مصر … كيف كانت تحيا؟

ثم يفرض السؤال نفسه: ماذا كانت عليه صورة الحياة في المجتمع المصري، في تلك الفترة التي تبدأ ببداية القرن العشرين، وتجد خصائصها وسِماتها تحولًا كبيرًا، أو طفيفًا، أو لا تجد تحولًا على الإطلاق بقيام ثورة ١٩١٩؟

حين بُعث المنيكلي باشا (حديث عيسى بن هشام) الذي مات في عهد الوالي محمد علي، من قبره في أوائل القرن العشرين، طلب أن يأتوه بفرسِه وسيفه، وأن يخبروه بكلمة «سر الليل» التي تفتح لهم أبواب القاهرة، وهي كلمة تصدر من القلعة في كل ليلة إلى الضابط، وإلى جميع «القرة قولات»، فلا يأذنون لأحدٍ بالسير ليلًا إلا إذا كان على علمٍ بها. والكلمة — بالطبع — تتغير كل ليلة. وكان ما ينتويه الباشا أن يعود إلى القلعة، فيلثم أذيال ولي النعم، ثم يذهب إلى بيته. وأخبره عيسى أن القلعة لم تَعُد قصرًا لولي النعم، وأن البيوت في مصر لم تَعُد تعرَّف بأسماء أصحابها، وإنما بأسماء شوارعها وأزقتها وأرقامها. ويتوضح لنا — من ثنايا حديث الباشا — أن القانون في عصره لم يكن له وجود، وأن الفلاح «شيء» أدنى لا قيمة له، ولا يصلحه إلا الضرب، وأن «القوَّاس» القديم كان هو البديل لبوليس اليوم،١ وأنه لم يكن ثمة نيابة ولا محامون، وإنما الأمر كله في يد قاضٍ من علية القوم يناقش ويفصل ويحكم، بل ولم تكن سوى المحاكم الشرعية التي اقتصر العمل فيها — فيما بعد — على الأحوال الشخصية.٢ وكان السجن عقاب الغوغاء من الناس والسفلة من العامة، أما عقاب الكبراء والأمراء — إن كان ثَم عقاب — فضرب الرقاب.٣
كان العلم — على حد تعبير الفنان — ما يزال يضرب في غياهب من الجهل،٤ ففي أواخر القرن التاسع عشر — على سبيل المثال — وبالتحديد في سنة ١٨٧٦م، قامت معركة عنيفة وطريفة، لمَّا كتب يعقوب صروف عن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وأنه «صار أشهر من نارٍ على علم، وأوضح من الصبح لذي عينين، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم.»٥ واستفز هذا الرأي بعض رجال الدين — أنطاكي وجبريل جبارة — وجدوا فيه معارضة لتعاليم الكتب السماوية، فكتبوا العديد من المقالات التي تؤكد — بالأدلة الدينية — ثبوت الأرض وعدم دورانها.٦ ولمَّا ظهرت العملة الورقية في أواخر القرن التاسع عشر، خافها الناس، ولم يتعاملوا بها، وتندَّرت الصحف عليها، وظل الناس — لسنوات — يحرصون على تغييرها بجنيهات ذهبية، وهي العملة الوحيدة التي كانوا يعرفونها.٧
أما البيوت، فقد كان أغلبها على النظام الذي فرضته طبيعة الحياة الأسرية؛ فالمشربيات هي وسيلة اتصال نساء البيت بالعالم الخارجي الذي يُتاح لهن رؤيته عبر أحداقها، دون أن يتمكَّن من رؤيتهن أحد. وحجرات النساء منفصلة تمامًا عن بقية حجرات البيت، وهي أثرٌ باقٍ لحياة الحريم، وفن العمارة بعامة يعكس وضع المرأة في المجتمع. وكانت الكلوبات هي وسيلة الإضاءة في الأحياء الوطنية، بينما السقَّا وسيلة توصيل المياه إلى البيوت؛ كان السقَّا يجلب المياه من الحنفية العمومية ويبيعها مقابل خمسة مليمات عن كل قِربة ماء يجلبها، وكان حسابه مع عميلاته بالأسبوع أو بنصف الشهر أو بالشهر، ولم يكن ما ينقله يتجاوز عشر قِرب في اليوم.٨ وحتى أواخر القرن التاسع عشر، كان لكل حارة خفير يُغلِق بوابتها متى حلَّ المساء، ويحمل هراوة بدلًا من البندقية.
وفضلًا عن أن القاهرة هي عاصمة البلاد، وأنها مركز رئيس للتجارة والمال والتسويق، فقد كان لموقعها أثرٌ كبيرٌ في تركُّز الصناعة فيها؛ وبالتالي شدة الهجرة الداخلية إليها؛ فهي تقع قريبًا من رأس الدلتا، وعند مدخل المناطق الممتدة طولًا على جانبَي النيل، والمكوِّنة للوجه القبلي. يقول مهفهف باشا للمدموازيل أوال في مسرحية فرح أنطون «مصر الجديدة»: «لا تتوهمي أنكِ وافدة على بلاد عارية من المحاسن والملاهي؛ فإن مصر بلد الأنس والطرب وكل ما فيها عجيب؛ ففيها الفنادق العظيمة والمباني الشامخة والطرق المتسعة، والمتنزهات الجميلة والملاعب العديدة، والقهاوي التي تغص بالناس في الصباح والمساء، والليالي الباردة في الصيف، الدافئة في الشتاء، والسكك الحديدية ومركبات الترام والسيارات، حتى الطيارات قد يؤتى بها إلينا أحيانًا.»٩ وكانت نداءات باعة الصحف لا تخرج — في الأغلب — عن: المؤيد والمقطم … الأهرام ومصر … الأربعة بقرش.

•••

كان الإيقاع في القاهرة — كما يقول سلامة موسى — شرقيًّا تقريبًا، وكما يقول الشيخ حسنين مخلوف في مذكراته؛ فقد كان عدد سكان القاهرة في ١٨٩٠م، ٣٧٤ ألفًا من المواطنين، بينهم حوالي ٣٢ ألفًا من الأجانب. وكان بالعاصمة ٣٧٩ مسجدًا (متى أطلق عليها مدينة الألف مئذنة؟) لم تكن شركة الماء قد مدَّت أنابيبها إلى البيوت، ثم وصلت المياه إلى أربعة آلاف بيت وعشرة جوامع فقط، أما بقية المنازل والمساجد، فظلت — لأعوام طويلة — تعتمد في مياهها على الآبار أو السقَّايين الذين يحملون المياه من النيل.١٠ ذلك على الرغم من أن الماء كان كثيرًا، وثمنه زهيدًا، لا يتجاوز خمسة عشر قرشًا في الشهر أيًّا تكن كمية الماء التي يستخدمها الشخص، ثم وضعت شركة الماء عدادات في البيوت تحاسب على الاستهلاك.١١ كان عمل السقَّا حمل قِرب الماء من الحنفية العمومية إلى البيوت، يمر بها مرة كل يوم، يملأ الأزيار والطسوت وغيرها من الأوعية.١٢ القِربة — غالبًا — من جلد الماعز الذي تتم دباغته في الصعيد، وعمرها من أربعة إلى ستة أشهر. ويخط السقا على باب كل بيت خطًّا بالطباشير، وفي أول كل شهر يعد خطوط الشهر الفائت، ويتقاضى عن كل خط قرشًا.١٣ وقد خلف السقاءون حارة باسمهم في حي عابدين، وأغنية لسيد درويش، ورواية ليوسف السباعي. تقول الجدَّة في أحاديثها: «كنا يا ابنتي — في هذا الزمن — لا ننعم بكهرباء تريحنا، وتوفر علينا كثيرًا من المشاغل والمتاعب. كنا إذا غربت الشمس نعمد إلى مصابيح تضاء بالبترول لنضيئها واحدًا واحدًا، ثم نعلِّقها في عمود، أو على الحائط، ليشع نورها على المكان كله. وكم كنا نقاسي من هذه المصابيح؛ فهي سريعة التلف، تحتاج إلى عناية ونظافة حتى تقوم بما يراد منها، ولكن هذا هيِّن يسير، وإنما الخوف كل الخوف من احتمال فرقعتها وما تجرُّه الفرقعة من حريق ودمار.»١٤ وكانت «القلة» هي الوسيلة الوحيدة لتبريد الماء.١٥ وكان التوقيت يجري بالساعات العربية، على ما نص عليه القرآن الكريم من أن الليل سابق النهار؛ فالساعة الواحدة ليلًا — في ذلك الوقت — تبدأ عند غروب الشمس.١٦ ويقول فتحي رضوان: «كان حسبك أن تتعدَّى ميدان العتبة الخضراء إلى أحياء الدرب الأحمر والجمالية وباب الشعرية، حتى تشعر أنك تجاوزت القرن العشرين بكهربائه وعربات الترام والسيارات وميدان الأوبرا، إلى القرن السابع عشر والثامن عشر، حيث تجد السقَّا يحمل الماء إلى البيوت في قِرب، وهو يصيح: يا ساتر. وبدلًا من أن تجد الطبيب المولِّد، تجد الداية والحلاق، وبدل أن تجد الشوارع الممهَّدة تجد الحواري الملتوية والدروب المسدودة، لا ينيرها مصباح، ولا يحرسها في المساء عسكرة، بل خفير بلبدة ونبُّوت، والأطفال تزحف فيها نصف عارية على بطونها، تغطِّي وجوههم أسراب الذباب.»١٧ وكان في أسطح معظم البيوت أفران للخبيز، حيث كان من المعايب شراء الخبز من الأسواق.
كانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تمتدَّ بعد إلى صحراء هليوبوليس، أو إلى الضفة الغربية من النيل. وكما يقول الشيخ مخلوف، فقد كان المالك يجري وراءك ويغريك لتسكن في بيته! وكان متوسط إيجار الشقة عشرين قرشًا، وهو المبلغ الذي حدده طه حسين إيجارًا للغرفة في الأحياء الشعبية!١٨ كان لمصطفى أفندي أمين الكاتب بنظارة المعارف العمومية، بيتان صغيران في شارع الحمزاوي، يسكن الطبقة العليا من أكبرهما، ويتقاضى سبعة جنيهات أجرة الطوابق الثلاثة الأخرى.١٩ كان للقرش قيمته، حتى إن الراوي عثر في جيب صديري لم يكن ارتداه من زمن، على قرش صاغ، فعرف أن تلك كرامة أحد الشيوخ! وأسرع إلى رجل يدينه بقرش، فروى له الحكاية، وردَّ له قرشه، وذهب الراوي إلى دكان الحاج صالح، فابتاع رغيفًا بمليمَين، وطحينة بأربعة مليمات، وزيتونًا بأربعة مليمات.٢٠ وكانت خمسة مليمات تهب مائدة إفطار مناسبة، وربما تهب غداءً أو عشاءً مناسبًا؛ فمليم ثمن نصف الرغيف (يساوي وزن ثلاثة أرغفة في الأقل مما نتناوله الآن) ومليمان ثمن طبق فول بالزيت، ومليم ثمن طبق سلطة، ومليم ثمن برتقالة أو إصبع موز، أو أربع برتقالات. ويمكن تغيير هذه الأصناف بالحلاوة الطحينية أو العسل والطحينة أو الجبن أو البيض. فإذا أضفت بضعة مليمات يمكنك الحصول على خضار مطبوخ بعشرة مليمات، وطبق كبير من الأرز بعشرة مليمات أخرى.٢١ وكان ربع المليم عملة معترفًا بها، مع ذلك، فإن غلاء الأسعار شكلٌ دفعَ علي يونس إلى شراء بضاعة كثيرة، لكن الكساد ما لبث أن استبد بالسوق، فلما حل أجل الديون، كان على علي أن يسدد ما عليه، أو أن يعرض اسمه للعار؛ لذلك فضَّل أن يبيع كل ما في الدكان بخسارة، ويسدد ديونه.٢٢
وعندما اشترى محمد قطعة أرض خارج بوابة الحسينية، وراح يشيد عليها دارًا، تساءل الجميع في دهشة: أتترك العمار لتسكن تلك الجهة المقطوعة؟ قال: غدًا تعمر، فإنها لا تبعد عن البوابة إلا أمتارًا. قيل: لن تعمر أبدًا، فليس هناك مجانين مثلك يبنون في الخراب. قال: إن لهذا الخراب مستقبلًا. قيل: لن يكون له مستقبل أبدًا. لقد عرض عليَّ متر الأرض في العباسية بمليم فلم أقبل أن أشتري مترًا واحدًا. أأرمي مالي في الهواء؟ إن مَن يشتري مترًا هناك كمن يشتري مترًا في الهواء. قال: اشتريت، وبنيت، وانتهى الأمر.٢٣ وحددت عصابات اللصوص وقطَّاع الطرق أطراف القاهرة، وكانت تُعرَف بالمنسر، وزعيمها يُسمَّى شيخ المنسر.٢٤ كما كانت القاهرة مسرحًا لمعارك الفتوات؛ فقد كان لكل شارع أو حارة عصابة يرأسها فتوة، وكانت المعارك بين تلك العصابات أمرًا ألِفه أهل القاهرة، وإن لم تخلُ أخلاقهم — أحيانًا — من العاطفة الوطنية الصادقة، حتى لقد أرغم جنود الإنجليز أحمد عبد الجواد على ردم حفرة هائلة صنعها فتوات الحسينية لاصطياد الدوريات البريطانية، وظل الفتوات — كظاهرة اجتماعية — إلى الثلاثينيات من القرن العشرين.
وشكَّلت شركات الغاز والكهرباء مأزقًا أمام المشاعلية والعسس، مثلما شكَّلت مرافق المياه مأزقًا أمام السقَّايين. وقال كرومر في تقريره إن الكهرباء شاعت في البيوت خلال عام ١٨٩٩م، ووُضعَت الأسلاك الكهربائية والثانوية تحت الأرض.٢٥ ولأنه لم تكن ثمة مراوح كهربائية ولا مكيفات، فقد كان من مهام «الدادة» لدى الأسر الميسورة أن تحرك بيدها المروحة الخوص الكبيرة أمام سيد — أو سيدة — البيت، أو أحد الأبناء، فيتحرك الهواء بالتالي.٢٦

وقد دعمت الخطوط البرقية، وأنشئت مصلحة البريد، وأنشئ مصنعان للجوخ ببولاق وشبرا، وزيدت مساحة الأرض الزراعية، كما أنشئت مصانع للسكر بالوجه القبلي، ومصنع لدبغ الجلود بالإسكندرية، وآخر للزجاج، ومصنع للورق في بولاق، ومصنع للطرابيش بفوة، كما ضيَّقت شركة المياه الخناق على السقايين بعد أن مدَّت المياه النقية إلى معظم أحياء القاهرة.

وتراجعت المقاهي العربية القديمة أمام المقاهي اليونانية الحديثة، واستُبدل الفندق أو اللوكاندة بالخان، حتى البنايات غابت عنها الطرز العربية، وحلَّت — بدلًا منها — التصميمات الأوروبية التي تناقض المناخ المصري، وأصبح التحدث باللغة الأجنبية مألوفًا عند المتعلمين، وأقيمت الحفلات الراقصة «بلُّو» في سراي عابدين والجزيرة، ثم ما لبثت أن انتشرت في بيوت وأندية السراة، وأقبل عليها بعض أبناء الطبقة الوسطى. وظلَّت كل المطابع تُدار باليد، حتى استورد مصطفى كامل (١٩٠٦م) مطبعة كهربائية من نوع Duplex، ثم استورد الشيخ علي يوسف مطبعة Rotative، وأقيم لذلك احتفال كبير، حضره النظار وكبار الساسة والأعيان،٢٧ واستُوردت آلة الطباعة «الليونتيب». وامتدت الملامح الجديدة إلى الريف عندما أخذ الأغنياء في ركوب السيارات بدلًا من الخيل والحمير والبغال، واعتادت الأعين رؤية السيارات صاعدة هابطة راقصة، مقلوبة أحيانًا.٢٨
ونتيجة لذلك كله، بدأ التغيُّر يعمِّق جذوره في التربة المصرية، وكان ذلك التغيُّر — برغم بطئه — يلقى مقاومة شديدة من بعض الفئات التي تجد استمرار حياتها في بقاء الحال على ما هو عليه. وطبيعي أن معظم التغييرات الاجتماعية تبدأ في المدينة أولًا، ثم تنتشر هذه التغييرات إلى أسفل، لتصل إلى الطبقات الأدنى، ثم إلى المدن المجاورة، فالقرى. وفضَّل الانتقال من الريف، والإقامة بالقاهرة آلاف من أبناء العائلات الكبيرة، عملوا بوظائف في الحكومة، أو عاشوا على ما يرسله إليهم آباؤهم، وفي الحالين فإنهم قد اختاروا التحلُّل من الروابط العائلية، وممارسة الحياة كأفرادٍ لا كأعضاء في جماعة.٢٩ والملاحظ — في الوقت نفسه — اختفاء العصبيات القديمة في التكوين الطبقي للمجتمع المصري. حلَّت بدلًا منها العناصر المادية والاقتصادية «بل إن النمو الاقتصادي لفردٍ من أفراد تلك العصبيات كان مما يجعله يخرج عليها ويتنكَّر لها، ما لم يرد في انتمائه إليها فائدة يجنيها، أو خيرًا يعود عليه.»٣٠

•••

وتُعَد الأزبكية بُعدًا مهمًّا في بانورامية الحياة في المجتمع المصري منذ عام ١٨٠٠م، عندما بدأ الفرنسيون في تحويل تلك القطعة من أرض ذات الأفدنة الستة إلى محل «يجتمعون فيه كل عشر ليالٍ، ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلِّي والملاهي، مقدار أربع ساعات من الليل، بلغتهم، ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.» ثم أصبحت الأزبكية أشبه بالمرآة التي تعكس مظاهر الحياة في المجتمع، في تطورها الحاد والبطيء. فهي — على سبيل المثال — تغص بالشباب الذي يرتدي الثياب الأوروبية، ظاهرة غريبة وخطيرة، بل ونذير شؤم في حياة المجتمع، تنبعث منها الأنوار القوية التي تحيل الليل نهارًا، وتعمر بالعشرات من دور اللهو.٣١ ويصف حافظ إبراهيم الحديقة بأنها «هذه الستة الأفدنة تكاد تبتلع ما تخرجه أرض وادي النيل من الخيرات.»٣٢ وتقول نفيسة — زوج الشيخ عبد الله السقا — عن ولدها توفيق الذي يُعَد مضربًا للأمثال في استقامته: من البيت للمدرسة، ومن المدرسة للبيت، لا يعرف السهر، ولا عمره حط رجله في الأزبكية.٣٣ وتصدر — يومًا — مجلة باسم «الأزبكية» تعنى بنشر «أخبار التشخيص، وتأتي لقرائها العديدين بتفصيلاته.»٣٤ ويبين لنا تأثير الحرب العالمية الأولى، وما صحبها من إعلان الحماية وفرض حالة الطوارئ — لأول مرة — في تاريخ مصر، من خلال ياسين (بين القصرين) الذي كان ينحدر كالشلال في مهاوي الأزبكية. ثم ظهر في الميدان الأستراليون، فاضطر إلى التخلي عن مغاني العبث فرارًا من وحشيتهم. ويستبد بياسين الغضب لحرمانه من الأزبكية ومغانيها، وينفِّس عن غضبه بكلماتٍ ساخطة: أين أنت يا أزبكية لأبثَّك همِّي وأشجاني، وأتزود منك بشيء من الصبر؟٣٥ ثم ينحسر الأستراليون — بانحسار الحرب — عن الأزبكية، ويعود ياسين لغزواته في جنباتها، ثم يلحق به كمال الصغير بعد أن يصبح شابًّا مراهقًا، له متطلباته ورغباته العاطفية والجسدية. وإذا كانت الأزبكية قد ارتبطت بالجانب اللاهي من حياة العاصمة، فإنها قد شهدت كذلك جوانب وطنية مهمة؛ فقد كان أغلب المظاهرات يبدأ منها — ومن بينها مظاهرة السلام التي استُشهد فيها فهمي عبد الجواد — كما عقدت بالأزبكية اجتماعات ومؤتمرات وطنية عديدة، وقد ارتفعت القبة الطيارة (المنطاد) من حديقة الأزبكية ثلاث مرات بأناس، ولم يحدث خطر.

