موروث من العادات والتقاليد
يعرِّف قاموس «مصطلحات الإثنولوجيا والفولكلور» العادات الشعبية بأنها «أساليب الشعب
وعاداته، أو القواعد المستترة للسلوك، يؤدي نقضها إلى مخالفة توقُّع رأي الجماعة.»
١ التقاليد، في تقدير حسن الساعاتي، «عادات مقتبَسة اقتباسًا رأسيًّا، أي من
الماضي إلى الحاضر، ثم من الحاضر إلى المستقبل، فهي تُنقَل وتُورَّث من جيل إلى جيل،
ومن
السلف إلى الخلف، على مر الزمان.»
٢ وتختلف العادات والتقاليد عن المعتقدات في تأثُّرها بتطورات الحياة،
وقابليتها للتبدُّل والتغيير، ذلك لأنها تصدر عن السلوك الحياتي اليومي والعلاقات
الاجتماعية المتشابكة، بعكس المعتقدات التي ربما تصدر عن الأسطورة، لكنها تستمد قوتها
من قوة التراث الديني، وتستند إليه. والحق أن التطور الذي يلحق بأسرة ما، أو بفردٍ ما،
يكون — في الأغلب — هشًّا، ويصعب تصديه ومقاومته للموروثات من العادات والتقاليد،
وبالذات في محيط المجموع الذي يؤمن بتلك العادات والتقاليد. أما العادات فهي تعني أشكالَ
وطرق التفكير والسلوك المستقر عند الأفراد والجماعات، فضلًا عن الممارسات الروتينية
للحياة اليومية والأحكام الداخلة ضمن الروتين والنماذج الحضارية المستمدة من التصرفات
المتكررة والمستقرة. وأما التقاليد فإنها مجموعة النماذج السلوكية التي يلتزم بها — أو
ينبغي أن يلتزم بها — الأفراد، بكل ما تعنيه من أهمية اجتماعية وحضارية بالغة في
التفاهم والمودة والتماسك والوحدة.
٣ إنها أشبه بقانون غير مكتوب، يلتزم به الضمير الفردي والجمعي في آن، وكما
يقول يونج، فإن الإنسان يحمل في داخله كل تاريخه، وتاريخ البشرية، هذا هو الشكل المزدوج
الشخصي والجمعي للاشعور.
ويذهب زكي مبارك إلى أن العادات للأفراد والتقاليد للجماعات، فالعادات شخصية،
والتقاليد جماعية.
٤ ولعله يمكن القول إن تقاليد المصريين وليدة النظم المتعاقبة، ومعظم
القوانين تقوم على معرفة دقيقة بأحوال الطقس، وهي تتمثَّل طبائع الناس والموقع الجغرافي
للبلاد.
٥ وكما تقول بوسي دف جوردون فإنه كما أن المناخ في مصر يختلف عن المناخ في كل
البلاد الأخرى، وكما أن النيل يختلف عن سائر الأنهار، فإن عادات المصريين وقوانينهم
تناقض — في معظم نواحيها — ما درج عليه الآخرون.
٦ المعنى نفسه سبق إليه هيرودوت في قوله إن المصريين الذين يحيون في مناخ
متفرد على ضفاف نهر له سمات مختلفة عن الأنهار الأخرى، قد تبنَّوا أيضًا — وفي كل الأشياء
— عادات وتقاليد مخالفة للناس جميعًا. وحتى الآن، فإن الكثير من المصريين — في الريف
بخاصة — يلجئون إلى التوقيت العربي، وهو التوقيت الذي نص عليه القرآن الكريم، من أن
الليل سابق النهار، فتبدأ الساعة الواحدة ليلًا عند غروب الشمس.
٧ ويحذِّر الدكتور رمزي (الباب المفتوح) من أن «فيه ناس كتير من اللي بيسموا
نفسهم مثقفين بيستهينوا بالأصول وبالتقاليد بتاعتنا، ولكن ضروري تعرفي إن الأصول دي هي
اللي بتربطنا بالأرض، ومن غيرها نبقى زي الشجرة اللي من غير جذور، شوية هوا تجرفها،
وتوقعها كمان.»
٨ أما إبراهيم الكاتب فقد ذهب إلى أن «استبداد العادات والتقاليد يقضي على كل
نزعة إلى التحرر، ولا يدع للمرء مفرًّا من النزول على حكم هذه العادات والتقاليد.»
٩ وهو ما يعبِّر عنه الفنان (الشفق الدامي) في قوله إن المجتمع المصري ممتلئ
بعادات لا أساس لها، «يتوارثها الناس كما يتوارثون قطع الأراضي.»
١٠ وإذا كان الكثير من التقاليد والعادات التي يحياها — ويمارسها — الإنسان
المصري الآن، هي التقاليد والعادات نفسها التي كان يمارسها قبل الحرب العالمية الأولى،
ربما لمئات السنين، فإن بعض تلك التقاليد والعادات قد بدأ في التغيُّر بتأثير اختفاء
مظاهر الحياة القديمة، ودخول وسائل المدنية الحديثة عنصرًا مكونًا وأساسيًّا في جسد
الحياة اليومية للمجتمع المصري؛ نشأت قيم جديدة، وظلَّت القيم القديمة على حالها، لم
تتبدَّل، أو لحقها تبدُّل تدريجي غير ملموس.
ونسأل: ماذا كانت عليه العادات والتقاليد المصرية في مطالع القرن؟ وإلى ماذا انتهت
إليه؟
من الصعب — في مثل دراستنا — أن نحيط بكل أبعاد السلوك الحياتي اليومي لمجتمعٍ ما،
ولعله من الأفضل أن نقف أمام معلَمين مهمَّين، يعدان — بلا جدال — تجسيدًا لطبيعة العلاقات
في المجتمع المصري، فضلًا عن أن هذين المعلَمين لم يصبهما التطور بتغيُّرٍ ملحوظ.
أما المعلَم الأول، فهو دورة الزواج من الخطبة إلى ما بعد الزواج:
١١
بداية، فإن تقدير الكثيرين أن الزواج غاية كل فتاة، مثلما أن الموت غاية كل حي.
١٢ والولد يكون صالحًا للزواج عندما يخشن صوته وتظهر لحيته، أما البنت فتكون
صالحة للزواج بعد أول حيض لها.
١٣ وقد يقترح البعض أن يتزوج الصبي من فتاته في سن باكرة، ويقال لصاحب
الاقتراح: إنه شرف كبير، ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمريهما! فيقول باستهانة:
الزواج يعقد أحيانًا بين أطفال في الأقمطة!
١٤
وقد يحرص الآباء في الريف على تزويج بناتهن في سن باكرة، رغبة في ستر أعراضهن في
حياتهم (قلوب خالية)، وإن كان زواج البنات لدى معظم الأسر المتوسطة والفقيرة — لأسباب
اقتصادية — كارثة!
١٥ والتحايل على القانون ميسور، بتزويج الفتاة في سن الرابعة عشرة أو أقل،
وذلك بتجاهل شهادة ميلادها، والحصول على شهادة بالسن القانونية المطلوبة «ما دام بين
الأطباء من تتسع معدته لهضم ضميره، فلن يعدم أمثال حميدو وسيلة للتحايل على القانون،
والحصول على شهادة بالسن المطلوبة.»
١٦ وإذا بلغت الفتاة السادسة عشرة ولم يتقدم لخطبتها أحد، فإن معنى ذلك أن
«العدل يفوتها».
١٧ وارتباط الفتاة يصبح مشكلة بعد أن تبلغ الخامسة والعشرين «لأن زهوتها تروح
بالتدريج، وتدخل في ديوان النساء، وتقل فرصتها في عريس معقول.»
١٨ وكانت مأساة الخاطبة — لاحِظ المهنة! — أن ابنتها كانت على وشك أن تصبح
عانسًا، تدنو من الثالثة والثلاثين.
١٩ فإذا كانت العروس «عزباء» فإن عليها أن تقبل «العريس» الذي يبعث به الله
إليها، وتقبله على عيبه، تحمَّلته نتيجة فشل زواجها الأول.
٢٠ ويستوقفنا قول المرأة: «الرجل يتزوج في سن العشرين، فإذا ضاعت منه الفرصة
في هذه السن، فاته القطار.»
٢١
والخطبة — في الأغلب — تتم بواسطة السيدات، أو بالاتصال الشخصي.
٢٢ تبعث الأسر بخاطبات من بعض فروعها، دون الأصل، على سبيل الحرص، وذلك
لاعتبارات حياة المرأة داخل قلاع الحريم، والعادة — بل الشرط — أن تكون العروس أحدث
سنًّا من العريس.
٢٣
والمهم في البنت هو الأصل، الذين يتزوجون من بنات الأسر، يسألون عن الأصل والأعمام
والأخوال والأرض، فلا بد من الحسب والنسب والجاه والمال.
٢٤
وبعد أن تطمئن أسرة «العريس» إلى جمال الفتاة، وإلى أصلها، تبعث بعض نسائها، تسأل
وتبحث وتعاين. يسأل كامل رؤبة لاظ: كيف يخطب الناس عادة؟ تجيب رباب: بوساطة السيدات أو
بالاتصال الشخصي!
٢٥ ويرحب أهل العروس بالعريس لأنهم يشترون رجلًا.
٢٦ وأن يتم التحري عن المتقدم للخطبة في إدارة المستخدمين بعمله.
٢٧ وتحدد بعض الأسر مواصفات «ابن الحلال» بأن «يكون ابن ناس وكويس ومريِّش
ومقطوع من شجرة ولا يسكرش ولا يدخنش.»
٢٨
ويُطرح السؤال: كيف تتم المعاينة؟
– نخطر أهل العروس بالزيارة.
– ثم ماذا؟
– نحدد الميعاد، فتستعد العروس، وتنظم نفسها وجمالها وقوامها، وترتدي أبدع ثيابها،
وتعطر
جسمها وشعرها بالروائح، حتى إذا وصلنا وشربنا القهوة أو الشربات، استُدعيَت العروس،
فأقبلت تتهادى خجولًا، وجلست بأدبٍ واحتشام، ثم يأتي دور البحث والفحص.
– وكيف؟
– هنا اللباقة والمهارة، فالواحدة المجربة تشرع في الحديث معها، وتحدِّق في أثناء
الحديث في أسنانها لترى إن كانت فيها عيوب أو كسور من ناحية التناسق واللون. ومن الحديث
نستنتج خفة الروح أو ثقل الدم، ونعرف نوع الصوت إن كان ناعمًا أو خشنًا أو غليظًا.
– ثم ماذا؟
– وقد تُخرِج الواحدة منا سيجارتها، وتطلب إلى العروس — برفقٍ — أن تشعل عود الكبريت،
فتتقدم لتلمح قوامها وقدَّها وتقترب، فتتشاغل لتشعل عودًا آخر، ولتتسع لنا الفرصة،
لنحدق في عينيها عن قرب، ثم تنتهز السفيرة الأخرى هذا الوضع فتطبطب على صدرها لتلمس
ثدييها ببراعة وإحكام! والنظر إلى كعب القدم في غاية الأهمية، ذلك لأنه إذا كان مثل
القبقاب تكون المخطوبة سعيدة ومصدرًا للسعادة. تقول خديجة متشكية، بعد أن أعدَّت نفسها
لدخول حجرة الصالون: أية جلسة هذه التي قُضي عليَّ بها؟! تصوري نفسك في مكاني، بين نسوة
غريبات لا تدرين أي خُلق خلقهن، ولا أي أصل أصلهن، وهل جئن بنيَّة صادقة أو لمجرد الفرجة
والتسلية، وماذا يكون من أمري لو كنَّ عيَّابات شتَّامات … مثلي مثلًا … هه؟ وماذا
بوسعي إلا أن أجلس بينهن في أدبٍ واستسلام أتلقَّى نظراتهن من اليمين والشمال، ومن
الأمام والخلف، وأصدع بأمرهن بلا أدنى تردد، إذا طلبن قيامًا قمت، أو مشيًا مشيت، أو
كلامًا تكلمت، حتى لا يفوتهن شيء من جلوسي وقيامي وصمتي وكلامي وأعضائي وقسماتي، وعلينا
بعد هذه البهدلة كلها أن نتودد إليهن ونطري لطفهن وكرمهن … ثم لا ندري بعد ذلك أنفوز
بالرضا أو نفور بالغضب … أف … أف … ملعون الذي أرسلهن!
٢٩ وتعبِّر إحسان هانم عن مشاعرها في اللحظات التي أعقبت دخولها على الزائرات:
«خيل إليَّ أن أنظارهما الحادة العميقة قد جرَّدتني دفعة، فخجلت من نفسي، وأطرقت إلى
الأرض. ولحظت الخاطبة حالنا، ولتؤثِّر في حكم أم العريس، أسرعت فقالت لي: تعالي يا ختي
أشوف مناخيرك اللي زي النبقة وحنكك الشهد … وأخذت أراقب السيدة فوجدتها ما زالت تتفرس
في كل قطعة من تكاويني، وشعرت — في هذه المرة أيضًا — بأن أنظارها الحادة تكاد تتغلغل
في جسمي، فاضطربت، وزاد اضطرابي عندما سمعتها تقول: والنبي اسقيني كوباية مايه يا بنتي،
ولم يكن بها ظمأ، ولكنها كانت تبغي معرفة كيفية سيري، ونقل قدمي، فقمت، وحاولت أن أمشي
برزانة ولطفٍ لأظهر لها جمال تقاطيعي، وانسجام خطواتي … إلخ.»
٣٠
وبعد أن يعلن الشاب رضاءه عن اختيار نساء البيت لشريكة حياته، يتقدم إلى والدها بطلب
يدها، لتبدأ أسرة الفتاة — هي الأخرى — دور «التحريات عن الأستاذ، وعن ماليته، وعن سيره
وسلوكه، وعن عدد إخوته، وعن … وعن … وأفكه ما في الموضوع أنهم سألوا عنه مأمور قسم
شبرا، ولعلهم استعانوا بالبوليس السري بالسؤال عن أحواله وأسراره، واستغرقت هذه
التحريات أشهرًا ثلاثة … ثم صدر القرار أخيرًا بالقبول مبدئيًّا.»
٣١
والزواج يجب أن يقام على الرضا والقبول.
٣٢ وسكوت الفتاة على طلب يدها علامة الرضا والقبول؛ ذلك ما تقضي به
التقاليد.
كان الشاب — إلى أوائل القرن العشرين — يلاقي الأهوال — على حد تعبير الفنان — في
سبيل موعد بريء، بحضور الدادة أو اللالا وغيرها من الرقباء.
٣٣ كانت كل الخطوات التي تسبق الزفاف تتم بعيدًا عن العروسَين، ودون أن يعلم أيٌّ
منهما عنها شيئًا. كانت الأسرة هي التي تتولى أمر الخطبة، أو تُنيب الخاطبة. ويشير أحمد
شفيق في مذكراته إلى أن بعض الزيجات كانت تتم في تكتم مبالغ فيه، إلى حد أن بعض أفراد
أسرة الخطيب من السيدات كن لا يعرفن عن العروس إلا ما تريده الخاطبة. وقد أفرزت تلك
التقاليد المتشددة بعض النتائج السلبية، وأخطرها — بالطبع — نفور أحد الزوجين من الآخر،
حتى في ليلة الزفاف!
٣٤ وهو ما عاناه الزوجان عندما زوَّجهما الأهل (الأحداث في أوائل الثلاثينيات من
القرن العشرين) دون أن يتعرَّف أحدهما إلى الآخر. انتهى الأمر — بعد أشهر قليلة — إلى
ما
يشبه الصفقة الخاسرة للزوجة التي بدأت تنشد حب الجار!
٣٥
والواقع أن هذه الصور بالذات أوشكت على التلاشي — أو هي تلاشت بالفعل — بعد أن غادرت
المرأة حياة الحريم، وخرجت إلى الحياة العامة، ولم يعُد ثمة ما يحُول بين الرجل وبين
أن
يتولى «المعاينة» بنفسه: «سفَرت السيدات جميعًا، فأصبح العريس يختار عروسه بالحواس
جميعًا، لا بالسمع وحده.»
٣٦ وقرر والد العريس أن «حكاية أسرة العريس صارت موضة قديمة، إنما يهمني الرجل نفسه.»
٣٧ وقالت البنت لفتاها في ظروف اجتماعية تالية، مغايرة: ألم تعرف أن منى البنت
أن يطلب يدها مَن تحبه؟!
٣٨ ويسأل الشاب فتاته (في ثلاثينيات القرن العشرين): لم هذا التسرع؟! تجيب
مندهشة: حتى يتم قراننا قبل أن يتمكن غيرك من موافقة والدي على زواجي به. يقول وهو يهز
كتفيه: وما أهمية موافقة والدك ما دامت الكلمة لي ولك، وما عليكِ إلا أن ترفضي كل زواج
بغيري إلى أن يحين الوقت الملائم لزواجنا؟
٣٩
وقراءة الفاتحة خطوة أولى، مهمة، في إتمام الزواج. يقرأ أهل العروسَين الفاتحة، مرة
من
أجل أن يهيئ الله لهم السداد، ومرة لاستعداء الله ضد من يخِل بالالتزام، ومرة ثالثة من
أجل حماية المنوط بشأنهما الأمر من الأمراض والأعداء والنيران والسم والحسد والجشع.
٤٠ وعندما عرف عزت أن حبيبته تقدم لها شاب آخر، أوفد أمه الست عين لخطبة
الفتاة، فاعتذر الأب بقوله: «لقد قرأنا الفاتحة، وكان بوسع والدتك أن تتكلم لو توفرت
لها الرغبة.»
٤١ ومع ذلك، فإن قراءة الفاتحة، التي يرى فيها التعبير الشعبي نصف الزواج، غير
ملزِمة في الكثير من الأحوال. تقول حميدة عن علاقتها بعباس الحلو: ليس بيننا وبينه إلا
كلام وصينية بسبوسة.
تتساءل الأم في دهشة: والفاتحة؟
– المسامح كريم!
– الفاتحة ذنبها كبير.
– بليها واشربي ماءها.
وتقول الضاني — اسم فتاة — لمحمد: لا تظن أنك مسئول عني لمجرد قراءتك فاتحتي!
٤٣
لم تكن الأسر الميسورة — حتى مطالع القرن العشرين — تسمح للنساء أن يخرجن إلى الأسواق
ليشترين ما يحتجن إليه، فلم يكن بد من أن تنتقل الأسواق إلى السيدات في بيوتهن. من هنا،
نشأت مهنة «الدلَّالة»، أو «البلانة» التي تحمل «بقجة» بها بعض ما تبيعه المحلات الكبرى
والصغرى، فتختار السيدات والفتيات في البيوت ما يردن، ويشرن عليها بشراء ما يلزمهن من
حاجيات، وأغلب الظن أن «البلانة» كانت هي البداية لنشوء مهنة الخاطبة. يصفها أحمد أمين
بأنها «امرأة اعتادت أن تدخل البيوت بصفة بلانة أو دلالة، فتتعرَّف إلى نساء البيت
وفتياته، وهي توصي عادة بالبحث عن زوج للفتاة، أو زوجة للفتى، فتكون صلة التعارف
بينهما. وكثيرًا ما تبالغ في جمال البنت وغناها، أو تبالغ في جمال الشاب وغناه، وذلك
نظير جُعلٍ تتقاضاه منهما بعد أن يتم الزواج.»
٤٤ تحتفظ الدلَّالة في حقيبتها بصورٍ لفتيات الأسر التي تخالطها، تخرجها للأسر
التي تريد تزويج شبَّانها.
٤٥ وقد تضيف الدلَّالة إلى مهنتها مهنة الخياطة، فهي تدخل بيوت الأثرياء، تشتري
لهم ما يريدون من المحال الكبرى، وتحيك الملابس للأسر، وقد تقيم في البيت حتى تنتهي من
إعداد الجهاز.
٤٦ والعادة أنها تشتري الأقمشة والأزرار والشرائط والورود الصناعية والتلابيس
المطرزة بالترتر والخرز واللؤلؤ، وتعد الملابس، وتحسب التكاليف مع زيادة نسبة معقولة
لأتعابها.
٤٧ ولم تقتصر أم أحمد الدلَّالة على بيع حاجيات السيدات، والتوفيق بين الرءوس
بالحلال، وإنما كانت تشير على النسوة اللائي يعانين ظروفًا صحية — أهمها العقم — بأن
يلجأن إلى رجل مغربي في ناحية عرب المحمدي «أوتي من السحر والحكمة شيئًا عظيمًا.»
٤٨
وطبيعي أن مهنة الدلالة/البلانة فقدت تأثيرها بعد أن خرجت النساء إلى الحياة
العامة، ولم يعُد ثمة ما يمنعهن من شراء ما يلزمهن من المحال العامة مباشرة.
٤٩ لكن الخاطبة ظل لها دورها الذي لم يفقد أهميته، لأعوامٍ تالية.
إلى أواسط الثلاثينيات، كانت الطريق التقليدية للزواج تبدأ بالخاطبة.
٥٠ كانت الخاطبة تتحمَّل معظم العبء في التوفيق بين العروسَين، بأن تطنب وتبالغ
في وصف المحاسن والمزايا والصفات التي يحملها كلٌّ منهما. إنها تحرص على أن تخلع على
العروس صفات مثل «لها وجه مدوَّر كالصينية، وشرطة عين مثل الفنجان، وأنف مثل النبقة،
وفم كخاتم سليمان.»
٥١ وكانت الخاطبة تسعى بين العروسَين بالصور الشخصية «الخاطبة جاتني امبارح،
وانا اتفقت معاها وأعطيتها صورتك بالفستان الديكولتيه.»
٥٢ وقد تدفع الأسرة إلى الخاطبة بصورة الفتاة، وبيانات عن جنسها ونسبها، وعدد
الحجرات التي تدخل بها، وما يُنتظر أن تناله من مالٍ وعقارٍ إذا مات أحد أبويها.
٥٣ تقول أم حميدة: «أنا امرأة — بحمد الله — مباركة، زيجاتي لا انفصام لها، يا
ما عمَّرت بيوتًا، وأنجبت أطفالًا، وأسعدت قلوبًا.»
٥٤
وكانت أم حميدة تمارس مهنتها في محيط الرجال، وهي موقِنة بأن الرجال جميعًا يحبون
الزواج في أعماقهم، ولا يكاد يشكو الزواج إلا المتزوجون «وكم من رجل عازب راغب عن
الزواج، ما إن أقول له: عندي عروس لك، حتى تدب في عينيه اليقظة، ويغلبه الابتسام،
ويسألني في لهفة لا تخفى: حقًّا … من؟ من؟ الرجل يريد المرأة ولو أقعده الكساح … وهذه
حكمة ربنا.»
٥٥ ولا تقف مهمة الخاطبة عند حد الإصغاء لمطالب «الطرفين» وشروطهما، بل إنها
يجب أن تقنع اللائذين بحياة العزوبة أن يغيِّروها. فأم حميدة تذكر أن الست سنية عفيفي
أعادت إلى سمعها مرات الشكوى من الوحدة الأليمة التي تعانيها «وخطر لها خاطر عجيب، دهشت
له بحكم وظيفتها، وكانت في أمثال هذه المسائل خاصة ذات فراسة لا تجارى، فصممت أن تسبر
غور الزائرة من وراء وراء، فقالت بخبث: هذه إحدى شرور الوحدة. أنت امرأة وحيدة يا ست
سنية، في البيت وحدك، وفي الطريق وحدك، وفي الفراش وحدك، ألا قطعت الوحدة. وسُرَّت الست
سنية بحديث المرأة الذي كأنه يلبي خواطرها» … إلخ.
٥٦ وربما حاولت الخاطبة إغراء الرجل المتزوج بعروسٍ ترى أنها تناسبه؛ ألم يحل
الله الزواج بأربع؟ وقد ذهبت أم علي الخاطبة إلى السيد أحمد عبد الجواد التاجر
بالنحاسين، وهو المطلق والمتزوج والأب لستة أبناء، تحثُّه على الزواج للمرة الثالثة:
ألا
تعلم أن ست نفوسة أرملة الحاج علي الدسوقي تملك سبعة دكاكين في المغربلين؟
٥٧ وتغري أم حميدة السيد سليم علوان بالزواج على أم عياله: «يا سي السيد، أنت
رجل قد الدنيا، ومثلك في الرجال قليل … ويا حظ من تكون نصيبك، وأنا رهن إشارتك، فعندي
البكر والثيب، والشابة والنصف، الغنية والفقيرة، اختر ما شئت.»
٥٨
والخاطبات درجات، بمعنى أن لكل طبقة نوعًا من الخاطبات يسعى لتزويج أفرادها بعضهم
من
بعض. وحين طلب عثمان بيومي من أم حسني خاطبة الحارة أن تبحث له عن عروس، وشدَّد على أن
تكون العروس بعيدة عن الحارة، وعن الحي كله؛ عروس تنتمي إلى أسرة كريمة من الأعيان أو
كبار الموظفين أو أصحاب السلطة، فإن المرأة أبدت عجبها حتى صارحها بالقول: الظاهر أنه
لا حول لك في هذا المجال. فقالت ببساطة: لا حول لي كما قلت، ولكني أعرف أم زينب الخاطبة
بالحلمية.
٥٩ واللافت أن أم أحمد لم تكتف بوظيفتها كخاطبة، وإنما جاوزت ذلك لتصبح ماشطة
وأخصائية تجميل وسعادة زوجية، وهي تتردد — بحكم مهنتها — على بيوت السراة وبيوت الطبقة
الوسطى.
وقد واجه نظام الخاطبة، وما يتصل به — فيما بعد — انتقادًا عنيفًا، بلغ حدَّ التنبيه
إلى خطورة ظاهرة الخاطبة «التي استشرى شرُّها على ما يبدو، حتى إن أحدهم اتهمها بأنها
أوقعت الأزواج في شِباك تنتهي بمأساة في الغالب.»
٦٠ ووصف البعض الخاطبة بأنها مجرد محتالة تغرر بالشباب، ويكون زواجها مبنيًّا
على الخيال والوهم، حتى إذا ظهرت الحقيقة تبدد الخيال، ووقع أحد الزوجين في ورطة
«وكثيرًا ما رأينا من حوادث ما كان سببها الخاطبة.»
٦١
مع ذلك، فإن الخاطبة ظلَّت تمارس مهنتها في الحياة المصرية، وظلت بالتالي نبضًا للعديد
من الأعمال الروائية والقصصية، منذ زنوبة «عودة الروح» التي أسلمت نفسها — لفترة طويلة
— إلى الخاطبات، بحثًا عن العدل، فما أن ترى الواحدة منهن زنوبة وهيئتها حتى تختصر
الكلام، وتنهض تلتف في إزارها، وتسرع بالخروج.
٦٢ حتى زنوبة بطلة «إفلاس خاطبة» لقد كانت المرأة حلًّا وسطًا بين الاتكال
على الخاطبة وعدم مشاهدة العروس إلا في ليلة الزفاف، وبين مشاهدة العروس مباشرة، فقد
استغل السماح بتردد الفتيات — مع أهلهن — على دور السينما لكي يجتمع الشاب بالفتاة في
دار للسينما بما يبدو أنه مصادفة وليس عن قصدٍ وترتيب، وإن بدا أن الفتاة تعلم جيدًا
من
حرصها على التزيين ربما بصورة مبالغة، ومن خلال ارتباكها ونظراتها المتحيرة القلقة، ومن
خلال حرص أفراد الأسرة الذين يرافقونها على الاتزان والصرامة.
٦٣ وفي العيادة، تمَّت الخطبة من خلال أحاديث الانتظار، وبتشجيع أم الفتاة.
٦٤
لم يكن من تقاليد الوقت لبس دبلة الخطوبة.
٦٥ أما الشبكة، فقد كانت الموضة زوجين من الأساور الثعبانية المصنوعة من الذهب
البندقي المرصَّع بالألماس.
٦٦
تُعلَن الخطبة، ويُوزَّع الشربات، وتُطلَق الزغاريد (الزغرودة هي التعبير عن أقصى
درجات
الفرح، ومن ثَم فهي تتم عند إعلان نبأ الخطبة، أو في حفل الزفاف، أو في أية مناسبة سعيدة
أخرى). وإذا كانت الأسرة موسرة، فإن نساءها لا يطلقن الزغاريد، أو ربما زغردت خادمة
تريد أن تشارك المدعوين فرحهم على طريقتها الخاصة.
٦٧ والشربات هو إعلان الفرح عند المصريين، بينما القهوة دون سكر هي التعبير عن
الحزن. يقول متولي للحاج والي: هل أحضر الشربات؟
– بل القهوة يا متولي … ولكن بغير سكر.
– يا رجل أعوذ بالله … أهو حسد ما أصابك؟
٦٨
والدبلة في اليمين تعني أن الشاب والفتاة مخطوبان.
٦٩
وبعد أن تُعقَد الخطبة لا بد أن يؤدي الخطيب لخطيبته الهدايا في المناسبات الدينية
كالعيدين والمواسم،
٧٠ في كل مناسبة دينية «نفقة»، فلعيد الأضحى نفقته، ولعيد الفطر نفقته، ولمولد
النبي نفقته، إلخ.
وفترة الخطبة تخضع — غالبًا — لسن العروس، فهي تطول إذا كانت العروس صغيرة، وتقصر
إذا
كانت متقدمة السن نسبيًّا.
ويشير الفنان (النفس الحائرة) إلى أن فترة الخطبة تقليد كان مقصورًا — أوائل القرن
العشرين — على الفرنجة واللبنانيين والسوريين المولعين بتقليدهم، فالشاب يخطب الفتاة
التي يريد أن يتخذها زوجًا، ويحاول — في فترة الخطبة — أن يتعرف إلى أخلاقها وأحوالها
وصفاتها، حتى يتبين أنها تصلح أن تكون شريكة حياته.
٧١
لكن هذه الصور طرأ عليها — فيما بعد — تغيُّر بتغيُّر صورة الحياة في المجتمع.
