… والريف أيضًا
إذا كانت تلك صورة الحياة في المدينة، فماذا كانت عليه صورة الحياة في الريف؟
مفردات القرية هي المحراث والشرشرة والفأس والطنبور والمذراة والمنجل والكريك والنورج
والساقية والشادوف وحطب القطن وقش الأرز والترعة والمصرف والقناة والمزاريق وبرج الحمام
ووابور الطحين وخوار البهائم وثغاء الماعز ونهيق الحمير ونعيق الغربان وشقشقة العصافير
وهديل الحمام ووقوقة الإوز وصياح الديكة ونباح الكلب وشدو الكروان ونقيق الضفادع
مختلطًا بعواء الذباب.
١ والبيوت، في معظم القرى، كومة واحدة، يستطيع المرء أن يعبر القرية كلها،
قافزًا من سطح دار إلى سطح دار أخرى.
٢ وثمة مفردات لشخصيات القرية بعامة: المعلم الإلزامي، خطيب الجمعة، المأذون،
مفتش الري. ويلاحظ أبو إسماعين (العراوي) أن الريفيين لا يفتحون آذانهم إلا لكل مُعمَّم،
حتى لو كان جاهلًا، ولكل أفندي، حتى لو كان أميًّا.
٣
إن ٧٤٪ من المصريين ينتمون إلى المجتمع الزراعي بكل مقوماته وخصائصه، لكن الأب عيروط
في كتابه المهم «الفلاحون» يعيب على أبناء القاهرة والإسكندرية أنهم لا يعرفون الريف
إلا كمشهدٍ يلوح في الخارج من باب السيارة، أو نافذة القطار، وكذلك الفلاحون المحصورون
في
حقولهم وقراهم، لا يعرفون المدينة إلا عن طريق العمدة أو البقال اليوناني أو ناظر العزبة.
٤
وتصِف الراوية (هكذا خلقت) حياة القرية المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع
عشر،
بأنها كانت أقرب إلى حياة البداوة؛ ذلك لأن كل قرية كانت «تعيش في عزلة عن غيرها من
سائر القرى، لأن المواصلات السريعة لم تكن قد ابتُكرت. وكان أهلها لا يكادون يسمعون
شيئًا عن حياة المدن، إلا ما اتصل منها بعقائدهم، وإيمانهم الراسخ بالمشايخ والأسياد،
وتطلُّعهم لزيارة هؤلاء الأسياد للتبرك بهم. ولم يكن ذلك مستطاعًا لغير ذوي اليسار ومن
يلوذون بهم. أما سائر أهل القرية فكانوا يمضون حياتهم كادحين في غير ملل، مؤمنين بأن
الله قسَّم الحظوظ، وأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا، عليه توكلنا، وعليه
فليتوكل المؤمنون.»
٥ ويتساءل الفنان: «نرحم خيول العربات في الأرياف، ونسترعي لها نظر جمعيات
الرفق بالحيوان لأنها مسكينة تعلو جبالًا وتنزل جبالًا وتحمل أثقالًا. من لنا بجمعية
للرفق بالفلاح المسكين الذي يذهب ويجيء في تلك السبل حافي القدم، منهوك البدن، يحمل فوق
ظهره أثقال الفقر والنصب، لا ترحمه مصلحة الطرق فتشق له في الأرض طريقًا معبَّدًا تقوم
على حافاته شجيرات يستظل بظلها؟ من أحق بالرحمة من الفلاح الذي يقضي نهاره عاكفًا على
العمل في الأرض، تصهره شمس الصيف في الظهيرة، ويأكله برد الشتاء في السحر، من غير سلوة
يتعزَّى بها في داره المظلمة القذرة الخالية من الهواء، المملوءة بآثار الفاقة الساكنة
دائمًا سكون الحزن والخشوع؟ ومن أحق بالرحمة من الفلاح الفقير الذي يساق في هذه الأيام
إلى النيل يحرسه، مخافة أن يطغى فيضانه على أملاك الأغنياء وقصورهم؟»
٦
مجتمع القرية قبَلي بعامة، فهو يتكوَّن من أسر، وكل أسرة تنتصر لأفرادها بصرف النظر
عن
صواب تصرفاتهم، أو وجهات نظرهم. الأمر نفسه بالنسبة للأفراد في وقفتهم المناصرة لتصرفات
ووجهات نظر الأسرة، بالإضافة إلى أن أسر القرية الواحدة قد يتصل بعضها بالبعض بصلة
النسب، فتتحوَّل القرية إلى ما يشبه القبيلة الواحدة، لذلك فإنه من المهم أن يكون للمرء
أصل وفرع وأرض في البلد.
٧ ويقول الراوي: «لو عشت في قريتنا أسبوعًا واحدًا، لأدركت أن هذا المجتمع
ينقسم انقسامًا فريدًا في نوعه، فهو ينقسم — بحسب السن والجنس — إلى مجتمعات صغيرة، لكل
واحد مكانه، ومنطقه، ونظرته للحياة. فالأولاد يؤلفون مجتمعًا مكانه المفضَّل أجران القمح،
وزمانه المناسب أواخر النهار وأوائل الليل. والنسوة يؤلفن مجتمعًا آخر مكانه «الموردة»
حيث يملأن الجرار، ويغسلن الملابس. والشبان يلتقون كل ليلة في دكان عوضين، يدخنون
ويتراهنون ويضحكون من أعماق صدورهم. والرجال الكبار يؤلفون مجتمعًا قلما يتجانس، ويلتقي
— أحيانًا — في المسجد، أو في المنادر التي لا تضاء إلا في المناسبات.»
٨
يستوحي الفلاحون معتقداتهم، ويمارسون عاداتهم وتقاليدهم من البيئة الزراعية التي
تشتمل على دورات كاملة للولادة والنمو والموت، تتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى خاصية أساسية
في
تفكير الإنسان الزراعي، فهو يميل إلى الاتكالية التي تجد في الحياة والموت وكل أحداث
الحياة قوى قدرية إلهية يستحيل مقاومتها، بل من الكفر مجرد التفكير في رفضها. وهو يدرك
أن حياته قصيرة، ومن ثَمَّ يحرص على الزواج مبكرًا ليسعد بأبنائه قبل أن يموت، وهو يشاهد
معدل الوفيات المرتفع بين المواليد في قريته، فيزيد من إنجاب الأطفال ليعوِّض ما قد
يفقده، فضلًا عن الاعتبارات الأخرى من عزوة وقوى عاملة رخيصة وغيرها.
٩ والأرض هي التي تحدد المكانة الاجتماعية للفلاح. تقول وصيفة لعلواني: «أنا
لا أسعرك لا انت ولا شيخ البلد بتاعك. أمال يا أخي لو كنت تتملك على قيراطين أرض.»
١٠
كانت نسبة سكان المدن إلى سكان الريف في ١٩٠٧م، ١٩٪ فقط، ثم توالت الزيادة. وكان
من
التأثيرات المباشرة للحرب العالمية الأولى على طبيعة الحياة في الريف المصري، أن
أعدادًا كبيرة من أبناء الفلاحين نزحوا إلى القاهرة والإسكندرية ليتعلَّموا ويتحوَّلوا
إلى
موظفين يقبضون المرتبات الشهرية من الحكومة، حتى لم يعُد ثمة شك في أن الصفة الغالبة
على
المجتمع المصري الحديث، إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية — كما يقول جمال حمدان — إنه
«مجتمع موظفين»، وإن مدننا الرئيسية كانت — إلى حدٍّ كبير — «مدن موظفين» وهذه النقطة
بالذات تضعنا أمام ظاهرة تخلي الفلاح المصري عن المثل القديم الذي يُعَد أحد قوانين
حياته: «البطيخة ما تكبرش إلا في لبشتها.» إنه كما يقول الأب عيروط «ذو مزاج مستقر»،
فهو يفضِّل عدم مغادرة قريته التي تمثِّل له اطمئنان الحاضر والماضي، وهو على العكس من
مزارعي البلدان العربية لا يهاجر ليجرب حظه، وإذا غادر بلدته لا يكون ذلك إلى قرية
أخرى، لا تساوي — في نظره — قريته، لكن إلى المدينة، وعلى وجه الخصوص القاهرة
والإسكندرية. أما إذا ألجأته الظروف لأن يهاجر من قريته فإنه يصبح ذلك الموظف الفرعوني
الذي نُقل من بلده «منفيس» قبل أربعة آلاف سنة، فكتب يقول: «إني أجلس هنا بالجسم، على
حين تطير روحي إلى منفيس حتى تطمئن على الأحوال هناك وتستقر. إني أجلس هنا، ولست
بمستطيع أن أقوم بعملٍ، أي إلهي «بتاح» احضر إليَّ وخذني إلى منفيس، ودعني أرها ولو من
بعيد.» الفلاح — على حد تعبير الفنان — «يحب طين الأرض أكثر من حبه لحريمه.»
١١ ويقول الشيخ علي: «أنا رجل بطبعي الريفي أكره السفر، ولا أحب الانتقال، ولا
يضايقني شيء مثلما تضايقني رؤية القطار الذي ينبعث صفيره المزعج إلى أذني كنواح
الثعالب، ولولا لقمة العيش لما ركبت قطارًا في حياتي، ولا ارتحلت عن قريتي يومًا.»
١٢
•••
روايتا الفتى الريفي (١٩٠٣م)، والفتاة الريفية (١٩٠٥م) لمحمود خيرت محورهما علاقة
بين
الفتاة الريفية فاطمة، والفتى الريفي إبراهيم (لاحظ أن اسم بطلَي رواية «زينب» لهيكل
—
فيما بعد: زينب وإبراهيم). الفتاة — كما يدل العنوان — ريفية، والفتى ابن أحد الباشوات،
وتواجه علاقتهما معارضة الأب، ومآزق أخرى، ثم تنتهي بالنهاية السعيدة. يقول الفنان إن
دافعه لكتابة الرواية هو أن «تكون عبرة للقارئ، ودرسًا من دروس الحياة، يستفيد من ورائه
أبناء وطني العزيز بوجه عام، والفلاح بوجه خاص.» ويضيف إن التعاسة التي يعيش فيها
الفلاح، وما هو منغمس فيه من الجهل الدامس هي التي دعته إلى الكتابة «حتى إني جعلت مقر
الحادثة قرية من قرى الفلاحين، وبطل الرواية واحدًا منهم. ولم يكن غرضي من ذلك أن تكون
مجرد فكاهة للفلاح يصرف فيها زمنه على غير طائل، ولكن حكمة بالغة تدفعه إلى تحسين حاله،
وترقية شأنه، ونبثُّ فيه روح الكمال والفضيلة.» ويعلن الفنان عن هدفه في إنقاذ الفلاح
من
بؤسه، بتخليصه من جهله. وإن انتهى — في موازنة بين أبناء الريف وأبناء الحضر — إلى نقاء
البيئة الريفية، وأن الفلاح — على شظف عيشه — أسعد حالًا من أهل المدينة، لأنه يحيا
حياة طبيعية بعيدة عن التكلُّف والافتعال.
العقاد يفسر كلمة «قراري» بعكس ما يفسِّرها كُتاب آخرون. إنه يرجع التسمية إلى حرص
الفلاح على أن يستقر في أرضه، لا يغادرها، فهو قراري إذن. العكس ما ذهب إليه البعض: أن
الصفة أُطلقَت على الفلاح لأنه كان من الصعب عليه أن يهجر أرضه، فإذا غادرها أعيد إليها
بالقوة. لهذا سُمي قراريًّا! «وإن كان القانون يجيز للفلاح ترك أرضه إذا التحق بالأزهر،
أو بإحدى المدارس التابعة له.»
١٣ وثمة صورة طريفة — ومأساوية! — يوردها السير جن بورنج لنزول مشايخ القرى
إلى القاهرة والإسكندرية، في فصلَي الربيع والخريف، يبحثون عن الهاربين من قُراهم إلى
إحدى المدينتين — القاهرة والإسكندرية — طلبًا لفرص العمل. كل من يعثرون عليه، أودعوه
سجن المدينة، ثم ساقوا الهاربين — جماعات — مكتوفي الأيدي والأرجل، ويحرسها الجنود، إلى
مدنهم وقُراهم الأصلية.
بدا الفلاح — لسببين — يتخلَّى عن الارتباط الشديد بالبيئة والأرض، ويغادرها إلى
المدن
الكبرى، وإلى خارج البلاد أحيانًا (يقول الراوي إن كلمة الهجرة أثارت في جيله القديم
العجب!).
١٤
أما السبب الأول، فهو ضيق اتساع رقعة الأرض القابلة للزراعة في الريف بالنسبة لعدد
سكانه. فالأحفاد لا يستطيعون الحياة جميعًا على نفس المساحة من الأرض التي كانت لجدهم،
ومن ثَمَّ يفضِّلون الهجرة إلى المدن، فضلًا عن طبيعة النظام الإقطاعي الذي كان يزيد
من
مساحة الملكيات الكبيرة، ويُنقِص — بالقهر — من مساحة الملكيات الصغيرة.
أما السبب الثاني، فهو التناقض الحاد بين القرية والمدينة، ذلك التناقض الذي يتجلَّى
في
أظهر معانيه — والكلام لهارولد بتلر مساعد مدير مكتب العمل الدولي في تقرير له عن حالة
العمل والعمال في مصر — إذا ما قورنت القاهرة والإسكندرية، وفيهما كل ما يلزم من وسائل
الراحة والرفاهية، بالقرى التي بُنيت منازلها بالطين، ولم يطرأ عليها تغيُّر ما منذ ألفَي
سنة أو أكثر! ويعبِّر الفنان عن التناقض الحاد بين طبيعة الريف وطبيعة الحضر، لما هبط
حسين القاهرة لأول مرة في رفقة زين العابدين بك «ولو لم يكن في هذه الرفقة لعاد مرة
أخرى في طريقه إلى القاهرة، وقد استقر في نفسه أن القاهرة جميعًا ترتحل، وإلا فما هذا
الزحام وهذه الضجة؟ وهؤلاء الناس، وما لهم جميعًا ملهوفين متسارعين تتصادم أيديهم، أو
يتصادمون جميعًا بعضهم ببعض، كأنهم مطالب الحياة المتعارضة المتضاربة! أهكذا المدينة،
يعجل أهلها إلى مقاصدهم في هذه السرعة اللاهثة، وهذا الجِد الصارم، ما لهم يمر بعضهم
ببعض، أو يحتك بعضهم ببعض، فلا تحية ولا سلام، ولا حتى اعتذار. وخرج حسين إلى باحة
المحطة الخارجية. إن ثمة متسعًا كسعة الريف، ولكن العربات الكارو والحنطور والسيارات،
والناس تعدو على هذه السعة، فهي زحام.»
١٥ ولما غادرت نساء «دعاء الكروان» قريتهن النائية، انتهت رحلتهن إلى هذه
المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة، والسكان الكثيرين، والتي تشقُّها الطريق الحديدية
نصفَين، ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررًا ونارًا
وصوتًا ضخمًا، وصفيرًا عاليًا نحيفًا، والذي يسمونه القطار، الذي يركبه الناس يستعينون
به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل أحيانًا، وبالحمير أحيانًا أخرى،
وبالأقدام في أكثر الأحيان.
١٦
•••
يصِف قاسم أمين الفلاح المصري في كتابه «المصريون» بأنه «يبدو — مسلمًا كان أو قبطيًّا
— طويل القامة على وجه العموم، قويًّا، متين البناء، يتمتع بطاقة جسدية نادرة، يلبس
أبسط الثياب، ويتناول غذاء هزيلًا (يقول ناظر العزبة إن الفلاح لا يأكل اللحم إلا من
الموسم للموسم! (عودة الروح، ٢: ٤٤))، ينجز أشق الأعمال في العراء تحت أشعة حارقة لا
يشكو، بل يبدو راضي النفس بمصيره. وإذا كانت البلهارسيا والإنكلستوما تستوطنان أجساد
الفلاحين المصريين، وتؤديان إلى آثار مدمرة في صحة الجسد المصري بعامة، فإن البلاجرا
لها تأثيرها الذي لا يقل خطورة. إنها عبارة عن نقص في الغذاء، وفيتامين بي بخاصة، بسبب
ضعف العضلات، وتخدير الأعصاب وخلايا المخ.
١٧ يضيف قاسم أمين: «إنني أؤكد أن الفلاح لا يتراجع أمام خطر حقيقي أو موهوم،
غير أن هناك شيئًا يخشاه المصريون أكثر من الأراضي وطلقات الرصاص، وأشد من الموت … ذلك
هو السلطة.» تقول المرأة: «إن وليمة الفلاح التي لا ينالها كل يوم هي الجبن والبصل
ورغيف الشعير، والكرباج من وراء ذلك محيط.»
١٨ «أصل أني عارفكم، فلاحين، ما تجوش إلا بالكرباج.»
١٩ الفلاح يقضي حياته «يرهب النقطة، ويرتعش أمام العمدة، ويحيي العساكر باحترام.»
٢٠ ويذهب الأب عيروط إلى أن الفلاح ألِف العسف والظلم والمصادرة، فتصور أن تلك
هي صورة العلاقة بينه وبين السلطة. فقد «عاش الفلاح في ذلَّته واستكانته، وألِف ظلم الحكام
والسادة وقسوتهم، فصار الخضوع عادة له، لا من فقر، بل من الظلم والقهر يسومه السادة
المتسلطون حكم الطغيان، ويعاملونه كطفلٍ يؤمر وليس له حق المناقشة. ألِف من الحكام جانب
القسوة والشدة، فأصبح لا يعرف علاقته بمن هم فوقه إلا على هذا النحو. وإذا وجد من بعضهم
جانب اللين استكثره ورآه شيئًا يفوق ما ألِفه، أصبح لا يفهم الشفقة لكثرة ما قاسى من
الظلم والهوان، وما عُومِل به من السب والضرب والفظاظة.»
