من الجائز أن يكون بينهم غيرهم، فيحسن بنا
ألَّا نردد أسماءهم!
– لا خوف من ترديد الاسم … هكذا قال مدرسنا.
فحدجته المرأة بنظرة عتاب، وقالت: المدرس لا يعرف كل شيء!
– وإن كان الاسم ضمن آية شريفة؟
وشعرت حيال تساؤله بقهر، ولكنها لم تجد بدًّا من أن تقول: كلام ربنا بركة كله.
واقتنع كمال بهذا القدر، ثم واصل حديثه عن التفسير قائلًا: ويقول شيخنا أيضًا إن
أجسامهم من نار!
وبلغ بها القلق غايته، فاستعاذت بالله وبسملت عدة مرات، أما كمال فاستطرد قائلًا:
وسألت الشيخ هل يدخل المسلمون منهم الجنة، فقال: نعم. فسألته مرة أخرى: كيف يدخلونها
بأجسام من نار، فأجابني بحدَّة أن الله قادر على كل شيء.
– جلَّت قدرته.
فرَنا إليها باهتمام، ثم تساءل: وإذا التقينا بهم في الجنة، ألا تحرقنا نارهم؟!
فابتسمت المرأة وقالت في ثقة وإيمان: ليس فيها أذًى أو خوف.»
٥٤
وثمة صورة طريفة لعلاقة البشر بذلك العالم المجهول من الجان والمردة والعفاريت
والغيلان يعرض لها الفنان في «دعاء الكروان» التي تُعَد تعبيرًا عن المجتمع المصري في
أواخر
القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومجتمع الصعيد بصفة خاصة: «… الأغوال وقد
تفرقوا على الطريق يعترضون المار حين يمر بهم، وقد انقطعت به السبيل، فإذا هم يضمرون
له
الهول كل الهول، ويسرون له البغض كل البغض، وإذا هم لا يكادون يتنسمون ريحه وقد أقبل
من
بعيد، حتى يتحلَّب ريقهم قرمًا إلى لحمه وعظمه، وحتى تضطرم في أجوافهم غلَّة لا يرويها
إلا دمه، وهو يبلغهم خائفًا وجلًا قد ملأ الجزع قلبه، وفرَّق الهلع نفسه، فإن كان قد
حفظ الوصية ووعى النصيحة واستعد للقاء الغول، ابتدره بالسلام فقلَّم أظفاره واضطره إلى
السلم والموادعة، وإن لم يكن قد حفظ ولا وعى ولا هيَّأ نفسه للقاء الخطوب مرَّ بالغول
فالتقمه التقامًا والتهمه التهامًا، وقطع الوسائل بينه وبين من ترك وراءه، ومن كان يمضي
للقائهم أمامه.»
٥٥
وتحيا العفاريت والأشباح في الطواحين والخرائب والسواقي.
٥٦ ويتحدث الراوي (الأرض) عن الجنيَّة التي تخرج في الليل، وتجلس على الجسر في
شكل امرأة فلاحة بيضاء طويلة الشعر، إلى جوار بلَّاص مليء بالماء، وتنادي على من يمر
على
الجسر ليساعدها في رفع البلاص، فإذا ذهب إليها إنسان، جذبته إلى الموج الساكن، المظلم،
إلى حيث لا يسمع عنه أحد بعدُ شيئًا.
٥٧ وروت أم حنفي — بصدقٍ وبساطة — كيف أنها رأت العفاريت رؤية العين، يدخلون
ويخرجون من البئر في صحن الدار، وانتظرت المرأتان — أم حنفي وأمينة — حتى دخلوا، ثم
ألقيتا الغطاء الخشبي على فُوهة البئر، وأثقلتاه بالحجارة.
٥٨ ولما طال إغلاق الطاحونة في داخل البيت بالمغربلين، استوطنها نفر من الجن
بين ذكر وأنثى، ولهم صبية صغار، يخرجون إلى صحن البيت، يطقطقون بأقدامهم ذوات الحوافر.
٥٩ وحين اختفى العجوز، خمَّن الصغار أن الجِنيَّة السمراء التي يخاويها قد أخذته
إلى قاع البئر، وأنامته عندها في الدهليز المتفرع من قبوٍ أسفل البئر.
٦٠ وذات يوم، طلع للصبي عفريت في سكة مقطوعة، تخاف الذئاب من المشي فيها. جعل
من نفسه امرأة جميلة بيضاء، شعرها الطويل محلول على كتفيها. لما نادت عليه باسمه، عرف
أنها عفريت، وأنه لو اقترب منها ستقتله. ظل يقرأ عليها القرآن حتى احترقت، وصارت كومًا
من رماد.
٦١ وقد تطلع العفاريت في عز الظهر، فتُسمَّى عفاريت القيالة.
٦٢ وكان رأي الشيخ أن عفاريت الليل قد تخرج لتشم الهواء، أما عفاريت الظهر/القيالة فهي
لا تخرج إلا للشر.
٦٣ وثمة حكايات عن شياطين النخل، الذين يتصارعون ويلهون بين نخلة وأخرى،
ويقذفون بالبلح وهم يضربون بعضهم بعضًا.
٦٤ وثمة من يؤمن أن العفاريت من نار، فهي لا تخاف إلا النار.
٦٥
ولأن المنجِّمة تجيد تسخير الجن في قضاء ما يستعصي عليها من الواجبات، فهي تلجأ إلى
ما تعلمه حين تضيق المرأة بالزوج الذي يخونها، أو يؤثِر عليها ضَرتها؛ تسلط المنجمة على
الزوج عفريتًا من الجن يصدُّه عن خليلته، أو عن زوجته.
٦٦
وربما سكن الشيطان جسد المرأة، فيصيبها بخبال.
٦٧ وعندما تنتاب أحدًا حالة عصبية، فلا بد أن العفاريت قد ركبته، وبالتالي يجب
ترضيتها: يوضع البخور فوق موقد السبرتو ليطرد تلك العفاريت أو الأرواح الشريرة. فإذا
لم
يحدث ذلك، لا بد أن يأتوا بمؤذن يكبِّر في أذن المريض. فإذا لم تظهر نتيجة، لا بد أن
تُقام
للمريض حفلة زار، مفعولها أكيد في طرد العفاريت والأرواح الشريرة (وللزار جانبه الآخر
الذي ينتمي إلى الطب الشعبي، مثل العلاج بالأعشاب وبالكي والعلاج بالرقية … إلخ.)
الأمر نفسه بالنسبة للمرض المزمن؛ إنه يعود — في الغالب — إلى تقمص بعض الأرواح
الشريرة لجسد المريض، فيُسمَّى المريض «ملبوسًا».
٦٨ وقد حاولت عائشة (زقاق السيد البلطي) — بكل الوسائل — أن تضفي على جسدها
الهزيل بعض السمنة: محوج وحلبة ووصفات ربت اللحم على أكتاف الكثيرات، لكن جسدها ظل على
حاله. قالت لها أمها إنه شيطان سكن جسدها وامتص دماءها، وحال بينها وبين الزواج، لذلك
فلا بد من أن تقام حفلة زار حتى تطرد الأرواح الشريرة. وعلى الرغم من أن مشكلة الزوجة
كانت في إقبال الزوج على المال، إلى حد إهمال المرض الذي تهددها بالموت، فقد عالجت
نفسها بالزار حتى تتخلص من الأسياد الذين يسكنون معها في البيت القديم.
٦٩
وتروي أم رضوان (شجرة البؤس) أنها كانت تخبز لجارة لها ذات مساء، فإذا امرأة من أهل
القرية تدخل عليهن، تزعم أنها خرجت مع صاحباتها يملأن الجرار، فرأين خلال الظلام نساء
يلطمن الوجوه وهن يتغنين كالنادبات:
يا ساريات في السحر،
يسعين في ضوء القمر،
إذا بدا الصبح الأغر،
فقلن: يا نشر الزهر،
إن أبا يحيى عمر، أصابه سهم القدر،
فهو صريع مقتدر،
هل لك فيه من وطر؟
ولم تكد المرأة تتم حديثها، حتى ثارت إحدى الجالسات مولولة، فنفضت
شعرها، ومزَّقت ثيابها، وراحت تلطم وجهها، وتضرب صدرها، وقالت — بعد أن ثابت إلى رشدها:
أنا نشر الزهر، وعمر أبو يحيى هو أخي. أقر أن تحيتي على زوجي، واستوصين بعثمان خيرًا،
فلا بد أن أرى أخي قبل أن يموت، وما أراني أدركه. ولعلِّي أعود إليكن، وإلى زوجي وابني
إذا انقضت أعوام العزاء، فالعزاء عندنا لا يكون في الأيام ولا في الأشهر، وإنما يكون
في
الأعوام الطوال. قالت أم رضوان: وكدنا نظن بصاحبتنا الجنون، ولكن ما راعنا إلا أن
رأيناها تقذف بنفسها في التنور. كانت جِنيَّة تمثَّلت للرجل امرأة فتزوجها، وولدت له
ابنه
عثمان. ثم جاءها النبأ أن أخاها يحتضر، فأسرعت للقائه قبل أن يموت. واختارت طريقًا
قريبًا هو التنور ساعة اشتعاله؛ والجنيات يألفن التنور. فإذا أرادت امرأة أن تحمى التنور،
عليها أن تذكر اسم الله أولًا، لأن ذلك يطرد الشياطين.
٧٠
وكان عفريت الجدة اسمه سرور، عفريت صغير من السودان، أسرف في تقمص الجدة وزيارتها،
ثم — احترامًا لوقار شيخوختها — لم يعُد يقدِم على ذلك إلا نادرًا، وفي المنام. ومع
إشارة الفنان إلى أن التعامل مع العفاريت والأشباح مبعثه العقول المريضة، فقد تحققت
تمامًا الصورة التي بعثها في زيارته للجدة، شمعة بعثت نورها في المكان، ثم ما لبثت أن
ذابت وتلاشت في سرعة غريبة.
٧١
وحين ترامى إلى أذن شوشو وقع حوافر الماعز صاعدة نازلة على السلم، وعبثها في
المطبخ، صرخت وعادت — تعدو — إلى غرفتها، لكن زوجها أبى أن يصدِّق سبب فزعها، وفي الصباح،
وجدا كل الأطباق التي كانت في المطبخ مكسرة، وثلاثة من الأغنام ميتة، فتأكدت أن تخمينها
هو الأصح.
٧٢ وثمة رواية، عن رجل اخترق حارة مسكونة بالعفاريت، ولم يكد يقطع فيها
أمتارًا حتى شعر بحركة خلفه، وبلغ أذنه وقع حوافر ماعز كثيرة تضرب الأرض خلفه، فالتفت
مذعورًا، ليرى أشباحًا كثيرة تطارده، فعدا وعَدَت الأشباح وراءه، حتى لمح شيخًا متدثرًا
في ثيابه، فارتمى بجواره، وراح يقص عليه ما حدث قائلًا: عَدَت خلفي عفاريت لها أرجل كأرجل
المعيز. فمد الشيخ يده في هدوء، ورفع ثيابه عن ساقيه وقال: مثل هذه؟ ونظر الرجل، فإذا
للشيخ ساقان غزيرتا الشعر، فهبَّ من جانبه، واستأنف عدوه.
٧٣ والعادة أن الحمارة العفريتة تغري الرجل حتى يمتطيها، ثم تطول به ساقاها
حتى يصبح بين السماء والأرض؛ تقذف به، فيتمزق وتتناثر أشلاؤه.
٧٤
وكانت أيدي سائقي السيارات تتجمد على عجلة القيادة عندما كانوا يسمعون صوتها، تلك
الجِنيَّة ذات العين الفسفورية التي تجلس جنب السبيل، تحت شجرة ورقاء مظلمة، وعلى يمينها
طفلة، وعلى يسارها قفة.
٧٥
وثمة صبي التقى برجلٍ في الطريق، ومشى الرجل إلى جواره خطوات، ثم توقف فجأة، وكشف
عن
ساقيه، وكانتا ساقي ماعز؛ وحدق الصبي في الساقين، وصرخت عيناه بالرعب وجرى.
٧٦
وفي جلستهما على الكوبري الحديدي، قالت لولو لصفوت أفندي: تعرف إن خالي الجمعة اللي
فاتت وهو راجع زي دلوقتي لوحده، طلعت له واحدة من تحت الكوبري. قاطعها صفوت أفندي بخوف:
كانت بتعمل إيه تحت الكوبري زي دلوقت؟ قالت: استني ما احكي لك … وقالت له: والنبي يا
بو
إبراهيم تعال شيِّلني القفة دي. قال: قفة إيه يا ولية؟ قالت له: أصل أنا كنت بألم شوية
حشيش وراحت عليه نومة تحت الكوبري ولسه صاحية. كل ده وهي عمالة تقرب منه. بص في عينيها
لقاهم مشقوقين بالطول وحمر زي النار … «سرت القشعريرة في جسد صفوت أفندي، والتصق بخوف
بلولو، وتلفَّت حوله، وصعقته حفنة من الهواء من الخلف، فقفز إلى أسفل مذعورًا. قالت له:
إيه … نزلت ليه؟ إنت خفت؟!
– وبعدين عمل إيه؟
– ربنا ستر؛ كان معاه المسدس، راح مطلَّعه وهات يا ضرب.
– وكانت جنِّية بحق وحقيق.
– آه … طبعًا … دا الكل عارفينها … ويا ما بتطلع هنا للناس اللي بيفوتوا على الكوبري
ده بالليل أو في عز الضهر.
٧٧
وعلى الرغم من أن الخفير عبد المطلب كان لا يخشى اللصوص وقطَّاع الطرق، إلا أن أول
ما
فكر فيه — لحظة أن رأى الجنين الحديث الولادة على جانب من الجسر — أن يطلق ساقيه للريح،
ويجري، فقد تأكد أن أمامه عفريت ابن جنِّية.
٧٨
وكان الخادم أحمد (إبراهيم الكاتب) عائدًا — ذات ليلة — على حماره من المحطة،
وعندما اقترب من البيت، وقف الحمار فجأة، ونشر أذنيه وأدار رأسه. ونظر أحمد، فإذا
الطريق قد سدتها مارد، فأسعفه لسانه بكلمات من القرآن الكريم، نجا بها من الخطر المؤكد.
٧٩
وكان جعفر الراوي (قلب الليل) يلاعب الليمون — ذات مساء — في صينية القلل، على حافة
النافذة، عندما فوجئ برأس كائن يتطلع إليه من موضع في مستوى النافذة من الطريق، عيناه
تضيئان في الظلام، وقدماه منغرستان في الأرض، فتراجع الراوي خائفًا وهو يشق سكون الليل
بصرخة داوية.
٨٠ وثمة رجل سافر إلى القاهرة ليسلِّم أحد الوزراء رسالة من العمدة، وكان ينوي
أن يقطع المسافة بين القرية والقاهرة سيرًا على الأقدام حتى يوفِّر أجرة القطار، لكنه
صادف حمارًا لا صاحب له، فركبه. وكان هذا الحمار جنيًّا من العالم السفلي، وكان الرجل
خبيرًا بأسرار ذلك العالم، فعرف كيف يخضع الجن ليحمله إلى القاهرة، ويعود به في أقل من
نصف ساعة.
٨١ وحين اضطر إبراهيم أفندي إلى الخروج ليلًا، طلع عليه بسم الله الرحمن
الرحيم — أي عفريت — عند الساقية. كان قصيرًا ليس أطول من شبر، ثم ظل يرتفع ويرتفع
وتطول قامته، حتى أصبح أطول من النخلة. وعرف إبراهيم أفندي — فيما بعد — أنه كان عليه
أن يقرأ السلام فلا يظهر له العفريت.
٨٢ وقد ظهر عفريت للبنت مرمر وهي في طريقها ليلًا من بيت خالتها شرقي البلد
إلى بيتها غربًا، كان حمارًا، ثم تحوَّل إلى جَدْي، استطالت أرجله، وبمجرد أن قرأت الفاتحة
اختفى.
٨٣
والأنهار من الأماكن التي يفضِّلها الجن للسكنى، وهي مسكونة أيضًا بأرواح القتلى
والغرقى.
٨٤ وتكثر جنيات النهر في أيام الفيضان.
٨٥ وثمة الخرائب والآبار والحمامات والمراحيض والأفران والزوايا المظلمة
والمقابر والخلاء. الداخل إلى الحمام عليه أن يستعيذ بالله من أذاها، وأن يخطو على
عتبته بادئًا بالقدم اليسرى، كما أنه من المحرم عليه أن يصلي أو يقرأ القرآن فيه. وكان
إيمان الخدم أن حمام البيت مسكون بالعفاريت. قالت رحمة لسيدتها — يومًا — إن عفريتًا
خرج لها من الحمام، وناداها باسمها بصوت محشرج خافت. وعدت رحمة على السلم، فتبعها
الصوت: مالك خائفة يا رحمة؟ «ولم ألتفت ورائي من شدة الخوف، وإنما عدوت إليك هنا يا
سيدتي، ولست أعرف أين ذهبت تلك الروح.»
٨٦ ومن يومها، لم يعُد الخدم يدخلون الحمام ليلًا، رغم تهوين أصحاب البيت، وأن
أوهام الخدم هي التي تجسِّد لهم تلك العفاريت، حتى جاءت رحمة ذات ليلة إلى سيدتها تبكي
من الخوف، وتقول: «لقد كذَّبني سيدي وكذَّبتموني كلكم يوم حدَّثتكم عن العفريتة التي
تئن في
الحمام، فتعالي إلى السلم واسمعي بنفسك أنينها.»
٨٧ وفي الصبح، دخل الابن إلى الحمام والجميع من ورائه، فإذا الكلبة عزيزة قد
ولدت ستة أجراء، داخل الحمام المهجور: «لم ينفِ هذا من أذهان الخدم أن الحمَّام مسكون،
وأن الأرواح ترقص وتغني وتنادي وتئن وتعيش فيه عيشة دائمة. ففي النهار يقربونه وينظفونه
ويجلسون فيه، فإذا ما غربت الشمس تركوه للعفاريت تظهر وتفعل فيه ما تريد.»
٨٨ وغالبًا، فإن عفاريت البيت يقيمون في الكرار، فلا يصدر عنهم أذى ما، إنما
هي دعابات مثل خلط المش بالعسل، أو إخفاء السمن لاستعمالهم الشخصي، أو إطفاء المصباح
بيد السائر ليلًا، وربما أسرفوا في مزاحهم فحوَّلوا الأحلام إلى كوابيس.