•••

أما الإسكندرية، فقد أنشئ فيها — لأول مرة — مجلس بلدي، وتولَّت إحدى الشركات الأجنبية مسئولية توصيل المياه العذبة من المحمودية إلى المدينة، وامتد العمران إلى منطقة الرمل بعد أن تم وصلها بالمدينة بخطٍّ حديدي، مما أتاح للإسكندرية — منذ أواخر الحرب العالمية الأولى — أن تصبح أول المصايف المصرية. كما أنشئت حديقة النزهة التي لا تزال متنفسًا رئيسًا لأهالي الإسكندرية. وفي ١٨٦٣م أنشئ خط ترام الرمل ليربط بين منطقة محطة الرمل ومنطقة بولكلي، بدأ بمركبات يجرُّها الخيل، وتحوَّل — بعد بضعة أشهر — إلى استخدام البخار، ثم بدأ — مع مطالع القرن — في استخدام الكهرباء.

•••

كان الجواد وسيلة مواصلات، ليس في داخل المدن فقط، وإنما بين المدن أيضًا. يقول الرجل لابن أخيه (الضحية) «جهِّز فرسك يا بني لأنك سترافقنا إلى شبين.»٣٦ كانت وسائل الاتصال بطيئة — في الأحياء الوطنية بخاصة — فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شيء إلا الدواب أو مركبات الخيل.٣٧ كان الناس يمشون أكثر مما يركبون، وكان الحمار هو وسيلة المواصلات الرئيسة، تنقل البشر والأتربة والسماد للزراعة، فضلًا عن حرث الأرض إن لم يتوافر البقر والجاموس، وفي حمل البرسيم من الحقل، وفي نقل الخضر والفاكهة إلى الأسواق، وجر عربات مواد البناء. وكانت حمير الوجه البحري أقل مرتبة من حمير الصعيد، وإن كانت تُفضَّل الحمير الأوروبية بعامة.٣٨ وفي ١٩٠١م بلغ عدد المكارين في القاهرة ١٤٠٠، وعدد الحوذية ١٠٨٧، وحوذية النقل ٦٥٠٠، والشيَّالين ١٠٨٧.٣٩ ولما أحضر بونابرت العربات ذات العجل، تردد الناس — لأعوام — في استخدامها، رغم أن العربة الواحدة — كما شاهدوا — تنقل أضعاف ما تنقله المقاطف والغِلقان على أكتاف الرجال.٤٠ وكان للحمير مواقف معينة، أشهرها الموقف الذي يقع بجوار فندق شبرد القديم لخدمة السياح. ثم تحوَّلت بعض تلك المواقف لعربات الحنطور، قبل أن يتلاشى نفوذها هي الأخرى، وتصبح السيارة سيدة الشوارع. أما الأغنياء فكانوا يركبون عربات تجرُّها الخيول، كما كانت وسيلة النزهة اليومية، الوحيدة، لأفراد الطبقة الأرستقراطية — قبل أن تفرض السيارة وجودها في شوارع القاهرة — ركوب المركبة الخاصة التي يجرها جوادان مطهمان، في طريقها إلى كوبري قصر النيل، فالجزيرة، وكذلك كان يُنقَل الذوات والأعيان. وحتى الحرب العالمية الأولى، كان رئيس النظار والنظار يركبون العربات التي تجرُّها الجياد، وكانت معظم الانتقالات — نظرًا لانعدام الإضاءة — تتم في النهار فقط.٤١ وثمة عربات سُميت باسم «زينب هانم» نسبة إلى زينب ابنة الخديو إسماعيل، التي كانت أول من استحدثتها. حناطير مغلقة، لها ستائر وتجرُّها الخيول، ويقتصر ركوبها على سيدات الأسر الثرية في مصر والإسكندرية وبعض مدن الأقاليم. وقد استُخدمت تلك العربات — فيما بعد — في حفلات الزفاف؛ فهي تنقل العروس ونساء عائلتها إلى بيت العريس في زفَّة صاخبة، محاطة بالطبل والنقرزان، وكلما كثر عدد العربات زادت مكانة العروس في أعين الناس.٤٢ ثم واجهت عربات «زينب هانم» دورة الحياة؛ انتشرت عربات الحنطور، وقلَّ إقبال الناس على عربات زينب هانم، حتى وجد المعلم حنفي — أكبر أصحاب ذلك النوع من العربات — نفسه، ذات يوم، على قهوة المعلم شعبان، ينعى الزمان، ويبكي على كوارث الزمان.٤٣
ويرسم الفنان لوحة تجمع بين وسائل المواصلات، وحياة الحريم، ونظام البيوت، وغيرها من مظاهر الحياة في أوائل القرن: «وبينما أنا في حجرتي يومًا ألعب؛ إذ تناهت إليَّ ضوضاء مركبة تجوز فناء البيت، فهرولت إلى النافذة، فرأيت ركب إجلال هانم يتهادى نحو باب الحرم، وأمام الخيل سائسان يرفلان في الملابس المقصبة. أما السائق فكان في حلَّته الرسمية، وبجانبه فيروز أغا، مرتديًا لبوسه الأسود الذي لم يستبدل به زيًّا طول حياته، وما هي إلا أن نزلت إجلال هانم من المركبة، ملثَّمة الوجه بالغلالة الشفافة البيضاء، لا يبدو منها غير عينَيها البراقتَين الصغيرتَين، تقلبهما في رزانة وتوقر، وتبعتها حفيدتها تهاني في ثوبها الناصع البياض، تخطر في تألق وخيلاء، وتنقل قدمَيها على محاذرة واحتراس، كأنها تخشى ملامسة الغبار ومعابثة النسيم.»٤٤ كان من الشائع أن «يطوف أهل الغرام، ومن يرمون إلى المغازلة في الجزيرة — عصرًا وليلًا — في العربات، أو على الأقدام.»٤٥ كما اعتاد الناس رؤية العربات تسير وراء بعضها البعض فوق جسر قصر النيل، متجهة إلى الجزيرة، وتقف تلك العربات في أماكن منعزلة عن أعين الرقباء، في داخل كلٍّ منها عاشقان يتطارحان أحاديث الغرام، أو شاب يبحث عن معشوقته، أو امرأة تبحث عن عشيقها. وكان الشبان الطفيليون — التعبير للفنان — يطوفون ما يُسمَّى الجزيرة الصغيرة، ليروا، أو يسمعوا.٤٦
ويهبنا الفنان صورة موحية لحركة المواصلات، خلل الأصوات المتصاعدة من الشارع: نداءات الباعة، الصهيل والنهيق، اصطدام حوافر الدواب وعجلات الركاب بالبلاط المرصوف.٤٧ ويمد أحمد عبد الجواد بصره إلى الطريق «حيث لا ينقطع تيار المارة وعربات اليد والكارو وسوارس التي تكاد تترنَّح من كبرها وثقلها،٤٨ والباعة المغنون وهم يترنمون بطقاطيق الطماطم والملوخية والبامية كلٌّ على مذهبه، ولم تكن الضوضاء لتحُول بينه وبين تركيز ذهنه بعد ما اعتادها وألِفها أكثر من ثلاثين عامًا، فاستنام إليها حتى ليزعجه سكوتها.»٤٩ كانت وسائل الاتصال كلها بطيئة، لا سيما في الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شيء إلا الدواب ومركبات الخيل.٥٠
كان الحمار هو وسيلة المواصلات الوحيدة في شوارع القاهرة المُعزية، ولم يكن أبناؤها قد عرفوا السفن ولا القاطرة بعد. يشي بذلك وقفة أطفال الحسينية المتحيرة أمام رسمٍ ساذجٍ لقطار على واجهة باب أحد الحجاج «وكانوا في قرارة نفوسهم يتمنَّون أن يروا سفينة أو قطارًا، وما كان يجرؤ أحدهم على أن يتمنى أن يركب القطار يومًا. فأين ذلك القطار؟ وإلى أين يركبونه؟ إنهم يحسبون أنه لا يُستعمَل إلا في السفر إلى الحجاز، وأن غاية آمالهم أن يمتطوا يومًا حمارًا، وأن يضربوا به في شوارع المدينة، بدل أن يسيروا على أقدامهم تلك المسافات الطويلة، التي يقطعونها عادة قبل أن يبلغوا غاياتها.»٥١
كانت البغال تُفضَّل — غالبًا — على الحمير، لذا اشتد الطلب عليها، لا من الفقراء وحدهم، وإنما من السراة أيضًا، وفاقت أثمانها — أحيانًا أثمان كرائم الخيل، حتى بدأت الحكومة في تربية البغال في إسطبلَين بنبروه وشبرا، بالإضافة إلى استيرادها من جزيرة قبرص. وكانت البغال تُستخدَم لقطع المسافات البعيدة، ولحمل البضائع، وجرِّ مدافع الجيش، وحرث الأراضي الزراعية، وإدارة آلات المصانع ومعامل الغزل.٥٢
ثم تقدمت المواصلات تقدمًا مذهلًا، بعد أن كان قمة التعبير عن الثراء عربة يجرُّها جوادان، أو أربعة، وأمامها خادمٌ يحمل على كتفه مشعلًا ضخمًا، وفي يده عصًا، يصيح بالمارة أمامه: أوع يمينك! أوع شمالك! أوع ضهرك! أوع ضهرك! صل على النبي ووسع السكة! وأصبحت السفن تُصنَع من الصلب بدلًا من الخشب، واستُخدِم البترول بدلًا من الفحم، واستُخدم المنطاد الذي يُعَد أخف من الهواء، والطائرة وهي أثقل من الهواء، وتأكد وجود الآلة بدلًا من قوة المرء العضلية. وكانت مصر أول بلد في أفريقيا يعرف السكك الحديدية؛ مُدَّت خطوط فرعية محدودة في ١٨٣٤م بين النيل ومحاجر المقطم في القاهرة والمكس، ومحاجر الدخيلة في الإسكندرية. ثم بدئ في عهد عباس الأول (١٨٥٣م) إنشاء خط حديدي يربط الإسكندرية بالعاصمة، مُدَّ الخط بطول ١١٢ كيلومترًا من الإسكندرية إلى كفر الزيات، وقُتِل عباس قبل أن يكتمل إنشاء الخط، لكن العمل استمر في عهد سعيد (١٨٥٦م)، فبُدئ في مدِّه من كفر الزيات إلى القاهرة، ثم اكتمل إنشاء الخط في عهد إسماعيل.٥٣ وقد سُميت محطة السكة الحديد في العاصمة باسم «باب الحديد» منذ اليوم الأول لافتتاحها. وكان يومًا حافلًا بالفعل؛ قدِم الآلاف بدوابهم ومترجَّلين من المدن والقرى القريبة، يشهدون افتتاح المحطة، وانطلاق أول قطار من القاهرة إلى الإسكندرية. وفي الأيام الأولى لتسيير القطار، زعم البعض من العامة أنه يسير بقوة جماعة من الجن والشياطين، مسخَّرين لها بواسطة العزائم والسحر والطلاسم.٥٤ وكانت المسافة بين القاهرة والإسكندرية تحتاج — بدون القطار — إلى حوالي أربعة أيام، اختُصرت — بعد تسيير القطارات — إلى أربع ساعات ونصف ساعة.٥٥
كانت السكك الحديدية — في البداية — بلا أي نظامٍ على الإطلاق، فقد كانت مواعيد القطارات غير معروفة. وكان المسافر يركب القطار وهو لا يدري متى يقوم، ولا أية ساعة يصل إلى البلد الذي يقصده، وربما تأخر قيام القطار بضع ساعات انتظارًا لمقدم أحد الباشوات أو البكوات أو القناصل.٥٦ وقررت الدولة تنزيل ٥٠٪ من أجرة الدرجة الثالثة في وابورات السكة الحديد لمن يُثبِتون فقرهم! (بعد تسيير خطوط السكك الحديدية، للمرة الأولى في تاريخ مصر، بخمسة وأربعين يومًا فقط، سقطت إحدى عربات القطار في النيل، عندما كان القطار بكامله يعبر النيل على معدية في منطقة كفر العيس، ومات في الحادث الأمير أحمد شقيق الخديو إسماعيل) ثم مُدَّت مئات الكيلومترات من الخطوط الحديدية.
وكانت دهشة بعض السياح بالغة حين شاهدوا مصريًّا — يونس في الشارع الجديد — يقود القطار الذي استقلوه من الإسكندرية إلى السويس، وأن سرعة القطار الهائلة بلغت خمسة وعشرين كيلومترًا في الساعة.٥٧ وكان لإنشاء خطوط السكك الحديدية وتعدُّدها، فضلًا عن عمليات رصف الطرق بين القاهرة والكثير من المدن المصرية، دافعًا لأن يسافر الموسرون من أبناء الريف إلى القاهرة، والتردُّد على جوامعها وملاهيها، والإقامة فيها — أحيانًا — ببناء بيوت أو فيلات، أو استئجارها.
وفي مارس ١٨٩٦م أعلن الخديو عباس حلمي الثاني بدء تسيير ترام القاهرة للمرة الأولى، وسار الترام — أو الكهربائية — كما كان يُسمَّى آنذاك، من أول شارع محمد علي إلى القلعة. ويُعَد يوم ١٢ أغسطس ١٨٩٦م مَعلمًا مهمًّا في تاريخ القاهرة المعاصرة، فقد بدأ تسيير الترام — للمرة الأولى — بديلًا — بالتدريج — لاستخدام الجياد والحمير وسيلة للانتقال.٥٨ وحتى عام ١٩٠٤م — العام الذي بدأت فيه أحداث «طلائع الأحرار» — لم تكن خطوط الترام قد مُدَّت إلى الأحياء الوطنية، لكنها امتدت في أحياء الأجانب، ولم تتجاوز ميدان العتبة جنوبًا. ويقول يحيى حقي: «سمعتُ من أمي رحمها الله، أن أهل قريتها ضربوا كفًّا بكفٍّ من شدة العجب، حين علموا أن بالعاصمة عربة مسحورة تجري بلا خيول على قضبان اسمها الترماي. يا حلاوة يا ولاد. بل نشأت في عهد كان الناس يتندَّرون فيه بأهل مديرية الشرقية الكرماء، لأنهم حين رأوا القطار يمر بأراضيهم ويزعق، وقر في أذهانهم أنه مخلوق له عقل وإرادة وصوت، وإلا: كيف يجري وحده ويزعق؟ وقرروا أن يقيموا له عزومة كبيرة ليتغدى أو يتعشى عندهم بجلالة قدره. وسمعت بأذني وأنا صبي، أناسًا يرَون من الإنصاف أن يمدحوا الاحتلال البريطاني لأنه جاءهم بالترام والكهرباء.»٥٩ كان تسيير الترام نقطة فاصلة في حياة القاهرة، انتقلت من عصر إلى عصر. كان معظم أهلها يركبون الحمير، والقلة يركبون العربات ذات الجياد، ثم أصبحوا يركبون الترام في الكثير من تنقلاتهم. أحدث ذلك التطور ما يشبه الثورة المجتمعية في حياة القاهرة. صار السهر متاحًا، وشهدت الأسر ميلًا إلى التفكك، وضعفت رقابة الآباء على الأبناء، واتسعت حركة العمران بوصول الترام إلى المناطق البعيدة، ونشطت الحركة التجارية بعامة.٦٠ وكانت بعض الكتابات تُطلِق على الترام اسم «قطار الكهرباء».٦١ وقد شكَّل الترام مأزقًا أمام الركائب والحمَّارين وعربات النقل «تنازلت الحمير عن مكانتها القديمة كوسيلة ركوب، ولم يعُد يركبها سوى الأوباش.»٦٢
قضت شركات الترام على الركائب والحمَّارين (أحفاد الحمَّار في زماننا الحالي — كما يقول يحيى حقي — شركات النقل باللوريات — خليها على الله، ٩٩). في أول أغسطس ١٨٩٦م سار الترام — لأول مرة — في شارع محمد علي، ركبه حسين فخري باشا ناظر الأشغال وعدد من معاونيه، ومضى من أبي العلا إلى العتبة، ثم إلى القلعة، وازدحم الناس على الجانبَين يتأمَّلون أول مركبة تسير بقوة الكهرباء، والأولاد يتصايحون وهم يعدون وراءها: العفريت! العفريت! وكتبت «الأهرام» (٢٦/ ٨/ ١٨٩٦م) تقول: «بما أن مصر بلاد زراعية قبل كل شيء، كان الأفضل أن يسير فيها ترامواي تجرُّه الخيول، بدل الكهربائية التي وضعت في القاهرة، بل إن استخدام البغال أو الخيول لا يقتضي نفقة جسيمة، وكان يفيد المزارعين والمربِّين» وضرب أهل القرية كفًّا بكفٍّ من شدة العجب، حين علموا أن بالقاهرة عربة مسحورة بلا خيول، على قضبان، اسمها «الترماي».٦٣ كانت عربة الكارو، أو عربات «كارلو» (التسمية إيطالية) — الكارو فيما بعد — وهي عربة يجرُّها حمار، في الأغلب، وتتكوَّن من ألواح خشبية عريضة فوق عجلتين، ينقلون أمتعتهم على ظهور الجِمال والحمير، أو يحملونها على ظهورهم، كانت تلك العربات وسيلة مواصلات مهمة.٦٤
وفي ١٨٩٨م اشترى الخديو عباس حلمي — كما تذكر المؤيد — «عربتَين من العربات التي اختُرعت حديثًا، وتُعرَف باسم أوتوموبيل، وهي كالعربة المعتادة، لكنها تسير بقوة الكهرباء الموضوعة أدواتها بأسفل العربة بين العجلات.» وكان الخديو عباس حلمي أول من استخدم السيارة من عائلة محمد علي، قادها بنفسه من قصر القبة، عبر شارع رمسيس الحالي إلى قصر عابدين. وكان حدثًا في غاية الخطورة، حتى إن مجلس الوزراء عقد اجتماعًا لمناقشة الموضوع، وأصدر قرارًا بمنع الخديو من قيادة العربة/السيارة/الأوتوموبيل، حرصًا على حياته الغالية.٦٥
وفي نوفمبر ١٩٠٨م بدأ استخدام السيارات العامة — للمرة الأولى — في شوارع العاصمة. وإذا كان الراوي قد تحدث عن الطين الذي زاد بلة «بمجيء هذه الأوتوموبيلات أو السيارات، فهي ضربة ضد العمران لإثارة الغبار زوابع وأعاصير.»٦٦ فإن سليم سركيس كتب عن دولة الحوذية التي زالت «بعد ظهور الترام وشيوع الأوتومومبيل.»٦٧ وطبيعي أن هذا الحكم كان يحمل من التوقع أكثر مما يحمل من الحقيقة؛ ذلك لأن دولة الحوذية ظلَّت لسنوات طويلة تالية.

