الرجل في الأسرة

تُعَد أسرة «بين القصرين» تجسيدًا لتناقضات المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. فثمة تيار إسلامي يجد انتماءه إلى الباب العالي، وتيار لا يؤمن بالعنف سبيلًا لأي شيء، حياة اللهو والمتعة التي يتوخَّاها، تجعل الهدوء أغلى أمنياته، وتيار لا ينتمي إلا إلى مصريته وحدها، وأن «مصر للمصريين» هي الدعوة التي يجب أن تعلو على ما عداها. السيد أحمد عبد الجواد — مثلًا — يرتدي الجبة والعمامة، ولا يعدل حبه للخديو المنفي أي شيء، وفهمي يتحمس لمصريته، وهو قد أخلص لقضية الوطن، وشارك فيها، حتى سقط شهيدًا برصاصة غادرة. أما ياسين فقد كان تعبيرًا عن أعدادٍ غير قليلة من المصريين، تكتفي أمام الأحداث بأن تقف موقف المتفرج، وقد تزيد فتطلب مهادنة الاحتلال إيثارًا للسلامة. وأما النساء الثلاث — أمينة وخديجة وعائشة — فلسن سوى تعبير عن المرأة التي شلَّتها إرادة الرجل. وبالإضافة إلى صدمة الحب التي زلزلت معتقدات كمال جميعًا، فإنه محصلة الصفات الطيبة لكل أفراد الأسرة: مثاليات الأب الظاهرة، وقيم الأم المؤمنة الطيبة، ومعتقدات شقيقه فهمي، و«رضا» عائشة وخديجة. حتى ياسين أثار في نفسه حب القراءة والأدب بما كان يعيره من روايات. لكن الفنان يربط بين تناقضات أفراد الأسرة، وبين طبيعة مصر البسيطة السهلة «إن الانفعالات السود تلم بأنفس هذه الأسرة كما تلم بغالبية البشر، ولكنها لا تظفر منها بقلب أسود، فترسب فيه وتستقر. منهم مَن قابليته للغضب كقابلية الكحول للاشتعال، ولكن سرعان ما يسكت عنهم الغضب، فتصفو نفوسهم، وتعفو قلوبهم كأيامٍ من شتاء مصر، يطلخم سحابها حتى تمطر رذاذًا، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى تنقشع السحب عن زرقة صافية وشمس ضاحكة.»١

•••

«كل شيء في هذا البيت يخضع خضوعًا أعمى لإرادة عليا، ذات سيطرة لا حد لها، هي بالسيطرة الدينية أشبه. حتى الحب نفسه — بين جدرانه — يسترق خُطاه إلى القلوب في حياء وتردُّد وعدم ثقة بالنفس. فلا يتمتع بما يتمتع به عادة من سطوة واستبداد؛ إذ لا استبداد هنا إلا لتلك الإرادة العليا.»٢ ولعلنا نجد تلخيصًا لعلاقة أحمد عبد الجواد، ذلك الذي يذكِّرنا برب الأسرة في المجتمع الفيكتوري (ثلاثية نجيب محفوظ، تريفور لوجاسيك، ت. أسما حليم، مجلة «المجلة»، أغسطس ١٩٦٣م) بأفراد أسرته في هذه الكلمات التي يلخص بها أحمد أمين صورة الحياة في أسرته، حين كان صبيًّا صغيرًا في أواخر القرن التاسع عشر: «كان بيتنا محكومًا بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوفًا من ضربه، ومالية الأسرة في يده، يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل. يشعر شعورًا قويًّا بواجبه نحو تعليم أولاده. أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا، وحديثه اللطيف معنا، فلا يلتفت إليه، ولا يرى أنه واجب عليه، يرحمنا، ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته.»٣ ويصِف الراوي الجد بأنه من جيل اعتاد أن يأمر وينهى في أتفه الأشياء، بلا معقب لأمره.٤