٢١ ولأن الاحترام والخوف عند الريفيين ليسا معنيَين مختلفين.
٢٢ فقد جاء قول الراوي إن الفلاحين يحسنون اصطناع التودد والاحترام.
٢٣ إنهم ينظرون إلى موظفي الإدارة بخليطٍ من الريبة والاستخفاف، وشيء من الرضا
المغتصب، وطاعة كلها تمثيل كاذب.
٢٤ المعنى نفسه، وربما الكلمات نفسها، تأتي في قول حامد عمار: «الفلاح ما زال
في كثير من الحالات ينظر إلى موظف الحكومة نظرة تختلط فيها الرهبة والخوف مع التخوف،
والشك مع الإذعان الشكلي، والمجاملة المظهرية مع عدم الاكتراث وعدم الاهتمام. ومن جانب
الموظف تقوم النظرة على أساس من التعالي والتباعد، وإقامة الحواجز قدر الإمكان.»
٢٥ أهل الريف يخافون من رجال الحكومة.
٢٦ كل الأفندية في نظر أبناء الريف من أبناء المدينة الكافرة، وكلهم ينتمون
إلى الحكومة، وكل من ينتمي إلى الحكومة ليس أهلًا للثقة.
٢٧ وكان فلاحو قرية بدواي يشكُّون في جميع الأفندية الذين يهبطون على العمدة،
فهم جميعًا ضرب من الحكام، ومجيئهم لم يحمل مرة واحدة أي خير للقرية، وحتى إذا لم
يكونوا حكامًا، فهم أصدقاء العمدة في البندر، وهم رقعاء وفضوليون، لا يحسنون سوى صيد
الطيور، ويعودون محمَّلين بالهدايا التي تُنهَب من طيورهم وزبدهم، وقد تقع عيونهم على
فتاة
مليحة هنا أو هناك، فيطلبونها للخدمة في بيوتهم، ولا يجرؤ أحد على رفض ذلك الطلب إذا
نطق به العمدة.»
٢٨ حتى ضرب العمد والأعيان كان مباحًا، من يتأخر أهل قريته في دفع الإيجار
توضع رجلاه في الفلقة، وينهال القواسة عليها ضربًا بالكرباج.
٢٩ وروى الجد عن اعتقال الحكومة للرجال في القرى، تضع في أيديهم الأغلال،
وتجبرهم على حفر ترعة الباشا. وحين يشتد القبض على الرجال بعد أن ينهكهم الحفر، يضع
العساكر القلل الباردة أمامهم على بُعد مائة ذراع، ويقولون: إذا حفرتم حتى تصلوا إليها،
اشربوا.
٣٠ ومع أن أهل كوم النحل — بلدة في الصعيد — كانوا يضمرون لبوسطجي البلدة
ازورارًا وانقباضًا، فإنهم كانوا يضحكون في وجهه بخبث وتبالُه، وكان الرجل يدرك مشاعرهم
الحقيقية.
٣١ وكان رأي صباح أن الفلاحين الذين يتظاهرون بالبلاهة، لهم آفاق واسعة يحلقون
فيها، ولهم دروب ومسالك معقَّدة يدورون فيها ليقضوا حاجاتهم ويتغلَّبوا على أعدائهم،
لا
تغيب عن فطنتهم شاردة وإن أعلنوا عدم الفهم.
٣٢ ويقول السيد الفرماوي: «علَّمتني عشرة الفلاحين الدهاء والمكر.»
٣٣ وكان رأي حسين بك جاهين أن الفلاحين لم يتعوَّدوا طول حياتهم سوى القسوة
والشدة، فإذا ابتسم له مالك من ملاك الأرض، وظن أنهم يقدِّرون طيبته، نهبوه وسرقوه، وعزوا
طيبته إلى بلاهته وسذاجته.
٣٤ ويقول الراوي: «إن الفلاح يعتقد أننا نأخذ منه قوت عياله، وهو على حق في
اعتقاده، لأنه يشقى، ويفلح الأرض، ويعمل طول السنة، ونحن لا نعمل أي شيء ونستولي على
المحصول.»
٣٥ «هكذا نقضي العام كله نحرث، ونفلح، ونروي، ونعزق، ثم نكافح الدود، ونخرج كل
يوم نقلب ورق النبات، حتى إذا ما تم نضجه نراه يذهب هكذا في لحظات.»
٣٦ وفي قصة «حصير الجامع» تحليل واعٍ لعقلية الفلاح المصري، ونظرته إلى السلطة
وتعامله معها، تبين فيها إفادة الفنان الشخصية والفنية من الأعوام التي عمل فيها خارج
القاهرة، سواء في الوجه البحري أم في الصعيد. لم ينعزل، أو يكتفي بالتأمُّل من بُعد،
أو
السخرية — أحيانًا — مثلما فعل الحكيم في يوميات نائب في الأرياف. نائب الحكيم كان يحرص
على وضعه الاجتماعي فهو لا يخالط الفلاحين إلا لضرورات العمل.
٣٧ أما يحيى حقي فقد كان يخالطهم، يتحدث إليهم، يعطي ويأخذ، يتأمل بعينين
منتبهتين ونفسٍ متعاطفة وإحساس عميق بالمشاركة، فهو يلحظ — ويُدين — ذلك الموظف المتعاظم
ببذلته وطربوشه وسلطته الوظيفية وراءه، يتكبر على الفلاح الجاهل الجلف، مكانه وراء
الجاموسة لا بين الناس.
٣٨ وفي قصة «قرية أم محمد» يصور الفنان تلك اللحظات التي يواجه فيها المواطن
المصري ممثلًا للسلطة، أيًّا يكن المواطن، وبصرف النظر عن طبيعة عمل ممثل السلطة. وجد
أحمد أبو المكارم نفسه — فجأة — في عراك مع ضابط شرطة تلتمع النجوم على كتفيه: «لا يدري
أين ذهب الخوف الذي كان حتى آخر لحظة يكاد يشل قدميه. ما إن وجد الضابط مُلقى على الأرض
وهو يوثقه تمامًا، حتى لم يعُد لهذا الخوف من أثر، لم يكن ما يقبض عليه هو الحكومة التي
طالما أرعبه اسمها، كانت الحكومة في تلك اللحظة مجرد جسد، جسد لا يفترق في شيء عن
الأجساد الكثيرة التي تعارك معها، ولغمطها في الطين.»
٣٩ ولا يخلو من دلالة حماية الفلاحين المصريين لعبد الله النديم طيلة تسع
سنوات من الاختفاء، تنقَّل خلالها بين العديد من القرى، رغم المبالغ التي رصدتها قوات
الاحتلال مكافأة لمن يبلغ عن مكان اختفائه.
٤٠
وأما ثالث الأسباب، فهو الرغبة في الخلاص من الواقع الساكن، ومحاولة الصعود في السلم
الاجتماعي، ومن ثَمَّ، كانت الهجرة سعيًا وراء العمل الذي يتناسب مع القدرات والقابلية.
وكان من عادة الأسر الريفية أن ترسل أولادها لمدارس القاهرة، وهي مستقرة في الريف، مسقط
الرأس ومصدر الرزق وعماد العصبية. ولم تكن تعرف — كما يقول الضاحك الباكي — إلا الحقل
والجرن وموسم الحصاد وجمع القطن، وتعيش مع أتباعها من الفلاحين.
٤١ وبعد انقضاء عشرات الأعوام، فإن شباب القرية يتعلَّمون في مدارس القرية
والمدينة، وفي الجامعة، وينالون شهادات تؤهلهم لوظائف حاكمة، تنسيهم بالضرورة قريتهم
الصغيرة، الفقيرة.
٤٢ ويقول الراوي الطفل: «لقد انقضى الصيف، ولم يعُد ينزل من القطار غرباء.»
٤٣
لقد عرف الريف منذ أواسط القرن التاسع عشر ظاهرتَين مهمتين، أولاهما اشتداد حركة
الهجرة من القرية إلى المدينة، والثانية تعدُّ وسائل المواصلات بحيث أصبح من الميسور
على أبناء القرية أن ينتقلوا منها إلى المدينة، والعكس.
٤٤ وإذا كان للريف عوامله الدافعة للهجرة منه، مثل انخفاض مستوى المعيشة،
والبطالة، والهروب من سطوة الإدارة … إلخ، ففي المقابل من ذلك، تأتي عوامل الجذب
المنبعثة من المدينة، وفي مقدمتها توفر الفرص الاقتصادية، والرخاء النسبي، وانتشار
الصناعات التي تتطلب أيدي عاملة، وتفضيل أبناء الريف المجندين للبقاء في المدن. الفلاحة
— كما يقول خضري — «شغلة، وشغلة شريفة، لكن الصنعة أحسن، ومركزها في الفلاحين أمتن،
وفرشها ماشي.»
٤٥ ثم تقف عوامل ثلاثة في الحد من هجرة العمال من الريف إلى المدن:
ارتباط العامل بقريته نتيجة لامتلاكه أرضًا أو أشياء يحرص عليها. وإذا هاجر، فإنه
يتردد على قريته في أوقات متقاربة — أو متباعدة — للاطمئنان عليها.
ميل غالبية أهل الريف إلى عدم المخاطرة، فضلًا عن ارتباطهم الشديد بالأرض — كما سبق
أن أشرنا — ومن ثَمَّ، فهم يميلون إلى الرضاء بواقعهم، بكل ما فيه من قسوة وتخلف، بدلًا
من
الهجرة إلى مناطق جديدة، ينتظرهم فيها مستقبل مجهول.
الروابط الاجتماعية القوية، وارتباط أفراد العائلة الواحدة في العمل معًا.
ومن الطبيعي أن تكون لهجرة الأيدي العاملة من الريف إلى المدن آثارها الاجتماعية
العميقة على القرى التي يهاجرون منها، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
-
نقص عنصر الشباب في القرية.
-
زيادة نسبة الإناث في القرية.
-
خسارة ما أنفقته القرية على تربية — أو تعليم — شبابها المهاجر.
-
نقل ثروة القرية إلى المدن.
-
خسارة بعض الصناع والعمال المهرة.
-
استمرار التخلف الثقافي في القرية.
ومن الطبيعي كذلك أن ينقل المهاجرون إلى المدن واقعهم المتخلف، فيعيشون في الأحياء
الفقيرة والقذرة (مثل سكان كفر عشري في «الشارع الجديد»)، ويمتهنون المهن التي تعتمد
على
المجهود البدني كالبناء والحدادة والتجارة ومسح الأحذية وبيع السلع الصغيرة والخدمة،
وتتوضح بينهم عوامل الجريمة والتخلف الثقافي والاجتماعي والصحي.
وعلى الرغم من أن الروح القبلية بدأت في التلاشي، نتيجة لنزوح تلك الأعداد الهائلة
من
أبناء الفلاحين إلى المدن، فإن العلاقات الأسرية ظلَّت على تماسكها، لأن الهجرة كانت
مقصورة على أفراد من الأسرة، بينما تظل الجذور مرتبطة بالقرية، بعكس الحال في أوروبا
—
مثلًا — عندما ترحل الأسر بأكملها إلى المدن، وتقطع كل الوشائج بينها وبين مواطنها
الأصلية. ولعل أهم ما تتميز به أعمال عبد الحليم عبد الله تصويرها الصادق المفعم
بالدلالات العميقة، لتوزع أبناء الريف بين القرية والعاصمة، بين الأرض والأهل في
القرية، ومصدر الرزق في العاصمة. وربما تخلَّف القروي في المدينة عن الانضمام إلى جماعة
مهنية أو اقتصادية، لكنه يحرص — في الأغلب — على الالتحاق بالرابطة التي تجمع أبناء منطقته.
٤٦ والملاحَظ — بصفة عامة — أن العامل الذي يهاجر من الريف، ويلتحق بالعمل في
أحد المصانع بالمدينة، يبدأ حياته بالسكن مع مجموعة من زملائه العمال الذين ينتمون إليه
بصلة القرابة، أو بالسكن في قرية واحدة، أو مركز واحد، أو مديرية واحدة. ثم يبدأ في
شراء بعض الأثاث الضروري، بطانية — مثلًا — أو إناء للشرب. وربما يستقل بحجرة، ويشتري
لها أثاثًا بسيطًا كسريرٍ صغير وكرسي وترابيزة ومرآة وأدوات لصنع الشاي وحصير. وقد يغيِّر
بجلبابه القميص والبنطلون. أما وقت الفراغ فيقضيه العامل — في الأغلب — داخل جدران
المقهى البلدي، يشرب الشاي، أو يدخن الجوزة، أو يلعب الورق مع زملائه وأبناء بلدته،
وتتشعب الأحاديث عن مشكلات العمل والأهل والغربة. ومن بين النازحين إلى المدن للعمل
فيها، تظل أعداد كبيرة من سكان الريف المجاور للمدن الرئيسة، تعمل في المدن، لكنها تحرص
على الإقامة مع الأهل في الريف، وتسمِّي دوائر الإحصاء هذا النوع من النازحين «سكان
الريف غير الزرَّاع.»
•••
أما الخصائص والعادات والتقاليد التي يتميز بها مجتمع القرية عن مجتمع المدينة، فقد
تمثلت في مظاهر عدَّة، الطابع البسيط العائلي للحياة في القرية، فضلًا عن الثقافة
التقليدية الرتيبة. بينما تتسم الحياة في المدينة بطابعٍ معقد، وعلاقات أفرادها تقوم
على
المصلحة والمنفعة والثقافة السريعة التغير. ومن هذه المظاهر: الأسر الكبيرة التي تتحكم
في صورة المجتمع الريفي، إلى حد أن فكري أباظة يصف الأسرة الأباظية بأنها أسرة كبيرة،
اسمها وحده رأسمال كبير. وكانت تلك الأسر تحرص على أن ترتبط بالريف بأكثر من وشيجة،
باعتباره مصدرًا لعصبيتها، فالأرض والثروة والنفوذ العائلي هي الأبعاد الثلاثة الأساسية
لتحديد المكانة الاجتماعية في الريف. والمشكلات في القرية ذات طعم خاص، فهي مثقلة
بالمعادلات الاجتماعية والقيم الأخلاقية السائدة. وعلى مَن يتصدى لها أن يضع هذه
المعادلات وتلك القيم في اعتباره، بل يعرف كيف يحلُّها ويأتي بنتيجة صحيحة.
٤٧ وكان مركز رب الأسرة في القرية يمثِّل مركز الزعيم في القبيلة، فهو يقيم مع
أولاده وحفدته ونسائهم في بيت واحد، يعرف أحيانًا باسم «البيت الكبير»، وحتى بعد أن
يصبح الأبناء أرباب أسر، فإن الجد يظل موضع احترام شديد من أفراد العائلة، ويضعون بين
يديه ثمرة كدهم؛ ذلك لأن الريف يحيا على زراعة الأرض، وهي تتطلب تعاونًا تامًّا بين
أفراد الأسرة في العاصمة، فكل فرد — فيما عدا أسر التجار، وربما الحرفيين — يعمل في
مهنة مستقلة، ويعتمد على نفسه ما أمكن. وحتى الثلاثينيات من القرن العشرين «كان الأب،
أو الجد، هو صاحب الكلمة العليا، يدير زراعة الأسرة، ما تملك وما تستأجر، كل الإيراد
أبناء الجيل — على حد تعبير يحيى يرجع إليه، وكل النفقات عليه، وأولاده يعملون في الحقل
ولا يأخذون أجرًا. كل نتائجحقي — في ظل طعنة دنشواي.
عملهم ترتد إلى الأب أو الجد، وعليه أن يقيتهم ويكسوهم ويوفر لهم أسباب الترفيه
والتسلية، وعليه — حين يكبرون — أن يزوِّجهم وينفق على زوجاتهم وأولادهم، أعني على
أحفاده. وكانت الأسر التي تعيش في منزل واحد، ومعاش واحد، يبلغ عددها ثلاثين فردًا،
وربما أكثر، تجمع ثلاثة أجيال، الجد والابن والأحفاد.» مع ذلك التوقير لرب العائلة، أو
لرجلها المسن، فقد كان لأبناء الريف — على حد تعبير محمود طاهر حقي — «حرية في الفكر
والمناقشة، فللابن أن يحاج أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وليس بعيبٍ إذا جادل الولد الشيخ،
وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء، كما يتمنى سعادة صاحب «تحرير المرأة»
ويود!»
٤٨ ومن ينتمي إلى الأب فهو عم، ومن ينتمي إلى الأم فهو خال، وكان المظهر
الرئيس للزواج في الريف هو الزواج الداخلي في العائلة الواحدة، أو من العائلات داخل
النسق القرابي، بهدف المحافظة على الأرض، وعدم تفكك العصبية.
٤٩ ثم بدأ هذا النظام في التلاشي، وحل محله نظام الأسر الصغيرة، الأب والأم
والأبناء، ثم ينفصل الأبناء ليكوِّنوا حياة خاصة جديدة، وتبعد — بتأثير السن — المسافة
بين الأسرة الأم، والأسر الصغيرة المتفرعة منها، وبخاصة التي تستوطن المدينة، و«انتهى
نظام الأسرة الكبيرة العدد، أو هو في طريقه إلى الانتهاء.»