ثم بدأ بعض الأثرياء في شراء الاختراع الجديد، الغريب، واختاروا لها أسماء تعبِّر عن الدهشة، مثل «العربة المتحركة من نفسها»، و«العربة الجارية من نفسها» و«عربة الغاز»، ثم اقترح أحمد زكي باشا إطلاق كلمة سيارة على الاختراع الجديد.

وتشير الرواية إلى أن الناس — في السنوات العشر الأولى — من القرن العشرين، لم يكونوا يُقبِلون على السكنى في الشاطئ الغربي من النيل، وأن الدواب كانت أداة المواصلات الأساسية، فلم يظهر الترام — كما أشرنا — إلا في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر، أما السيارة فقد ظلَّت إلى ١٩٣٧م وسيلة انتقال القادرين وحدهم.

•••

يصف الراوي (علم الدين) أحوال الأزهر في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بأنه «لو قصد أحدهم الأزهر، ووقف على دروس العلماء فيه، فإنه لا يعقل ما يقولون، ولا ينتفع بما يقررون، فإنهم يتكلمون بما لا يفهمه من الألفاظ الاصطلاحية.»٦٨
وقد دعا محمد عبده إلى توحيد التعليم في مصر، ووجد في دار العلوم موضعًا مناسبًا لتحل بدلًا من الأزهر، فيتم بواسطتها توحيد التعليم، كما دعا إلى إخضاع الأزهر لإشراف الدولة إداريًّا، فيرتبط بوزارة المعارف، أو بإدارة الأوقاف.٦٩
كانت الكتاتيب — التي تُعِد التلاميذ للأزهر — هي وسيلة النظام التعليمي الأساسية، فهي تنتشر في كل القرى، وفي الكثير من أحياء المدن، يتعلم فيها الأطفال آيات القرآن، ومبادئ القراءة والكتابة، ومن يفلح في حفظ القرآن بأكمله يُتاح له الالتحاق بالأزهر لاستكمال تعليمه، وهو تعليم ديني بالطبع. وحين أدخل محمد علي التعليم الحديث، ترك الكتاتيب، فلم يحاول إغلاقها ولا تعديل صورتها. ثم خضعت الكتاتيب للإشراف الحكومي في عهد إسماعيل، وكانت الحكومة لا تعنى من قبل إلا بالمدارس الحربية.٧٠ وفي عهد الاحتلال، كان رأي كرومر «أن أول غرض ترمي الحكومة إليه هو ترقية المعارف العمومية بين الأهالي بواسطة الكتاتيب.»٧١ وحقيقة الأمر أن التعليم في تلك الكتاتيب كان مقصورًا على القراءة والكتابة والحساب البسيط بالعربية، ولا يسمح بتعليم لغة أجنبية فيها.٧٢ وفي إحصاء ١٨٩٧م كان ٩١٫٣٪ من الذكور، و٩٩٫٣٪ من الإناث أميين لا يعرفون القراءة والكتابة. وكان تلاميذ المدارس يخرجون — كل يوم جمعة — في طوابير، يطوفون شوارع المدينة، ثم يعودون إلى العنابر التي يقيمون فيها.٧٣ وينسب الخال إلى الخديو عباس قوله: «إن حكم الشعب الجاهل أسهل من حكم الشعب المتعلم.»٧٤ ويصف يحيى التعليم في تلك الفترة بأنه «كسلق البيض، وتدافع القطيع إلى المجزر، وحشو للدماغ حتى تكاد تنفجر بالتفاصيل والقشور.»٧٥ ويروى لطفي السيد أنه رأى — أيام التلمذة — زميلًا له قد وُضعَت رجلاه في الحديد لأنه ارتكب ذنبًا.٧٦ ولما دُعي إلى إنشاء الجامعة الأهلية، لم تصادف الدعوة هوى في نفوس الإنجليز، ودعا اللورد كرومر إلى التوسع في إنشاء الكتاتيب بدلًا من التوجه إلى التعليم العالي، وكما يذكر تقرير الحزب الوطني (١٩٠٧م) فعندما عرفت سلطة الاحتلال عزم المصريين على إنشاء الجامعة الأهلية، لجأت إلى كل الوسائل لمحاربتها، ومنها دعوة الأهالي إلى الاكتتاب للمدارس الصناعية والكتاتيب في آن، بهدف تعطيل إنشاء الجامعة.٧٧ لكن القائمين على مشروع الجامعة واصلوا خطوات التنفيذ.٧٨ في رواية «كفر الهلالي»: «كان المغفور له مصطفى كامل باشا هو أول من نادى بإنشاء جامعة مصرية، فقد اقترح في أكتوبر سنة ١٩٠٤م إنشاء جامعة مصرية بأموال الأمة، وبعدها بدأت حركة اكتتاب واسعة، وأعلن غيور عن استغنائه عن شرب الدخان، والتبرع بثمنه لإنشاء الجامعة، ونشرت جريدة الأهرام في ٩ مايو سنة ١٩٠٨م قصيدة عصماء أنشدها حضرة المحترم الشاعر حافظ إبراهيم في تياترو برنتانيا مساعدة للجامعة.»٧٩ وفي يونيو ١٩٠٨م أرسلت الدولة إلى أوروبا بعثة من الطلاب لإعدادهم للتدريس في الجامعة، وفي ١٩٠٩م أرسلت بعثة جديدة من الطلاب إلى أوروبا لدراسة ثماني مواد دراسية (كانت خمسة فقط) هي: آداب اللغة العربية، الطبيعة، الرياضيات العالية، علم الفلك عند العرب، تاريخ آداب اللغة الفرنسية، تاريخ آداب اللغة الإنجليزية، الاقتصاد السياسي، تاريخ المرأة في العصور المختلفة.٨٠ ثم افتتحت الجامعة في ديسمبر ١٩٠٨م، وسبقها ولحقها نادي المدارس العليا، والجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة، وغيرها، وكان طه حسين أول طالب مصري ينال درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية.٨١
كانت المدارس تقدِّم للتلاميذ في وجبة الفطور رغيفًا من الخبز، على أن يشتري التلميذ ما يحتاج إليه من جبن وحلاوة … إلخ. أما وجبة الغداء — أو العشاء — فكانت تتكوَّن من العدس أو الفول، وفي بعض أيام الأسبوع يُقدَّم شيء من اللحم والفاكهة.٨٢ وكانت الابتدائية — في أواخر القرن التاسع عشر — شهادة ذات شأن،٨٣ تعادل — بحق — أكبر الشهادات في العقود التالية.٨٤ كانت شيئًا عظيمًا — على حد تعبير إبراهيم شوكت — بعكس الحاصل الآن — ١٩٢٤م — حيث لا يكاد يقنع بها أحد. والكلمات لإبراهيم شوكت أيضًا.٨٥ وكان الحاصل عليها يقول عنه القائلون في زهوٍ: «فلان هذا حامل للشهادة الابتدائية. ويتزوج بعدها من يريد أن يتزوج، ويتوظف من يريد أن يتوظف.»٨٦ ولعله من هنا جاء قول خديجة: سيواصل عبد المنعم وأحمد التعليم حتى ينالا الدبلوم العالي، سيكونان عهدًا جديدًا في آل شوكت.٨٧
وقد بدأ التعليم التجاري في ١٩١٠م بإقامة الدروس الليلية التجارية في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية والمنصورة. ثم أنشأت الحكومة في ١٩١٠م مدرسة المحاسبة والتجارة العليا، ومدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة.٨٨ وفي ١٩١٧م، كان لوزارة المعارف ست مدارس ثانوية للبنين، ثلاث منها بالقاهرة، واثنتان بالإسكندرية، وواحدة بطنطا. وكان بها جميعًا ٢٤٤٢ طالبًا.٨٩
واللافت أنه لم تُعرَف كلمة «المثقف» إلا في العقد الثالث من القرن العشرين، وكان التعبير المتداول هو «المتعلم» … وأكدت صحيفة «السفور» على أن السفور الذي تقصده ليس مجرد سفور المرأة، أو الاكتفاء بالدعوة إلى تحريرها، لكنه «السفور الشامل في كل باب من أبواب التقدم والإصلاح.»٩٠ وفي رواية «في بيوت الناس» يعلن الفنان على رءوس الأشهاد — التعبير له — بغضه للأغنياء، إنهم «سوس البلاد الذي ينخر عظمها، إذا لم يعرفوا كيف ينفقون تلك الأموال المخزونة، وفي نفوسهم جذور الشر، وفي صدورهم كبرياء الغني.»٩١ وطرح محمد لطفي جمعة، وسِواه من الكُتاب — للمرة الأولى — عبارات مثل الديمقراطية والاشتراكية وغيرها. كتب محمد لطفي جمعة عن حركة جديدة في العالم الغربي (١٩٠٨م) يسمونها الاشتراكية، وهي قائمة على المساواة والإخاء.٩٢ ويصف الراوي وفيق أفندي بأنه اشتراكي متطرف، يريد قلب نظام العالم رأسًا على عقب.٩٣ ويشير الفنان (طلائع الأحرار) بحتمية الحل الاشتراكي ما دام الصراع على الرزق بلا ضابط.٩٤ وإذا كان سلامة موسى قد أصدر (عام ١٩١٢م) كتابه «الاشتراكية» الذي درس فيه إمكانية التطبيق الاشتراكي في بعض مناحي الحياة المصرية، فإن مصطفى حسنين المنصوري قد أصدر في ١٩١٥م كتابه «تاريخ المذاهب الاشتراكية» الذي أكد فيه «أنه سيكون انتشار الاشتراكية بين الناس إحدى نتائج هذه الحرب بعد ما لاقوه من مصاعب الحرب ومصائبها» وإن كانت مصر «لا تزال بعيدة — في تقديره — بعيدة عن هذه المبادئ بفضل خصب أرضها، لكن محال أن يستمر الحال على هذا المنوال، ولا بد من مجيء يوم آجل أو عاجل يشعر الناس فيه بقسوة التنافس وانحباس الخيرات.» وأضاف الرجل إلى تأكيده بأنه «ليس قصدي أن تكون برنامجًا لحزب اشتراكي مصري، فإني أرى الوقت لم يحِن بعد للقيام بهذا العمل الذي يتطلب كفاءة علمية وأدبية لم تتوفر لنا بعد.» طالب مصطفى حسنين المنصوري في برنامجه بخطواتٍ إيجابية ومتقدمة، بالقياس إلى أوضاع المجتمع المصري فيما بعد، ومنها: جعل رأي الجمعية التشريعية نهائيًّا، وجعل الوزارة مسئولة أمامها، وإصدار قوانين تكفل حرية الانتخاب، وإصدار قانون يمنع تعدُّد الزوجات، وجعل الطلاق على يد القاضي الشرعي بحيث يقيَّد بأسباب، ووضْع حد أدنى لأجور المزارعين والعمال، ومحاولة التقريب في المرتبات بين موظفي الحكومة، وإصدار قانون بفرض ضريبة تصاعدية على الدخل، وإلغاء جميع القوانين المقيِّدة للحريات … إلخ.٩٥ مطالب، لو أنها نفِّذت في وقتها — وبعضها لم يجد سبيله إلى التنفيذ حتى الآن — لتغيرت صورة الحياة في بلادنا منذ مطالع القرن العشرين. وكان قد انتقل إلى مصر — بعد فشل ثورة ١٩٠٥م في روسيا — عدد من البلاشفة، أقاموا علاقات بالمثقفين المصريين، وكان من بينهم تيودور روزنشتين الذي عمل — لفترة — سكرتيرًا للينين، ثم عُيِّن سفيرًا لدولة العمال والفلاحين في طهران، وقد ألَّف في ١٩١٠م كتابه المهم «دمار مصر».٩٦
وفي ١٩٠٢م، ظهر كتاب محمد عمر — من مستخدمي مصلحة البوسطة المصرية — وإن ذهب البعض إلى أن أحمد فتحي زغلول هو مؤلف الكتاب، وأن الكتاب مقابلة لكتاب «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» الذي سبق لأحمد فتحي زغلول ترجمته عن عالم الاجتماع الفرنسي «ديمولان».٩٧

ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبحت الصحافة والمدارس والمسرح والمكتبات جزءًا من حياة الطبقة الثرية وفوق المتوسطة من المصريين، والجاليات الأجنبية التي تعاظمت أعدادها، قبل وأثناء تلك الفترة، تحوَّلت الطبقة المتعلمة إلى قراء للصحف، ومترددين على المسرح، ومستمعين للموسيقى.