وحين أعلنت أمينة — في العام الأول لزواجها — نوعًا من الاعتراض المؤدب على سهر زوجها المتواصل، أمسك أحمد عبد الجواد بأذنها، وقال لها بصوته الجهوري في لهجة حازمة: أنا الرجل، الآمر الناهي، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليكِ إلا الطاعة، فحاذري أن تدفعيني إلى تأديبك.٥ الموقف نفسه يطالعنا في قصة عبد العزيز عمر ساسي «سيد القرية» حين أظهرت الزوجة تذمرًا، فكبر الأمر لدى الزوج، لأن عهده بالنساء، والمتزوجات منهن بخاصة، أنهن «طائعات كالنعاج، لا يجرؤن على التذمر أو معاندة الأزواج.»٦ ولم يكن أحد من أبناء أحمد عبد الجواد — والوصف للفنان — يجترئ على التحديق في وجهه.٧ بل إن كمال الصغير كان يخاف أباه أكثر من خوفه العفاريت، وكان يخترق درب قرمز بتوقع أن تهاجمه العفاريت، حتى لا يمر من أمام دكان أبيه! ويعبِّر ياسين عن تذمُّره من الاستبداد الذي فرضه الأب على الأسرة في قوله: «النظام، دائمًا النظام، كأننا عساكر.»٨ وتبلغ تلك السيطرة ذروة حاسمة، عندما يتقدم الضابط الشاب لخطبة عائشة، فيرفض أحمد عبد الجواد في حسمٍ ويقول: «لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل، إلا إذا ثبت لديَّ أن دافعه الأول إلى الزواج منها، هو رغبته الخالصة في مصاهرتي أنا … أنا … أنا.»٩ ولا تملك عائشة إلا الرضا بالواقع «ليس لها من الأمر شيء، هذه إرادة الأب ولا معقب لها، وما عليها إلا الإذعان والاستسلام، بل عليها أكثر من هذا، الرضا والارتياح، لأن محض الوجوم ذنب لا يُغتفَر، أما الاحتجاج فإثم لا يطيقه أدبها وحياؤها.»١٠ الموقف نفسه — تقريبًا — يطالعنا حينما يقول الشاب سرحان للمعلم إبراهيم في قصة السحار «الشبابيك المغلقة»: أريد أن يكون لي شرف مصاهرتك، فيقول المعلم بانفعال: ماذا تقول يا سرحان؟ يقول سرحان: أريد يا معلم أن تزوِّجني إحدى بناتك. يقول المعلم: وأين رأيتهن؟ يقول الشاب: لم أرهن. كل ما أريده أن أصاهر رجلًا مثلك يعرف كيف يصون بناته. يقول المعلم: ومن قال لك إن عندي بنات يتزوجن؟!١١ بل إن ياسين — الابن الأكبر — يكتفي بأن يهز رأسه موافقًا في تأدب، وأحمد عبد الجواد يقول في لهجته الجافة الآمرة: قررتُ أن تتزوج!١٢ وكان أحمد عبد الجواد ينادي أمينة باسمها، وكانت أمينة تناديه باللقب: يا سيدي!١٣
كانت أمينة واحدة من ملايين الفتيات اللائي كن يُخطَبن إلى الرجال، لا يعرفن — كما يقول عبد العزيز البشري — من هو، ولا تدري ما صلته ونسبه، ولا أصله وفصله، ولا شكله وسمته، بل قد يضن عليها الأولياء باسمه ولقبه، الله إلا أن يسر إليها شيئًا من ذلك بعض أترابها، إلى أن تُزف إليه، وقد يمنعها الحياء أيامًا من توسم وجهه، وإرسال النظر إلى ملامح وجهه.١٤
مع ذلك، فقد كان «كل مَن في بيت «بين القصرين» يحب الرجل لحد العبادة»، وإن كان ذلك الحب أشبه «بجوهرة مكنونة في حق مغلق من الخوف والرعب.»١٥ المعتقد المتوارث يؤكد أنه لا يظفر بالسعادة من حُرِم رضاء الوالدين.١٦
وعلى الرغم من الحصار المعلَن الذي كان مفروضًا على المرأة المصرية، والذي وجد تجسيدًا له في عدم مغادرة أمينة بيت بين القصرين ما يقرب من ربع قرن، فإن حامد (زينب) كان لا يدري — في علاقاته بالفتيات — أيًّا يحب، وأيًّا يترك، حتى تقلَّب على أكثر من عشر.١٧ وقد لخص شبلي شميل وضع المرأة في الأسرة المصرية، بأن الفقير يستخدمها في متاعه، والغني يدفنها في قبور القصور.١٨ بل إن سبب سقوط المرأة — في تقدير محمد لطفي جمعة — هو الرجل أولًا، والهيئة الاجتماعية ثانيًا. فقد نال إبراهيم (في وادي الهموم) — على سبيل المثال — وطره من زبيدة، ثم لفظها وعاد إلى زوجه، شقيقة زبيدة. ودفعت الأم ابنتها — زبيدة — إلى السفر من الإسكندرية — حيث كانت تقيم — إلى القاهرة، حيث احتواها الضياع؛ إن دور الرجل هنا هو التحريض.