فالراوي (السراب) يشير إلى بداية تعرف أبيه إلى أمه، إنه لم يعن بالسؤال عن أهلها،
وإنما سأل عن مدى ملاحتها. تغير ذلك الشرط الحاسم الذي كان يضعه أحمد عبد الجواد وسواه
من الآباء، ربما إلى الثلاثينيات من القرن العشرين بأن من يتقدم لطلب يد ابنته يجب ألَّا
يكون قد رآها من قبل، وأنه حين يتقدم فليصاهره هو أولًا ليتزوج ابنته. تغيَّر الشرط
بتغيُّر الصورة كلها قليلًا، فقد شاهد الرجل فتاته والحنطور ينطلق بأمها، وجدتها، ساعة
الأصيل نشدانًا للتنزه والفرجة (ونتذكر ما جرى لأمينة حين خرجت من بيتها للمرة الأولى)،
وتكررت مشاهدته للحنطور، وحققت في نفسه هوى، فبدأ يبعث إليها بنظرات تومض بالابتسام،
ويلتفت نحوها باهتمام وهو يفتل شاربه الغزير الأسود، لكنه لم يجاوز حدود الأدب قَطُّ.
٧٢ ومع أن ضابط الجمالية الذي تقدم لطلب يد عائشة من أحمد عبد الجواد لم يكن
قد نال من الفتاة إلا نظرات مختلَسة من وراء المشربية، فإن طلبه قوبل بالرفض القاطع.
أما رؤبة لاظ فلم يعان متاعب من أي نوع؛ أفادته الظروف المتغيِّرة في صورة المجتمع، وفي
طبيعته.
ولأن موافقة الأسر المصرية على أن يتردد الخطيب على بيت خطيبته في فترة الخطبة —
في
مرحلة باكرة من مغادرة المرأة المصرية أسوار الحجاب، وقبل أن يؤذن للخطيبَين بالخروج
من
البيت برفقة أحد أفراد أسرة الخطيبة، ثم بمفردهما — كانت تجربة غير مسبوقة، فإن تلك
الأسر كانت تُعِد الزواج نهاية حتمية لفترة الخطبة. يقول الأب لابنه في غضب: «كيف تصبح
سمعة أختك لو امتنع مصطفى — الخاطب — عن الزواج بها، بعد أن تكرر بينهما اللقاء.»
٧٣
وحتى الآن — في الأغلب — فإن الأخ يجب أن ينتظر حتى يزوِّج شقيقاته، والابنة الكبرى
لا
بد أن تتزوج قبل الصغرى، حتى لو تقدم خاطب للصغرى، فإن عليه أن ينتظر حتى تتزوج الكبرى.
٧٤ وعندما خاطب فريد زوجة خاله في خطبة «عزة» من أبيها، قالت له: «لا أحسب
خالك يضن عليك بابنته، لكنه لا يرضى أن تحدِّثه في هذه الخطبة قبل أن تخطب أختها، فهي
أكبر منها، ولا يجوز في عرف الناس أن تُخطَب الصغرى قبل أختها التي تكبرها.»
٧٥ وقد عانت زينات إصرار الأسرة على أن تتزوج شقيقتها الكبرى — الدميمة — قبلها.
٧٦ كذلك فقد عانت فوقية من أن شقيقتها الكبرى جمالات وقفت في طريقها، ولولاها
لكانت تزوجت منذ سنوات.
٧٧ وفي المقابل، فإن الأخت الكبرى يجب أن تخلي الطريق للصغرى كما تقضي
التقاليد، فهي ترضى بمن يتقدم لها حتى يخف الحمل الثقيل الذي ينوء أبوها تحت ضغطه سنين
طويلة.
٧٨ وعندما تقدَّم ضابط قسم الجمالية الشاب للزواج بعائشة، فإن أحمد عبد الجواد
استوقفه إهمال الشاب للتقاليد، وهي وجوب التقدم للأخت الكبرى — خديجة — بما يعني وجود
شبهات في الأمر كله: «لا أحب، لا أريد أن أعطي ابنتي لأحدٍ يثير الشبهات حول سمعتي، بل
لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل آخر إلا إذا ثبت لديَّ أن دافعه الأول إلى الزواج منها هو
رغبته الخاصة في مصاهرتي أنا … أنا.»
٧٩ حالت التقاليد التي ترفض زواج الابنة الصغرى قبل الكبرى، دون زواج عائشة
قبل خديجة، عائشة الجميلة، الشقراء، ذات العينين الزرقاوين بعد أن تقدَّم لها ضابط قسم
الجمالية، وتقدم إليها من بعده آخرون، لكن إصرار أحمد عبد الجواد على التقاليد الصارمة،
أرجأ موافقته حتى واجهته حرم المرحوم شوكت بما يدور في نفسه: «لا تقل إنك قررتَ ألَّا
تزوِّج
الصغرى حتى تتزوج الكبرى، من أنت حتى تقرر هذا أو ذاك؟ دَع ما لله لله وهو أرحم
الراحمين، إلام تقف حائلًا بين عائشة وبين حظها؟ أليست هي الأخرى جديرة بعطفك ورحمتك.»
٨٠ أصغى الرجل لصوت العقل في النهاية، فوافق على زواج عائشة من خليل شوكت،
لتفتح الطريق أمام زواج خديجة من إبراهيم شوكت، الأخ الأكبر لزوجها (قصر الشوق، الرواية).
والطريف — والمؤلم — أن إرادة الأسرة اقتضت أن يتزوج إبراهيم من سوسو — شقيقة
شوشو الكبرى — ما دام الزواج هدفه، بصرف النظر عن حبه للصغرى.
٨١ وبعد أن تزوجت الأخت الصغرى هدى قبل أختها الكبرى أمينة، فإن أمينة ظلت
تعاني نظرات أفراد الأسرة لأنها لم تدخل بيت العدل بعد، كأنها هي المسئولة عن تأخر زواجها!
٨٢ ثم قبلت أمينة الزواج من شاب رفضته قبلًا، فقد كان السبب هو سبق الصغرى هدى
بالزواج. صارت المسألة في نظرها حياة أو موتًا.
٨٣
وربما يعود حرص بعض العائلات على زواج بنات الأعمام بأبناء الأعمام إلى تفضيل زواج
الأقارب، تواصلًا لنظام الأمومة في مصر القديمة، حين كان للزوجة وضع الأولوية في
الأسرة، فإذا ماتت ورثها بناتها لا أبناؤها. وقد عانى الراوي من الكراهية التي كانت
تواجهه بها عائلة أبيه، لأن الأب تزوج من قاهرية أحبها، في أثناء تعلُّمه في الأزهر،
وفسخ
خطبته لابنة عمه.
٨٤ ويهبنا عبد الخالق (عاصفة فوق مصر) تفسيرًا لزواج الأقارب، وأنه كان يتم في
العصور القديمة، عندما كانت الحكومات تعجز عن حفظ الأمن. وكانت العائلات الكبيرة تتبادل
شن الغارات، فإذا قُتِل فرد في قبيلة، أصبح من المفروض عليها أن تثأر له «وكان هذا التأهب
المستمر لملاقاة الموت، يخوِّلهم الحق أن يقترنوا ببنات أقربائهم، رغم ما يمكن أن يكون
بينهم من فارق في الثروة.»
٨٥ ويضيف عبد الخالق أن الحكومة أصبحت قوية في العصر الحاضر — مطالع
الثلاثينيات — فقد كثرت الطرق الزراعية، ومن ثَم قلَّت الحاجة إلى حماية أبناء العمومة،
وليس ثمة ما يدعو إلى قبول مصاهرتهم ما دام هناك من هو أفضل منهم، من حيث السن والعلم
والخُلق والأسرة، ومن حيث الملكية أيضًا.
٨٦
والعادة أن الفتاة الريفية تتزوج من أحد شبَّان القرية، وقد ظلَّت مشكلة زينب أنها
كانت
غريبة عن كفر سمعان، فتردَّد الشبَّان في التقدم لخطبتها، حتى إذا تقدم لها سيد، وقفت
القرية كلها ضده!
٨٧
وينقسم المهر في عقد الزواج إلى جزأين غير متساويين، الأكبر يُدفَع عند توقيع العقد
كشرطٍ لنفاذه، والأصغر يُسمَّى مؤخر الصداق، ويلتزم الزوج بدفعه عند الطلاق.
وبعد عقد القران، يبدأ الاستعداد للزفاف، ولا يفرغ الحديث عن الجهاز الذي يكثر التردد
على الأسواق لشرائه.
٨٨
والزواج في شهر محرم (قلوب خالية) قليل نسبيًّا، يقابله ارتفاع في الزيجات في شهر
شوال، لكن رواج موسم الزواج — في تقدير زكريا أحمد — في أشهر محرم وجمادي الأولى وجمادي
الثانية ورمضان.
٨٩ وعمومًا فإن موسم الزواج في الريف يحل — عمومًا — في شهري أكتوبر ونوفمبر،
بعد أن يتم جني محصول القطن،
٩٠ إلى جانب أن القرية تكون في شبه فراغٍ مؤقتٍ من العمل الزراعي. يباع المحصول،
ويسيل الخير بين الأصابع، ويُشترى الجهاز من البندر أو المركز، أما أعيان القرية
فيتوجهون إلى القاهرة أو الإسكندرية لشراء ما يحتاجونه من المحال الكبرى.
٩١ وﻟ «الشوار» — الجهاز — دلالة هامة في مدى مكانة العروس لدى أسرتها، وكما
تقول أم وهيبة، فإن «سعادة الزوجة في حياتها كلها متوقفة على ما تأخذه معها من أثاث في
يوم زواجها.»
٩٢ وصداق غالبية الزيجات في الريف، يُنفَق في شراء اللوازم الضرورية، وأثاث
بيتها هو — في الأغلب — صندوق خشبي وملابس وحشية من القطن أو من قش الأرز وحصير، وبعض
الأوعية النحاسية التي تدخرها الفتاة قبل أن تتزوج.
٩٣
وفي كل الأحوال، فإن موكب «الشوار» ينبغي أن يكون طويلًا، فهو يتكوَّن من الجِمال
والبِغال والحمير والصبية والفتيات والنسوة العجائز، كلٌّ يحمل شيئًا من جهاز الشوار،
وتحمل العجائز — في آخر الموكب — أسبتة فيها أطقم الصيني والفضيات — إن وجدت — وعشاء
العروس المكوَّن من الأرز والقمح والطيور المذبوحة والسمن والبقول.
٩٤
ولا بد للزواج من إعلان،
٩٥ وهو ما يتمثَّل في الدعوة إلى حفل الخطبة، أو إلى حفل الزفاف، ونقل الشوار
على عربات كارو بالنسبة للطبقات الأدنى، ودعوة الأهل والأصدقاء لحضور عملية شراء
«الشبكة» من «الصائغ».
وقبل الزفاف، يخرج أفراد أسرة الخطيب لإحضار «النيشان» لخطيبته، ويتكوَّن النيشان
من
ريش أبيض فاخر، وخمار أبيض، وحافظة بيضاء، وجورب أبيض من الحرير الغالي. ويُطلَق على
هذه
الأشياء «الطقم الأبيض»، وهو ما ترتديه العروس ليلة الزفاف. ويحتوي النيشان كذلك على
شباشب حمراء وصفراء وخضراء، وجوارب ومنديل وروائح وصابون وصندوق تواليت وأقمشة متعددة
وثياب داخلية.
والعادة أن توكِّل العروس أباها أو عمَّها أو خالها أو أحد أقاربها ليكون وكيلًا لها،
وقد تكون وكيلة عن نفسها إذا جاوزت الحادية والعشرين من عمرها.
٩٦ ويبدأ المأذون بقراءة الأحاديث الشريفة عن الزواج، ثم يعلو صوته بالآية
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ صدق الله العظيم. وقال عليه الصلاة والسلام «تناكحوا تناسلوا
فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.» ويطلب منديلًا من العريس، يضعه على يده ويد صهره
والد العروس، أو من وكلته عنها، ويتجه إلى والد العروس بالقول: قل يا سي فلان: زوَّجتك
موكلتي فلانة البكر البالغة على سنة الله ورسوله، وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة، وعلى
المهر المسمَّى بيننا. ويتجه إلى العريس بالقول: قل يا سي فلان: قبلتُ زواجها.
٩٧ ويتلو المأذون الصيغة الشرعية لعقد الزواج، ثم يحرر قسائم الزواج، فيعطي
العريس القلم، حيث يوقِّع عليها، ثم يأخذه منه ويقدمه لوالد العروس فيوقِّع هو الآخر.
٩٨ وإذا لم تكن العروس قد سبق لها الزواج، فإنه ينص في العقد على أنها «البكر الرشيد».
٩٩ وعقود الزواج الإسلامية هي الوحيدة التي تنص على أن العروس بكر أو ثيب،
وعادة، فإن المأذون يكون مشغولًا في كتابة عقود الزواج من ظهر الخميس.
١٠٠
وفي الكنيسة، يقف العروسان أمام القس. يسأل القس العريس: هل ترغب يا فلان في فلانة
لتكون زوجة لك؟ يجيب: نعم. ويسأل العروس: وأنتِ يا فلانة، أترغبين في فلان زوجًا لك؟
تجيب: نعم. ويفتح القس الكتاب، ويقرأ: «إن الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى، وقال
من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكون الإنسان جسدًا واحدًا. إذن
ليسا بعدُ اثنين، بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان.»
١٠١ يوضع التاج فوق رأس كلٍّ من العروسَين، يميل كلٌّ منهما رأسه فيلتصقان، وتعلو
الزغاريد، ويقول القسيس منبِّهًا على العروس: أطيعي زوجك، وكوني عونه في السراء
والضراء. ويقول: إن ما يربطه الله لا يفرِّقه إلا الموت.
١٠٢ والكلمة التي يتبادلها المدعوون في حفل عقد القران أو الزفاف هي: عقبالك،
أو عقبال أولادك، إذا كان الشخص متزوجًا.
١٠٣
وكان من تقاليد الزواج عند الأسر اليهودية — عندما كان اليهود نسيجًا في المجتمع
المصري — أن تستحم العروس بالماء البارد ممزوجًا بماء مقدس يرشُّه الحاخام، ثم تلبس
العروس وتتزين، ويحرَم على غير اليهودي، مسلمًا كان أو مسيحيًّا، أن يلمسها، فإن حدث
ذلك
وجب أن يعاد استحمامها من جديد بالماء البارد.
١٠٤
لم تكن الأفراح — إلى نهايات القرن التاسع عشر — تقتصر على ليلة واحدة، بل كانت —
في
العادة — ثلاث ليال، منها ليلة «الحناء» التي تسبق ليلة الزفاف بمنزل العروس. وكان
العريس يجتمع في بيته — قبل يوم الزفاف — بخاصة أصدقائه، ويردد الجميع أغنيات الأفراح
في سهرة تُسمَّى «الضمم».
وفي ليلة الزفاف، كانت أم العريس تصل إلى بيت أهل العروس لاصطحابها في موكبٍ يتألَّف
من
عدة عربات. أما عربة العريس فتُزيَّن بالشيلان الكشميرية، ويجرُّها جوادان أو أربعة،
ويخفرها
اثنان من الأغوات على الجياد، والمقدم التابع للعروس الذي يسير على قدميه بجانب العربة،
ويرتدي كلٌّ منهم شيلانًا من الكشمير أهداه لها العريس. وتتقدم الفرقة الموسيقية الموكب،
الذي يطوف ببعض الشوارع المهمة قبل أن يصل إلى بيت العريس. ويتقدم العريس لاستقبال
عروسه، فتُظهِر الإباء والتمنع، ثم تنزل بعد إلحاح؛ وساعتها تُنحَر الذبائح على عتبة
البيت.
ويسير العروسان إلى باب الحريم بين صفَّين من الأغوات الذين يمسكون بالشيلان الكشميرية
لمنع الرجال من رؤية العروسين، ثم يبدأ العوالم في الغناء، حتى يجلس العروسان في
الكوشة، وسط نثر «البدرة» — نقود ذهبية صغيرة من فئة القروش الخمسة، أو فضية من ذات
القرش الواحد — فتلتقطها الخادمات وبعض المدعوات التماسًا للبركة، وإن كان القصد من نثر
البدرة صرف الأنظار، حتى لا يصاب العروسان بالحسد. وبعد أن يجلس العريس في الكوشة
قليلًا، ينزل إلى المدعوين من الرجال، بينما يستمر العوالم في الرقص والغناء، ويجمعن
في
أثناء ذلك النقوط من المدعوات. ثم تتلقى العروس هدايا الأهل والأصدقاء، ويُعلَن اسم صاحب
كل هدية فور تقديمها. وبعد تناول العشاء، يخرج العريس مع أصدقائه في موكب زفة، يتقدمهم
عدد من الخدم، يحملون «الفنانير» ذات الشمعة الواحدة، ما عدا الاثنين اللذين يتقدمان
العريس، فكلٌّ منهما يحمل فنيارًا بعدة شمعات. ويصل الموكب إلى أحد المساجد، فيصلي العريس
ركعتين، ثم يعود الموكب إلى البيت، ليزفَّه العوالم إلى الكوشة، ويعاد نثر البدرة، ثم
يرفع العريس نقاب عروسه، فيراها للمرة الأولى، ثم يصحبها إلى حيث يختفيان عن الأعين.
تلك كانت أفراح السراة، أما أفراح الطبقات الأدنى، فقد كانت المشاعل تُستخدَم بدلًا
من
الفنانير، والطبل البلدي والمزمار بدلًا من الموسيقى، وكان الموكب يتوقف — في الأغلب
—
أمام أحد محال البوظة، يشرب الجميع بدعوة من العريس. وكانت العروس ترتدي أفخر ثيابها،
وفوقها «التلِّي»، وعلى رأسها «قرص» مزركش، ومن فوقها ناموسية يمسك بها مجموعة من
الرجال، ويصحبها اثنتان من صديقاتها، وخلفها طبلتان، وأمامها جماعة من الفتيات يسرن
اثنتين اثنتين في صفٍّ طويل، وبجانبهن المقدم الذي يتولى تنظيم الصفوف. وفي المقدمة من
الموكب كله، يسير الطبل البلدي والنقرزان والتختروان الذي يحمل بعض المغنين، حتى بيت
العريس.
١٠٥ وثمة موكب للعروس، تجلس فيها داخل مركبة (عربة يقودها حوذي) عليها أستار من
الحرير والقصب، وإلى جوارها أقرب صديقاتها، ومن ورائها مركبات السيدات، وعلى الجانبين
يسير الجنود، وتُعزَف الموسيقى.
١٠٦
وكما أشرنا، فإن ليلة الحنة تسبق ليلة الزفاف مباشرة، حيث تخضِّب فيها العروس يديها
وقدمَيها بالحناء، وتربطها بقطعٍ من القماش حتى صباح اليوم التالي، وتحذو بقية الفتيات
حذوها فيخضبن أيديهن وأقدامهن بما تبقى من حناء العروس. وليلة الحنة قديمة في الحياة
المصرية؛ إنها موروثة من الأسرة العشرين، مثلها مثل حفلات الصبحية والنقوط والسبوع.
١٠٧ ولعلنا نذكر الأغنية الشهيرة التي ردَّدها المصريون عند زواج قطر الندى، أو
أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية من الخليفة المعتضد: يا
الحنة … يا الحنة يا قطر الندى … يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى. وزفة الحنة معروفة
بعد في معظم المدن المصرية. وقد اشتهرت مدينة السويس — تحديدًا — بزفتها التقليدية
الشهيرة للحنة. والحنة عبارة عن عجين مسحوق أوراق الحناء الجافة بالماء، يوضع في صينية
مزدانة بالورد والشموع، بجوارها إناء كبير به ماء يُلقى فيه ببعض الحبوب تعبيرًا عن
الرغبة في طلب السعادة، وتضع المدعوات النقوط — عملات ذهبية أو فضية — في عجينة الحنة،
بينما تتعالى الزغاريد والأغنيات: يا تاجر الحنة تعالَ يوم الخميس … وكتر الحنة عشان
نحنِّي العريس … يا تاجر الحنة تعالَ يوم التلات … وكتر الحنة عشان نحنِّي البنات.
١٠٨ وجلبًا للحظ السعيد، فقد تُغرِق العروس قدمَيها في الماء والرجلة الخضراء في
داخل صينية من النحاس،
١٠٩ ويوضع المصحف على رأسها، لتملأ البركة حياتهما.
١١٠
فإذا جاءت ليلة الزفاف، يجلس العريس في الطست النحاس، ومن حوله أصدقاؤه، يصبُّون
على
جسمه ماء الحموم، فيدفع بالصابون المعطر إلى الطست ويغنون: الورد كان شوك من عرق النبي
فتَّح … عريسنا والنبي … فلَّة والنبي.
١١١ ثم يلتف رفاقه حوله، يحاول كلٌّ منهم أن يسدي إليه النصيحة الأخيرة، ويتناثر
الهمس: عندما تدخل عليها … وإذا دخلت عليها … وأول ما …
١١٢ وتهمس الأم في أذن زوج ابنتها: ابنتي ليس عندي أعز منها … عاملها برفق.
وتضيف: إن تملَّكها الخجل انتظر عليها إلى ليلة أخرى.
١١٣
وكانت بعض الأسر في الصعيد تحظر على العروس حضور حفل زفافها، فالعوالم يغنين ويرقصن
للمدعوات، بينما هي جالسة بمفردها في غرفة أعلى البيت تسمى «الشخشيخة» لا ترى أحدًا،
ولا يراها أحد.
١١٤
وقبل أن يدخل العروس على عروسه، ينصت إلى ذوي الحكمة، يرشدونه إلى إحدى طرق إثبات
الرجولة ليلة الزفاف، ثم تخضَّب أطرافه بالحناء، ويشذب الحلاق شعره وأظافره، ويحصل على
حجاب تأمين سلامة أدائه في تلك الليلة، ثم يطوف على أضرحة الأولياء يتوسل بهم إلى الله
كي يطرح فيه البركة والرجولة، وفي عروسه الإنجاب والصلاح والتقوى وعدم الغواية، والرشاد.
١١٥
أما العروس، فإن أمها تكون قد أنهت وصاياها قبل ليلة الزفاف ببضعة أيام: «كصندوق
من
عهد حواء فيه السحر أو الخديعة، وكلمات سبقت عهود الحكماء.»
١١٦ «الرجل له طلبات، يجب أن تلبِّيها. وسوف يطلب الراحة فوفِّري له الراحة،
وسوف يطلب جسدك لأنه حلال له، والله أذن له بأن يحصل على جسدك فنظِّفيه وانزعي منه
الشعر، واحفظيه دافئًا طريًّا.»
١١٧ وربما تدخل النسوة من الأقارب والجيران بنصائحهن: «أخد الوش زي قرصة الدبور
… يا شيخة حرام عليكي، حتخوفي البنت … والنبي يا ست أبوها … ده زي قرصة البرغوت … يا
بت
ما تخافيش … لا برغوت ولا دبور، ولا حتبقي حاسة بحاجة … إلخ.»
١١٨ وقد تلجأ العروس إلى «بلانة» تتلقى منها نصائح أشبه بالدروس، وقد تمثل
المرأة مع العروس نصائحها لتكون نصائحها أقرب للفهم. وكانت تلك الدروس هي سبب اطمئنان
فتيات كثيرات في لياليهن الأولى مع أزواجهن، أو ارتفاع قيمة زوجات في نظر رجالهن بعد
هبوط وإعراض.
١١٩ ويحرص أهل العروس — ما أمكن — على عدم تعارض مواعيد الموانع الأنثوية مع
أيام التزاوج.
١٢٠
ويحاط العريس بأصدقائه منذ ساعة نزوله من العربة إلى دخوله البيت، يغنون: يا ما انت
صغير، حلو يا عريس.
١٢١
ويجلس العروسان في «الكوشة»، وتسرع إحدى سيدات الأسرتين إلى المطبخ، لتعود وفي يدها
لقمة خبز، وقطعة صغيرة من الجبن، تدسُّها في فم العريس، ثم في العروس، وهي تقول: كُلا
عيشًا وملحًا معًا، وتنثر حبَّات الملح في عيون العواذل والحسَّاد.
١٢٢ وترقص العالمة، ويقترب المدعوون منها، ويلصقون على جبينها — كلٌّ بدوره —
عملة من النقود، كما تُلصَق طوابع البوستة على وجه المظروف. النقطة مهمة جدًّا في حفل
الزفاف، يقدمها الأهل والأصدقاء.
١٢٣ وفي الأحياء الشعبية، يردد دافع النقطة والراقصة كلمات من نوع: «العريس …
وأهل العريس … والفتوات … واللي طلعوا من السجن ودخلوه تاني … اللي ما همهمش … الرجالة
…
الرجالة بس … والعيال لأ … والجدعان اللي بيعشقوا الجدعنة … واللي بيعشقوا النبي …
واللي بيعشقوا المزاج … وسلام مربع للجدعان.»
١٢٤ ولما تشتد حمَّى الرقص، ويزيد ارتعاش بطن الراقصة، فإن الأيدي تمتد
بالريالات «الفضة» على بطنها «في المنتصف تمامًا من دائرة الارتعاش».
١٢٥ فإذا دخل أحد المدعوين، أشار رئيس الفرقة الموسيقية، فتحيِّي الفرقة المدعو
تحية موسيقية هي السلام الملكي.
١٢٦ ولأن التقاليد كانت لا تسمح للمطربين بأن يغنوا في حضرة النساء، فقد كانت
أفراح الأثرياء والعظماء تضم مطربًا يغني للرجال في «السلاملك»، ومطربة تغني للنساء في
«الشكمة».
١٢٧ وكان عبده الحامولي، أو يوسف المنيلاوي، مطرب أبناء الذوات، أما أبناء
الطبقة الوسطى، فقد كانوا يدعون إلى حفلاتهم محمد عثمان وداود حسني ومحمد سالم
والشنتوري وأحمد فريد وأحمد صابر.
١٢٨ أما في القرية، فإن الأغنيات الشعبية تفرض نفسها: يا عروستنا … يا لوز مقشر
تعالي … أو: الفل عايم ع المية … بص وبنتي انت وهيه.
١٢٩ ومن أغنيات ليلة الدخلة: ع العجلة وشبكها … بالفستان اللبني … أول ما دخل …
دخل ع الإياس … خلع اللباس … واتوكل على الله. أول ما دخل … دخل ع السرير … ألَّعها
الحرير … واتكل على الله.
١٣٠ وتحرص الفتيات على قرص العروس في ركبتها «اقرصيني في ركبتي، تلحقيني في جمعتي.»
١٣١
ثم تزف الراقصة العروسَين إلى باب غرفتهما. ومن الأوفق — اجتلابًا للحظ الحسن — أن
تدخل العروس بيتها بالقدم اليمنى.
١٣٢ يدخل العريس على عروسه، يقبِّلها وتقبِّل يده، ثم يقدم لها هدية كشف الوجه، وهي
نقود في الأغلب، ويعطي الماشطة حلوانها، ثم يلف المنديل أو «الشورة» على سبابته، وكما
يقول الشيخ، فإن الإبهام للمأذون والسبابة للعروس.
١٣٣ وقد يحيط بالعروس الماشطة والأقارب من السيدات، فإذا بادرت بالصراخ، شددنها
إلى السرير، وقيدن يديها وقدميها، ليتم العريس فعلته.
١٣٤ ويلزم الجميع باب الغرفة تنشق حناجرهم عن أصوات
مرتفعة تريد أن تلتهم في هديرها تلك الصرخة التي تودع بها الفتاة عهد العذارى: ادحرج
واجري يا رمان … وتعال على حجري يا رمان.
١٣٥ ويغنون: العجل هد
المصطبة … داحنا سمعنا الدبدبة،
١٣٦ وهو ما يقدِم عليه العريس بيده، أو بالمضاجعة،
١٣٧ أو بواسطة الماشطة.
١٣٨ أو بعض النساء الفقيرات المتصلات بالأسرة، ليستطيع الزوج من بعد أداء واجباته.
١٣٩ فإذا كانت العروس ثيبًا، اتفقت الأسرتان على كتمان الأمر، وتفرغ الماشطة
كيس الدم فوق الإصبع المستطلِعة، «فيُصان الشرف، ويملأ الرأس تأله كاذب!»
١٤٠
وأحيانًا — في الحالات التي يخلو فيها الشاب إلى فتاته — قد يعجز عن الدخول عليها،
وتصبر البنت المؤدبة، وتتهم نفسها بالقبح، أو بشيء من هذا القبيل، لكن الصبر لا يدوم،
فالفتاة تلجأ إلى أمها تشكو ما يحدث، وتفسر الأم موقف الزوج بأنه غشيم أو خام، وتفكر
في
وسيلة تعين الزوج على أداء واجبه.
١٤١
أما في الريف، فإن العريس يحمل عروسه، ويدخل بها البيت، وتتصاعد طلقات الرصاص ودقات
الدفوف. ويضرب أصدقاء الشاب على الباب بشدَّة وهم يصيحون: التور. ويردون: هد المصطبة!
بينما تصفق الفتيات في إيقاع متواصل رتيب. ثم تدوي الصرخة المرتقَبة، وتظهر الداية
وبيدها منديل حرير مخضب بالدماء، ويلتقط الواقفون خارج الحجرة المنديل الذي يؤكد شرف
الفتاة، وتعلو الأصوات مكررة في إيقاع لاهث: العجل هد المصطبة!
١٤٢ ويتلقف الأب المنديل على عصاه وهو يهتف: مبروك يا طاهرة … بيضت وشِّنا، وطوَّلت
رقبتنا. ويتلقف العصا منه شباب العائلة، يرقصن بها، وتعود الزغاريد وطلقات الرصاص ودقات
الدفوف والموسيقى وتصفيق البنات:
١٤٣ يا حلوة يا بلحة يا مقمعة … شرفت أخوالك الأربعة.
١٤٤ فإذا اضطرب العريس، تقوم الداية بهذا العمل بدلًا منه، وهو ما قد يعني
إهدار رجولة العريس، ويعرضه لسخرية أصدقائه حين يخرج في المساء ليلتقي بهم.
١٤٥ فإذا كانت العروس ثيبًا، وقرر العروسان المداراة، فإن «كيس الدم تفرغه
القابلة فوق الإصبع المستطلعة فيُصان الشرف، ويملأ الرأس تأله كاذب» (الداخلي طه، لعبة
الدوائر المفرغة).