ومع أن المقاهي والمراقص كانت تلاقي رواجًا كبيرًا، لحرصها على تقديم الراقصات الأجنبيات و«برامج الموسيقى والتهريج»،٩٨ ومع أن المسرح، في أوائل القرن العشرين، كان — على حد تعبير الفنان — يغص بالجماهير، على اختلاف الطبقات،٩٩ فإن معظم الرجال اعتبروا الجلوس على المقاهي شيئًا لا يليق بالكرامة، ولا يناسب الوقار. وكان شيوخ الأزهر يبثُّون الأعين رصدًا ليقبضوا على كل طالب يجلس في القهوة، ويقدموه للعقاب، وكان غالبيتهم يتعفَّفون عن ارتياد الفنادق، ولو كانت محترمة. فإذا جاء ذكر فندق شبرد — مثلًا — قالوا عنه «خمارة شبت»، ولم يكن رأي أحمد عبد الجواد في المسرح وليد اللحظة، ولا لغضبٍ وقتي، فقد كانت هناك آراء معلَنة لأدباء وكُتاب كانوا يرَون في المسرح «مفسدة للأخلاق».١٠٠ كانت المسارح — في رأيهم — مفسدة لا يغشاها إلا أرباب الخُلق المريب، ولا يشتغل فيها إلا ذوو المقام الوضيع،١٠١ فالتشخيص بدعة سيئة تتنافى مع الحرمة الدينية ومبادئ الخُلق القويم،١٠٢ وتهريجًا لا يليق بسيدة أن تشترك فيه، بل إن الفتاة نجلاء تصف الممثلات — والراقصات على شاكلتها — بالفئة التي لم توجد في هذا العالم إلا لنصب حبائل الشر والغواية.١٠٣ لذلك فقد اضطر أبو خليل القباني أن يؤدي أدوار النساء، بالإضافة إلى بعض صغار الممثلين الذين كانت أدوار النساء وقفًا عليهم.١٠٤ من هنا، تتبدَّى ضخامة رد الفعل الذي أحدثه عزيز عيد في صيف ١٩١٥م، لما قدَّم أول ممثلة مصرية. وتساءل الجميع: من تكون هذه الممثلة التي خلت الإعلانات من اسمها؟ وهل تجرؤ سيدة مصرية على مواجهة جمهور المسرح كممثلة؟ وهل يتقبَّل جمهور المسرح ذلك الحدث الغريب ببساطة؟ وامتلأ مسرح عزيز عيد ليلة ظهور تلك الممثلة «المغامِرة» بالمشاهدين، دفعهم الفضول بأكثر مما دفعهم الحرص على مشاهدة المسرحية. ثم ظهرت منيرة المهدية لتكون أول ممثلة مصرية. وقد كان عام ١٨٩٢م هو ميلاد أول مسرح فني شهدته القاهرة: تياترو إسكندر فرح في شارع عبد العزيز بالقرب من ميدان العتبة الخضراء. وتحوَّل ذلك المسرح — فيما بعد — إلى سينما أوليمبيا، وعرفت المسارح — في سني الحرب — حفلات الماتينية للمرة الأولى، ولاقت نجاحًا كبيرًا.١٠٥ وتحوَّل كشكش بك إلى تمثال صغير يباع في الأسواق: جسم متوثب في دعابة، ووجه ضاحك ذي لحية عريضة وجبَّة فضفاضة وعمامة مقلوظة.١٠٦ كانت شخصية كشكش بيه نتيجة فنية — واجتماعية في الوقت نفسه — لقيام الحرب العالمية الأولى، فقد توقفت الاتصالات بين مصر وبقية أنحاء العالم، وامتنعت الفرق الأوروبية عن زيارة مصر، مما خلَّف فراغًا كبيرًا في عالم الملاهي الليلية، وحُلَّت الفرق المحلية نفسها، ما عدا فرقة جورج أبيض. وتحدد رواد الملهيَين اللذين لم يغلقا أبوابهما آنذاك: كباريه «الأبيه دي روز» و«الكازينو دي باري» في بعض ذوي الثراء من الأوروبيين، ومحدثي الثراء من المصريين، وعدد من عُمد القرى — كشكش بيه مثال كاريكاتوري لأحدهم! — بدءوا في التردد على العاصمة لقضاء أوقات طيبة، ينفقون فيها من أرباح القطن التي تضاعفت خلال سني الحرب.١٠٧ (كان الثراء يعتمد على سعر القطن. وكانت المكانة الاقتصادية — والاجتماعية بالتالي — تتحقق من خلال ارتفاع — أو انخفاض — سعر القطن). ويروي الفنان (من آثار مصطفى عبد الرازق) عن مسرحية عرضتها فرقة سلامة حجازي وجورج أبيض في أحد المراكز «ظل الناس — قبل موعدها بأسبوع — يعدون لها الساعات، كما يعد الموظفون أعقاب الشهور، وكما يعدها كل ذي راتب شهري … شُغل العامة وقتًا بحديث التمثيل عن حديث القطن، وقام التساؤل عن ثمن الكراسي مقام التساؤل عن ثمن القناطير والأرادب، ونُسيت أخبار الحرب وقوادها بأخبار المسرح وأبطاله، وأصبحت قصيدة «إن كنت في الجيش» أنشودة العمال وهم يجنون الأقطان مكان أغانيهم القديمة المتوارثة. ولما جاءت ليلة الاحتفال، لم يبقَ في بلاد المركز بلد لم يشد أهله الرحال إلى حيث يرون بشائر الفن الجديد في هذا القطر.»١٠٨ ومع أن الريحاني قام — في المسرح — بالدور نفسه الذي قام به المنفلوطي، من حيث إنه اكتفى بالترجمة أو التمصير، فلم يؤلف، فإنه قد عومل — لحسن حظه! — على أنه وبديع خيري هما مؤلفا المسرحيات التي مصَّراها عن الفرنسية. وكما يقول فتوح نشاطي فإن «قسمتي» مأخوذة من مسرحية «الحظ» و«الدلوعة» مأخوذة من «ملك الشوكولاتة الصغير» و«الجنيه المصري» مأخوذة من «توباز»، و«٣٠ يوم في السجن» مأخوذة من «٣٠ يوم في الظل»، و«الستات ما يعرفوش يكدبوا» من مسرحية فرنسية مأخوذة عن الإنجليزية هي «طفلي» … إلخ. ثم ظهرت مسارح الأحياء مثل «الكازار» بالماوردي، و«دار السلام» و«الكلوب المصري» بخان جعفر، وغيرها.١٠٩ وحين قدَّمت فرقة الكوميدي العربي التي كوَّنها عزيز عيد في صيف ١٩١٥م مسرحية «خلِّي بالك من إميلي» أعلنت الفرقة أن مشاهدة المسرحية مقصورة على الرجال فقط «إذ ما من سيدة مصرية محترمة كانت — حتى ذلك الحين — تجرؤ على حضور عرض مسرحية تشيد بمغامرات مومس.»١١٠ ثم انتشر «الفودفيل» بصورة دفعت إحدى الصحف لمهاجمته «من أنواع الكوميديا التي شاعت في مصر هذه الأيام. نوعٌ يقال له الفودفيل، وكان أول من استنبطه الممثِّل المقتدر والمعلم التمثيلي الكبير عزيز أفندي عيد. وقام بتمثيل عدة روايات منه، نقل أكثرها عن الفرنسية، بلغة دارجة حضرة الأديب أمين أفندي صدقي. ومن هذه الروايات القطعة المسماة «خلِّي بالك من إميلي»، والقطعة الأخيرة «يا ستي ما تمشيش عريانة» وتؤكد الصحيفة أن «أساس الفودفيل شيء من الخنا، فهو شر على كل حال، وأنه لا فائدة في أن ترجو المسارح الآنسات بألَّا يحضرن الفودفيل، فإن ما تفضي له الآنسات جدير بأن يفضي له كل ذي حياء.»١١١ ولعلَّنا نتعرَّف إلى طبيعة الدور الذي أسهم به محمد تيمور وغيره من رواد الفن المسرحي في مطالع القرن، في هذه الكلمات التي تحدث بها تيمور عن أصحاب الفِرق التي كانت قائمة آنذاك: «لقد عرفوا حقيقة الجمهور، وكوَّنوا من ورائه ثروة عظيمة، وليس في طوقي أن أقف في وجوههم، ولكني أريد أن أهتدي معهم إلى وسيلة نحوِّل بها ميل الجمهور من الفوضى التمثيلية الحاضرة إلى شبه الفن، ثم من شبه الفن إلى الفن الصحيح.»١١٢ وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان المسرح الغنائي قد انتصر نهائيًّا على المسرح الأوروبي، لكن بعض الشبان الذين حصلوا على حظٍّ من الثقافة، كانوا غير راضين عن موت المسرح الأوروبي. شبان من أمثال عبد الرحمن رشدي المحامي وعزيز عيد ومحمود تيمور ونجيب الريحاني ومحمد عبد القدوس وسليمان نجيب وزكي طليمات ويوسف وهبي … وكان هؤلاء الشبان جميعًا من أبناء أسر متوسطة، أو غنية، وحصلوا على قسطٍ متوسط، أو كبير من الثقافة، وأعجبوا بالمسرح، وكانت برءوسهم أحلام يريدون تحقيقها، ولا عقبات إلا سخط الأسر والعائلات على الهواية الملعونة، حتى إن ذويهم تبرءوا منهم، وطردوهم، أو أنهم حرموا أنفسهم من الوظائف التي كانوا يشغلونها، فعانوا الفاقة والحرمان، وعجزوا عن تدبير اللازم لتحقيق طموحاتهم.١١٣
وفي الخامس عشر من مارس عام ١٨٩٦م كتبت «الهلال» — لأول مرة — عن السينما، «يراد به اختراع حديث في صناعة التصوير الشمسي، تظهر به الصور متحركة كأنها حية، ونسبة هذا الاختراع إلى العين كنسبة الفونوغراف إلى الأذن. وقد حاول إتمام هذا الاختراع كثير من المصورين قبل الآن، ولم يفوزوا بالمرام، فتوفق إليه — مؤخرًا — الخواجات لومير بفرنسا، وسمُّوا الآلة التي تستخرج هذه الصور سينما توغراف. وهذا اختراع من الأهمية بمكان، نضيفه إلى اختراع تصوير الأحشاء الباطنة.» ثم كتبت «الهلال» في ١٥ سبتمبر ١٨٩٦م أن «في القاهرة شركة إفرنجية لها محل بالأزبكية قرب التلغراف المصري، تعرض فيه صورًا تظهر للناظرين أنها تتحرك حركة طبيعية، وقد تقاطر الناس لمشاهدتها.» وهذا الخبر يخالف ما جرى الاتفاق عليه — تاريخيًّا — من أن عروض السينما ظهرت في مصر — لأول مرة — في أوائل هذا القرن. وفي مساء الخميس ٥ نوفمبر ١٨٩٦م عُرِض في صالة ببورصة طوسون باشا بالإسكندرية، أول شريط سينمائي، بعد فترة قليلة للغاية من أول عرض سينمائي في العالم بالمقهى الكبير (جران كافيه) في العاصمة الفرنسية، ثم انتقلت العروض إلى القاهرة بداية من مساء السبت ٢٨ نوفمبر ١٨٩٦م بصالة حمام شنايدر. وعرضت شركة «باتيه» الفرنسية في ١٩٠٤م مجموعة من الأفلام الصامتة في بعض المقاهي والأندية، ثم انتظمت العروض في العام التالي. ثمة حفلتان في كل أسبوع تُعرَض فيهما الأفلام القصيرة الصامتة. ثم امتدت العروض إلى السويس وبورسعيد. وإبان الحرب العالمية الأولى بلغ عدد دور السينما أكثر من ٨٠ دارًا، يملكها أجانب، وتعرض أفلامًا أجنبية. وفي ١٩١٧م بدأ إنتاج أفلام مصرية درامية، وإن سبقها محاولات لإنتاج أفلام تسجيلية تصور — في بضع دقائق — معالم القاهرة والإسكندرية.١١٤ وقد أنشئت في الإسكندرية أول شركة لإنتاج الأفلام هي «الشركة السينمائية الإيطالية المصرية» يملكها إيطاليون وفدوا إلى الإسكندرية ومعهم آلات تصوير ومعدات لتحميض الأفلام، وأنتجت الشركة فيلمَين هما «شرف البدوي» و«الزهور المميتة» وكان الفيلمان من التفاهة بحيث غابا عن المتابعة التاريخية أو النقدية. وباعت الشركة الإيطالية معداتها لمصور إيطالي متمصر، هو ألفيزي أورفانيللي، الذي ما لبث أن أنتج فيلمًا فكاهيًّا باسم «البحر بيضحك ليه» بطولة الممثل الكوميدي أمين عطا الله، ومجموعة من فنَّاني المسرح. ثم أنتج فوزي منيب فيلم «الخاتم السحري»، وعلي الكسار فيلم «الخالة الأمريكية» ثم بدأ المصور السينمائي العائد محمد بيومي أولى المحاولات الجادة لإيجاد فن سينمائي مصري. قدَّم — بداية — سلسلة من الأفلام الفكاهية القصيرة محورها «المعلم برسوم» وهو شخصية فكاهية. أول تلك الأفلام «المعلم برسوم يبحث عن وظيفة»، بطولة بشارة واكيم وفردوس حسن وعبد الحميد زكي وسيد مصطفى وفيكتوريا كوهين. لكن محمد بيومي ما لبث أن تحوَّل عن مشروعه إلى مشروع آخر — لم يقيض له النجاح كذلك! — وهو تصوير جريدة سينمائية باسم «آمون» فقد رفض أصحاب دُور العرض — وكانوا من الأجانب — عرض أعداد الجريدة. ثم كان فيلم «ليلى» (١٩٢٧م) إنتاج وبطولة عزيزة أمير، وتأليف وإخراج التركي وداد عرفي، أول الأفلام السينمائية المصرية الطويلة.
والملاحظ في ثلاثية نجيب محفوظ، أن أبطاله لم يترددوا على دُور السينما، رغم انقضاء أربعة عشر عامًا بالتحديد على رفض سامي (طلائع الأحرار) دعوة شقيقه كامل لدخول السينما، لأنه لم يكن قد شاهد تلك البدعة الجديدة بعد. ياسين — مثلًا — لم تسع به قدماه إلى السينما، ربما لأن «سينما سيتي» التي كانت قائمة في الناحية الشرقية من حديقة الأزبكية، وتطل على ميدان الخازندار، قرب المكان الذي كان يقضي فيه ياسين، ثم كمال فيما بعد، لياليهما العابثة … تلك السينما أصبحت — قبيل الحرب العالمية الأولى — ناديًا ومطعمًا لجنود الحلفاء.١١٥ كان جمهور سينما سيتي — في معظمه — من الأجانب، وأقلُّه من المصريين، وفي مقدمتهم السراة وأبناء الطبقة الوسطى وطلبة المدارس. وكانت الأفلام التي تُعرَض لا تعدو بضعة شرائط قصيرة لا يستغرق عرض الواحد منها أكثر من نصف ساعة. وكانت العروض تُقدَّم مرتين في الأسبوع. الأفلام — بالطبع — صامتة، معظمها فرنسي، وأقلُّها إيطالي، ولم تكن السينما الأمريكية قد بدأت غزوها الكاسح بعد.١١٦ وقد استغرق تصوير أول فيلم سينمائي في مصر خمس دقائق، كان يمثِّل المعلم عبد الرحمن صالحين، صاحب قهوة الكلوب المصري بحي الحسين، وهو جالس إلى الباب يدخن نارجيلة، ويحيي زبائنه، الحي نفسه الذي جرت فيه أحداث الثلاثية. وكانت سينما الكلوب المصري عبارة عن بدروم له باب دكان، ومكان لآلات العرض وحوله البلكون.١١٧ ونظرًا لتوقف الإنتاج السينمائي في معظم البلدان الأوروبية، فقد تكوَّنت في الإسكندرية أول شركة سينمائية، في ٣٠ أكتوبر ١٩١٧م. ونتيجة للتطور المسرحي والسينمائي، تأسست في ١٩١٢م جمعية أنصار التمثيل والسينما، ومن أعضائها: عبد الرحمن رشدي، محمد عبد القدوس، محمد عبد الرحيم، محمود مراد، سليمان نجيب، محمد تيمور، إبراهيم رمزي.
وقد وُفِّق الفنان في استخدام الأغنية تعبيرًا عن التطورات اليومية لحياة المجتمع. ثمة أغنيات جيدة الكلمات مثل «يا ما انت واحشني»، وأخرى غاية في الابتذال مثل «أنا أبله كنت هبلة»، أو «يوم ما عضتني العضة».١١٨ وكان أحمد عبد الجواد يحب الغناء كما يحب الشراب والضحك والصحاب والبدور، فلا يطيق أن يخلو من مجلسه، ولا يأبه للشُّقة البعيدة يقطعها إلى أطراف القاهرة ليسمع الحامولي أو عثمان أو المنيلاوي حيثما تكون مغانيهم، حتى آوت أنغامهم إلى نفسه السخية كما تأوي البلابل إلى شجرة مورقة، فاكتسب دراية بالنغم والمذاهب وتُوج حجة في السماع والطرب. وكان يحب الغناء بروحه وجسمه. أما روحه فتطرب وتغمرها الأريحية، وأما جسمه فتهتاج حواسه وترقص أطرافه، خاصة الرأس واليدين، ولهذا احتفظت نفسه لبعض المقاطع الغنائية بذكرياتٍ روحية وجسدية لا تُنسى، مثل وليه بقى تلاويعك وهجرك … أو: يا ما بكره نعرف وبعده نشوف … أو: اسمح بقى وتعالى أما أقول لك … وكان حسبه أن تهفو إليه نغمة من هذه النغمات معانقة حواشيها من الذكريات كي يهيج مواطن السكر من نفسه، فيهز رأسه طربًا، وترف على شفتيه ابتسامة أشواق ويفرقع بأصابعه، وقد يشدو مترنمًا إذا كان خاليًا إلى نفسه. مع هذا، فلم يكن الغناء هوًى متفردًا يجذبه لذاته فحسب، ولكنه كان زهرة في طاقة يحلو بها وتحلو به؛ أهلًا به ومرحبًا بين الصديق الصافي والحبيب الوفي والشراب المعتق والملحة العذبة.١١٩ كان محمد عثمان أشهر مطربي عهد إسماعيل وتوفيق، ثم جاء مغنون آخرون، وحتى عام ١٩١٧م كانت السيادة الغنائية لمحمد عثمان وعبده الحامولي، وكان عهد ألمظ — برغم رحيلها — لا يزال قائمًا.١٢٠ وثمة اجتهادات ترى أن حركة الغناء والموسيقى في مصر — إلى أواخر القرن التاسع عشر — تدهورت تمامًا «وأصبحت حرفة الغناء والموسيقى حرفة ساقطة غير محترمة؛ إذ كان لا يحترفه إلا السوقة والفقراء والجهلاء.»١٢١ حتى لقيت بعثًا حقيقيًّا بقدوم عبده الحامولي، حتى لقد اتهمه دعاة القديم — كالعادة — بإفساد الغناء، والخروج على أصوله المقررة، وإن رجعوا عن اتهامهم فيما بعد، ووجدوا في الحامولي مجدِّدًا ورائدًا، ومدرسة متطورة في فن الموسيقى والغناء. نقل الحامولي إلى الغناء المصري بعض المقامات غير المستعمَلة في مصر، مثل النهاوند والعجم والحجاز كار، وأدخل عنصر التجديد على طريقة التلحين، بما يلبى احتياجات المقامات الجديدة التي أضافها إلى الغناء المصري. عبده الحامولي هو الإرهاصة الفعلية التي جعل منها سيد درويش — فيما بعد — حدثًا كاملًا للموسيقى المصرية والغناء المصري، فلم تعُد التواشيح التركية هي الأساس، فضلًا عن الغناء الشامي الذي نقله شاكر أفندي، وإنما تبدَّى اللون الخاص والمتميز للغناء المصري. وقد أطلق الصاغة على أحد أنواع الأساور اسم «غنوة عبده» نسبة إلى «المرحوم عبده أفندي الحامولي» أحسن صوت ومغنٍّ ظهر في هذا القرن بمصر.١٢٢ ومن أغنيات الحامولي: أنا استحق اللي جرى … ما حد غيري اللي انظلم … طاوعت أسباب الهوى … حتى غدا خصمي حكم.١٢٣ وكان باعة اللب والفول السوداني يقومون بمهمة الإعلان — الذي تؤديه وسائل الإعلام الآن — فهم ينتشرون طيلة النهار في الأحياء، يعلنون محبي الغناء والطرب أن محمد عثمان سيغني في حفل فلان، وأن الشنتوري في ختان ابن فلان، وأن داود حسني هو مطرب حفل زفاف فلان. فإذا أراد محبُّو الطرب معرفة الأماكن التي يغني فيها مطربو العصر لجئوا إلى باعة اللب والفول السوداني الذين يتجمَّعون عند تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا.١٢٤ وقد ردَّد الفلاحون أغنية سلامة حجازي «إن كنت في الجيش» بدلًا من أغنياتهم القديمة المتوارثة.١٢٥ ولما أراد سلامة حجازي أن يمثِّل بلا غناء، أصيبت التجربة بالفشل، فلم تُمثَّل أية رواية إلا مرة واحدة «كان الجمهور يتساءل على باب مسرح عبد العزيز عن قصيدة الليلة، فإذا ما أجيب بأن رواية الليلة درامية لا لحن فيها، كان السائل يلوي بوجهه راجعًا.»١٢٦ وكان عبد اللطيف البنا من أشهر مطربي عصره، وإن وصف كمال النجمي صوته بأنه يشبه مأمأة العنز.١٢٧ ويقول كمال النجمي عن مطربي مطالع القرن العشرين: «كلهم بدأ مسيرته من بين يدي سيد درويش، هذه هي الحقيقة لا ينكرونها.»١٢٨ وقد لحَّن سيد درويش عن طوائف عدة في المجتمع المصري، منها: السقايين، الحمَّالين، الجرسونات، التمورجية، الحوذية، الباعة الجائلون، باعة اليانصيب، العرضحالجية … إلخ. أصبح الشعب — في موسيقى سيد درويش، وبموسيقى سيد درويش — كله يغني. وعلى حد تعبير العقاد، فقد «كان سيد درويش يقف من الشعب المصري موقف الأستاذ من تلاميذه، يقرأ فيردِّدون، ويتكلم فيسمعون.»١٢٩ أذكر أن ناقدًا إسبانيًّا كتب عن الموسيقار الإسباني البنيز: «إني أرى إسبانيا جميعها في البنيز، فهو قد صوَّرها بتعبيراته الخالصة القوية، فصارت إسبانيا موسيقى.» أثق أن القول نفسه يصدق على سيد درويش والموسيقى ومصر.
ومن أغنيات العصر التي كان أحمد عبد الجواد وندماء لياليه يردِّدونها في مجالسهم: حبيبي قاعد ع الدهبية … ودراعه متختخ زي اللية (لاحظ التشبيه!).١٣٠ ومن أغنيات الفترة ما كانت تؤديه شفيقة القبطية: كان العطشجي فين … لما الوابور وقع انكسر،١٣١ ومنها: أرخي الستارة اللي في ريحنا … أحسن عزولنا يجرحنا،١٣٢ ومنها: أنا هويت وانتهيت … وليه بقي لوم العزول،١٣٣ ومنها: عصفوري يا امه عصفوري … لا العب وأوري له أموري، يوم ما عضتني العضه … وجابولي طاسة الخضه، خدني في جيبك بقى … بين الحزام والمنطقه، أبيع هدومي عشان بوسه … من خدك القشده يا ملبن … يا حلوه زي البسبوسه … يا مهلبيه كمان واحسن.١٣٤ شد الحجاب يا ريس … وخلِّي عينك مرخية،١٣٥ على روحي أنا الجاني … وخِلِّي في الهوى رماني،١٣٦ أمانة يا رايح يمِّة … تبوس لي الحلو من فمه،١٣٧ يا مسلمين يا أهل الله … سلامتك يا قلبي … تعالى يا شاطر … نروح القناطر، أنت خفيف حتى في سكرك … تسكر وتظهر ما في قلبك، بلاش هزار يا بيه … أحسن بابا محرج، إوعى إيدك يا ابن الإيه … من بعيد كده واتفرج، أنا ما لي ما هيه اللي قالت لي … روح اسكر وتعالى ع الباهلي، خفيف الروح بيتعاجب … برمش العين والحاجب، بنجور يا هانم يا نور عنيه … أنا والله هايم ما تردي عليه، حرص مني إوعى تزغزغني … جسمي رقيق ما يستحملش، جوزيني يا امه جدع قيافه … كامل المحاسن واللطافة … إلخ.١٣٨ مين منكم أبويا؟! وكان قذف الطرابيش هو أقوى وسائل التعبير عن الإعجاب.١٣٩ أما عائشة، فقد كانت تعبِّر عن حبها للضابط الشاب الذي كان يتطلع إلى مشربيتها وهو في طريقه إلى عمله بأغنية منيرة المهدية: يا بو الشريط الاحمر … يا اللي أسرتني ارحم ذلِّي.
كان معظم الأغاني صورة لتفسُّخ المجتمع، وتفشِّي روح الانحلال فيه، نتيجة مباشرة لتأثيرات الحرب القاسية في المجالات المختلفة، وإن كان الناس عمومًا ينتقصون من قدر المطربين والمطربات، فالمطرب يُسمَّى «المغنواتي» وكان — أحيانًا — يُسمى «الصييت» لأنه يعتمد على صوته أضعاف ما يعتمد على الموسيقى المصاحبة، فلم يكن ثمة ميكرفون، وعليه أن يصل بصوته إلى أبعد مكان في الحفل الذي يغني فيه. وكانت صورة الفن بعامة أميل إلى المجون، وفي المقابل، فقد كانت الفرق الموسيقية تتبادل العزف في حديقة «لبتون» في ميدان سوارس (مصطفى كامل الآن)١٤٠
وذات يوم، جاء أحمد بصندوقٍ عجيب، وضعه بين أفراد أسرته، وفتح غطاءه، ثم وضع إبرة على أسطوانة كهيئة الكوب تدور، فانبعث صوت يتكلم. لاح الذهول في وجه الجميع، واقتربوا من الصندوق: ما هذا؟ أجابهم أحمد بزهوٍ: فونوغراف. وأدار الفونوغراف، فانبعث صوته يقلد أهل البيت. صاح به الحاج أسعد غاضبًا: قم من هنا بآلتك هذه التي صنعها الشيطان. وأردف متحسرًا: لا حول ولا قوة إلا بالله … اقتربت الساعة، وتكلم الحديد.١٤١ وقد عرفت أجهزة الفونوغراف طريقها إلى البيوت والأندية والمقاهي والمحال الكبرى منذ عام ١٨٩٠م، وكانت تُستورَد — في الأغلب — من إنجلترا، ورفض الكثيرون شراء الراديو، وأعلنوا أنه مسكون بالجن.١٤٢ وكانت الفترة قد بدأت تجني ثمار القرن التاسع عشر، فبالإضافة إلى الإطار الموسع — على مستوى العالم — كانت السنوات العشر الواصلة بين القرنين التاسع عشر والقرن العشرين (١٨٩٥–١٩٠٥م) هي التي فتحت الأبواب لكل الإضافات في القرن الجديد. ثمة اكتشاف علم الميكانيكا، واكتشافات الزوجَين كوري وأديسون، وموجات ماركوني، وطائرة الأخوان رايت، واجتهادات أينشتين، وفرويد، وعبقرية بيكاسو، وإضافات ستانسلافكا المسرحية، وغيرها، وثمة الفونوغراف والقطار البخاري والترام والسيارة/الأوتوموبيل واللاسلكي والتليفون.