٥٠ وربما لهذا السبب، كانت العائلات تحرص على أن تبقى العُمدية — مركز السلطة
في القرية — بين أيديها إلى الأبد. وقد استطاعت بعض العائلات بالفعل أن تحتفظ بالعمدية
على مدى أجيال، مثل عائلة الشريف في الغربية، وعائلة الهواري في الفيوم، وعائلة الجيار
في البحيرة، وعائلة عبد الحق في أسيوط، وعائلة شعير في المنوفية. وظل بعض هذه العائلات
«يمتلك» العمدية من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، مثل عائلة الوكيل في
البحيرة، وعائلة الشريعي في المنيا، وعائلة الأتربي في الدقهلية. ثمة مَن يرى أنه لولا
بقاء العُمدية في الأسرة، لما سمِّي بيت الأسرة «السراي»، ولما عيِّن ابن عمه شيخًا
للفقراء، ولما عيِّن ابن أخيه عاملًا للتليفون يتلقَّى إشارات المركز التليفونية، فتعرف
الأسرة الأنباء قبل غيرها، ولما بقي «السلاحليك» — أي مجموعة الأسلحة النارية الخاصة
بخفراء القرية — في بيت الأسرة، رمزًا لسطوة الحكومة التي يمثِّلها العمدة، ولما استطاعت
الأسرة أن تتخلص من خصومها بإدراجهم في كشف الخطرين على الأمن العام الذين كانت الحكومة
تنفيهم إلى جبل الطور، تنفيذًا للقوانين العرفية التي صدرت في أثناء الحرب العالمية
الثانية.
ويتصل بهذه الخاصية أيضًا، ظاهرتان متناقضتان:
-
أما الظاهرة الأولى: فهي التكافل الاجتماعي الذي تتسم به القرية المصرية، لأنها — في
الأغلب — تضم أسرًا متصلة الأصول (الملاحَظ أن أبواب البيوت في القرى لا تُغلَق إلا
نادرًا (الحرام، ٤٧)). كان تخرُّج عبد العزيز طبيبًا، وتعيينه طبيب امتياز في قصر العيني،
بمثابة فتح الضوء الأخضر أمام أبناء البلد، لكي يُقبِلوا على المستشفى بالعشرات للعلاج
من
أمراضهم. ويقول عبد العزيز في غضبٍ لأحد أبناء قريته، فرغ من الكشف، فراح يبحث عن كرسي:
الله هيه مضيفة؟ اطلع هات الدوا، وانجر عالبلد على طول. الله! مش كفاية مشغَّلين
المستشفى لحساب أهل البلد … حا تعملوه قهوة كمان؟ وتقول الحكيمة ضاحكة: دا الأسبوع ده
حملة خفيفة، ما جاش من بلدكم غير أربعة بس يا دكتور!
٥١ والتقاليد تحتِّم على كل صاحب دار أن يرسل صينية مليئة بالمأكولات، يجلس
أمامها، ويستضيف مَن يريده من الأصدقاء أو المعارف، ليشترك معه. يأمرون نساءهم بتحضير
الأرز بالسمن، وذبح ديك أو طهو قطعة لحم بهذه المناسبة، بصرف النظر عن المعاناة التي
يقاسونها.
٥٢ وقبل أن تُذبَح الذبيحة، يطوف بها منادي القرية، وعلى رقبتها منديل ملون،
وحوله أطفال القرية كلها، ينادون بأن البهيمة سوف تُذبَح عند فلان من الجزارين.
٥٣ ويبين التكافل عن ملامحه عندما تحدث في القرية مصيبة، أو حادثة جاموسة
تموت، أو دار تحترق، أو زراعة تهلك. كان الحاج أحمد يطوف بالقرية، وبصحبته الحاج علوان
يدخلون البيوت ويخرجون محمَّلين بما يستطيع كل بيت أن يدفع.
٥٤ وعندما سقطت جاموسة عبد الجليل في بئر، وهرع الرجال لإنقاذها، لم يعُد عبد
الجليل وحيدًا، رغم أنه لا ابن له ولا شقيق؛ جعلت محنته من كل أولئك المتجمعين حول
البئر أبناء له وإخوة أشقاء.
٥٥ وبعد أن أوشكت الجاموسة على الموت لإصابتها بالتسمم، عولجت بالذبح، وأقبل
الأهالي على التعزية فيها، وهم يُظهِرون الحزن كأنما الميت إنسان. ويسأل الشاب: كل ده
علشان جاموسة. فيجيبه أحد الفلاحين: يا ريت كان واحد من عياله ولا هيه. ونصب عمود من
الخشب وسط الجرن، وعُلِّقت الجاموسة، وبدأ بيع لحمها للفلاحين. أقبل الكل على الشراء
بلا
مساومة، فالواجب ليس فقط في التعزية الكلامية، بل في تهوين الخطب على صاحبها، وتعويضه
عن فقدها.
٥٦ عُرف توارثوه منذ آلاف
السنين. وقد تُقطَّع الجاموسة إلى أجزاء، ويُوزَّع لحمها على البيوت تضامنًا ومساندة،
فلا
يؤكل في لحمها حق.
٥٧ وكما يقول الفنان، فإن موت الآدميين ليس شيئًا، الموت الوحيد الفاجع الذي
لا سبيل إلى صلاحه أو نسيانه، هو موت الماشية، فذلك رأس المال يضيعه؛ وهنا يكون العزاء
حقًّا، وتكون المشاركة الوجدانية نابعة من حب القلب.
٥٨ «الجاموسة عند الفلاح أغلى من ولده وذويه، لأنها هي التي تجري على حياته ومعاشه.»
٥٩ ويبلغ التكافل إحدى ذراه عندما يشتعل حريق في أحد الأسطح، فيهدد القرية
بأكملها، أو حين يغرق الفيضان جسور النيل القريبة ويهدد الزرع، أو حين يحدث خلاف بينها
وبين قرية مجاورة.
٦٠ وعندما يتعرض أحد أبناء القرية لأزمة مفاجئة، فإن الرجال يلتفُّون حوله
«ليخرج كلٌّ منهم محفظته ويفرقع كباسينها في إقدام، ويقدمها للرجل ليأخذ ما
يعوزه.»
وجوانب التكافل الاجتماعي كثيرة متعددة، تشمل كلَّ ألوان الحياة وظروفها، وحتى في ظروف
العمل العادية. ثمة مناسبات معينة يتذكرها أطفال القرى، ويسعدون بها: أيام السوق، ليالي
المواسم، أيام حصاد القمح، يوم ولادة الجاموسة الكبيرة … إلخ.
٦١ وكما يقول الفنان، فلا يفرح الواحد من أهل القرية إلا مع الآخرين، ولا تلد
بقرة في إحدى الدور إلا ويصل عطاؤها الأول من اللبن السرسوب إلى الضعاف من المسنين
والرضع والأطفال.
٦٢ وثمة مناسبات كالولادة والختان وحفلات عقد القران والزفاف وغيرها مما يحتفل
به الناس، نجد نظام «النقوط» سائدًا على نطاقٍ أوسع كثيرًا مما هو عليه في المدن، وبصورة
تكاد تكون منظمة ودقيقة، حتى إن صاحب «الفرح» يستطيع أن يقدِّر بدقة مقدار ما سيحصل عليه
من «النقوط»، إن كلمة موسم في القرية تعني موسم بيع القطن.
٦٣ موسم القطن — وموعده الخريف — يقترن بعقد الزيجات، وإحياء المناسبات بين
الفلاحين، وما يستتبع ذلك من رواجٍ في الأسواق، بدءًا بتجار الأثاث، وانتهاء بدكاكين
المصوغات، مرورًا بمحال الأقمشة والملابس. وفي بعض القرى تُدفع «النقوط» في حالات الزواج
على نوعين: أحدهما يُسمَّى «فتح الصدر»، ويُدفع للعروس في ليلة الزفاف قبل أن تغادر منزل
أسرتها، وهو لحساب والدها أو أسرتها، والثاني هو «الصبحية»، ويُدفع للعروس في يوم
«الصبحية» ليكون من نصيب العروسين.
وتمتد مظاهر التكافل في الأفراح إلى المعاونة المادية في مستلزمات «الفرح»، مثل
المساهمة بالأثاث الذي يلزم لإقامة الحفل من كراسي وموائد ومصابيح وأدوات مائدة وغيرها،
والمساهمة في «الوقود» اللازم لطهو الطعام وصنع الخبز والكعك … إلخ. والعادة — في رمضان
—
أن يمد الناس الموائد أمام بيوتهم، كلٌّ حسب قدرته، حتى إذا مرَّ بهم صائم لحظة الإفطار،
تناول إفطاره معهم، سواء كانوا يعرفونه أم لا يعرفونه.
٦٤ ويسفر التكافل عن ملامحه جيدًا عند الوفاة، فمن ليس له عائلة في الدنيا
يصبح الجميع عائلته.
٦٥ يبين التكافل عن قسماته فيما يقدمه أهل القرية من معونات وخدمات لأسرة
المُتوفى. لا بد أن يتشارك الجميع — فقراء وأغنياء — في تطليع الصواني، ولا بد أن تكون
الصينية حافلة باللحم أو بالزفر. لا يجد الأغنياء مشقة في الإنفاق، أما الفقراء فإنهم
يحملون هَم الصينية أكثر من هَم كسوة الأولاد في العيد، لكن الواحد منهم يظل على ثقة
أن
زوجه قد ادَّخرت شيئًا لمثل هذا الظرف.
٦٦ يعجب صالح (السراية) من الأعداد الهائلة لنساء القرية، امتلأ الكوخ على
آخره بهن، حضرن للتعزية، وعلى رءوسهن الصواني المليئة بالمأكولات.
٦٧ وفي كثير من الحالات، يتولى أي شخص — حتى لو كان من غير أسرة المتوفى —
الإنفاق على جميع مستلزمات الأسرة من ماله، ثم يقدم في النهاية حسابًا عما أنفقه
للأسرة، ولا يسترده إلا في الوقت المناسب، وقد يطول هذا الوقت تبعًا لظروف هذه
الأسرة. كذلك فإن تقديم المعونات المادية والخدمات في المآتم، أمر مقرر يتم بصورة
تلقائية، فيُعِد أقارب المتوفى وجيرانه موائد الطعام للمعزين، وكل بيت يخرج مائدة إلى
الدوار، أو يأخذ بعض هؤلاء المعزين وأفراد أسرة المُتوفى لتناول الطعام عنده. ويُعِد
كلٌّ
منهم مكانًا لمبيت من يفِد من بلدٍ بعيد. وتنقضي أيام المأتم دون أن يشعر أهل الميت بأزمة
ما، فضلًا عن اشتراك كل أهل القرية والقرى المجاورة في تقديم واجبات العزاء، وتطوع
الكثيرين منهم في القيام بالخدمات وتقديم الأدوات اللازمة. حتى إنه لا يوجد في الريف
«حانوتي» محترف؛ بل إنه في القليل النادر يستخدم الفراشون في إقامة المآتم على النحو
المألوف في المدن. وفي غير المآتم والأفراح يبدو التكافل الاجتماعي واضحًا في النكبات
التي تطرأ، سواء أكانت مقصورة على فرد واحد، أم تعرَّض لها الجميع.
وحين تكاتف جيران وأصدقاء عمار في دفع تكاليف جنازة وحيده مدحت، أراد عمار — بعد أن
قبض راتبه — أن يدفع ما عليه، لكن عباس الأشرم رفض في حسم، وقال: «كل ما صرفته دفع كلُّ
واحد من الجيران نصيبًا فيه، ليس لي فضل دفع أي قرش زيادة عما دفعه أي واحد منهم.»
وأضاف: «أنت تعرف إنهم صعايدة … وبالنسبة لهم مسألة تقاليد.»
٦٨
-
وأما الظاهرة الثانية، المقابلة، فهي الثأر الذي يجد امتدادًا له في عهد الفراعنة.
وفي أسطورة «حورس» بالذات الذي كان من بين أسمائه «بخ-ات-فو» أي الأخذ بثأر أبيه،
بُعث أوزوريس حيًّا، فسأل ابنه حورس عن أفضل الأشياء في الحياة، فقال: أن يثأر الولد
لأبيه (للدكتور أحمد أبو زيد اجتهاد آخر، ملخصه أن عادة الثأر هي بعض عادات العرب التي
كانوا يمارسونها في جاهليتهم، وأن المصريين قد اكتسبوا هذه العادة بعد الفتح العربي،
وتأثرهم بالنظم والقيم والأنماط الثقافية العربية (الثأر، ١٦)). ثم وجدت تلك الظاهرة
رسوخًا في الحكايات الشعبية التي يُعَد الثأر محورها، مثل المعلقات السبع، ومعارك
المهلهل، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وعصمة بن حيدرة اليربوعي الذي نذر بألَّا يأكل لحمًا،
أو يشرب خمرًا، أو يغتسل، حتى يقتل من أعدائه سبعين رجلًا، ثأرًا لابن عمه المقتول.
وقلما توجد عائلة في الريف — في مصر العليا بخاصة — ليس لها، أو عليها ثأر — حق الدم
كما يسمونه — ومن أهم ما يشغل بال كل أسرة، حساب ما لها وما عليها من حق الدم.
وأحيانًا، تُطلى مقابر من أُخذ بثأرهم باللون الأبيض، بينما تُطلى مقابر من لم يؤخذ بثأرهم
باللون الأسود، وتظل هكذا حتى يؤخذ بالثأر، فيسارع الأهل بتغيير طلائها باللون الأبيض
حتى يعلم الجميع أنهم قد استطاعوا أن يثأروا لقتيلهم. إن الثأر — كما يقول المثل الشعبي
— «زي الحنة ما يسوس»، أي لا يدركه التسوس! وهو بعض إفرازات النظام القبَلي؛ ذلك لأن
روابط القرابة والعصبية تلعب دورًا أساسيًّا في تحريك نوازع الرغبة في الثأر والإقدام
عليه.
٦٩ ويشير الفنان (يوميات ضابط في الأرياف) إلى التعديد الذي يعمِّق ظاهرة الثأر،
ويحض على استمرارها، إن تعديد الندابات يثير النفوس، ويلح على ضرورة الثأر.
٧٠
القرية المصرية تجسيد للمجتمع الأبوي الذي يُعَد الاعتداء على أيٍّ من أفراده بمثابة
اعتداء على كل أهالي القرية. إن صوت إطلاق الرصاص مألوف عند الفلاحين.
٧١ ويلحظ النائب في يومياته أن معظم حالات القتل في الريف لا تدري بها السلطة؛
ذلك لأن عائلة القتيل تحرص أن تنال ثأرها بيد أحد أفرادها، ومن ثَمَّ فهي توصي حلاق الصحة
بأن يبلغ عن الوفاة بأنها عادية «حلاقين الصحة في الجهات تبلِّغ الدكتور المفتش
بالتليفون، وحضرته قاعد على مكتبه هنا ما عليه إلا أنه يسأل في كل حالة عن سبب
الوفاة، نرد عليه في التليفون: ماتت يا دكتور موتة ربها. يقوم يقول: ادفن … ادفن …
ادفن!»
٧٢ بالإضافة إلى ذلك، فإن القرويين — كما يقول الفنان في «العنقاء» — لا يتحدثون
عن جرائم القتل، كي لا يُغضِبوا سادة القرية «فأكثر الجرائم من سادة القرية.»
٧٣ وقد يرى القرويون القتيل يسقط بين أعواد الذرة، أو على الجسر، ويعرفون
القاتل، لكنهم يؤثرون الصمت أمام وكيل النيابة «فإن كان للقتيل دم، فليثأر له أهلوه،
أما أن تنحشر الحكومة بين البصلة وقشرتها، فهذا ما لا ترضى به تقاليد القرية.»
٧٤
وفي كل الأحوال، فإن القتيل — طالب الثأر — يُدفن دون جنازة، ودون أن يتقبَّل فيه
أهله
العزاء، ولا يقيمون سرادقًا، ولا يرتدون ملابس الحداد … يؤجلون ذلك كله إلى ما بعد أخذ
الثأر، بالإضافة — طبعًا — إلى أن إرجاء كل تلك الطقوس معناه الإصرار على الثأر لقتيلهم
— مهما تتباعد الأيام — بل إن أهل القتيل يرفضون — في الأغلب — إرشاد الشرطة إلى
الجناة، حرصًا على أن ينالوا ثأرهم بأيديهم؛ فمن العار أن تثأر الحكومة لهم. بل إن شهود
الواقعة يمتنعون كذلك عن الإدلاء بشهاداتهم، حتى لا تجتذبهم الأحداث في دوامتها. الثأر
له بداية، ولكن ليس له نهاية. حتى الصلح يظل — في معظم الأحيان — هشًا، فما تلبث أن
تمتد الأيدي إلى الخِرق التي يلفُّون فيها أسلحتهم، يمسحونها، وينظفون ماسوراتها، ويحشونها
بالبارود.
٧٥ «البندقية ثقيلة، لكن الثأر أثقل.»
٧٦ وبالطبع، فإنه إذا لم يُنصَب المأتم، ويُؤخَذ العزاء، فإن معنى ذلك أن للحادث ذيوله.
٧٧ وفي أحيان كثيرة، فإن القاتل الذي يقضي فترة العقوبة في السجن، يترصده
طالبو الثأر لحظة مغادرته باب السجن فور انتهاء فترة العقوبة، إنهم لا يريدون، ولا
يتصورون، أن تثأر لهم الحكومة، ولا بد أن يأخذوا ثأرهم بأيديهم!
٧٨ وثمة قاتل نال عقابه أعوامًا طويلة من السجن، لكن الثأر ظل معلقًا على رأس شقيقه.
٧٩
يسأل وكيل النيابة عمدة إحدى القرى: وممن سمعت أن المتهمين أخذوا بثأرهم من المجني
عليهم؟
يجيب العمدة في بساطة: سمعت من البلد، وهم زغردوا في بيتهم وذبحوا عنز على روح القتيل
الذي ثأروا لدمه!