٨٩ وقد رفضت أم أمينة أن تخلي بيتها، خشية أن تواجه بأحد أمرين: إما أن تسمح
للغرباء بأن يسكنوه، وهو أعز شيء لديها بعد ابنتها وأحفادها، وإما أن تتركه مهجورًا،
فيتحوَّل إلى ملعب للعفاريت بعد أن ظل لعشرات الأعوام مقامًا لزوجها الشيخ حامل كتاب
الله.
٩٠ وكان الأولاد في القرية الواقعة أسفل الجسر يثقون أن بيت الحاجة آمنة
مسكون، وأن العفاريت تطلع منه بالليل دائمًا، على صورة أرانب.
٩١ أما أطفال الحارة القريبة من القبو، فكانوا على يقين أن القبو الذي يعبرونه
في النهار مسكون بالعفاريت، وأنهم يخرجون عقب انتصاف الليل.
٩٢ وقد آمن الناس أن كوبري البغيلي مسكون، يقيم تحت إبطيه — منذ أبد الآبدين —
ثلاثة شياطين وعبدة سوداء وقرد. وروى البعض أنهم رأوا بعيونهم الشياطين يخرجون من تحت
الكوبري ويلعبون الحجلة فوق سطحه.
٩٣ وعندما استحم الولد محمدين في الترعة، مسَّه الجن، فقد كانت مسكونة.
٩٤ وثمة روايات عن الجِنيَّة التي تخرج من النهر ليلًا، وتجلس على الشط، تجدل
شعرها الطويل، ويقع الرجال في حبها.
٩٥ وحكايات مرعبة عن أرواح شريرة تقبع في قاع بحيرة التمساح، ثم تظهر على شكل
تماسيح هائلة تلتهم كل من يقترب،
٩٦ وربما لهذا السبب جاء اسم البحيرة. وللمقابر عفاريتها الذين يظهرون —
أحيانًا — للزائرين، خاصة إذا كان الزائر بمفرده.
٩٧ وأشقى العفاريت وأخبثهم، هم عفاريت المقابر، يحتفلون في ليلة البدر بالتهام
جثة آخر ميت، يقتسمون لحمه وعظمه مثلما يقتسم الآدميون لحم الطير والحيوان.
٩٨
وقد صارح الشيخ عرفة مريديه أن الشيطان إذا دخل المسجد فإنه يكون متخفيًا في جسد
عبدٍ مذنب.
٩٩
والليل هو دنيا المردة، الأرض — في الليل — أرضها، وبيتها.
١٠٠ وهي تختفي مع ظهور الضوء.
١٠١ تهبط تحت الأرض إذا طلعت الشمس، وبعد الغروب، تصعد من تحت الأرض، وتملأ
الفضاء حركة واضطرابًا وتهامسًا وصياحًا.
١٠٢ ومع أن الليل هو مملكة العفاريت، فإنها لا تعرف القيلولة. قد تظهر —
أحيانًا — في عز الظهر، وتُسمَّى عفاريت القيالة. ذلك ما كان يتخوف منه أطفال «الأرض»،
فثمة جنِّية تظهر على النهر بأصابع حمراء في ساعات الظهر لخطف الصغار، فإذا رأت صبيًّا
بمفرده خايلته بأصابعها الحمراء قائلة: تعال كلْ بلح. فإذا لبَّى الطفل دعوتها، غاصت
به
في أعماق النهر.
١٠٣ وقد تصيب عفاريت القيالة بالجنون من يتهجَّم عليها في مكانها داخل عيون
المقابر المهجورة.
١٠٤ وثمة جِنيَّة تطلع كل ليلة على الجسر في شكل امرأة فلاحة بيضاء، طويلة الشعر،
وتنادي المار على الجسر وحيدًا لكي يساعدها على رفع البلاص المليء بالماء، فإذا لبَّى
نداءها غاصت به إلى أعماق النهر.
١٠٥
وربما تلبَّس الأرواح أو الجان أجسام القطط، وتظهر في أشكالها. وكان القط أحد
معبودات مصر القديمة باسم المعبود «ناستت» وقراءة آية الكرسي هي الوسيلة المؤكَّدة
للخلاص من العفاريت وطردها. فإذا لم يقرأ المرء آية الكرسي، فإن العفريت يلحق به، ويركب
فوق كتفيه.
١٠٦ وأحيانًا، تظهر العفاريت في صورة أرانب. يسأل الراوي: هي العفاريت بتنقلب
أرانب؟ إزاي أعرفهم لو طلعوا لي؟ تجيب الخالة أم نبيل: ما بيطلعوش إلا إذا كنت وحدك.
١٠٧ وقد ظهرت العفاريت — ذات ليلة — بعد صلاة عشاء لعم الشيخ جابر قرب الجامع،
وراحت تجري وتنط من حواليه، لكن الرجل بسمل وحوقل وتلا آيات من القرآن، فلم ينله أذًى.
١٠٨ وثمة معتقد لدى الريفيين أن العفاريت لا يظهرون للقادمين من المدينة.
١٠٩
ومن التصرفات التي تضايق الجن، وتعرِّض صاحبها للعقاب، قيام المرء بإلقاء الماء على
الأرض في المساء دون أن يسبقه بالقول: دستور يا أسياد، أو أنه يخبط برجله على الأرض في
المساء أيضًا دون محاذرة، أو أن تتطيَّب المرأة وتتعطر قبل النوم، أو أنها تكرر النظر
إلى
المرآة ليلًا.
١١٠ وعندما تعبِّر المرأة عن شعورها بالدهشة أو المفاجأة، فإنها تهتف: دستور يا أسيادي!
١١١ ومن الجرائم التي يرتكبها المرء في حق نفسه إقدامه على قتل ثعبان أو سحلية.
تقول المرأة: حرام … أكبر حرام … دي مش تعابين، التعابين تروح النار، والسحلية تملا
حنكها ميه، وتبخ في النار علينا، ع العبيد اللي في النار.
١١٢
على أنه إذا كانت الجان والعفاريت والمردة والغيلان، وغيرها من الأنواع الشريرة التي
تسكن العالم المجهول، هي أخشى ما يخشاه الناس، فإن آية الكرسي تُعَد كافية لأن تطرد ذلك
كله مهما يبلغ الخطر. وكلمة «دستور» التي يقولها الشخص حين يلقي على الأرض ماء أو غيره،
مقصود بها استئذان الجني الذي يتصادف وجوده في ذلك المكان. الأمر نفسه حين يدخل المرء
مرحاضًا، أو ينزل نهرًا، أو يلقي دلوًا في بئر، أو يوقد نارًا، ﻓ «دستور» هي الكلمة
التي يجب أن تسبق الفعل حتى لا يؤذيه الجان، وذو الدم «الزفر» يرى العفاريت، ولا يَرهبها.
١١٣
الدعاء الذي يستقبل به المسلمون كل شهر عربي جديد هو: «هل هلالك … شهر مبارك … على
أمة الإسلام.»
١١٤ ليلة النصف من شعبان تُسمَّى «الوسعة»، مَن وسَّع فيها على عباد الله، وسَّع
الله عليه في جنته.
١١٥ واعتقاد البسطاء أن رمضان ملك من الملائكة، إذا أتى بادر إلى سجن العفاريت
في قماقم من النحاس، بحيث تختفي طيلة شهر الصوم، ولا تظهر حتى في تلك الأماكن التي
اعتادت الإقامة فيها، مثل الخرابات ودورات المياه والخلاء. ويقبِل الفلاحون وسكان
الأحياء الشعبية على السهر خارج البيوت، ويمارس الأطفال ألعابهم دون خشية من العفاريت
التي تكون مصفدة. ويغني الأطفال: يا رمضان يا عود كبريت … يا مقيِّد كل العفاريت. شهر
رمضان فرصة طيبة لكي يطوف أهل البيت بالحجرات طوال الليلة الأخيرة، يرشُّون الملح على
الأرض، لأن أشرار الجن يُوضَعون في السجن خلال هذا الشهر، وهم عندما يدخلون حجرة في
المنزل، أو يفتحون شيئًا ما، يحرصون على ترديد البسملة لطرد الجن التي ربما تكون داخل
الحجرة أو الشيء، فلا تعود العفاريت بعد انقضاء الشهر الكريم.
ويسأل الجد حفيده: ماذا تحفظ من القرآن؟
– قل هو الله أحد.
– ألم تحفظ الفاتحة؟
– كلا.
– ولم بدأت بِقُل هو الله أحد؟
– لفائدتها في إخضاع الجن.
١١٦ وحين فاجأ كمال الطبال الشيخ عبد الودود مأذون قرية السلام في أثناء عودته
إلى بيته في المساء المتأخر، وهمس في أذنه أنه عفريت، تصوَّر الرجل أن اللص عفريت
بالفعل، وبدأ في تلاوة آية الكرسي حتى يصرفه.
١١٧ ويقول الرجل لصاحبه: «أنا قرأت لك سورة يس في الفجر، لأن قراءتها في هذا
الوقت لها فوائد لا تُحصى.»
١١٨ وحين شبَّت النار في أحد البيوت، راحت النسوة يرددن: يا نار كوني بردًا
وسلامًا على إبراهيم. دعاء تعلَّمنه من الشيخة ليدفعن بها خطر النار!
١١٩ وكانت العجوز تحرص على التمتمة بآيات من القرآن، فيها — على اعتقادها — سر
قضاء الحاجات.
١٢٠
والمعتقَد الشعبي يرى في رمضان ملِكًا، إذا حلَّ فإنه يقيد العفاريت والجان في قماقم
من
النحاس، بحيث يقضي الناس شهر الصوم في أمن وسلام دون خوف، حتى من الأماكن التي يرتادها
الجان في الأيام العادية. ومن هنا، فإن الناس في القرى يسهرون خارج بيوتهم، وربما قاموا
بزيارات — في الليل المتأخر — للقرى المجاورة. ويغني الأطفال: يا رمضان يا عود كبريت
…
يا مقيِّد كل العفاريت. ولأن العفاريت تظل مقيَّدة في رمضان، فإن أهل القرى يعدُّون
لاستقباله، ويستعدون — في الوقت نفسه — لخروج العفاريت من قماقمها، وأنها تغادر القماقم
عقب صلاة المغرب، في اليوم الأخير من رمضان، فتضل طريقها إلى أماكن ربما لم تدخل إليها
من قبل. ومن هنا يتبدَّى حرص العامة على درء الخطر المتوقع برش الملح في أركان الدُّور،
وفي الحجرات، في حين يجلس الأطفال أمام البيوت يضربون آنية نحاسية بها بعض الملح. فإذا
اقترب العفريت، توهَّم أن هذه الأصوات النحاسية هي القماقم التي سُجِن فيها، فيبتعد عن
البيت حتى لا يُسجَن مرة أخرى. ويغني الأطفال: يا رمضان يا صحن نحاس … يا داير في بلاد
الناس … سقت عليك أبو العباس … تبات عندنا الليلة.
ولاتقاء شر العفاريت يوم شم النسيم، يشق النسوة البصل، ويعلِّقنه على أبواب الدور،
ويأكلون الفول النابت دون غيره من ألوان الطعام.
١٢١
ومع أن الشيخ مسعود لم يكن يعترف بوجود الجان رغم ذكره في القرآن، وإن وُجِد فهو
في
هذا الزمان ينهزم أمام بني آدم، فإنه تحدث عن رفقته لرجل كان يسخِّر الجن، وأن الرجل
أعطاه المفتاح الخاص الذي يستطيع أن يفعل ذلك. وقد استخدم الشيخ المفتاح، فخرجت له جِنيَّة
حسناء، بكت بين يديه، وقالت له إنها تحب صاحبه الذي علَّمه السر، لكنه لا يريد أن
يتزوجها. وبعد أن سمع الشيخ حكايتها ورقَّ لحالها، صرفها، وتحوَّلت دموعها إلى كومات
ملح
صغيرة فوق الأرض.
١٢٢
الإنسان المقتول يتحوَّل إلى عفريت
حين يموت المرء قتيلًا، فإن عفريته يظل في المكان الذي شهد موته، يظهر للناس،
يخيفهم، وربما نالهم بأذى. ذلك ما كان يحدث من عفريت البواب الذي قُتِل في مدخل بيت
كان يحرسه.
١٢٣ الإنسان لا يموت كله، أو لا يفنى، وإذا قُتِل شخص، فإن روحه تظهر في
القيلولة، أو في المساء. في صورة القتيل عند قتله، وتنطق العبارات نفسها التي قالها
وهو يلفظ أنفاسه، ويُسمي الناس هذا الشبح «الصاروخ»، فإذا وقعت جريمة قتل في إحدى
القرى، فإن معنى ذلك زيادة عفاريت القرية واحدًا.
١٢٤
وكان أبو دراع هو الوحيد الذي قبِل وظيفة الحارس الليلي في القرية؛ خاف الكثيرون
من عفريت عم عبده الأسود ذي العيون التسع النارية الذي يحوم حول المقابر، بعد أن
قتل الجن صاحبه في ليلة عاصفة منذ سنوات بعيدة.
١٢٥
وثمة رواية، عن سبع فتيات انهار عليهن جرف في أثناء إقامة أحد البيوت. ويومًا —
بعد بناء البيت — نام الحارس في المطبخ، فجاءت عفاريت الفتيات السبع — فالإنسان بعد
وفاته مقتولًا يصبح واحدًا من سكان العالم المجهول، بل إنه يصبح مصدر رهبة وخوف
وفزع، وله تأثير الجن تمامًا — ولفَّته في الحصير النائم عليه، وأخذت تدحرجه في
الدرج، وهو يصرخ ويستغيث، حتى بلغ الدار، فهب مفزوعًا، وأطلق ساقيه للريح.
وكان ذبح المعلمة صباح بداية أسلوب جديد لحياة أسرة الحاج أسعد اليومية. فبعد
أن كانت سهرات أفرادها خارج البيت تمتد إلى ما بعد غروب الشمس، أصبحوا يخشون الرجوع
في الظلام، حتى لا يطلع لهم عفريت المعلمة صباح. وطغت حكايات المردة والعفاريت على
أحاديثهم في جلسات ما بعد العشاء. يقول الحاج أسعد: إني لا أخشاها أبدًا، وقد وقعت
لي معها حوادث كثيرة، ولم تصبني بسوء. في ليلة حالكة الظلام كنت عائدًا إلى البيت،
فرأيت طفلًا صغيرًا يبكي وينتحب، فاقتربت منه، وربت على كتفه، وسألته لِمَ يبكي،
فأخبرني أنه خرج من بيتهم في العصر، فدهمه الليل ولم يعُد يعرف كيف يعود، فطيبت
خاطره، وقلت له إني سأصحبه إلى منزله، وأخذت يده في يدي وسرنا. ولم أشعر إلا
والطفل ينمو في يدي، ثم أخذ يعلو ويعلو حتى أصبح طول المئذنة، فعلمت أني التقيت
بمارد، فقرأت آية الكرسي، فاختفى في الحال. وتسأله زكية: أو لم تخف يا جدِّي؟ فيجيب في
ثقة وثبات: والله لم تختلج فيَّ شعرة. ثم تروي نفيسة هي الأخرى ما تعرفه عن
العفاريت. ويضيف أحد أفراد الأسرة حكاية ثالثة، وتقول زكية في صوت خائف: بالله
أخفوا هذه السيرة.
١٢٦ أن أحدًا من أفراد الأسرة لم يجرؤ على أن يطل من النافذة التي تشرف على
بيت صباح، مخافة أن يظهر له عفريت المعلمة. بل إن ذلك العفريت أصبح محورًا لأحاديث
أفراد الأسرة — خاصة بعد أن حرص الرجال على العودة مبكرين خوفًا من ملاقاته في
أثناء العودة ليلًا — فتقول واحدة: أسمعتم ذلك الصوت الخفيض الذي كان يعكر سكون
الليل البارحة؟ إني سمعته وميزته … كان صوت صباح. فتؤمِّن أخرى على قولها وتضيف:
وسمعتها تولول وتقول: لم ذبحتني يا شتا؟ وما أخذت يا شتا؟ قبضوا عليك وسجنوك،
فقمت إلى النافذة أنظر، فرأيت شبح امرأة محلولة الشعر، تجري في الحارة، وتقف عند
باب المسمط، ثم تعود تجري وتولول.
١٢٧
وقد عانى وابور الطحين في إحدى القرى، بعد أن سرت إشاعة بأن الفتاة التي عُثر
على جثتها في الترعة، خنقها أهلها في الوابور، ثم ألقوا جثتها في الماء، لكن روحها
سكنت في الوابور، تصرخ فيه كل ليلة من ظلم أهلها. ونُسجت عشرات الحكايات حول روح
زهرة حتى خاف أهل القرية أن يمرُّوا بجوار الوابور في الليل. حتى الخفير نفسه ابتعد
عن الوابور، وبالطبع، فقد أثَّرت الشائعة في إيراد الوابور حتى كاد يتوقف عن العمل تمامًا.
١٢٨
وقد طالما روى سكان منزل «السنجق» بالمغربلين، عن عفريت البواب الذي قُتل في
البيت، لكن «عفريته» ظل يؤدي واجبه في نظافة البيت، فهو يكمن داخل غرفة مهجورة في
أثناء النهار، وعندما يأتي الليل، وينام السكان، يخرج في حذائه الثقيل، ويبدأ بكنس
ساحة البيت. وكانت مشكلة عفريت البواب، تلك الطاحونة المهجورة في ناحية من البيت،
استوطنها نفرٌ من الجن بين ذكر وأنثى. فالصغار — أي صغار الجن — يخرجون إلى صحن
البيت — في الوقت نفسه الذي يمارس فيه العفريت مهامه! — يطقطقون بحوافر أقدامهم،
ويعاكسون العفريت، ويرجمونه بالحجارة أحيانًا، وربما أسرفوا في إيذائه حتى يطلع
النهار، فيختفي الجميع.
١٢٩
وبعض الناس يؤمن أن لكل الأموات عفاريت، حتى لو كانت ميتتهم عادية.
١٣٠
وعندما يُقتل شخص ما، فإن الوسيلة لعدم ظهور «عفريته» هي دق مسامير طويلة موضع
الدم، وسكب ماء مغلي، فلا يظهر إلا إذا أكلت الأرض المسامير!