•••

يقول أحمد شفيق في مذكراته إن الرتب أصبحت كالسلع السهلة، وكان لهذه التجارة وسطاء كثيرون، منهم الشيخ علي يوسف وحسين بك زكي وأحمد العريس وإبراهيم بك المويلحي ومصطفى الحصري وأحمد شوقي بك الشاعر ومصطفى كامل الذي كان يأخذ ما ينفقه في الدعاية لقضية مصر. وكان لكل رتبة سعر مخصوص يدفعه الطالب، فالرتبة الثالثة يدفع عنها ٢٥٠ جنيهًا، والثالثة مع لقب بك ٣٠٠ جنيه، والثانية ٤٠٠ جنيه، والمتمايز ٥٠٠ جنيه.١٤٣ وكان أصدقاء عبد العليم أفندي يدعونه عبد العليم بك، دون أن ينال ذلك بموافقة رسمية، لأن الموضة بين الطبقة الموسرة هي التداعي بالألقاب.١٤٤ وفي قصة «العاشق المفتون بالرتب والشياطين» لمحمد تيمور (١٩١٧م) يتحدث عن أعيان الريف الذين يكتفون في بيوتهم بأكل العيش والفتة، فإذا زارهم المأمور ذبحوا له الخراف، وينامون في غرف ضيقة، ويلتحفون بملابسهم، لكنهم يعدون في قصورهم لرجال الحكومة غرفًا جميلة، وأسرَّة من الحرير، ويرفضون أن يأكل معهم أولادهم أو زوجاتهم، لكنهم يقفون في خدمة رجال الإدارة وقفة الخاضع الذليل.١٤٥ ويؤكد الفنان أن «الإحسان هو أعظم مرتبة، وأكبر نيشانًا، وأن الرتب والأوسمة ما هي إلا أوهام.»١٤٦ وزحفت أعداد من السراة المصريين إلى الأحياء الأوروبية في القاهرة والإسكندرية. أقاموا فيها، وحاولوا تقليد الأجانب في سلوكياتهم وسُبُل حياتهم، واعتمدوا — مثلهم — على استيراد احتياجاتهم من الخارج، بما في ذلك مواد البناء. حتى قطع الحجارة التي تُرصَف بها الشوارع كانوا يستوردونها كذلك، وكان اعتزاز المصريين بسفرهم إلى إستنبول. يقول باعتزاز: فلان جي من إستنبول!١٤٧
ويصف البشري شباب تلك الأيام في صورة تغلب عليها السخرية: «لقد أرسل سالفَيه حتى حاذتا سفلى شفتَيه، ورفع طرفَي شاربه حتى شارفا أعلى وجنتيه، وبالغ في تزيين هذا الشارب وتنسيقه، حتى ما ترى فيه شعرة تميل عن صفها، أو تنحرف عن موقفها … وقد نصب على رأسه طربوشًا طويلًا استهلك أصله جبينه الدقيق، أما «زره» فقد تأنق في ترحيله، وإرسال خيوطه بنسب معينة، تزداد — كلما تدلت — انفراجًا، وقد ركب على عينه اليسرى «مونوكل» مؤطرًا بالذهب، ودسَّ في فمه سيجارًا طويلًا غليظًا.»١٤٨

•••

تقول فاطمة اليوسف عن وضع المرأة في مطالع القرن العشرين: «لم يكن من حق المرأة أن تدخل ميدان الحياة العامة؛ لم يكن المجتمع يعترف بها إلا جارية تضع على وجهها الحجاب.»١٤٩ ويقول الراوي: «كنا نعيش في مجتمعٍ لا نساء فيه غير أهلنا الأقربين، وغير خيالات وظلال تلمع فيها عيون ساحرات خلف النقب، وخلال شيش النوافذ الموارب.»١٥٠ كان محظورًا على السيدات — في القطار — أن يجلسن في مقاعد الرجال. كان الأفندي أو البك من الركاب يوصل السيدة التي ترافقه إلى ديوان الحريم، ثم يجلس هو في أي مكان يختاره من مقاعد العربة.١٥١ ثمة من يذهب إلى أن القصة هي أدب المرأة، ارتهن ظهورها برقي منزلة المرأة في المجتمع، وكان للمرأة الفضل الأول في ظهور هذا اللون من الأدب.١٥٢ لقد شاركت المرأة الأوروبية في مجالات الحياة المختلفة، وانعكست تلك المشاركة في الأعمال الأدبية بعامة، القصة والرواية تحديدًا «فإن الحياة الاجتماعية التي يتسرب أثر المرأة في كل نواحيها، كانت مبعث الإلهام لكُتاب القصص الغربي.»١٥٣ وحصلت أول فتاة مصرية — نبوية موسى — على الشهادة الثانوية.١٥٤ ثم كانت أول معلمة تقتحم صفوف الأجانب بين هيئات التدريس في معاهد البنات، وأول سيدة مصرية تتولى نظارة المدرسة السَّنية بالذات التي كانت وزارة المعارف تحرص على أن تكون ناظرتها من الأجنبيات، وبالذات من الإنجليزيات.١٥٥ وشهدت الصحف ثورة قلمية لأن فتاة مصرية منقبة (!) التحقت بشركة التليفونات.١٥٦ ويتحدث الراوي عما نشرته الصحف من أن مصرية ظهرت — لأول مرة — على المسرح، «ولم يذكروا لنا بعد ذلك من أمرها شيئًا، إن كانت نجحت فسرُّونا بذكر نجاحها حتى نصفق لها من بين ثنايا هذا الوادي.»١٥٧ واللافت أنه لم يكن يقال آنسة على المرأة، سواء كانت فتاة أو متزوجة، كانت التسمية الوحيدة هي «السيدة».١٥٨ ونحن نلحظ أن العمة لبيبة كانت تدخن النارجيلة في أوائل العشرينيات.١٥٩ وعندما قالت الزوجة: كان يحبني وأحبه، فإنها كانت تعني زوجها، وقد قالت ذلك تعبيرًا عن هلعها لمقتل الزوج. وابتسم مساعد النيابة للكلمات التي «انشق عنها فؤادها الموجوع، وضحك بقية الحضور، حتى العمدة قطب شفتَيه بيده حتى لا يضحك ضحكًا ظاهرًا بحضرة رؤسائه.» أما مأمور المركز فقد قال في غضب: «هذه هي آثار تعليم الفلاحين ونتائج تعويدهم الحرية.»١٦٠ حتى الحب المباح بين أبناء الطبقتين الثرية والبرجوازية لم يكن سهلًا؛ فكان الشاب يلاقي الأهوال في سبيل موعد بريء بحضور «الدادة» أو «اللالا» وغيرهما من الرقباء.١٦١

كان محمد عبد القادر بك يسأل في صوتٍ متهدجٍ خاشع مؤمن: ربي، لمن خلقت هذا النعيم؟ ثم تبيَّن له أن ابنته تحب شابًّا فقيرًا، فأمرها أن تلزم البيت، وألا ترى حتى نور السماء؟! لكن الشاب التقى بفتاته في حديقة البيت، ورآهما الأب، وأنصت إلى حوارهما:

أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك إني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف إلى أن يضم عظامي القبر.

– وإني أقسم لك على ذلك.

وقبَّلها الفتى في جبهتها، وسار معها تتخذ وجهة السور ليعود أدراجه إلى منزله،١٦٢ وقال الرجل لنفسه: «ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبِّين، ولعمري ما تلك إلا جنة الحب.» ووافق على تزويج ابنته من فتاها الفقير.

•••

لم تكن كل المهن متساوية في نظر المجتمع المصري آنذاك، وإن كانت القاعدة العريضة من الموظفين. يقول عثمان بيومي: «الوظيفة في تاريخ مصر مؤسَّسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربًا أو سياسيًّا أو تاجرًا أو رجل صناعة أو بحارًا، فهو في مصر الموظف، وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ.»١٦٣ وقد ظلَّت الوظيفة هي المبدأ والمنتهى في حياة عثمان بيومي، ترقَّى في وظائفها من الأرشيف إلى أعلى الكوادر الوظيفية، وإن أحزنه أنه أطل — في ختام صعوده — على القبر الذي سيضمُّه بعد وفاته.
كان الإقبال على وظائف الحكومة وسيلة للخروج من مأزق كساد التجارة التقليدية التي واجهت حربًا ضارية من أصحاب المتاجر الحديثة. لم يستطع التجار التقليديون تطوير تجارتهم، ومقاومة التيار الجديد، فدفعوا بأبنائهم إلى الوظائف الحكومية.١٦٤ وبزيادة أعداد الموظفين المدربين — في أواخر القرن التاسع عشر — تقوَّت سلطة الإدارة المصرية، وتدعم جهازها، بحيث أصبح الاستغناء عن نظام الطوائف مسألة وقت. وفي ٢٤ يونيو ١٩٠١م صدر الدكريتو الخاص بلائحة المستخدمين الكلية، ينص على وجوب أن يكون لكل وظيفة في الحكومة مؤهلٌ هو جواز المرور إليها؛ فأعضاء النيابة والقضاة يجب أن يتخرجوا في مدرسة الحقوق الخديوية، والمهندسون في مدرسة المهندسخانة، والمدرسون في المعلمين العليا أو دار العلوم، والأطباء في مدرسة الطب … إلخ. ثم توالت القوانين التي تنظم العمل في الإدارات الحكومية، وتضع قواعد الترقيات والجزاءات والعلاوات والإحالة إلى المعاش وغيرها. وعندما أصبح الشاب من موظفي الحكومة، أظهر اعتزازه بأنه ينتمي إلى هؤلاء الذين يذهبون إلى الديوان صباحًا، ويعودون إلى البيت ظهرًا، بين نظرات الحسد والإعجاب.١٦٥ وكان من دواعي تباهي محمود أفندي التمرجي — عندما أراد الاقتران بعواطف — أن له مرتبًا شهريًّا من الحكومة، وأفندي.١٦٦ والموظفون طائفة مهمة في مجتمع القرية، ليس بكثرتها العددية، فعدد أفرادها قليل نسبيًّا، وإنما بتأثيرها المؤكد في حياة القرية. ثمة المشتغلون في المحكمة الشرعية أو الأهلية ومراكز الشرطة وهندسة الري وهندسة الطرق والدائرة السنية والمدارس … إلخ.١٦٧ وحين أراد أحمد عبد الجواد أن يثني ابنه عن الالتحاق بالمعلمين العليا، حدَّثه عن أناسٍ من الأعيان والموظفين المحترمين يأبون أن يزوِّجوا بناتهم من معلم، مهما تكن مكانته.١٦٨
كان الالتجاء إلى الطبيب — في نظر العامة — مرادفًا للتهيؤ للموت، ونذيرًا بقرب الأجل ودنو المنية.١٦٩ وكانت مدرسة الطب تخرِّج ما بين خمسة أو ستة أطباء كل سنة.١٧٠ وأشار الفنان إلى علم النفس بمعناه الأكاديمي الذي نعرفه الآن.١٧١
أما المحامي فقد سُمي السفيه لأنه رجل يقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا،١٧٢ ومن ثَمَّ فقد كانت غالبية الأسر ترفض تزويج بناتها من محامين خوفًا من الشماتة.١٧٣ وقد بكى أحمد فريد باشا، والد الزعيم محمد فريد، أمام الشيخ محمد عبده، وهو يقول له: هل يصح يا سيدي الأستاذ أن يهزئني محمد فريد في آخر الزمن، ويفتح دكان أفوكاتو؟!١٧٤ وحين ضاقت السبل — لفترة — بسعد زغلول، واستعصى عليه إيجاد وظيفة مناسبة في الحكومة، فإنه احترف مهنة المحاماة «والخجل يستر وجهه لسقوط اعتبار من كانوا يتعاطونها.» ثم عُيِّن سعد قاضيًا، وقال لمن أقاموا حفلًا لتكريمه: إني اشتغلت بالمحاماة متنكرًا عن أهلي وأصحابي، وكلما سألني سائل: هل صرت محاميًا؟ أقول: معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين»!١٧٥ ومن المغالطة نسبة تحقير المحامين على الاحتلال، فهو قد أكد هذا التحقير وأظهره فحسب. كان محمد علي يصف وكلاء الدعاوى (المحامين) في قراراته وأوامره بالمزورين!١٧٦ ومما يُحسب لعبد الله النديم أنه كان أول من نادى بتنظيم مهنة المحاماة، بعد أن كانت مقصورة على الأجانب الذين كانوا يستغلون سذاجة الفلاحين وجهلهم، فيبتزونهم ويغتصبون أراضيهم.١٧٧
لقد بدأت المحاماة — في صورتها الأولى — حرة تمامًا، فليس ثمة نظام محدد إلا بعض القواعد الأولية. وكان الإلمام بالقانون ومبادئه هو كل المطلوب من المشتغلين بمهنة المحاماة. وقد أنشئت مدرسة الحقوق في ١٨٧٤م باسم مدرسة الإدارة والألسن. وكان اسم أول خريجيها محمود أفندي خيرت. عُيِّن قاضيًا في الإسكندرية، ثم مارس نشاطًا وطنيًّا ضد قوات الاحتلال الإنجليز، فعُوقب بالفصل، ثم أعيد إلى القضاء حتى أحيل إلى المعاش.١٧٨ ولأن معظم القضاة كانوا من الأجانب، لا يعرفون سوى الفرنسية أو الإيطالية، فقد كان البديهي أن تتسم المرافعات بإحدى اللغتين. ومن هنا كانت مهنة المحاماة — آنذاك — قاصرة، أو تكاد، على الأجانب. فلما تأكد نظام المحاكم، والنظام القضائي عمومًا، صدرت لائحة بتنظيم مهنة المحاماة في ٩ يونيو ١٨٧٧م تنص على أن يكون المتقدم لممارسة مهنة المحاماة حائزًا على شهادة الدراسة الحقوقية، وأن يكون ذا سيرة حسنة، ومقيمًا في مصر، وزاول مهنته لمدة خمس سنوات أمام المحاكم الابتدائية. ثم أدخلت على مزاولة مهنة المحاماة تعديلات، وبدأت الطوائف القديمة تنحسر شيئًا فشيئًا، حتى صدر قانون نقابة المحامين،١٧٩ (عمل رجب أفندي علي سمسارًا للدعاوى في القاهرة والأقاليم، يقصده الناس لقضاء أشغالهم بنفسه، أو يرشدهم إلى محامين يكِلون إليه قضاياهم (النفس الحائرة، ٨)). ومع أن لطفي السيد عاب على المحامين — في أوائل القرن العشرين — عدم اهتمامهم بالسياسة، حتى مطالعة الصحف وجد فيها مجرد ميلٍ لتزجية الفراغ، فإن معظم القيادات السياسية — في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن — كانوا من دارسي القانون، ومن العاملين بالمحاماة، مثل إبراهيم الهلباوي وسعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وغيرهم. والملاحَظ أن شكري — بطل الضاحك الباكي — كان خريجًا في مدرسة الحقوق. وكان أحمد منصور (الخيط الأبيض) محاميًا. وكان فهمي عبد الجواد (بين القصرين) طالبًا بمدرسة الحقوق. وشارك الثلاثة بإسهامٍ وافرٍ في الحركة الوطنية. ومنذ العشرينيات — تقريبًا — حرص خريجو مدرسة الحقوق الملكية على إضافة صفة المحامي إلى أسمائهم: محمود كامل المحامي، وهكذا، ويقول فؤاد الحمزاوي (قصر الشوق) لكمال عبد الجواد: ادخل الحقوق لتضمن عملًا محترمًا.١٨٠ وقد رفض الشاب موريس، بعد تخرجه في كلية الحقوق، أن يعمل بالمحاماة، لكثرة عدد المشتغلين بها، فضلًا عن كثرة تنقلات العاملين بوظائف النيابة العامة.١٨١ ثم تغيَّرت صورة المحاماة تمامًا بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية. ثمة مجموعة من كبار المحامين المتمصرين والأجانب كرست جهودها للدفاع عن مصالح الرأسماليين والمرابين الأجانب، فلما ألغيت الامتيازات الأجنبية، وألغيت المحاكم المختلطة، وما استتبع ذلك من استقلال سياسي وإجراءات للتمصير، بدأت مكاتب كبار المحامين المختلطة تختفي، لتحل بدلًا — شيئًا فشيئًا — مكاتب المحامين الوطنيين.١٨٢ ويصف الراوي (يوميات محامٍ) كلية الحقوق بأنها تخصصت في إخراج رؤساء الوزارات والوزراء والمتحكمين في أقدار مصر.١٨٣ ويقول والد لبيب سرور عزيز (حديث الصباح والمساء) حينما يعلن الابن عن رغبته في الالتحاق بمدرسة الحقوق: إنها مدرسة الحكام.١٨٤ ويقول رضوان ياسين (السكرية) «كلنا — يعني هو وابن خالته — من القسم الأدبي، فليس أمامنا من كلية جديرة بالاختيار إلا الحقوق.»١٨٥ ويضيف: «إن أكبر قادة الفكر في وطننا من الحقوق.»١٨٦ وفي الانتخابات التي أجرتها وزارة عدلي يكن الائتلافية (١٩٣٠م) فاز ١٧ شيخًا و٥٥ نائبًا من المحامين، ولما استقال عدلي، خلَّفه في رئاسة الوزارة محامٍ هو مصطفى النحاس.١٨٧ وكان حلم الشاب (إلهام) وهو يدرس الحقوق، في أثناء عمله بمصلحة الصحة، أن يصبح — ذات يوم — وزيرًا أو زعيمًا يشيد الناس بذكره.١٨٨ وأعلن جلال علي يونس (الشارع الجديد) تباهيه بأنه طالب في الحقوق «إنها أربع سنوات، ثم أصبح بعدها وزيرًا.» وقال لمحدِّثه: «أرجو ألَّا تسخر مني، جميع الوزراء زملائي، كلهم من خريجي الحقوق.»١٨٩ ويسأل الأب (نحن لا نزرع الشوك) ابنه: ستدخل أي كلية يا رءوف؟

– سأدخل الحقوق.