٨٠
ولعل أخطر ما في الثأر أن القاتل لا يعتبر نفسه قاتلًا، لكنه صاحب حق، مسئول عن واجب،
حقه هو الثأر من القاتل، وواجبه أن يثأر بنفسه من القاتل. إنه لا يتخفَّى أو ينكر ما
فعل، وإنما يتفاخر به وسط مظاهر الفرحة والزغاريد وتقبَل العزاء في فقيده الذي سعى لأخذ
ثأره. وغالبًا فإن القاتل يسلِّم نفسه إلى الشرطة، فهو لم يرتكب ما يخل بشرفه، أو يهين
كرامته! بل إن التباهي هو شأن من يؤدون العقوبة لقاء ثأر.
٨١
المعتقد الشعبي يذهب إلى أن روح القتيل لا تعرف راحة ولا استقرارًا إلا إذا انتقمت
من قاتلها.
٨٢ وقد تظل روح القتيل معلَّقة بين السماء والأرض حتى يأخذ أهله بثأره.
٨٣ المثل الشعبي يقول إن «اللي ما خلِّف خير من اللي خلفته بنات»؛ ذلك لأن ثأره
سيضيع في الأقدام التي تسعى وراءه — بعد قتله — لتواريه التراب، ويظل جسده المسجي بلا
ثأر، إلى الأبد.
٨٤
حين يدفن طالب الثأر، لا عزاء ولا مأتم حتى يأخذ أهله بثأره.
٨٥ يوم الدموع يأتي حين يتم الثأر للقتيل.
٨٦ هكذا جرت العادة في الصعيد، وعلى أهل القتيل ألَّا يلجئوا في بحثهم عن
القاتل إلى أية جهة: العمدة، أو الشرطة. فإذا سُئلوا، أجابوا باقتضاب. إن عليهم أن
يبحثوا بأنفسهم عن الفاعل، ويقتصُّون منه.
٨٧ وفي الأغلب، فإن طالبي الثأر يرفضون أحكام القضاء، والدية، والعفو، والصلح،
ويصرُّون على تساوي الضحايا من الجانبين. إن حكم القضاء بإدانة القاتل لا يكفي لترضية
أسرة القتيل؛ فالثأر واجب من أحد أقاربه، ولو بعد أعوامٍ طويلة من وقوع الجريمة، ولو
هاجر الذي تقرر الثأر منه إلى مدينة أو قرية أخرى بعيدة، وتظل الأسرة التي قُتِل أحد
أبنائها باقية على حدادها حتى يتم الثأر له، ومن ثَمَّ تنفض الأسرة عنها مظاهر الحزن،
وتدوي الزغاريد، وتطلق الأعيرة في الفضاء، وتنحر الذبائح على روح القتيل التي تنعم،
بعد أن تم الثأر لها براحتها الأبدية.
٨٨ وقد يرقص آخذ الثأر بعصاه، ويغنِّي:
إن أول ما يتعلمه طالب الثأر أن آلام الثأر أهون من حزن العار.
٩٠ وكما يقول الفنان: «إنهم يجدون من العار أن تثأر الحكومة لهم، فهذا الثأر
يجب أن يتم على أيديهم هم دون غيرهم.»
٩١ يحمل أهل القتيل جثة قتيلهم، لا يبلغون الشرطة، ولا يتقبَّلون عزاء «فبمصرع
قتيلهم ستنمو في قلوبهم بذرة حقدٍ جديدة سوداء، تتعهدها الأمهات في قلوب أطفالهن سنين
وسنين، حتى يصبحوا شبَّانًا قادرين على تصويب السلاح، ويتعهدها الأعمام والأخوال والعُرف
والبيئة.»
٩٢ وربما قام أهل القتيل بطلاء قبره باللون الأسود، حتى يتم الأخذ بثأره،
فيعاد طلاؤه باللون الأبيض، ويقام سرادق أمام بيت القاتل، تتقبَّل فيه العزاء في قتيلها،
لكنهم يوزِّعون الشربات بدلًا من القهوة.
٩٣ وأحيانًا، يتم الثأر الجديد أمام السرادق الذي يقام — متأخرًا — لتقبُّل
العزاء، ويتواصل المسلسل! إن الثأر لا ينتهي إلا إذا استوفى كل طرفٍ دم آخر قتيل له،
فلا يداين أحد الطرفين الآخر.
٩٤ «رأس برأس حتى تفنى العائلتان.»
٩٥ حتى الذي يتردد في طلب الثأر، قد يواجه القتل، تصورًا أنه ينوي أخذ ثأره!
٩٦
إن أهل القتيل يرفضون الإبلاغ عن قتلاهم، يفضِّلون أن يأخذوا ثأرهم بأيديهم، ربما
لأن
القضاء لا يحكم — في الأغلب — بإعدام القاتل، وإنما يحكم بسجنه، فهو يخرج — بعد أعوام
—
ليغيظ أهل القتيل بالسير أمامهم! وقد دخل الرجل السجن عقابًا على جريمة القتل التي
ارتكبها، لكن الثأر ظل معلقًا على رأس شقيقه. قالت الأم المعذبة: دمك مطلوب هنا يا بني،
القاهرة مدينة كبيرة، فيها الناس كالنمل، هناك تختفي عن أعين الانتقام وننسى.
٩٧ فإذا مات القاتل قبل أن تنال أسرة القتيل بثأرها منه، فإن أكبر أبناء
القاتل يصبح هو الهدف.
٩٨
ولما قتلت رصاصاتٌ مجهولة صالح (عاصفة فوق مصر) سأل العمدة ابن أخيه عبد القوي: هل
تعرف قاتل عمِّك؟ أجاب: حين أعرفه أنا، ستعرفه أنت، وسيعرفه أهل البلدة جميعًا. وأدرك
صالح — قبل أن يلفظ أنفاسه — أن ابن أخيه سيثأر له، فهتف من أعماقه: بارك الله فيك يا
ابن أخي!
٩٩
وثمة من قتل له ابن في ريعان شبابه، في جمعة طلبه للتجنيد، ولم يكن لغريمه ذكرٌ يثأر
منه سوى صبي يلعب، فصبر عليه، حتى جاء موعد فرزه، فرماه بالرصاص.
١٠٠ وفي رواية «طارق من السماء» لثروت أباظة، نسب الوالدان طفلهما إلى أبوين
آخرين حتى لا يقتله الثأر! ويتحدث شكري بك (نفوس مضطربة) عن ذلك الشاب الذي ثأر لدم
قديم، وراح يغوص بسكينه في جسد قاتل أبيه منذ خمسة وعشرين عامًا، وهو يصيح، ثم ملأ
زجاجة من دم قاتل أبيه، وعاد بها إلى أمه، فعانقته وبكت فرحًا، ولما حُكِم عليه بالإعدام،
استقبل الحكم بابتسامة رضا.
١٠١ وقد انتظر طالب الثأر حتى تزوج غريمه، فتعمَّد أن يحرمه من التمتع بعروسه،
وترصد له وهو عائد من الحقل، وأفرغ فيه رصاص بندقيته.
١٠٢ وفي قصة «الثأر» تظاهرت الفتاة بحب قاتل أبيها، حتى نالت ثأرها منه «لقد كنتَ
قاتل أبي قبل أن تكون حبيبي، أنت الذي تعاركت مع أبي فأرديته قتيلًا وفررت، ومكثت
عائلتي تقلب عليك الأرض، باحثة عنك، فلم تعثر على أي أثر لك، جئت لأنتقم منك. إن دماء
أبي تطالبني بالثأر.»
١٠٣ ومع أن الرجل الذي سافر دحروج وراءه من الصعيد إلى الإسكندرية، لقتله أخذًا
بالثأر، قد مات بالكوليرا، فإن دحروج صمم على أخذ الثأر، فقتل أخا الرجل.
١٠٤
وكانت مأساة حسن المصري (الشمندورة) هي الفرار من طلب الثأر. فرَّ من قريته في الصعيد
إلى النوبة، يصنع سواقي الناس، ويرمم جدران بيوتهم المشقَّقة، ولا يقول لأحد: من أين
أقبل.
١٠٥ أحب فتاة، وتعاهدا على الزواج، وراح يُعِد نفسه لحياة هانئة، لكن أهلها فضَّلوا
عليه ابن عمها، فدفعه حبه المجنون إلى قتل الزوج، ولاذ بالفرار من الشرطة وأهل القتيل.
ووصل إلى أسوان، فعمل — زمنًا — في تعلية الخزان، حتى بدأ يلمح نظرات الشك من حوله،
فاتجه إلى النوبة، إلى نجع بالذات، يحاول الفرار بحياته. ورغم أن الإعدام كان هو المصير
الذي ينتظر حسن المصري إذا عثر عليه الشرطة أو أهل القتيل، فإنه كان يقاوم حنينًا
غلابًا للعودة إلى الكلح، قريته.
١٠٦
وحتى الآن فإن الإحصائيات تدل على أن جريمة القتل تحتل مكان الصدارة من جرائم
الجنايات، وأن جنايات القتل والشروع فيه بدافع الثأر تؤلِّف أعلى نسبة من مجموع جرائم
القتل بعامة، وإن كانت النسبة في الوجه القبلي أعلى منها في بقية أنحاء مصر.
١٠٧ الصعيد هو المسرح الرئيس لجرائم الثأر، وبالأرقام فقد كانت الإحصائيات تؤكد
— في أعوام متتالية — أن جرائم الثأر تمثِّل حوالي ثلث جرائم القتل والشروع فيه، والتي
تمثِّل بدورها ما بين ٢٩–٤٦٪ من مجموع الجنايات التي تحدث في مصر كل عام.
١٠٨ ثم زادت جرائم الثأر، فبلغت — في مطالع الخمسينيات من القرن العشرين — ما
يقرب من نصف عدد جرائم القتل في مصر.
وللطابع الزراعي تأثيره المباشر في جرائم الثأر، المعتقدات والعادات والتقاليد
والموروثات والأنماط السلوكية تجعل من الثأر مسألة متاحة، بل وواجبة. النزاع على حدود
الأرض، أو إغارة الماشية على حقول الغير، أو الاختلاف على مواعيد الري، أو مناصرة
الجماعة «البدنة». وتهيئ بعض المواسم الزراعية فرصًا لارتكاب جرائم الثأر، مثل موسم
زراعة الذرة الذي يتيح للجاني الاختفاء — قبل وأثناء وبعد — ارتكاب جريمته، فضلًا عن
أن
تباعد الملكيات يساعد الجناة على تصيد خصومهم في أثناء الذهاب والعودة من الحقول
البعيدة. إن جرائم الثأر تنشط مع بداية فصل الصيف، وتبلغ ذروتها في يوليو وسبتمبر، مع
ارتفاع أعواد الذرة، والنسبة الكبيرة منها يتم نهارًا. كما تستخدم الأسلحة النارية
بنسبة كبيرة، تليها — بنسبة تقل كثيرًا — الآلات الحادة. يختبئ طالب الثأر بين أعواد
الذرة الفارعة الخضراء، متربصًا بعدوه، وتنطلق الأعيرة النارية، تعقبها خشخشة بين
العيدان التي يتكسَّر بعضها تحت هرولة الأقدام المسرعة الهاربة.
١٠٩
أما مصادر الأسلحة التي تُستخدَم في عمليات الثأر فهي:
-
مخلفات الحروب المتوالية التي عاشتها مصر، بدءًا من حرب العرابيين.
-
عمليات التهريب من الخارج.
-
الصناعة المحلية، وهي — في الأغلب — بدائية، وتنتج «الفرد» اليدوي.
-
سرقة السلاح من الخفراء الخصوصيين، أو السلاحليك في أقسام الشرطة ودوَّارات العمد.
والثأر ليس مطلقًا؛ إن له قواعده المنظمة التي تحددت بتوالي الأجيال، وتوالي عمليات
الثأر كذلك. فمن قوانين الثأر وأعرافه التي يحترمها الجميع أن المسئولية جماعية في أخذ
الثأر، كما أن المسئولية جماعية في تحمُّل مسئولية جريمة القتل، فمحاولة الثأر لا بد
أن
تتجه إلى واحدٍ من أفراد الأسرة أو العائلة.
١١٠ التربية في الريف تعني بالناحية الجمعية: الولاء للأسرة والعائلة والقرية؛
الشخص الذي يُقتل، يؤخذ بثأره من شخصٍ واحدٍ فقط في عائلة الجاني، أو ينتمي إليها بصلة
القرابة أو النسب. أما إذا كان القتيل هو رب العائلة، فإن الثأر يجب أن يؤخذ من رب
العائلة التي ينتمي إليها الجاني. وعمومًا، فإن عمليات الثأر تجري بأسلوب «الاستدانة»،
فقد يكون لعائلة ما رجلٌ أو اثنان أو ثلاثة عند العائلة الخصم، وهي لا بد أن تثأر بما
يكفي سداد الدين! وبالطبع فإن العائلة الأخرى يكون لها منطقها المغاير الذي يستند إلى
حسابات مغايرة، ويتواصل من ثَمَّ مسلسل الدم والعنف إلى ما لا نهاية، أو حتى يفلح أحد
المطلوبين للثأر في الفرار بنفسه من رصاص خصومه، أو أن يحمل كفنه على يديه، ويسعى إلى
عائلة القتيل كي تعفو عنه، أو أن يمتنع صاحب الثأر عن القصاص بنفسه؛ يترك ذلك للدولة،
أو يقبل المصالحة!
وللثأر — كما أشرنا — طقوسه التي يشارك فيها أفراد عائلة القتيل، فهم يتكتمون موته،
ولا يقيمون للعزاء فيه سرادقًا، بل يرفضون تقبُّل العزاء أصلًا، وتجري عملية الدفن في
سرية، ودون جنازة، ويهمل الرجال أنفسهم، ويطلقون لحاهم، ولا يغسلون أجسامهم، ولا يغيِّرون
شيلان عمائمهم، ويمتنعون عن مضاجعة زوجاتهم، حتى يتحقق الثأر، فيتقبَّلون العزاء،
ويمارسون حياتهم بصورة طبيعية، ويقول الناس إن فلانًا زهَّر شال عِمته، أي غسله، وجعل
لونه أزرق سماويًّا.
١١١ وعندما تحاول الإدارة أن تجري تحقيقاتها في حادثة قتل، فإنها تواجه إنكارًا
وتجاهلًا من أهل القتيل الذين يقررون الثأر لأنفسهم، وربما قُيِّدت الحادثة — نتيجة إنكار
الأهل معرفتهم أي شيء عن ظروف الحادثة — ضد مجهول. وحين يتحقق الثأر، يصبح المجهول
معلومًا، وتنتقل السرية والتجاهل والإنكار والإصرار على الثأر إلى الطرف المقابل،
وهكذا. وكما يقول محمدين، فإن عملية الثأر تجعل كل إنسان ينتظر دوره «فالبني آدم لا
يساوي شيئًا أكثر من ثمن الرصاصة، يسقط ولا يقوم، ضغطة على الزناد فقط، وبسقوطه يتحتم
سقوط آخر في مقابله.»
١١٢ المشكلة أنه لا أحد يجرؤ على التحدث في الصلح، فهو عار في عرف الجميع.
١١٣ وتتعدَّد عمليات القتل، والقتل المقابل، الثأر، والثأر من الثأر، سلسلة لا
تنتهي حلقاتها، ساقية لا تكف عن الدوران. لذلك فقد منع الأب ابنه من مخاطبة «الجاسر»
وقبيلته، بحجة أن بينهم ثأرًا قديمًا، يستوجب الحذر.
١١٤
العداء بين الأسر الكبيرة في الريف ضرورة حياة، تغذيه عوامل كثيرة حتى يصل إلى مرحلة
الثأر، والثأر المعاكس.
١١٥ إن خلافات العمل بين الفلاحين يمكن إجمالها في الاعتداء على الحدود
الزراعية، والتزاحم حول أسبقية الري، وطرد المستأجر من أرضه، وتوقيع الحجز على
المحاصيل، والخلاف حول استخدام أدوات الزراعة، أو أدوات الري … إلخ.
١١٦ ومن بواعث الثأر:
وقد تتصل بواعث الثأر بالخوف من معايرة الآخرين لمن لم يأخذ بثأره، الأسباب الدينية
«ولكم في الحياة قصاص»، أو «من قتل يُقتَل» … هذه الأسباب تغيب في عمليات الثأر تمامًا،
وهو ما يبين في العديد من الأعمال الروائية والقصصية التي تتناول عادة الثأر؛ إن القتل
لا يتجه إلى القاتل، وإنما إلى أحد أفراد أسرته أو عائلته بما ينفي المغزى الديني.
والملاحظ أن مجتمع النوبة لا يعرف عادة الثأر، فالجميع — في النهاية — عائلة واحدة،
أو عائلتان، بينهم من المصاهرة والنسب ما يجعلهم يراعون صلة النسب والرحم، فضلًا عن أن
مجلس مشايخ القبائل والعمدة لا يترك أحدًا يعبث.
١٢٠
والثأر — في أحد أبعاده — تأكيد على إنكار قيمة الفرد، والتهوين من أمره، في سبيل
إعلاء قيمة الجماعة القرابية،
١٢١ بل إنه ليس مجرد فعل، أو رد فعل، يستهدف الانتقام لمقتل أحد أفراد الجماعة،
لكنه نظام اجتماعي يشغله إعادة التوازن الذي كان قائمًا بين الجماعتين، المعتدية
والمعتدى عليها، قبل وقوع حادث القتل الذي أدى إلى فقد أحد أفراد الجماعة أو أكثر، بحيث
تلجأ الجماعة المُعتدى عليها إلى محاولة تحقيق التوازن بإنقاص الجماعة المعتدية بالقدر
نفسه الذي نقص منها.