١٣١
الزار
الزار — كما أشرنا — وسيلة علاج ناجعة للعديد من حالات تلبُّس الجان والعفاريت
والأرواح الشريرة: يقدم محمد حلمي زين الدين روايته مضار الزار (١٩٠٣م) بمقولة «ثلاثة
تشقى بها الدار، العرس والمأتم والزار.» تحكي الرواية مأساة سيدة ألجأها المرض إلى
كودية الزار، وانتهى علاج الكودية بموت السيدة. عني الكاتب بتصوير إسراف المصريين
في الأعراس والمآتم وحفلات الزار، من خلال حادثة في الإسكندرية زعم الكاتب معايشته
لها. في الرواية تفصيلات مهمة، بداية من الإعداد لحفل الزار، وانتهاءً بنتائجه
السلبية. لقد عجزت الكودية عن شفاء المريضة، فأخذت «أثرًا» من ثوبها، ربطتها على
مسمار في بوابة المتولي. يمر الشيخ بالقرب من «الأثر» في طريقه إلى الجامع، فتعلق
روحه بهذا الأثر، وتُشفى المريضة من المرض.
١٣٢
وذات يوم، ارتمت زكية (في قافلة الزمان) على الأرض، وتخشَّب جسمها، وشخصَ بصرها إلى
السقف لا يتحرك، وحاولت النساء إفاقتها دون جدوى. وسرى في المكان همسٌ أن جسدها لم
يعد خالصًا لها، فقد نامت حزينة، مما جعل العفاريت يشاركونها في جسدها. واقترحت
إحدى الحاضرات أن يأتوا بمؤذن يكبِّر في أذنها، لكن نفيسة قالت في خوف: أخشى أن
يؤذوها! ثم اضطرت إلى طلب المؤذن، وجاء الرجل، وركع بجوار زكية، ورفع رأسها بين
يديه، ثم أخذ يكبِّر في أذنيها بقوة ليرهب العفريت الذي تسرَّب إلى جسدها، وليرغمه
على الفرار. وبالفعل، بدأ جسم زكية يتحرك. ثم تكررت الغيبوبة بين وقت وآخر، فقررت
أمها أن تعرضها على شيخة الزار.
١٣٣ وقالت الشيخة — بعد أن أخذت «أثرًا» لزكية: نامت ست زكية في حجرتها
وحدها، وبكت قبل أن تنام، فآذي بكاؤها إخواننا الذين يشاركونها في حجرتها، فالأرض
ليست لنا وحدنا، فلمسوها ليؤذوها كما آذتهم.
– وما يودون الآن؟
– ترضية.
– نحن على استعداد لنقدِّم الترضية التي يطلبونها.
– اتصلت بهم، وعرضت عليهم أن نذبح على السكت ما يطلبون، وأن تكتفي برضوة، فقبلوا،
وكدت أنجح في مسعاي لولا السجان، فإنه أصر على دق الدفوف، فانحاز إليه الباقون
جميعًا.
– وفيم يرغبون الآن؟
– في إقامة زار بالطبول والدفوف.
– لهم ما يريدون.
والتفتت الشيخة إلى زكية وسألتها: أما رأيت في منامك طيورًا وحيوانات؟
– لا أذكر.
– ألا تذكرين أنكِ رأيت دجاجة حمراء أو سوداء، أو عجلًا أو خروفًا له علامة خاصة،
أو
أي شيء من هذا القبيل؟
– والله لا أذكر يا ست الشيخة.
– تذكَّري كلَّ ما ترينه، وقصِّيه عليَّ.
– حاضر.
وتقضَّت أيام، حاولت زكية في أثنائها أن تتذكر وتفكر في الطيور والحيوانات قبل أن
تنام. ثم جلست إلى الشيخة تروي لها ما رأت: إنها لم ترَ إلا حيوانات لها سِمة خاصة،
فهذا خروف أسود «غطيس»، في جبهته هلال أبيض، وهذا ديك رومي أبيض به نقط حمراء، وهذا
عجل أحمر، قُرب ذيله شامة بيضاء. وكانت الشيخة تنصت في انبساط، فإن ما رأته المريضة
يعِد بزارٍ كبير، يستمر ثلاثة أيام بلياليها. وقالت الشيخة: اشتري كل هذه الأشياء،
فإن الأسياد أوحوا بها إليكِ في المنام … «وأقبلت أيام الزار، فذهبت زكية إلى بيت
أختها، وذهبت أمها وأمينة لتجهيز «الكرسي».» والكرسي نضد مرتفع يوضع في وسط المكان،
ويوضع فوقه صينية كبيرة يُكدَّس فوقها سكر وبن وبندق ولوز وسلطانية لبن زبادي وفطير
وجبن رومي وزيتون وبوظة، وتُصَفُّ حول الكرسي شموع كبيرة تنار طول الليل. وفي أول يوم
قامت الشيخة، وألبست زكية ثيابًا بيضاء، فهي تُعتبر عروس ذلك اليوم. ثم اتجهت إلى
الكرسي، وأخذت السكر والبن وكثيرًا مما فوق الصينية، وحجزته لنفسها، ووزَّعت مما بقي
على الواقفات، وأخذت فتياتها اللاتي سيدققن الدفوف معها بالنصيب الأوفى. وجيء
بالحيوانات والطيور، فاختارت الشيخة لنفسها ما يحلو لها، وبعثت به إلى دارها، ثم
بخَّرت ما تبقى وذبحته، وحفظت الدم في وعاء كبير، ولطَّخت منه وجه زكية وذراعيها
وثيابها، ثم أخذت حليَّها وغمستها فيه، فبدت زكية كأنما خرجت من معركة قاسية، استعملت
فيها السكاكين، وسالت الدماء فيها. وارتفعت دقات الدفوف، وجلجلت أصوات فتيات الشيخة
بأناشيد العفاريت، فأخذت زكية تدور حول الكرسي وقد وضعت يديها خلف ظهرها، واتسعت
حدقتا عينيها، وقام النسوة يتمايلن بجسومهن على دقات الدفوف، وارتفعت الدقات واشتدت،
حتى استولي على المشاعر فاهتز كل شيء، حتى الحيطان بدت كأنما تهتز. وخلعت زكية
ثيابًا، وارتدت ثيابًا، وكانت تنزل إلى ساحة «التفقير» كلما دقت الشيخة دقة جديدة،
وتتمايل بجسمها الضخم، وتضرب برجلها الأرض، فيهتز السقف تحتها، ويئز زجاج النوافذ
والأبواب أزيزًا، ومالت على الصينية، وقبضت قبضة مما عليها، ونثرتها على الجالسات
بجوار الحيطان ينظرن، فرُحن يجمعن ما نثرت في سرور، فإن العفريت راضٍ عنه. ومن أناشيد
الزار: صلوا عليه النبي العربي … صلوا عليه … ماما الهدى آه يا ماما … بدر التمام
يا محمد … نصبوا الكراسي لماما … ماما الهدى يا ماما … صاحب العوايد ماما … صاحب
الدبايح ماما … نصبوا الميدان يا ماما … آه يا زهر الورد يا ماما.
١٣٤ وتظل الدقات تعلو، والأجساد تهتز وتتمايل، وتقع، وتصرخ، وتعوى كما
الذئاب، وتخاطب الكودية مَن لا يراه أحد: أهلًا وسهلًا … مين أنت؟
– أنا سيد هذا الكون.
– تطلب إيه؟
– أن أحكم هذا الكون.
– طب اهدءوا، طلباتكم كلها مجابة.
وترتفع دقات الدفوف مرة واحدة، وتذبح المرأة الديك والفرختين فوق رأس «المقصود»،
تغمر الدماء الساخنة رأسه وجسده، وتكبس المرأة جسده بيديها قائلة: انصرفوا بسلام.
طلباتكم على العين والراس.
١٣٥ وتمر أيام الزار الثلاثة، ويُهرق فيها دم كثير، حتى تكاد زكية تستحم في
الدماء، ويجهَّز الحمام، وتدخل زكية تستحم، وتبدِّل ثيابها الملوثة بالدم، ثم تخرج
منه، وتجلس تستريح قبل أن تعود إلى دارها، وقد أحسَّت راحة تشيع في نفسها، فإنها
لترجو بعد أن أقامت الزار، أن تكون جميع العكوسات قد فُكَّت.»
١٣٦ ونشير إلى رواية «مضار الزار» التي تروي مأساة سيدة اشتد عليها المرض،
فأسلمت نفسها وجسدها إلى شيخة زار أخطأت في علاجها، حتى تُوفيت السيدة في النهاية.
الرواية — رغم ضعفها الفني الواضح — فإنها حافلة بالتعبيرات والمصطلحات التي تشي
بتعرُّف الكاتب إلى دنيا الزار وطقوسها.
١٣٧ ويصف الفنان يوم الزار بأنه من الأيام المشهودة، فالبيت يكتظ بالنساء،
وبعبق البخور، وجوقة السودانيات يكتنفهن الغموض والأسرار، و«المرأة» تجلس على عرش
في عباءة مزركشة بالتلِّي والترتر، مُتوَّجة الرأس بتاجٍ من العاج، تتدلى منه عناقيد
الخرز مختلف الألوان، منقوعة القدمين في وعاء من ماء الورد، تستقر في قعره حبَّات
من البن الأخضر «وتدق الدفوف، وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في
الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج
القاعة بالحركات، وتتوهج بالتأوهات، وتدب الأجساد في الأرواح.»
١٣٨ تُشعل النار في القوالح وسط القاعة، تتوهج، ثم يتضاءل لهيبها. تلقي
الكودية، أو إحدى السيدات بعض البخور وحبَّات سوداء لها عيون حمراء، يتصاعد دخان
البخور إلى السقف برائحة مسكية، وتتسع حملقة العيون الحمراء فوق النار. تبدأ المرأة
الممسكة بالدف الكبير في الدق، وتبدأ النساء في الرقص، وتسرع حركات الزار لاهثة
وراء الدقات، وتترنَّح النسوة، ثم يبدأن في إطلاق التشنجات، والتساقط.
١٣٩ تقول ثريا: «من المراجع القليلة، بل والنادرة التي اطلعت عليها، عرفت
أن كلمة زار هي أمهرية، وتعني عند الأحباش شرًّا ينزل بالإنسان. وهناك تفسير آخر
يقول: إن كلمة الزار من الزيارة التي يقوم بها الجن للآدميين، لكن اتصال العرب
بالأحباش أوجد أفكارًا مشتركة بينهم كالجن والرقية والتطيُّر والزار الذي لم يظهر في
مصر إلا في القرن التاسع عشر بعد الفتح المصري للسودان، حين هاجر بعض الأهالي من
السودان إلى مصر، ونقلوا معهم الظاهرة بكل ما تحويه من طقوس وألفاظ غريبة على اللغة العربية.»
١٤٠ وفي المقابل من هذا الرأي، فثمة مَن يذهب إلى أن الزار جاء إلى السودان
من مصر في القرن التاسع عشر من العبيد السود من السودان الوثني. والزار الذي دخل
السودان الشمالي من مصر، قد مورس بشكل أساسي في سواكن وبربر وأم درمان.
١٤١ لكن غالبية الاجتهادات تتفق على أن كلمة «زار» حبشية الأصل، وتعني
«الروح». وعملية الزار تبدأ بكشف الأثر: قطعة ثياب لمن تلبَّستها الجن، ومبلغ من
المال. وتزعم الكودية أنها تضع هذا الأثر تحت وسادتها قبل أن تنام، وتتلو من
التعاويذ الخاصة حتى يتوضح لها في الحلم ما تعانيه صاحبة الأثر من أمراض وعلل.
وتسأل صاحبة الأثر: وهل هناك أشياء أخرى مطلوبة مني؟
– قبل القيام بأي شيء، سأملي عليك روشتة كي تحضريها، وأعدَّها لك لبدء العلاج فورًا.
وتتضمن الروشتة «دهن بلسان وبخور جاوي ومستكة تركي ومرَّ بطارخ وبرشام خميرة بيرة
مع عسل أسود.» وتدهن صاحبة الأثر جسدها من هذا المزيج بعد أن تضيف إليه زجاجة ماء
ورد، ثم تستحم، وتلقي الماء بين ثلاثة مفارق، وأخيرًا تبخِّر نفسها ببخور جاوي.
١٤٢ ويقين المترددات على الزار، أن الكودية — حين تخاطب المريضة — فهي لا
تتكلم بنفسها، وإنما الأسياد هي التي تتكلم، بالعربية أحيانًا، وبلغة الزار أحيانًا
أخرى. ولغة الزار تفهمها الكودية وحدها، وإن تولَّت ترجمتها بعد إلحاح.
١٤٣ ومن الخطأ الذي يبلغ حد الخطيئة، ذكر «الأسياد» باعتبارهم «عفاريت»
إنه أرواح طاهرة نقية، ولا تمت للعفاريت الشريرة بصلة.
١٤٤ ومن إنشاد الكودية على دقات الدفوف: شمع الليالي يا ماما يا سيد العيلة
… عزموك يا ماما إني وادوه على ماما وأدبِّيه … على إيه يا حلو يا ماما … يا سلطان
جابوا عباية ماما باللولي والمرجان … قادوا الشموع لماما والشمع بات سهران … وندهت
السيدة زينب رئيسة الديوان … يا شيَّال الحمول يا متولي شيل حملة العيان … يا شيخ
العرب يا سيد يا ندهة المنضام … فرشوا الأرض لماما بالفل والريحان.
١٤٥ وتسأل الأم ابنتها: وهل في استطاعة أية امرأة أن تحترف هذه المهنة
الغريبة؟ تجيب الابنة: الأسياد هم الذين يحكمون عليها بأن تقوم بهذا العمل.
– كيف؟
– يتلبَّسونها لفترة طويلة بحيث لا يمكن أن تُشفى إلا على يد كودية قديمة تعرف من
عليها من أسياد، ينطقون من خلالها بمطالب معينة. وبعد أن تحققها لهم جميعًا تفوز
برضائهم. فإذا طلبوا منها بعد ذلك أن تعقد العقد وتتحزم، فإنهم بهذا يحكمون عليها
بأن تكون كودية.
١٤٦ وكانت رئاسة حفلات الزار — إلى عهد قريب — مقصورة على السيدات اللائي
ينتمين إلى أصل سوداني أو حبشي؛ ذلك لأن عادة الزار — بما تشتمله من طقوس وأدعية —
ذات أصل سوداني. ثم بدأت بعض السيدات المصريات في تلقِّي أسرار ذلك العمل، وإن كان
التأثير السوداني قويًّا وغلابًا، وبالذات في الألفاظ والعبارات التي تحوي أسماء
العديد من الأولياء السودانيين، والأماكن والمناطق السودانية، وفي تلك الحفلات مثل
فرقة أولاد دمامة، وفرقة أولاد بوس، وجماعة الست خضرة.
١٤٧ ولعل أهم ما يتسم به راقصو الفِرق السودانية، تمنطقهم بحوافر الأغنام
والودع، وإمساكهم بالرماح الطويلة، وأداؤهم بعض الرقصات السودانية بأدوات موسيقية
سودانية مثل الدلوكة والطنبورة، وترديدهم ألفاظًا وعبارات باللهجة السودانية،
يتخللها أسماء العديد من الأولياء السودانيين والأمكنة السودانية. وغالبًا فإن
السيدات المصريات اللائي يتردَّدن على تلك الحفلات، يحفظن تلك العبارات وإن لم يفهمن
معانيها.
١٤٨
وقد تلجأ المرأة إلى إقامة الزار إذا كان زوجها عصيًّا عليه.
١٤٩ والرجال — عمومًا — لا يحبون الزار، ولا يؤمنون بجدواه، فضلًا عما
يسبِّبه لهم من أزمات اقتصادية، وإن لم يعُد الزار — فيما بعد — مقصورًا على النساء،
فالرجال يشاركون فيه، حتى إن الأم تحسرت على أيام زمان، حين كان الزار خالصًا
للنساء، ولا تقيمه إلا كودية محترمة.
١٥٠
وقد يحبون البشر
لكن أهل ذلك العالم المجهول ليسوا جميعًا من ذوي النيات الشريرة. ففي ليلة
السبوع، تحيط الملائكة — فالعالم الآخر لا يقتصر — كما أشرنا — على العفاريت
والمردة والغيلان وحدها — بالمولود، لا تنصرف إلا بعد أن يبذر الملح (وينبغي
ملاحظة أن روح القطط بعض روح الملائكة. لذلك فإن ضرب القطط ليلًا مضر جدًّا مهما
تفعل القطط من أذى — حاضر المصريين). وتخرج المولِّدة بالطفل من غرفة الأم — لأول مرة
— والأولاد من خلفها يحملون الشموع، وتبذر البقول، وترش الملح، وهي تقول: أول بذرة
للملوك … وتاني بذرة للمولود … وعاشق النبي يصلي عليه. فيصيح الأولاد خلفها: يا رب
يا ربنا … يكبر ويبقى قدنا. وتهبط المولِّدة بالطفل في الدرج، والأولاد من خلفها
يهلِّلون، والنساء على رأس الدرج، يزغردن فيشيع في البيت السرور، ثم يعود الموكب
إلى غرفة الأم، فيُوضع في غربال، وتغربله المولِّدة حتى يذهب عنه الخوف. ثم تضع
الغربال على الأرض، وتنهض الأم فتتخطى المولود سبع مرات، حتى لا يسقط شعره. ثم يُحمَل
المولود، وتأخذ المولِّدة الغربال، وتدحرجه أمامها. فإذا تدحرج الغربال طويلًا، كان
ذلك جليلًا على طول عمر المولود. أما إذا سقط، فإن ذلك يُعَد فألًا سيئًا، ونذيرًا
بقصر عمره. ثم ينتهي الحفل بتناول الجميع لأطباق الخضر واللحم والبندق
والكسكسي.
وثمة مِن الجان مَن يقعون في هوى البشر، ويبذلون محاولات مضنية للهبوط بمن يحبونهم
إلى العالم السفلي (أشار إليهم عبد الحميد يونس في تصنيفه لأنواع الجن):
فقد آمن أهالي القرية أن الشجرة ليست كذلك في الحقيقة. إنها «جِنيَّة» عشقت رجلًا
من
أبناء القرية، وتقمصت شكل الشجرة، وهو يعاشرها في الليل معاشرة الأزواج.
١٥١
الفلاحون يتجمعون ذات ليلة على الجسر، ويقول أحدهم: رأيت شبحًا يجذب الرجل، ويغوص
به في الماء. ويقول آخر: خطفته امرأة، رأيتها بعيني هاتين. ويقول ثالث: إنها جِنيَّة
شغفت بالرجل حبًّا، فخرجت إليه عارية ناصعة البياض، وقد تهدَّل شعرها الأصفر،
وخطفته ليعيش معها في دنياها. ويتكلم أكثر من رجل، دون أن يتحرك أحدهم لإنقاذ
الغريق.
وقد طالما تحدَّث الرجال في مجالسهم حول أكواب الشاي في المساء، عن صلات أحدهم
الخفية مع أقوام من تحت الأرض، وجنيات من البحر.