•••

يقول الإمام محمد عبده إن الرجال الذين يحاولون — بظلم النساء — أن يكونوا سادة في بيوتهم، إنما يلدون عبيدًا لغيرهم. وهو ما تشير إليه نوال السعداوي بأن علاقة المرأة بالرجل تشبه علاقة الجارية بالسيد، فالرجل يشتري المرأة بمقدم الصداق، وينص عقد الزواج في أول بنوده على أن الزوجة ملك لزوجها، واجبها الطاعة المطلقة، وتخدم الزوجة في بيت زوجها بغير أجر، فإن عصيت أو تذمرت أو مرضت أو وهنت، باعها الرجل بحقه المطلق في الطلاق.١٩
والواقع أن سلطة أحمد عبد الجواد المستبدة داخل جدران بيت بين القصرين، كانت — إلى حد بعيد — تعبيرًا عن سلطة الاستعمار المستبدة خارج أسوار البيت. وربما لهذا السبب وصفه الفنان بأنه «ممثل السلطة السياسية في البيت»، وربما لهذا السبب أيضًا يأتي قول أركهارت «إن نظام الحكومة في البلاد الشرقية ما هو إلا صورة مصغرة لنظام الأسرة حيث يسود الاستبداد.»٢٠ ويذهب أحمد بهاء الدين إلى أن حجة الرجل في الاستبداد بالمرأة لا تختلف عن حجة الدول الاستعمارية في استعمار الشعوب الضعيفة، فهي تزعم أن هذه الشعوب لا تستطيع أن تحكم نفسها؛ إذ ليس لها عقل ولا خبرة ولا مال، والواقع أن هذه الشعوب الضعيفة مسلوبة من العقل والخبرة والمال لأنها مستعمَرة، ولأن الاستعمار نفسه يهتم بأن يسلبها العقل والخبرة والمال، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.٢١
وكما واجهت سلطات الاحتلال مقاومة مستمرة من الشعب المصري، فقد تعرَّض أحمد عبد الجواد لمقاومة مماثلة، اتسمت بالتمرد الخفي في معظم الأحيان، لكنها امتدت — أحيانًا أخرى — لتصبح أقرب إلى التمرد العلني الصريح. ثمة تمرد مبعثه قلب عائشة الذي كان ينبض بالحب لمرأى الضابط الشاب وهو في طريقه إلى عمله، عبر المشربية، وتمرد ياسين الذي أخذ شكل الانغماس في المغامرات الجنسية، فقد «كان العفريت الذي يركبه مولعًا بالنساء كافة.»٢٢ ثم اشترك الجميع في الثورة على إرادة الأب، حين سافر إلى بورسعيد في مهمة تجارية، فحرَّض الأبناء أمهم على مغادرة البيت لأول مرة منذ ربع قرن، وزيارة الحسين. وهو ما لا يُعَد — في رأيهم — جرمًا يستحق العقاب. ذلك لأن زيارة الحسين يمكن أن تُعَد عذرًا قويًّا يرتفع إلى مرتبة القداسة «واشترك الجميع — وهم لا يدرون — في الثورة على إرادة الأب الغائب.»٢٣ ثم أعلن كمال الصغير تمرده بأن ذهب إلى دكان أبيه، وتعرض لعلقة ساخنة مقابل أن يطالب الأب بالصفح عن الأم التي عصت — يومًا — إرادة الأب، وإعادتها إلى البيت «رجِّع نينة الله يخليك.»٢٤ ولم يعُد الكذب «مما يتورع عنه أحدهم، ولو أنهم التزموا الصدق مع أبيهم ما ذاقوا للحياة طعمًا.»