١٢٢ الثأر — من ناحية ثانية — عمل من أعمال الرجولة الكاملة، فصاحب الثأر يجب
أن يكون رجلًا، والمطلوب للثأر يجب أن يكون رجلًا كذلك، وربما استغنى طالب الثأر عن بعض
الضروريات ليمتلك بثمنها أداة القتل: بندقية، أو مسدس، أو بلطة، أو مطواة!
وإذا كانت مهمة الرجال هي الأخذ بالثأر، فإن مهمة النساء هي تنشئة الأطفال على احترام
الثأر ووجوب الوفاء به والحرص على أدائه. المرأة لا تمارس «الفعل» في حوادث الثأر،
لكنها — في الأغلب — تقوم بدور المحرِّض والمدبِّر لثأر الأب أو الأخ أو الزوج من حيث
تنشئة
الفاعل وقضية الثأر أهم ما يشغله، حتى إنها ترفض إظهار الحزن، أو ارتداء السواد إلا بعد
أن يؤخذ بثأر القتيل.
١٢٣ وربما وصل دورها إلى حد شراء السلاح الذي يُستخدَم في الحادثة، ذلك دور أعداد
كبيرة من النساء اللائي فقدن بعض أقاربهن الأقربين، منذ إيزيس التي أعدَّت ابنها حورس
ليثأر لأبيه، زوجها أوزوريس من عمِّه ست. إن الأم التي تُعِد ولدها للثأر من قاتل أبيه
هي
إيزيس التي أمضت ما يربو على الثمانين عامًا من عمرها، تُعِد ابنها حورس لكي يأخذ بثأر
أبيه من عمِّه ست. وكان من الأسماء التي عرف بها المصريون القدماء حورس «نج-ات- فو» أي
الآخذ بثأر أبيه. وتروي قصة الرباعي إيزيس وأوزوريس وحورس وست، أن أوزوريس عندما بُعِث
حيًّا سأل حورس عن أفضل شيء في الدنيا، فقال حورس: «إن أفضل شيء في الدنيا أن يثأر
الولد لأبيه.» ومن هنا يأتي تحفظي على الرأي بأن المصريين لم يعرفوا نظام الثأر إلا
بعد اتصالهم بالعرب، وأن المجتمع المصري عرف ظاهرة الثأر بعد الفتح العربي، باعتبار أن
الثأر عادة متأصلة عند العرب منذ الجاهلية، وإلى ما بعد انتشار الإسلام. ولعلَّنا نشير
إلى المثل العربي «الموت في طلب الثأر خير من الحياة في العار.» ومن أساطير العرب أن
الإنسان إذا قُتِل ولم يُطلَب بثأره، خرج من رأسه طائر يُسمَّى الهامة، وصاح: اسقوني
… اسقوني،
ولم يزل على ذلك حتى يؤخذ له بالثأر، فيرتوي ويختفي.
١٢٤ وللدكتور أحمد أبو زيد اجتهاد، ملخصه أن عادة الثأر هي بعض عادات العرب
التي كانوا يمارسونها في جاهليتهم، وأن المصريين قد اكتسبوا هذه العادة بعد الفتح
العربي، تأثرًا بالنظم والقيم والأنماط الثقافية العربية.
١٢٥
ويوم دفن حسونة، رفعت زوجته طفلهما فوق القبر، ونذرت — إن عاش الطفل — أن يثأر بنفسه
لأبيه.
١٢٦ وقد مات الأب مقتولًا، والابن ما يزال جنينًا في رحم أمه، فلما ولدته ربَّته
على معنى واحد، هو أن يثأر لأبيه، فلما بلغ الابن الرابعة عشرة من عمره، حمل بندقيته،
وترصَّد لقاتل أبيه، وقتله.
١٢٧ وكانت فرحة رضوان مضاعفة، حين أنجبت ابنته ولدًا، ذلك لأنه سيحمل ثأره إن
قُتِل، بمعنى أنه يضع — في تقديره — احتمالات المستقبل.
١٢٨ ولم يكن عقم وهيبة (أغنية الدم) مجرد حالة مرضية، أخطر ما في المشكلة أنها
لم تنجب ولدًا يأخذ بالثأر، إن حدث ما يدعو إلى طلب الثأر.
١٢٩
ومع أن سعدي كان أول العنقود وآخره، بعد أن قُتِل أبوه وهو طفل، فإن أمه أعدَّته
ليأخذ
بثأر الأب الغائب. وكبر الصغير، وتحايل على عاهته — فقد كان ضريرًا — حتى استطاع أن
يثأر لأبيه، ولا يطول انتظاره حتى يثأر منه أهل مَن قتله، وتظل العجلة في دورانها.
١٣٠
ولأن رجال العائلة — حتى أبناء القتيل — رفضوا أن يثأروا له، فقد تكفَّلت الزوجة
بالمهمة، وفاجأت برصاصاتها أفضل أبناء عائلة «العسال»، ثم سعت إلى مقبرة زوجها، ورشَّت
الماء حول ضريحه، وأفرغت الباقي في آنية نبات الصبار، ثم أخلت لدموعها السبيل، وكانت
تلك أول مرة تبكي زوجها الراحل منذ مصرعه بأيدي أبناء العسال.
١٣١
ومع أن فاطمة كانت تعرف جيدًا قاتل زوجها، فإنها لم ترشد المحققين إليه، أزمعت أن
تنتقم لزوجها بنفسها.
١٣٢
عادة الثأر تلزم أقرب الناس للشخص الذي قُتِل بالانتقام له من القاتل، بالثأر له منه،
فيقتله. فإذا لم يكن هذا القريب موجودًا، أو أنه رفض القيام بالمهمة التي أوكلت إليه،
فإن الإلزام يمتد ليشمل الجماعة التي ينتمي إليها القتيل؛ إنها يجب أن تثأر له، بصرف
النظر عن الشخص الذي ينفِّذ القصاص، فإذا لم يكن القصاص من القاتل نفسه سهلًا، فإن الثأر
يُوجَّه إلى أحد أقاربه.
والنظام القرابي يعتمد على روابط العصبية، أي القرابة عن طريق الذكور، في حين أن
المرأة لا تحتل في ذلك النظام موقعًا مهمًّا، لذلك فإن الثأر قد ينال ابن الأخت
باعتباره منتميًا إلى بدنة أخرى معادية.
١٣٣
لقد أكد القرآن قانون التوازن الاجتماعي، بإشارته إلى مبدأ العين بالعين، والسن
بالسن، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن — وهو ما يجب أن يتم في كل الأحوال بواسطة السلطة
الحاكمة — لكن بعض العائلات التي تطلب القصاص لا تكتفي بفردٍ مقابلًا لفردٍ من بنيها؛
قد
تكون الخسارة في القتيل جسيمة، كأن يكون عميدها، أو أحد شبابها النابهين، فتطلب في
مقابله أكثر من شخص.
ومن العار — كما يقول الراوي — أن يُطلَب الثأر داخل البيوت، وعندما حاول أهل القتيل
أن
يقتحموا ببنادقهم بيوت آل العسال المتهمين بالقتل، تصدى لهم كبير العائلة، وأوقف المحاولة.
١٣٤
وقد فوجئ طالب الثأر بأن «مهران» — المطلوب — دخل عليه لأنه يحمل سلاحًا بدون ترخيص،
ويصيح الرجل في رعب: الداورية أرحم! ولكن عبد الفضيل — طالب الثأر — يبتسم لمهران،
ويدعوه — في بساطة — إلى مشاركته الطعام، والمبيت عنده حتى تذهب الداورية «ولم يتحمَّل
مهران مزيدًا، فصرخ في وجه جلاده من شدة الغيظ والقهر: كفى يا عبد الفضيل … كفى … هاك
بندقيتي، ها هي، خذها … أنت تريد قتلي فخذها … خذها وتفضَّل فاقتلني بسرعة وأرحني!
وانتظر الرد كيفما يكون. وجاء الرد، هادئًا، متزنًا، عمليًّا … وقف عبد الفضيل متمهلًا،
وتقدم منه متأنيًا، ففتح له باب بيته، وانحنى أمامه بأدبٍ جم، مشيرًا بذراعه إلى الطريق
الخالية وهو يرد عليه مغضبًا لائمًا: أو ليس عيبًا كبيرًا يا رجل أن تقول هذا؟ أين
أنت الآن يا مهران؟ إنك هنا … في بيتي … لا أنت في الخلاء، ولا أنت على الجسر! تفضَّل
مع ألف سلامة.»
١٣٥
وطالبو الثأر لا يتعرضون للنساء، لأن التعرض للمرأة يؤطر القاتل في صورة مزرية. أما
محاولة القصاص من الأطفال فهو دليل واضح على اللاأخلاقية (!) لأن الطفل لا يقوى على حمل
السلاح والدفاع عن نفسه.
١٣٦ فإذا أخذ طالب الثأر بثأره من سيدة أو طفل، فإنه يضع نفسه موضع المؤاخذة
واللوم والاستنكار، حتى من أقاربه أو المتعاطفين معه. وعادة فإن الثأر للمرأة أشد عنفًا
من الثأر للرجل. وقد قررت عائلة الغرابوة التي قُتلَت إحدى نسائها خطأ، في أثناء مرافقتها
لحفل زفاف، أن تقتص لنفسها بنفسها من إحدى نساء الشراقوة، وهي العائلة التي انطلقت
الرصاصات الخطأ من بندقيتها. ولأن الرجل — في تقدير القرية — يساوي امرأتين، فقد تسبب
ذلك «النصف» في توالي عمليات الثأر بين الرجال، حتى قتل شاب من الغرابوة إحدى نساء
الشراقوة، فتوقف سيل الدماء في القرية إلى حين.
١٣٧
وطالبو الثأر يتورَّعون — بصفة عامة — عن تسميم الحيوان، أو إتلاف النبات، أو تدمير
الماكينات، على اعتبار أنها مورد للرزق، وقلما يحرقون المزروعات لأن في ذلك كفرًا
بالنعمة، وإن كان البعض — في أحوال استثنائية — يلجئُون إلى إحراق المحصول، ليس بتعمُّد
إتلافه في
ذاته، وإنما بتعمُّد إجبار أصحابه على الخروج من مخابئهم إلى العراء لإنقاذ المحصول،
فيتمكَّنون هم منهم، وقد يتم ذلك بإطلاق قطة أُشعِل في جسدها النار.
١٣٨ فإذا خرق البعض ذلك العُرف المتوارَث، بتسميم الماشية، فإنهم يسرقون — أو
يشترون — السم، ويثقبون كالح ذرة، ثم يملئونه بالسم، ويلقونه أمام جاموس الخصم.
١٣٩ وتتوالى الحكايات عن قطن انتُزعَت أشجاره، وقمح احتُرقَت سنابله، وأرض أغرقت،
وبهيمة فطست، وشبان سقطوا بفعل فاعل.
١٤٠
إن الثأر يتحقق — كما أشرنا — بالتصفية الجسدية من أقرب أقرباء القاتل: ابنه، أو
أخيه، أو أبيه، أو رأس عائلته، فإذا تبرَّأت بدنة القاتل منه، اعتُبِر وحده مسئولًا أمام
أهل القتيل، فلا يمتد الثأر إلى غيره من أفراد البدنة.
١٤١
•••
يقول الفنان إن القاتل في الصعيد مطارد دائمًا، ولو عاش ألف عام.
١٤٢ وخشية الثأر، تستأجر العائلات قتلة مأجورين لتصفية خصومها.
١٤٣ لذلك فإن القتل لحساب الآخرين من المهن المعروفة في الريف.
١٤٤ في كل قرية قاتل، أو قتلة مأجورون، خدام لمن يدفع.
١٤٥ ويقول أبو الحسن: «إن الضعفاء وحدهم هم الذين يتركون لغيرهم مهمة الثأر لهم.»
١٤٦ أما النائب في يومياته، فهو يتَّهم الفلاح بالجبن لأنه لا يقتل خصمه بيده،
لكنه يستأجر قاتلًا محترفًا ليتولَّى هذا العمل.
١٤٧
وقد فكر محسن (الحب أقوى من الموت) في أن يقتل غريمه عليوة بأن يغري به أحد المجرمين
الذين يحترفون القتل في الناحية.
١٤٨ وكانت مشكلة الأرملة الفقيرة أن زوجها المقتول لم يخلف أحدًا يستطيع أن
ينتقم له، ويسترد لعائلته الشرف الذي أُهدِر دمه. واستطاعت أن تقنع قاتلًا محترفًا أن
يثأر لها، ووُجهَت بالاتهام، فقررت — دون تردد — أنها هي القاتلة، وراحت ترثي زوجها
بكلمات منغومة تمجِّد الثأر والدم!
١٤٩ وكان سرحان واحدًا من الذين يحيون على قتل الناس.
١٥٠ كما كانت مهنة محمد أبو عوض، هي قتل المطلوبين للثأر، بدلًا من أصحاب الثأر
أنفسهم لقاء مكافأة مادية.
١٥١ وكان الشاذلي واحدًا من الذين يُستأجَرون في أيام الذرة لقتل الخصوم.
١٥٢ الأمر نفسه بالنسبة لزهران (الحداد)، فقد كانت مهنته هي قتل الناس، وسرقة
المواشي، وإحراق المزروعات.
١٥٣ وقد وجد الفنان في حادثة استئجار أحد الفلاحين لبدوي سوداني يحترف إزهاق
الأرواح، ليتحدث عن «هذه التجارة أو الصناعة المعروفة في الريف، وهي الاستئجار على
القتل. إن الفلاح المصري يلجأ كثيرًا إلى محترف يقتل له، كما كان بعض ملوكنا الأقدمين
يلجئون إلى الجنود المرتزقة. أهو نقص خلقي في الفلاح يضاف إلى أمراضه الجثمانية
والفكرية والاجتماعية الكثيرة، أم أنها قلة مقدَّرة وضعف ثقة بالنفس منشؤها اشتغاله
بأعمال العبيد من قديم في الأرض والزراعة وترك الفروسية والجندية للمغيرين، وأقربهم بنا
عهدًا الأعراب والأتراك. إن الملاحَظ أن الفلاح يحب السلام، ويأنف أن يزاول سفك الدماء
بيده التي تبذر البذر، ويخرج منها الخير. لست أدري، إن الأمر يحتاج إلى درس خاص،
ويكفينا — نحن المتصلين بهذه المسائل — ألَّا نمر عليها بغير ملاحظة.»
١٥٤
•••
إن المغزى الشمولي لعادة الثأر هو تحقيق التوازن بين القوى العرقية والقبَلية
والعائلية، أو أنه وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي.
١٥٥ ومن هنا، فإن التعويض المادي مرفوض، فيما عدا حالات استثنائية للغاية،
يفرضها الواقع الاقتصادي، حين يقبل التعويض المعنوي ممثلًا في حمل المستهدَف بالثأر —
الشخصية البارزة في العائلة — لكفنه على يديه، والسعي إلى بيت القتيل. موقف المهانة
الذي وضع نفسه فيه، يجعله في الموقف الأضعف، ويجعل أسرة — أو عائلة — القتيل، في الموقف
الأقوى، ويتحقق بهذا ما يمكن تسميته بتوازن القوى، أو الضبط الاجتماعي.
ومع أن حصول طالب الثأر على شهادة عليا من عدمه، ليس شرطًا لأخذ الثأر، بحيث يتساوى
في طلبه المتعلم والأمي، فإن للثقافة تأثيرها الذي يصعب تغافله. وهو ما يبين في رفض
العديد من الشخصيات الروائية والقصصية التي أتيح لها الحصول على قدرٍ جيدٍ من التعليم،
لفكرة الثأر، إلى حد قبول ازدراء عائلاتهم لهم، واعتبارهم خارجين على
أعرافها. ثمة رأي أن الثأر لا يستند على قواعد الشرف والكرامة والرجولة، وإنما يستند
على عمق الإحساس بافتقاد السلطة للعدالة، أو تراخيها في إقرارها، مما يولِّد نوعًا من
الإحساس بالمهانة الإنسانية، نتيجة الظلم المجاني الذي يمر دون عقاب، لتتحوَّل تلك
المهانة — بتأثير الأوضاع القبلية والعائلية وعلاقاتها المتشابكة — إلى عارٍ، لا يمحوه
إلا الظلم.
١٥٦ وقد يزمع طالب الثأر أن يتراجع عن قراره، ويدع الأمر لربه «وهو خير مقتص.»
١٥٧ لكن تقاليد الجماعة تقضي على تردُّد الرجل، ويبدو الثأر مطلبًا وحيدًا. وعلى
الرغم من أن شندي قد تولى قتل الرجل الآخر في عائلة الإبراشي ثأرًا للرجل الذي قتله
الثأر في عائلته، فإنه لم يكن مقتنعًا بما فعل، ولكن هذه الأشياء لا تمارس باقتناع، إنها
تمارس تلقائيًّا.
١٥٨ وثمة أمثال يواجَه بها المتقاعس عن الأخذ بثأره: من لم ياخد تاره، النار
أولى به … التار ولا العار … ويقولون له: الأحسن تلبس برقع، أي أنه ليس رجلًا.
١٥٩ وقد سأل عبد الرحمن نفسه — بعد أن ألحَّ عليه طلب الثأر — هل يُلقي الكتب من
يده، ويحمل بندقية وخنجرًا، ليقتل قاتل والده، أم يترك الشر كله ويذهب بوالدته إلى
المدينة؛ واختار الحل الثاني.
١٦٠ وحين أراد الراوي أن يفرَّ من القتل، بعد أن حلَّ عليه الدور في مسلسل الثأر،
حمل كفنه، وسار في الشارع، وحوله أفراد من عائلته، حتى وصل إلى بيت كبير العائلة التي
تطلب ثأرها. ونال الراوي ما سعى إليه من عفو، لكن عائلته استنكرت تصرفه، حتى إنها طردته
من البلدة، وطالبته بعدم العودة، وإلا فسيواجَه القتل من أبناء عائلته، بعد أن تسبَّب
في فضيحتهم!