١٥٢ وكانت الست نجية تتحدث عن عفريت من الجن يؤاخيها، وتحكي عن علاقتهما
الخاصة باعتزاز، وتنوِّه بنوادره. وتقول بجدية: أمس، شعرت بأنفاسه تتردد على وجهي
قبيل الفجر، أو تقول: وجدت بلاص العسل فارغًا فقلت له بالهنا والشفا.
١٥٣ وعندما كان حسن ينام في المصلية التي على حرف النهر خارج القرية، قال
الناس إنه «مخاوي» إحدى جنيات البحر، بيضاء، وشعرها طويل، وأسنانها لامعة، وأظافرها
حادة قاتلة، وإنها تخرج إليه في الليالي القمرية عند المصلى. ولما مرض العسكري
توفيق بعد ذلك ومات، قال الناس إن «حسن» استعان بالجِنيَّة للانتقام منه، وإنه سينتقم
غدًا من زوجته، لكنها لم تلبث أن غادرت القرية — ذات صباح — إلى حيث لا يعلم أحد.
١٥٤ وأسرَّ عريف الكتَّاب للأطفال بأن الشجرة التي كان عم رشوان يحبها بما يفوق
الوصف، ليست شجرة في الحقيقة، لكنها «جنِّية» عشقت عم رشوان، وتقمَّصت شكل الشجرة،
وأنه يعاشرها في الليل كما يعاشر الرجل زوجته. وصدَّق الأولاد حديث العريف، ولاحظوا
أن ثمارها غير الثمار الأخرى. إن لها مذاق عسل النحل، فلا بد أن الجِنيَّة هي التي تضع
الحلاوة في ثمارها.
١٥٥
وكانت الجدة تؤكد أن الجِنيَّة تعاشر بعض أبناء القرية، وتعطيهم ذهبًا، لكنها تؤذيهم
عندما يبوحون بالسر.
١٥٦
وثمة خاتم سليمان — أو خاتم الملك — الذي قد يعثر به الإنسان يومًا، لا يكاد
يديره في إصبعه حتى يسعى إليه خادمان من الجن يقضيان له ما يشاء.
١٥٧
ومن الجن من يحبُّون الطرب أيضًا، وقد أكد بعض أهل شارع مرجوش أنهم طالما استمعوا
—
في أوقات السحر — إلى غناء مطرب من الجن.
١٥٨
القرين
المعتقد المصري القديم يؤمن أن القرين يصاحب الفرعون في أثناء حياته كأنه توءم
خفي، وكان الفرعون يأمر ببناء مدفن ونحت تمثالٍ لهذا القرين ال «كا».
١٥٩ وقد تواصل المعتقد الشعبي مع معتقد القدامى؛ فهو يؤمن بوجود أخوة
للإنسان من أبناء الجان، معكوسي الجنس. الفتاة يكون أخوها جنيًّا، والصبي تكون أخته
جِنيَّة. وتحاول الأم اتقاء شر الجني بالقول للطفل إذا وقع: «وقعت على أخوك أحسن منك»،
وإذا وقعت الطفلة: «اسم الله على أختك قبليكى.» وهي تترك للجِني — أو الجِنيَّة — بقايا
الطعام، قربانًا لالتماس الرضا، فإذا مرض الطفل أو الطفلة، فإنه لا بد من استرضاء
الجني بصورة أو أخرى.
القرين بعد مهم في العالم السفلي، يسأل الراوي: من قريني؟
تقول زوجة الجد: أختك التي تحت الأرض.
يقول: ولم لا تكون أخًا، ولدًا مثلي لا بنتًا؟
– هذا هو ما يقولونه.
– من هم؟
– من قبلنا قالوا ذلك: المشايخ والعارفون من كبار البلد.
١٦٠ وعندما كان الصبي يتعثَّر في طريقه، تقول أمه: اسم الله عليك وعلى أختك.
يسأل: مَن أختي؟ وما شأنها هي إذا وقعت أنا؟!
١٦١ ويقول الراوي: «كانت أمي تقول عندما يسقط أخي الصغير على الأرض وهو
يحبو: اسم الله على أختك. وكنت أعجب لما تقوله أمي، وكنت أستحي أن أسألها، فلما
تجرأت — ذات يوم — وسألتها، قالت لي، وهي تكرر اسم الله، وتصلي على النبي، وتتلفَّت
حواليها من الخوف: كل حي له أخت، وعندما يقع ولد كأخيك، فإنه يقع على أخته تحت
الأرض، فتغضب عليه، وقد تؤذيه.»
١٦٢
كان المصريون القدامى يؤمنون بوجود القرين، أو ما كانوا يسمونه «الكا»، وعندما
يُدفن الميت تكون الروح قد فارقت الجسد الذي يبدأ بالتحلل، لكن القرين الذي يُدفن مع
الجسد يظل حيًّا، فلا بد من وجوده لكي يتم البعث في الحياة الأخرى، ولا بد له
بالتالي من طعام يحيا عليه، لذلك أتت عادة جلب الطعام للقرين عند زيارة المقابر،
فيوضع الطعام داخل المقبرة أحيانًا، أو يوضع على مقربة منها ليقتات به القرين متى
شاء. والقرين يتلبس الرجال والنساء، يدَّعي أنه شيخ تارة، وعفريت تارة أخرى. وقد
يوقع الأطفال تحت نوبات صرع، وفي كل الأحوال يطلب مطالب غريبة: دقات زار، قلب ذئب
له من العمر عامان، كبد طفل مات لساعته … إلخ.
١٦٣
الحسد
تعود ظاهرة الحسد إلى مجتمعات ما قبل التاريخ، وهي — كظاهرة أنثروبولوجية — تتسم
بطابعٍ جمعي. ويعتقد المصريون في الحسد، وأن الحاسد يمتلك خاصية في عينيه، يتجه بها
إلى أي شيء فيُميته أو يتلفه. والأمراض في إيمان أبطال «زينب» مبعثها سببان، فهي تأتي
من الجن والشياطين أحيانًا، ومن الحسد أحيانًا أخرى، ويصعب أن تصدر عن سبب ثالث.
١٦٤ المرض قد يكون نتيجة «نقحة عين».
١٦٥ وفي معبد الإله حورس بإدفو، كتاب مملوء بالرُّقى والتعاويذ، لطرد العين
الشريرة. ومنها أنشودة للإله تحوت — الدولة الحديثة — تقول: أيها الإله تحوت، إذا
كنت تحميني، فإني لا أخشى أذى العين.
١٦٦ والكف — بأصابعها الخمس — تشير إلى قواعد الإسلام الخمسة: الشهادتان
والصلاة والصيام والزكاة والحج. وحين يضعها الناس على شيء يخشون عليه فلحمايته من
حسد الحاسدين. ولعله يمكن القول إن الحسد بدأ مع الشيطان، منذ نعى إبليس حظَّه
مقابلًا لحظ آدم عندما أمر الله الملائكة والجان أن تصلي عليه. ومن نصائح الموروث
الشعبي: لبِّس ابنك خلاخيل في رجله تحفظه من العين … الخمسة وخميسة على صدر العيل
تحفظه من الحسد … دقِّي لابنك علشان يعيش … تخريم ودن العيل يخلِّيه يعيش.
١٦٧ والتهوين من أثر الحسد مردود عليه بأن الحسد جاء ذكره في القرآن.
١٦٨ ولأن «العين تفلق الحجر»، فإن المثل الشعبي يقول أيضًا «داري على شمعتك
تئيد.» بل إن الحسد قد يحدث من تباهي الإنسان بما لديه «ما يحسد المال إلا
صحابه.» وكانت أمينة تكره الإشادة بالصحة علانية؛ تعتبرها مكروهة، تخشى العين وأذاها.
١٦٩ والحسد يبلغ منتهاه إذا نظر الحاسد، وقرن نظرته بالشهيق. والتميمة — في
المفهوم العلمي — هي «كل ما يُحمَل أو يعلَّق، أو يوضع على شيء لحمايته، أو لدفع
الأذى عنه، أو لمنحه القوة والخصب والبركة والحظ السعيد.» ويعلق بعض الأسر أعلى باب
بيتها، فردة حذاء طفل قديمة، حتى تخطو إليها قدم السعد.
١٧٠ وقد يُعلَّق على أبواب البيوت حدوة حمار قديمة، أو بصلة جافة، أو قطعة من
شجرة صبار يابسة،
١٧١ وقد يذهب كسر الآنية بالعكوسات التي يصنعها الحسد.
١٧٢
وقد تعمد بعض الأسر — عقب ولادة المولود — إلى سلك سبع حبَّات من الفول في خيط
رفيع، تُعلَّق على صدره، ولصق قطعة سوداء من الفاسوخ على جبينه، تتوسطها خرزة تقي
الوليد إذا ما لقي في الطريق أي شر.
١٧٣ وقد عاش محروس بن ستيتة طفولته الباكرة يحبو في شوارع القرية متعثرًا،
يكتشف طريقه في صعوبة من جراء الخرزة الزرقاء والخمسة وخميسة والحجاب التي ربطتها
أمه في خصلة شعره، فحالت بين عينيه والطريق.
١٧٤ وربما جاء المولود ذكرًا، فيدَّعي الوالدان أنه أنثى خشية الحسد.
١٧٥ وقد تعلِّق الأم في أذن طفلها اليسرى حلقة صغيرة، خوفًا من الحسد.
١٧٦ وحين ولدت الأم سعدية الجميلة، خافت عليها من الحسد، فعلَّقت خمسة
وخميسة، ورسمت فوق جبينها الأبيض والأحمر صليبًا بالفحم.
١٧٧ وأهدت الجدة حفيدتها سلسلة ذهبية معلقًا بها صندوق به مصحف صغير، عليه
فصوص فيروز مكتوب بها اسم الله، وقالت إنه سيمنع الحسد عن الطفلة.
١٧٨ وظل مصطفى حتى السادسة من عمره يعاني التمائم والأحجبة التي تتدلى من
عنقه، والحلقة الصغيرة من الفضة التي عُلِّقت في ثقب أذنه اليسرى، ومن اسم صفية الذي
كان يُنادى به حتى لا تصيبه العين الخائنة.
١٧٩
وعلى المرأة التي تزور أخرى حديثة الولادة، أن تخلع كل ما تلبسه من ذهب خلال
الأربعين يومًا التالية للولادة خوفًا من «المشاهرة»، وهي تسمية تعني الضرر للأم ووليدها.
١٨٠ ومن تتعرَّض للمشاهرة فإن عليها — للتخلص منها — أن تخطو سبع مرات على
حلي مصنوعة من الذهب الخالص.
١٨١ وتصاب الأم بضرر مؤكد إذا دخل عليها — في يوم الولادة — شخص يكون قد قصَّ
شعر رأسه في اليوم نفسه.
أما لماذا نحتفل بسبوع الطفل، فلأن المعتقد الشعبي يؤمن بأن الملائكة تحرس الطفل
السبعة الأيام الأولى منذ مولده، ثم تتركه لتحرس غيره، ومن ثَم فلا بد من أداء بعض
الطقوس لحماية المولود من شر الجن الذي يتربص به فور ذهاب الملائكة.
١٨٢ وفي ليلة السبوع تُنثَر بلورات الملح في الهواء لتحرق عين الحسود، ويوضع
في الغربال فوق الأرض، تفرش فوقه حبات الفول لتسد الثقوب بين الأوتار، ومن فوق
الفول نثرت حبات الذرة الصفراء، ومن فوقها القمح والأرز والشعير، وقرب الحافة
الدائرية بعض الحلوى في أغلفة براقة من لون الذهب ولون الفضة.
١٨٣
وكان مما يضايق الأم أن تثني على وليدها امرأة من معارفها، فهي تتطيَّر من
الثناء، وترقيه من العين في إشفاق عميق.
١٨٤ والبعض يعلِّق على ما يمتلكه سبحة فضية وكف خمسة وخميسة، منعًا للحسد.
١٨٥ وكانت الإشادة بالصحة — جهرًا — في بيت بين القصرين، مكروهة، لتجاهلها
«العين» وشرها. وحتى بعد أن غادرت خديجة وعائشة البيت إلى السكرية، حيث لا تحظى
عقائد كثيرة كالحسد بإيمان عميق، وحيث يخوضون في سير الجن والموت والمرض بلا حذرٍ
ولا خوف، فإن الفتاتين ظلتا على الحرص نفسه من عدم الإعلان عن الصحة، فضلًا عن
التفاخر بها.
١٨٦
وعندما سافر محمود برفقة عمِّه إلى القرية للمرة الأولى، نصحه العم بأنه يجب أن
يسلم على الناس ويقول لهم: السلام عليكم، فقال أحد أفراد العائلة: لا … لا نريد أن
يعرفه أحد خشية الحسد. وقال آخر: العيون المريضة كثيرة، ولو كنتم استمعتم لنصيحة
أمي لما جئتم إلا ليلًا
١٨٧
وكان المدرس الشيخ يخشى على نفسه من الحسد إلى الحد الذي يدفعه لأن يأمر التلاميذ
بالوقوف، وبإدارة ظهورهم له في أثناء شربه لكوبه الصباحي اليومي من العرقسوس، حتى
لا يصيبه مكروه من أعينهم النهِمة.
١٨٨
وعندما يصاب المرء بمرض ما، فإن معظم التقديرات تتفق على أنها «عين وصابته».
١٨٩ وحين تسلل المرض إلى جسد منصور، كان رأي أهل القرية أنها «عين وصابته»،
وكتب له فقيه القرية ورقة لدرء الحسد، لكنها لم تبرئه من المرض.
١٩٠ وأحيانًا، تُثقَب ورقة بيضاء على شكل عروسة، وتقول: «هذه العيون تشك وتقلع.»
١٩١ وقد يكفي لدرء الحسد أن تمسح الرأس بيدٍ مترفقة، ويهمس القول: رقيتك،
واسترقيتك، يا فلان يا ابن فلان، من عين الحاسدين وأولاد الحرام.
١٩٢
وبعد أن يفصل الفلاح الغلة عن التبن، وتتعالى في كومات مخروطية ضخمة، يحرسها من
العين بالنوافير التي يقيمها في طريق المزرعة، ويزيد من البركة بالقلة الفخارية
الممتلئة إلى حافتها بالماء، يغرسها في الغلة.
١٩٣
واتقاء لشرور الحسد، فإنه إذا جاء الليل تُوقَد المجمرة، وتُقَص قطعة ورق «عروسة»
وتُخرَق عيناها بدبوس، ثم يُلقى بها في نار المجمرة، ثم يُبخَّر المريض، فيذهب عنه
الحسد. وعندما أراد الأهل إبعاد الحسد عن نجوى، أجبروها على السير مفتوحة الساقين
فوق البخور المحترق.
١٩٤ تخطو من فوق البخور سبع مرات، ترفع طرف الثوب قليلًا كي لا تمسك به
النار، والمرأة التي تقذف البخور فوق القوالح، أو فوق منقد النار، يعلو صوتها
بالرُّقى من عين المرأة الغيرانة، ومن عيون الرجال الطماعة، ومن داء العقم — إن كانت
عاقرًا — ومن عين الجارة، وكل نمامة مكارة، ومن عين من رأوكي واشتهوكي، ما عدا من
أحبوكي. قرب وغرب. قرب وغرب. وتمسك المرأة بالإبرة، وبمسخ القرص، ثقب في العين
اليمنى: أعينهم مردودة عليهم، وثقب في العين اليسرى: والكربة عنك مفروجة. طيري يا
عين كما طارت الريشة، وانشقِّي يا عين كما انشقت الحشيشة.
١٩٥ وفي صورة أخرى: يوضع البخور وعين العفريت على النار، ليتقي الشخص عين
الحُساد، كما توضع قطعة كبيرة من «الشبة» لتبين عن شكل الحاسد عندما تسيح في
الحرارة. وقد تمسك الأم أو الخالة أو العمة بمقص وورقة، تقصها على هيئة عروس، وتخز
عينيها بدبوس وهي تقول: حدارجه بدارجه من كل عين زارجه … رقيتك واسترقيتك من شر عين
بهانة وشلبية وتحية ونجية وأنصاف وبخاطرها، ومن عين أمك وأبوكي، ومن عين كل من شافك
ولا صلَّى على النبي.»
١٩٦
وإذا نظرت إحدى النسوة إلى طفل جديد حديث الولادة للمرة الأولى، فهي لا بد أن
تقول: إنه ليس جميلًا، تلك هي العادة المُتبعة حتى لا يقال إنها حسدت الطفل.
١٩٧ وتحرص الأمهات على أن يتركن الأطفال بقذارتهم حتى لا يُصاب الطفل بعين
حاسدة؛ فثمة نوع من العيون له تأثير طيب، وآخر له تأثير يُخشى عواقبه.
والفلاح يرفض أن يرى أحد — حتى لو كان طبيبًا — عجول التربية، فهو يعتقد أنها
تتأثر بعيون الناس الغرباء.
١٩٨
والحق أن منطلق اللجوء إلى السحرة والمنجمين هو الإحساس بالظلم، ثم الضعف وعدم
القدرة على المواجهة، ومن ثَم فإن الحاجة إلى القوة دون توافر أسبابها، تأتي
بالواسطة، ولهذا يلجئون إلى المنجمين والسحرة.
الطب الشعبي والتنجيم والسحر
لقد كان الطبيب هو آخر من لجأت إليه أم ياسين في مرضها، حين فاجأها المرض. طافت —
في البداية — ببيوت الله، وتبخَّرت بأنواع شتى من البخور الهندي والسوداني والعربي.
فلما ازدادت الحالة سوءًا، استدعت الطبيب.
١٩٩ وتقول الأم: أنا لا أصدق الأطباء، ولا أعترف إلا بطبيب واحد، هو خالق
السماوات والأرض.
٢٠٠
كان الشيخ عبد الباسط مدرس اللغة العربية يعالج البرد بشوربة العدس، ويعالج الأرق
بالبصل الأخضر.
٢٠١
والحمص مفيد ضد الإسهال، والشاي أيضًا. والحلبة علاج للإمساك، ومثلها شرب الماء
على الريق. أما إذا كان المريض مصابًا باضطراب في المعدة، فبوسعه أن يتناول حمصًا
مصحونًا أو غير مصحون بقليل من الماء البارد، بالإضافة إلى منقوع الحلبة والشاي،
ويشرب الخليط صباحًا على الريق، وفي المساء قبل النوم.
٢٠٢
أما الورم فإنه يُشفى بوضع طماطم حمراء عليه، وتركه ليلة كاملة.