– لماذا؟

– لكي أصبح وزيرًا.

– مرة واحدة؟!

– أليس الوزراء والزعماء كلهم من الحقوق؟١٩٠ ولأن سليم باشا شلبي (الشارع الجديد) كان يتصرف في شئونه بإحساس الذي لم يخفق في حياته يومًا، فقد دفعه الإخفاق في أن يصبح وزيرًا، بتأثير ضآلة نصيبه من التعليم، إلى محاولة تحقيق طموحه في ابنه الأصغر. أدخل ابنه كلية الحقوق توهمًا منه بأنها أقصر طريق إلى الوزارة، لأن أغلب الوزراء — في كل العهود — من خريجي الحقوق.١٩١ وكان أغلب طلبة الحقوق — في رواية عزيز أباظة — متجهين بآرائهم ناحية الوفد، ويضيقون بمن يخالفهم لدرجة أنهم كانوا يسعون إليه بالأذى والإهانة.١٩٢ واللافت أن تصدي الكثيرين من خريجي الحقوق للعمل السياسي كان له تأثيره المباشر في مسار الحركة الوطنية بعامة. ولعل من مظاهر ذلك التأثير ما يذهب إليه عبد الخالق لاشين من أن الحركة الوطنية أخذت شكلًا معينًا وطابعًا خاصًّا، هو ذلك الذي ظهرت به، وحافظت عليه، وهو محاولات تقنين علاقة مصر ببريطانيا، رغم رفض الجماهير المصرية السير في تلك الطريق.١٩٣
ثم تبدَّلت الظروف ثانية نتيجة لتبدُّل الأحوال الاقتصادية، وتفشي البطالة. وتساءل حلمي عزت (السكرية) إن الوظائف لا تنتظرنا، ما مستقبل الحقوق أو الآداب؟ التسكع أو الوظائف الكتابية؟ تساءلوا عن المستقبل إذا شئتم.١٩٤ وحين أعلن الشيخ حسن (نفوس مضطربة) في أواخر الثلاثينيات، أنه يفضِّل لابنه «محمود» كلية الحقوق، لوَت الزوجة شفتيها في سخرية، وقالت: إن البلد مملوءة بمئات المحامين، بل هي موبوءة بهم، وأنها سمعت من محمود أن بعض المحامين يترافعون في قضايا، الأتعاب فيها صندوق سجاير وخمسة قروش.١٩٥ لكن أبناء طبقة السراة، أو مَن يتطلعون إلى مجاوزة طبقتهم، ظلوا حريصين على دخول كلية الحقوق.١٩٦ يقول إبراهيم شوكت لابنه أحمد: انظر إلى الحقوق، وكيف جعلت من ابن الحمزاوي وكيل نيابة قد الدنيا.١٩٧ وفي رسالة تلقَّاها الطالب إبراهيم محمود (الغبي) بشأن استكمال تعليمه: «واعلم يا ولدي أن دراسة القانون هي مطلب أولاد الأعيان، وقِبلة أنجال الذوات، مستقبلها زاهر، وثمار محصولها وافر، لولا كثرة نفقاتها، وعظم أعبائها، فإذا استطعت تدبير المال فلا تتأخر، وإذا لم تستطع فلا تندم.»١٩٨ ومع أن الراوي (قلوب خالية) كان به حبٌّ غريبٌ للفلسفة، ورغبة في أن يلتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، فإنه قدَّم أوراقه إلى كلية الحقوق؛ ذلك لأن أباه وأمه وإخوته، وكل أبناء القرية، كانوا يريدون له أن يدرس الحقوق، ليصير في النهاية وكيلًا للنيابة.١٩٩ وكانت مهنة أحمد راشد المحامي (خان الخليلي) هي أشد ما استلفتَ اهتمام أحمد عاكف. تذكر أن المحاماة كانت من المهن التي تمنَّاها، لولا الظروف التي لم تتِح له استكمال تعليمه. أما القضاة فقد كان المعروف — كما يشير الحكيم — أن رجال القضاء تتخاطفهم الأسر الكبيرة الثرية، لما ينتظرهم من مستقبل في حكم البلاد.٢٠٠
وأما الصحافة فقد ظلَّت — لفترة طويلة — مهنة متدنية، تقوم على الجاسوسية والإشاعة وكشف الأسرار المنهي عنه شرعًا، بعكس المحاماة التي لم تعُد كذلك.٢٠١ كانت الصحافة — في تسمية البعض — مهنة العاطلين.٢٠٢ وذهب المحامي في قضية زواج الشيخ علي يوسف من صفية السادات إلى أن «حرفة الصحافة في ذاتها دنيئة في الأصل، والدليل على ذلك أننا رأينا عوام الناس ممن لا حرفة لهم يتخذونها حرفة للتعيش، وهي أدنى الحرف، لأن مَن يمارسها لا يحتاج إلى بضاعة لها. وكيف لا تكون أدنى الحرف، وهي ليست إلا عبارة عن الجاسوسية العامة، وهي المعدَّة للإشاعة، وكشف الأسرار، والله تعالى يقول: وَلَا تَجَسَّسُوا» وكان رئيس قسم الترجمة بجريدة «الفاروق» — حسن أمين — طالبًا بالسنة الثانية الثانوية.٢٠٣ أما صاحب جريدة «الحقائق» فقد كان تلميذًا حاز شهادة الكفاءة، ثم ألجأته الضرورة لأن يتخذ الصحافة مهنة، فبدأ عمله شريفًا، ثم أنهاه بسبِّ الناس وشتمهم «كما يفعل أصحاب الجرائد الأسبوعية التي لم تنشأ إلا لهذا الغرض.»٢٠٤ ويقول الرجل: «أصبحنا في هذا البلد الأمين كالمتشردين لا نجد لقمة بها. ذهبتُ عند أحد الباشوات لأسأله بدل الاشتراك، فاعتذر بمرضه أولًا، وبتغيُّبه عن قصره ثانيًّا، ثم بطردي من القصر ثالثًا.»٢٠٥ وكانت العائلات تكاد تتبرَّأ من ابنها إذا احترف الأدب، أو كتب مقالًا في الصحف.٢٠٦ وحين أراد محمود أن يعمل بالصحافة، أبي والده، وأنكر أن ينفق على تعليمه ليكون شيئًا محسوبًا في الدنيا، ثم يصبح جورنالجيًّا.٢٠٧ ذلك ما واجهه العقاد عندما أراد أن يصبح صحفيًّا، فقد قال له أحد أصدقائه: «ماذا؟ تترك خدمة الميري، وتشتغل بالفزاريط والجرانيل؟ إن كنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه، فانتظر هنيهة لترى مائة من هؤلاء الصايعين الضايعين يتمنَّون التراب تحت قدميك في وظيفتك، ولا يصلون إليه.»٢٠٨ ويقول منصور لابنه: «وهل كابدت المشقة، وبذلت الجهد في دراسة الحقوق، لتصبح جورنالجي؟!»٢٠٩ ومن أسماء الصحف في تلك الفترة: الخلاعة، الغندرة، الصاعقة، المرستان، الصبوة، العفريت، البعبع، الجاسوس، اللجام، الكرباج … إلخ. كما أحصى محمد عمر ١٧ جريدة تكتب موضوعاتها باللغة الدارجة.٢١٠ ويرى الكثيرون أن الكتاب من تأليف أحمد فتحي زغلول، وأنه وضعه مقابلة لكتاب «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» الذي قام فتحي زغلول بترجمته.٢١١ مع ذلك، فقد استقطبت «المؤيد» العديدَ من الأقلام المهمة، مثل سعد زغلول وقاسم أمين ومحمد عبده وأحمد فتحي زغلول وتوفيق البكري وغيرهم. وصدر العدد الأول من جريدة «السفور» — اجتماعية، نقدية، أدبية — صباح الجمعة ٢١ مايو ١٩١٥م لتكون «مظهر التقدم الفكري في هذا البلد، ومضمارًا لكل دعوة حرة صالحة … وإذا كانت جريدتنا تنادي بإصلاح حال المرأة، فهي أيضًا صحيفة اجتماعية نقدية أدبية، تنادي بالسفور الشامل في كل باب من أبواب التقدم والإصلاح.»٢١٢ وقد استمر صدور «السفور» — فيما بعد — مرة كل أسبوع. وكانت الصحف — بعامة — تعبِّر عن التيارات التي تموج داخل الحياة المصرية، وتطفو فوق سطحها. جريدتا «مصر» و«المقطم» — على سبيل المثال — تَدينان للاستعمار، وتعبِّران عن وجهة النظر الاحتلالية، و«اللواء» و«الدستور» تؤيدان وجهة النظر الوطنية في إطار دولة الخلافة. أما «الجريدة» فكانت تعبيرًا عن ملاك الأراضي وبعض كبار المثقفين. أما «المؤيد» فكانت جريدة السراي. وكانت «الأهرام» — بحكم انتماء أصحابها إلى الشام — منحازة إلى وجهة النظر الفرنسية.٢١٣

وفي الأربعينيات من القرن العشرين يسأل المعلم نونو أحمد أفندي عاكف: هل أنت صحفي؟

– هبني أجبت بالإيجاب؟

– مستحيل!

– ولمه؟

– أنت ابن ناس طيبين!٢١٤
وقد أسهمت الصحف في القضاء على مهنة قديمة؛ حيث كان بعض الرجال يقفون على أبواب الدكاكين، يدعون المارة للدخول، ويزيِّنون لهم البضاعة، تلاشت تلك المهنة بعد أن حلَّت الإعلانات في الصحف محل هؤلاء المنادين.٢١٥ وكان من بين الإعلانات المألوفة في الصحف المحلية، صور طبعات جديدة من كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه»، والأدوية التي تشفي من ارتخاء الأعضاء التناسلية — ثمن الزجاجة ١٤ قرشًا — وإعلانات عن أدوية أخرى مضمونة في شفاء أمراض السيلان والزهري.
وكانت النظرة إلى الأديب تتفق في مجموعها مع النظرة إلى الصحفي. وكما يقول طه حسين، فقد كان الأديب في نظر الناس «يائس بطبعه، طامح بطبعه إلى النعيم، يتخذ البؤس لنفسه عشيرًا، ويجعل النعيم لنفسه حلمًا، ويختلس المتعة القصيرة بين حين وحين إن أتيح له أن يخرج من حياته المألوفة إلى رياضة في الضواحي، أو تنزُّه في الحدائق، أو جلسة في قهوة من القهوات.»٢١٦ ويصف الفنان حياة الأدباء، في تلك الفترة، بأنها كانت «مزاجًا غريبًا من متعة تُختلَس بين حين وحين، ومن بؤس نفسي يفرضونه على أنفسهم، وإن لم تفرضه عليهم الحياة» … إلخ.٢١٧ ويشير يوسف نجم إلى أن الأدباء كانوا يحتقرون كُتاب القصة، ويعتبرونهم من ذوي المواهب الهزيلة، وكانت المجلات الجادة تستنكر قراءة الروايات «لما تسبِّبه من قلق للشبان والشابات»، وتطلب من الآباء أن يحثُّوا أبناءهم على «قراءة الموضوعات النافعة التي تربي القوى العقلية والأدبية كي لا يتاح لهم الوقت الكافي لقراءة القصص والروايات مما يفسد الأخلاق.»٢١٨ يضيف عبد الحليم عبد الله بأن طلب الناس كان للخطبة السياسية والقصيدة الشعرية أكثر من طلبهم للقصة.٢١٩ «وكل فرد من كُتاب ذلك العصر، أعتقد أنه ما كان يسره أن يُدعى قصاصًا، بل ربما اعتبر ذلك تصغيرَ شأن.»٢٢٠ ولعل ذلك هو السبب الذي أسقط هيكل — في ضوئه — اسمه من غلاف روايته «زينب». وحتى أوائل القرن العشرين، كانت القصص — مترجَمة أو مؤلَّفة — تُنشَر في الصحف تحت عنوان «باب الفكاهات»، أو «الحكمة في طي اللهو»، وكانت نظرة المتعلمين إلى الأدب القصصي على أنه من هامشيات فن الأدب، وأن مبدعيه من كتَّاب الطبقة الأدنى.٢٢١ واللافت غلبة الجنس فيما أصدرته المطابع: منعظ العنين ومغنى عن المعاجين … الإيضاح في علم النكاح … الفلاح مع الثلاث نساء … رجوع الشيخ إلى صباه … المرأة التي حبلت جوزها … العمدة اللي اجوز سته … بدع خرج من الحمام … إلخ، وكان باعة الكتب الجنسية والرسوم العارية يطوفون على المقاهي يبيعونها — علانية — للرواد.٢٢٢ كانت مصر في تلك الفترة — والقول لعبد الحليم عبد الله — أشبه بأرضٍ عطشى، كثيرة الأخاديد والمرتفعات، مزرعة غير مستوية، لكنها صالحة للزرع والحدائق.٢٢٣ واستطاع المنفلوطي، وعدد قليل من أعلام الأدباء في تلك الفترة، أن يقدموا أعمالًا يبين فيها الجانب الاجتماعي بصورة واضحة، مثل «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي و«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم و«في وادي الهموم» للطفي جمعة … إلخ، وكلها — كما أشرنا — تغلِّب الجانب الاجتماعي، وتناقش همومًا معاشية معاصرة. ويعبِّر الراوي عن تخوفه من إقبال الأدباء على اللفظ دون المعنى، بحيث يغلب على أسلوب الكتابة نزوع جماعة اللفظيين، لتكون دلالة الكتاب لفظية أكثر منها معنوية … هذا العيب الكتابي شائع عند قومنا حتى لتجد بين الأذكياء من يرى قيمة البلاغة كلها في اختيار الألفاظ، وكنت أنا في حداثتي بالرغم مني أجري في هذا التيار، أنظر إلى ديباجة القول قبل أن أمتحن معانيه، ثم ارتقى ذوقي الإنشائي قليلًا، فصرت أشعر بأن الجمال اللفظي ليس إلا زينة لحسن المعنى، ودخل في أماني العلمية أن أعدل ذوق قومي من هذه الجهة؛ فإن عناية المنشئين منا باللفظ دون المعنى، جعلت اسم الكاتب والشاعر منطبعًا على أناسٍ لا رُقي في معلوماتهم ولا أفكارهم ولا خيالهم ولا إحساسهم، وهذا ضار بحركتنا الأدبية.٢٢٤ ويَعتبر محمود تيمور «زينب» هيكل و«حديث» المويلحي «لونًا يختلف عن اللون الرمزي والرومانسي الذي كنا غارقين فيه، لونًا واقعيًّا يهبط بالقارئ من سماء الخيال العليا — حيث يعيش الناس كالملائكة فوق الضباب — إلى الأرض التي نحيا عليها؛ حيث ترى الناس بشرًا مثلنا، على فطرتهم التي خُلقوا عليها.»٢٢٥ ويقول الراوي: «ظهر رجل رأيت صورته في الصحف، وكان وسيمًا في ملابسه التقليدية، الجبة والقفطان والعمامة، وكانت أمنيتي أن ألقاه يومًا، وأن أقبِّل يده، ولكن لم تتحقق هذه الأمنية، كان اسمه مصطفى لطفي المنفلوطي، وكنت أقرأ له بنهمٍ، وألتهم كلماته التهامًا.»٢٢٦ كانت أعمال المنفلوطي تهدف إلى تحريك المشاعر، واستدرار الدموع، مثل «ماجدولين» و«في سبيل التاج» و«سيرانو دي برجراك» وغيرها من الأعمال المترجمة — تلخيصًا — عن الفرنسية (يبدو أن الاقتباس كان هو صورة الترجمة أيام المنفلوطي، فقد اقتبس حافظ إبراهيم «بؤساء» فيكتور هوجو، ولخَّصها)، وقصة «اليتيم» عن الشاب اليتيم الذي أحب ابنة عمه، فلما مات العم فرَّقت زوجه بين الحبيبين، وماتت الفتاة المحِبة همًّا، ثم لحق بها الفتى حزنًا على رحيلها. حدوتة ساذجة — كما ترى — وتحمل أصداء باهتة من مسرحية شكسبير «روميو وجولييت». لكن الهدف هو مجرد صياغة مأساة صارخة الألوان، تستدر الدمع إلى الأعين. يقدم المنفلوطي «النظرات» بقوله إنه يستمتع كثيرًا «بالتعبيرات الشاعرية عن الحزن والأسى، والمواقف المثيرة للشفقة والألم، وقصص من يعانون، ومن تعرَّضوا لمصائب الأقدار.» لذلك جاء التفسير بأن أدب المنفلوطي «يتلاءم مع روح الهزيمة التي كانت شائعة بعد فشل العرابيين إلى حدٍّ بعيد.»٢٢٧ ويرى فتحي رضوان أن الفترة التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى يمكن أن تُسمَّى «عهد المنفلوطي» أصبحت المنفلوطية — على حد تعبير عبد الله أبو هيف — ظاهرة أدبية اجتماعية، فنشأت أجيال تنبض بالمنفلوطية كُتابًا وقراء، عانوا كثيرًا من فيض أحزانهم ومجمع آلامهم النبيلة والوضيعة.٢٢٨ ويخبط حمدان على جيب الراوي الذي أخفى فيه رواية «ماجدولين» وهو يقول: عليك أن تفلح في شيء غير هذا مرة واحدة!٢٢٩ ولم يقتصر إعجاب الأدباء الشباب بالمنفلوطي كمتلقين، وإنما جاوز بعضهم ذلك الإعجاب إلى محاولة التقليد. استهوتهم شهرة المنفلوطي فأرادوا بلوغها، ونشر العديد من المقالات التي تحاكي «النظرات» و«العبرات»، وأسلوب المنفلوطي الذي يخاطب الوجدان بكلمات مؤثرة. وقد لجأت فيفي إلى أعمال المنفلوطي: «ماجدولين»، و«الفضيلة»، وغيرها، اختارت منها سطورًا تصلح للاستعمال في مناسبات شتى، وبالذات في كتابة الرسائل لأصدقائها من الشبان.٢٣٠ حتى الأديب الشاب طه حسين كتب مقالًا عنوانه «بين العبرات والزفرات»، حاول فيه مخاطبة مشاعر قارئه واستثارة عواطفه، لكن كل تلك المحاولات انتهت كما تنتهي الظلال، وإن وجد أسلوب المنفلوطي امتدادًا له في بعض الكتابات التي ظهرت — فيما بعد — والتي زاوجت بين التأثر بالأسلوب المنفلوطي والشخصية الفنية المستقلة! ومن بين القصص التي توضح فيها التأثُّر بأعمال المنفلوطي، ما كتبه طه حسين في «مصر الفتاة» (٨/ ١٠/ ١٩٠٩م) عن شاب فائق الجمال، محمود السيرة، كان يعمل خادمًا في منزل أحد السراة، وأحبَّته سيدة البيت، فقرَّبته منها، وراودته عن نفسه حتى امتثل لإغرائها. وظلَّت علاقة السيدة والخادم مستورة، حتى دخل صاحب البيت — يومًا — فوجد الشاب والسيدة في موضع مريب، فأخذته ثورة، وأطلق رصاص مسدسه على الشاب. ومع أن الشاب أصيب في فخذه، فإنه قد استطاع الفرار، وهام على وجهه في أحياء القاهرة، حتى لقيه الكاتب — طه حسين — فأثار من خلال قصته — الشاب — قضية الخير والشر، وأكد أن الشر داخل كل نفس مهما تغلفت بالخير، ثم دافع عن الشاب، وألقى باللوم على النسوة العابثات.٢٣١ مع ذلك، فقد كانت شهرة المنفلوطي دافعًا لأن يحاول طه حسين — وكان أديبًا مجهولًا — تحقيق الشهرة، بالنَّيل من أشهر كُتاب عصره. كتب سلسلة من المقالات بعنوان «نظرات في النظرات» اتهم فيها المنفلوطي بالجهل والادعاء والكذب والسرقة الأدبية وتضليل القراء. وكتب شتائم وسبابًا وعبارات نابية لا نقد فيها ولا ما يشبه النقد، إنما هي وسيلة — باعتراف طه حسين فيما بعد — لبلوغ الشهرة على حساب كاتب كبير. والحق أن كتابات المنفلوطي كانت — في حينها — ثورة على القديم بما يثقله من محسِّنات، وتكلُّف في السرد والصياغة. وقد امتدت تأثيرات المنفلوطي الرومانسية إلى فترة طويلة بعد وفاته، حتى إن المدرس يطلب من تلميذه صاحب الموهبة الأدبية أن يكتب مثل المنفلوطي، ويعطيه رواية «تحت ظلال الزيزفون».٢٣٢
كانت الحركة الأدبية — في مجملها — نشطة إلى حدٍّ بعيد، حتى إن الإنجليزي يونج يذكر في كتابه «مصر» (لندن ١٩٢٧م) أنه كان يوجد في القاهرة، في مطلع القرن العشرين، ٢١٧ مطبعة، تصدر كتابًا أو نشرة كل يوم في المتوسط. وكان تعداد القاهرة أيامها حوالي ربع مليون، وتم بناء دار الكتب ودار الوثائق العربية بباب الخلق في نوفمبر ١٩٠٢م.٢٣٣