١٤٦ وتسأل نانا: «لماذا يشترط الرجال العرب عند اختيار زوجاتهم، أن يكن عذارى ما
دمن لسن بالمطلقات ولا بالأرامل؟ ولماذا يقيمون هذه الضجة وينشرون كل هذه الفضيحة،
إذا اكتشف الواحد منهم ليلة الزفاف، أن زوجته ليست عذراء؟ ولماذا لا تزال هذه العادات
الهمجية التي تجري في ليالي الزفاف لإعلان أن العروس قد ثبت أنها عذراء، سائدة في بعض
القرى المصرية، وفي كثير من المناطق العربية؟» يرد البطل: «إنه الدليل الوحيد الذي تثبت
به العروس أنها صانت نفسها، وصانت أهلها، حتى ليلة زفافها.»
١٤٧ وعندما دخل شاب على عروسه، دون أن يحمل في يده المنديل الأبيض، وأصر أن
يخرج الجميع — حتى الداية — وأن يظل وحيدًا مع عروسه، لطمت الداية على وجهها وهي تروي
عن بدع عريس البندر، فدخل والد العروس غاضبًا إلى القاعة، وضرب الشاب بالكف على صدغه،
وطلب منه أن يدخل على ابنته بالطريقة نفسها التي يدخل بها كل عريس على عروسه من البنات
الشريفات. وامتثل العريس — الذي حاول أن يحطم تقليدًا — لإرادة صهره، وأعطى إصبعه
للداية فلفت حولها منديلًا أبيض، وعاد النسوة إلى القاعة يتابعن المشهد المثير، وصرخت
العروس، وانطلقت الزغاريد، والتقط الرجال — أمام القاعة — المنديل الأبيض وقد لوثته
نقطة دم، فأضافوا إليه مناديل أخرى بيضاء تملؤها بقع دم قاتم، حملوها على ظهور الشماريخ
وهم يهتفون: الحلو أهه! ومن ورائهم النساء يرقصن ويصفقن ويرددن في نغمٍ متلاحق: قولوا
لابوها إن كان جعان يتعشى … بنت الأكابر شرفتنا الليلة.
١٤٨ وربما غنَّت البنات: يا بخت اللي طال جيبه … يا بخت اللي طال جيبه!
ولعله يجدر أن نشير إلى ما سجله ج. دي شابرول في «وصف مصر» من أن المتعلمين المصريين
(أعوام الحملة الفرنسية) قد هجروا عادة تقديم الدليل على بكارة زوجاتهن للأقارب
والأصدقاء، باعتبار ذلك شيئًا يخدش الحشمة، بينما عامة الشعب وحدهم هم الذين ظلوا
يمارسون هذا السلوك.
١٤٩
وكان المألوف أن تنتقل العروس إلى بيت العريس، وليس العكس،
١٥٠ وإن حدث — فيما بعد — نتيجة لعوامل اقتصادية واجتماعية — تغيُّر واضح، وربما
طاف موكب العروسين بالقرية أكثر من مرة.
١٥١ وكان الهودج هو وسيلة انتقال العروس من قريتها إلى قرية زوجها، يحيط به
وبها رجال من أهل العروسين، في يد كلٍّ منهم نبُّوته، ومع البعض حمل طبنجات يطلقون
رصاصاتها في الفضاء.
١٥٢ فإذا وصل الموكب إلى بيت الزوجية، رفض أهلها أن تركب العروس هودجها إلا إذا
دفع والد العريس مبلغًا من المال، وهو ما يُسمَّى ﺑ «البلصة».
١٥٣ أما أم العروس، فإنها تنتظر «كسوة» يرسلها إليها الزوج قبل الزفاف بشهرٍ في الأقل.
١٥٤
وسؤال منصور لصديقه عبد السلام: أين ستقضي شهر العسل؟ يبدو غريبًا في ظل الوضع
الاجتماعي والاقتصادي الذي يحياه العروسان.
١٥٥ شهر العسل تقليد غربي، ورثته الطبقات الثرية، ثم حاولت الطبقات الوسطى
تقليدها.
ولعل «قصة في سجن» هي العمل الأدبي الوحيد الذي يتحدث عن زواج الوهبة. تقول الفتاة
للشاب: أنا وهبتك نفسي، فيقول لها: وأنا قبلت. ويقول عليوي إن «فلاحين كتير بيجوزوا في
البنادر بالوهبة.»
١٥٦
وقبل أن يأتي الرجل زوجه — في ليلة العرس، وكل الليالي الأخرى بعدها — فإن عليه أن
يصلي ركعتين لله، حتى يرزقه الله بالنسل الصالح.
١٥٧ وقد يأخذ بيد عروسه ويستقبل القبلة قائلًا: «اللهم على كتابك تزوجتها،
وبأمانتك أخذتها، فإن قضيت لي منها بولدٍ، فاجعله مباركًا نقيًّا ذكيًّا، ولا تجعل
للشيطان فيه شريكًا ولا نصيبًا.»
١٥٨
والصبحية والنقوط والسبوع وغيرها من مظاهر احتفالات الزواج والإنجاب، كانت قائمة
في
مصر القديمة، واستمرت إلى أيامنا الحالية.
١٥٩
وعلى الزوجة — في أيام الزواج الأولى — أن تُظهِر جهلًا بمسائل الجنس، حتى لا تنبت
بذرة
الشك في نفس الزوج.
١٦٠ عضو المرأة يُكنى بتسميات مثل «علبة اللولي»،
١٦١ وإن كان عليها أن تدرك جيدًا دلالة المَثَل «إن اللذة هي أكل اللحم، وإن لذة
اللذة هي ركوب اللحم — أي ركوب الخيل — وإن لذة لذة اللذة هي دخول اللحم في اللحم.»
١٦٢ الجنس — على حد تعبير الراوية — من الأشياء النادرة التي تعيد توحد الإنسان.
١٦٣ وبعض الأزواج يعتقد أن القسوة وعدم الاحتفال هما اللجام الذي تقاد به
المرأة إلى غاية ناجحة.
١٦٤ وربما ضرب الرجل زوجته على رأسها إن هي رفعت صوتها معبِّرة عن استمتاعها.
١٦٥
وعلى الرغم من أن المثل الشعبي المصري يؤكد أن «اللي بيحصل بين الراجل ومراته زي
اللي
بيحصل في القبر وأفعاله» فإن العلاقة الجنسية بين أحمد عبد الجواد وأمينة (بين القصرين)
تثير السؤال: كيف كانت صورة تلك العلاقة؟ هل كانت تعرف الغزل والتقبيل والمداعبة قبل
أن
يضاجعها الرجل، فتنجب أبناءه؟ أو أنها كانت تتمدد، وتنتظر حتى يشلح ثوبه، ويقذف بما
عنده، ثم يسلم نفسه للنوم؟ مع أن الفنان لم يشِر إلى طبيعة العلاقة الجنسية بين الزوجين،
فلعلي أتصور — من خلال ما كتبه الفنان — أن أمينة لم تكن غير وعاء لإنجاب أبناء أحمد
عبد الجواد. أما اللحظات القليلة التي لم تكن فيها أمينة مجرد وعاء يضع فيه أحمد عبد
الجواد بذور أبنائه، فهي اللحظات التي يكون فيها تحت تأثير الشراب «حين تجد نفسها بين
يدَي رجل حلو المعشر، يتبسَّط معها في الحديث، ويفضي إليها بما في طويته على نحوٍ يشعرها
—
ولو إلى حين — بأنها ليست جارية فحسب، ولكنها شريكة حياته أيضًا.»
١٦٦
إذا كان تقدير بريتون أن الجنس ليس كل شيء في الحب، وجسد المرأة ليس غاية نهائية،
فإن
الاتهام الذي يواجهه الرجل أنه يخلط في قاموسه الذكوري بين الصداقة والحب والعشق. ما
إن
تقترب منه امرأة، أو يقترب منها، حتى تزوغ عيناه بحثًا عن مساحة متعة، قد تكون نظرة،
أو
لمسة، أو حتى كلمة سخيفة، وقد تكون أكثر.
١٦٧ تأمَّل تسمية البعض للمرأة بأنها «فخذ».
١٦٨ الحب — عند شخصيات نجيب محفوظ بعامة، أو معظمها — عبارة عن «شهوة مولعة
بالمرأة لذاتها لا لمعانيها ولا لألوانها.»
١٦٩ ثمة أحمد عبد الجواد وياسين وحسنين كامل علي وحسن كامل علي، والقائمة
طويلة. يقول حسنين لبهية: إنك تتكلمين بقسوة، شأن من لم يذُق قلبه الحب.
– إني أنكر الحب الذي تريد، وإنك تسيء فهمي عمدًا.
– ولكن الحب واحد لا يتجزأ.
– كلا، كلا. لا أوافقك على هذا الرأي!
١٧٠
إن الحب لا يعني الجنس، وإن كان الجنس — دومًا — جزءًا من الحب، الجنس حقيقة أساسية
في
حياة كلٍّ منا؛ إن له أهمية الطعام والنوم والحرية. وإذا كان أحمد عبد الجواد (بين
القصرين) قد عشق الجمال مجردًا، فإنه عشقه كذلك في هالاته الاجتماعية اللألاءة، تجذبه
المكانة المرموقة والصيت البعيد.
١٧١ وقد هجر أحمد عبد الجواد (قصر الشوق) الجنس خمس سنوات متتالية، عقب وفاة
فهمي في مظاهرة السلام، ثم استولت عليه رغبة مفاجئة — لم يفلح في مغالبتها — نحو زنوبة
العوادة. حاول استمالتها بمكانته ومعسول كلامه ونقوده، وتنازل عن كبريائه لما قابلت
محاولاته بالصدود، لكن فشل محاولاته بلغ نهايته باقتران زنوبة — زنوبة نفسها! — بأكبر
أبنائه ياسين!
إن الطبقة ما فوق المتوسطة تحل مشكلاتها — إلى حد ما — بالتحرر، أما الطبقات الشعبية
فإنها تلجأ إلى الزواج المبكر، وأما الطبقة الوسطى فإنها تواجه في أزمات الجنس تعقيدات
لا حصر لها. ولعلنا نذكر ما عانته نفيسة في «بداية ونهاية». كانت صورة المرأة في ذهن
حسنين (بداية ونهاية) — حتى وهو يحادثها — متجردة، إلا من شعرها المنسدل.
١٧٢ وحين تشتد الأزمة الجنسية، فإن الراوي (الحب فوق هضبة الهرم) يتحوَّل إلى
كائن جنسي خالص ذي حواس جنسية، وأخيلة جنسية، وأحلام جنسية، ويفكر في الحرام «كضرورة
لا مفرَّ منها دفاعًا عن صحتي الجسدية والنفسية.»
١٧٣ وكان رأي محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) في المرأة أنها «صمام الأمان
في خزان البخار.» وقد عارضه علي طه في ذلك الرأي: «إن هزة قلب شيء خطير له من المغزى
في
هذا الوجود ما لحركة الأفلاك في السموات، فلا تذكر أبدًا خزان البخار وصمام الأمن.»
١٧٤ وكان الزواج المبكر هو الحل الأمثل الذي اهتدى إليه والد محمود درويش
(المرايا) ليوفق بين حيوية ابنه وضرورة استقامته، وزوَّجه بالفعل من فتاة ريفية فقيرة،
أراحت باله، وأطلقت قواه في الدرس والتحصيل.
١٧٥
وحتى تنفِّس نوال (جبل الشاي الأخضر) عن رغبتها الجنسية، فإنها كانت ترقد فوق ظهر
الجاموسة بصدرها، تحتضن عنق الجاموسة بكلتا ذراعيها، وتمرجح ساقيها، وتحك فخذيها ببطن
الجاموسة الأسود السخين.
١٧٦ ويتحدث الفنان عن الليالي المظلمة وارتفاع أعواد الذرة، حيث يتفجر الحب في
جوانح الفلاحات، فيهرولن إلى الحقول، فلا يراهن إلا الله.
١٧٧ أما دياب (الأرض) فقد وطأ باب عتبة الجنس من خلال علاقة حاول أن ينشئها مع
الجحشة الصغيرة التي يملكها شقيقه محمد أفندي، لكن محمد أفندي ضبطه وعنَّفه وضربه، ثم
ظهرت المومس خضرة في حياة دياب، فأغنته عن اللجوء إلى الجحشة!
١٧٨ وثمة معتقد أن أكل الرجل زوجين من الحمام يهبه القدرة على إرضاء المرأة.
١٧٩ ولزيادة القوة الجنسية، فإن شحاتة (السقا مات) يوصي المعلم الخشت الجزار
بأن يُعِد له «شوية مخاصي على شوية مواسير على حتة كلوة … توضيبة من إياها دي.» ويضحك
المعلم خشت، ويصفق بيديه طربًا، ويقول: «سيبني أنت بقى خليني أعمل لك التوضيبة على
كيفي. أنا حاخليك تدعي لي. حارجعك عشرين سنة لورا. وحاقول لك كمان على وصفة ما تقولهاش
لعدوك، حاجة مجربة، ما تخيبش أبدًا.»
١٨٠ ويجمع المعلم الخشت بعض ما يبيعه: خصية، وكلوة، وبعض العظام المليئة
بالنخاع، وقطعة من ذيل الخروف، ولفَّ ذلك كله في ورقة، قدمها إلى شحاتة مع نصيحة بأن
يضعها في حلة ويغليها على النار، حتى تصبح عصيدة فيشربها.
١٨١ وثمة معتقد أن الأفيون يعين على قضاء حاجة الرجل مع المرأة، وأنه يحيله إلى
ثور هائج.
١٨٢ كذلك فإن اعتقاد العامة أنهم أكثر خبرة بالمرأة، وأكثر قدرة على الأداء
الجنسي، لا يمتلكها أبناء الطبقات الموسرة، ذلك ما كان يشعر به محجوب عبد الدايم،
١٨٣ وفهمي.
١٨٤ وكان شباب القرية الصعيدية (هجرة الضحاك) يؤمنون أن امرأة المدينة سهلة
المنال، وأن الصعيد له جاذبية شديدة بالنسبة إليها، جاذبية الصعيدي عند القاهرية
كجاذبية المصري عند الأوروبية.
١٨٥
وحين مارس عبد الكريم الجنس في لياليه الرخيصة، فإنه فعل ذلك قتلًا للملل، وليس طلبًا
لمجرد المتعة.
١٨٦
وإذا كان الحب — بمعناه العاطفي — هو الشعور الذي تملَّك كمال عبد الجواد (قصر الشوق)
في نظرته إلى عايدة شداد، فإن الحب — بمعنى الرغبة الجنسية — هو الإطار الذي كان ينظر
من خلاله حسنين كامل علي (بداية ونهاية) إلى بهية،
١٨٧ وياسين إلى كل امرأة شاهدها.
١٨٨ ويثق الحس الشعبي (الرجال والبرتقال) أن الذي يتزوج العذارى يحتفظ بالشباب الدائم.
١٨٩ وكان محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) يشارك العامة اعتقادهم في التفوق
الجنسي على الأغنياء.
١٩٠ وثمة مَن يعتقد (قصر الشوق) أن العلاقة الجنسية مع المتقدمات في السن تذبل الشبان.
١٩١ وقد تلجأ المرأة (سيدة فاضلة جدًّا) — في المقابل — إلى أذية الزوج الذي
يكبرها سنًّا، فهي تفرِط في طلبه حتى تقتله، ذلك ما فعلته الزوجة الشابة، واستجاب الزوج
للنداءات المتوالية، حتى خذله جسده العليل، ومات.
١٩٢ ولما فطن رضوان إلى ذلك، أمسك نفسه عن ضعفه، وتحمَّل غلظة زوجته «إنصاف» صابرًا.
١٩٣ وتعكس «قصة في سجن» تأثير الجنس في علاقة الرجل والمرأة، كيف تقوِّي من إرادة
المرأة، وتُضعِف من إرادة الرجل. يضع تحت قدمَي الغجرية بكل ما يملك حتى لا يجد قوت يومه،
ويقضي بقية أيامه في متابعة الغجر، لا يشغله إلا أن يكون قريبًا من المرأة التي بذل لها
جسده وماله وحياته جميعًا.
١٩٤ بل إن الفنان يشير إلى أن الطفل في الأسرة الفقيرة يأتي نتيجة لشيء أكثر
حتمية، وهو الجنس.
١٩٥ ويصف حمزة (قبل أن تفيض الكأس) لحظات الجنس — الحرام — بأنها «لحظات يعمى
فيها الإنسان فلا يرى، وبعد أن يفيق من الغشية لا تساوي المرأة — مهما بلغت — إلا ما
يمسك وجودها برجلها.»
١٩٦ ولم يكن انهيار عزيزة (الحرام) المفاجئ أمام ابن قمرين — في تقدير بعض
النقاد — إلا لشبقها الجنسي الذي لم يجد بغيته في مرض الزوج.
١٩٧ وتقول الأم (سقوط الإمام): «المرأة مع الرجل إما زوجة محترمة غير مرغوبة،
أو عشيقة مرغوبة غير محترمة.»
١٩٨ وكان تقدير حمزة أن المرأة تسقط إذا وجدت في الرجل فحولة تفتقدها، أو إذا
أعوزها المال، أو تحت تأثير الكلام المعسول والأحلام البراقة، أو لتثير به حمية سواه،
أو إذا أُخذت من حيث لا تحتسب.
١٩٩
وكان الجنس — الحرام بالطبع — عند كمال عبد الجواد (قصر الشوق) في شبابه الباكر،
مقترنًا بالدنس. يحرضه فؤاد الحمزاوي على لقاء فتاة في سنهما، فيرفض كمال قائلًا: «لم
أعد أطيق القذارة.» وأردف في تألم: «لا أستطيع أن ألقى الله في صلاتي وثيابي الداخلية
ملوثة!»
٢٠٠ وقبل أن تُزف درية (الولد الحليوة) إلى عبد السلام أفندي تاجر العجول، كان
الشعور الممتزج بالرهبة والاستسلام يسيطر عليها بتأثير حادثة قديمة، لما دخلت قاعة
القمح في أقصى الدوار، فتناهى إلى سمعها لهاث رجل وأنين امرأة، ونادت في خوف: من هنا؟
وبرز من ظلام القاعة الخفير عبد المعبود وطعمة زوجة خادم الزريبة، وهما يعريان ثيابهما،
وطبع الحادث في نفسها إحساسًا أليمًا، واحتقرت الفتاة — في سريرتها — كل الرجال، وكل
النساء!
٢٠١
وللواجبات الزوجية أوقاتها المحددة في الأغلب، ليلة الجمعة هي الليلة التي يختارها
معظم الأزواج المصريين للقيام بواجباتهم الزوجية. يصفها الفنان بأنها «ليلة الفز
والترقيص، الليلة المترعة بالوصال والارتواء والعشق.»
٢٠٢ ويلاحظ عبد العزيز أن رجال شارع عزيز عادوا إلى بيوتهم وأيديهم ملآنة، وكان
ذلك أول ليلة جمعة في الشهر.
٢٠٣ وهي ليلة الإثنين لمن أراد «ومن رأى في نفسه فائضًا، اقتنى زوجة أخرى.»
٢٠٤ والاستحمام صبيحة الجمعة من السنَّة، لذلك فإن الآباء يتجاوزون الحرج أمام
أبنائهم إن كان الاستحمام لغير الصلاة.
٢٠٥ والنساء يحرصن على أن يقذفن بماء الاستحمام أمام الدور في صباح كل جمعة،
وكل إثنين.
٢٠٦ ويقيم الزوجان — في الريف — علاقتهما الجنسية ليلة الجمعة المفترجة، وكل
ليلة أخرى عند فرج الله.
٢٠٧ وفي الليلة التي تتوقع الزوجة مضاجعة زوجها، تحرص على التزين، وتُعِد له عشاء
مميزًا، كاللحم أو الزفر أو السمك.
٢٠٨ وكان لسكينة جلباب ملون، لا تتخطى به عتبة الباب، ولا تلبسه إلا لزوجها
ليلة أن يأكلوا لحمًا لمناسبة ما، وليلة أن ينام العيال خارج القاعة، على المصطبة، وسط
الدار.
٢٠٩ وكان أهم ما تعتز به أم نعيم (العودة) أن زوجها الراحل لم يكن يترك شعرها
يجف قطُّ، فما إن تخرج من الحمام، حتى يعيدها إليه ثانية، وما كان يترك لها وقتًا للصلاة.
٢١٠
وتعترف الزوجة أنها كانت تُخضع أنانية زوجها دائمًا بما يعبد، وهو جسمها تسلس له
قياده.
٢١١ أما الرجل الذي يعجز عن مضاجعة زوجته فهو «مربوط».
٢١٢ وتقول المرأة: «الله يا مزاج الرجال، نعشقكم طول العمر، وعشقنا عندكم ساعة
زمن، تنامون بعدها جوارنا كما الكلاب!»
٢١٣ وتقول الزوجة لزوجها: «إن لي معك عشر سنوات، لا أذكر أنك أردت خلالها ما
تريده اليوم، اللهم إلا إذا كان في مناسبة …
– أي مناسبة؟
– تلك التي تريدها أنت، وتحددها أنت، تمامًا كما لو كنت قطعة من متاع بيتك، تعبث
بها
في الوقت الذي تشاء، وتلهو بها في الوقت الذي تريد، وإن لم ترد فهي في مكانها سواء علاها
الصدأ أم عفرها التراب. أما هي في غير هذه المناسبات السمجة الثقيلة فإني أجهل من أنا
بالنسبة إليك!»
٢١٤
والإنجاب هو أهم أهداف الحياة الزوجية، ومن ثَم فإن أهم ما يشغل العروس — عقب الزواج
—
هو الحمل، فإذا انقضى شهران على الزفاف دون أن تحمل، بدأت في اللجوء إلى التعاويذ
والوصفات البلدية، والتردد على أضرحة الأولياء، وعلى أم الزوجة مهمة ملاحظة انقطاع
الدورة الشهرية، فتطمئن إلى أن ابنتها حامل، وأنها ستصبح أمًّا، مما يدعم من مركزها في
عائلة زوجها.
٢١٥
وبصرف النظر عن حاجة العروس المادية، فإنها تُظهِر فرحتها لما تأتي به الأم إليها
عندما تزورها «كأن جلب هذا الزاد نوع من الاستعراض الدال على أن أهلها لم ينسوها، وأنها
دائمًا في رعايتهم، وفي أذهانهم.»
٢١٦
وفي أثناء فترة «الوحم» تحرص المرأة على النظر إلى صور أشخاص ذوي وجوه جميلة، لكي
تلد
طفلًا يشبههم في جمال الوجه. وبالطبع فإن المرأة الحامل تتجنَّب النظر إلى الأشخاص
الدميمين، حتى لا تلد طفلًا يشبههم، فضلًا عن تجنُّب رؤية الميت حتى لا يموت الطفل بعد
ولادته. ولو أن الزوج تراخى في الاستجابة لمطالب الزوجة، فإن عليه أن يتحمَّل التبعة
إذا
أصيب مولودهما بضير، أو لحقه مكروه.
٢١٧ إن الزوجة التي تشتهي شيئًا، ولا تجده، تتوقع أن يظهر في المولود،
٢١٨ يرتسم شكله على بدن مولودها.
٢١٩ وعندما توحَّمت الزوجة على شمامة فترة الشتاء، ظهرت الشمامة في شكل رأس ابنها المتطاولة.
٢٢٠ قد يكون الطعام تفاحًا أو عنبًا أو لحمًا أو رمانًا، وأحيانًا يكون طينًا —
يُسمَّى طين إبليس — وأطعمة أخرى تخطر — أو لا تخطر — على البال. وتثق النسوة أن المرأة
التي ستلد بنتًا، تبدو جميلة، بعكس المرأة التي ستلد ولدًا.
٢٢١ فإذا استدار وجه الحامل، فمعنى ذلك أنها ستلد ولدًا.
٢٢٢
وتُعَد مهنة الداية — أو القابلة — هي المهنة الوحيدة التي أتيح للمرأة أن تعمل بها،
لأنها تمارس داخل البيوت، وبين النساء، بالإضافة إلى أنها تغني عن تدخُّل الرجل/الطبيب
في حالات الولادة. للداية دورها المهم في مجتمع الريف، وفي الأحياء الشعبية في مجتمع
المدينة. وهو دور لا يقتصر على توليد الحوامل، لكنه يشمل عملية الزواج منذ البداية، فهي
التي تتولى «حنة العروس»، وقد تشارك في زينتها واختيار جهازها، وتساعد في ليلة الزفاف،
وربما تتولى — بدلًا من العريس — فض غشاء بكارة العروس، فضلًا عن أنها تملك التستُّر
على
الفتاة التي فرطت في عذريتها. كما تتولى أيضًا ختان البنات وإزالة البكارة وعمليات
الإجهاض وتقرير الوصفات البلدية لمنع الحمل أو علاج العقم، فهي تجمع بين عمل الطبيب
وعمل حلاق الصحة في آنٍ معًا. بل إن الداية قد تسهم بدور — بما لديها من مكانة لدى
الزوجين — في إزالة ما قد ينشب بينهما من خلافات. والواقع أن غالبية السيدات — سواء في
الريف أو المدينة — يفضِّلن الولادة على يدي الداية، إلى جانب اللجوء إليها في العديد
من
الخدمات الطبية والاجتماعية. وصندوق الولادة يحتوي — في الأغلب — على مقص وخيط وعلبة
أو
كيس بودرة وزجاجة زيت وسبرتو وقطع قماش صغيرة، بالإضافة — طبعًا — إلى بعض الأدوات
الأخرى التي تستعين بها من بيت «الولدة». وعمل الداية لا يخلو من مخاطرة، فهي تتولى
التوليد دون نظافة، أو وقاية صحية من أي نوع، وتستخدم أدواتٍ غير نظيفة لقطع الحبل
السري، كسكين المطبخ، أو الحرق بلمبة الجاز، مما يؤدي — أحيانًا — إلى إصابة الأم بحمى
النفاس والتيتانوس. وقد يؤدي تكرار فحصها للحامل إلى إصابتها بالنزيف، أو التهاب عنق
الرحم. وربما امتد الخطر إلى المولود، فهدَّد حياته. أما الوصفات الطبية التي تشير بها
الداية، فهي قد تحتاج إلى معالجة طبية، ومن هنا جاء قول الفنان إن المرأة في الريف
تولَّد «كما لو كانت جاموسة.»
٢٢٣ ومن هنا كذلك جاء قول الست عزيزة إنها لم تعُد تطيق الداية، بعد أن لاقت في
ولادتها تعبًا شديدًا، وتمنَّت أن تكون ولادتها التالية في المستشفى.
٢٢٤ ثم زاحمت المستشفيات المجانية والمستوصفات، الداية في عملها، فقلَّ كسبها.
٢٢٥
والإنجاب المتكرر يؤكد فحولة الرجل الأب، كما يؤكد شباب المرأة الأم.
٢٢٦ وفي تقدير الفنان أن أهم ما يشغل الطبقات الأدنى هو تلبية احتياجات المعدة
وأعضاء التناسل؛ إنهم يتفنَّنون في إشباع تلك الاحتياجات على أي الأحوال، وبشتى الوسائل.
٢٢٧ وإذا اتجه الزوج إلى زوجه بنظرة ذات مغزى، فإنها تخفض وجهها، وتطلب من
الأولاد أن يناموا.
٢٢٨ وطاعة الزوج — كما يقول الفنان — واجبة في كافة الأوضاع: جالسة، واقفة، على
ظهرها أو على بطنها.
٢٢٩ وقد يخمد التعب الرجال في المساء، أو يرمي بهم الزهق في أحضان «الغفر» زوجاتهم،
٢٣٠ وهو ما يذكِّرنا ببطل «أرخص ليالي» ليوسف إدريس؛ خنقه الظلام والفراغ والملل،
فعاد إلى بيته، ونام بجوار زوجته، وأحس بدفء جسمها، فزاد من التصاقه في أرخص ليالي الفلاح.
٢٣١
وعقب خروج المولود إلى الدنيا يؤذَّن في أذنه بالأذان الكامل، ليكون أول ما استمع
إليه هو ذكر الله تعالى، ويقال للأب: «يتربَّى في عزك».
٢٣٢ ويوضع في ثقب أنف الطفلة أو أذنيها — عقب الولادة — حلقة خيط، تُستبدَل —
يومًا — بحلقة من الذهب. وتظل الأم في فراشها الأيام السبعة الأولى، باعتبارها «نفسة»،
ويقتصر غذاؤها تلك الفترة على الطير. وعلى النسوة اللائي يدخلن على المرأة التي أنجبت
أن يخلعن ما يلبسن من ذهب لمدة أربعين يومًا من الولادة حتى لا يعانين «المشاهرة».
٢٣٣
وفي مساء اليوم السادس يوضع إبريق السبوع، أو قلة السبوع، الإبريق رمزًا للذكورة،
والقلة رمزًا للأنوثة، بجوار رأس المولود، بعد ملئها بالماء وسط صينية واسعة امتلأت
بكمية من بذور الفول، تم نقعها في الماء قبل حفل السبوع بثلاثة أيام. وترشق في فوهتها
باقة من الورد، ويزينان بمجموعة من المصاغ الذهبي كالسلاسل والخواتم والأساور حول
«بزبوز» الإبريق، أو رقبة القلة، كي تجلب للمولود حياة رغدة سعيدة، ثم تقاد الشموع من
حولهما، وتُصف فوق بذور الفول سبع بيضات مسلوقة. (السبوع مناسبة لتلقِّي الطفل أول حمام
في حياته). وتقام — في اليوم السابع — وليمة، يُدعى إليها الأقارب والمعارف، من ألوانها
الكسكسي والمهلبية، وتجهز من الفول المنقوع قلائد صغيرة، تنتظم في كلٍّ منها سبع بذور
تمثِّل الأيام السبعة الأولى من عمر المولود. كما توضع في طبقٍ كمية من الشيح وسبع بذرات
من الفول والعدس وحبَّات أخرى من القمح والشعير والذرة والأرز، تُخلَط بكمية من الملح
الرشيدي، وتُسمَّى «رشوش». وتوضع كل واحدة في كيس صغير من القماش، مع قطع من العملة،
وكسرة
خبز صغيرة، وتخاط على سطح الكيس واحدة من القلائد الصغيرة التي تضم سبعًا من بذرات
الفول، ويُشبَّك الكيس بدبوس على صدر المولود لحمايته ودرء الخطر عنه. وفي عصر اليوم
نفسه،
يوضع المولود في غربال، عليه قطعة من القماش، وبجواره سكين. الغربال من جلد الحمير الذي
يعمَّر طويلًا ليهب الله الطفل عمرًا طويلًا، والسكين لقتل الأعداء من الشياطين. وتهز
الداية — أو إحدى الأقارب — الغربال سبع هزَّات، ثم تصدمه بأرض الحجرة صدمة هيِّنة، وتخطو
الأم، أو مبخرة يتضوع منها شذى البخور سبع مرات، بينما دقات الهون النحاس سبع دقات
متتاليات، ليشب الطفل قوي القلب، ويستمع إلى نصائح من مثل «اسمع كلام أمك … اسمع كلام
أبوك. ثم يلقي المدعوون — كلٌّ حسب مقدرته — بالنقوط من العملة الفضية في الطست الذي
يحوي الماء المتخلف عن استخدام المولود. ويوزع — بعد ذلك — المغات والشمع وأكياس الفول
السوداني والحمص والفشار والخروب واللوز والبندق وعين الجمل والحلوى. ثم يسير موكب
الأطفال، في يد كلٍّ شمعة، تتوسط الأم الموكب وقد حملت مولودها إن استطاعت، أو حملته
عنها إحدى القريبات، وقد تعالت الدعوات للرسول وآل البيت والأغنيات الشعبية، مثل:
برجالاتك برجالاتك … حلقة دهب في وداناتك،
٢٣٤ … أو سمُّوا المولود سعد الله … وعيونه سود سعد الله.