٢٠٣
وثمة معتقد أن من يأكل قلب ذئب لا يعرف قلبه الخوف.
٢٠٤
ولحم الحصان مفيد في استعادة العافية لمن يشتاقون إلى النساء، ويعقد عجزهم عن
بلوغ ما يريدون من المتعة.
٢٠٥
والمعتقَد الشعبي يعالج مريض الصرع — إذا انتابه المرض — بتغطيته بملاءة سوداء،
ووضع شيء صلب بين أسنانه.
٢٠٦
ولحم الغراب — رغم مرارته — وصفة أكيدة في سرعة النطق عند الأطفال.
٢٠٧
وحين أراد الراوي أن يحمي نفسه من أذى العفريت، فإنه لجأ إلى عم زكي بائع الكتب،
فعمل له حجابًا، يجعل حامله لا ينعى همًّا لإنس ولا جان.
٢٠٨
وقد ترغب الأم في شيء أثناء الحمل، فهي تتوحم، وإذا لم تحصل على ما تريده، فإنه
يظهر في المولود والعيوب التي تبدو في أجسام الناس، أصلها «وحمة» تفصح عنها الحامل،
أو لم تجدها.
٢٠٩ لذلك فإن المرأة تحرص في أثناء فترة الوحم على تعليق صور أشخاص ذوي سحن
جميلة، والنظر فيها بين وقت وآخر، حتى تنجب المرأة أطفالًا يشبهون أصحاب تلك الصور
في سحنهم. وفي المقابل، فإن المرأة تتجنب النظر إلى الأشخاص المشوَّهين أو قبيحي
الوجه، حتى لا تلد طفلًا على الصورة نفسها. عدم الاستجابة إلى ما تطلبه الحامل من
أشياء قد تتسم بالغرابة — طين أو روث بهائم — فإنه قد يؤدي إلى ظهور المادة التي
توحمت عليها المرأة على جسد الوليد. وتشرح المدرسة لتلميذتها معنى الوحم بأن الحامل
إن رأت شيئًا واشتهته، ظهر رسمه على بدن وليدها، لو تاقت نفسها إلى أكل الخيار
مثلًا، ولم تأكله، جاء طفلها وعلى بدنه رسم خيارة.
٢١٠ وفي تقدير الدراسات الحديثة أن الوحم ليس خرافة، لأن المرض العضوي الذي
يصيب المرأة — في أثناء الحمل — ليس هو وحده الذي يؤثر على الجنين، لكن الحالة
المعنوية والتوتر والضغوط النفسية تؤثر أيضًا على الجنين، مما ينعكس على السلوك.
٢١١
وإذا تعسَّرت عملية الولادة، فإنه بوسع المرأة الحامل أن تزحف تحت جمل سبع مرات،
أو تشرب ماء غسل فيه زوجها كعب رجله اليمنى، ثم يلف القرية بعد ذلك سبع مرات دون أن
يخاطب أحدًا.
وكانت سمعة مصطفى أفندي أنه يتمتع بموهبة فطرية في العلوم الطبية — اعتمادًا على
تذكرة داود — فالحمص مفيد ضد الإسهال، وكذلك الشاي. أما الحلبة على الريق فهي علاج
ناجع ضد الإمساك، وكذلك شرب الماء البارد على الريق. فإذا كان المريض مصابًا
باضطراب في المعدة، فإن الحمص مصحونًا أو غير مصحون يُخلط بقليل من الماء البارد،
ويضاف إليهما منقوع الحلبة وشراب الشاي، ويُشرب الخليط صباحًا على الريق، وفي المساء
قبل النوم، وبتفاعل الإمساك مع الإسهال يحدث التوازن ويزول الاضطراب.
٢١٢
ومهما يكن من قسوة المرض، فإن له علاجًا شافيًا. فإذا ظهرت على العين سحابة،
تزول بقطرة من التفاح وسكر النبات. وفي حالات السخونة الشديدة، تقطع ليمونة، وتوضع
فوق يافوخ المريض، وتضع على الجبين خرقة مبللة بالخل «فالليمون حكيم خفي لا تقولي
لعدوك عنه.» وكحل لبان الدكر نوع من الدواء.
٢١٣ وإذا تورَّم جزء من الجسد، تضع الطماطم الحمراء عليه، ويُترك ليلة
كاملة، فيشفى. ولما عانت الشيخ محمد — اسم امرأة — من الأمراض طويلًا، لجأت إلى
الشيخ عتريس الذي شق ركبتها بمشرط، ودفن فيها حمصة، لتسحب جميع الأمراض التي في جسدها.
٢١٤ وثمة القرطاس العجيب الذي يحوي مجموعة من البذور والحبوب والجذور
وأوراق الشجر الجافة في خلطة تُسحق جيدًا، ويتناول المرء ملعقة منها كل صباح، يتلوها
كوب شاي أخضر بالنعناع، فتلين المفاصل، وتحل نخاع العظام الذي يتجمد مع الشيخوخة،
وتهدئ العروق النافرة، وتفتح الشهية.
٢١٥
حتى مأساة عزيزة، عاملة الترحيلة (الحرام) التي ماتت بتأثير حمى النفاس، قدَّمت
إلى أبناء القرية مادة جديدة لمعتقداتهم، فقد نمت على جانب الخليج شجرة صفصاف، يقال
إنها نمت من العود الذي استخلصه أبناء الترحيلة من بين أسنان عزيزة بعد موتها، فطُمس
في الطين، ونبت، فأصبح تلك الشجرة، وظل الناس — وما زالوا — يعتبرونها شجرة مبروكة
وأوراقها ما تزال مشهورة بين نساء المنطقة كدواء أكيد، مجرَّب، لعلاج عدم الحمل.
وعندما يفزع المرء من شيء لفترة طويلة، فلا بد أن يُسقى من طاسة الخضة، وهي من
النحاس الأصفر، صغيرة، مستديرة، كتب عليها بعض العبارات السحرية والتعويذ بخط يتعذر
قراءته في معظم الأحيان، وفي وسطها شكل أسطواني يشبه النافورة، تتدلى منه سيقان
نحاسية تشبه السمك، وهي تحدث عند تحريك الطاسة صوتًا خافتًا، ويتصل بحافة الطاسة
أربعون مفتاحًا من النحاس بسلاسل دقيقة، وتوضع فيها سبع بلحات وسبع زبيبات، ثم يغمر
البلح والزبيب بالماء، وتوضع الطاسة في الليل تحت الندى. والمفروض أن يشرب المريض
من طاسة الخضة إن أصيب بذعر، لأن عمل الطاسة هو طرد الأرواح التي تصيب الإنسان بالسوء.
٢١٦ وقد تُتلى بعض الأدعية قبل أن يحتسى المريض ما بداخل طاسة الخضة من ماء.
٢١٧ ولا بد أن تكون ليلة جمعة، لأن مفعول الوصفة يتبدد في غير هذه الليلة
المباركة. ففي الفجر، يجرع المريض الطاسة، ثم يأكل البلح والزبيب، فإذا تقيأ ما
تناوله تقيأ الفزع معه، وعليه أن يعيد الكرة ثلاث جمع حتى يذهب الروع عنه. وعندما
خافت الأم على ابنها، استلفت من الحارة طاسة الخضة، ووضعتها بمائها على السطوح حتى
الصباح، وشرب الابن من الماء فور استيقاظه.
٢١٨
وخطورة الاعتقاد في القوى الغيبية أنها قد تضع المرء في موقف العجز عن مواجهة ما
في الإمكان مواجهته، مثلما عجزت الأم عن الإتيان بتصرف ما لمعالجة مرض طفلها، فهي
قد شعرت بالخطر من اللحظة التي رأت ابنها يضرب قطًّا أسود، وتوقعت عقابًا غيبيًّا
من قوة فوق قوى البشر. وماذا تجدي في ذلك مهارة الطب وعبقرية الأطباء؟!
٢١٩
حتى مدرس اللغة العربية لم تكن دروسه تخلو — أحيانًا — من تأثره الحاد بتلك
المعتقدات، مثل إعلانه للتلاميذ في اطمئنان وثقة أن «أكل السمك على اللبن ليلة
الأربعاء يورث الجنون.»
٢٢٠ وإطالة النظر في المرآة ليلًا يؤدي إلى الجنون، وإلى التبول اللاإرادي
في الفراش.
٢٢١ والصفير بالليل حرام و«يطلع» الثعابين.
٢٢٢ وثمة من يعتقد أن الكلب نجس، فلا بد من طرده، أو ضربه عند رؤيته.
٢٢٣
•••
ومحاولة معرفة الغيب في قراءة الفنجان، أو قراءة الخطوط التي يرسمها الإصبع على
الرمل — ويسمى المنجم — أو قراءة الورق، أو الإنصات إلى حديث الودعات،
٢٢٤ أو الطرق بالحصى واسمه الحاسب، أو النظر في المياه واسمه المندل.
٢٢٥
كانت زنوبة (عودة الروح) تتشوف إلى مستقبلها بقراءة الكوتشينة.
٢٢٦ وحين أرادت أمينة (بين القصرين) أن تطمئن إلى مستقبل ابنتها خديجة، وما
إذا كانت ستأتي إليها البشرى في القريب بمن يتقدم لخطبتها، فإنها أرسلت أم حنفي إلى
الشيخ رءوف بالباب الأخضر حاملة منديل خديجة ليقرأ طالعها، وعادت المرأة بالبشرى،
فقد قال لها الشيخ: «ستحمل إليَّ رطلين من السكر عما قريب.»
٢٢٧
وقراءة الطالع تبدأ بدفع مبلغ من النقود، فالودع وما شاكله لا يقول إلا الحق
إلا إذا أنقدته سلفًا. ويطلب الشخص رجلًا أو امرأة، فيناوله قارئ — أو قارئة —
البخت ما يرمز إلى ذلك من المجموعة، فيهمس لهما الشخص بما بداخله، ويعيدهما قارئ
البخت إلى الرموز الأخرى. يأخذ قارئ الكف الودع في كفَّيه، ويهزُّه ثلاثًا، ثم ينتره،
ويظل يتأمله لفترة قبل أن يبدأ في البوح بأسرار الودع، وبعد أن تنتهي قارئة الودع
من مهمتها، تجمع الودع في كيس صغير، وتعيده إلى حيث كان.
٢٢٨
وكانت «أسماء» تحذق العِرافة بالودع، مجرد هواية تزجي بها وقت الفراغ، لكن صحة
نبوءاتها دفعت بالكثيرين إلى التردد عليها، حتى استقر في وهم الناس أنها تسيطر على
الجن الذين يقيمون في الطاحونة المجاورة، فهي تستوحيهم وتُنفِذهم في قضاء ما يُطلَب
إليها من الحاجات. وشيئًا فشيئًا، أصبحت «العِرَافة» هي مهنة أسماء ومورد رزقها.
٢٢٩
وكانت الجدة الحاجة تعتمد أو تكاد — بصورة مطلقة، في كل مشكلاتها على الشيخ مصطفى
التونسي، الذي يصف الفنان دكانه بأنه «لبيع كافة أدوات السحر، مما يجمع القلوب
ويفرقها، ويقطع الرزق ويوصله، ويثبِّت العقول ويشتتها، حسب الطلب. هذا وإن مما على
بابه من أعشاب وثمار ما تبيض له صحائف الفارما كوبيا.»
٢٣٠
وقد عمل أعداء الشاب عملًا له، فمرض — وهو في العشرين — بالجدري، والتهم المرض عينيه.
٢٣١
ومع أن السحر مَنهي عنه، والله لا يحب السحرة، وعلى الرغم من قول المعجم الوسيط إن
«السحر كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، وكل
ما لطف مأخذه ودق»
٢٣٢ فإن المصحف والحجاب وأسماء الله الحسنى، أو بعض الطلاسم التي يجيد
كتابتها محترفون، وسائل جيدة لدرء خطر العين والجان وأعمال السحر. ورش الملح في زفة
العروس يمنع الحسد والعين … وفتح المقص فوق رأسَي العروسين لحظة كتابة العقد يمنع
العين … وعمل تحويطة لكلٍّ من العروس والعريس توفق بينهما، وتمنع عنهما العين والحسد.
٢٣٣ كذلك فإن الخواتم الفضة تفك الضيق.
٢٣٤ وحين تلد البقرة، يقذف أصحابها المشيمة في الترعة مع التيار حتى يدر لبنها.
٢٣٥
والأسماء التي يرددها المنجم أو الساحر يجب أن تبتعد عن المألوف في حياتنا، إضافة
إلى جو الغموض، فهو لا يذكر أسماء مثل إبراهيم أو أحمد أو حسن، وإنما يضغط على
أسماء تنبض ذات غموض ورنين مثل شمهورش ومريوش وكمبورش … إلخ. كذلك فإن التهويل في
مطالب الجان شرط أساس لحثِّ الناس على التصديق. وعلى سبيل المثال، فإن «الدَّجال» إذا
طلب إحضار قبضة من التراب لاستخدامها في أعماله، يقرن ذلك بمبالغات، كأن يعد المرء
مائة بيت بلا زيادة ولا نقصان، ويحصل على التراب بيده اليسرى من أمام البيت الحادي
بعد المائة، شريطة ألَّا يراه أحد على الإطلاق، وإلا بطل مفعول السحر. وإذا طلب
صنفًا من الفاكهة فإنه يراعي جيدًا فصول السنة، فيطلب فاكهة الصيف في الشتاء، ويطلب
فاكهة الشتاء في الصيف. وإذا طلب دجاجة فإنه يضيف إلى مواصفاتها أن تكون ذات ريش
بني ورأس منمق بالأبيض. وإذا طلب لقيمات من الخبز الجاف، فإنه يشترط أن تكون
اللقيمات من سبع نساء باسم فاطمة أو زينب … إلخ.
٢٣٦
وبعد أن حصل أحمد عاكف على البكالوريا، استغرقته الدراسة الجادة في شتى ألوان
المعرفة الإنسانية فهو «يؤمن بالسحر، ولا يشك فيما يُلقى عليه من أساطيره. وعثر
يومًا بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين، فأقبل عليه بشغفٍ واهتمام. وبعد
أن توطدت الصداقة بين الاثنين، أعاره الرجل بعض كتب قديمة في السحر وتحضير
الشياطين، ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي، وطار بها الشاب سرورًا، وعدَّها
أجلَّ ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماسٍ ويقين يحلُّ رموزها
ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقًا إلى وقتٍ يُتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية،
والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان. أوشك أن يُجن لهفةً وأن يذوب هيامًا.
متى يَدين له عرش النفوذ اللانهائي، فيأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء،
فيرفع ويخفض ويُغْني ويُفقِر ويحيى ويميت؟! ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلًا،
ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليًا بأرواح الشياطين، فاضطرب حبل أمْنه وأُرهقت
أعصابه، وصرعه الخوف والوهم، فتلقفه المرض، وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت.»
٢٣٧
ومن أعمال السحر، تحميص رأس هدهد، ودسُّه في فراش من نريد الكيد له.
٢٣٨ وإذا قرئت على أحد سورة يس بالمقلوب، انقلبت حياته.
٢٣٩
وعندما أرادت زنوبة أن تستميل مصطفى، فإنها أوصت زوجة حانوتي لإحضار قبضة من تراب
ميت، لم يمضِ على دفنه ثلاث ليال، لترش «العمل» على عتبة بيت مصطفى.
٢٤٠
واستطاعت الزوجة الأولى للشيخ حسن أن تسلب من الزوجة الجديدة حياتها، بأن جعلت من
ثيابها الداخلية هدفًا لسحرها وكلماتها غير المفهومة، حتى وقعت العروس الشابة فريسة
لمرض لم يمهلها طويلًا. ثم اتجهت بسحرها وكلماتها غير المفهومة إلى الشيخ نفسه،
فأغمض العين إغفاءة الموت وهو يلفظ اسم الزوجة الساحرة، القاتلة.
٢٤١
والرباط «عمل» يجعل الزوج عاجزًا عن الاتصال الجنسي مع زوجته.
٢٤٢ وقد يتزاوج محاق القمر — خنق القمر — وعجز الزوج الجنسي، أو ما يسميه
العامة «الربط».
٢٤٣ ولم يكن حسان يستطيع أن يفعل شيئًا مع زوجته، وكان يتلوى كالنعجة
المذبوحة، ويبكي مثل الأطفال. وزاد من صعوبة الأمر أن الأثر — كما أخبرهم الشيخ —
لم يكن تحت تربة، لكنه كُتب تحت ذيل قرموط. وُضع القرموط في بئر ساقية. ثم انتقل
إلى الترعة، واندس في الطين من البرد أيام الجفاف. فلما جاءت الكراكة، رفعته مع كتل
الطين. وذاب القرموط في طيات الطين، فخرج الأمر عن حدود الاستطاعة. ولم يعُد أمام
حميدة — زوجته — كي تداري ما يحدث، إلا أن تدلق طست الماء صباح كل يوم جمعة أمام
عتبة الدار، بعد أن تعكِّره بقليل من الصابون دون أن تبل شعرة من رأسها.
٢٤٤ وعندما طال هجر عباس الزنفلي لزوجته في الفراش، اعتقدت أنه ممنوع عليها
بسحر، التمست فكه، وفكَّته بالفعل.
٢٤٥ وكان العجوز يطلب من كل عريس
من أولاد الأعيان أو أغنياء التجار، أن يقدم — ليلة دخلته — جنيهًا مجيديًّا أو
فيكتوريًّا من الذهب، وإلا أصبح في ليلة دخلته امرأة مثل عروسه.
٢٤٦
ولا شك أن للعطارين دورهم الذي يصعب إغفاله في السحر والتنجيم وإيذاء
«العدوِّين».
الفال والطيرة
وردت مادة الطيرة في القرآن الكريم بمشتقاتها (تطير، طائر) دون اسمها، في أربعة
مواضع بأربع سور، هي: الأعراف، الإسراء، النمل، يس. والفال والطيرة ومحاولة جلب
السعد واتقاء الشر والشفاء من الأمراض بالأحجبة والتعاويذ والوصفات الشعبية وغيرها،
جزء من التكوين النفسي للشخصية المصرية، أما الفأل فهو يدعو إلى الإقدام، وأما
الطيرة فإنها تدعو إلى التشاؤم والإعجاب.
كان العرب يطلقون صفة نجيب على الطفل الذي لا يتصل أبوه بأمه في أثناء حملها.
وكان ذلك ما حاول أن يفعله إبراهيم أفندي الكاتب بإدارة المستخدمين بوزارة
الحقانية، حين حملت — للمرة الأولى — زوجه نعيمة.