١٦١
•••
وبالطبع، فإن ظاهرة الثأر شهدت تقلصًا بتقدم الوعي، وما سبقه وصحبه وتبعه من ظواهر
إيجابية كالتعليم والثقافة وذوي العصبيات والتصنيع وخروج المرأة إلى العمل ومشاركتها
في الحياة العامة، وقيام الجامعات — فيما بعد — والهيئات الشعبية والتنفيذية بجهودٍ
لاحتواء تلك الظاهرة، والقضاء عليها بالتالي. وقد أعلن الراوي (البيت الكبير) أن عائلته
هي الوحيدة في القرية لا عليها دم، ولا لها دم. كانت بقية العائلات يقاتل بعضها بعضًا،
ويثأر بعضها من بعض، أما عائلتنا فقد خرجت من هذه الزوبعة «لا علينا ولا لينا، فنمنا
قريري العين، وتجولنا في البلدان دون أن نخشى من مطارد أو مغتال.»
١٦٢
وإذا كان الثأر قد ظل من أخطر الظواهر السلبية في حياتنا، وأنه ليس وراء الثأر، وثأر
الثأر، غير الخراب والضياع.
١٦٣ فإن الأمل في احتوائه وذويه، في انتشار التعليم والتصنيع والتمدين،
ومغادرة الناس لمناطق الثأر، بحيث تبرز الشخصية الفردية، في المقابل من ضعف عصبية
الجماعة، فضلًا عن زيادة كفاءة جهاز الشرطة كممثل لسلطة الإدارة الموكلة بمنع الجريمة،
ومنها جريمة الثأر!
•••
أما المشكلات اليومية، فهي تتركز — غالبًا — في الخلاف على ري الأرض، وأسبقية
المناوبات، والاعتداء على المحصول، ثم — وتلك مشكلة لا تقل عن الثأر خطورة — الشرف. إن
للشرف معناه المقدس والخطير في نفوس أبناء الفلاحين. إذا تزوجت الفتاة في بلدٍ غير
بلدها، فإن أهلها يصحبونها في ليلة الدخلة إلى بلد العريس.
١٦٤ وربما تنشب معركة قاسية يُقتَل فيها العشرات لمجرد أن أحدهم مرَّ دون أن يلقي
سلامه، أو أن يرفض موكب «العروسة» دخول إحدى القرى، استجابة لدعوة من أبنائها الذين
يثبتون جدية «العزومة» بتعليق ذبيحة فوق نبوت أحدهم، وينتظرون حتى يقترب الموكب،
وتتعالى الأصوات: تفضَّلوا … عشاكم حاضر … الذبيحة ذبحت … ومبيتكم الليلة عندنا. ويرفض
أهل العروس بطبيعة الحال، لكن أهل القرية المضيفة يعتبرون هذا الرفض إهانة للشرف
والكرامة، ويصرُّون على دعوتهم. ويصر أهل العروس على الرفض «ويزداد كل طرف إصرارًا، ويصل
الأمر في النهاية إلى حد الشتائم والتماسك بالأيدي، ثم لا تلبث النبابيت أن ترتفع وتقوم
خناقة كبيرة، قد تسفر عن قتلى وجرحى، ولكنها لا بد أن تنتهي إلى أحد أمرين: إما انتصار
أهل العروسة ومواصلة طريقهم إلى بلد العريس، وإما انتصار أهل البلدة واقتياد الموكب
المهزوم واستضافته بالقوة.»
١٦٥ وكان محمود الخياط أحد ضحايا معركة بالشوم في زفة عروس، دارت أمام دكانه.
١٦٦ وثمة «البلصة» التي يتقاضاها أهل العروس قبل أن يدخل على زوجته. وقد جاء
العريس ليأخذ عروسه، لكن أخاها يقف أمام المندرة، رأسه وستون برطوشة ألَّا يدع العريس
يدخل إلا إذا دفع «البلصة» خمسة جنيهات، والمسألة محافظة على التقاليد. فهل اشترطت
التقاليد أن تكون «البلصة» مرتفعة إلى هذا الحد؟ هل تصبح غير ذات قيمة لو أنها — مثلًا
— خمسون قرشًا فقط؟ ويبدأ أخذٌ وردٌّ، وتنتهي الليلة بتبدد أصوات الزغاريد والطبل، بين
طرقعة الهراوات والعصي.
يقول شحاتة للباشا: «الفلاحين اللي زينا يا سعادة الباشا، يتمنوا إنه يكون ليهم ميت
سنة في التراب، وما يفرطوش في عرضهم.»
١٦٧ وصيانة العرض تكوين أساسي في شخصية المصري، يقبل العوز والفاقة، ولا يهين
عرضه أو يبتذله. المومس المصرية تفعل كل شيء — حتى الجريمة — لدرء خطر مهنتها عن
ابنتها، أو أختها الصغيرة. إذا كانت الظروف قد ألجأتها إلى الخطيئة، فإن عليها أن تحمي
الأقربين من تلك الطريق. المصري يقبل الدعابة في كل شيء، إلا فيما يتصل ببيته. هنا
يبدأ العيب والحرمات، وما لا ينبغي الخوض فيه. قد يُقتل لرائحة شياط كاذبة. تظهر
المفاجأة في إعلان الطبيب الشرعي أن القتيلة بخاتم ربها، ولم يمسسها بشر. إذا تكرر رفض
الفتاة لمن يتقدمون إليها، ثارت الوساوس في الصدور، وتوالت الأسئلة والمراقبة، وثارت
—
ببساطة — الرغبة في غسل العار.
العرض إذن يساوي الشرف في حياة الفلاحين.
١٦٨ وكان هذا هو مفهوم الشرف عند منوفي (سيرة الشيخ نور الدين)، الشرف ليس إلا العرض،
١٦٩ أو أن العرض هو الشرف، فهو أعز حتى من الأرض. يقول الرجل: «الأرض عزيزة،
والعرض أعز.»
١٧٠ يقين المجتمع الريفي أنه ما دام الإنسان بشرفه، فلا شيء يهم.
١٧١ والشرف — في المفهوم المصري، والشرقي عمومًا — يرتبط بالحسيَّة العضوية،
بالتكوين الفسيولوجي. ومن ثَمَّ فهو يرتبط — في الدرجة الأولى — بالفتاة، أو المرأة،
في
حين أن مقتضيات الشرف ينبغي أن تشمل الجميع، لا فارق بين رجل وامرأة. الشرف مصدره — أو
هكذا يجب أن يكون — عقل الإنسان. الشرف — في يقين الفلاح — هو العذرية والبكارة التي
لا
ينالها أذًى، معناه الحفاظ عليهما؛ البنات هن العرض.
١٧٢ إن عفتهن، بكارتهن، عذريتهن، أهم القيم التي يحرص عليها المجتمع. شرف
الرجل، وشرف الأسرة بعامة، مرتبط بنقاء المرأة جنسيًّا. بل إن الإحساس بالشرف يمتد،
فيشمل الإشفاق على أنفسنا من هؤلاء الذين يتزوجون بناتنا. يقول المعلم في انفعال: «كيف
تلتقي عيناي بعيني رجل، بعد أن ينام مع بنت من بناتي في فراش واحد؟ أنا لا أحتمل هذا
الذل … الموت أهون!
١٧٣ الاختيار — في حلة بذل المرأة شرفها — لا يكون إلا بين قبول العار، أو قتل
من نحب.»
١٧٤ وإدراكًا من فاطمة عبد النور لقداسة الشرف، فقد قتلت بنفسها ذلك الذي نال
وطره، ثم راوغ، ولم يعُد هناك شك في خيانته، ومن ثَمَّ فقد اضطرت إلى غسل شرفها بدمه.
١٧٥ القتل هو مصير الفتاة التي يغويها شاب، ولا تحسن أن تدافع عن نفسها غوايته.
١٧٦ ومن أجل الدفاع عن العرض/الشرف، قتل الشاب أخته التي يحبها، بعد أن لاكت
الألسن سيرتها.
١٧٧ وعندما تبيَّن للأب أن ابنته حملت سفاحًا، قرر — وإخوتها الرجال — أن يقتلوها
في الفجر.
١٧٨ وحين أقدم الأب على قتل ابنته، فلأنه لم يكن له مفرٌّ من قتلها. «إن الذي وضع
السكين في يده هو ضغط الرأي العام؛ يجعل الشرف قاصرًا — مقصورًا — على سلامة العرض، ولو
لم يقتلها لما استطاع أن يعيش في قريته.»
١٧٩ الشرف هو العرض، والعرض غالٍ لا ثمن له إلا الدم.
١٨٠ أما الأب الصياد فهو يكتشف أن ابنته على علاقة آثمة بزوج عمتها، ويلقي
بنفسه في النهر قائلًا: ما ينبغي للفقراء أن يلدوا البنات!
١٨١ وربما يؤدي التشدد في المحافظة على الشرف إلى التورط، والإقدام على جريمة،
أو إلى عكس النتيجة المطلوبة. وكما أشرنا، فإن الشرف — في مفهوم العقلية المصرية — هو
—
في الأغلب — ما يتصل بالعرض، وكما يقول الراوي: «فإن القرية كلها ستأتي لتستطلع صرخة
امرأة تشق سكون الليل.»
١٨٢ وقد وافق الفلاح رشدي على كل شيء فيما يتصل به هو شخصيًّا، وافق على الضرب
والإهانات والشتائم والإذلال، لكنه ثار وفقد وعيه، لمَّا امتدت يد السيد إلى جسد عروسه
—
عروس رشدي — اختطف بندقية، وهوى بها على رأس ذلك الذي تجاسر، وخدش شرفه.
١٨٣ من هنا يأتي تحفظي على رأي الفنان بأن «العيب له جغرافيا خاصة، وله حدود
إذا ما تهاونت في شرفها مع فلاح فقير مثله. أما إذا أصبحت محظية لدى السيد، فلا عيب في
الأمر، لأن السيد من طبقة أخرى، ومن عالم آخر خارج حدود العيب والشرف.»
١٨٤ ربما لا يستطيع الفلاح أن يرفض في العلن، وربما تقيِّده الأوضاع المجتمعية،
لكن الرفض يظل في أعماقه، يترقَّب فرصة الخلاص. ولعلِّي أذكِّر بهنادي في «دعاء الكروان»،
من
هنا أيضًا يبدو قول الفنان مثيرًا للتساؤل عن مديحة التي لم تكن تخشى على شرفها من أن
يعتدي عاصم عليه، لكنها «كانت تخشى الفضيحة أكثر من أي شيء.» وقد تُقتَل الفتاة لمجرد
أن
الشبهات تحوم حولها.
١٨٥ ليس أيسر على الريفي — كما يقول الفنان — من ذبح زوجته أو شقيقته أو ابنته،
في سبيل عرضه وشرفه.
١٨٦ وكثيرًا ما أقدم رجال على قتل الشقيقة والصديق، بعد أن همس أحد أصدقائه في أذنه
أن الشقيقة فرَّطت في شرفها، ثم أعلن الرجل أمام المحقق أن اتهامه القتيلين كان نتيجة
وشاية حاقدة، وأن الجناية المزدوجة لم تكن في موضعها. وكانت الكلمات الضخمة التي استمع
إليها الراوي من مثل الشرف، العار، التقاليد، كرامة العائلة، الرجولة، الواجب … كانت
تلك الكلمات دافعًا لأن يقتل سلوى «أختي المبدعة الفاتنة، القلب الذي كان يعطيني الحب
والحنان والمشاركة.»
١٨٧ لقد أحبَّت الفتاة، والحب غير وارد في تقاليد العائلة، وصدر — بالإجماع —
قرار القتل، وأوكل التنفيذ إلى الراوي، وإلا تبرأت منه العائلة. وأعلن الراوي
اعترافًا كاذبًا بأنه قتل شقيقته ليرثها «أهون عندي أن أموت من أن تلوك الأسنة شرف سلوى.»
١٨٨ وكان الرجل يجلس أمام دكان في القرية، عندما تفوَّه أحدهم بكلمة تصوَّر أنها
تمس شرف زوجته، وأمسك برقبة الرجل يريد قتله، لولا أن حالَ زملاؤه بينهما، واتجه إلى
بيته، فنادى على زوجته، وهوى على جسدها بفأسه.
١٨٩ والمرأة التي تُقْتل بتهمة التفريط في شرفها، لا يستطيع أحد أن يذكرها، لأن
في الذكرى جريمة، حتى ذكرى مثل تلك المرأة عند القروي جريمة.
١٩٠ ونتيجة لتلك الجرائم، يشير الراوي إلى ما نشرته جريدة «لا بورس إجيبسيان» عن
تعدُّد حوادث قتل الرجال لقريباتهم «حفيظة للعرض، وهي فظاعة بالغة، ينبغي للصحف المصرية
أن تنصح الناس أن يكفوا عنها، وأن تبحث في وسائل علاجها … ذلك خير من الاشتغال بما لا
يفيد من مسائل الحجاب والسفور.» ويؤكد الراوي أنه «من القسوة الشنعاء أن يمسح الناس
بالدم جوانب العرض المثلوم.»
١٩١ وربما اكتفى الرجل بتطليق زوجته لمجرد أنه شك في سلوكها.
١٩٢ وكانت فاطمة، على الرغم من جمالها الفائق، مثالًا لبراءة الفتاة الريفية،
وظلَّت على نقائها وعذريتها، حتى ضُبطَت — ذات يوم — مع غريب في حقل ذرة. حاولت فاطمة
أن
تدافع عن شرفها، لكن أهالي القرية أصرُّوا على اصطحابها في زفة يهلل من حولها الأطفال
إلى الست أم جورج التي أثبتت بعد أن أمسكها النساء من ساقَيها بالقوة، أن فاطمة فتاة
شريفة، وأن عذريتها لم تُمس. انتهت الحادثة بالنسبة لأهالي القرية، لكنها لم تنته
بالنسبة لفاطمة نفسها. لقد غيَّرت من نظرتها إلى الحياة والناس، بل قلبت تفكيرها
وتصرفاتها من الأعماق «أصبحت تستطيع إذا لمحها فرج — شقيقها — خارجة ذات يومٍ من دار
صابحة الماشطة، وأخذها إلى بيته، وأغلق عليها باب القاعة، وأمسكها من ضفائرها وشدد
عليها، وسألها عما كانت تفعله عند صابحة، أصبحت تستطيع إذا ما حدث هذا أن تقول: كنت
باقيس التوب … إوع كده … وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنفٍ غريبٍ، وتقف في الركن تعيد
النظام إلى شعرها، وتواجهه بعين مشرعة حلوة، لا تنخفض ولا تخجل.»
١٩٣ لقد أدى الخوف من الفضيحة إلى وقوع الفضيحة، وكان الحفاظ الشديد على الشرف
هو مبعث ذلك كله.
الشرف هو عنصر المباهاة الأهم عند الفقراء. يقول يسري عن بعض أقاربه: «لا أريد أن
أرى
السراية وأعود إلى الشقة. لا أريد أن أرى محسن يلبس أفخم قماش وأفخم كرافتة ويستبدل كل
يوم حِلة بأخرى، وأعود لأجد حِلتي الوحيدة في الصوان … واحدة في الصوان لا تزيد … إن
خرجت
فإلى جسمي … ولتحل التي ألبسها مكانها، واحدة في الصوان، وواحدة عليَّ. لا أريد أن أذهب
حتى لا أرى فايزة الصماء تلبس أفخم الملابس، بل إن دولت تلبس أفخم الملابس، ونادية وهي
تستقبل الشباب في ملابس … ملابس …
ويقاطعه خيري: على مهلك … على مهلك … نحن نعرف تمامًا إلى أي مدى هم أغنياء، ونعرف
أيضًا مقدار ما نملكه … ولكننا متساوون في أشياء أخرى … نحن وهم شرفاء … نحن وهم أولاد
عم لم نمد إليهم يدًا تستجدي، ولا هم أشعرونا بفارق المال بيننا، والمساواة بيننا في
…
في المركز العائلي والشرف والكرامة … ها … ها … هذه النكت التي لا تعرف غيرها لم
تعُد
تساوي شيئًا … إلخ.»
١٩٤
•••
أما الخاصية المهمة والأساسية، فهي أن فلاح «عودة الروح» الذي يحيا مع ماشيته في
بيت من
اللبن، هو نفس فلاح العصر الفرعوني الذي يستعمل في فلاحة الأرض نفس المحراث والمنجل
والمذراة والطنبور والشادوف وغيرها من أدوات الزراعة التي كان يستعملها الفلاح المصري
القديم، وهو يروي الأرض بالشادوف نفسه الذي كان الفلاح القديم يروي أرضه به. فإذا جمع
محصوله من الحبوب، وضعه في صوامع من الطين يقيمها فوق داره كما كان يفعل الفلاح القديم.
وما تزال المقاطف والسلال والزكائب التي يستعملها، هي نفس أدوات الفلاح الفرعوني. يتحدث
هيرودوت عن سكنى المصريين مع الحيوان في حجرته، وأنه طبيعي، كما هو المتبع لدى الفلاح
في أيام الفراعنة.
١٩٥ المصري — في تقدير هيرودوت — يؤمن بوحدة الكون والكائنات، فهو يرسم الآلهة،
نصفها جسم إنسان والنصف الآخر جسم حيوان، وقد استمر هذا الإيمان من خلال تعاطف الفلاح
مع الحيوان، ليس لمجرد أنها مخلوقات ضعيفة، وإنما لأن الأرواح والجان تتلبَّسها، وتظهر
في
أشكالها، وكانت القطط من معبودات المصريين القدامى باسم المعبود تاستت، ويؤمن المصريون
بأن لكل شخص أختًا تحت الأرض تُسمَّى «القرين» (راجع فصل المعتقدات)، وأن كل شخص له روح
أو
قرين يُسمَّى «كا».