٢٣٥ وترش المرأة الملح في أركان البيت وهي تقول: يا ملح دارنا … كتَّر حبايبنا
… يا ملح دارنا كتَّر عيالنا. ثم تعلو الأصوات بالأغنية: حلقاتك برجالاتك … حلق دهب في
وداناتك … وتتغير كلمات الأغنية إذا كان المولود أنثى، وإذا كان المولود ذكرًا، فمن
الأفضل أن يجاوز موكبه باب الشقة إلى الشارع حتى لا يظل مقيمًا في البيت.
٢٣٦ أما السبوع عند الأقباط، فطقوسه تبخير البيت، ورشُّه بالماء المصلَّى عليه،
بحيث يمتلئ البيت برائحة عبقة وحريفة كرائحة الكنيسة من سحب البخور المتقطعة، ومن
الشموع الموقدة حول قلة منتفخة البطن، مصبوغة بالأحمر، على المائدة في فسحة البيت، في
صينية من النحاس، وتضاء سبع شمعات، كل شمعة مغروزة في طبق فنجان، زرعت فيها سبعة حبوب
على أرضية من القطن المبلول، وسُقيت برش الماء الأيام السبعة الفائتة، الترمس والفول
والشعير والغلة والحلبة والذرة والعدس أبو جبة.
٢٣٧
ومن أغنيات الأطفال قبل النوم: ننَّه نام … وادبحلك جوزين حمام … ننَّه نام … ننَّه
نام …
أمك السيدة وأبوك الإمام.
٢٣٨ وحين تريد الأم أن تفطم ابنها، فإنها تضع على حلمة الثدي طعامًا مُر اللون
ليصدَّه مذاقه، ولا يُقبِل على الرضاعة.
٢٣٩
وإذا كان الختان ضرورة للطفل المسلم، وغالبًا ما تختتن الطفلة المسلمة، فالثابت أن
عادة الختان تعود إلى أيام قدماء المصريين. عرفه المصريون — كما يؤكد هيرودتس — قبل عهد
الأسرات، أي قبل نشوء الأديان السماوية بآلاف السنين. ويسبق الختان احتفال يشارك فيه
الأهل والأقارب والجيران، ينظِّمون موكبًا، يركب فيه الصبي جوادًا أو عربة، وقد ارتدى
ثوبًا نظيفًا مزركشًا، أو جلابية حريرية بيضاء، ويخضبون يديه بالحناء الحمراء، وربما
ألبسوه زي فتاة صغيرة، ويجلسونه وسط النساء، وحوله الأطفال، بينما العوالم تغني وترقص
والزغاريد تتعالى.
٢٤٠ ثم يغادر الموكب البيت وأمامه وحوله الموسيقى، ويطوف الموكب الشوارع
القريبة من البيت. ثم تقام — بعد العودة — مأدبة كبيرة. وعادة، فإن الطفل يُختَن عقب
تلك
الحفلة. والكثير من الأسر التي تنتمي إلى بيئات شعبية، تجد في موالد الأولياء مناسبة
لإجراء عمليات الختان لأطفالها. ويأتي الأطفال بصحبة آبائهم وأقاربهم، ووسط زغاريد
النساء وبكاء الطفل، يمسك بساقَي الطفل من لم يتثبت من ملامحهم، ويوسِّعوا ما بينهما،
حتى
يؤدي الحلاق — بمشرطه — عملية الختان للطفل.
٢٤١ ويطلب صِبيان الحلاق الحلوى فرحًا بنجاة الصبي وسلامته، والحلاقون كثيرون،
والتنافس بينهم شديد. وعلى سبيل المثال، فقد كان الحاج بيومي حلاق الإمامين (نفوس
مضطربة) حاصلًا على شهادة الختان من قصر العيني، وحلاق آخر يلفت الأنظار بميكروفون يعلن
فيه عن تفوقه، وثالث أدار ميكروفونًا بأسطوانات، ويأتي آخرون بفقهاء يرتلون القرآن في
أثناء الهتاف والزغاريد.
٢٤٢ والختان، بالنسبة للطفلة «ذلك النتوء الصغير الذي سبَّب إزعاجًا شديدًا
للمصريين من قديم الزمان.»
٢٤٣ تقول الجدة: «طاهر البنت تبرد.»
٢٤٤ يضع النسوة طبلية خشبية كبيرة، يُرقِدن الصبيَّة عليها، ثم يشرعن ساقيها في
الهواء، وتتقدم الداية وهي تبسمل، فتنبش بين أصابعها بين طيات اللحم البضة، حتى تمسك
بالقطعة التي يجب استئصالها بالموسى.
٢٤٥ وتدلِّك المرأة النتوء الصغير طويلًا، حتى تشعر الطفلة بالخدر ينتقل بدبيب
أقدام النمل منه إلى باقي أعضاء جسدها، تسترخي وتغمض عينيها. ثم تشعر بطعنة حادة،
يعقبها ألم كالحريق، فتصرخ رعبًا، وتغيب عن الوعي.
٢٤٦ وتسأل الأم أباها: أهو حقًّا الإسلام أمر بختان البنات مثل الأولاد، أم هي
من أنانية الرجل واستبداده بالمرأة؟ يقول الأب: إننا فلاحون، ويجب أن نستمسك
بالتقاليد مهما تظاهرنا بالتحضر.
٢٤٧ وتبرر المرأة ختان البنات بقولها: «علشان الرجال يا زينة البنات يجروا
وراكي ولا أنتِ سائلة، ولما تتجوزي، إذا جوزك غاب ما تعرفي العذاب.»
٢٤٨ وتقول الست نفيسة (أصوات): المرأة منا إذا لم تُختتن، تصبح هائجة، مثل
القطة، تطلب الرجال، ولا تشبع أبدًا. ثم إنها ترهق رجلها كل ليلة، بل وتخونه كلما أتيحت
لها الفرصة.
٢٤٩ لكن الراوي (الإدانة) يرجع مشكلة برود المرأة إلى عادة الختان.
٢٥٠ ويقول الراوي (المبعدون) إن الختان البدائي يحيل البنت إلى كائن مسخ، إن
تزوجت أتعست زوجها، وإن صامت عن الرجال أو قربتهم سواء.
٢٥١ ويضيف إن الفراعنة قتلوا المرأة بالختان الفرعوني — هذه هي التسمية —
ليضمنوا إخلاصها للأبد.
٢٥٢ وغالبًا، فإن عمليات الختان تجري حين يفيض النيل كل عام، ويُلقون بالقطع
المستأصلة في مياهه.
٢٥٣
وحين يأتي أوان فطام الطفل، فإن الأم تدهن ثديها بالصبار ليعزف الطفل عن التقامه.
٢٥٤
وعندما يرفض الولد (والعصر) أن تحمِّمه أمه أو جدته، فإن ذلك يعني بلوغه، وخجله —
بالتالي — من أن يعري نفسه.
٢٥٥ وتلمح الأمهات (ليلة صيف) بوادر المراهقة والتغيُّر في أبنائهن، يعطينهم
اهتمامًا أشد، كأن يدسسن لهم قطع الجبن والبيض واللحم من وراء الآباء والإخوة.
٢٥٦
ومشاعر الجنس في الطفولة تبدو هلامية وغير واضحة، فالمرأة (حكايات حارتنا) — على
سبيل
المثال — تضم الصبي إلى صدرها، فيغوص في أعماق طرية، ويشعر ببطنها مثل حشية وثيرة ينبعث
منها إلى جوارحه دفء مؤثر، ويتوق الصبي إلى تكرار تلك اللحظة الواعدة بالدفء.
٢٥٧ وقد تعلم أطفال القرية (الأرض) أن الشيطان يكون بين كل أنثى تخلو إلى ذكر،
سواء كانوا من الكبار أم من الأطفال.
٢٥٨
ولعل لعبة عريس وعروسة هي اللعبة المفضَّلة عند الصغار في القرى والأحياء الشعبية
بالمدن، يقوم الأولاد بالطبل والزمر والرقص وإطلاق الزغاريد، بينما يأخذ الصبي عروسه
—
صبية في مثل سنه! — ويختلي بها في ركن من بيت، أو مكان مهجور.
٢٥٩ وقد تضاف إلى اللعبة شخصية «الداية» (الأرض) انعكاسًا مباشرًا لما يراه
الأطفال، أو يسمعونه — في الأفراح — فيختار الأولاد والبنات صبيًّا ليكون العريس، وفتاة
لدور العروس، وفتاة أخرى لدور الداية، ويكتفي الباقون بالرقص والتلويح بالعصي وإطلاق
الزغاريد. وغالبًا ما تقف اللعبة عند حد البراءة، وأحيانًا تنتهي بمأساة. وقد أوشك
الأطفال (الأرض) أن يكملوا لعبة من ذلك النوع، وكان المصلى هو السرير الذي اختاره
العروسان، لولا أن أقبل — فجأة — الشيخ الشناوي فقيه القرية.
٢٦٠
وقد فطن عرفة (العودة) إلى الجنس، عندما أخذته فاطمة — وهو غلام — إلى دارها، وأغلقت
عليه باب القاعة المظلمة، ثم ضمته إلى صدرها وراحت تقبِّله، ثم طلبت منه أن يلف ذراعيه
حولها، وأن يضمها، ففعل. واستلقت على الأرض وهي تضمه، وراحت تأتي أفعالًا لم يشهدها من
قبل، وهو يتلقَّى كل ما تفعل بإحساس النائم الذي يحيا في رؤيا بهيجة.
٢٦١
وأهم ما يشغل الأم — حين تصل البنت إلى سن البلوغ — هو السؤال: ما إذا كان قد حدث
لها
ما يحدث للبنات في سن البلوغ.
٢٦٢ تنظر البنت إلى ساقيها، فترى خيطًا رفيعًا، أو بقعتين، من الدم؛ تشهق من
الخوف والدهشة. تُبلِّغ البنت أمها أو مدرستها، تحتضنها الأم، وتقبِّل خديها، وتقول:
هذا،
هذا شيء عادي، عادي جدًّا، يحدث لكل فتاة، ثم تهبها نصائحها،
٢٦٣ وتخبرها أن ما حدث سيتكرر — ويظل عدة أيام — من كل شهر. والمراهقة بالنسبة
للفتاة تجربة قاسية، فالعادة الشهرية يصحبها آلام في أسفل البطن والثديين، تسمِّع في
الساقين والكتفين، وصداع وسخونة ورغبة في القيء.
٢٦٤ وقد لاحظت الفتاة (لا أحد يقول لها) النظرات الغريبة في عيني أمها، وهي
تساعدها في تنظيف جسدها بالحمام، ورأت في أعلى درج من الدولاب أربطة طويلة مطاطة،
وطبقات كثيرة من قماش سميك.
٢٦٥ ودخلت إحدى التلميذات حرم المدرسة يومًا، فدارت الهمهمات والغمزات
والشهقات، وتلفتت العيون البريئة حولها في حيرة، وتلاصقت الأجساد الصغيرة بعضها ببعض
في
فزع، وما من واحدة تعرف الحقيقة؛ كل واحدة تحكي قصة غريبة سمعتها من أمها أو جدتها أو
الخادمة.
٢٦٦ ثم تكبر البنت، يلتفُّ عودها، وتظهر عليها الأنوثة، ترى من حولها عالمًا
يختلف عن ذلك الذي اعتادته في طفولتها، يعجز عقلها الطفل عن تفسير ما تراه، يعروها
ارتباك، ويصبح الرفض هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة ما لا تفهمه.
٢٦٧ وتلفت الأم نظر ابنتها إلى ضرورة التحفظ والحياء،
٢٦٨ وتتلقى تحذيرات تطالبها بالحشمة في الملبس والسلوك،
٢٦٩ وتقول لها أمها: منذ الآن، تجنَّبي اللعب مع الأولاد، لم تعودي طفلة.
– لماذا لا ألعب مع الأولاد؟
– لأنك ستصبحين فتاة مثل رجاء — أختها — وهي امتنعت عن مكالمة الأولاد.
– هل هم سيئون؟
– البنت تلعب مع بنت مثلها، يرزقك ربنا بابن الحلال الذي يسعدك ويصون عرضك.
– ما هو عرضي؟
تتجاهل الأم السؤال، وتقول: منذ الآن لا تخرجي من البيت إلا بإذن مني!
٢٧٠
وتدرك البنت أنها دخلت سجنًا ذا حدود مرسومة، وعلى باب السجن وقف أفراد أسرتها
الرجال وأمها.
٢٧١ مع ذلك، فإن الفتاة تواجه دفقات الأنوثة الأولى في أعضائها: الملابس
الداخلية المتسخة، فارس الأحلام الذي يتبدى في أشكال عدة، القصائد المنتزعة من المجلات،
والمدسوسة بين صفحات الكتب، الشرود مع أغنيات الحب، الاهتمام بمظاهر الأنوثة، الكتب
المتداوَلة سرًّا في المدارس الداخلية، كلمات الجنس ورسومه في دورات المياه القديمة.
٢٧٢ وكان شريف يقبل على المغامرات العاطفية، دون أن يخطر في باله أن أخته يمكن
لها أن تحب؛ حب الفتيات عار حتى لو كان عفيفًا «فليس الذكر كالأنثى.»
٢٧٣ إن الصبي يصبح رجلًا عندما يقتحم المغامرات العاطفية، أما الفتاة فمن العيب
أن ينشغل ذهنها بشاب. وحين أرادت ناهد (هريسة) بنت بائع البسبوسة أن تنفس عن رغباتها
المكبوتة، فإنها أقدمت على تقبيل جارها الطالب الصغير.
٢٧٤
وقد تعلَّمت لندة (الحرام) من أم إبراهيم ما كانت تجهله، عرفت أن البنات يمكن أن
يستمتعن بما تستمتع به النساء، دون أن يفقدن شيئًا، وأنها ستظل محرومة من أشياء طيبة
حتى تتزوج، وأن جسد الأنثى لا بد له من رجل.
٢٧٥
وفي سن الثانية عشرة، تتفتح اللذة للصبي في الفراش، تتسلل يده وهي ترتجف تحت الغطاء،
وتتشابك أحاسيسه في مزيج من النشوة والقلق والخوف، حتى تأتيه الرجفة، ويتصبب العرق
البارد على جسده، ويستولي عليه الندم.
٢٧٦ وغالبًا، فإن الصبي (السراب) يكتشف بنفسه العادة السرية لا يدله عليها أحد،
يكتشفها كما تكتشف أول مرة في حياة البشر، ويستقبلها بالدهشة واللذة، ويرضى بها عن كل
شيء في الوجود.
٢٧٧ والعادة السرية — في تقدير الكثيرين — تقضي على قدرة الشاب على التركيز.
٢٧٨
ومع أن الفنان (السراب) يصف فترة المراهقة بأنها «الأشواق الغامضة، والمخاوف
المجهولة، والأنات المهموسة، والشعيرات النابتة.»
٢٧٩ فإن الراوي (الحصيرة) يقول: «إني لم أعد أطيق مذلة هذه السن البغيضة: خمسة
عشر عامًا، لماذا لا يكون في الإمكان أن أغدو على الفور شابًّا في العشرين، وفي جيبي
فلوس؟ آه من تلك السن القاسية التي سيكون عليَّ فيها أن أظل شبه رجل؟!»
٢٨٠
ويكبر الطفل فعلًا، ويهبه التلاصق الجسدي مع فتيات في مثل سنِّه، نشوة من نوعٍ غريب،
يمد
يده إلى ذقن البنت، فيدير وجهها إليه، ويميل نحوها فيقبِّلها، ويحيط خاصرتها بذراعيه،
ويصمت، ويهيم، ويذوب في دفقة إحساس مبهمة.
٢٨١
والوضع الاجتماعي — والمظهر الاجتماعي أيضًا — له دوره المؤكد في علاقات المصاهرة،
وقد كان أشد ما يشغل شكري عبد العال (الشوارع الخلفية) بعد إحالته إلى الاستيداع، وهو
في رتبة اليوزباشي، أن أحدًا لن يلتفت إليه ليطلب مصاهرته: «من هو الذي يتقدم ليصاهر
يوزباشي في المعاش لا يملك إلا بيتًا في شارع خلفي ببركة الفيل.»
٢٨٢ وتقول الأم: «الشاب في الواقع يتزوج من أسرة لا من فرد، وينبغي أن يطمئن
قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة إلى من ستغدو أمًّا لأبنائه، ومن يكونون أخوالًا لهم.»
٢٨٣
والأسر المتوسطة تحرص على تزويج بناتها بأي أسلوب، ونتذكر محمد أفندي فريد في «بداية
ونهاية»، وحسان حسان في الرواية نفسها، وأحمد عبد الغفور «في الدرجة الثامنة»، وغيرهم.
يتحدث الأب بأسًى عن ابنته: «فاضل كام شهر، ويبقى سنها عشرين، مين كان يصدق إنها
هاتستنى من غير جواز لغاية دلوقت؟ الله يرحم أمَّا كنا شُبَّان صغيرين قدهم، كانت
البنت بتتجوز في سن اتناشر وتلتاشر. كانت لما تفضل لسن ستاشر يقولوا عليها بارت زي
البرتقانة اللي تستوي على الشجر، وما تلاقيش حد يقطفها.»
٢٨٤ وبعد أن بلغت «ليزا» الثامنة والعشرين دون أن يتقدم أحد لخطبتها، بدأ أملها
يضعف في الزواج.
٢٨٥
الوفاة
أما المعلم الثاني، فهو الوفاة:
إن حفاوة المصريين بالموت قديمة؛ الموت بُعد أساسي في الثقافة المصرية، في توالي
العصور. ويقول برستيد: «لا يوجد شعب قديم أو حديث بين شعوب العالم، احتلت في نفسه
فكرة الحياة بعد الموت، المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري القديم.»
٢٨٦ كان أول ما يشغل الفرعون بعد أن يجلس على عرش البلاد هو أن يهيئ لنفسه
ميتة لائقة.
٢٨٧
ومن تقاليد الأسر المصرية، أنه يجب أن يبقى لكل فرد غيار جديد، لا يُمَس، حتى إذا
مات وجدوا ثيابًا جديدة يكفِّنونه فيها (ذلك ما يشير إليه الفنان في رواية «في قافلة
الزمان» وإن لم يكن في واقع الحياة ما يؤكده). وحين أحس الأب بدنو الأجل، أشار لابنه
على صندوق صغير، وقال: هناك نقود جمعتها من عرقي، عندما أموت اشتر لي كفنًا منها،
وادفع أجر المقرئين والذبيحة، ادفع من نقودي.
٢٨٨ وكان آخر ما طلبته الأم من أبيها أن يشتري لها الكفن والليفة والصابون
وزجاجة العطر.
٢٨٩ وقد يشتري المرء بنفسه — إذا تقدَّم به العمر — لوازم جنازته: الكفن
والليفة والصابونة وزجاجة العطر.
٢٩٠
فإذا طلب الميت — في لحظات احتضاره — ماء، فإن سقايته ثواب، وللفاعل أجر عظيم.
٢٩١ وأول أفعال مساعدة الميت هو إسبال الجفن.
٢٩٢ ثم عدل الجسد نحو القِبلة.
٢٩٣ فإذا حلَّت الوفاة، وقبل أن ينطلق «الصوات» إعلانًا بالموت، لا بد أن
يُعَد للميت فراش نظيف. وبعد أن يتم تغسيل الميت (وهو غير التغسيل الذي يقوم به
الحانوتي فيما بعد) يوضع على سريره، ويحرك جسده، حتى يصبح موازيًا للقِبلة، ثم
يبدِّل نساء البيت ثيابهن بثياب سود، وينطلق «الصوات»،
٢٩٤ واصلًا إلى كل قلب، ناعيًا إليه الميت، معلنًا عن طقوس العدم المرعبة».
٢٩٥ تتحرك النسوة فيما يشبه الرقص، يرتفعن وينخفضن مع حركات بالأيدي وهي
تهبط على الصدغ، أو تشد الشعر.
٢٩٦ وتتقاطر الندَّابات، وتعلو أصوات الدفوف وألحان التعديد.
٢٩٧ ومن أغنيات التعديد: عيني عليك يا للي تموتي عازبة، يا شابة يا صبية يا
قد المعدية،
٢٩٨ سري وسرك يا أمي في طبق فخار … والطبق انكسر واتفرقت الأسرار، واحلفك
يا قبر تسليه، يا دود … ما تبلغ مرادك فيه، عدتوش تعودوا للبيوت يا صحابها، قالوا
النهاردة العيد … أنا قلت العيد لأصحابه، كان عندنا منه … كان عندنا منه … وموتة
الرجال هي الخراب كله، والقبر قال له انزل ولا تخافشي … خايف انزلك يا قبر ما اطلعشي،
٢٩٩ مين يخدم الستات … يلف الشعور ويحضَّر البدلات … مين يخدم الغنادير … يلف
الشعور ويحضَّر الفنانير … مين يخدم البيضة … لف الشعور ويحضر الموضة … سكنا اللحود
ولا عادلناش عوزة.
٣٠٠ الندَّابة لها أجرها الذي تحصل عليه من أهل الميت — عدا النقطة — وقد
كوَّنت معظمهن ثروات هائلة.
٣٠١ وربما انطلق النسوة من أهل الميت، يصوتن في الحواري والأزقة المجاورة،
ليعرف الناس — بعد السؤال — أن فلانًا قد مات.
٣٠٢ وقد يمر المنادي بالطبلة والجلدة المصنوعة من ذيل العجل: يا أهالي
البلد … مات اليوم فلان الفلاني … ابن فلان … من عيلة فلان … الحاضر يعلم الغايب …
والعزاء بالليل.
٣٠٣
وحتى عهد الخديو توفيق، كانت عادة الطبقات الشعبية إحضار الندَّابات لمدة ثلاثة أو
خمسة أيام، وصبغ الملابس بالنيلة، وتغطية أثاث البيت بالسواد، ثم صدر قرار بإبطال
تلك العادة،
٣٠٤ لكنها ظلَّت في حياتنا إلى الخمسينيات في القرن العشرين.
الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة.
٣٠٥ الحكمة المتوارثة تؤكد أن «إكرام الميت دفنه».
٣٠٦ يقدم الرجال ما يمكنهم من مال، يقرضون أهل الميت ما يستعينون به على
تكاليف الموت.
٣٠٧ أما النساء فيقدمن كلَّ ما يستطعن من عطف وعون: كلمة تشجيع … قطعة قماش …
تأوهات … طشت … ملاية سرير … صرخات … إلخ.
٣٠٨ ويذهب أهل الميت إلى بيت التربي لفتح المقبرة في موعد مناسب، ويتفقون
مع الحانوتي على «الخرجة» وسرادق العزاء، وعدد اللمبات الكهربائية وأحجامها.
٣٠٩ وتلجأ نساء الأسر إلى مصبغة القرية للحصول على كمية من النيلة الزرقاء
المخصصة لصبغ الملابس، لكي يلطخن بها وجوههن دلالة الحزن.
٣١٠
والقاسم المشترك عقب الوفاة: الطاولة ذات الأرجل، والليف، والقماش، والصندوق،
٣١١ والصابونة المعطرة، والطست الممتلئ بالماء الفاتر، وآخر ممتلئ بالماء
البارد، والقماش من حرير للكفن، ومقطع من الشاهي.
٣١٢ فإذا كانت المغسِّلة امرأة — لتغسيل امرأة بالطبع — فكت البقجة البيضاء
عن قماش أخضر، وقبقاب جديد، وقطعة من الليف الأبيض، وكوز صفحي، وقطعة من قماش،
وصابونة كبيرة.
٣١٣ ويوضع النعش أمام البيت، أو في مدخله، معدًّا لاستقبال جثمان الميت.
٣١٤ والأنسب أن يتولى عملية ملء المياه لتغسيل الميت بنات بكر، أي لم
يتزوجن بعد.
٣١٥ وحين أرادت سعاد أن تحضر غسل زوجها، رفض الجميع، وقالوا إن غسل الرجال
عمل الرجال!
٣١٦ وما يضعه الميت في أصابعه من خواتم هو من حق الحانوتي، ينزعها قبل أن
يرقد الجثمان على الطاولة الخشبية ليبدأ في تغسيله.
٣١٧ ويبدأ المغسِّل بوضع إزار على الجسد يستر عورته، ثم ينحِّي عنه الغطاء
الأبيض لتبدأ عملية التغسيل.
٣١٨ ينقط بالماء على الشفتين اليابستين، ويرفع السبابة للنطق بالشهادتين.
٣١٩ ثم يصب الماء على الرأس والجسد، يدلكه بالصابون، وفي بعض قرى الصعيد
يرفع الشعر عن الإبطين والعانة، ثم يغسل الجسد بالماء، ويدلَّك بعشب العفن المر.
٣٢٠ وفي أثناء ذلك تعلو الأصوات بالقرآن الكريم، ثم تقام للميت شعائر
الوضوء، ثم يجفَّف الجسد. يشرع الحانوتي في حياكة الأثواب، ولفِّها على الجسد، وربطها
على الساقين وعلى قمة الرأس بإحكام.
٣٢١ وبعد أن يؤدي المغسِّل مهمته، يضع القطن على مخارج الجسد.
٣٢٢ ثم يدرج الجثمان في الكفن: قميص، ثم ثلاثة أدراج، ثم شعار من الشاهي،
ويربط لفة القماش عما يجاوز الرأس، ومما ينزل عن القدمين، ويربطه عند الوسط، ويرفع
ذراعيه إلى أعلى هاتفًا:
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ
الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ.
٣٢٣ ثم يضع لحاف سرير المتوفى داخل النعش الخشبي.
٣٢٤ (والعادة أن اللحاف الذي يتوسَّده الميت في النعش يأخذه الحانوتي (يحيى حقي، السرير
النحاس، عنتر وجولييت، هيئة الكتاب)). وحين أحس صبي الحانوتي
بتباطؤ صاحبه في تغسيل الجثة، صرخ فيه: شهِّل … شهِّل قبل أن يمنعوا عنَّا اللحاف!
٣٢٥ ويحمل الرجال الجسد على السواعد ليوسدوه النعش،
٣٢٦ ويغطُّوه بالشال الكشمير.
٣٢٧
وبالطبع، فإن لمهنة الحانوتي قواعدها وأسرارها التي يدركها أبناء المهنة وحدهم.
ثمة جنازة لا تحقق إلا مكسبًا ضئيلًا، أو لا تحقق مكسبًا على الإطلاق. بل إن بعض
«الخرجات» قد تسبِّب خسارة مثلما حدث مع الشبكشي الحانوتي، لما صرع الترام صبيًّا
صغيرًا أمام دكانه، فاضطر إلى الإنفاق على «الخرجة» لوجه الله، بأمل أن يعوضه الله
— فيما بعد — بمكسبٍ حقيقي. وكان دكان الشبكشي في حي العباسية، يفيد من مكانة أموات
الحي؛ كلهم صفقات رابحة، باشوات وبكوات وأتراك ولواءات جيش. وكانت «خرجة» كلٍّ منهم
«أكلة مشبعة»، تشمل حملة المجامر والموسيقيين والندَّابات والصوان الضخم والنصبة
والطعام الذي يزيد عن الحاجة.
٣٢٨ وقد تقف المرأة عند رأس زوجها، تهمس ببعض الأدعية، وقد تهمس في أذنه:
«مع السلامة … السماح … وإن كان جرى مننا شيء … السماح … ونتقابل عند وجه كريم.»
٣٢٩ وقد تودِّع المرأة زوجها الراحل — وسط صواتها — بعبارات مؤثرة: يا جملي …
يا عزِّي … يا بابي … يا عمودي اللي يسقط.
٣٣٠ ومن عبارات وداع الزوجة لزوجها الميت في أثناء سير الجنازة: «يا للي
عمري ما شفت منك أسيه … يا رفيق الهنا.»
٣٣١ أما تشييع النساء لأزواجهن بالقول: ما كانش يومك يا سبعي، أو ما كانش
يومك يا جملي، فمعناه أن الزوجة تريد إظهار عراقة نسب فقيدها، واتصاله بمعشر الأسود
والجمال، فهو إذن ليس شخصًا عاديًّا، لكنه مميَّز وممتاز مما يجعل المصاب مضاعفًا.
٣٣٢ وثمة تعبيرات أخرى تودِّع بها نساء الأسرة فقيدهن: يا شجرة ومضلِّلانا يا
بويا … يا للي كنت خارج بسحورك في بطنك يا به.
٣٣٣ فإذا كان الميت شابًّا، فإن أمه تودِّعه بكلمات مثل: يا نضري يا ابني …
كبد أمك … انقصف شبابه ولسه ما دخلش دنيا.
٣٣٤
وتقديم واجب العزاء واجب يصعب إهماله، وكان العجوز عزيز لا يقرأ في الجريدة إلا
صفحة الوفيات، حتى لا يفوته واجب العزاء «هذه هي الأصول».
٣٣٥ والعادة أن يقام سرادق العزاء أمام بيت المتوفى.