٢٤٧ وتناوُل الطعام مع الآخرين يعني «وجود عيش وملح»، فهو إلزام بعدم الخيانة.
٢٤٨ وقد يتشاءم البعض من أعور العين.
٢٤٩ وثمة من يستبشر ويتشاءم مِن أول سحنة تلقاه في الصباح.
٢٥٠
وتفاؤل الفلاح وتشاؤمه يظهران في إيمان الرجل بالفأل الحسن الذي تحقق من شراء
جواده الجديد. ففي الخميس التالي لشرائه عُيَّن عمدة للقرية، وما ركبه لمحكمة إلا
كسب القضية، ولا إلى باب مغلق إلا انفتح على مصراعيه، ولا أوقعه على الأرض مرة
فأصابه سوء، ولا ركبته مطلقة وذهبت به إلى مكان إلا وردَّها زوجها قبل أن يغيب
هلال الشهر؛ إنه حصان مبارك.
٢٥١
ومن مظاهر التفاؤل والتشاؤم المتصلة بالزواج أن «اللي تقرص العروس ليلة دخلتها،
تحصَّلها في جُمعتها»، وأنه «إذا حد قرص العريس ساعة الفرح يحصله هو راخر ويتجوز» …
و«إذا العريس والعروس عدُّوا من تحت رجلين أم العريس يتفقوا ويتهنوا» … و«إذا شرب
العريس الشربات بعد ما العروسة تحط رجلها فيه يحبها زيادة وزيادة.»
٢٥٢ … و«عروسة الاتنين يزورها الحسن والحسين.»
٢٥٣ وفي قول «فقر ودين» (عاصفة فوق مصر، ٧١)، وعروسة الأربع تطلق يا على
بيت أبو ترجع»
٢٥٤ وإذا لم يعقد الزواج يوم الأحد أو الخميس فمن المتوقع أن تكون له نهاية
مشئومة، وليس ثمة ما يفضل زواج الخميس لأن «يوم الخميس كان فيه النبي خير عريس.»
٢٥٥ وإذا كان ذلك هو معتقد أبناء الريف في معنى الزواج يوم الخميس، فإن
أبناء المدينة يعقدون زيجاتهم مساء الخميس للاستمتاع بعطلة يوم الجمعة، وغالبية أهل
المدن من الموظفين.
٢٥٦
ويتفاءل المصريون باللون الأخضر والأبيض. فاللون الأخضر هو لون المزروعات، وهو
التعبير عن الخصوبة والنماء. إنهم يقولون سنتك خضرة … سكتك خضرة. والأبيض دليل
النقاء والصفاء والطهر. يقولون: نهارك أبيض … ليلتك قشطة … صباحك فل، ويتشاءمون من
الأسود والأزرق، فالأسود هو لون الحداد، وهو نذير حزن وشؤم. أما اللون الأزرق فإنه
لون «النيلة.» وعندما يتلقى المرء خبرًا مزعجًا كوفاة عزيز، فإنه يصرخ — بتلقائية —
يا نهار أزرق! وإذا أراد عقاب أحد ضايقه، فإنه يقول له: انت حا تلعب لي في
الازرق!
واعتبار بعض الأيام نحسًا ينبغي عدم العمل فيها، والبقاء في البيت إن أمكن، معتقد
فرعوني. وكان سلوك الأفراد يتم وفقًا لذلك المعتقد، فقد كان من المستحب عدم مغادرة
البيت عند غروب الشمس، أو في الليل، وربما في كل ساعات النهار. وكان الاستحمام
محرَّمًا في يومٍ بذاته، وكذلك ركوب القوارب، أو القيام برحلة، أو أكل السمك وكل ما
يخرج من المياه.
٢٥٧ وثمة اعتقاد أن النساء والرجال على السواء، يجب أن يتكحَّلوا في يوم
السبت السابق لعيد شم النسيم، ويسمَّى «سبت النور»، لأن هذا فأل حسن. وبعض الأعداد
ذات تأثير مكروه أو غير مستحب، وأخرى ذات دلالة طيبة. والبعض يؤمنون بالسعد والنحس
فيما يتاح لهم سكناه من بيوت.
٢٥٨ وتحرص النساء على عدم كنس البيوت بعد الغروب، لأن ذلك يؤدي إلى جلب
الخراب، وقد يحدث كارثة.
٢٥٩ ويرفض الرجال العمل بعد الحادية عشرة ظهر يوم الجمعة لأنها ساعة نحس
شؤم، أو ساعة نحس «وربما تحط تلك الساعة فوق شخص ما.»
٢٦٠ وقد سخر المهندس جعفر من إيمان العمال بأن الساعة الحادية عشرة ظهرًا
هي ساعة نحس، وفي أثناء نزوله من السقالة منفعلًا، سقط إلى الأرض، وكُسرت ساقه، وسأل
صديقه — فيما بعد — قائلًا: هل تعتقد أن ساقي كسرت لأنني كنت أسخر من خرافة. سأل
الصديق: أية خرافة؟ قال المهندس: ساعة النحس في يوم الجمعة.
٢٦١ والكثير من الناس بعامة يتشاءمون من يوم الجمعة، يثقون أن فيه ساعة
نحس، يفضِّلون إرجاء أي عمل في هذا اليوم إلى يوم السبت.
٢٦٢ وعندما يشبك المرء أصابع يديه، فإنه يجلب الفقر،
٢٦٣ والصفير بالليل حرام، ويدفع الثعابين إلى مغادرة جحورها.
٢٦٤ ومجرد مرأى الغراب يدعو إلى التشاؤم.
٢٦٥ ونعيب البومة دليل شؤم، لصوتها، ولأنها تختار الليل، وتميل إلى العزلة،
وتحيا في الخرائب. وحين نعبت بومة فوق شجرة الجميز، تشاءمت سميرة، وقذفت البومة
بحفنة تراب لتغرب عن المكان.
٢٦٦ ولما ردَّد الكروان دعاءه انشرح صدر أم الخير، وتنفست الصعداء، لكن بومة
أبت إلا أن تجيبه بالنعيق، فانقبض صدر المرأة لفأل شيء كفى الله شره العدو قبل الحبيب.
٢٦٧ فثمة اعتقاد بأنه إذا نعبت بومة فوق أحد البيوت، فلا بد أن أحد ساكنيه
سيخرج محمولًا إلى المقابر. أما إذا تناهى صوت كروان فإن الصدر ينشرح لفأل حسن.
٢٦٨ ويخشى أهل الريف عواء الكلب في الليل، يعتبرونه نذير شؤم.
٢٦٩ وإذا تواصل نباح الكلاب، فإن معنى ذلك هو توقع الموت لواحد من أعزائنا،
ملك الموت يسمى «سيدي عبد الرحمن عزرائيل»
٢٧٠ لا يراه البشر، وإنما تبصره أعين الحيوان.
٢٧١ وكأكأة الغراب تنبئ بالفراق وتشتت الأسرة.
٢٧٢ والفقاعة على وجه القهوة تمثِّل صرة نقود في الطريق،
٢٧٣ وإذا انقلب الشبشب رأسًا على كعب، فمعنى هذا أن أحد أفراد الأسرة سيخرج
إلى سفر.
٢٧٤
ويتشاءم البعض من دموع التوديع، فهو يتماسك أن يذرف دمعة
٢٧٥ كذلك فإنه إذا رفَّت العين اليسرى فهذا دليل شؤم.
٢٧٦ أما إذا رمشت العين اليمنى فذلك نذير بالخير. فإذا شرق المرء وهو يشرب،
قيل له إن إنسانًا بعيدًا يذكره في تلك اللحظة.
٢٧٧ لكن محمود طاهر حقي يذهب إلى أنه إذا رفت العين اليمنى، فإن ذلك نذير شر.
٢٧٨
والنزول من السرير بالقدم اليمنى باعث للتفاؤل، أما النزول بالقدم اليسرى فهو
يفرض على اليوم الكآبة.
٢٧٩ وإذا أحس المرء بأكلان في كفِّه اليمنى أدرك أنه سيسلم على أحد، فإذا
أكلته يده اليسرى أدرك أنه سيقبض نقودًا من أحد. وعندما يسيل عرق بارد غزير على
جبين المريض الملتهب، فإن أهل المريض يسمونه «عرق العافية».
٢٨٠
وعندما يدعو أحمد عاكف أن يجعل الله بيتهم الجديد بخان الخليلي مسكنًا مباركًا،
تؤذيه جملة عابرة «الله يخرب بيتك ويحرق قلبك»، فيهمس لنفسه: «أعوذ بالله من الشؤم والتشاؤم.»
٢٨١
وتعلِّق بعض الأسر سنابل القمح أعلى أبواب بيتها، لجلب الرزق والخير.
٢٨٢ وقد يُعَلَّق فوق الباب تمساح محنط لجلب الرزق.
٢٨٣
وإذا خلع الظل سنته، احتفظ بها ليلقيها في عين الشمس لحظات الغروب وهو يقول: «يا
شمس يا شموسة … يا بنت علي موسى … خدي سنة الحمار وهاتي سنة الغزال.»
٢٨٤ وحين سقط ضرس من فم الحاج ماضي، فإنه لجأ إلى دقه في باب الدار — كما
يفعل الفلاحون — على سبيل الفأل، حتى لا تتساقط بقية الإنسان.
٢٨٥
وعندما يمد الأسطى حسن يده بالماء، ويرش وجه بمبة، تغفر فاها في صرخة عالية
طويلة مستمرة، تقرب من صوات النائحات، ويقول لها: لما أنتِ مش حمل الهزار بتهزري
ليه؟ فتجيب: رش الميه عداوة!
٢٨٦
وعندما كان محمد أفندي (الأرض) في طريقه إلى القاهرة لتقديم عريضة القرية إلى
المسئولين، قابلته فتاة تحمل جرة فارغة في طريقها إلى النهر، فاستدارت الفتاة
حالًا، وتخلَّت عن الطريق، ووضعت الجرة على الأرض داخل أحد الحقول، وأحنت رأسها إلى
الجرة وظهرها إلى الطريق؛ خافت الفتاة أن يقابل محمد أفندي في الطريق جرة فارغة،
فتكون دليل شؤم.
٢٨٧
وكانت الأم تعود إلى البيت إذا قابلت إحدى النسوة تحمل جرة فارغة، وكانت تتشاءم
من أي شيء فارغ في الصباح، وتعتقد أن حاجتها لن تُقضى مهما تبذل من سعي.
٢٨٨ وإذا انكسر الكوب أو المرآة، قيل للمرء: أخذت الشر وراحت!
٢٨٩
وعندما تنتقل الأسرة إلى بيت جديد، أو شقة جديدة، فلا بد أن يسبق الانتقال حفل
«تزعيف» لتحل بها السعادة، ولتكون أيامه كلها مرحًا وهناءة. وفي حفلات الزفاف، على
الفتيات اللائي لم يتزوجن بعد، أن يسرعن إلى العروس ليقرصنها، ويلحقنها في أسبوعها.
وبعد أن يترك الدار ضيف غير مرغوب فيه، فمكن الأفضل أن نكسر وراءه قلة فلا يعود
أبدًا.
أما حالات العقم فيمكن شفاؤها إذا مرَّت العاقر من تحت شجرة «المندورة» بدير
النحاس، وحتى تنمحي العكوسات تمامًا، يجب عبور النيل في قارب. وحين أفلح الصبي سعيد
في قتل ثعبان داخل البيت، وألقت أمه بالثعبان الميت من النافذة، بادرت الجارة بهانة
إلى الخطو فوق الثعبان رائحة آتية عدة مرات، اقتناعًا منها بأن ما فعلته ربما
يشفيها من العقم الذي تعانيه.
٢٩٠ ويمكن للعاقر أن تزور دار الآثار لأن رؤية «المساخيط» — المومياء —
تفيد في علاج العقم. فإذا لمست العاقر صنم الفرعون يتيقظ أملها في الإنجاب.
٢٩١ وقد تذهب النسوة إلى مناطق الآثار، يتدحرجن أمامها عندما يتعذَّر الحمل.
٢٩٢ وأحيانًا تمر العاقر على عقد من الخرز، فتُشفى بإذن الله.
٢٩٣ ولأن الدرويش مسح على بطن المرأة وباركها، وقال: مكتوب في اللوح إن
النبع لن يجف أبدًا، ولأن الغجرية ضاربة الأمل قالت إن تربة المرأة قابلة للعطاء،
فقد ملأها اليقين بأن المستقبل — رغم تقدم عمرها — سيأتي بالإنجاب.
٢٩٤ وكان حجاب الشيخ رجب هو وسيلة «بطة» للإنجاب، وهو السبيل لفك رباط زوج
رقية حتى ينعم بها.
٢٩٥
والمرأة التي لا تنجب تستطيع أن تجعل من نفسها أمًّا لطفل من أبناء قريبة أو جارة
لها، بأن تأخذه عند ولادته فتدخله من بين ثوبها وبين صدرها، فيصبح لها عليه حق
الأمهات، وله عليها حق الأبناء.
٢٩٦
والملائكة تغضب إذا أقلقتها في الليل.
٢٩٧ ورش الملح — صبيحة ولادة المولود — مسألة مهمة لصرف الملائكة الكرام
الذين أحاطوا به طوال الليل يحرسونه. كذلك فإن وضع شمعة كبيرة فوق رأس المولود
لتنير له في أثناء الليل، سيبدد — فيما بعد — ظلمات حياته، ويهديه سواء السبيل. أما
إذا وُضِع فوق رأس المولود كيس من النقود، فهو لا بد سيشب غنيًّا، وعندما تلد إحدى
نساء الأسرة، يجب التأكد من أن قطة لم تلد حديثًا في نفس البيت حتى «لا تكبس»
المولود بصغارها.
وكان رأي الحاج أمين أن الكبد هو «بيت» الشباب، ومصدر الحياة، ومن ثَم فقد كان
يستعين على تقوية الكبد بحبَّة في حجم الحمصة، يتناولها عصر كل يوم، ليصل مفعولها
إلى الكبد، ومنه إلى نخاع العظام.
٢٩٨ وثمة من يجد في لبن الحمير صونًا للأطفال من الموت.
٢٩٩
وقد شفيت أم فاطمة بعد أن رأى الشيخ محمد أترها، وكتب لها حجابًا، وأعطاها
بخورًا، وشربت ماء به ورقتان مكتوبتان، ورقة عند شروق الشمس، وورقة عند غروبها.
٣٠٠
أما الست نجية، فقد كان لها فلسفة أخرى، لا تعتمد على الأحجبة والتعاويذ، وتلجأ —
في الوقت نفسه — إلى الأطباء الذين كانوا — في رأيها — يميتون الناس قبل أن تفرغ
آجالهم. وكانت نصيحة الست نجية لكلِّ من يشكو مرضًا أو عارضًا: كُل، ثم كُل، وكان ذلك
هو الدواء من الحمى والمغص والصداع.
٣٠١
الحلم
تصف المرأة (دهشان) عالم الأحلام بأنه «غريب وفير، عالم واسع وبلا حدود أو ضوابط.
فيه قوى خفية، تسيطر على أرواحنا، تحملنا — دون إرادة منا — إلى دنيا غريبة، مشاهد
سحرية خارقة، بعد أن نفيق نجد أن كل شيء قد انتهى، نحاول أن نتذكر، وأن نستجمع
المشاهد، وأن نبحث عن تأويل لها، قد نُوفق، وكثيرًا ما نعجز أو ننسى.»
٣٠٢
وكان للمصريين القدامى إله للأحلام هو «بس»
Bess.
وقد نُقشت صورته على الكثير من الوسائد التي يضع المصريون عليها رءوسهم.
٣٠٣ ومن تفسيرات المصريين القدماء للأحلام أن من يرى نفسه ميتًا، سوف يحصل
على طول العمر، ومن تسقط أسنانه سيموت له قريب، ورؤية المرء لنفسه في المرآة يعني
زوجة ثانية، والقطة الكبيرة — في الحلم — تعني محصولًا وفيرًا، ومن يتسلق صاري مركب
يعلو شأنه … إلخ.
٣٠٤ وقد فسر النبي يوسف عليه السلام للفرعون حلم الفرعون عن البقرات السمان والبقرات
العجاف، ورقاه الفرعون — لاقتناعه بالتفسير — إلى منصب الوزير.
الحلم — في التعبير العلمي — هو تعبير رمزي، ووسيلة للتنفيس عن رواسب اللاشعور.
قيمة الحلم أنه يحمل علامات وإشارات ورموزًا، ويجمع بين هذه العلامات والإشارات
والرموز، وبين النيَّات والآمال والرغبات التي يتوق إليها. وتفسير الأحلام وتأويلها،
يأتي في مرتبة متقدمة بين وسائل التنبؤ بالمستقبل.
٣٠٥ الحديث النبوي يقول: «من رأى رؤية لا تسره، فليتعوذ بالله، ولا يقصها
على أحد، فإنها لا تضره.» بمعنى أنه على المرء أن يكتفي للحلم الذي لا يسره بروايته،
حتى لا يفسر الحلم بعد تأويله. وتصف الفنانة (ريحانة) الأحلام بأنها ليست في كونها
تجسيدًا، ولكن بما تأويه في جوفها، وبما تحمله من مكتسبات، وبما تعنيه من لغوٍ أو
تجميع أو إدراك، أو ربما بما خفي منه تسريب للعاطفة وتضاد مع الواقع، إذا اعتبرنا
أحلامنا هي التعويض الضروري لنا، عن الواقع الذي نفتقده.
٣٠٦ خطورة الأحلام في حياة الإنسان المصري أنها تقود خطوات حياته العملية،
فهو يتفاءل ويتشاءم ويتوقع من تأويل الأحلام، ويتصرف بوحي منها. يقال «وحي المؤمن منامه.»
٣٠٧ فالحلم إذن ليس مجرد خواطر، أو رؤى، أو حتى هواجس تدور في المنام،
لكنها مؤشرات إلى وقائع محتملة، وإن كان البعض يذهب إلى أن الأحلام تعطي عكس ما
نراه في النوم، فالمرض بشير بالعافية، والإفلاس هو الغنى، والموت طول في العمر.
٣٠٨ وقبل أن يبدأ المرء في الحديث عن حلمه، فإنه يقول: «حسبتك يا ليل نهار،
خير اللهم اجعله خير» ويبدأ في الحكي.
٣٠٩
ولقد طالما روى حسن لأبناء القرية ما رآه في نومه، حين جاءه سيدي الخضر وأنبأه
بقرب نهاية العالم، وأن الأرض توشك أن تزول بما فيها، ومن فيها.