وقد دانت الغلبة للريف في الأعمال الأدبية المصرية منذ «عذراء دنشواي» (١٩٠٨م) إلى الحرب العالمية الثانية، حيث توضحت إسهامات جيل الوسط ممثَّلًا في نجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف جوهر وصلاح ذهني وعادل كامل وغيرهم، وهو الجيل الذي لم يقتصر مبدعوه على تناول مظاهر الحياة في القرية وتطوراتها وهمومها، وإنما عنوا بالمدينة أيضًا، بفئاتها وطبقاتها المختلفة.

يحدد محمود تيمور بداية ميلاد القصة الحديثة، بمجموعة «ما تراه العيون» لمحمد تيمور التي نشرها مسلسلة في «السفور» عام ١٩١٧م.٢٣٤ ثم جاءت المدرسة الحديثة التي أسَّست القصة القصيرة كجنسٍ أدبي جدير بالاحترام — على حد تعبير يحيى حقي — «ونشرت المنهج الواقعي، وخلَّصتنا من تنهدات الرومانسية.»٢٣٥ وقد نال أعضاء المدرسة الحديثة المنفلوطي بآرائهم الرافضة. إن ما تحتاجه حياتنا الجديدة هو الأدب الذي يعبِّر عن الواقع، ولم يكن أدب المنفلوطي كذلك في تقديرهم. ومن الطريف أن يصف الشاب في الخمسينيات كتب المنفلوطي بأنها «كتب محنَّطة» تغيَّر الزمن!٢٣٦ وثمة رأي يذهب إلى أن محمد لطفي جمعة أسبق من محمد تيمور في بناء القصة القصيرة المصرية الحديثة؛ فهو لم يلجأ إلى الترجمة مثلما فعل تيمور أحيانًا، وأتاح له اطلاعه الواعي على الأدب الأوروبي أن يختار المذهب الواقعي، فضلًا عن إجادته صياغة القصة بما يفوق صياغة تيمور إلى حدٍّ كبير. صدرت «ما تراه العيون» لتيمور في ١٩١٧م، بينما صدرت «في وادي الهموم» للطفي جمعة في ١٩٠٥م، مع ذلك فإن النقلية اكتفت بالتأكيد على أن محمد تيمور هو رائد القصة المصرية القصيرة.٢٣٧
يقول يحيى حقي: «لقد نشأت فوجدت عزيز عيد يلبس الفيونكة العريضة وهو قزم، لا يجد — أحيانًا — مكانًا ينام فيه، فينام على خشبة المسرح، وسيد درويش يلبس الفيونكة ويجوس خلال الليل كالروح الهائمة ينثر النقود، ويقسو على نفسه قسوة شديدة من أجل أن يتألق، أو لعلها من أجل أن يخمد هذا العفريت، هذا الجن، هذا الشيطان، هذا الاهتزاز الإلهي، هذا النور المقدس الذي يفترس روحه. وكان عبد الوهاب — في مطلع أيامه — يقلد هيئة الفنانين، فيترك سوالف على صدغيه. طبعًا حلقهما بسرعة حين اشتد عوده. وكان علي الكسار يبعثر النقود، ويلتمس الحب في حي الحظ، إمام العبد صعلوك في نظر السادة، لكنه عندنا فنان بوهيمي.»٢٣٨ ويقول الحكيم في «زهرة العمر»: «لقد كانت فجيعة لأبي المسكين، أيام كان يسمع ويرى، أني أنسى صفتي كمحام، وأنحشر في زمرة الممثلين، وأولئك الذين يسمونهم عندنا المشخصاتية. والحق أنهم في مصر ليسوا بعدُ من الطوائف المحترمة. لقد كان ملحن رواياتي كامل الخلعي يجلس على قارعة الطريق، يدندن ويلحن وهو عاري القدمين إلا من قبقاب خشبي، تلك كانت بدايتي الفنية.»٢٣٩ وعندما أراد الشيخ زكريا أحمد أن يعمل بالفن، عنَّفه أبوه قائلًا: أنت من أسرة محترمة، فهل تريد أن تكون واحدًا ممن تقتصر حياتهم على ترديد: يا ليل يا عين؟! وأول وقوف محمد عبد الوهاب على خشبة المسرح، عنَّفه أبوه، وجرَّه في الشوارع حتى أعاده إلى البيت. ولم يكن من المتصور — بالنسبة لأسر الطبقة فوق المتوسطة — أن يقف المغني أو الممثل على خشبة المسرح، ليتفرج الناس عليه، بل إن الأب الشيخ يرادف الممثلات وبنات الهوى، ويعتبرهن أوحال المعايب والنقائص.٢٤٠
ويشير الفنان (النفس الحائرة) إلى أن إقبال أهل القاهرة على المسرحيات الغنائية لم يكن حبًّا للتمثيل «لأن الناس في مصر لا يميلون إلى التمثيل، ولا يقدِّرون قدره» لكنهم كانوا يحبُّون الغناء، والأصوات الجميلة بخاصة.٢٤١
من هنا، ظلَّت عروض دار الأوبرا الخديوية — لأعوام طويلة — حكرًا على الفرق الموسمية الأجنبية، وكانت تحصل على إعانات حكومية باهظة، وهو ما لم تحصل عليه الفرق المصرية، لأن «التمثيل العربي — كما كتب محرر جريدة «الأخبار» — صناعة محتضرة، ولا يُفهَم منها غير الأناشيد بل أوزان، والأغاني بلا ضابط، والإلقاء بلا تأثر.»٢٤٢
لفظ العوالم مستمد من لفظ فينيقي قديم هو عَلْماء — بفتح العين وسكون اللام — ومعناه فتاة عذراء، أو عذراء مغنية، وهو يقرب في معناه من اللفظ العربي «قينة» وكبيرة العوالم تُسمَّى «أسطى» مثل الأسطى في الحِرف الأخرى.٢٤٣ وفي «حديث عيسى بن هشام» حضر بعض المشايخ حفل عرس، وبعد انتهاء المأدبة، وغسل الأيدي، خرج المشايخ مسرعين «خشية أن يبتدئ الغناء فيحل بهم المكروه.»٢٤٤ كانت مهنة الغناء محرمة شرعًا في رأي العديد من علماء الدين، ثمة مَن استند إلى تحريم الشافعي ومالك وأبو حنيفة. وثمة مَن جعل سماع الغناء من الذنوب، واعتبر الآلات الموسيقية من عمل الشيطان. وكان المذهب الحنفي يرى أن شهادة الفنان باطلة، وكانت نظرة المجتمع متدنية للمغني، بل إن المأذون كان يرفض المشاركة في كتابة عقد زواجٍ للمشتغِل بالموسيقى تلحينًا وأداء.

وكان للحكم القضائي الذي صدر في ١٨٩٥م بعدم اعتبار رقصة هز البطن التي تُقدَّم في المقاهي العمومية من المخالفات، والتأكيد على أنه فن ترتزق منه بعض النساء … كان لذلك الحكم تأثيره السلبي على تزايد أعداد الراقصات. ومع ذلك فقد كان إثم الرقص أكبر من كل خطيئة، لذلك كان الناس حريصين على أن يجنِّبوا مجالسهم أن يذكر فيها اسمه، ويصرفوا ألسنتهم عن أن تجري به.

كانت الأسطى لبيبة شخلع العالمة أول ما عرف محسن الصغير (عودة الروح) في دنيا العوالم. كانت تزور أسرة محسن كل صيف في دمنهور مع تختها وآلاتها. وفي رواية «نفوس مضطربة» يتحدث الراوي عن الأسطى نعيمة، العالمة الشهيرة «شابة كلها حياة وحركة، تحرك رقبتها على نغمات العود حركات كلها ألحان ورقص، إنها ترقص برقبتها، بعينيها، برموشها، كل حركة منها، وكل نأمة لها، رقصة موقعة ملحنة.»٢٤٥ وتقول العالمة جليلة (بين القصرين): «كان — زوجها — رجلًا غيورًا، ولكني نشأت بفطرتي لعوبًا لا أبالي، كأنما رضعت الغنج في المهد. كنت أضحك الضحكة في الدور الأعلى، فتضطرب لها جوانح الرجال في الشارع، فما يبلغه صوتي حتى ينهال عليَّ ضربًا، ويرميني بشر الصفات، ولكن ما حيلة التأديب في مَن قدرت عليها فنون العشق والطرب والدلال.»٢٤٦ وكانت شفيقة القبطية تجلس على عرش الطرب.٢٤٧ أما منيرة المهدية، فقد غنَّت — في البداية — في مقهى نزهة النفوس، وكانت تتباهى بأنها من دم ملكي، وأنها تنتسب للسلطان إينال اليوسفي، وتحصل على مستحقاتها في وقف له مع أفراد عائلتها. وثمة الست توحيدة والحاجة السويسية واللاوندية والكمسارية ونزهة. ثم مثَّل الفونوغراف تحديًا قاسيًا لفئة العوالم. ثم ساعد انتشار المسرح وظهور السينما، فضلًا عن تغيُّر العلاقات الاجتماعية، على ذوي نشاطها — تدريجيًّا — بصورة واضحة. وفي أواخر العشرينيات، كسدت بضاعة العوالم بكساد الأفراح، واقتصرت الأفراح على دعوة الأهل والأصدقاء، في غرفة الاستقبال أو الصالة، وتقديم الأطعمة والمشروبات في البوفيه. كما ظهر ناس يمثِّلون طبقة جديدة، ينظرون إلى تقاليد الأفراح بازدراء غير قليل، ولا يعترفون بأي مطرب مصري، فهم يستقدمون أوركسترا أوروبي، يعزف في البهو بعد العشاء ليطرب الجمهور.٢٤٨
وكان «العرضحالجي» — في الأصل — من كبار موظفي حكومة محمد علي، ثم انتقلت التسمية إلى الكتبة العموميين.٢٤٩ مكتبه أمام مبنى المحكمة، فوقه رسم محفور لميزان العدالة بعرض حائط المبنى. زبائنه كثيرون، هم أصحاب القضايا والمصالح في المحكمة. لا يكتفي بكتابة العرائض والشكاوى، يرشدهم إلى ما يفعلون، وكثيرًا ما يتنبأ بالأحكام قبل صدورها.٢٥٠ وانتشار مهنة العرضحالجية يرتبط — إلى حدٍّ كبير — بانتشار الأمية في المجتمع. العرضحالجي يكتب لهؤلاء الذين يترددون على المصالح والدواوين، ولا يجيدون القراءة والكتابة. ما يرغبون في كتابته من مطالب وشكاوى — وهو ما يُسمَّى بالعرضحال — لقاء أجر يتفق عليه بعد فصال ومساومات، وقد لجأت زنوبة إلى أحدهم ترجوه رسالة كيدية ضد غريمتها سنية.٢٥١ ثم ظهر المعلمون الإلزاميون، وتولَّوا — بدلًا من العرضحالجية — كتابة العرائض للفلاحين والعمَّال وصغار الحرفيين، مما أثَّر — بصورة مباشرة — على مهنة العرضحالجي.٢٥٢ (ونتذكر محمد أفندي المدرس الإلزامي في رواية الأرض).
ومع أن حلاق الصحة معروف — أو الدكتور معروف — هو الذي عالج الغريب، وكانت له شهرة هائلة، حتى اعتبرت يده النحيفة المعروقة التي تشبه في ليونتها ورقتها أيدي النساء، أنجع من أيدي عشرات الأطباء الحقيقيين.٢٥٣ مع ذلك فإن الفنان يُدين نظام حلَّاقي الصحة، الذي لا تعرفه أية دولة في العالم. إنه — في تقديره — موطن الداء، فهو سمسار دفن، كل همِّه أن يحصل من أهل المُتوفى على خمسة قروش ليحصل لهم على الإذن بالدفن، دون أن يشغله حتى مجرد النظر في وجه الميت. ولو أنه فعل ذلك، فلن يستطيع أن يقرر — ما دامت لا توجد إصابات ظاهرة — إذا كانت الوفاة طبيعية أم لا، ومثله نظام الدايات.٢٥٤ مع ذلك، فإن مسئوليته تتحدد في الكشف على الميت، وإبلاغ طبيب الصحة — تليفونيًّا في معظم الأحيان — بوفاته. ويسأل الطبيب عن سبب الوفاة، فتأتي الإجابة: مات موتة ربنا، يقول الطبيب باختصار: ادفن. ادفن!٢٥٥ وكان أخطر ما عانته مصر في تلك الفترة وباء الكوليرا (١٨٨٣م)، بلغ عدد ضحاياه في مصر كلها ٤٠ ألفًا.٢٥٦ وفي ١٩٠٢م اجتاح الوباء مصر، وراح ضحيته أعداد كبيرة في المدن والقرى. وكما يقول راوي «الأيام» فقد دمَّر الوباء مدنًا وقرى، ومحا أسرًا كاملة.٢٥٧ كما انتشر الكوكايين كالوباء في كل الطبقات، وفي كل المدن المصرية.٢٥٨ ومن الواضح أن المخدرات كانت تباع في الطريق، وفي الدكاكين، في الأحياء الشعبية.٢٥٩
وشيخ البلد منصب استحدثه الفرنسيون في أثناء احتلالهم لمصر (١٧٩٨–١٨٠١م) عندما «رتبوا على مشايخ كل بلد شيخًا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه»، والتعبير لعبد الرحمن الجبرتي. وكان شيخ الحارة في المدينة هو الأقرب إلى العمدة في القرية، فهو ملمٌّ بكل ما يدور في الحي، والأهالي يلجئون إليه في شئون حياتهم، سواء في معاملاتهم مع أجهزة الدولة، أو في شئونهم الشخصية. إنه المسئول عن «الأحوال المدنية» للمقيمين في دائرته: زواج وطلاق، مطلوبين للتجنيد، هاربين من العدالة … إلخ. ومن مهامه الاستدلال على المحجوزين في القسم وضمانهم لقاء مبلغ من المال.٢٦٠ ويمتد اختصاص شيخ الحارة إلى التوقيع على صحة البيانات التي ترِد في وثائق أهالي دائرته. وكان من شروط تعيين شيخ الحارة، أن يكون ملمًّا بالقراءة والكتابة، وأن يكون من أبناء الحي، ومقيمًا في الشياخة التي يمثِّلها، فضلًا عن وجوب ارتباطه بصلة قرابة لبعض أبناء الشياخة. وقد أُلغي نظام مشايخ الحارات في عام ١٩٥٥م، حلَّ بدلًا منه نظام مندوب الشياخة الذي يُختار من أفراد الشرطة.