٣٣٦ يدق الرجال أعمدة السرادق — الصوان — ثم يتسلقونها لربطها وتغطيتها،
ووراء السرادق توضع النصبة، تُصنَع فيها القهوة التي تُقدَّم للمعزِّين، والذين — غالبًا
— ما يعتذر عن قبولها تعبيرًا عن مدى حزنهم.
٣٣٧ ويقف أهل الميت على مقربة من مدخل السرادق أو باب البيت، لتلقي العزاء.
٣٣٨
وعندما تدنو لحظة تشييع الجنازة، فإن الرجال المختصين بالجنازة يسألون أهل الميت:
أترغبون في أن يخرج و«الأفندية» يسيرون أمامه، أو يخرج بكرامة؟ ويقول أهل الميت:
يخرج بكرامة. والكرامة هذه، أن الذين يحملون النعش يعدون به، فيضطر المعزُّون إلى
الهرولة خلفه وهم يصيحون وقد أخذتهم الجلالة: الله … الله … الله … الله … ويرى
الناس النعش وهو يطير، فتنطلق الزغاريد، ويتحدث الجميع عن الكرامة التي أظهرها
الميت! أما إذا اختار أهل الميت أن يسير «الأفندية» أمامه، فتلك جنازة عادية لا
تتكلف نصف ما تتكلفه جنازة الكرامة!
٣٣٩ وعند بدء سير الجنازة، يحضِرون عجلًا صغيرًا، ويطرحونه أرضًا، ويذبحونه.
٣٤٠ وقد تكون الذبيحة دجاجة، أو خروفًا، لتمر خشبة الميت فوقها، فدية عن
الميت وطلبًا للرحمة.
٣٤١ وفي أثناء ذلك، يقف الشحاذون أمام باب البيت، وبينهم السقاءون الذين
يسقون الناس بلا أجر.
٣٤٢ وحين تبدأ الجنازة، تتحرك طائفة العميان يقود بعضهم البعض، يكررون
القول: لا إله إلا الله. ثم يتبعهم حاملو القماقم والمباخر بفوطهم الحمراء، يسيرون
خافضي الرءوس، ثم المولوية بلبدهم الطويلة، والحرامل الصفراء، والذقون المهيبة،
والمشية المترنِّحة، ثم جمهور المشيعين.
٣٤٣ وإلى الخمسينيات من القرن العشرين، كان الأفندية يتقدمون الجنازات
تأكيدًا للأبهة. يصف شحاتة أفندي مهنة الأفندية بقوله: «يسمونا الأفندية … واحنا ما
فيناش من الأفندية غير البدلة … الواحد منا يلبس البدلة الرسمي اللي حيلته، ويلبس
الفوطة الحمرة اللي زي فوط بتوع العرقسوس على وسطه، ويمسك في إيده المنقد أو
القمقم، ونزف المرحوم لغاية التربة.»
٣٤٤ أما المباخر التي يحملها الأفندية، فتفوح منها رائحة الأعشاب الهندية
والجاوية، استمرارًا لما كان يصنعه الفراعنة الذين كانوا يجدون في إحراق البخور
طقسًا من طقوس الدفن، أو تطبيبًا لروح الميت.
٣٤٥ وكان «العميان» بعدًا آخر في تشييع الجنازات، فهم يتقدمون الجنازة،
يتودد بعضهم لبعض، وهم يرددون: لا إله إلا الله! يتبعهم حاملو القماقم والمباخر
بفوطهم الحمراء، ثم «المولوية» أصحاب اللبد الطويلة والحرامل الصفراء والذقون
المهيبة والمشية المترنِّحة، ثم جمهور المشيعين.
٣٤٦ وبالنسبة للأسر الثرية، فقد كان يتقدم الموكب أضحية من الجاموس أو
البقر، ثم «الكفارة»: جمل يحمل صندوقين مملوءين بالخبز، وجمل آخر يحمل التمر الجاف
والفاكهة، وكان يرافق بعض الجنازات فارسان من رجال البوليس، بينما يسير أمام
الجنازة صفَّان من الجنود.
٣٤٧ يلي ذلك أرباب الطرق الصوفية والمولوية وقراء دلائل الخيرات وحاملو
القماقم والمباخر ينثرون ماء الورد وأريج البخور، ثم غلمان المكاتب ينشدون قصيدة
البردة للبوصيري، ويلي ذلك كله النعش الذي يتبعه المشيعون.
٣٤٨ وحين يبدأ موكب الجنازة في السير، فإن غالبية المشيعين يحاولون الحصول
على ثواب حمل النعش.
٣٤٩ وتتعالى الأصوات: هو الدايم … هو الدايم … لا دايم غير الله!
٣٥٠ وحين تُسرِع مقدمة الجنازة، ويتأخر حاملو النعش، فإن يدَي أحد المشيعين
تصفق، وصوته يعلو: وحدُّوه! فيتوقف الجميع، لتمتلئ المسافات الخالية بالناس.
٣٥١ وقد يكثر الحاملون، فيجرون بالنعش، ويقول قائل: كرامة … كرامة … النعش طار.
٣٥٢ وعندما تُوفي عبد الحافظ خميس، وخرجت جنازته، ظل النعش يدور في أنحاء
القرية، رافضًا التوجه إلى منطقة الدفن، وتوسَّل إليه الناس كي يتوجه إلى طريق
القبر، وأحضروا للنعش — استرضاء — الطبل والزمر، وزغردت النسوة، لكن النعش جرَّ
المشيعين خلفه، قبل أن يرضى في النهاية أن يدفع حامليه ومشيِّعيه إلى المقبرة.
٣٥٣ ويقول رجل: «مَن يشك فيكم أن سيدي ومولاي محمد الزغبي طارت خشبته بعد
الصلاة عليه، وأخذت تطوف الوسعاية، وإني لمستها حين كنت أقف في بلكونة إسماعيل،
فإنه في الحقيقة يشك فيَّ أنا، ويعتبرني كاذبًا.»
٣٥٤ وعادة، فإن أحاديث المشيعين تقتصر على مزايا الراحل تأكيدًا للحديث
النبوي «واذكروا محاسن موتاكم.»
٣٥٥ وأحيانًا، قد يثرثر المشيعون بكل مشكلات الحياة: الخلافات الأسرية،
الأزمات المادية، المكاسب والخسارة، وربما عقدوا خلالها صفقات بيع وشراء، أو
اتفقوا على عقود زواج، أو طلاق.
٣٥٦ وفي أثناء تهادي النعش، يقف الناس في الشوارع والدكاكين والمقاهي،
ويرفعون أصابعهم متمتمين بالشهادتين على روح الميت.
٣٥٧ يقول الأب لابنه: «إن لم نتمكَّن من السير في الجنازة، فلا أقل من أن تقف
احترامًا للميت.»
٣٥٨ وعندما يُغطى النعش بغطاء من الحرير، فإن المارة يتأكدون أن المتوفاة
شابة صغيرة.
٣٥٩ وبالطبع، فقد تغيرت تلك الصورة الغريبة التي وصفها قاسم أمين للجنازات
أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين: جِمال تحمل الفواكه والأطفال،
والرعاع يلتفُّون حولها، ويتشاجرون على اختطاف ما يُلقى لهم منها على الأرض، وجاموسة
يتضارب الجائعون والشحاذون على قسمتها قبل أن تموت، وفقهاء يجرُّ بعضهم بعضًا ما بين
أعمى وأعرج وأعور، يمشون بسرعة غير منتظمة لابسين ثيابًا قذرة، صائحين بأصوات
مزعجة، ونسوة صبغن أيديهن ووجوههن، وعفَّرن بالتراب رءوسهن، سرن وراء النعش،
ملوِّحات بالمناديل … إلخ.
٣٦٠ تغيرت تلك الصورة تمامًا، ولم تعُد الجنازة — في الأعم — سوى نعش، يتبعه
— وقد يسبقه — مشيعون.
وتجري الصلاة على الميت — غالبًا — في المسجد القريب.
٣٦١ وأحيانًا، يختار الميت وليًّا بالذات لتُؤدَّى الصلاة عليه في مسجده. وقد
احتار الرجال بالنعش عندما رفض السير إلى جامع الشيخ لصلاة الجنازة، وتوقف عند
ياقوت العرش، فأدوا الصلاة عليه.
٣٦٢ ويوضع النعش جنب المنبر، قبالة المحراب، يكبِّر الإمام ناويًا صلاة
الجنازة على الميت، تنتظم من ورائه صفوف المصلين في تكبيرات متتابعة.
٣٦٣ ويروي الفنان أنه بينما الرجال يصلُّون على جثمان الميت في المسجد، فإن
النساء يشرعن — وهي ظاهرة تكاد تقتصر على الريف — في تلطيخ وجوههن بالنيلة الزرقاء،
علامة على الحزن.
٣٦٤ وقد تملأ النسوة قبضاتهن من تراب الأرض، ويعفرن وجوههن ورءوسهن وهن يولولن.
٣٦٥
ولا بد لدفن الميت من الحصول على تصريح، وعقاب أهل الميت — إذا تم الدفن بلا
تصريح — هو السجن.
٣٦٦ وتصريح الدفن يكتبه طبيب الصحة في المدينة، أما في القرية، فإن حلاق
الصحة يبلغ مفتش الصحة بالتليفون، ويسأل المفتش عن سبب الوفاة، فيرد الحلاق: موتة
ربنا! فيقول المفتش: ادفن … ادفن!
٣٦٧
وعلى التُّربي — قبل وصول الجنازة إلى المدفن — أن يرفع المجاديل (قطع الحجارة
الضخمة التي تسد فوهة القبر) ويهيئ داخل القبر لاستقبال الوافد الجديد:
٣٦٨ يفتح الفوهة، ويزيح التراب من المدخل، ويزيح كومات عظام الموتى القدامى
بعد أن يصرها في أكفانهم البالية، ويرش الرمل الناعم المخلوط بالحناء، استعدادًا
لاستقبال الجثمان الوافد.
٣٦٩ وعندما تقترب الجنازة من حوش المقبرة، يقول المشيعون: السلام عليكم آل
دار الحق! ثم توضع الخشبة برفقٍ أمام المقبرة المفتوحة.
٣٧٠ وقبل أن يُدفَن الميت، يقف السعاة على جانبَي الباب، يوزِّعون الماء على
الواقفين — والمارين — وهم يرددون: على روح المرحوم يا عطشان سبيل. ويضع المشيعون
حلقة وثيقة من الأجساد حول الحفرة المفتوحة في انتظار الجثمان، يحمل من النعش على
أكف الرجال، يهبطون به إلى القبر، أو إلى اللحد.
٣٧١ ويجب أن ينزل جثمان الميت برأسه، فإذا سجِّي على الأرض، وضع الرأس على
قالب من الطوب الأخضر.
٣٧٢ ويجب أن يستقبل التراب صدغ الميت اليمين، ويتجه الرأس إلى القِبلة،
٣٧٣ وتتعالى الأصوات تطلب حجرًا أو ماء أو حناء، ويلتفُّ القراء حول أهل
الميت يطلبون الأجر أو ثمن «السدب».
٣٧٤ وبعد أن يوسد الجثمان التراب، يأخذ التُّربي حفنة من ترابٍ بكفِّه، ويقرأ
عليها: بسم الله، ومن الله، وعلى ملَّة رسول الله، هذا ما وعد الرحمن وصدق
المرسلون، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم يبدأ في فك أول رباط في الكفن.
٣٧٥ وعادة، فإن أهل الميت يقصُّون الكفن قبل أن يُغلِق التربي القبر، حتى لا
يسرقه اللصوص.
٣٧٦ وبعد أن تُغلَق المجاديل، يرتفع صوت القراء يلقِّنونه: «وستعلم يا عبد الله
أن الموت حق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.»
٣٧٧ وثمة ملقن يبدأ مهمته بالقول: «منها خلقناكم، وفيها نعيدكم تارة أخرى،
منها خلقناكم للأجر والثواب، وفيها نعيدكم للدود والتراب، ومنها نخرجكم للعرض
والحساب. يا ابن آدم، اذكر وتفكَّر على ما خرجت عليه من الدنيا، وهو شهادة أن لا
إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. إذا أتاك الملكان الصديقان، وأخذاك، وسألاك
عن الكريم الحنان، فقل لهما بلسان عربي فصيح: الله ربي حقًّا، ومحمد نبيي صدقًا،
والقرآن إمامي، والكعبة قِبلتي، والمسلمون إخواني، وإبراهيم الخليل أبي.»
٣٧٨ ثم يذكِّر الميت — بصوتٍ متهدج — بما يجب أن يقوله للملكين الشفيقين
الرقيقين على مَن أطاع الله ورسوله: إذا ما سألاه: ما ربه؟ وما دينه؟ وما الذي مات عليه؟
٣٧٩ ويعلو صوت الشيخ ملقِّنًا: فإذا جاءاك (الملكان) وأجلساك وسألاك، فقل
لهما … إلخ، ثم يتجه الشيخ إلى الناس من حوله متسائلًا: ما تشهدون؟ يجيبون بصوتٍ
واحدٍ: كان صالحًا!
٣٨٠ (يقول عبد العظيم لنفسه: «يا لها من أسئلة، ولكن كيف يتاح الجواب
لمنفردٍ بظلمة القبر؟!» (نجيب محفوظ، جوار الله، دنيا الله، مكتبة مصر)).
وبالنسبة للموتى العسكريين، فإن الميت — والشهيد بخاصة — يوضع فوق عربة مدفع،
ويُلَف في العلم الأخضر، ويسير والجنود على الجانبين وبنادقهم منكسة، فإذا وصلت
الجنازة إلى المقابر، يلي إنزال الجثة القبر إطلاق الجنود واحدًا وعشرين طلقة مدفع،
تحية عسكرية أخيرة، قبل أن يُهال التراب على القبر، وتوضع المجاديل.
٣٨١
وفي القرية، يقام المَعزى — غالبًا — في الباحة أمام بيت المتوفى؛ تُكنَس، وتُرَش
بالماء، وتُجلَب الأرائك من الدور، وتُرص صفوفًا، ويسير أهل الميت بين صفوف المعزِّين
على وجوههم أقنعة الأسى الفطري المقدور. تومئ الرءوس بتحياتٍ عميقة، وتتحرك الشِّفاه
بغمغمات مبهمة.
٣٨٢ ويقول المعزون: غفر الله ذنبكم، فيقول
أهل الميت: شكر الله سعيكم.
٣٨٣ ويقول المعزُّون لأهل الراحل: البقية في حياتك، كل مَن عليها فانٍ، هو الدائم،
٣٨٤ و«البقية في حياتك» التي يخاطب بها المعزون أهل الراحل، تعني أن حياة
الأبناء الذين يتقبَّلون التعزية هي امتداد لحياة الآباء، وليالي المأتم — في العادة
— ثلاث، والعادة أن يُتلى القرآن في سرادق
العزاء، في الليالي الثلاث،
٣٨٥ ويتقمط الفراشون في قفاطينهم، وينحنون أمام صفوف المعزين مقدِّمين قهوة
يعلمون أن التقاليد تقضي برفضها.
٣٨٦ وكانت العادة — حتى مطالع القرن العشرين — أن يظل المأتم قائمًا
أسبوعًا، أو أربعين يومًا.
٣٨٧ ثم أصبحت الليالي متعاقبة في أمسيات الخميس، حتى ليلة الأربعين.
٣٨٨ وبقدر ما أن التعزية واجب اجتماعي، فهي كذلك مظهر اجتماعي، فلا بد من
دعوة «كل من نحب، وكل من نكره، نجمعهم من الطرقات وأمكنة العمل، ومن البلاد
البعيدة، لتكون الجنازة أكثر ضخامة ومهابة، وكلما كانت مراسم الدفن كاملة، وممارسته
بإحكام، ازداد زهونا.»
٣٨٩
ومن الضروري — بعد الوفاة — أن تنقضي سنة كاملة، هي سنة الحداد، قبل إقامة أي
حفل، ولا يُفتح الراديو — حتى الأربعين — إلا لسماع القرآن الكريم.
٣٩٠ ليلة الأربعين إيذان بانتهاء أيام الحداد.
٣٩١ وفي الريف، تحرم القرية — لفترة طويلة — الأفراح والاحتفالات، ويُمنَع
خضاب النساء، وجلاء الأواني النحاسية، وطلاء البيوت، والاستحمام في المغطس، فمعنى
استحمام الرجل فيه أنه أتى امرأته ليلًا بما يعني روقان باله.
٣٩٢ وثمة ألوان من الطعام في أثناء تلك الفترة ينبغي ألَّا تُطهى لأنها تدل
على الفرح وهدوء البال، مثل قلي السمك، أو صُنع المهلبية أو المشمشية، أو أي صنف من
أصناف الحلوى التي لا يتناولها الحزانى. كما تحظر التقاليد على الأسرة التي مات
عائلها أن تصنع الكعك، أو تأكله، في العيد. تقول الأم: «إن الحزانى أمثالنا لا
يأكلون الكعك في العيد.»
٣٩٣ وربما تتعلل أسرة فقيرة بالحزن على فقيدٍ راحل، حتى لا تصنع الكعك في
عيد الفطر.
٣٩٤ وتُسمَّى زيارة الموتى — في المناسبات المختلفة — «الطلعة»، حيث تذهب
النسوة إلى القرافة ومعهن أسبتة الكعك والمنين لتفريقها على الفقراء.
٣٩٥ وزيارة الميت واجبة، لأنها تمنع عنه وحشة القبر.
٣٩٦ وزيارة الموتى — سواء في الأعياد أو الأيام العادية — تسبقها
استعدادات، مثل إعداد الفطير والتمر، وحمل الخوص والريحان وسلة الرحمة.
٣٩٧ أما الخوص فهو يمثِّل القدرة على الدوام، وأما الريحان فهو كل نبات طيب الرائحة.
٣٩٨ ويُسمَّى يوم الخميس الذي يعقب الوفاة «الخميس الكبير».
٣٩٩ تحمل النسوة في المشنَّات ما صنعنه من الفطير وأقراص المنين والكعك
والقرص والتمر والبلح الإبريمي، لتوزيعها رحمة ونورًا على روح الميت.
٤٠٠ وسورة الرحمن هي ما يتلوه القراء في القرافة لأنها تتضمن عِبَر الموت.
٤٠١ وندعو للميت أن يبشبش الله الطوبة التي تحت رأسه.
٤٠٢ وتتواصل طلعة القرافة كل خميس، وإن تباعدت الزيارات — كالعادة — بعد
مُضي فترة طويلة على الوفاة.
٤٠٣ وعادة الأربعين من أيام الفراعنة الذين كانوا يُبقون الجثة أربعين يومًا لتحنيطها.
٤٠٤ أما زيارة المقابر في يوم الجمعة الأول من رجب، فهي تقليد لا يرتبط
بمناسبة دينية معينة؛ إنه يوم موقوف على زيارة الموتى، أشبه ﺑ «يوم الأموات عند الفرنجة».
٤٠٥ يحمل أهل الميت إلى المقابر في طلعة رجب الجوافة والبلح والفطير بالينسون
٤٠٦ وبعد
صلاة العيد، يتجه الأهل — في القرى — لزيارة موتاهم، كل رجل في يد ابنه كأنما يريد
أن يعرف من البداية قصة النهاية، يعلِّمه كيف يقرأ الفاتحة، ويترحم على الموتى، وكيف
يتجنَّب أن يدوس بقدمه على المقابر، ويحكي له جزءًا من سيرة الغائب الذي لن يعود.
٤٠٧ ويظل الرجال في الطريق صامتين لا ينبسون، ولا يصافحون أحدًا، يظلون على
صمتهم حتى يدخلوا المقابر. وزيارة الموتى لها قواعدها وطقوسها: السلام عليكم ورحمة
الله دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
٤٠٨ ثم يقرأ الفاتحة للميت، ولأموات المسلمين بعامة.
٤٠٩ وفي أثناء ذلك، تبدأ النساء في العودة إلى البيوت، أمضين العيد كل
واحدة أمام قبر عزيزها تؤنسه، حتى يأتي الصباح والرجال، ويتفرق الرجال بين شواهد
القبور، يدعون للموتى، حتى ينير الله قبره، ويوسِّعه عليه، ويضعون الجريد الأخضر
على القبور، ويسقون الصبَّار، ثم يصبحون — بعد ذلك — في حلٍّ من السلام على بعضهم
البعض، والحديث، وتبادل التهنئة بالعيد.
٤١٠ واللافت أنه حتى الأسر التي تعيب على الأسر الأخرى ما قد تؤمن به من
معتقدات، وما تمارسه من عادات وتقاليد، ما تلبث أن تتصرف في إطار ذلك كله، إذا
واجهت الشيء نفسه الذي يواجهه الآخرون. ونتذكر أسرة «الأيام» التي كانت تعيب هؤلاء
الذين يزورون الموتى، فلما مات أحد أبنائها، تعوَّدت الأسرة أن تعبر النيل لتزور فقيدها.
٤١١ وعلى الرغم من شجب العلماء لظاهرة زيارة القبور، فإن الإمام يجيب عن
السؤال: أحقيقة أن الله يجزينا خير الجزاء إذا ما زرنا مقابر موتانا؟ يقول: أمرنا
رسول الله
ﷺ بأن نزورها دائمًا؛ إذ قال: «زوروا القبور، فإنها تُرِق
القلب، وتُدمِع العين، وتزهد في الدنيا، وتذكِّر بالآخرة.»
٤١٢ وتمر الأيام، فالأعوام، ويصبح الميت ذكرى، كلما تذكره أهله والأقربون
قالوا: «الفاتحة لروحه وروح أمواتنا وأموات المسلمين.»
٤١٣
والعادة — عند بعض الأسر في الصعيد — أن يتزوج شقيق المتوفى أرملة أخيه، ليربي
أبناءه، بدلًا من أن يربيهم الغريب، فيسب الزوج السابق، ولا يحسن معاملة الأبناء.
٤١٤
الأقباط
تدق أجراس الكنيسة دقاتها الحزينة، ويمتلئ المكان بعشرات الرجال والنساء، ويسود
الوجوم الرجال، أما النساء فيتشحن بالسواد، بينما الأرغن يعزف لحنه الجنائزي.
٤١٥ يتحرك النعش داخل الكنيسة على نغم الأرغن الحزين، حتى يصل به حاملوه
إلى مذبح الكنيسة، ويكون القس واقفًا في استقباله.
٤١٦ ويقرأ القس آيات من الكتاب المقدس، تقول: «عريانًا خرجت من بطن أمي،
عريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى، والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركًا. بعرق وجهك
تأكل خبزًا، حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود.»
٤١٧ يتحرك الصندوق الخشبي الثقيل خارجًا من الكنيسة، يعزف الأرغن لحنه
الجنائزي، ويندفع المعزُّون خارجين ليشاركوا في الجنازة. تقف في الخارج عربة ذات
ستة جياد غُطيت ظهورها بأقمشة بُنية داكنة، وإلى جانبها ثمانية سُيَّاس. ومن أعلى
العربة يطل ملاكان لهما هيئة طفلين، لكلٍّ منهما جناحان، وتبدأ الجنازة سيرها.
٤١٨ يتقدم الجنازة فرقة موسيقية، يتلوها بساط الرحمة الذي يمسكه أربعة
رجال، ثم العربة ذات الجياد، أو السيارة السوداء، في منتصفها صندوق بين الملاكين الخشبيَّين.
٤١٩ وعادة ذبح أضحية تحت خشبة الميت، يمارسها المسلمون والأقباط. تقول
فرحخانة خادمة الأسرة القبطية: في بلدنا عادة يا سيدي أن نذبح ذبيحة، دجاجة كانت أو
خروفًا، ونجعل الخشبة تمر فوقها.
– ولم؟
– فدية عن الميت يا سيدي!
٤٢٠
واعتقاد الأقباط أن الروح تبقى في الشقة ثلاثة أيام، تظل مكانها حتى يأتي القسيس،
ويصرفها في سلام لتصعد إلى السماء.
٤٢١ لذلك فإن المكان يظل مضاء طيلة الأيام الثلاثة التي تسبق وصول القسيس،
وينبغي الإشارة إلى أن عملية طرد الروح من البيت — عقب الوفاة — عملية مصرية قديمة.
٤٢٢ كان المصريون القدامى يمارسون تلك الطقوس، بل إنها قد انتشرت كذلك بين
المصريين المسلمين إلى زماننا الحالي.
٤٢٣ وموتى الأقباط توهب على أرواحهم «الرحمة والنور» المؤلفة — في الأغلب —
من القراقيش والبلح الإبريمي.
٤٢٤
الطعام
لعلنا نجد البداية في دخول العادات الأوروبية في المائدة، في هذه الكلمات
المندهشة التي يصف بها رفاعة الطهطاوي أول مائدة يتناول فيها الطعام على الطريقة
الأوروبية: «لم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم
أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا تعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها، لأن
هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلًا عن الجلوس
على الأرض، ثم مدُّوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصُّوها من الصحون
البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدَّام كل صحن قدحًا من القزاز، وسكينًا وشوكة
وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء به ملح، وآخر به فلفل، ثم رصُّوا
حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيخ، فوضعوا في كل طبلية صحنًا
كبيرًا أو صحنَين، ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع، فيعطى لكل إنسان في صحنه
شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصَّله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل
الإنسان بيده أصلًا، ولا بشوكة غيره أو سكينته، أو يشرب من قدحه أبدًا، ويزعمون أن
هذا أنظف وأسلم عاقبة.» ثم حلَّت التقاليد الأوروبية في تناول الطعام محل التقاليد
الشرقية: المائدة بدلًا من الطبلية، أو السماط الذي يوضع على الأرض. الشوكة والسكين
والملعقة بدلًا من الأكل بالأيدي، وبعد تناول الغداء، تنتقل الأسرة والمدعوون إلى
الصالون لتناول القهوة والسيجار.
٤٢٥ بل إن بعض الأسر كانت تضع على موائدها أطعمة فرنسية بديلًا للأطعمة الشرقية.
٤٢٦ ثم زاد بعض السراة على ذلك بتعاطي المشروبات الروحية. كان الشبان
المصريون يأتون بملابسهم من باريس، ويحتسون الخمور مثلما يفعل الفرنسيون، ويسعدون
بركوب «الأوتوموبيل»، بل ويستخدمون الدراجة للرياضة لمجرد محاكاة الأوروبيين، وأجمل
أماني العمر «حضور المجالس الإفرنجية، وإن كلَّفهم ذلك ما كلَّفهم، وخرجوا منها على
غير فائدة لهم.» إن بعض العادات اليومية التي تمارسها الآن غالبية الأسر المصرية،
مثل استخدام الشوكة والسكين في تناول الطعام، كانت أقرب إلى البدع الأوروبية في
أواخر القرن التاسع عشر، عندما ترفض أسماء «الأكل على الطريقة الشرقية»، وتقول
لوالدتها: لماذا لا نأكل بالشوكة والسكين يا أماه؟ وإلى متى نبقى على هذا الجهل،
وهذه الأوساخ والأقذار؟ … إلخ.
٤٢٧ وكان حدثًا لافتًا عندما أصر دياب أبو محمد — بعد أن أمضى عامين في
لندن — أن يأكل مع أهله بالشوكة والسكين، وكانوا يتناولون الطعام بالأيدي.
٤٢٨ لكن المصري — بتأثير التعاليم الإسلامية — يحرص على غسل يديه قبل الأكل
وبعده، فهو يتناول طعامه مع أسرته — في الأغلب — بيديه. فإذا كان ضيفًا أو مضيفًا،
فإنه يلجأ إلى الشوكة والملعقة والسكين. والسراة في الريف، وفئة المثقفين
والموظفين، لا يأكلون على الأرض، وإنما يأكلون على الموائد، ولا يأكلون الذرة،
وإنما يأكلون خبز الحنطة، ولا يأكلون في أطباق النحاس، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف.
٤٢٩ ومن آداب المائدة أن يأكل كبير الأسرة أولًا، وأن ينهي طعامه أولًا،
ذلك ما كان يحدث في بيت «بين القصرين». حتى حنفي (عودة الروح) ظلوا ينتظرونه طويلًا،
وحين زهقوا صاح عبده: «أقسم بالله العظيم مانا ساكت … خلاص! ثم مدَّ يده في حركة
عصبية إلى ملعقة فرفعها بقوة وعنف، ودسَّها في قصعة الفت، وحساء الفول النابت، وأخذ
يأكل غير حافل بأحد، وعندئذٍ تبادل الآخرون النظرات، كأنما أدهشهم عمل عبده، أو
كأنما هم لم يرتاحوا له، ومع ذلك، فلم يجرؤ أحد منهم على التفوُّه بلفظ.»
٤٣٠ وعادات الطعام عند المصريين لا تشترط أن ينتظر المرء حتى ينهض مَن على
المائدة. إنها — كما قال إبراهيم — عادات إفرنجية لا يتحرَّاها المصريون، حتى في العاصمة.
٤٣١ فإذا قدم أحد على الجالسين حول الطعام، قالوا له: حماتك تحبك.
٤٣٢ والأفضل — بعد تناول الطعام — أن «يحبس» المرء بكوبٍ من الشاي، وكلمة
«يحبس» هنا تعني الابتعاد عن تناول أي شيء آخر، حتى الماء، وفي رأي البعض أن
«الشاي يتقل وجع المعدة.»
٤٣٣ وقد ظل الشاي — في بواكير دخوله البلاد — زمنًا طويلًا على الطبقة العالية.
٤٣٤ وكما يقول الفنان (عودة الروح) فقد تعلَّم الفلاحون شرب الشاي من البدو،
ثم أنزلوا الشاي من أنفسهم منزلة الاهتمام، فهم لا يطيقون الامتناع عنه، ويشربونه
جماعة كالصلاة الجماعة.
٤٣٥
وفي القرى، عندما تُحضِر نساء البيت الطعام، تصفق المرأة أو الفتاة الواقفة خارج
المندرة أو القاعة، لتعلن أصحاب البيت من الرجال أن الطعام قد انتهى إعداده.
٤٣٦
والتجشؤ عقب تناول الطعام، فعل الزعماء وكبار الموظفين والشيوخ والنواب والعمد
والأعيان «فإنهم يحشون بطونهم لحمًا وشحمًا، وفطيرًا وفاكهة، حتى إذا اختمر كل ذلك
في أجوافهم فار التنور، وجعلت الغازات تثور وتفور.»