٣١٠
والسمك في الحلم فأل حسن،
٣١١ واللحم في الحلم غم،
٣١٢ والشمعة عز، والنور فرج … ذلك ما أكده الشيخ مصطفى.
٣١٣ ولما حلمت الأم أنها رأت الهلال يظهر لها مثل خيط رفيع، فاعتقدت أن
ابنها مريض.
٣١٤ وقد أصرَّت الزوجة أن تعود إلى مدينتها التي كانت ظروف الحرب قد اضطرتها
إلى الهجرة منها، بعد أن رأت في المنام ثعبانًا أسود هائلًا، «يزحف هابطًا فوق
تكعيبتنا، ويتجه إلى عشة طيورنا، بينما هي متمددة تحت شجرة المشمش. استولى عليها
الذعر، وحاولت أن تنهض أو تصرخ، إلا أنها لم تستطع أن تتحرك، وجف لسانها في حلقها،
فلم تستطع الصراخ، ثم إذا بباب العشة يُفتح، فتخرج منه امرأة غير متحشمة، ترتدي
ثيابًا ذات بريق، وتغطي وجهها بالمساحيق، وتتقدم المرأة منها في خطوات ثابتة
متوعدة، وتقول لها: هات إسورتك ألبسها. أخفت أمي يدها وراء ظهرها وقد تملَّكها الخوف،
وقالت: لا، إنها إسورتي. تطاير الشرر من عينَي المرأة وصاحت: إن لم تعطيني الإسورة
فسأقطع يدك، وآخذها. فأطلقت أمي صرخة عالية، وأفاقت من نومها.»
٣١٥ وتظل الأم نهبًا لتشاؤمها، حين ترى ابنتها في المنام وهي ترتدي السواد
يوم زفافها.
وإذا تحطمت قطعة من متعلقات البيت — حتى لو حدث هذا في الحلم — فهو أمر يبعث على
التشاؤم في نفوس أصحابه. وحين صحا الراوي حزينًا محبطًا، فلأنه حلم بأن زهرية في
البيت قد انكسرت «وأوقفني كسرها عن الانحناء على جدي عبد الوهاب لأقبِّله، وأبكي على
صدره. تشاءمت من كسر الزهرية، وفكرت أن جدي عبد الوهاب مريض، وسيطر عليَّ يقين أنه
سيموت، فالزهرية قد انكسرت.»
٣١٦ وروت الأم عن نزول حمامات سبع، وأشارت حمامة إلى بيت الأم، ثم جاء جمل
وأخذ المرأة على ظهره ومضى. ثم رأت بركة ماء سوداء اللون، أكلت التماسيح كلَّ مَن
فيها، ثم رأت نفسها داخل قاعة مظلمة، ثم أقسمت الأم إنها رأت رؤيا الموت، وسمعت
موسيقى الموت ترن في أذنيها.
٣١٧
أما درية، فقد رأت برج الحمام في الحلم — قبل موت أبيها — يسقط، كأن شيئًا اقتلعه
من أساسه، والحمام يطير في كل صوب. وقبل زواجها، رأت أن في يدها فردتَي مقص، وكأنها
تركب واحدة على الأخرى.
٣١٨
وقبل أن تحدد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م ملكية سليم باشا شلبي، أخبرته زوجه أنها رأت في
المنام بقرة نزلت إلى مجرى الماء في القرية، وراحت تشرب حتى شربت المياه التي كانت
تجري في كل القنوات.
٣١٩
وزيارة الموتى للأحياء في الحلم، تفسيرها أن الأحياء يُستدعَون إلى الموت.
٣٢٠
وكانت عودة الشيخ عبد اللطيف إلى الإيمان، مبعثها ذلك الحلم الذي تمثَّل له ذات
ليلة كان يعاني فيها من مرض شديد أعلن الأطباء يأسهم منه: رجل نحيل أبيض، حاد
العينين، مرَّ بيده الرفيعة على جبينه المحموم، وقال له: إن محمدًا سيشفيه بإذن الله.
وشُفي الشاب من مرضه بالفعل، فهجر حياة اللهو التي كان يحياها إلى قراءة القرآن،
وزاد فخلع الطربوش، وارتدى العمامة بدلًا منه.
٣٢١
والمفتاح في المنام تحقيق أمل. ذلك ما قالته الأم لليلى، عندما أخبرتها بحلمها
الذي أعطاها فيه حلمي ابن عمها سلسلة مفاتيح بها ثمانية عشر مفتاحًا، وكان عمر ليلى
ثمانية عشر عامًا.
٣٢٢
وفي ذروة المحنة التي كان يحياها فوزي السيد، حلم ذات ليلة بشيء يهجس في نفسه:
سوف تتبدَّل الأمور؛ ما هو مربوط سيحل، الظلام سيتحوَّل إلى نور.
٣٢٣ وهو ما تحقق — من وجهة نظر الراوي — في قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م.
•••
الموت — كفكرة مسيطرة وحقيقة مؤكدة في حياة البشر — هو محور كل تلك المعتقدات
والممارسات، المصري يرفض فكرة العدم، إنه يعتبر الموت مجرد برزخ، جسر، لحياة أخرى.
فالإنسان خالد، لهذا كان الفراعنة يتركون في قبر الميت طعامًا وثيابًا ومتعلقات
نفيسة. نحن لا ندري: هل كان اشتغال بنت التربي بالتوليد من قبيل المصادفة، أو أنه
اختيار الفنان ليؤكد على أن الحياة تتخلق من الموت، وأنها أقوى منه.
٣٢٥ يتساءل مدحت في داخله: هل حقًّا سنلقى جزاء ما اقترفنا من آثام؟ أو
أننا سنُدفن في حفرة، ويهال عليها التراب، ويسكن كل شيء حولنا. لا زمن، لا وزن، لا
بيوت، لا صخب، سكون مريب يدفع إلى الجنون. ولكن أي مصير هذا؟ وأي ثواب؟ وأي عقاب؟
أيمكن أن نخرج من جوف القبور أصحاء معافين؟ ولماذا؟ لنتلقَّى عقابًا عما آتته أيدينا
وألسنتنا وقلوبنا؟
٣٢٦
الخلود الذي يؤمن به المصريون، يعني استمرار وجود الروح بعد فناء الجسد. الموت
معناه فناء الجسد، لكنه لا يعني فناء الروح، فالروح باقية. وإذا كان المصريون
القدامى قد عنوا بدفن جثمان الميت، اعتقادًا بأن الجسد إذا فنى، فإن الروح تهلك،
فإن المصريين المحدَثين يؤمنون بخلود الروح، حتى لو فنى الجسد! لم يمارس المصريون
حرق جثمان الميت، لاعتقادهم أن موت الجسد حالة مؤقتة، وأنه سيعود إلى الحياة على
هيئته مرة ثانية. لذلك حرصوا على تحنيط الجسد، وعلى دفنه في موضع صحراوي — إن أمكن
— حتى لا يتحلل.
كان المصريون القدامى يعتبرون الحياة الدنيا جسرًا لخلودٍ طويل.
٣٢٧ لذلك، فقد صرفت العقيدة الدينية قدامى المصريين إلى العناية بالحياة
الآخرة، ووجَّهتهم إلى بناء قبورهم ومعابدهم، وليس إلى بناء المنازل. وبين الآثار
التي خلَّفها الفراعنة، لا نكاد نجد أثرًا حيًّا للبيت المصري، بينما نجد مئات الآثار
الباقية للمعابد والقبور. وتشير الجدة في أحاديثها إلى ما ألفته القرى في الصعيد
بدفن موتاها في الشاطئ الغربي، عادة متوارثة منذ آلاف السنين، لم يشغلهم البحث عن
بواعثها، وإن حرصوا عليها إلى زماننا الحالي.
٣٢٨ والحق أن لدفن الموتى في الغرب بواعثه التي تتصل بصميم المعتقَد المصري
القديم، والذي يجد امتدادته حتى الآن، وإن غابت البواعث عن الكثيرين «أقبلت على
دنيا الغرب، وأنا أنام حتى مطلع الفجر. لم تكن عيناي قد ثقلتا، ولا ضعفت ذراعاي، ولا
انتابني عارض من الأمراض، ولا عانيت تأثيرات الشيخوخة. وعبرت الطريق المؤدي إلى
السماء، بخطواتٍ ثابتة، وسريعة. وضعت النبات المسموم — بنفسي — داخل الطعام. أجدت
خلطه، أبتلع، ولا أمضغ، فلا أحس بمرارة النبات. أسلمت نفسي — في فرحة — إلى رقدة
الموت، حتى أدخل في حضرة المبجل أوزوريس. جلست في زورقي، وتناولت مجدافي بيدي،
واتجهت إلى حيث الضياء الأبدي.»
٣٢٩
ثمة اعتقاد — عند الغالبية من أبناء الريف — أن قدَر المرء يُكتب في ليلة النصف من
شعبان، إن كان سعيدًا أو شقيًّا، ويتحدد فيها مواليد العام المقبل، ووفيات العام
المقبل كذلك. من هنا، تأتي أهمية الدعاء في المساجد ليلة النصف من شعبان.
٣٣٠ والعادة أن يغني الأطفال في تلك الليلة: يا رب ثبِّت ورقتنا … على
شجرتنا … واحنا لسة صغار.
٣٣١ وإذا انكسر شيء، آنية أو قلة أو زجاجة أو إطار، فذلك قد يكون نذيرًا
بأذًى يلم بأحد أفراد الأسرة.
٣٣٢ ومن نذر الموت، تلك الذبابة الزرقاء التي يعتقد البعض أنها إذا دخلت
بيتًا، فإن معنى ذلك اقتراب وفاة أحد أفراده. أما إذا حوَّمت حول شخص ما، لا تفارقه
في ليل أو نهار، فدلالة ذلك هي التأكيد على اقتراب وفاة المرء.
٣٣٣ ويحرص الأهل على تلبية طلبات المريض، فهم يرَون فيها الشفاء أو وداع الدنيا.
٣٣٤ ويقول الأب إن مَلَك الموت كان يأتي قبل الرسالة المحمدية مجسَّدًا. فلما
بُعث الرسول
ﷺ رجا الله أن يرحم أمته من هذا الهول، فصار عزرائيل يتخفَّى، لا
يظهر إلا لمن سيقبض روحه.
٣٣٥ وطلوع الروح يبدأ — دومًا — من القدمين،
٣٣٦ فإذا عوى الكلب بلا سبب، فمعنى ذلك أنه شهد وجه عزرائيل يدخل المكان.
٣٣٧
•••
إن المصريين يؤمنون بأن الموت قدَر، نهاية لا فرار منها، إنه نهاية كل حي، وآخرتنا
التراب. من هنا تأتي دلالة القول عن إعلان نبأ وفاة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون
٣٣٨ الموت ظاهرة طبيعية يجب أن نألفها ولا نجزع منها، إنه ليس أكثر من
نهاية لشيء.
٣٣٩ «من منكم لا يرى الموت أقرب إليه من حبل الوريد؟ أنا نفسي أراه كامنًا
بجواري في كل لحظة، في عربة تعدو في الطريق، أو زر الكهرباء، أو من عود ثقاب، أو من
رصاصة صغيرة، أو من قطعة جاتوه، أو في كل شيء أو في لا شيء … في سكتة من سكتات القلب.»
٣٤٠ وقد سأل شيخ الكتَّاب تلاميذه يومًا: هل تعرفون يا أولاد معنى الموت؟ وأجاب الرجل على
سؤاله: إن الموت هو انتقال … انتقال من دنيا الفناء إلى دنيا
البقاء. وسأل تلميذ: لماذا يموت بنو آدم؟ أجاب الشيخ: لأن لكل أجل كتابًا.
٣٤١ وإذا استطاع الراحل أن يؤجل نفسَه الأخير، فإنه لا يموت إلا بعد أن
ينطق الشهادتين.
٣٤٢ والمعتقد يؤمن بأن الموت هو عملية انتقال إلى العالم الآخر، إلى حد
التيقن من أن عيني الميت تريان كل شيء، فالواقفون في المكان الذي سُجي فيه يغادرونه
بظهورهم حتى لا يسيء إعراضهم إلى شعوره.
٣٤٣
الحديث الشريف يحرِّم البكاء على الميت، لأنه يقلق عظامه في قبره،
٣٤٤ وإن كانت قراءة الفاتحة للميت تنير له القبر.
٣٤٥ ويقول الرجل: «ما الذي يفعله الندب والبكاء واللطم … والخميس …
والأربعين … هل يرد ميتًا؟ إن حياتنا كلها جنائز، وقد ضقت ذرعًا لهذا!
٣٤٦
مع ذلك، فإن المصريين — كما يقول الراوي — أكثر شعوب الأرض حزنًا على الميت، وقد
بنوا منذ عصور الفراعنة أهرامات للموتى ومعابد، وهم — إلى اليوم — يدفنون الصالحين
والعظماء في المساجد، ولا يزال جزء كبير من مدينة القاهرة تشغله المقابر.
٣٤٧ وتتعدَّد مواسم الحزن على الذين يتوفاهم الله.
٣٤٨
ومن يلقى ربه ليلة الجمعة فهو من الصالحين، يضاء قبره طيلة الليلة الأولى بقنديل
أبيض.
٣٤٩ أما من يموت يوم الجمعة اليتيمة فهو إنسان مبارك.
٣٥٠ فإذا رحل الميت في يوم من أيام رمضان، أو في ليلة النصف من شعبان، أو
في أيام العيدين، فإن معنى ذلك أنه رحل في ليلة مفترجة.
٣٥١
وعمل الحانوتي لا يتم إلا بحضور شاهد، ذلك شرط ديني.
٣٥٢ وحضور «غُسْل» الميت، والمشاركة في الجنازة، وإدخال الميت القبر،
يُكْسب المرء ثوابًا عظيمًا.
٣٥٣ ومع أن البكاء في حضرة الميت حرام، يعذَّب المفارق ببكاء أهله عليه،
٣٥٤ فإن الفنان يهَبنا وصفًا للحظات الوداع والرحيل: «وفجأة، جاءت أعصب ساعة
في تشييع الجنازات، الساعة التي يصدق فيها شعور المشيعين بالحزن، ويلمع في أذهانهم
كالبرق الخاطف إدراكهم أنهم لأجلٍ قريب، وأن كل شيء في هذه الدنيا باطل، وأن الموت
حتم على الجميع. أما من غض القلب فتندى عيناه إن لم يذرف الدمع، وأما من كان قلبه
من حجر صلد فيداري وجهه من الخجل لجحوده ساعة أن تبدأ الخشبة تتدلى على السلم؛ هي
ساعة الوداع. إن يكن المفارق هو جثة، فإنها جثة حبيب، أهله يؤمنون — رغم صمته — أنه
يودعهم أيضًا إلى لقاء بين يدي الله، حينئذٍ تشتعل نار صراخ مبحوح وقلوب ممزقة،
وتندلق من النوافذ ويتعالى النداء: بابا … بابا … أخويا … أخويا … رايح على فين.»
٣٥٥
والذبيحة التي تُذبَح للميت تُسمَّى «الونيسة»، بمعنى أن الفعل يؤنس الميت في
قبره.
وحمل نعوش الموتى خير صدقة يتصدَّق بها الفقير.
٣٥٦ لذلك فإن المشيعين يتناوبون حمل النعش، رغبة في الثواب والأجر.
٣٥٧ وثمة اعتقاد أن روح الميت يرفرف فوق النعش، ويسرُّه أن يرى صغاره يمشون خلفه.
٣٥٨ فإذا جرى النعش بمشيعيه — أو جرى المشيعون به! — فذلك لأن هذا هو عمله الطيب!
٣٥٩ أما من يتباطأ نعشه، فلأن النفس الخاطئة تخشى لقاء ربها.
٣٦٠ وثمة من يتشاءم من خشبة نقل الموتى، ما من مرة لمس أحد فيها هذه الخشبة
إلا مات،
٣٦١ إلى جانب أن حضور الأطفال المآتم فأل سيئ.
٣٦٢ ومع إن البعض يؤمن أن الأرواح تنتقل إلى عالم آخر، علمه عند الله، وتظل
حبيسة في هذا العالم لا تفارقه حتى يوم الحساب،
٣٦٣ فإن البعض الآخر يؤمن أن الروح تظل طليقة، وأنها إذا تحوَّلت إلى قطة
بيضاء فهي روح طيبة، أما إذا تحوَّلت إلى قطة سوداء فهي روح شريرة.
٣٦٤ والبعض يحرص على عدم قتل الفراشات لأنها أرواح.
٣٦٥ إن أرواح الموتى الذين يحبوننا تحُوم علينا لترى حالنا دون أن نراها.
٣٦٦ وثمة اعتقاد أن الموتى يسمعون،
٣٦٧ والإحساس بأن الموت لا يعني التلاشي والاندثار هو الذي دفع سيدة لأن
تطلب أن تُدفَن في مقابر أسرة سادتها حتى تكون «في ونسٍ بجوار الأسرة كلها، مع
المرحومة الغالية، وسيدي الكبير.»
٣٦٨ وربما أوصى الراحل أن يُدفن في مكان ميلاده لأن «إليها العودة حين يطلب
الجسد الأرض التي أنبتته، وحين تطلب الروح مكان الميلاد.»
٣٦٩
فإذا أراد أقارب الميت أن يهبطوا إلى داخل القبر، فإن النصيحة التي يستمعون إليها
هي: حاسب من العَمَّال. والعَمَّال هو اللسان في الموروث الشعبي؛ ذلك لأن الميت
يفنى إلا لسانه، فإنه يتيبس، ويصبح مدببًا كسنِّ الإبرة، فإذا لمسه إنسان مات لتوِّه.
٣٧٠
وثمة بعض الموتى الذين في نفوسهم شيء من الولاية، يعلو صوته والناس يهبطون به إلى
قبره: اللهم اجعله منزلًا مباركًا.
٣٧١ لكن الأسئلة لا بد أن تحدق بالميت في ظلام القبر.
٣٧٢
ولأن الموتى يلتقون في العالم الآخر، فقد طلبت عمة محمود إبراهيم — حين أحسَّت بدنو
الأجل — أن تراه وتودعه، حتى إذا ما التقت بأبيه، وسألها عن ابنه، قالت له إنها أدت الواجب.
٣٧٣ والموتى بعامة يسمعون كل ما يقوله الأحياء، وإن حال الموت دون تعليقهم
عليه. وكانت الأم تدور حول قبر زوجها الراحل دورتين وهي تقرؤه السلام، ثم تقف أمام
المقبرة، وتحدِّثه بما طرأ على حياتها.
٣٧٤
ومن غير المستحب، أو هو مكروه، دفن الموتى بعد الغروب.