١٩٦ وقد امتدت العلاقة بين الفلاح والحيوان إلى إقدام الفلاح على الشرب من
الترعة بجوار البهائم، يمد عنقه إلى الترعة ويشرب بنفس طريقتها. لقد أصبح الإنسان
المصري يتكلم العربية، ويَدين بالمسيحية أو الإسلام، لكن تقاليده وعاداته ظلَّت كما هي،
تلقَّفها من أسلافه، ونقلها إلى خلفائه جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، حتى تشكَّلت في
صور
مختلفة من العادات التي أطلق عليها اسم علم «الركَّة»، يخرج إلى الحقل، ويعود إلى بيته
اللبني، ويتزوج وينجب الأولاد، أيادٍ عاملة، وينام مع البهائم والدواجن تحت سقف واحد
(الفلاح — في تقدير الفنان — لا ينام في مكان محدد؛ قد ينام على المصاطب المسطوحة، أو
على قباب الأفران، أو على الحصير، أو على قش الأرز، المهم أن يستسلم جسمه للراحة!).
١٩٧ وينظر إلى ممثِّلي الإدارة نظرة الرهبة والخوف والمداهنة: «انحنِ أمام رئيسك،
أمام المشرف عليك في شئون الإدارة الكلية، حتى يظل بيتك مفتوحًا، ويستمر رزقك ومرتبك
جاريًا، ولا تعصه؛ فإن عصيان من بيده السلطة حماقة وشر مستطير.»
•••
الفلاحة هي المهنة الأولى في مجتمع القرية، تليها بعض المهن والحرف الأخرى التي تؤدي
الخدمات للفلاحين مثل الحلاقة والنجارة والحدادة وغيرها.
لكل قرية — كما يقول الفنان — مبيض نحاس وناظر مدرسة وشيخ خفراء ولص ومطبل زار وفاتح
مندل وتاجر شيح وإمام وقسيس وسمسار بهائم ومأذون وغازية وبيت مشبوه ومجبِّر كسور ونجار
سواقي وداية وعمدة وسقاء وحلاق وقاتل مأجور.
١٩٨ أما الغرباء الذين يترددون على القرية، فإنهم — في الأغلب — تجار حناء وشيح
وزبل حمام وتوابل وغجر وقرداتية وقصاصو شعر حمير وكواء وجمال وتجار جلود وبائعو سكاكين
ومقصات وشراشر.
١٩٩ وثمة المداحون الذين تطوف مواكبهم بالقرى في مواسم الحصاد.
يجد الفنان في حلاق الصحة سمسار دفن، كل وظيفته أن يتقاضى خمسة قروش من أهل المُتوفى
لقاء الحصول لهم على تصريح الدفن، دون أن يعنى بالانتقال إلى بيت المُتوفى، أو يتأكد
إن
كان قد تُوفي بالفعل، فضلًا عن أن تكون الوفاة جنائية. وحتى الذي يدفعه الإحساس بالواجب
للكشف على الجثة، سيصعب عليه أن يقرر إذا كانت الوفاة مشتبهًا في أمرها ما دام ليس في
الجثة إصابات ظاهرة. لكن الفنان يعيب على حلاق الصحة الرجل، بقدر ما يعيب على حلاق
الصحة النظام؛ إنه نظام لا تعرفه أية دولة في العالم.
٢٠٠
أما الداية، فهي تختلف تمامًا عن مثيلتها في المدينة، إنها لا تكتفي بتوليد الأطفال،
إنما هي تعالجهم بعد مولدهم وترعاهم، وتختنهم حين يكبرون، ثم تخطب لهم وتزوِّجهم إذا
شبُّوا، وأحيانًا هي التي «تلتمهم» وتغلق عيونهم إذا واتاهم الأجل المحتوم.
٢٠١
ومهنة «البنَّا» ليست مطلوبة في القرية المصرية؛ ذلك لأن الناس يبنون مساكنهم بأيديهم،
أما الذين يبنون بيوتًا باللبن أو الطوب الأحمر، فهم العُمد والمياسير من أصحاب الضياع،
وما أقلهم!
٢٠٢
أما الطبَّال فهو يأخذ من الأسر كمياتٍ متفاوتة من المحاصيل، حسب قدرة كل أسرة، ويتلقَّى
مأكولات في المواسم، وبالذات في عيد الفطر عقب ما أدَّاه من عملٍ في إيقاظ القرية لتناول
السحور طيلة شهر رمضان، فضلًا عن أنه يقرع الطبل أمام الجنازات.
٢٠٣
الصيادون من سكان المدينة يرهبون الريفيين، ويتَّقون بأسهم، ويتحاشون وجودهم، ويتصورون
أنهم جميعًا لصوص، فاتكون، ما يخرجون في رهبة الليل إلا لتصيُّد الناس، وما أسهل من أن
يغير فاتك قروي على زورق من زوارق هؤلاء الضعفاء المساكين، فيسلبه سمكه وماله، ثم يلقي
بمن فيه في النيل.
٢٠٤
إن ما يهم الفلاح هو النيل والعمدة والنقطة وحدود أرضه، يقيسها بالشبر، وبالإصبع.
٢٠٥ احترام الناس — على حد تعبير إيريك ديفيس — يستدعي امتلاك أراضٍ زراعية.
٢٠٦ ملكية الأرض هي الهدف الذي يسعى إليه، كل من اجتمع له شيء من المال.
٢٠٧ أغلى ما يطمح إليه الفلاح، ويعتز به، أن يكون للإنسان أرض يملكها، وجاموسة،
وبقرة، وعلى سطح بيته كوم الذرة.
٢٠٨ الاعتداء على أرض الفلاح هو اعتداء على حياة الفلاح ذاته، وبعض حالات الثأر
— إدراكًا للمعنى الذي تحمله في نفس الفلاح — تتجه إلى الأرض والحيوان، لأن إعدام
المزروعات أو الحيوانات يساوي القتل أحيانًا.
٢٠٩ وبعد وفاة الأب، فإن أهم ما حرصت عليه الزوجة أن تبقى «أرضه التي عاش
يفلحها طويلًا مقدسة وخالدة، دون أن تمسسها يد رجل غريب أو قريب.»
٢١٠ والفلاح يحب بقرته جدًّا، لأنها بالنسبة للأطفال كأنها أم ثانية، وبالنسبة
للكبار كأنها مخزن مئونة وآلة في الحقل. إنها أيضًا زينة لدار الفلاح، أجمل من أقفاص
العصافير في بعض الشرفات. وكان عم رضوان يحرص على العناية ببقرته، وعلى ألَّا يحاول
ابناه إيذاءها «يا ابن اللئيمة، بشفقة شوية، دي عندي أغلى من أمك. ياد حاسب عليها ياد.»
٢١١ كانت البقرة هي وسيلته للتخلص من العمل — كأجير — في حقول الأمير، وكان
يحلم بذريتها، وبإنتاجها الوفير من اللبن. فإذا سقطت البقرة في الساقية، وماتت، كان
معنى ذلك في حياة عم رضوان مأساة كاملة، دونها الموت نفسه.
٢١٢ ويقول عبد الباقي أفندي: «البقرة شيء مهم في حياتنا؛ اللبن والجبن، الحرث
والري، وشعوري أن عندي بقرة يجعلني أحس بالدفء وبأني مستور.»
٢١٣ وتتبدَّى أهمية الجاموسة في حياة الفلاح لما يشاهد محسن جماعة من الفلاحين،
قادمين من غيط البرسيم، وهم يحملون جاموسة تحتضر، وعويل النساء يملأ المكان، والحزن
يرتسم على وجوه الجميع. ويسأل محسن (عودة الروح) في دهشة: كل ده عشان جاموسة؟! فترمقه
فلاحة بنظرة مؤلمة، وتقول: يا ريت كان واحد من عياله … ولا هيه.
٢١٤ إن الابن يُعوَّض، والزوج يُعوَّض، أما الجاموسة، فكيف؟
٢١٥ فقد بقرة أو جاموسة عند الفلاح جزء من الثكل، إن لم يكن الثكل كله، وحادثة
تُلقَّى فيها التعازي؛ فمعنى ما حدث هو انقطاع اللبن من البيت، وهو العزاء الأساس لأفراده،
ومعناه أيضًا عدم الذهاب إلى السوق بالزبد والجبن، للعودة بالنقود.
٢١٦
والفلاح يحسن الضيافة. وكما يقول الفنان، فإن الضيف في بيت الفلاح سلطان، ولو كان
ابن
الزواني والقتلة.
٢١٧ والملاحَظ دائمًا أن الهدايا — في الريف المصري بخاصة — تتحدد في المأكولات،
طيور وفاكهة وفطير، مثلًا.
٢١٨ واقتناء النحاس والذهب تقليد يتوارثه أبناء الريف، ونادرًا ما يودِع الفلاح
في بنك أو في وثيقة تأمين. إنه يدِّخر أمواله، ينفق منها على ضرورات حياته، ولا يأخذ
مبالغ كبيرة إلا في حالات معينة، كزفاف واحدة من بناته، أو لتلبية احتياجات العيد.
وعادة، فإن الفلاحين يزوِّجون أبناءهم بعد بيع محصول القطن.
٢١٩
والفلاح يحب أشجاره ومزروعاته. شجرة السنط — مثلًا — التي يحفر الأولاد على الجذع
أسماءهم بالمسامير، ويجمعون منه الصمغ للحاجات المدرسية، ويعلق الدراويش فيه المصابيح
في مولد ولي الله ساكن القرية، ويسمعون تحتها الأذكار، ويعلِّق الجزار فيها ذبيحة يوم
العيد، وعلى الفرع المتطامن غير العالي يصعدون، وينشرون فيه حِبال المراجيح.
وحين تُغرِق مياه الفيضان القرية — أية قرية — فإن معنى ذلك إغراق الأكواخ والغيطان
والماشية والدجاج والأثاث، كل شيء تقريبًا.
٢٢٠ مع ذلك، فإن زمن الفيضان هو زمن الأمان في قرى الصعيد. فمياه النيل تغمر
الحقول والحياض، ويتحدد السير على الجسور فقط، ومن ثَمَّ يختفي اللصوص تمامًا، ولا يمارسون
نشاطًا خلال تلك الفترة من السنة.
٢٢١ أما طلاء واجهة البيوت بالجير الأبيض، فلطرد حرارة الشمس، والاحتفاظ بطراوة الليل
٢٢٢
•••
وثمة بعض الملامح والقسمات الأخرى لمجتمع القرية:
وقد عبَّر توفيق الحكيم عن رأي عام تبنَّاه بعض الكُتاب، مثل يوسف نحاس الذي رأى
في كتاب
«الفلاح: حالته الاقتصادية والتجارية» «أن الفلاح المصري لا يعرف الانزعاج الذي تألم
منه العامل الأوروبي.»
٢٤٤ وكتبت نبوية موسى — تأييدًا لهذا الرأي — عن فقراء الفلاحين الذين لا
يعرفون من العسر إلا اسمه، لأنهم يشتغلون أيام الزرع والحصاد عند أصحاب الأرض، ويأخذون
أجورًا كافية لسد عوزهم طول السنة، زيادة عن أكلهم، وأخذ ما أرادوا من الخضر وغيرها من
الأشياء التي لا قيمة لها عند الفلاح لكثرتها.
٢٤٥ أما يوسف جوهر (جراح عميقة) فهو يذهب إلى أن «الفلاح المسكين لا يشكو ولا
ينتقم عندما يُعامَل معاملة جائرة، بل يقنع، ويحمد الله، أنه لم يُمتحَن بمزيدٍ من الأذى.»
٢٤٦
•••
القرية المصرية تكره الغرابة، وتمتص كل جديد، وتحيله إلى شيء عادي.
٢٤٧ ويقول الفنان إن في روح الفلاح قدرة على التمويه، وقوة إخفاء وكتمٍ، هي إحدى
خصائصه العميقة الجذور.
٢٤٨ وقد واجه صلاح النجومي (للزمن بقية) رياء الفلاحين لشقيقه الأكبر، رغم
معاملته القاسية لهم، مقابلًا لاستهانتهم به، رغم أن لم يسئ معاملتهم «كيف تستطيع
النفوس — كمجموعة — أن تحمل كل هذا الباطل؟!»
٢٤٩ ومن طبيعة القرويين — في تقدير الفنان — أنهم يعطون المعلومات بصعوبة شديدة،
٢٥٠ ويخفون حتى تنقلاتهم بعضهم عن بعض.
٢٥١ أما الباشا (الحصاد) فيؤكد: «ما أسرع انتشار الأخبار في الريف.»
٢٥٢ ويقول الفنان: «وللريفيين في إذاعة الأخبار قدرة تقرب من قدرة الصحف اليومية.»
٢٥٣ ويضيف الراوي أن الصموت في الريف مضرب الأمثال.
٢٥٤ أما الشائعات فكما يقول الفنان «لا يمكن أن يمر عام في قرية دون أن تظهر
إشاعة خطيرة عن أي شيء، يظل أهل القرية يلوكونها ويتناقلونها، بالإضافة أو الحذف في
أحاديثهم، حتى بين الأطفال أنفسهم، إلى أن تظهر إشاعة جديدة تشغلهم عن الأولى، فينصرفون
عنها إلى الثانية.»
٢٥٥
ولأن طرقات القرية — أية قرية — غير مسفلتة، فإن نزول المطر يصنع بركًا صغيرة، يلعب
فيها الأولاد وهم ينشدون للمطر.
٢٥٦ وثمة ألعاب الطابة والتحطيب والحكشة، وأمسيات الصيف التي يعزف ألحانها نباح
الكلاب وصرير الجنادب وعواء الذئاب، وجلسات المصاطب التي تمتد لما بعد العشاء. ويهبنا
الفنان لوحة للسكة الزراعية أبعادها طابور البهائم، والتراب الثائر حتى الركب «وعلى
ظهور الجاموس والحمير تراصَّ العيال الرعاة … وبنات وجوهها كوجوه الرجال يعلوها «الأشف»
ويبقعها «القوب»، شعورهم مشعثة لم ينزلها مشط، ورجال كبار ضامرون لا يختلفون عن العيال،
لا في صراخهم، ولا في جلبتهم، ولا في غنائهم، ولا حتى في وجع الدماغ … والدوشة والمشاكل
التي يثيرونها بسبب، وبدون سبب. وإلى الخلف، وعند نهاية كل جاموسة، مشت بنت كالدودة،
أو
امرأة عجوز شعرها أبيض، وعلى رأس كلٍّ منهن مقطف قديم، مملوء من منتصفه بروث البهائم،
وفي
قبضة كل بنت صحن، أو قطعة صفيح تتلقى فيها الروث من ذيل البهيمة، لتدفع به إلى المقطف
المستقر على رأسها.»
٢٥٧ أما مواكب حاملات الجِرار فهي تتهادى على صفحات أكثر من قصة لمحمود البدوي،
في تسجيله البارع لحياة القرية المصرية. وكانت أغنية «الله يا ليل الله» التي تغنيها
الفلاحات في رحلة العودة إلى البيوت، بعد ملء الجِرار من القناة، بشير انبلاج الفجر في
أسماع الصبي الضرير في «الأيام».
٢٥٨ ويقول شوقي (الشوارع الخلفية): «إنهم هناك، في قريتي البعيدة، يتغنون بالعصر.»
٢٥٩
ويلاحظ الفنان أن الأغنيات الريفية تتفجر جميعها — في سذاجة — عن غريزة جنسية قوية
مكبوتة. ثمة أغنية تنهال باللوم على الأعزب الذي لم يتزوج واحدة منهن، وتصف آلامه
الجسدية وشقاءه وقلقه وإخفاقه في الاستمتاع بالوسائل التي يحاول الاستعاضة بها عن
الزواج، وأغنية على لسان فتاة تعتذر عن استسلامها وعدم مقاومتها؛ فالرجل كبير الجاه،
عظيم السطوة … وأغنية ثالثة تعرض لأسلوب العريس في إدخال السرور إلى قلب عروسه، وغيرها.
٢٦٠ ومن أغنيات الريف: «يا نخلتين في العلالي … يا بلحهم دوا … يا نخلتين على نخلتين … هم
الأربعة طرحم سوا.»
٢٦١
وكان من الأغنيات المتوارثة التي كانت تغنيها وصيفة مع صديقاتها في القرية، في أوائل
الثلاثينيات من القرن العشرين: على السرير ودلعني ليه ليه يا مناه … على السرير الجواني
ليه ليه يا مناه،
٢٦٢ … أنا كل ما اطلب وصالك بدك تضيعني … علشان ما انت الحليوة والجميل يعني.
٢٦٣ وما أكثر شكوى الفتيات لأمهاتهن في أغنيات الريف.
٢٦٤ وعند جني القطن، يتناثر الأولاد والبنات خلف الشجيرات، يجمع كلٌّ منهم ما تقع
عليه يده من القطن، ويضعه في الكيس المعلَّق بالرقبة، أو في «عب» ثوبه، وقد لفَّ حول
خصره
حبلًا رفيعًا،
٢٦٥ ونقاوة اللطع من شجيرات القطن الخضراء، تتم بتقليب الشجرة، يمينًا وشمالًا،
فإن ظهرت اللطعة، قطع من الورقة على حجم اللطعة.
٢٦٦ ويشير الفنان إلى أن أغنيات القطن كانت تذكِّر الفلاح بالضرائب.