هوامش

(١) محمد المويلحي، حديث عيسى بن هشام، المكتبة العربية.
(٢) ألغيت المحاكم الشرعية بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م.
(٣) حديث عيسى بن هشام.
(٤) ثروت أباظة، الضباب، ٢٧.
(٥) رفعت السعيد، ثلاثة لبنانيين في القاهرة.
(٦) المرجع السابق، ١٤.
(٧) أحمد أمين، حياتي، ١٤.
(٨) عبد الكريم عبد العزيز، الزوجات العشر، مطابع رمسيس بالإسكندرية، ٦٢.
(٩) فرح أنطون، مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة.
(١٠) مذكرات الشيخ محمد حسنين مخلوف، الحلقة الأولى، مجلة «المسلمون».
(١١) إبراهيم عبد القادر المازني، كيف حفرت بئرًا لنفسي؟ ع الماشي، مكتبة مصر، ١٩٤٤م.
(١٢) قصة حياة، ٢٧.
(١٣) حسين مؤنس، عطشى، إدارة عموم الزير.
(١٤) أحاديث جدتي، ٣٤.
(١٥) محمود تيمور، الرجل المريض، الحاج شلبي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٣٠م.
(١٦) لغة الإدارة في القرن التاسع عشر، ١٦٢.
(١٧) فتحي رضوان، المجلة، سبتمبر ١٩٦٦م.
(١٨) الأيام، ٢: ٧٣.
(١٩) مؤلفات محمد تيمور، ٢٧٤.
(٢٠) صفحات من سفر الحياة، من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، ٨٤.
(٢١) العقاد، حياة قلم، ٨٧.
(٢٢) الشارع الجديد، ٧٢، واللافت أنه كان إذا ثبت للمحاكم الشرعية أن مسلمًا استدان من بعض البنوك، لم تقبل له شهادة، ولم تقرَّه ناظرًا على وقف، ولا في ولاية (حضارة مصر الحديثة، ١٥٦).
(٢٣) في قافلة الزمان.
(٢٤) محمد البابلي، الإجرام في مصر، ١١.
(٢٥) محمد سيد كيلاني، ترام القاهرة، الطبعة الأولى، ٣٠.
(٢٦) محمود تيمور، يحفظ في البوستة، الشيخ جمعة، المطبعة السلفية، ١٩٢٥م.
(٢٧) عبد اللطيف حموز، أدب المقالة الصحفية، الطبعة الأولى، ٥.
(٢٨) من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، ٣٧١.
(٢٩) المصدر السابق، ١٨٠-١٨١.
(٣٠) حسين فوزي النجار، أحمد لطفي السيد، أعلام العرب، مكتبة مصر، ١٩.
(٣١) قلعة الأبطال، ٧١.
(٣٢) ليالي سطيح، ٩٠.
(٣٣) محمود كامل، ابن حارة عصفور، لوحات وظلال.
(٣٤) الصحافة المصرية، ١١٩.
(٣٥) بين القصرين، ٣٥.
(٣٦) عبد الرحمن الغمراوي، الضحية، المكتبة التجارية، ١٩٢١م، ٢.
(٣٧) قصة حياة، ٢٧.
(٣٨) تاريخ مصر الاقتصادي، ١٣٦-١٣٧.
(٣٩) حاضر المصريين.
(٤٠) عبد المنعم شميس، عتريس الأكبر، ٥٣-٥٤.
(٤١) مذكرات الشيخ محمد حسنين مخلوف، الحلقة الأولى.
(٤٢) عبد المنعم شميس، تاريخ حياة عربجي، عتريس الأكبر، مطبوعات الجديد.
(٤٣) عبد المنعم شميس، عتريس الأكبر، ٥٥.
(٤٤) محمود تيمور، شباب وغانيات.
(٤٥) النفس الحائرة، ١٨١.
(٤٦) المصدر السابق، ١٨١.
(٤٧) محمد مفيد الشوباشي، طلائع الأحرار.
(٤٨) سوارس هو اسم المليونير اليهودي الذي أنشأ بنكًا باسمه في القاهرة، ثم أنشأ شركة لعربات النقل التي تجرها الخيل.
(٤٩) بين القصرين، ٤٤.
(٥٠) قصة حياة، ١٩.
(٥١) في قافلة الزمان.
(٥٢) تاريخ مصر الاقتصادي، ١٣٧.
(٥٣) حين استقل الخديو إسماعيل القطار للمرة الأولى، كانت تلك المرة الأولى التي يشاهد فيها قطارًا، فراح يتأمَّل معداته بفضولٍ واضح (تاريخ مصر في عهد إسماعيل ١: ٣٤).
(٥٤) علم الدين، ٨٩.
(٥٥) المصدر السابق، ١٨٤.
(٥٦) كل شيء والدنيا، العدد ٣٧٧.
(٥٧) الشارع الجديد، ١٢.
(٥٨) ترام القاهرة، ٤.
(٥٩) الأعمال الكاملة ليحيى حقي.
(٦٠) ترام القاهرة، ٤.
(٦١) محمود تيمور، سليم أفندي الطالب الأديب، الحاج شلبي وأقاصيص أخرى، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٣٠م.
(٦٢) توفيق الحكيم، يوميات نائب في الأرياف، ١٧.
(٦٣) يحيى حقي، حوت وهدهد وغراب، صفحات من تاريخ مصر، هيئة الكتاب.
(٦٤) مآذن دير مواس، ٢٣١.
(٦٥) عبد المنعم شميس، القاهرة قصص وحكايات، ١٥٦.
(٦٦) فتاة الفيوم، ٥٥.
(٦٧) مجلة «سركيس»، أول يوليو ١٩٠٨م.
(٦٨) علي مبارك، علم الدين، هيئة الكتاب، ١٩٩٣م، ٥٦.
(٦٩) الكاتب، سبتمبر ١٩٦٥م.
(٧٠) الاتجاهات السياسية والفكرية، ٦٧.
(٧١) المرجع السابق، ٦٩.
(٧٢) المرجع السابق، ٦٩.
(٧٣) قصة حياتي، ٢١.
(٧٤) سليمان فياض، الغزوة الواحدة بعد الألف، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٧٥) خليها على الله، ١١.
(٧٦) قصة حياتي، ٢١.
(٧٧) الاتجاهات السياسية والفكرية، ٨٨.
(٧٨) مذكراتي، ١٥.
(٧٩) شحاتة عزيز، كفر الهلالي، هيئة الكتاب، ٥٨.
(٨٠) من صاحب الدولة الأمير أحمد فؤاد باشا رئيس الجامعة المصرية إلى أبناء وطنه، ٥-٦.
(٨١) الأيام، ٢: ٦٢.
(٨٢) قصة حياتي، ٢١.
(٨٣) حديث الصباح والمساء، ١٠٦.
(٨٤) السراب، ٦٩.
(٨٥) قصر الشوق، ٤٨.
(٨٦) سجن العمر، ١٢٧-١٢٨.
(٨٧) قصر الشوق، ٤٨.
(٨٨) تاريخ مصر الاقتصادي، ٢٨٤.
(٨٩) الطليعة، نوفمبر ١٩٦٥م.
(٩٠) من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، ١٥٦-١٥٧.
(٩١) محمد لطفي جمعة، في بيوت الناس، ٥.
(٩٢) رابح لطفي جمعة: محمد لطفي جمعة، الشيخ جمعة، المطبعة السفلية، ١٩٢٥م.
(٩٣) محمود تيمور، هي الحياة، الشيخ جمعة، المطبعة السلفية، ١٩٢٥م.
(٩٤) محمد مفيد الشوباشي، طلائع الأحرار، ١٣.
(٩٥) تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر، ١٣٩.
(٩٦) فؤاد مرسي، اليقظة العربية، يناير ١٩٨٨م.
(٩٧) حاضر المصريين، ٤.
(٩٨) فؤاد رشيد، تاريخ المسرح العربي، كتب للجميع، ٩٣.
(٩٩) خليل بيدس، الوراث، ١٩٢٦م، ٢٣.
(١٠٠) المقطم، العدد ٤٠٨٨.
(١٠١) راجع كتابنا «مصر المكان»، المجلس الأعلى للثقافة.
(١٠٢) محمد فاضل، الشيخ سلامة حجازي، ٢٤.
(١٠٣) الوارث، ١-٢.
(١٠٤) مذكراتي في نصف قرن، ١: ٥٧.
(١٠٥) تاريخ المسرح العربي، ٣٥٦.
(١٠٦) بين القصرين، ٣٥٦.
(١٠٧) ليلى أبو سيف، نجيب الريحاني وتطور فن الكوميديا في مصر، ٤٥.
(١٠٨) من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، ١٨٢.
(١٠٩) حسين فوزي، سندباد في رحلة الحياة، ٧٥.
(١١٠) نجيب الريحاني وتطور فن الكوميديا في مصر، ٣٤-٣٥.
(١١١) صحيفة الأدب والتمثيل، أبريل ١٩١٦م.
(١١٢) نعمان عاشور، بطولات مصرية من عمر مكرم إلى بيرم التونسي، روز اليوسف.
(١١٣) فتحي غانم، الفن في حياتنا، الكتاب الذهبي، يونيو ١٩٦٦م، ٦٥.
(١١٤) سعد الدين توفيق، ٥٠ عامًا على الفيلم المصري، الهلال.
(١١٥) زكي طليمات، الكاتب، يناير ١٩٤٦.
(١١٦) المرجع السابق.
(١١٧) عبد الحميد جودة السحار، ذكريات سينمائية، مكتبة مصر، ١٩.
(١١٨) نجيب محفوظ، سمارة الأمير، الحب فوق هضبة الهرم، مكتبة مصر.
(١١٩) بين القصرين.
(١٢٠) محمود تيمور، الست تودد، الشيخ جمعة.
(١٢١) الجديد، ١/٣/ ١٩٧٩م.
(١٢٢) محمد كاظم ميلاني، السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، المطبعة التجارية بالإسكندرية، ١٩٠٢م، ١٥.
(١٢٣) عبد المنعم شميس، عتريس الأكبر، ١٠٧.
(١٢٤) مذكراتي في نصف قرن، ١: ٦٨.
(١٢٥) من آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، ١٨٢.
(١٢٦) محمد فاضل، الشيخ سلامة حجازي، ٤٠.
(١٢٧) كمال النجمي، مطربون ومستمعون، كتاب الهلال، ١١٩.
(١٢٨) المرجع السابق، ٦١.
(١٢٩) «المعرفة» السورية، مارس ١٩٦٥م.
(١٣٠) السقا مات، ٧.
(١٣١) يوميات نائب في الأرياف، ٤٨.
(١٣٢) عتريس الأكبر، ٩٠.
(١٣٣) سعد مكاوي، الطبلة، الفجر يزور الحديقة، هيئة الكتاب.
(١٣٤) بين القصرين، ٣٦١.
(١٣٥) محمود تيمور: الرجل المريض، الحاج شلبي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٣٠م.
(١٣٦) بين القصرين، ١١٧.
(١٣٧) المصدر السابق، ١١٧.
(١٣٨) مطربون ومستمعون، ١١٤.
(١٣٩) ذكريات، ٢٨.
(١٤٠) محمود طاهر حقي، اخرجي، بسمات ساخرة.
(١٤١) في قافلة الزمان، الرواية.
(١٤٢) عزيز خانكي، يوميات، أحاديث جانبية.
(١٤٣) مذكراتي في نصف قرن، ٢: ٧.
(١٤٤) من آثار مصطفى عبد الرازق، ٢٤٢.
(١٤٥) مؤلفات محمد تيمور، ٢٦٣.
(١٤٦) المصدر السابق، ٢٦٧.
(١٤٧) محمود الخفيف، من وراء المنظار، مطبعة الرسالة، ١٩٤٧م، ١٧١.
(١٤٨) جمال الدين الرمادي، عبد العزيز البشري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، ١٩٦٣م، ١٥٠-١٥١.
(١٤٩) ذكريات، ١٠٠.
(١٥٠) سندباد في رحلة الحياة، ٨٨.
(١٥١) مذكرات منسية، ٦٩.
(١٥٢) تطور فن القصة، ٣٠.
(١٥٣) المرجع السابق، ٣٠.
(١٥٤) الأيام، ٣: ٢٩.
(١٥٥) مذكرات منسية، ٣٠.
(١٥٦) سندباد في رحلة الحياة، ٨٨.
(١٥٧) من آثار مصطفى عبد الرازق.
(١٥٨) نبوية موسى، تاريخي بقلمي، هيئة قصور الثقافة، ٩٧.
(١٥٩) عيسى عبيد، ثريا، مكتبة الوفد.
(١٦٠) مذكرات المرحوم الشيخ العزازي، من آثار مصطفى عبد الرازق.
(١٦١) اخرجي، بسمات ساخرة.
(١٦٢) مؤلفات محمد تيمور، ٢٥٦.
(١٦٣) نجيب محفوظ، حضرة المحترم، مكتبة مصر، ١٣٠.
(١٦٤) محمد عويس، مجتمع القرية في روايات طه حسين، مخطوط.
(١٦٥) محمود كامل، الشيخ مرسي يتزوج الأرض، لوحات وظلال.
(١٦٦) سعد مكاوي، نفوسة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٦٧) دعاء الكروان، ١٦.
(١٦٨) قصر الشوق، ٥٥.
(١٦٩) إبراهيم عبد القادر المازني، مجلتي، يونيو ١٩٣٦م.
(١٧٠) تربية سلامة موسى، ٢٠٢.
(١٧١) محمد لطفي جمعة، ليالي الروح الحائر، ٨٢.
(١٧٢) أحمد بهاء الدين، أيام لها تاريخ، روز اليوسف، ١٠١.
(١٧٣) مذكراتي في نصف قرن، ١: ٧٤.
(١٧٤) أحمد لطفي السيد، هذه حياتي، كتاب الهلال، ٣٧-٣٨.
(١٧٥) رفعت السعيد، سعد زغلول بين اليمين واليسار، ١٧-١٨.
(١٧٦) مجلة «رعمسيس»، مجلد سنة ١٩١٠م، ٤٩٩.
(١٧٧) عبد الله النديم، ١٨٢.
(١٧٨) محمود كامل، يوميات محامٍ، كتاب اليوم، ٦٩.
(١٧٩) هذه حياتي، ٥٤.
(١٨٠) قصر الشوق، ٨٠.
(١٨١) شحاتة عبيد، البائنة، درس مؤلم، مكتبة الوفد.
(١٨٢) أحمد نبيل الهلالي، الكاتب، سبتمبر ١٩٦٦م.
(١٨٣) محمود كامل، يوميات محامٍ مصري، ٥.
(١٨٤) حديث الصباح والمساء، ١٨٨.
(١٨٥) السكرية، ٢٩.
(١٨٦) المصدر السابق، ٣٠.
(١٨٧) يوميات محامٍ مصري، ٥١.
(١٨٨) نقولا يوسف، إلهام، ٢٠.
(١٨٩) الشارع الجديد، ٢٦٣.
(١٩٠) نحن لا نزرع الشوك، ١: ٢٩٩.
(١٩١) عبد الحميد جودة السحار، الحصاد، ٥–١٦.
(١٩٢) فؤاد دوارة، عشرة أدباء يتحدثون، ١٥١.
(١٩٣) عبد الخالق لاشين، سعد زغلول، دوره في السياسة المصرية حتى سنة ١٩١٤، دار المعارف، ١٥.
(١٩٤) السكرية، ١٥٨.
(١٩٥) نفوس مضطربة، ١١١.
(١٩٦) ثروت أباظة، أمواج ولا شاطئ، شيء من الخوف وقصص أخرى، هيئة الكتاب.
(١٩٧) السكرية، ٣١.
(١٩٨) فتحي غانم، الغبي، روز اليوسف.
(١٩٩) قلوب خالية، ٢٢.
(٢٠٠) سجن العمر، ٥٠.
(٢٠١) الخيط الأبيض، ٣٦٨.
(٢٠٢) معارك العقاد السياسية، ٥٦.
(٢٠٣) الشباب الضائع، مؤلفات محمد تيمور، المكتبة العربية.
(٢٠٤) المصدر السابق.
(٢٠٥) المصدر السابق.
(٢٠٦) أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، ٤١.
(٢٠٧) إبراهيم عبد القادر المازني، ثلاثة رجال وامرأة، مكتبة مصر، ٢٣.
(٢٠٨) العقاد، حياة قلم، ٥٥.
(٢٠٩) الخيط الأبيض، ٣٦٨.
(٢١٠) محمد عمر، حاضر المصريين أو سر تأخرهم، ٣٧.
(٢١١) محمد فهمي عبد اللطيف، السيد البدوي، الطبعة الأولى، ١٤٤.
(٢١٢) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٥٦-١٥٧.
(٢١٣) الكاتب العربي، يوليو ١٩٦٤م.
(٢١٤) خان الخليلي، ٩٢.
(٢١٥) إبراهيم عبد القادر المازني، في الطريق، مكتبة النهضة المصرية، ٣١.
(٢١٦) الأيام، ٣: ١٨.
(٢١٧) المصدر السابق، ٢: ١٨.
(٢١٨) القصة في الأدب العربي الحديث.
(٢١٩) مقدمة مجموعة «الخادمة» لمحمد السباعي، مكتبة مصر.
(٢٢٠) المرجع السابق.
(٢٢١) محمد فهمي عبد اللطيف، الجديد، ١٥/ ٢/ ١٩٧٨م.
(٢٢٢) محمود عوض، أفكار ضد الرصاص، دار المعارف، ٢٥.
(٢٢٣) مقدمة مجموعة «الخادمة».
(٢٢٤) من آثار مصطفى عبد الرازق، ٩٦.
(٢٢٥) محمود تيمور، فرعون الصغير، ٢٢–٢٤.
(٢٢٦) أمين يوسف غراب، الساعة تدق العاشرة، مطبوعات الشعب، ٥٣.
(٢٢٧) رجاء النقاش، عباس العقاد بين اليمين واليسار، ٢٨.
(٢٢٨) عبد الله أبو هيف، القصة العربية الحديثة والغرب، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ١٤٨.
(٢٢٩) عبد العال الحمامصي، امرأة، القصة، العدد ٤١.
(٢٣٠) صلاح ذهني، لقاء، في الدرجة الثامنة، الطبعة الأولى.
(٢٣١) نقلًا عن «طه حسين الشاعر الكاتب»، ٨٣.
(٢٣٢) جميل عطية إبراهيم، والبحر ليس بملآن، هيئة الكتاب.
(٢٣٣) ترام القاهرة، ٥٦.
(٢٣٤) محمود تيمور، الشيخ جمعة، المطبعة السلفية بمصر، ١٩٢٥م، المقدمة.
(٢٣٥) مقدمة «سخرية الناي» لمحمود طاهر لاشين.
(٢٣٦) توفيق الحكيم، زهرة العمر، دار الهلال، ١٨.
(٢٣٧) أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة، ١٦٥.
(٢٣٨) دمعة فابتسامة، ١٥٢.
(٢٣٩) زهرة العمر، ١٨.
(٢٤٠) الوارث، ٦١.
(٢٤١) النفس الحائرة، ٤٠.
(٢٤٢) الأخبار، ٤/ ١١/ ١٩٠٣م.
(٢٤٣) محمود تيمور، الست تودد، الشيخ جمعة، المطبعة السلفية، ١٩٢٥م.
(٢٤٤) حديث عيسى بن هشام، ٢١٣.
(٢٤٥) نفوس مضطربة، ٤٠-٤١.
(٢٤٦) بين القصرين، ٣٠٤-٣٠٥.
(٢٤٧) يوميات نائب في الأرياف، ٤٥.
(٢٤٨) قصر الشوق، ٣٤٢.
(٢٤٩) لغة الإدارة في القرن التاسع عشر، ٢٢٨.
(٢٥٠) محمد البساطي، بيوت وراء الأشجار، روايات الهلال، الهلال، ٣٥.
(٢٥١) عودة الروح، الرواية.
(٢٥٢) مذكرات منسية، ١١٨.
(٢٥٣) يوسف إدريس، الغريب، آخر الدنيا، مكتبة مصر.
(٢٥٤) يوميات نائب في الأرياف، ١٠٥.
(٢٥٥) المصدر السابق، ١٠٠.
(٢٥٦) مذكراتي في نصف قرن، ١: ٢٢٢.
(٢٥٧) الأيام، ١: ١٢٦.
(٢٥٨) محمود طاهر حقي، حمدان بك، بسمات ساخرة، كتب للجميع، ١٩٥٢م.
(٢٥٩) الأيام، ٢: ٢٤.
(٢٦٠) إبراهيم عبد المجيد، لا أحد ينام في الإسكندرية، روايات الهلال، ٦٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