٣٧٥ وعندما قدِم الأهل بجثمان أبيهم لدفنه، هتف التربي بغيظ: معقول؟! دفن
في عز الليل؟! هل الدنيا طارت؟!
٣٧٦
وكان أشد ما يخشاه الخال السيد — كلما اقترب من المقابر ليلًا — ظهور أرواح
الموتى الهائمين، باحثين عن ملاذ، وباسم الله أهل تحت الأرض.
٣٧٧
وفتح المقبرة لإنزال ميت على ميت آخر لم يمضِ سوى أيام على دفنه، أمر يبعث على التشاؤم.
٣٧٨ وثمة رواية أن الموتى الراقدين في تلال زينهم لا تتعفن أجسادهم، وأنهم
أول من يسمعون النفير يوم القيامة فيستيقظون قبل غيرهم من الموتى.
٣٧٩
وإذا تحتمت الوفاة، فإن الميت — بصرف النظر عن لوعة الفراق، أو الدمار الاقتصادي
الذي يحل بالأسرة، إن كان المتوفى هو العائل — يصعد إلى السماء ليتزوج أربعين من
الحور العين؛ المؤمن يكافأ على صبره في الدنيا، بالحور العين في الآخرة.
٣٨٠ وحور العين يتقسَّمها المؤمنون، فمن سبَّح ألف تسبيحة زيدت قصوره،
وكثرت جواريه، ومن صلَّى عددًا من الركعات تضخَّم ملكه من الحور الفاتنات.
٣٨١ ومع أن الحور العين لسن إلا زوجات المؤمنين وقد عاد إليهن شبابهن —
يوم القيامة — وتغيَّرت ملامحهن، ودخلن الجنة،
٣٨٢ فإن الشيخ الصالح غيث عانى غيرة زوجه الطاغية، لأنه سيتزوج — بعد وفاته
— واحدة من بنات الحور!
٣٨٣ وكان فؤاد يتصوَّر أن النساء أنفسهن هن الحور العين في الجنة، وتخيل أخته
الراحلة واحدة من الحور العين.
٣٨٤ وإذا كانت الحور العين هن نصيب الرجل — ذي الفعل الطيب — في الجنة، فما
نصيب النساء في الجنة؟
٣٨٥ يقول الفنان إن المقابل — بالنسبة للمرأة ذات الفعل الطيب — شباب طاهر
تفوز به في الجنة. ذلك ما كانت تأمل هدى أن يتحقق بعد وفاتها.
٣٨٦ (في تقدير المعتقد الشعبي أن المرأة تمضي إلى الشيخوخة أسرع من الرجل! (نجيب محفوظ،
الباقي من الزمن ساعة، ١٦)) وبالنسبة للأطفال، فإنه إذا مات الطفل —
قبل أن يلوثه العالم — أصبح روحًا خالدة تشفع لذويه يوم القيامة.
٣٨٧ كل أم يموت لها ابن صغير ينتظرها في الجنة، ويساعدها على عبور الصراط،
فإن كانا اثنين، سنداها كلٌّ من جانب.
٣٨٨ كذلك فإن الأطفال الذين يموتون يتحوَّلون إلى عصافير في الجنة.
٣٨٩ وطبيعي أنه كلما التفَّت الظاهرة بضبابية، كانت أدعى إلى الرهبة
والإكبار، من هنا كان تقديس قدرة الموتى، واختراع الحوادث التي تُنسَب إليهم.
والاحتفال بذكرى الأربعين، لأنه — في ذلك اليوم — يسقط الأنف، وتتلاشى ملامح
الوجه تمامًا، وبالتالي فإن يجب الترحم على الراحل، وزيارته، وتلاوة آيات القرآن
الكريم على روحه.
٣٩٠ ويهَبنا الفنان (قصة حياة) باعثًا آخر لاستمرار المأتم أربعين يومًا، هو
الموروث الفرعوني، حيث كانوا يُبقون الجثة أربعين يومًا لتحنيطها.
٣٩١
وعقب صلاة العيد، يمضي أهل القرية إلى المقابر، صامتين، لا ينبسون، لا يتصافحون،
ولا يتكلمون، يحرصون على تحية الراحلين أولًا: «السلام عليكم ورحمة الله دار قوم
مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون.» بعد ذلك، يصبح الجميع في حلٍّ من السلام بعضهم
على بعض، وتبادل التبريكات بالعيد.»
٣٩٢
إن نظرة المصريين المعاصرين لظاهرة الموت تقترب في الكثير من نظرة الفراعنة
للظاهرة نفسها. يقول أديب — مقارِنًا بين الحياة في مصر وفرنسا: «فاعلم بعد ذلك أن
الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن
تخرج من هذه الأعماق.»
٣٩٣ واللافت — كما يشير يحيى حقي — أن المعتقدات والتقاليد المصرية للموت
لم تتأثر بالوجود التركي في البلاد. فالأتراك يزدرون الموتى والقبور ازدراءً شديدًا
«لم أشهد طوال إقامتي أربع سنوات في إستانبول جنازة واحدة. تتم المراسم كلها في
المسجد. على بابه حجر مرتفع كالمنضدة المستطيلة، يوضع عليها النعش، ويُتقبَّل العزاء،
ثم انصراف كل حي لسبيله. ليس بين الأيام عندهم يوم لطلوع القرافة، لا خميس ولا
أربعين ولا طلعة رجب ولا العيد، لا خوص ولا ريحان، لا قرص ولا تمر … هذه خصلة شعب
عاش يجوب السهوب ولا يستقر، كل قبر متروك وراء ظهره، هو الآن بعد الاستقرار متروك
وراء باله.»
٣٩٤
•••
ومن الواضح أن غالبية تلك المعتقدات هي نبض حياة شخصيات «في قافلة الزمان». إن
السحار — بالإضافة إلى تصويره البانورامي للجزئيات الصغيرة في طبيعة الحياة
الاجتماعية المصرية — يبدو مؤمنًا — أو متعاطفًا في الأقل — بما تحمله تلك الجزئيات
من معتقدات، ربما لنشأته الدينية، وربما لأن الروحانيات هي نبض معظم أعماله
الأدبية. فعندما تفشل مداواة سكينة تمامًا، تخرج زكية إلى المسجد القريب من البيت،
وتملأ إبريقًا كبيرًا من ماء بئر، ثم تقفل عائدة إلى البيت، وتحمل زكية أختها،
وتدخل بها الحمام لتغسل لها جسمها بماء البئر المبارك. وتبرأ سكينة بالفعل، بعد
أيام قليلة من غسل جسدها بماء البئر.
٣٩٥ ولما مرض حسن، رفضت نساء البيت أن يناولنه الدواء الذي أشار به الطبيب،
فقد كُن يرين ألَّا ضرورة للدواء لأن حسنًا قد أصابته نظرة. وأحضرت أم أحمد زنوبة
مبخرة صغيرة، وطفقت تبخِّره وهي تتمتم بآياتٍ من القرآن، ثم وضعت يدها على صدر حسن
الذي يعلو ويهبط وهي تواصل القراءة، وما انقضت لحظات حتى هدأ الصدر المضطرب، وانتظم
تنفُّس حسن.
٣٩٦ وبعد أن أمضت أمينة الساعات تئنُّ وتتوجع من آلام المخاض، أسرعت الأم إلى
المسجد القريب، وجاءت بمفتاحه قائلة لابنتها: اهدئي واطمئني، فقد جئتك بمفتاح
الفرج! وتمت الولادة في يُسر. وقد تحققت نبوءة أم أحمد زنوبة — تلك التي تحيا
حياتين — بأن مولود أمينة المقبل سيكون أنثى بعد خمسة ذكور. وفي المرة الأولى التي
لا تتحقق فيها نبوءة أم أحمد زنوبة، بأن وردة الصغيرة لن تموت، تقول المرأة لزكية: «أشفقتُ
عليكِ، ولم أشأ أن أعذِّبك.
وما الفائدة وأنا الآن في النار، ولو أنك قلت لي ما فارقتها أبدًا، أكنت
تعرفين؟
كنت أعرف! لذلك لم أشأ أن أتعبها آخر يوم بخَّرتها فيه، فلم أنهضها من فراشها،
بل بخَّرتها وهي راقدة.»
بل إن مصطفى، الذي كان أول من غادر من أفراد الأسرة محيط علاقاتهم، وأعلن كفره
بالقيم والعادات التي تحكم حياتهم، ما لبث أن شدَّته خيوط تلك القيم والعادات، فعاد
إلى أسرته ليتزوج ابنة عمه التي لم تخرج بعدُ إلى الحياة.
•••
والملاحَظ أن للمرأة دورًا أعظم في تخليق جو الإيمان بالخرافات والمعتقدات
البالية، وغالبًا ما كان دور الرجل فيها سلبيًّا، فهو يدفع — على سبيل المثال —
نفقات الزار، لكنه لا يشارك فيه، وهو «يشحِّت العيل» في أثناء خروجه من المسجد بعد
الصلاة، وإن لم يكن مؤمنًا بذلك، وهكذا … ولعله من هنا جاءت ملاحظة أستاذنا أحمد
أمين أنه «لما فشا تعليم المرأة، قَل الاعتقاد بالخرافات والأوهام.»
٣٩٧ ولأن فهمي كان أكثر أفراد الأسرة حظًّا من التعليم، فقد كان يعلن تشككه
فيما يؤمنون به من تعاويذ ورُقًى وأحجبة وكرامات للأولياء.
٣٩٨
لقد لامست نسائم التغيير — وما تزال — تلك المعتقدات — رغم ارتكازها إلى التراث
الديني الذي يصعب التحول عنه — واستطاعت أن تذوى بعض أوراق الشجرة الأسطورة، لكن
الجذوع والجذور ظلت — وأغلب الظن أنها ستظل لفترة طويلة — قوية ثابتة. وقد ظلت
ملاحظة الراوي على أبناء الريف أنهم «يتفاءلون، ويتشاءمون، ويُرجعون الأشياء كثيرًا
إلى غير أسبابها.»
٣٩٩
وكان أبناء القرية الصغيرة يعتقدون في شجرة «طرفة»، ويحيطونها بنوعٍ من التقديس،
وأن وراء وجودها — لا بد — سرًّا باتعًا وكبيرًا. ولم يقف الأمر عند التبرك فحسب، بل
جاوزه
إلى استخدام أوراقها كدواءٍ لأمراض العيون «وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحيا
فعلًا. صحيح أنه في أحيان كثيرة لم يكن يحل الشفاء. أحيانًا كان يتضاعف المرض،
وأحيانًا — نادرة — كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا يعزون الفشل إلى ورق
الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلًا، أو واحد من أهله، أو أن المرض قد
زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى.»
٤٠٠ وغزا الطبيب الريف، وأقيمت في البنادر عيادات رمد ومستشفيات، لكن أبناء
القرية الصغيرة ظلوا على اعتقادهم في تلك الشجرة. ثم تخرَّج الصغار في المدارس بعد أن
تعلموا حقائق كثيرة، وبدءوا في مناقشة الاعتقاد بشجرة الطرفة. وتحوَّلت المناقشة إلى
رفض، ثم إلى حركة ودعوة: يا أهالي، الطرفة تعمي كل ذي عينين … يا إخوانا الحكومة
فتحت مستشفيات، عليكم بها ودَعوا الطرفة. وكان أبناء القرية يهزُّون رءوسهم في
تصديق، لكن اعتقادهم في شجرة الطرفة ظل على ما هو عليه، واضطر المتعلمون إلى أخذ
أوراق من الطرفة، وتحليلها، وأثبت التحليل أن في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي
تُصنع منها القطرة. وقالوا للناس: لا ضير عليكم من استعمال الطرفة، ففي أوراقها
قطرة، «وهزَّ الناس رءوسهم بلا حماس، وغمغموا: جالكوا كلامنا. كل ما حدث أنه — حين
مرَّت أعوام كثيرة، وعدنا إلى بلدنا موظفين وخبراء ومحترمين — وجدنا أن شجرة الطرفة
لم يعُد لها ذلك التقديس القديم، وأنها هزيلة شاحبة لم يعُد حولها منتظرون، ولا تخيف
كما تخيف أم الغول، ووجدنا الناس قد كفُّوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون.
وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن مذهولون، كانوا يهزُّون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ …
القطرة برضك أنضف.»
٤٠١ وتبرر المرأة إقبال النساء على بعض الممارسات التي تؤمن بالخرافة، بأن
تلك الممارسات قد تكون أكثر نفعًا من كل أدوية الطب «إنهن يسترحن نفسيًّا بعد تخطي
هذه التعويذة، ولا شيء في هذه التعويذة على الإطلاق ينفع الحمل.»
٤٠٢ ومع أن المرأة أنجبت ثلاث مرات، فإن مواليدها الثلاثة ذهبوا ضحية جهلها
وإهمالها — والتعبير للفنان.
٤٠٣
إن غشاوة الوهم تنقشع — أحيانًا — عن الأعين، ويتضح أن الأرواح الشريرة والأشباح
والعفاريت والجان والمردة والقرين وغيرها، ليست إلا استكانة للموروث. وكما يقول
الفنان فإن الزمن عدَّل تصورنا للعفاريت «فأصبحنا لا نَرهبهم إلا لمامًا حينما
يعاودنا من غير تنبيه ما يُبَث في أذهاننا أيام الطفولة، وبثَّه الشيوخ.»
٤٠٤
فقد أصبحت المعارك الكلامية متصلة بين الأستاذ والشيخ حول العفاريت، الأستاذ يقول
لتلاميذه في المدرسة إن الدنيا ليس فيها عفاريت، والشيخ يتهم الأستاذ بالجهل.
والحجج التي يتقاذفان بها، تقسم الناس في القرية — والقرى المجاورة — إلى حزبين كبيرين.
٤٠٥
وكان رأي فتحي الذي تعلم في المدينة، أنه لا شيء في الدنيا اسمه عفاريت.
٤٠٦
وقرر الشيخ م. ح. أن يهجر داره بشارع أم الغلام، بعد أن عجز عن مصالحة عفريت يسكن
خرابة بالقرب من بيته. فهو — العفريت — يقذف الشيخ بالحجارة حتى كسر نظارته، وأدمى
أنفه، وقلب الدكك والكراسي والمناضد، وبعثر الأوراق والكتب، ورمى القلل إلى الطريق.
ولما زار الشيخ طائفة من إخوانه المجاورين، لمشاركته المأساة التي يحياها بقراءة
الرُّقى، وتلاوة العزائم، لمح قط أسود فأرة تلتقط بقايا طعام في جانب من الحوش، فوثب
إليها، فجرت إلى القاعة التي يجلس بها الشيخ وإخوانه، ودخلت في «مركوب» أحد
المشايخ. ورأى الشيخ فردة مركوبه تطوف في القاعة، ومن ورائها القط، فظن أن العفريت
يتجه نحوه، وصاح: يا سيدنا الحسين! وتبعه الآخرون بصراخٍ وصيحات خوف «فكانت ضجة
عظيمة، وخرجنا إلى الشارع حفاة، هذا تمزق ثوبه، وهذا نحل نطاقه، وذلك انفرطت
عمامته، وأحاط بنا الجيران والمارة.» وفطن طفل من أولاد صاحب البيت إلى حقيقة ما
حدث، فأسرع إلى المركوب، وجاء به تتطلَّع الفأرة المذعورة، ويتبعه القط الأسود،
وتضاحك المشايخ على استحياء، وإن عادوا إلى مجلسهم، وإلى الرُّقى والابتهالات.
٤٠٧
واحتاج الصغير إلى تجربة مباشرة في جامع القرية الذي كان الجميع يتحدثون عن
«الجنِّية» التي تستحم فيه ما بين العصر والمغرب، وتغوص بمن تعثُر عليه إلى قاع
الميضة المجهول المدى، ثم تتزوجه. احتاج إلى تلك التجربة المباشرة ليتوصَّل — من
خلالها — إلى الحقيقة: أن «الميضة» لم تكن مسكونة بجنِّية ولا بعفاريت، ولا بأي شيء
على الإطلاق، وأن العفريت بالفعل هو بني آدم وحده!
٤٠٨
وتأتي العاصفة إلى البحيرة بجنِّية، تحرِم الصيادين من خيراتها، وتصرع كل من يحاول
الاقتراب. وكاد الرجال يسلمون أنفسهم إلى اليأس، لولا صوت «داكر» الذي ارتفع
قائلًا: نسيب الشط لمين؟ داحنا اتولدنا عليه، وعشنا فيه … جنِّية إيه يا رجالة؟ مفيش
جنِّية … لازم فيه حاجة … حاجة … ويتقدم «داكر» بقاربه الصغير ليهزم الجنِّية
التي لم تكن سوى حوت ضخم ضل طريقه إلى البحيرة، ولم يستطع مغادرتها. وانتصر «داكر»
حين اقتحم المجهول وتعرَّف إليه، وإن لم ينجُ من افتراس الحوت، لكن جرأته أفادت هؤلاء
الذين كادوا يسلِّمون أنفسهم لليأس، فلجئوا إلى الحكومة لاصطياد الحوت الهائل.
٤٠٩
ويؤمن العامة بأن الوطواط/الخفاش يبحث عن الوجوه ليلتصق بها،
٤١٠ فإذا التصق بالوجه، فلن يطلع إلا بالطبل والزغاريد.
٤١١ أما رائحة الشيح فهي تطرد الثعابين.
٤١٢ وثمة معتقد أن القطط مشايخ، في كل قطة يسكن شيخ، وهريرها هو تلاوة
لآيات القرآن؛ لذلك فإن من يقتل قطة، عليه أن يقيم خاتمة في ضريح الحسين، ويتصدَّق
على الفقراء.
٤١٣ وأبدت الداية ذعرها لما عرفت أن قطة البيت ولدت في الأسبوع نفسه الذي
ولدت فيه الست أم سمير «بقى تبقي اسم النبي حارسك والدة، وتخلِّي القطة قاعدة معاكي
في بيت. إنتي مش عارفة ادلعدي يا اختي إنها ولدت هيه رخره … إنتي عايزة ولادها
البعيدة، البعيدة عن البيت وصحابه، تكبسك»؟ ونفَّذت الوالدة نصيحة الداية، وأجبرت
زوجها على أن يلقي بأولاد القطة خارج البيت. ومع ذلك فقد مات الصغير، ولم يكن السبب
كبسة الولد، وإنما — كما قال الأب — مستشفيات الحكومة والإهمال: «لو كان عندنا فلوس
كنا رحنا لحكيم متخصص في الأطفال … السبب الفقر … الله يلعن أبو الفقر!»
٤١٤
هوامش