٤٣٧ أما الذين يكتفون بأقل الطعام فأنت لا تسمع لهم تجشؤًا، لأن طعامهم
أبسط من أن يزحم معدة، أو يورِّث خمولًا، ومن هؤلاء — كما يقول الفنان — أبناء الطبقة
العاملة.
٤٣٨
•••
لعل الطعام هو التعبير الأهم عن إقبالنا على الحياة، وحبنا للمرضى، وترحيبنا
بالضيوف، واستقبالنا للمناسبات المبهجة والحزينة. الطعام، الطعام، الطعام، هو ما
يشغلنا تقديمه بمناسبة، وبلا مناسبة. ويذهب زكي مبارك إلى أن المصريين ليس لهم
مذاهب في الطعام والشراب، وأن مصر لا تنفرد في أطعمتها بغير البصارة والفول المدمس
وفطائر المواقد والأفران؛ ذلك لأن المطعم المصري اندمج في المطعم التركي منذ أجيال.
٤٣٩ والحقيقة تغيب عن هذا الرأي إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأن المائدة المصرية —
بصرف النظر عن تعدُّد ألوانها في الأسر المصرية الثرية أو المتوسطة، وتواصلها في
الأسر الفقيرة، لها سِماتها وخصائصها ومذاقها المتميز. بديهي أن المائدة المصرية —
مثل المجتمع المصري ذاته — قد تأثرت بألوان وافدة من الأطعمة، مثلما تأثر المجتمع
المصري بأجناس وافدة، لكن هذه الألوان — بالتعديل والحذف والإضافة — أصبحت جزءًا
أساسيًّا في المائدة المصرية، أو اختفت منها تمامًا. وعلى سبيل المثال، فإن أسرة
أحمد عبد الجواد — كما تؤكد أم خليل شوكت — لم تذُق الشركسية قبل أن يقترن ياسين
بزينب الشركسية الأصل.
٤٤٠ لكن الشركسية ظلَّت طبقًا لذيذًا في مائدة الأجيال التالية من عائلة عبد
الجواد، حتى هؤلاء الذين غاب عنهم أصل جدتهم الشركسي. وقد تأثر المطبخ المصري
بالمطبخ التركي والشامي في «المحشي» و«البوريك»، وأنواع قليلة من الحلوى مثل «بلح
الشام» و«صرة بنت الملك» وقد استعيرت «الويكة» من السودان، و«الكبيبة» من الشام،
و«الكسكسي» من المغرب، لكن الغلبة ظلَّت للطبق المصري: «الكشري».
٤٤١ وكما يقول الفنان، فإن المطبخ المصري أساسه تخديع مخروط البصل في
المسلي، حتى إذا احمر قليلًا، أضيف إليه اللحم بعد تقطيعه قطعًا صغيرة، فإذا نضجت
قليلًا صُبَّ عليها عصير الطماطم، ثم يُضم إليها نوع من الخضار كالبطاطس أو القلقاس أو
الملوخية أو البامية أو الرجلة أو الخبيزة، فالهدف هو «المرق»، أي تغميس اللقمة.
لذلك يظل الخبز هو المادة الأولى في المائدة المصرية، حتى إن الجرسون في المطعم
الأوروبي يعرف أن الزبون مصري من كثرة طلبه للخبز.
٤٤٢
والأطعمة الأهم التي يستدعيها الذهن هي الفول المدمس للفطور، والبامية والملوخية
للغداء.
٤٤٣ يصف الراوي مصر بأنها «أمة الملوخية»، فعروق الملوخية أظهر ما في كومات
القمامة على الأرصفة وجوانب الأزقة والحواري، والنداء الغالب للباعة الجائلين: ورق
العنب يا ملوخية، وروائح تقلية الملوخية تتسلل إلى الأنوف من كل بيت تقريبًا.
٤٤٤ وعندما يعِد الصديق صديقه بأن يقدم له على الغداء ملوخية بالأرانب،
يسأل: لماذا الملوخية؟ يجيب: أهل مصر يعتبرونها شرطًا مع الأرانب!
٤٤٥
ويسأل سمير: هل الآنسة درية تعرف اسم الطبخة التي تشبه محطة إذاعة تنوب الرائحة
فيها عن الصوت؟
– لا.
– حاولي … حاولي لكي تصلي.
– السمك؟!
– لاااه؟
اﻟ … اليخني؟
– ربما … لكن لا أيضًا.
– قل أنت إذن.
– النساء أكثر دراية من الرجال بهذه الأشياء.
٤٤٦
والملوخية — الطبخة التي تفضح، على حد تعبير الفنان
٤٤٧ — أنواع: بوراني، وشوربة، وفتة بالثوم والخل.
٤٤٨
وكان الطعام بالنسبة لنساء «بين القصرين» ذا غاية جمالية عليا، بصفته الدعامة
الطبيعية للسمنة.
٤٤٩ وقد سُميَت «المفتقة» بهذا الاسم — كما يقول الفنان — لأنها تفتق في أكثر
من مكان بالجسم.
٤٥٠ وكانت الجدة تحرص — كل صباح — على شرب كوب من الملوخية بدلًا من كوب
الشاي، لأن الملوخية — في اعتقادها — تردُّ الصبا.
٤٥١ أما الجزر، فهو ينقِّي الدم وينشِّط البدن.
٤٥٢ ويؤمن الفلاح بأهمية الفسيخ في علاج الحمى؛ إن أصابته حمَّى أكل الفسيخ
ليبرأ من مرضه.
٤٥٣ وعلامة شفاء المريض أن يأكل دجاجة كاملة.
٤٥٤ ومن المعتقدات المتصلة بالطعام، أن نأكله ونحن جلوس، وإلا نزل الأكل
في أرجلنا!
٤٥٥ أو في «الركب»!
٤٥٦
كان العشاء هو الوجبة الرئيسة في البيت المصري، فالطعام يُطهى بعد الظهر، ثم أصبح
الغداء هو الوجبة الرئيسة، لتبدأ بعدها قيلولة قد تقصر أو تطول. وبالطبع، فإن
غالبية الأسر المصرية — حتى وقت قريب — لم تكن تعرف المائدة الخشبية، التي تصطف
حولها الكراسي، وإنما كان أفراد الأسرة يتحلَّقون «هذه المائدة المستديرة المنخفضة
التي يسمُّونها «الطبلية».»
٤٥٧
•••
الطعام خاصية طبيعية للإنسان، مثل الجنس والنوم والحرية، لكن احتفالات الإنسان
المصري بالطعام ظاهرة تتوضح في كل المناسبات، بل إنه ربما يختلق لها المناسبات. ففي
ليلة الجمعة، ينتشر — عادة — من منافذ البيوت نشيش السمن والدهن وعبق اللحوم،
ويستحم الجميع في صباحها.
٤٥٨ وفي يوم عاشوراء، يحرص الكثير من المصريين على طبخ الكسكسي بمرق الأرز.
٤٥٩
ورمضان — شهر الصوم — يُشتهَر بالكنافة والقطايف والمكسرات والخشاف والمخللات
والفول المدمس وعشرات الأطعمة التي تفضي إلى حقيقتين، تتمثَّلان في نهاية الشهر،
أولاهما زيادة متوسط وزن الصائم بما يقرب من خمسة كيلوجرامات، وثانيتهما: زيادة
المبيعات من الأطعمة إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف. وعيد الفطر يُشتَهر بالكعك، وعيد
الأضحى باللحم، وشم النسيم بالملانة والفسيخ والبيض الملون، والمناسبات الدينية
المختلفة بألوان معينة من الطعام. وعلى الرغم من المثل الذي يقول «لاقيني ولا
تغدِّيني»، فإن الإسراف في تقديم ألوان شتى من الأطعمة، عادة الأسر المصرية، وأسر
الريف بخاصة، حتى لو استدانت الأسرة، أو أربكت ميزانيتها. والتكافل الاجتماعي في
القرية يبين في صواني الطعام التي تخرج من كل بيت في المناسبات السارة والحزينة.
٤٦٠ والعادة أن يقدِّم السكان القدامى تحية للجيران الجدد، أطباق طعام على
صينية تقديرًا لمشاغلهم في إعداد المسكن الجديد، وفتحًا لباب التعارف.
٤٦١
وبالطبع، فإن الطعام يُعَد في المطبخ الذي يُوقَد بالفحم الكبير في قدورٍ نحاسية
من كل حجم.
٤٦٢
•••
يوصف الخبز بأنه «قوام أهل الأرض، وأصل الأقوات، وأمير الأغذية.» وحب المصريين
للخبز يعود إلى عصور قديمة، وقد وصفهم هيرودوت بأنهم «آكلو الخبز»، وذكرت بردية
هاريس (عهد رمسيس الثالث) حوالي ثلاثين نوعًا من الخبز، اشتملت عليها قرابين
الموتى، وكان يُستخدَم في المعابد.
٤٦٣ ولأن الخبز هو طعام المصريين الأهم، فهم يسمونه «عيش»، وتقول عائشة
خليل إن «الغموس لا يهمنا بقدر ما يهمنا الشيء الذي نغمسه فيه.»
٤٦٤ وعندما يلح التاجر في طلب الخبز — أكثر من مرة — على مائدته، يقول له
الجرسون: إنما أنت هنا يا سيدي في مطعم لا في مخبز.
٤٦٥ ومن مظاهر المائدة المصرية، صينية الطعام النحاسية اللامعة، يتوسطها
طبق كبير بيضاوي، امتلأ بالمدمس المقلي بالسمن والبيض، وفي أحد طرفَيها تراكمت
الأرغفة الساخنة، وفي الطرف الآخر، صُفَّت أطباق صغيرة بالجبن والليمون والفلفل
المخللين والشطة والملح والفلفل الأسود.
٤٦٦ إنها أكلة مصرية تمامًا، وكان الحاج فيروز يبيع الفول بأنواع: الفول
صرفًا، الفول بالزيت على اختلاف أنواعه، والفول بالسمن، والفول بالزبد، بالإضافة
إلى فنون من التوابل ترغب فيه، وتغري به.
٤٦٧
ومن الأطعمة المصرية: البطاطس المحشوة، الملوخية، الأرز المفلفل بالكبد والقوانص
والمحاشي المتنوعة.
٤٦٨ وثمة المسقعة وورق العنب، وثمة ملوخية الأرانب وعجة الطعمية وكباب
الضأن والبامية المقمَّعة. وإذا أرادت الأسرة أن تضيف إلى طعامها فإنها تجعله
طاجنًا. وكما يقول إبراهيم شوكت فإن الطاجن ليس بما يحويه من المأكول — وإن لذ وطاب
— ولكن بتسبيكه قبل كل شيء.
٤٦٩ وكانت الدجاجة بالكشك هي طعام فؤاد الأول، وكان يطلبها في كل مناسبة طيبة.
٤٧٠ أما صينية الفريك بالحمام المحشو التي كان يتناولها سليم علوان —
لزيادة قدراته الجنسية — مثار أحاديث أهل الزقاق لفترة طويلة، وكانت قيمتها الجنسية
في خلطها بقدر من مسحوق جوزة الطيب.
٤٧١ وكان ألذ الطعام عند إبراهيم شوكت — بالإضافة إلى الطواجن — البطاطس
المحشو، الملوخية، الأرز المفلفل بالكبد، والقوانص، والمحاشي المتنوعة.
٤٧٢ والطعام الذي يخلو من اللحم يسمى «صيامي»، أو يخلو من «الزفر».
٤٧٣
وفي مقدمة الأصناف التي تقدَّم للأجنبي باعتبارها أطعمة مصرية: الكباب والفول
المدمس والطعمية والملوخية والكنافة. والمصريون يحبون المأكولات الحريفة، مثل
الفسيخ والسردين والمش والبصل الأبيض والأخضر والبصارة. وقد غادر محمد أفندي سلطان
بيته في عز الظهر، ليحصل على فحل بصل، حتى يحلو له الغداء بدشِّه مع قرون من الفول
الأخضر، وكان محمد أفندي كثير الشجار مع زوجته الست نفوسة، لأنها تقصِّر في مثل هذه
اللمسات التي تُضفَى على وجبته.
٤٧٤ وثمة أكلة مصرية خالصة، تلك التي أعلن الراوي شغفه بها: الأرانب
والملوخية، إلى جانب ورق العنب المحشو، وطبق الدمعة، وسلطة الطحينة، والخيار
المخلل، أما «الحلو» فهو شقَّة مثلَّجة من البطيخ.
٤٧٥
وثمة أطعمة شعبية مثل لحمة الرأس والكشري والعدس والفسيخ.
٤٧٦ ومعظم المصريين يحبون المأكولات الحريفة، مثل الفسيخ والسردين والمش.
٤٧٧ ويقتصر ما يقدمه المسمط على وجبة دسمة مكونة من المخ والجبهة واللسان
والجوهرة (العين) والممبار وفتة التقلية، بالإضافة إلى الفجل والمخلل.
٤٧٨ والدشيشة طعام يفضِّل أبناء الصعيد تناوله في الصباح، لونها أشبه
بالعاشوراء، تعمل من القمح المقشور المطبوخ بالعسل الأسود.
٤٧٩ ومن الأطعمة الصعيدية طواجن العدس الصعيدي والكشك والدشيشة والعيش الشمسي.
٤٨٠ وأبناء المدن الساحلية يفضِّلون السمك والأرز.
٤٨١
والسَّلَطَات طبق أساس في المائدة المصرية سواء كانت سلطة طحينة أم طماطم أم
لبنًا وخيارًا مخللًا.
ومن الأكلات التي اختفت، أو لم تعُد شائعة في أقل تقدير، الويكة من السودان،
والكبيبة من الشام، والعصيدة من السوبيا، ضؤل نفوذها بانقضاء عهد الجواري السود،
حتى الكسكسي الذي كان طبقًا غلَّابًا في المأدبة المصرية أصبح مقصورًا على المناسبات.
٤٨٢
ورفض المصريين — المسلمين على وجه التحديد — تناول لحم الخنزير، ليس مبعثه
الأسباب الدينية وحدها، إنه ليس مجرد معصية دينية، وليس مصدر خطر على الصحة فحسب،
لكنه حيوان دنيء وبغيض؛ كل ذكر يغار على أنثاه إلا هو، يحب التمرغ في القاذورات،
ويأكلها، وتقوى صحته بالأذيَّة. ولعله من هنا يَبين لنا بُعد جديد في الشخصية
المصرية؛ فالطعام ليس مجرد شيء يؤكل، ولكن ثمة عوامل تؤدي إلى الإقبال عليه، أو
العزوف عنه.
ونتيجة لتخلُّف الكثير من الخيول الأسترالية عن الجيش البريطاني، فقد بدأ بيع لحوم
الخيل في مصر، لكن التجربة لم تنجح.
٤٨٣
•••
والفول هو الطبق الرئيس — الطبق الوحيد أحيانًا — في إفطار الأسر المصرية،
وبالذات أسر الطبقة الوسطى فما دونها، وربما أضيفت إليه الطعمية.
٤٨٤ بائع الفول «جزء من المنظر المصري العام.»
٤٨٥ والفول خاصية مدنية أكثر من أن يكون خاصية ريفية، بمعنى أن أهل المدينة
يقبلون عليه أكثر من أبناء الريف، إنه يُزرَع في الريف لتستهلكه المدينة. ومن المَشاهِد
المألوفة في الصباح الباكر على نواصي الحارات، عربة فول، يلتف حولها الزبائن. يقدم
البائع لكل حسب مزاجه، ثمة مَن يريده بالطحينة، ومن يريده بالسمن، ومن يريده بالزيت
العادي والليمون، ومن يكتفي بساندوتش.
٤٨٦ القدرة النحاسية مائلة على الحامل المستدير، المحيط بوابور الجاز،
والبخار يتصاعد منها، والكبشة في يد الرجل متحركة، يُدخِلها في جوف القدرة ليملأ بها
الصحون والسلاطين التي تتدافع بها الأيدي الممتدة أمامه. يتناول الصحن الفارغ،
ويسلمه مليئًا، ويتناول القرش ليضعه في طبق أمامه، والصينية النحاسية المعرجة
الحرف، تتوسَّد الطعمية المرصوصة فوقها فراشٌ من أعواد البقدونس الخضراء، والطاسة
بجوارها يغلي فيها الزيت، وتطشطش فيها الطعمية، وهي تهبط على سطحها ورائحتها
المغرية تملأ الخياشيم.
٤٨٧ يسأل الرجل صديقه: تشرب قهوة؟
يقول الآخر: لنبدأ بسندوتش فول، ثم تجيء القهوة بعد ذلك.
٤٨٨ والفول وجبة رئيسة في مائدة الإفطار برمضان، بل إن الصائم — لسببٍ لا
أدريه! — قد يستغني بالفول عن المائدة كلها. وحين أتت الأم بطبق الفول المدمس،
أقبلوا عليه بنهمٍ حتى أتوا عليه، فقال الأب: أظن الأوفق أن نؤخر الفول حتى نصيب من
أنواع الطعام الأخرى، وإلا امتلأنا به وحده! فقالت الأم ضاحكة: هذا ما تقوله كل
عام، ولكنك لا تذكره إلا عقب الفراغ من الفول!
٤٨٩
يلي الفول في الأهمية الطعمية، أو الفلافل، وهي تعتمد في تكوينها الأساس على
الفول كذلك، وفي الأحياء الشعبية يطلقون على الطعمية اسم «الكباب».
٤٩٠
أما طعام الإفطار الذي كانت تتناوله أسرة أحمد عبد الجواد فيتألف من الفول المدمس
المقلي بالسمن والبيض، والخبز الساخن، والجبن، والليمون والفلفل المخلَّلين،
والشطة، والملح، والفلفل الأسود.
٤٩١ وقد يتكوَّن الفطور من قطعة من الجبن القريش والخبز والمحمص وفنجان قهوة.
٤٩٢ أو يتكوَّن الفطور من الفول بالزيت الحار، والطعمية المحشية بالشطة،
والليمون بالعصفر، والبصل المغموس في الخل.
٤٩٣ وربما يتكوَّن طعام الإفطار من الفول المدمس والطعمية، والبيض المقلي،
وفنجان الشاي التقيل القاتم اللون.
٤٩٤ وقد يتألف الفطور من الشاي واللبن والقشدة والفطير والبيض والعسل الأبيض.
٤٩٥ وكان أحمد عبد الجواد يتناول — عقب الإفطار — ثلاث بيضات نيئة، مُزجَت
بقليل من اللبن، وصفة من وصفات يداوم عليها بعد الواجبات، أو فيما بينها، كزيت
السمك والجوز واللوز والبندق المسكر.
٤٩٦ وكان الإفطار التقليدي — صباح كل جمعة — لأسرة جلال أفندي يتكوَّن من فول
نابت وطعمية وطرشي؛ ذلك لأن الأسرة كانت جارة للإمام الليثي، وما كان يليق بأفرادها
أن يفطروا في يوم الجمعة غير ما كان يأكل منه الإمام طيلة الأسبوع. ولم يكن ذلك
التقليد — بالطبع — وقفًا على أسرة جلال أفندي وحدها، فقد كانت الخيام تُنصَب في
الساحة الخارجية للمسجد صباح كل جمعة — تأكيدًا لهذا التقليد — وتُقلى الطعمية،
ويُسلق الفول النابت، والرجال والنساء من القاهرة، ومن خارج القاهرة، يفترشون الأرض
في دوائر كبيرة داخل الخيام، يأكلون الطعمية والفول النابت والطرشي والكرَّات، لا
تحتسب زيارة الإمام إلا إذا صحبها إفطار من هذه المأكولات.
٤٩٧ وكان أفضل طعام للفطور — في تقدير الرجل — طبق الجبن، وقدح الشاي
باللبن والرغيف المحمَّر.
٤٩٨ أما الأب فكان يشرب كوبًا من السمن البلدي كل صباح، فبلغ الثمانين دون
أن يمرض أبدًا.
٤٩٩ وقد يتألف طعام الإفطار في القرية من عسل أبيض، قشدة، بيض مسلوق أو
محمر، جبنة قديمة، قراقيش.
٥٠٠
وطعام العشاء هو الأكلة الرئيسة عند التجار.
٥٠١ وقد يتكوَّن طعام العشاء — إذا كان خفيفًا — من لبن زبادي وخس وتفاحة.
٥٠٢ كما قد يتكوَّن الغداء — أو العشاء — من فطير مشلتت وجبن أصفر قديم وقشدة
وعسل أبيض.
٥٠٣
ويختتم الطعام — عادة — بالحلويات، مثل الفطائر والمهلبية والأرز باللبن
والعاشوراء وسد الحنك ولقمة القاضي وغيرها، أو بالفواكه في مواسمها مثل البطيخ
والخوخ والعنب والمشمش والخوخ والموز والبرتقال واليوسفي. ومن ألوان الحلوى
المصرية: سد الحنك، أو لقمة القاضي،
٥٠٤ وأقراص السمسمية والحمصية والعلف والهريسة والبسبوسة والبقلاوة
والجوزية والملبن المحشو باللوز والجوز والبندق المخلوط بماء الورد، والمصنوع على
شكل جبال، وعلى شكل مربعات.
٥٠٥ ومن المفروض ألَّا ينام المرء مباشرة بعد أكلة الطعمية والشطة والشمام،
لأنه يأتي بكابوس.
٥٠٦
وثمة قاعدة مصرية في شرب الزبيب، يشير إليها الفنان، ففي الشهور التي لا «راء» في
حروفها — وهي مايو ويونيو ويوليو وأغسطس — يحلو ويطيب شرب الزبيب.
٥٠٧
لكن ذلك كله هو طعام الأسر الثرية والمتوسطة، أما طعام الفقراء فهو يتركز في
الخبز أساسًا — والخبز البتاو في أغلب الأحيان — والغموس فحل بصل أو كمية من الدقَّة.
وربما يكون طعام الفقراء من الخبز المصنوع من الذرة أو الذرة العويجة واللبن والجبن
والبيض والفسيخ والقثاء والبطيخ والقرع والبصل والكراث والفول والترمس والعدس
والبلح المجفف وغير المجفف. وأحيانًا يعانون حتى تلك الأصناف الزهيدة الثمن،
ويكتفون بالدقة. وطعام الفقراء يتكوَّن في الأغلب من الفول المدمس والنابت والطعمية
والباذنجان المقلي وسلطة الطماطم والبصل ومدد من بلاص عسل أسود.
٥٠٨ وقد يتكوَّن من الجبن القريش والمش والبصل الأخضر والباذنجان المخلل والجرجير.
٥٠٩ والطبيخ بلا لحم يُسمَّى «قرديحي».
٥١٠ ولم تكن حميدة (زقاق المدق) تستكره العدس، لكنها كانت تعلم أنه غذاء
الفقراء، أما غذاء الميسورين فهو لحم ولحم ولحم.
٥١١
وإذا كان الفول قد ظل لآلاف الأعوام عاملًا رئيسًا من عوامل خفض تكاليف الحياة
بالنسبة لمعظم الأسر المصرية المتوسطة، فما دونها، في المدن خاصة،
٥١٢ فإنه الآن لم يعُد كذلك؛ ابتلعته موجات الغلاء، فلم يعُد متاحًا —
بالكيفية التي كان عليها — لكل القدرات الشرائية.
•••
خبز الجراية هو الخبز الذي جرت العادة بتقديمه كجزء من الرواتب والأرزاق، ثمة
اجتهادات ترجع بداية ذلك التقليد إلى الأرزاق التي كانت تدخل في العطاء خلال
القرنين الأول والثاني للهجرة. ثم اتخذ خبز الجراية — بعد ذلك — صورًا مختلفة، منها
ما كان يحصل عليه طلبة الأزهر.
٥١٣ وثمة اجتهادات، تجد بداية نظام الجراية — ومعناها راتب الخبز الجاري —
في عهد السلطان قلاوون، وظل هذا النظام سائدًا حتى عام ١٩٢٩م في عهد مشيخة الشيخ
محمد مصطفى المراغي. وبالإضافة إلى النقود القليلة التي كان يرسلها أولياء أمور
طلبة الأزهر، فإن الطلبة كانوا يتلقَّون جرايات من الأوقاف المختلفة «طعامًا من غير أدم».
٥١٤ اسم المجاور مستمد من الجوار، بمعنى أن المجاور هو من في جوار الأزهر.
٥١٥ وكان مجاورو الأزهر — في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
— ينفقون الأسبوع والشهر لا يحيون إلا على خبز الأزهر، ولا يغمسون هذا الخبز إلا في
العسل الأسود.
٥١٦ وفي الجزء الأول من «أيام» طه حسين يصف خبز الأزهر بأنه يحوي ضروبًا من
القش، وألوانًا من الحصى، وفنونًا من الحشرات.
٥١٧ أما معظم الطعام الذي يطبخه الأزهريون فكان يتألف من بطاطس في خليط من
اللحم والبصل وشيء من الحمص، أو قرع في خليط من اللحم والطماطم والبصل وشيء من الحمص.
٥١٨ وكانوا يعيشون — أحيانًا — على الفول والمخلل، وما يشبه الفول والمخلل
من ألوان الطعام.
٥١٩ وكان الصبية في شوارع القاهرة، يسخرون من طلبة الأزهر بزيهم التقليدي
بالقول: «يا مجاور عِمتك دابت، م السلطة والفول النابت.»
٥٢٠ والشاي عند الأزهريين لا يتم إلا بالدورة الثالثة: نِصاب الشاي ثلاثة
أقداح، لا ينبغي أن ينقص، ولا بأس بأن يزيد.
٥٢١ وكان إمام (شباب امرأة) يعجب من هؤلاء الذين يحملون في نفوسهم السخرية
من المجاورين، وكيف أنهم — بهذه السخرية — يرتكبون إثمًا كبيرًا، لأن المجاور في
الأزهر رجل علم ودين وصلاح وتقوى، وليس — كما تصور البعض — من الذين يتسولون بكلام
الله وآياته.
٥٢٢
•••
يصف الرحالة فولني طعام الفلاح في عهد المماليك بأن «ما يحصدونه من أرز وحنطة
يذهب إلى موائد سادتهم، على حين يحتفظون لأنفسهم بالذرة، ويصنعون منها خبزًا بلا
خمير، لا طعم له إذا كان باردًا، يخبزونه في وقود من روث الأبقار والجواميس، فهذا
الخبز مضافًا إلى الماء والبصل الأخضر هو طعامهم طول العام، ويحسبون سعداء إذا تخلل
طعامهم هذا شيء من العسل والجبن واللبن الرائب. أما اللحم والدهن فلا يعرفونهما
إلا في الأعياد والمواسم الكبرى، وفي بيوت أهل السعة منهم.»
٥٢٣ وحتى الآن، فإن الكثير من فلاحي الصعيد يأكلون البتاو بالمش والجعضيض
كل يوم، والزفر — أي اللحم — أيام المواسم والأعياد.
٥٢٤
ويصف الراوي العيش «المرحرح» بأنه خبز من الحلبة والشعير وبعض الأذرة، علَّم
الفقر أهل الريف كيف يصنعونه بطريقة فنية ماهرة، تجعله يعمَّر طويلًا دون أن يلحق به
عطب فيتغيَّر طعمه.
٥٢٥ وفي المواسم، يطبخ القرويون إوزة وفرخة وفتة، والحلو أرز بلبن عليه
قطرات من العسل الأسود، وربما أضافوا إليها طبقين كشك.
٥٢٦ ومعظم أهل الريف لا يأكلون لحمًا إلا في العيد الكبير، ويحرصون — ما
أمكن — على ذلك لجلال المناسبة الدينية. ويشير صاحب «سياسة الغد» إلى أن «التدبير
الغذائي للسواد الأعظم من الشعب عبارة عن خبز الذرة مصحوبًا بشيء من البصل والجبن
وكميات ضئيلة من السكر والفاكهة، فلا يأكل لحمًا إلا نادرًا، ولا يشرب لبنًا
إلا عند المرض.»
٥٢٧ إن قاعدة الطعام بين الأسر الفقيرة في الريف هي الامتلاء، وحين سأل
عاطف غيث عن سبب اعتماد أهل الريف على الذرة في صنع الخبز بدلًا من القمح، مع أن
ثمنهما متقارب، وزراعتهما تتم في وقت واحد، قالوا: إن الفرد يستطيع أن يأكل من خبز
الذرة أكثر مما يأكل من خبز القمح.
٥٢٨
والرجال في الصعيد يأكلون فحل البصل، بوضعه على الأرض، ودشِّه بقبضة يد لها وقع
الحجر أو يد الهاون، ثم يلقمونه أفواههم.
٥٢٩ ويتحدث الرجل عن أبناء الريف: «إنهم يأكلون الفول والبصل المخلل صباح
مساء … فبالله كيف يستطيع قوم أن يعيشوا من مثل هذا؟!»
٥٣٠ وثمة الخبز الأسود بالحلبة والجبن، ولبن الضأن.
٥٣١ وكوب الشاي الأسود مشروب مهم للفلاح، بل إنه — كما يقول حسين مؤنس —
متمم لصورة أي مصري.
٥٣٢ وقد يكون عشاء الفلاح من صحن الجبنة القديمة المدهوسة في المش واللفت
وأعواد السريس.
٥٣٣ ويقول الرجل للشاب القروي المغترب في المدينة: شوية عيش وجبنة قديمة
وبيض وجرة عسل، باعتاها لك أمك يا محمد.
٥٣٤
أما الأسر الثرية في الريف، فإنها تضع على موائدها أناجر الفتة واللحم الضأن،
وطواجن الأرز المعمَّر باللبن والحمام المشوي. الفتة مبروكة، وهي رئيسة النصبة، أما
الأرز فهو شاويش الطعام،
٥٣٥ فضلًا عن أرغفة العيش القمح المرحرح بأقراصه المستديرة العريضة، وصواني
البط والإوز المحمر بالسمن الصعيدي الكثيفة على أرز الخلطة بالكبد والقوانص،
والفطير المشلتت بطياته رقيقة هشة على السطح، بيضاء دسمة ناضجة العجينة في القلب الحار.
٥٣٦ وثمة برام الأرز ذات الحمام والفرخ، والكعك، والمنين، والبتاو الفلاحي،
والفطير المشلتت، وعسل النحل، والمسلي، والطير، والبيض.
٥٣٧ ومن طواجن الفريك المحشوة بالحمام والزبد والدجاج.