٢٦٧
•••
على الرغم من ذلك الجمود في صورة الحياة في الريف، فما من شك أنه قد لحقه تطور هادئ
بطيء، لا تفطن إليه النظرة السريعة، ولا تحدد كل أبعاده. وكما يقول الفنان، فإن الآباء
في الريف كانوا يحرصون على اشتغال أبنائهم بالزراعة، ويعارضون من ثَم فكرة التعليم أو
الاستمرار فيه.
٢٦٨ وكان أبناء العزبة يرفضون أن يدرسوا القمح في ماكينة الدراس، ويؤثرون أن
يدرسوه على النوارج، ولو أخذ أيامًا أكثر. ذلك لأن قمح النورج — في اعتقادهم — مبروك،
أما الماكينة فهي تلتهم ثُلث المحصول في الأقل بسرعتها الفائقة المشئومة.
٢٦٩ وكان حدثًا عظيمًا، استنكر أبناء الريف وقوعه طويلًا، عندما حُوِّلت بعض
الساعات الكبرى في مساجد القرى من ساعات عربية إلى ساعات إفرنجية، بل إن سليم لم يتصور
أن الأسرة تعاف الماء الكدر، وتحرص على ترويقه في «الزير» وتقطيره في الآنية التي تضعها
تحت الأزيار، ومن فوقها المصفاة. وكان يهتف في غضب: «آه يا أولاد الكلب! من أين جاءكم
هذا العز؟! إنكم لتحرمون أنفسكم خيرًا كثيرًا. إنكم حين تشربون هذا الماء المصفى أشبه
بالذين يشربون اللبن بعد أن استخرج منه الزبدة، ثم يسرع إلى الكوز، فيغمسه في الزير،
ويعب فيه عبًّا شديدًا، ويقول: هكذا رأينا آباءنا يشربون، لأنهم لم يكونوا من الترك ولا
من الأرناءوط.»
٢٧٠ ثم بدأ المجتمع الريفي بعامة، والصعيد بخاصة (شجرة البؤس ودعاء الكروان) في
التحوُّل من أعراف القبيلة إلى تقاليد التحضر، تلبية لظروف التغيُّر التي فرضها التحول
الاجتماعي. واحتاج الأمر لوقتٍ طويل، حتى رضي أهل القرى أن يبطلوا تلك البدعة التي درج
عليها المؤذنون قرونًا عديدة، بدعة الصلاة والتسليم على النبي عقب الأذان. كذلك أصبح
اعتقاد الريفيين في الأولياء ومشايخ الطرق أقرب إلى الاعتدال، بعد أن كانت نظرة الناس
إليهم ترقى إلى مستوى العبادة. ولعل أهم ما أصاب الحياة في الريف من تغيُّر، هو أن
العفاريت والجن والمردة خففت من إحكام قبضتها على ليل القرية المصرية.
الغجر
تصف الفنانة جماعات الغجر بأنها «جوَّالة، رحَّالة، تقطع طول البلاد وعرضها كل الوقت،
وعلى مدار السنة، وتلك الفئة من الناس التي تلقاها في كثير من القرى المصرية، خاصة
في الموالد والأفراح، هي في حقيقتها قوم من البدو الرُّحل الذين نزحوا من أعماق
الصحارى المتاخمة للحدود.»
٢٧١ إنهم — على حد تعبير الكاتبة — لا يطيقون البقاء في قرية واحدة إلا
بقدر ما يتكسبون من أهلها شيئًا، ثم يبادرون بالنزوح إلى غيرها. وقد يشد الغجر نداء
الصحارى الخفي، فيلوذون بالصحراء، ويقضون فيها أشهرًا، ثم ينزحون — ثانية — إلى
القرى «فقد ابتلاهم ربهم بروحٍ قلِقة، عديمة الصبر والاصطبار، لا تألف السكن ولا
السكينة، فهم يعتبرون المغامرة، فشلت أو نجحت، وسواء جاءت بالرزق الوفير، أو كانت
نتيجتها وخيمة عليهم، فلا غنى لهم عنها، بل لا بد منها.»
٢٧٢
وفي تقديري أن الربط بين الغجر والبدو يحتاج إلى مراجعة. ثمة اجتهادات، تذهب إلى
أن تاريخ الغجر يعود إلى خمسة آلاف سنة — تسميتهم بالمصريين إذن خاطئة — وكانت
البداية في شبه القارة الهندية، ثم دفعهم نظام الطوائف وطبقية المجتمع إلى الهجرة والترحال.
٢٧٣ ولعل أقدم تسمية عربية للغجر هي «الزُّط» — كما يقول الفيروز أبادي في
القاموس — جيل من الهند، الواحد زُطِّي. وهذا الجيل، أي الشعب، قد عايش العالم
العربي القريب منه، مرة ثائرًا، ومرة متجندًا، وثالثة متعيشًا. وفي عام ٧١٠م أتى
الحجاج بن يوسف بخلقٍ من الزط الهنود، معهم أهلوهم وأولادهم وجواسيسهم، فأسكنهم
بأسافل «كسكر» في العراق الأوسط.
٢٧٤ وتقول رواية مسيحية أن جنود الرومان عندما طلبوا مسامير لصلب السيد
المسيح، لم يستجب الحدَّادون لهم، فيما عدا غجريًّا، كان يعمل بالحدادة، وحلَّت اللعنة
من
يومها بكل الغجر، وتشرَّدوا في أرجاء الأرض! وثمة آراء تفترض وجود علاقة بين الغجر
ومصر، وأن الغجر الذين يتوزعون في أنحاء العالم تعود أصولهم إلى مصر، وأن كلمة
Gypsy — ومعناها «غجر» في الإنجليزية — تُعَد
تطورًا لكلمة
Egyptian، وأن
كلمة
Gypsy مشتقة من كلمة
Copht.
٢٧٥ وإطلاق تسمية «مصريين» على الغجر، يستند إلى اعتقاد خاطئ بأن الغجر
نزحوا من مصر، وهو اعتقاد لم تثبت صحته تاريخيًّا، وإن تناثرت التسميات التي تنسب
الغجر إلى مصر في معظم اللغات الأوروبية.
ينسب الرجل (رأس الشيطان) إلى كفر العرب مركز زفتى، موطن الغوازي، وهو ملاصق لسنباط،
٢٧٦ لكن من الصعب أن ننسب الغجر إلى القرية المصرية، لأنهم يتردَّدون عليها،
ولا يقيمون فيها، فدأبهم الترحال، وإن أقاموا فبأعداد ضئيلة على هامش القرية،
ولأعمال هامشية كذلك، مثل حراسة الأرض، أو الرعي، أو الختان، أو الوشم، أو قراءة
الطالع، أو أعمال السحر، أو الرقص في الموالد، أو الغناء، وقد يقدمون على السرقة
«يسرقون الكحل من العيون»،
٢٧٧ أو خطف الأطفال، أو سرقة الحمير.
٢٧٨ وقد أسلمت الغجرية الرجل الغريب نفسها، حتى تتسلل — وهو نائم — بما كان
معه من نقود.
٢٧٩ إنهم عمومًا جماعة مُغلَقة ترفض الاختلاط.
٢٨٠ الحكومة لا تتدخل في عالمهم، لأنهم متنقلون من بلد إلى بلد.
٢٨١ لا يستقرون في مكان إلا بمقدار ما يبيعون ويشترون ويحققون بعض المكاسب،
ثم ينتقلون إلى مكان آخر. والغجر — في الإسكندرية — يسكنون في تجمعات صغيرة
بالأطراف الصحراوية، عند العصافرة قبلي، والمندرة شرقًا، وعند العامرية وبرج العرب غربًا.
٢٨٢ وتتمتع المرأة في الأسرة الغجرية بمكانة متفوقة، ويقطن الزوج مع أهل
زوجته، كما يحمل الأبناء كنية أمهم. تقول الغجرية: «الغجر ناس كسائر الناس، وخلق
ككل خلق الله، وُلِدوا من آباء وأمهات، ونزلوا إلى الدنيا وهم يصيحون وترتفع عقائرهم
بالبكاء، لكنهم غجر. الناس يعاملونهم بحذر، ويسكنونهم أطراف القرى والمدن في الخلاء
الواسع، لا يسمحون لهم بأن يقتربوا من دنياهم، أو يقر لهم قرار. منبوذون … مشردون
في كل مكان. يسعون وراء فضلات البشر. حتى المرعى لا يقتربون منه إلا إذا هجرته
ماشية الفلاحين. حتى ماء النهر لا يشربون منه إلا بعد أن يمر بألوف الأفواه العطشى.
إنهم لا ينالون إلا الفتات والبقايا، وهم راضون بما قسم لهم الله، لا يثورون، ولا
يتمردون، ولا يسعون إلى تغيير هذه الحياة. إنهم — على العكس — سعداء بما يجدونه في
أرض الله الواسعة: الخيمة والناقة والشاه والكلب، وتوكل على الله في الحل والترحال،
ولا شيء غير هذا؛ هذه هي حياة الغجر.»
٢٨٣
الفلاح يهمُّه النيل والعمدة والنقطة وحدود أرضه، يقيسها بالشبر وبالإصبع. أما
الغجري فهو لا يعطي حسابًا كبيرًا للآتي والمستقبل، فضلًا عن أن الأمس قد مضى فهو
لا يشغله. يهمه «اليوم الذي هو فيه. الدنيا كلها أمامه لا حدود لها. إن استطاع أن
ينال منها شيئًا، فليخطف وهو سعيد.»
٢٨٤ وقد التقى عليوى — الفلاح البسيط — بجماعة من الغجر أثناء توجهه بغنمه
إلى المنيا، وأحب واحدة من الغجر، دفعته إلى ترك حياة الفلاحة ليصبح غجريًّا.
٢٨٥ ويصف الفنان الغجر، ويسمون الحلب،
٢٨٦ بأنهم كتل من الليل، بعد أن تذوب جبال الظلام، وتغتسل البيوت بالضوء
الوليد الخافت، يتمكَّن أولاد البلد من رؤيتهم. أعواد نحيلة مفتولة، سمر الوجوه،
يضحكون أحيانًا، فتبدو أسنانهم أكثر بياضًا، يخشون أولاد البلد، ويخافهم الصغار.
٢٨٧ لا أحد — كما يقول الراوي — يعرف ما يدور بينهم.
٢٨٨ ويصف الراوي (المرايا) غجرية ترعى الأغنام بأنها «حافية في جلباب أسود،
مشدود عند الوسط بحزام، متلفعة بخمار أسود، ينسدل من تحته على وجهها برقع أسود
أيضًا يخفي الوجه، ما عدا العينين.»
٢٨٩ أما في «قلب الليل» فإن الغجرية ترتدي جلبابًا أسود، وتتمنطق بزنار،
وتتلفع بشال أسود، وبرقع فضفاض تطل من فوق حافته العينان، أما القدمان فحافيتان.
٢٩٠ إن لهم سحنهم ولهجتهم (السيم) وزيَّهم، جماعة مُغلَقة ترفض الاختلاط.
٢٩١ وعلى فودي الغجرية — في الأغلب — عصفوران أخضران نُقشا بمهارة. وعدة
الغجرية حقيبة خفيفة من البلاستيك الشفاف، ويدان خاليتان إلا من نقوش الوشم على
نواشر معصمَيها، وخاتم من فضة ذو فص أزرق. وحين ترقص الغجرية — الغازية — فإنها لا
تتعرى، وإنما تتغطى بثيابها من الرأس إلى القدم.
٢٩٢ ومع أن عليوى (البوسطجي) — بعد أن تورط مع إحدى الغجريات — قد لزم
الغجر، لا يفارق حياتهم، فإنه ظل يعاني الغربة، فلم يعتبره الغجر واحدًا منهم،
٢٩٣ مع ذلك فقد كانت نظرة الشاويش إلى عليوى بعد أن انضم إلى الغجر، على
أنه واحد من الذين تطاردهم النقطة، وكانت يده لا تقع على كتفه إلا تملَّكه تأفُّف غريب
من الشبان الغجر: هل هم من بني آدم؟
٢٩٤ وعالم الغوازي في الريف عالم خاص يسرح فيه خيال الشباب والمراهقين.
٢٩٥ إنهم ينتشرون في القرى، لا يعرف الناس من أين أتوا، ولا متى، وإن أشارت
روايات كثيرة إلى سنباط باعتبارها الموطن الذي ولدوا فيه ونشئوا وانطلقوا إلى بقية
البلاد. وينفي الرجل من سنباط نسبة الغوازي إلى قريته «الحكاية وما فيها إن من ستين
سبعين سنة نزلوا علينا هنا شوية بدو رحل من الغجر اللي بيشوفوا البخت ويطاهروا
المواليد ويرقصوا في الموالد. وعلى عادة الفلاحين، وبكرم أخلاق الفلاحين، وحسب
قلوبهم الطيبة، راحوا أهل سنباط مرحبين بالغجر دول، وأعطوهم ركنًا من القرية،
بعيدًا منه ساحة فاضية، أقاموا فيها خيامهم الخيش. الغجر الرحل دول استريحوا في
بلادنا، وعرفوا ياكلوا عيش، راحوا لابدين بعيد عنك، جابوا لنا السمعة المهببة دي».
٢٩٦ لقد اعتاد الفلاحون رؤيتهم، وصار بينهم ما يشبه الألفة،
٢٩٧ وإن عانى الغجر الاتهام بأنهم يخطفون العيال، ويدقون على صدورهم الوشم،
ويسمونهم بغير أسمائهم.
٢٩٨ وكان الغجر في «قلب الليل» يقيمون في عشش الترجمان، أكواخ صفيحية، وطابع
البراءة يفصل بينهم وبين المدينة، وليس ثمة مكان لغريب،
٢٩٩ «فالغجر أنانيون لا يقبلون الغريب بينهم.»
٣٠٠
الصورة المعلَنة للغجر هي تلك المرأة التي ترتدي ثوبًا أسود، يختلف عن الفستان
والملاءة والملس، وتحمل «غلقًا»، وتنادي: أدق واطاهر!
٣٠١ والغجرية تحرص على أن تشِم ذقنها بخطوط ثلاثة، وتشِم نقطة خضراء بجانب
أنفها، وفي أذنها حلق هلالي.
٣٠٢ ودائمًا في كل قرية مصرية غجرية، غانية مجهولة الأصل، مثل خضرة،
٣٠٣ ونعيمة الغجرية.
٣٠٤ ويتحدث الرجل عن المرأة الغجرية، فيؤكد أنها تلف الغيطان كغازية، ترقص
لتخدم عصابتها. تبيع جسدها بالشبر والبوصة، لتعود آخر الليل متعشية أربعًا وعشرين
قيراطًا! ويضيف مؤكدًا: هكذا الغجر!
٣٠٥ وثمة مَن يؤكد أن المرأة الغجرية هي التي تعمل، وأن الرجل يجلس في البيت.
٣٠٦ يتحدث الراوي عن رجال الغجر الذين يبيتون في الخيام، لا يفعلون شيئًا
إلا تدخين الحشيش ومضاجعة النساء، وفي الصباح ينامون تاركين النساء لضرب الودع وجلب الرزق.
٣٠٧ وكانت رفيعة — في العشرينيات — من أسرة غجرية. ولم يكن رجال الأسرة
يعملون شيئًا، بينما تحترف نساؤها الرقص والغناء، وإمتاع طالبي المتعة. ذلك لأن
التقاليد الصارمة — التعبير للفنان — لتلك الجماعة من الغجر، كانت تعتبر البغاء
حرفة. ما إن تصل الفتاة إلى سن المراهقة حتى تتزوج برجلٍ من أقاربها، لا يمسها،
وإنما تُعطى لمن يدفع أكبر ثمن فيها من أهل قنا، حيث كانوا يعيشون، ثم تخرج الفتاة —
بعد ذلك — إلى عالم الرقص والغناء، والبغاء.
٣٠٨
وكلمة «غجر» لا تأتي — غالبًا — إلا في سياق السب والشتم.
٣٠٩ وعندما أراد المدرس (الغبي) أن يشتم تلاميذه، فإنه وصفهم بأنهم غجر،
وأن آباءهم غجر!
٣١٠ وقبل أن يتزوج جعفر الراوي (قلب الليل) من غجرية، فقد كان رأيه أن
الغجر «أفظع من الشياطين.»
٣١١
وتقول الغجرية (اللعبة) لمن تطلب قراءة طالعها: هات قطرك، أي حاجة من ريحتك!
وتعطيها السيدة منديلًا أو ما شابه، بالإضافة إلى مبلغ نقدي. وتسأل الغجرية عن اسم
السيدة، واسم أمها. تقول الغجرية: معمولك عمل … يا شابة … ويمين الله أحضره لك
بصورتك، ولو كان قرموط في البحر ولا في بطن سمكة في سابع قرار. وتطلب مبلغًا آخر
أكبر بكثير مما أخذته في البداية. ثم تلقي أسئلة من نوع: معاك ولَّا الطريق مسدود؟
معاك واحد معدول والا تراه مقلوب؟ مثل موج البحر والا مثل عيدان الخس؟ بنت بنوت
والا ربنا عدلها؟ … إلخ، ثم تقول المرأة: ارم بياضك! وتساوم ثانية على مبلغ آخر
«رمي بياض»، وتكمل المرأة اللعبة بحوقلات وبسملات، وترتعش وتنتفض، ثم تدلي
بنصيحتها، وهي — في الأعم — نصيحة كاذبة!
٣١٢
وقد استقرت إحدى قبائل الغجر (الخروج) في زمن لاحق — بعد طول تنقُّل — في أرض يتوفر
فيها العشب والمرعى، فاستغنوا عن الخيام، وجعلوا — بدلًا منها — الدور الطينية،
قصيرة الأبواب والأسقف.
٣١٣
هوامش