٥٣٨ ويحمل الريفيون من قراهم إلى القاهرة «زوَّادًا» يتكون — في الأغلب —
من الفطير المشلتت والعسل الأبيض والجبن القريش والبيض.
٥٣٩
ويشير الفنان إلى ألوان الطعام التي يحن إليها المصريون في الغربة: الفراخ
والحمام والطعمية والباذنجان المقلي والمسقعة.
٥٤٠
أما أشهر الوجبات البدوية فهي العصيدة والدشيشة والفقع والخراف المشوية على جزوع
العصلاء، ومما يُقدَّم للضيوف اللبن الحامض والشاي المُعَد على نيران العصلاء الهادئة.
٥٤١
الأزياء
أما الأزياء، فقد لحقها — منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين —
تطور كبير. كانت سِمة الأزياء في عصر إسماعيل أن الرجال — في المدينة — يلبسون
العمامة والجبة والقفطان والحزام، بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي. ثم استبدل
المتعلمون والسراة والأعيان بزيهم المألوف الزي الإفرنجي المكوَّن من جاكتة وبنطلون
وطربوش، وإن كان الأتراك هم مصدر الطربوش. حلَّت الأزياء الأوروبية عمومًا محل
الأزياء القديمة، فيما عدا القبعة التي أعرض المصريون عن ارتدائها. ويتحدث الكاتب
عن الشبان الأحداث الذين «تفننوا في تحسين هندامهم، واخترعوا الأزياء المختلفة
الألوان، التي لم يسبقهم فيها سابق.»
٥٤٢ ومع أن أنور الحلواني كان طالبًا ما يزال في مدرسة الحقوق، فإنه كان
يحرص على الطربوش المفرط في الطول والشارب الغزير المبروم والبذلة الأنيقة.
٥٤٣ وكان من المألوف أن يتخذ الرجال — حتى الشبان — العصي، لا يبدون إلا
وهي في أيديهم.
٥٤٤ يقول الفنان: «لم يكن مستغربًا أن ترى الشبان الأقوياء الخفاف يتخذون
العصي، ولا يبدون إلا وهي في أيديهم. أما الآن — الأربعينيات من القرن العشرين —
فقد اختلف الحال، وصار الذوق العام ينفر من منظر الشباب وفي يده عصًا .»
٥٤٥ وثمة رجال كانوا يستعملون — في مطالع القرن العشرين — أحذية ذات كعوب
عالية تماثل كعوب أحذية السيدات.
٥٤٦ وينقل لنا يحيى حقي صورة فتى العصر كما نشرتها الصحف في مطالع القرن
العشرين: «طربوش أحمر جدًّا، تحته قصة جعدية بفضل المكواة، وكرافات يعلوها دبوس
ذهبي، وسطه حجر يخطف الأبصار، وقميص وردي ياقته «واكلة نصف ودانه»، في جيبه ساعة
معلَّقة بجنزير، على كتفه وردة «قد نص البطيخة». يلبس الجميع جزمة ذات بوز نحيل، زانقة
رجله، أشنابه مرتفعة بانتظام، ومتصلة برمش عينيه، وبيُمناه عصاية دماغها مفضضة مذهبة.»
٥٤٧ كما يهبنا الفنان صورة للشاب «الرقيع» — في أواخر القرن التاسع عشر —
بأن مبلغ ما تعلَّمه من المدارس، وما تلقَّاه من دروس الحياة هو العناية بملابسه
وتنسيقها، ووضع طربوشه المائل إلى جهة الأذن على شعر لامع مدهون بكذا، ثم كذا (لم
يوضح الفنان طبيعة الكذا الأولى، ولا الثانية). فضلًا عن ياقة مرتفعة، ورباط رقبة
فيه دبوس من الألماس، ولباس ضيق، وخواتم من الذهب، ومنظار بسلسلة ذهبية، وحذاء أصفر
رفيع براق.
٥٤٨ وكان الشارب الكبير دليلًا على أهمية الرجل، وكانت ملاحظة الفتاة على
شاب التقت به «إنه لطيف، لكن شاربه ليس كبيرًا!»
٥٤٩
وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت العمامة لبس الرأس الرسمي، وكان الحمار يحتل
مكان الطيارة والقطار.
٥٥٠ وإن نافس الطربوش العمامة؛ صاحب الطربوش أفندي، وصاحب العمامة شيخ.
وحرص الكثير من التجار على ارتداء العمامة أو الطربوش، بل والكثير أيضًا من
الفلاحين والعمال، سعيًا وراء المظهر المحترم أمام الآخرين. وكان الأولاد يهتفون في
الرجل الأفندي الذي يرتدي الزي الأوروبي: «أفندي طز أكل اللحمة وخلَّى الرز.» وكان
الناس في حيرة: كيف يستطيع الأفندي أن يجلس في المرحاض لقضاء الضرورة؟ وكان دعاة
الزي الأوروبي — في المقابل — يسخرون من مرتدي الزي الشرقي، فهم يهتفون لمرآهم
«العِمة وقعت في البير، وصاحبها واحد خنزير.»
٥٥١ وكان رأي مصطفى صادق الرافعي أن القبعة — على رأس المصري — تهتك
أخلاقي، أو تهتك سياسي، أو تهتك ديني، في حين أن محمود عزمي كان يرى «أن الطربوش
عثمانلي، ولا صلة بينه وبين الفضيلة.» وقد حافظ عبد الجواد التاجر ﺑ «بين القصرين» على
العمامة طيلة حياته. أما ابنه أحمد، فقد استبدل بها الطربوش، وإن ظل يرتدي الجبة
الجوخ، والقفطان الشاهي، والكوفية الحرير.
٥٥٢ والطريف أن عامة الناس في مصر — خاصة في المدن — كانوا يجلُّون العمامة
ظاهرًا، ولا يجلونها باطنًا، ويوقِّرون الطربوش غالبًا، ويستخفُّون بالعمامة
غالبًا، ويتغلغل في نفوسهم مبدأ مقرر، وهو أن «صاحب الطربوش يُحترم إلا إذا ظهر
عكس ذلك، وصاحب العمامة يُحتقر إلا إذا ظهر عكس ذلك.»
٥٥٣ أما من كان يعزف عن ارتداء الطربوش، فقد كان الناس يسخرون منه بالقول
«الأفندي اللي قالع راسه.»
٥٥٤ ولم يكن الطربوش وحده غطاء الرأس للمصريين، فثمة العمامة واللبدة
والطاقية واللاسة وغيرها من أغطية الرأس. وحين أصدر الخديو إسماعيل أمرًا لموظفي
الحكومة المصرية باستبدال البنطلون بالقفطان، ثارت ثائرة المحافظين في البداية، ثم
اعتادوا الزي الجديد فيما بعد. لكن الزي الأوروبي ظل يواجه هجومًا عنيفًا من غالبية
الشعب المصري، وظلت المشكلة التي حيَّرت الناس — لأعوام — هي كيفية قضاء المرء الذي
يرتدي الزي الأوروبي حاجته، وأطلقوا على كلمة «بنطلون» اسم «عنطلوز»، وكانوا يرددون
«لبسوك العنطلوز يا محمد يا ولدي، فكيف ومن أين يذهب عنك الأذى؟» وكان الأولاد
يهتفون وراء الأفندي — أي ذلك الذي يرتديه الزي الأوروبي «أفندي طز أكل اللحمة
وخلَّى الرز.» وفي المقابل، فإن «الأفندية»، أو الذين اتخذوا الزي الأوروبي، قابلوا
رفض المتمسكين بالزي الوطني بهجومٍ مماثل، وسخرية مماثلة، كالقول «العمة وقعت في
البير، وصاحبها واحد خنزير.»
٥٥٥ كان رأي المدافعين عن العمامة أنها دخلت مصر على يد الفتح الإسلامي،
فاتصلت بالروح الديني من أول يوم، أما الطربوش فقد جاء مع الغزاة الأتراك، لباسًا
رسميًّا للجنود والموظفين؛ فهو إذن رمز التسلط والحكم.
٥٥٦ ويخاطب الرجل العمامة في مصيرها القاسي: «أيتها العمامة: أنت تذكار
الماضي المجيد، وميراث الآباء والأجداد، ولوددنا أن تكوني تراثًا مخلَّدًا للأبناء
والأحفاد. كم توَّجتِ هامة كانت مفخرة الزمن، وكم زينتِ رأسًا تزيَّن بالفضائل والفطن.
وكم كنتِ في ساحة الوغى لواء، وفي ساحة المجد إكليلًا، وكم كنت هالة تحيط محيًّا
نبيلًا. أيتها العمامة: قد أصبحت تصد عنك وجوه النساء، وتعبس لك وجوه الرجال، وصرت
آية الضعف والتأخر في نظر هذه الأجيال، أضرَّ بك من اتخذوك شعارًا لهم، وما كنت
للجمود شعارًا، ومن لبسوك على أوزارهم فحمَّلوك أوزارًا. أيتها العمامة: قد طغى
عليكِ سيل الحديث فكثر خالعوك، وقل لابسوكِ، بل شق جسدك النحول، كما شقت البراقع،
ويوشك كلاكما أن يزول في هذا التيار المتدافع. أيتها العمامة: أنت عزيزة على كل حال.»
٥٥٧ وفي ١٨٩٢م مثَّل أحمد زكي باشا مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع بلندن،
وعاد ليتحدث عن الزي الأوروبي الذي اضطر إلى ارتدائه في أثناء زيارته للعاصمة
البريطانية، «والذي ترتَّب على اتخاذه في بلادنا إماتة كثير من صنائعنا وصنَّاعنا،
وإحياء صناعات الإفرنج السريعة العطب، ومساعدة التجارة الأجنبية على استنزاف ما بقي
لنا من قليل الثروة، فضلًا عن أن الحذاء الإفرنجي يوجِد في الأرجل سقامًا قد تكون
سببًا في نكد العيش، ومرارة الحياة. أما البنطلون المحذَّق، والصديري المضيَّق،
والسترة أو الجاكتة أو الساك أو الردنجوت أو السموكن أو الفراك، والقميص المكوي،
ورباط الرقبة الملوي، وغير ذلك من الأزياء والأنواع، فإنها ليست موافقة لطبيعة
الإقليم في بلادنا بالمرة.»
٥٥٨ وتمنى أحمد زكي لو أنه ارتدى عمامة وقفطانًا، وجُبَّة مرخية الأردان
«ولا أبقى على هذه الحالة التي اختارها أهل بلادنا، فكانوا أشبه بالغراب، أراد أن
يتشبَّه بمشية طائر جميل، فلم يتمكَّن من التقليد، ونسي سيره القديم.»
٥٥٩ كما هاجم طه حسين (١٩١٠م) الزي الأوروبي بعنف، وأكد «أن للشرق زيًّا
تدعو إليه طبيعته، وللغرب زيًّا يقتضيه جوُّه وإقليمه، فليس تبديل الزي الغربي
بالزي الشرقي في الشرق صادرًا إلا عن نفس مرتبكة مختلطة، ومزاج غير مستقيم … مخطئ
كل الخطأ صاحب الزي الشرقي الجميل يستبدله بالزي الغربي … مخطئ لأنه ينزل عن كرامة
الأمة في عاداتها وآدابها، ليندمج في أمة أخرى من غير حق، حبذا الانتقال من حسن إلى
أحسن، ولا حبذا الانتقال من حسن إلى قبيح.»
٥٦٠ وتحدث طه حسين عن طلبة مدرسة المعلمين الناصرية، وأنهم لا يكادون
يخرجون من المدرسة حتى يُلقوا عن رءوسهم العمامة، وينبذوها نبذًا، وحتى يصبح أحدهم
أوروبيًّا في شكله وزيِّه، بل في حديثه ومحاورته، غير حافل بأنه من طبقة هي أرقى
طبقات الأمة التي يجب عليها أن تحفظ للأمة مظاهرها الجميلة، وأي طبقة في أمة أرقى
من طبقة المعلمين؟!
٥٦١ ولا شك أن تحوُّل الكثيرين إلى الزي الأوروبي قد أحدث تأثيره في صناعات
الزي الوطني، ونسيج الشاهي، والأحذية البلدية.
والملاحَظ أن قضية الزي لم تكن — حتى أوائل القرن العشرين — قد تصاعدت إلى النحو
الذي بدت عليه في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، فقد خلع الصحفي سليم سركيس —
على سبيل المثال — زيه الإفرنجي، وارتدى ثيابًا بلدية — قفطانًا وجبَّة — فلم يرفض
غالبية المفكرين — حتى ذوو الثقافة الغربية — ذلك الاتجاه وأيدوه عليه، لأن الزي لم
يكن حينئذٍ يعبِّر عن قضية الانتماء الوطني أو القومي، بقدر ما كان يلتمس الراحة
فقط في الثياب الجديدة.
٥٦٢ وأصدرت جمعية الأطباء المصريين (يوليو ١٩٢٦م) بيانًا في الصحف أكدت فيه
أن الطربوش لباس رأس غير صحي، وأن للباس الصحي شروطًا متوافرة في القبعة، وغير
متوافرة إلا فيها! وأهملت أعداد كبيرة من المصريين ذلك الصراع بين العمة
والطربوش، بين الشيوخ والأفندية، وجعلت من القبعة غطاء للرأس.
٥٦٣ وقد دعا سلامة موسى — بالفعل — إلى استبدال القبعة بالطربوش: «القبعة
هي رمز الحضارة، يلبسها كل رجل متحضر، سواء أكان يابانيًّا أم صينيًّا أم
إنجليزيًّا أم أمريكيًّا. ونحن إذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس أوروبا فقط،
بل إنما نصطنع لباسًا اتفق المتحضرون على وضعه على رءوسهم، كما اتفقوا على أن
يأكلوا بالسكين والشوكة، أو كما اتفقوا على أن يستحموا كل يوم، فإن للمتحضرين عادات
يتعارفون بها، ويصطلحون عليها، واتخاذ القبعة من هذه العادات، فلسنا نحب أن نخرج
على العالم المتمدين بلباسٍ خاص يجعلنا في مركز من الشذوذ، يجلب إلينا الأنظار،
فيعمد السائحون إلى تصويرنا كأننا أمة غريبة عن الأمم التي جاءونا منها.»
٥٦٤ وقد أثيرت حول دعوة استبدال القبعة بالطربوش معركة عنيفة؛ فقد أصدر شيخ
الأزهر والمفتي بيانًا أعلن «أن من تشبَّه من المسلمين بغيره في لبسه الخاص به، فهو
على طريقته اعتقادًا أو عملًا، فمن لبس القبعة ميلًا إلى دينهم أو استخفافًا بدينه،
فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن لبسها تشبُّهًا بهم فإن اقترن بها ما هو من شعائر
دينهم، كدخول كنيسة، فهو كافر أيضًا، وإن لم يقترن بها ذلك فهو آثم.»
٥٦٥ ورفض مصطفى صادق الرافعي فكرة استبدال القبعة بالطربوش، وقال: «لا
يهولنَّك ما أفرز من أن القبعة على رأس المصري في مصر، تهتُّك أخلاقي أو تهتُّك
سياسي أو تهتُّك ديني، أو من هذه كلها معًا.»
٥٦٦ والواقع أن ارتداء القبعة — تحديدًا — واجه رفضًا مؤكدًا من قيادات لها
ثقلها: سعد زغلول وعمر طوسون وغيرهما، بحيث بدت مهمة اللجنة التي تولَّت الدعوة إلى
ارتداء القبعة، غاية في الصعوبة. فقد كتب حسن أفندي يس مقالًا في «الأهرام»، يعيب
فيه بدعة «القبعة»، فكتب إليه باشمعاون دائرة الأمير عمر طوسون يقول: «إن حضرة صاحب
السمو الأمير قد ارتاح إلى ما كتبتموه في جريدة «المقطم» الغراء — لاحظ أن الرد في
جريدة أخرى! — من النصح الغالي في بدعة القبعة التي أخذها بعض صغار الأحلام، فبها
أخذ الكماليون، ولبسها فعلًا.» أما سعد زغلول فقد بعث سكرتيره رسالة يرد فيها على
بعض الطلبة: «أتشرف بإبلاغ حضراتكم أن دولته يعتبر الشعائر والعادات التي عمَّت بين
قوم ورسخت فيهم، وتلقَّاها الأبناء عن الآباء، من مقومات القومية ومشخصاتها ومنابع
نمائها، وما مثل الذين يبدِّلون شعارهم بشعار غيرهم إلا كمثل الذين يتبرءون من
أنسابهم، وينتسبون إلى غيرهم واهمين أنهم يكسبون شرفًا بهذا الانتساب، ولكنهم لا
يكسبون إلا غضب الآباء، وإلا أن ينزلوا في غيرهم منزلة الأدعياء.»
٥٦٧ والحق أن استبدال أتاتورك القبعة بالعمامة أو الطربوش — وهو ما مثَّل
دافعًا لدعاة ارتداء القبعة — لم يكن مجرد إيجاد وسيلة جديدة لحماية فروة الرأس من
المؤثرات الطبيعية، بقدر ما كان وسيلة لتغيير ما بداخل الرأس من موروثات. فالقبعة
هي رمز المجتمع الأوروبي الذي كان أتاتورك يتطلع لأن تكون تركيا جزءًا منه. أما
العمامة والطربوش فهما رمزا الخلافة العثمانية التي تنتمي إلى العالم الشرقي. وهو ما
كان أتاتورك يهدف — علانية — إلى التخلص منه! أما القول بأن الطربوش قد وجد طريقه
إلى الاختفاء في أعوام الثورة، فهو يحتاج إلى مراجعة. فقد بدأ تخلِّي الشباب عن
الطربوش في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كان الطربوش — في تقديرهم — رمزًا للعهد
التركي، وللسراي، ولأعوان الاستعمار، فبدءوا في التخلص منه. وحين أتت ثورة يوليو،
كان الآلاف من الشبان قد أِلفوا الحياة بلا غطاء للرأس، وإن أُعلن وفاة الطربوش —
رسميًّا — حين أصدرت لجنة توحيد الزي بوزارة الشئون الاجتماعية قرارًا بعدم اعتبار
الطربوش زيًّا رسميًّا للدولة، وما لبث أصحاب محال الطرابيش أن تحوَّلوا إلى مهن أخرى
كتجارة الخردوات، أما من لم يجاوزوا سن الشباب فقد التحقوا بالمصانع
الجديدة.
ثم حدث تغيُّر في العمارة، وفي الأثاث، وفي تصميمات الملابس، «وحتى في الآلات
الموسيقية، وكلها مستمد من أوروبا.»
٥٦٨
•••
في الثلاثينيات من القرن العشرين، كان ياسين يرتدي بدلة، وقميصًا ذا بنيقة منشاة
وبابيون ومنشة عاجية وحذاءً لامعًا، وطرف المنديل الحريري يطل من جيب جاكتته
الأعلى، بينما يعوج طربوشه — عادة — إلى اليمين.
٥٦٩ أما الرجل في «شباب امرأة» فقد كان يرتدي بدلة فخمة، بها أزرار ستة
مصفوفة على الجانبين، ومنديل أحمر، ورباط رقبة من لونه، ويضع طربوشًا أحمر
فاقعًا، ومن شعره تنبعث رائحة عطر القسيس.
٥٧٠ أما أبناء البلد — التسمية التي تُطلَق على أبناء الأحياء الشعبية —
فكانوا يرتدون الجلابية السكروتة، واللاسة الحرير، والبلغة الفاسي.
٥٧١ وكان محمود يعجب باللاسة، ويراها أنسب لباس للرأس في الشتاء، وتساءل:
لماذا يحجم الناس عن ارتداء اللاسة؟ وأجاب على تساؤله بأنها لم تنحدر إلينا من
السادة الأتراك، أو الأئمة الأوروبيين.
٥٧٢ وكان أهل دمنهور يرتدون «البنش»، وهو ثوب صوفي نظيف فاخر، يبدو من فتحة
صدره قفطان من الحرير، وتتدلَّى من كتفه كوفية ذات شراريب طويلة، وعلى الرأس طربوش،
وفي اليد منشَّة من الشعر الأسود ذات مقبض من العاج.
٥٧٣ ومن الأزياء البلدية: العنتري البلدي، واللاسة، يرتديهما صبي قهوة
المعلم شحاتة (عودة الروح). ووجدَ محمود (خادمك المليونير) في اللاسة أنسب لباس
للرأس، يقي الفلاحين برد الشتاء.
٥٧٤ أما في البيت، فقد كان جد جعفر الراوي يرتدي جلبابًا أبيض، فضفاضًا،
ويتلفع بشملة مزركشة، ويغطي الرأس بطاقية بيضاء.
٥٧٥ وقد ظهرت البيجاما في أعوام الحرب العالمية الأولى، ارتداها أبناء
الطبقتين الوسطى والثرية. حلَّت محل الرداء الطويل الفضفاض الذي «يُرتدى في المنزل،
وفي الطرقات، وفي الجوامع والمجتمعات.»
٥٧٦ وكان البعض يرتدي البيجاما ويجلس على كرسي فوق الرصيف أمام منزله، بيده
خرطوم يرش به المياه لتسكين التراب وتلطيف الجو «وكنت أظن أن أصحابنا يريدون أن
يظهروا للملأ بلباسهم الجديد، غير متهيِّبين النظرات الشذرة التي كان يرمقها بها
أنصار القديم ودعاته، أو إن شئت فقل إنهم كانوا بمظهرهم هذا يقومون بعمل
البروباجندا اللازمة لدعوتهم الجديدة.»
٥٧٧
أما الطبقات الدنيا، فقد كان الجلباب هو ما يرتديه أبناؤها في داخل البيت، وفي
خارجه. وحين كان مبروك يذهب إلى بيت سنية، كان يرتدي قفطان الطلعة، ثوبه النظيف
الوحيد الذي يدَّخره لأيام الأعياد والمواسم والموالد.
٥٧٨ وكان عبد الحميد السويفي أول فرد في عائلته يقدِم على خلع الجلابية،
ويرتدي البنطلون والقميص بدلًا منها.
٥٧٩ وأما الفلاحون فلم يغيِّروا زيهم التقليدي منذ القديم: الجلابية
الزرقاء، والقلة كانت ترتدي الزعبوط، والنساء يلبسن الجلابيب السود الطويلة،
ويغطِّين الرأس — عند الخروج — بمنديل، والوجه بطرحة، وربما تحلَّين بحلقٍ أو خلخال أو
أسورة.
٥٨٠ وكان البرقع الأبيض يحجب معظم وجوه سيدات الطبقة الوسطى وما فوقها،
٥٨١ وثمة مَن لم يرتدِ في حياته جلبابًا، فهو دائمًا بلباسه وفانلته، وفوق
الفانلة صديري لم يحل لونه فقط، وإنما بهت لونه اللامع تمامًا، وبقي على البطانة
الدمور، والفانلة متآكلة مثقوبة في أكثر من موضع، واللباس به رقعة غير جيدة الصنع،
فقد صنعتها له أمه، وأمه نظرها ضعيف، وتزهق من لضم الإبرة.
٥٨٢
لم تكن النساء يعرفن الموضة كما عرفها نساء الأجيال التالية، وكانت أزياء السيدات
تتباين بين الملاية اللف المنقرشة والحَبَرة الكريشة أو الأبلسيه والقبعات من مختلف الأشكال.
٥٨٣ كانت الخياطات قلة، والثياب — في الأغلب — تفصَّل وتخاط في البيوت،
بواسطة نساء البيت أنفسهن، لا لعوزٍ مادي، وإنما لأن هذا كان مألوفًا.
٥٨٤ «وكانت الثياب أشبه على العموم، مع اختلاف في الألوان والتفصيل، بثياب
الراهبات والممرضات، بسيطة فضفاضة، إلا في الندرة القليلة.»
٥٨٥ وكانت نساء الطبقة العالية يرتدين زيًّا اسمه «الشنتيان»، وهو سروال
واسع جدًّا، يضيق عند القدمين، بحيث يتيح للمرأة أن تجلس على «الشلتة»، وفوق
الشنتيان «السلطة» أو صدار بدون أكمام، ثم «اليلك» وهو رداء طويل من الحرير المزركش
في الأغلب. وربما تألفت ملابس سيدات الطبقة الثرية في داخل البيوت، من قميص وشنتيان
وياك وحزام وسروال ومعطف وقلنسوة وطرحة، أو منديل، ومزود، وبابوج. أما القميص فهو
من حرير الموسلين، أو غيره من الأنسجة الثمينة الأخرى، ولونه أبيض أو وردي أو أصفر
أو سماوي أو بنفسجي أو أسود. وهو واسع عريض الأكمام، يكاد يصل إلى الركبة، فيغطِّي
الجزء الأعلى من السروال الذي يُتخذ من التيل الرقيق، أو من حرير الموسلين. أما
الشنتيان فهو سروال يُلَف عليه حزام، ويُربَط بالخصر بواسطة تكة، ويُربط بالفخذين، ويسبل
ما بقي منه على القدمين. وأما اليلك فهو ثوب يربط عليه الحزام، ويسدل إلى القدمين.
وهو مفتوح عند النحر، وله أزرار مما يلي النحر إلى ما تحت الحزام، وله فتحتان عن
اليمين والشمال تبتدئان مما يلي الخصر إلى أسفل اليلك. وكانت المرأة إن استقبلت
الضيوف، تضع على رأسها شالًا.
٥٨٦
وبقدر اعتناء النساء بزينتهن داخل البيوت، فإن ثيابهن — خارج البيوت — كانت تستر
كل زينة، فهي إذا خرجت للزيارة، ترتدي «الفراجية» ذات الأكمام الواسعة المفتوحة،
وتضع فوق رأسها «خوطوز» أو «عزيزية»، ومن تحته «اليشمك» ذي النسيج الشفاف، والذي لا
تبدو منه سوى العينين فقط. وكانت العربات المغلقة هي وسيلة الانتقال لنساء تلك
الطبقة. وكانت نساء الطبقة الوسطى يرتدين «الشنتيان» و«السلطة» أيضًا، لكن من نسيج
أقل جودة. وعند الخروج يرتدين «السبلة»، وهي قميص من الحرير دون أكمام، وفوقها
«حبرة» تغطي الجسم من الرأس إلى القدم، وتُصنَع — غالبًا — من الحرير الأسود، فضلًا
عن «البرقع» الأبيض، أو الحَبَرة، للوجه، وهي حَبَرة سوداء إذا كانت المرأة متزوجة،
وبيضاء أو شال أبيض إذا كانت عذراء.
٥٨٧ والمنديل المطرز بإطارٍ من «الأوية» كغطاء للرأس تحت «الحَبَرة»، أما
الحذاء فهو خفٌّ أصفر من قطعتين، واحدة تغطِّي القدم، والأخرى تلبس داخل الأولى،
وتغطي الساق. كان أشق ما تعانيه المرأة — في استعدادها للخروج، تمشيط شعرها، وعقصه
بكمية هائلة من المشابك والدبابيس. فقد كانت الموضة هي أن تطيل المرأة شعرها حتى
الخصر، ثم ترتدي الفراجية على جسدها، والعزيزية على رأسها، واليشمك على وجهها،
يعلوه في المنتصف ثقبان تطل منهما عينا المرأة، ثم تضع فوق ذلك كله الحَبَرة التي
تغطِّي جسمها من الرأس إلى كعب القدمين، ويغطي رأسها منديل كغطاء تحت الحَبَرة، وبرقع
يغطي الوجه. أما الحذاء فهو من قطعتين، واحدة تغطي القدم، والثانية توضع داخل
الأولى وتغطي الساق، وربما وضعت المرأة في أعلى قدمها خلخالًا. فإذا انتهت المرأة
من وضع ذلك كله على جسدها، خرجت إلى الطريق تركب حمارًا، وأمامها خادم يقودها إلى
مكان زيارتها. كانت الحمير هي وسيلة المواصلات لنساء تلك الطبقة، بحيث يوضع فوق
«البردعة» سجادة، وتجلس السيدة القرفصاء، ويتولى الخادم قيادة الحمار.
٥٨٨ أما الشعر فكان طويلًا، يصل إلى الخصر، ثم يمشَّط ويفتل في ضفائر،
ويتماسك بكومة من الدبابيس والمشابك. وطبيعي أن هذه الملابس كانت مقصورة على
الطبقات الميسورة. وإلى أوائل القرن العشرين، كانت فتيات الطبقة الراقية يرتدين
خمارًا أسود شفافًا، أو برقعًا خفيفًا يُظهِر ملامح الوجه.
٥٨٩ وكما يقول أحمد شفيق في مذكراته، فإن أزياء الطبقة الدنيا وعاداتها لم
تتغيَّر عما كانت عليه إلا قليلًا.
٥٩٠ لم تكن المرأة تقوى على تكاليف «التقاليد» — والتعبير لشابرول — فهي
تخرج سافرة الوجه لأنها كانت تستر — بالكاد — بقية جسمها.
٥٩١ كانت النساء يرتدين الملاءة اللف، ثم أصبحن يخرجن بالفساتين نفسها التي
يرتدينها في البيت، لكن على نحوٍ أجمل. ثمة تشابه واضح بين ملابس الفلاحات والملابس
المصرية القديمة، في الزخرفة على الصدر والأكمام ونهاية الثوب. كان زي نساء الريف
في القرن التاسع عشر، قميصًا فضفاضًا أزرق، أكمامه واسعة، وتحته قميص أبيض وسروال،
ولا تلبس الحذاء، وتتزين بوشم شفتها السفلى أو ذقنها أو ساعديها أو يديها، أو ذلك
جميعًا، وربما تزيَّنت بتكحيل عينيها، وقد تُخضِّب يديها وقدميها بالحناء.
٥٩٢ وكان الزي الغالب للنسوة في الصعيد، هو المئزر الأزرق الداكن، إلى جانب
الخمار الكثيف على الوجه.
٥٩٣ لم تكن المرأة في الصعيد تخرج في غير الزي الأسود الذي يحيط بكل
جسدها، لا تكاد تظهر منه إلا حدقات الأعين اللامعة، لا يُستثنى من ذلك غير بنات
المدارس ونساء الموظفين الحضريات.
٥٩٤ وكان أشد ما لفت نظر الرجل، ذلك اللف المغري الفاتن، بدثارٍ حريري أسود
من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وعلى وجهها برقع مخرَّم ذو قصبات ذهبية رقيقة «الفتاة
المصرية الصميمة، بنت البلد الأصيلة، التي لم يفسد جمالها، ولم يقلل من روعتها، ولم
يبدد من سحرها هذا السفور الأنيق الذي فشا في الشرق كله، فجعل كلامه فاترًا، وقلَّل
من روعته، وبدد من سحره كثيرًا.»
٥٩٥
وإلى الأربعينيات من القرن العشرين، كانت حميدة ترتدي فستانًا من الدمور، وملاءة
قديمة باهتة، وشبشبًا رقَّ نعلاه.
٥٩٦ وزي الغجرية جلباب أسود، وتتمنطق بزنار، وتتلفع بشالٍ أسود، وبرقع
فضفاض، تطل من فوق حافته العينان، أما القدمان فحافيتان.
٥٩٧
وأبناء الطبقات الشعبية يفضِّلون النقود الذهبية، ولا يثقون كثيرًا في الأوراق
المالية، لاعتقادهم أن قيمة الذهب باقية، ويمكن حفظه وإخفاؤه، أما النقود فقيمتها
متغيرة، ويمكن أن تتعرض للبلى.
٥٩٨ وكانت أساور سناء (بداية ونهاية) الذهبية، وسيلة حسن ليعين أخاه حسين
في إعداد نفسه للسفر إلى طنطا، حيث وظيفته الجديدة.
٥٩٩
ثمة رأي أنه من الخطأ تصوُّر أن الملابس مجرد تعبير عن احتياجات الجسد في ضوء
المؤثرات الطبيعية، كالحر والبرد والشمس والغبار … إلخ، لكنها — في الوقت نفسه —
تعبير عن هوية التفكير والانتماء والتوجهات. فمرتدي الجلباب يختلف في تفكيره
وانتمائه وتوجُّهه عن مرتدي الأفرول أو البدلة أو الجبة (أشير إلى ما قاله لي الرجل
في روايتي «شمس مسقط الباردة» عن تأثير ارتداء الدشداشة على لابسيها!). أما الحكيم
فهو يرى أن الأزياء لا تتصل بالشخصية القومية، ومن ثَم فإن الأوفق أن نرتدي الزي
الأوروبي. إن الرداء الخارجي لا علاقة له بالشخصية ولا بالقومية، وإلا فإن
الياباني والتركي والإيراني والصيني، هم بلا شخصية ولا قومية، لأنهم يرتدون
القبعات، أو أن لورنس وفيلبي فقدا شخصيتهما الإنجليزية لأنهما لبسا أردية البدو.
٦٠٠ وقد كتب الفنان عبد الوارث عسر قصيدة طريفة عن فوضى الأزياء في
حياتنا:
إذا الشعب لم يلبس طرازًا مشكلًا
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم تجمعه في الزي وحدة
فليس له بين الشعوب سبيل
تعيِّرنا أنَّا طويل كمامنا
فقلت لها إن الكمام تطول
لبسنا هدومًا كرنفالًا عجيبة
لكل فريق أصنف وشكول
فمن عممٍ حمرٍ وصفر كبيرة
وخضر لها فوق الكتاف ذيول
ومن لُبد مثل الطواجن جنبها
طرابيش عرب زرهن طويل
وتلقى فريقًا في الزعابيط غاطسًا
كأن الفتى منهم لعمرك فيل
وقومًا قفاطين الحرير عليهمو
لها غرر معلومة وحجول
لنا عبط يرثي لنا من يشوفه
سحيق يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله في الهلس ثم سما به
إلى المعر فرع لا ينال مهول
نجادل في لبس البرانيط بينما
ننام وللدهر المعفرت غول
تكاد ترى في مصر ستين أمة
وما نحن إلا عصبة وقبيل
فما بال أمريكا وفيها خلائق
فرنج وزنج أسود ومغول
بنوا من خليط الأرض في النجم واحدة
لها في سيوف الفاتحين فلول
ثمة معالم أخرى مهمة في عادات وتقاليد المجتمع المصري، أهمها ما ارتبط بالعقيدة
الدينية، شهر رمضان — على سبيل المثال — الذي يظل موعد بدئه غير محدد، حتى تثبت
الرؤية: بكره صيام؟ لسة مقالوش!
٦٠١ رمضان هو شهر جمع الشمل، تجتمع الأسر حول مائدة الإفطار، يتشاركون —
بلذة — في ترقب المدفع واستطعام الفول المدمس والكنافة والقطايف وقمر الدين
والمكسرات، أو النقل.
٦٠٢ والكعك يأتي في آخر رمضان، وكذلك الثياب الجديدة.
٦٠٣ وتقول الأم: إنه شهر له حقوقه، كما له واجباته.
٦٠٤ ويقول أحمد عاكف: «حسبنا قليلًا من الصنوبر والزبيب، لضرورتهما في
الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، ولنقنع من الكنافة بمرة واحدة، ومن
القطائف — وهذه لا تقلى في السمن — بمرتين، وليس هذا عليك بكثير.»
٦٠٥
ويستعد الناس في الريف والأحياء الشعبية بتنظيف الطرقات أمام البيوت، وشراء
فوانيس للصغار، وتوفير البن والسكر والشاي وغيرها من لوازم رمضان. وتمتلئ الأجولة
أمام الدكاكين بالفُطرة والياميش (الياميش كلمة تركية معناها الفواكه المجففة).
٦٠٦ وتنشغل الأسر — في الأيام السابقة لرمضان — بتهيئة المطبخ، وتبييض
الأواني، وتخزين ما تيسَّر من النقل والسكر والبصل والتوابل.
٦٠٧
الدعاء الذي يستقبل به المسلمون كل شهر عربي جديد هو: «هل هلالك … شهر مبارك …
على أمة الإسلام.»
٦٠٨ وفي اليوم التاسع والعشرين من شعبان، يصعد أحد قضاة الشرع إلى مئذنة
الجامع الكبير ومعه مرافِقان، وينتظر غروب الشمس، حتى يظهر الهلال أو لا يظهر. فإن
ظهر الهلال أوقد القاضي مصباحًا معلقًا أعلى المئذنة، فيعرف الجميع أن اليوم التالي
هو أول أيام شهر الصوم. ويبدأ موكب الرؤية، يشارك فيه فرسان الشرطة وأصحاب الحرف
ومشايخ الطرق الصوفية، وتعلو البيارق والأعلام والزغاريد والأغنيات، ويُوزَّع الشربات
والحلوى، وتوقد المصابيح على واجهات المنازل ومآذن المساجد، وفي نواصي الشارع
والحارات، وتقام الأذكار في الساحة المقابلة لجامع الإمام الحسين، وتُلقى خطبة في
فضل شهر رمضان. الأمر نفسه بالنسبة لساحة جامع السيدة زينب. وتطوف بشوارع القرية —
أو الحي — جماعات مطبِّلة صائحة: «صيام صيام … كما أمر قاضي الإسلام.»
٦٠٩
رمضان هو شهر الليالي الساحرة، والزيارات الممتعة، حيث تُدار الأحاديث على قزقزة
اللب والجوز والفستق.
٦١٠ وهو يقترن بالألفة العائلية.
٦١١ وقد طالما تحدث كمال خليل عن ليالي رمضان في مطالع القرن «قبل أن تغمر
موجة الاستهتار التقاليد الدينية المؤثلة.»
٦١٢ وكيف كانت بيوت السراة تظل مفتوحة طول الليل، يتلو فيها مشاهير القرَّاء
آيات القرآن الكريم حتى مطلع الفجر.
٦١٣
وقيل إنه كان محرَّمًا خروج السيدات — أيام الفاطميين — ليلًا أو نهارًا، فيما عدا
ليالي رمضان التي كان يُسمَح للنساء فيها بالخروج لزيارة الآباء أو الأعمام أو
الأخوال، على أن يتقدم كل سيدة خادم، يحمل فانوسًا تضيئه شمعة. وحمل الرجال
الفوانيس في خروجهم من البيوت لتبادل الزيارات، فلم تكن شوارع القاهرة قد عرفت
الكهرباء بعد، فلما أُدخلت القناديل (اللمبات) أنير «الفضاء بنورٍ مستعار، يأخذ الأبصار.»
٦١٤ ثم لحق التطور كل شيء، وإن ظل الفانوس معلَمًا مهمًّا من معالم رمضان،
بل إنه يقتصر على شهر الصوم. كانت ليالي رمضان فرصة جميلة للصغار من الجنسين،
يجتمعون في الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس، وهم يلوحون بها في
أيديهم، ويترنمون بأناشيد رمضان.
٦١٥ إنهم يهزُّون الفوانيس الصفيح ذات الواجهات الزجاجية الملونة، وأضواء
الشموع تتراقص على أرضية الطريق وسط الظلام، وهم يرددون الأغنيات التي يحفظونها جيدًا.
٦١٦ وكانت «نوبية» تحمل الفانوس في ليالي رمضان، تمر به على بنات القرية
وصبيانها، يغنُّون على أبواب بيوت السراة، طلبًا للعادة، وهي بعض «النقل» أو
الفطائر أو قطع صغيرة من النقود. وتخلو نوبية في نهاية الجولة إلى أصحابها، فتقسم
ما حصلوا عليه من «العادة» فلا تحابي إلا نفسها، باعتبار أنها هي التي تحمل
الفانوس، وتقود الجماعة في السير والغناء.
٦١٧ إنهم يلوحون بالفوانيس الصغيرة، يسألون المارة وأصحاب البيوت والدكاكين
«العادة» من النِّكل والملاليم،
٦١٨ وهم يرددون أغنية رمضان:
رحت يا شعبان … جيت يا رمضان،
بنت السلطان … لابسه قفطان.
وحوي يا وحوي … إياحه.
وهذه الأغنية ترجع في نشأتها إلى مصر القديمة، حين كان المصريون يستقبلون أهلَّة
الأشهر القمرية بترديد الأغنيات الشعبية على ضفاف الوادي. ولفظ «وحوي» يُفسَّر بأنه
كلمة مصرية قديمة من حوى، يحوي، أي عمل كما يعمل الحواة. أما «أيوحة» فهي — في بعض
الاجتهادات — مأخوذة من «أيوح»، ومعناها في اللغة المصرية «أبوح». ويصف طه حسين
لحظات الإفطار: «فإذا دنا الغروب، وخفقت القلوب، وأصغت الآذان لاستماع الأذان،
وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقًا تتقلب، وأحداقًا تتقلب بين أطباق
مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه، وتسحر لُبَّه بما مُلئت من فاكهة، وأترعت
من شراب. الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى
الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواهًا تلتقم، وحلوقًا تلتهم، وألوانًا تبيد، وبطونًا
تستزيد، ولا تزال الصحائف ترُفع وتوضع، والأيدي تذهب وتعود، وتدعو الأجواف: قدني …
قدني … وتصيح البطون: قطني … قطني.»
٦١٩ ومع تعدُّد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان، فإن الفول المدمس هو
الصنف الأهم، والأكثر ابتعاثًا للشهية. والمتوارث عن الفول أنه طعام قوي، وكما يقول
صاحب «العقد الفريد» فإن «كل ما غلظ من الأطعمة إذا انهضم غذَّى غذاء كثيرًا.»
ويلحظ الفنان أن رمضان — شهر الصوم — يأكل فيه الناس أكثر مما يأكلون في أي شهر آخر،
٦٢٠ «هو شهر — كما يقال — يحب الأكل.»
٦٢١
والمسحراتي مظهر رمضاني، يحمل طبلته الكبيرة، يعلق حاملها بكتفه، تستقر على بطنه،
يدق عليها بالعصا الجريد دقات منتظمة. ترافقها دعوات مغنَّاة إلى الاستيقاظ، تحدد
أصحابها بالاسم.
٦٢٢ ويظل المسحراتي يطوف بالشوارع والحواري والأزقة، وبالقرى، قبل موعد
الإمساك، ينقر طبلته، ويوقظ النائمين بالمناداة عليهم.
٦٢٣ وفي صبيحة العيد، يحمل المسحراتي كيسًا كبيرًا يجمع فيه ما يهديه له الناس.
٦٢٤ وكان المسحراتي — قديمًا — يعيَّن من قِبَل المحتسب أو شيخ الحي، ثم تطوع
الكثيرون لأداء هذه المهمة، مقابل هبات مادية أو عينية يمنحها أهل الحي، هؤلاء
الذين ظل المسحراتي يوقظهم طيلة أيام شهر الصوم. وللمسحراتي قدرة عجيبة في معرفة
البيوت وأسماء سكانها، وسجعاته معروفة، متكررة، لا تتغير: يا سيد فلان يا أصيل
الجدود … يا للي العطا طبعك وأصلك يجود. وإذا كان المسحراتي ينادي على أبناء البيت
واحدًا واحدًا، ليتناولوا السحور، فإنه — في الصعيد — يركز نداءه على ربة البيت:
اللي حداها طبيخ تسخنه … واللي حداها عيش تقمَّره … دا الفجر في إيدي حافلته.
ويستعد نساء البيت لعيد الفطر بإعداد الكعك: الطبلية المستديرة في منتصف المطبخ،
أو في الصالة، حولها شلت، أو مقاعد منخفضة، وأيدي السيدات والبنات مشغولة بالأواني
والمناقيش وتحضير الصاجات، ووضعها — بعد امتلائها — فوق بعضها البعض، ليحملها
الأولاد إلى الفرن.
٦٢٥ تنشغل النساء بصنع الكعك، يخلقن من العجين كهيئة العرائس والحيوان والطير.
٦٢٦ وثمة الكعك المرشوش بالسكر، والمحشو باللبن أو العجوة، و«الغريِّبة»
الشديدة النعومة، تتوسط كل واحدة حبَّة قرنفل، وأشكال متنوعة من البسكويت.
٦٢٧ وأحيانًا، كان صنع الكعك يحتاج إلى أسبوع أو أكثر، تجتمع النسوة في دار
واحدة منهن، يصنعن لها كحكها كله، في اليوم التالي يصنعن الكعك لواحدة ثانية، ثم
ثالثة، حتى يأتي يوم العيد.
٦٢٨ وتقدم — في آخر أيام رمضان — صحاف السمك التقليدي.
٦٢٩ تقول الأم: «والعيد عيد الناس جميعًا، ألم ترَ إلى أبيك كيف جهَّز
نفسه بعباءة جديدة يصلي بها صلاة العيد؟ وكيف ابتعت بدلة وطربوشًا وحذاء مباركة
عليك باسم الرحمن؟ أما سروري أنا بالعيد، ففي العجن والنقش ورشِّ السكر والحشو بالعجمية.»
٦٣٠ وإفطار العيد يتكوَّن — في الأغلب — من كعك وبسكويت وغريبة وحليب، أو
شاي بالحليب.
٦٣١
وثمة خاصية تتسم بها ليالي رمضان والأعياد؛ فالأغنياء يفتحون أبواب سراياتهم
للجيران من الفقراء، يجلسون في الحديقة، ويأخذون حظوظهم من اللحوم والكعك، ويستمعون
لتلاوة القرآن من كبار القراء.
٦٣٢ ولا شك أن تلك الليالي تجسيد للتكافل في الحياة المصرية. ومن صور
التكافل أيضًا، تكوين جمعية يتسلمها — أول كل شهر — أحق الجميع بالحصول عليها.
٦٣٣ وقبل زفاف العروسَين، تساعد الجارات في كنس البيت، ومسح البلاط، وتجميل
المكان ما أمكن.
٦٣٤ ومصاريف الجنازة يتقاسم فيها جميع أبناء القرية، حتى لا يشق الأمر على
أهل الميت.
٦٣٥ وعندما تنكسر رجل الجاموسة، يقول أحمد بدوي: «الجاموسة دي تندبح وتتفرق
علينا، وكل واحد يدفع اللي ييجي منه، نجمِّد حق جاموسة سليمة، يتفرق علينا لحمها وهي
سليمة.»
٦٣٦ إنه الكرم المصري «الكرم الطبيعي غير المفتعل، كرم الفقير يجود
بالقلَّة حتى يصير معدمًا.»
٦٣٧
وإذا كانت وقفة عيد الفطر تعني الوقوف لرؤية هلال رمضان، فإن وقفة عيد الأضحى
تطلق على اليوم الذي يسبق أيام العيد، يوم الوقوف في عرفات.
كانت الرحلة إلى الحج تختلف عنها في زماننا الحالي؛ كانت رحلة شاقة تمامًا،
محفوفة بالمخاطر والأهوال (أذكر في قراءات طفولتي التي تنتمي إلى أربعينيات القرن
العشرين، شكاوى الحجاج المصريين من هجمات الوهابيين على قوافلهم للسرقة والسلب،
وكانوا يشددون على وجوب حمايتهم بحراسات مسلحة). كان الكثيرون يذهبون إلى الحجاز
لأداء فريضة الحج على الجِمال، وهو ما فعلته الجدة حين خرجت من البلد بعد العيد
الصغير بيومين، ووصلت إلى الكعبة قبل العيد الكبير بأسبوع.
٦٣٨ وكان الإعداد لرحلة الحج يستغرق العام بأكمله، فإذا اقترب موعد السفر،
ارتفعت أصوات النساء — في القرى بخاصة — بغناء يُسمَّى «التروية»، يغبط الحاج على قرب
زيارته للديار المقدسة، ويدعو له بالسلامة في الحل والترحال. وكان الصوفية يخرجون —
قبل بدء سفر الحجاج — في مواكب مشهودة، فتُدَّق الطبول والدفوف، وتُردَّد الأناشيد
والأغنيات والترانيم والقصائد التي تتغنى بوصف الكعبة والحرم النبوي والبقاع
المقدسة عمومًا. وكان ذلك يُسمَّى «التحنين» لأنه يعرض لما في النفوس من حنين إلى الحج
والزيارة. ويعلن الحاج العائد من الأراضي الحجازية اعتزازه بأنه صلى في الحرم
النبوي، ولمس شباك قبر الرسول
ﷺ.
٦٣٩ كما يحضر معه صفائح مغلقة ومبرشمة تحوي ماء زمزم.
٦٤٠ والحج سبع مرات أمنية غالية عند الكثيرين.
٦٤١
وفي صباح عيد الأضحى، يتجوَّل الجزَّارون في الشوارع، يحملون السكاكين، والنداء
يسبقهم: جزار،
٦٤٢ أو: جزار نظيف، أو جلدة للبيع، فروة للبيع،
٦٤٣ وفروة الخروف — أحيانًا — هي المقابل الذي يتقاضاه الجزار، بالإضافة — طبعًا — إلى
المقابل المادي.
٦٤٤ وعقب ذبح الضحية، يبدأ سباق إلى شيِّ اللحوم والتهامها، فضلًا عن توزيع
الصدقات على بعض الفقراء كالكنَّاس وصبي الفران وغيرهما.
٦٤٥ وعادة، فإن الميسورين يضحون — في كل عيد — بكبشٍ أو أكثر، يأكلون منه،
ويوزعون معظمه على الفقراء.
٦٤٦ لذلك فإن مائدة عيد الأضحى تحفل بالمشوي والمسلوق والمحمر والكفتة
والكستليتة والممبار والموزة.
٦٤٧ لذلك يسمي البعض عيد الأضحى «عيد المرق».
٦٤٨
وقبيل العيد، وفي أيامه الأولى، تمتلئ محطات القطارات والأوتوبيسات بالموظفين
والعمال والطلبة الغرباء عن العاصمة، في طريقهم إلى قضاء الإجازة مع ذويهم في مدن
الصعيد والوجه البحري وقُراه.
٦٤٩ وفي ليلة العيد تُفتَح أبواب السماء، وتستجاب فيها الدعوات.
٦٥٠
وحين شدَّدت أم أحمد عاكف على ابنها الأكبر ألَّا ينسى العيدية، عيديتها، فقد كانت
تحقق الاستمرارية لتقليدٍ مصري قديم، يعود إلى مئات السنين في تاريخ مصر الإسلامية.
العادة أن تُقدَّم العيدية للصغار كي ينفقوا منها في أيام العيد، لكن العيدية قد تُهدى
للزوجة، أو للأم، تأكيدًا على الفرحة بمقدم العيد. وكانت الأم قد تعودت أن يعطيها
كل واحد في الأسرة نصف جنيه عيدي، وكانت تفرح بعيديتها فرح الأطفال، وتنفقها كما
ينفقها الأطفال، فتشتري ما تشتهيه نفسها من الشوكولاتة والملبَّس.
٦٥١
إن روح العيد تسرى في كل شيء، فهي تُرى في الألوان، وتُسمع في الجو، وتُشم مع
الهواء، والناس يملئون الشوارع بثيابهم الجديدة،
٦٥٢ والأطفال يعدُون هنا وهناك بثيابهم المزركشة ذوات الألوان الفاقعة،
تتطاير وراءها الضفائر والشرائط، وتعلو الزمارات، ويُفرقَع البمب، وتلوك الأفواه
الحلوى والنعناع، وتتردد الأناشيد والأغنيات، وتكتظ المقاهي بأهل المدن والريف … إلخ،
٦٥٣ وصواريخ العيد والبمب والبالونات الملونة،
٦٥٤ والأضواء الملونة والغناء في ساحة العيد، يتخللها زعيق العيال والنفخ
في المزامير وضرب الطبول ورقص الشباب.
٦٥٥ كما تمتلئ عربات الكارو بالغلمان والبنات، يغنُّون ويرقصون ويطبِّلون.
٦٥٦ وقصة «العيد» تأكيد للمعنى بأننا نحن الذين نصنع العيد، تصنعه ظروفنا
المادية، وحالتنا النفسية والصحية، فإذا كان ذلك كله ناقصًا أو مهتزًّا أو غير
موجود، فإننا نتفهم قول الخالة بحسرة بالغة: «بكرة العيد … هه … العيد؟! … بكرة يوم
القيامة!»
وربما صام المرء المسيحي يومَي الأربعاء والجمعة.
٦٥٧ ولعيد القيامة عند المسيحيين خبز خاص معجون بالبيض.
٦٥٨
وشم النسيم، أو عيد الربيع، هو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار، وقت حلول
الشمس في برج الحمل، ويقع في الخامس والعشرين من شهر فارمنهات الفرعوني (أي برمهات
في التقويم القبطي). وكانوا يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق
العالم، وأطلقوا عليه اسم «عيد شم». أما عيد الخلق وبعث الحياة، وكما يقول سيد
كريم، فقد بدأ احتفال قدماء المصريين بعيد شم النسيم رسميًّا في ٢٧٠٠ ق. م، وإن
رجحت روايات أخرى أنه كان معروفًا في عصور ما قبل الأسرات. ولعل احتفالاتنا الحالية
بعيد شم النسيم امتداد لتلك الاحتفالات القديمة بقدوم الربيع. يتبدَّى ذلك في تعليق
البصل فوق الأسرَّة، أو تحت الوسائد، فإذا أتى الصباح، فإننا نكسره ونشمُّه، ثم
نلقي به في الطريق. وفي الريف، يُعلَّق البصل على أبواب الدُّور، عند قدوم شم النسيم.
وكان المصريون القدامى يعلقون البصل في مناسبة قدوم الربيع حول رقابهم، وكانوا
يعلقونه أيضًا على أبواب البيوت. وقد نفرك أنوف الضيوف بالبصل، باعتباره رمزًا
للبعث يغوص في الأرض، وينمو صاعدًا نحو النور، إنه كنسمة الصباح في أيام الربيع.
٦٥٩ وكما نعلم، فإن البصل عنصر رئيس مع عناصر أخرى، مثل البيض والسمك
البوري المملح.
٦٦٠ أما عادة أكل البيض، فهو ما كان يفعله المصريون في أحد أعياد الإله
«تحوت» إله العلم والمعرفة. أما أكل الفسيخ، فقد ذكر هيرودوت — عن زيارته لمصر (٤٥٠ق.
م.) أن المصريين يأكلون السمك المجفف، يجففون بعضه في الشمس، ويؤكل نيئًا، ويوضع
بعضه في الملح لمدة معينة، وهو الفسيخ. حتى ركوب القوارب والنزهة في النيل كان صورة
الاحتفالات بعيد الآلهة «باستت» — أحد آلهة منطقة «تل بسطا» الحالية في مدخل
الزقازيق، في كل قارب مجموعة من الرجال والنساء، يضربون على الدفوف، ويصفق الرجال،
وترقص النساء. واحتفالات شم النسيم ليست مقصورة على المدينة، بل لعلها في القرية
تأخذ صورة أعمق، فالكل يحتفل بها في طقوس موحدة، والفقهاء يوزعون على الأسر تعاويذ
يبتلعونها، فتحدث تأثيرها المؤكد في أجسامهم، بحيث لا يخشون أي شر أو أذى.
٦٦١ في صبيحة ذلك اليوم، يطوف الشبان في القرى بدور أصحابهم، يوقظونهم من
نومهم، ويدلِّكون أنوفهم بالبصل الأخضر، كما تسير مواكب الأطفال ذوي الجلابيب الواسعة
الملونة، يقرعون الطبول والصفائح، ويدعون النائمين إلى الاستيقاظ.
٦٦٢ وأصناف الطعام الخمسة الرئيسة التي نحرص على تناولها في شم النسيم هي
نفسها التي كانت تتصدر موائد الفراعنة: البيض والفسيخ والبصل والخس والملانة. وقد
أطلق عليها المصريون القدامى اسم «أصابع الكف المقدس الخمسة»، نسبة إلى الكف «رمز
العطاء الإلهي، والأصابع الخمسة المختلفة الشكل المرتبطة ببعضها.» ويذهب الناس إلى
الحدائق، يفرشون الملاءات تحت الأشجار الوارفة، عليها حلل المحشي وطواجن الأرز
المعمر، ولحم الخروف المشوح، ووابور البريموس، وبرطمانات الترمس، وأطباق الفسيخ
المغطى بفوط محلاوي.
٦٦٣ أما لماذا يقبل الناس في عيد شم النسيم على أكل الأسماك المملحة والبصل
الأخضر، فلعل مبعث ذلك شعورهم بأن أجسامهم تحتاج في بداية موسم الصيف إلى ما قد
يعوِّض الجسم من الأملاح التي لا بد سيفقدها بتأثير حرارة الصيف، وإلى مطهِّر قوي
ومنبِّه، هو البصل.
٦٦٤ وعمومًا فإن الحدائق العامة والشوارع تمتلئ في شم النسيم بأوراق الخس
والملانة وفروع البصل وبقايا الرنجة والسردين وقشور البصل.
٦٦٥
أما الأجانب من الأروام والإيطاليين وغيرهم، فقد كانوا يودعون العام المنقضي
بإلقاء الزجاجات الفارغة والقلل الفخار والأطباق الصيني المشروخة والأصص الفارغة في
الطريق، وهم يصيحون بالفرحة.
٦٦٦
ومن بين ألعاب الأغنياء، مضاربة الديكة، ومناطحة الكباش.
٦٦٧ أما لعبة الشايب في الكوتشينة، فإن من يضبط في يديه الشايب يستحق
العقاب الشديد، تصدر ضده أحكام، ولا بد من تنفيذها.
٦٦٨
•••
المناسبات الدينية وحدها — في تقدير الفنان — هي التي يؤذن فيها للصغار بالسهر
خارج البيوت.
٦٦٩ لكن السهر — واللعب بالتالي — في الحقيقة لا يقتصر على المناسبات
الدينية، وإنما يشمل ليالي الأفراح وغيرها من المناسبات التي يضاء فيها ليل القرية.
وثمة ألعاب يمارسها الأطفال في المدينة والقرية، في كل الأوقات التي تتاح لهم،
ومنها:
لعبة القطار: يصطف الأولاد صفًّا واحدًا، أولاد وبنات، كل واحد يمسك بذيل ثوب
الآخر، وهم يقلدون صوت القطار.
٦٧٠
الانتباه: طفل يجري على رجل واحدة، وآخر يجري أمامه في حدود مربع مرسوم على الأرض.
٦٧١
لعبة النحل: تضرب النحلة الأخرى، وتدور فوق الأرض، يرفها الولد على كفِّه بالإصبعين
الوسطى والسبابة، تدور النحلة فوق الكف.
٦٧٢ وربما اتخذ الأولاد من الجوارب القديمة، أو من بذر ثمر الدوم، كرة
صغيرة يتقاذفونها، أو يركلونها بأقدامهم.
٦٧٣
لعبة عريس وعروسة: تقول زقلوطة: يالله نلعب عريس وعروسة. يقول الراوي: لا، نلعب
في البيت عريس وعروسة. تقول: نلعب هنا يا بلاش — بلاش! لكنها أخذت تبوسه في خده،
وتفك أزرار بنطلونه، وتقول: يالله بوسني «فبوستها، وأخذت تحك فخذيها برجلي، وكانت
تصرخ، فقلت: ما لك يا زقلوطة؟ لكنها لم تتكلم، واتسعت عيناها ولمعتا، ثم أغمضتهما
فجأة. حين قامت من فوقي قالت: إوعى تقول لحد على اللي حصل وإلا هاضربك، ثم أعطتني
قرشًا وقبلتني.»
٦٧٤
وقد تعرَّض عثمان بيومي — وهو صبي — للكمة في ظهره حين ضُبط وصبية في مثل سنِّه
وهما يلعبان لعبة عريس وعروسة.
٦٧٥ وعندما أقدم الصغير على لعب «عريس وعروسة» فاجأه الشيخ راشد بعصاه، فشجَّ
رأسه، وأسال دمه، وهدَّده إذا حاول — مرة ثانية — أن يمارس مع البنات تلك اللعبة!
٦٧٦
ومن ألعاب الطفولة أيضًا: أولها سنُّو (بالكرة الشراب، وتُصنع من الجوارب القديمة
(نبيل راغب، سوق الجواري، مكتبة مصر، ١٨٨))، والحجلة، وصلَّح، ونطة الإنجليز، والاستغماية،
٦٧٧ وحاوريني يا طيطة، ويا عم يا جمال،
٦٧٨ وضربونا لما عمونا، وعسكر وحرامية، والحجر دقدق، وسرح، وعشرة وعشرين
٦٧٩ والطائرات الورقية، والجعران، والكازوزة، ونقي المشمش.
٦٨٠ ولعب البلي والنحل يمارسه الأطفال في الصيف.
٦٨١ وثمة — في القرى — ألعاب: عسكر وحرامية، المسلم والنصراني، السني أبو
دقن والفسدان أبو كرش.
٦٨٢
ومن أغنيات الأطفال:
ويستقبل الأطفال المطر بالغناء:
هوامش