٢٥ ثم اتخذ التمرد شكل الثورة الصريحة على الاستبداد الأبوي، برفض فهمي معارضة أبيه في اشتراكه في المظاهرات الوطنية، بل إنه لم يجد في الكذب عيبًا ما دام لم يحد من تسلط الأب على إرادته، ثم فضَّل أن يعلن انتماءه الثوري، بعد أن ضيَّق أبوه الخناق عليه، ورفض القسم على المصحف، ليؤكد لأبيه أنه قد أخلى بين نفسه وبين الثورة. وعندما يصر كمال على اختيار مدرسة المعلمين — رغم إرادة والده — فإنه يمثِّل امتداد موقف رفض سيطرة الأب الذي وقفه فهمي برفضه تلبية رغبة أبيه بأن يقطع صلته بالثورة والثوار. ولا شك أن تمرد الأبناء لم يجاوز حد الاعتذار المؤدب، أو الرجاء المتوسل، أو الخطأ الذي يطلب الصفح، دون أن يصل الأمر إلى حد التمرد الصريح على ديكتاتورية أحمد عبد الجواد وتسلطه، كما فعلت أويلا في «بيت برناردا ألبا» — مثلًا — التي حطمت عصا برناردا وهي تصيح: لقد آن أن تصمت في هذا البيت صرخات السجانين والسجناء، وهذا ما أفعله بعصا الطاغية. إن ياسين يكتفي — في ذروة غضبه ونقمته على أبيه — بهمهمات وغمغمات، لا تدل إلا على الغضب الوقتي، ويرفض فهمي أن يقسم على المصحف، لكنه يحرص — حتى الساعة السابقة لاستشهاده — على أن يغفر له والده ذلك الرفض، ويفتش كمال طويلًا عن الكلمات التي تصلح لاستمالة قلب الرجل، فلا يجد إلا «رجع نينة الله يخليك.» حتى عائشة التي صدمها رفض الأب لزواجها من الضابط الشاب، عدت ذلك الرفض مشيئة لا راد لها. ولعل ذلك التباين في مواقف كل من شخوص الثلاثية ونساء لوركا، مرده إلى أن أحمد عبد الجواد كان له — على الرغم من كل شيء — قلب رقيق «أرق مما يظن الكثيرون، بل أرق مما ينبغي. فكيف يصدق هذا من لا يرونه إلا مكشرًا أو صاخبًا أو ضاحكًا ساخرًا.»٢٦ إنه — كما وصفه الفنان — أشبه بالقطة، تبدو — حين تحمل صغارها — وكأنها تلتهمها.٢٧ «وكان كل من في البيت يحب الرجل لحد العبادة.»٢٨ أما برناردا ألبا، فقد كان التسلط دمًا في شرايينها، وكانت بلا قلب «ليس لأحدٍ في هذا البيت أن يفعل شيئًا لا آمره أنا بفعله»! لقد تبدَّت شخصية الأب المحِبة، الطيبة، التي تبذل النفس دفاعًا عن الأبناء، عندما هدد المصلون في الحسين أكبر أبنائه ياسين بالأذى، بعد أن ادَّعى أحدهم عليه أنه جاسوس، ومناداته بتأديب الخائن. أحاط الرجل ابنه بساعديه، ليدفع عنه الأذى، أو ليقاسمه إياه،٢٩ وهو قد رعى أمينة حتى شُفيت من كسر ساقها، ثم لم تمض فترة طويلة على مغادرتها للبيت، حتى أذن لأبنائه بأن يعودوا بها. كذلك كان استشهاد فهمي أشبه بالزلزال المدمر، عزله عن الناس والأصدقاء خمس سنوات كاملة. وكانت تلك النفس الرقيقة الطيبة هي مبعث ضعف سيطرة الأب شيئًا فشيئًا على أسرته، عبر فصول الثلاثية، بالإضافة إلى أن ذلك التلاشي هو انعكاس للتغييرات التي طرأت على العلاقات الأسرية في المجتمع المصري. لقد سأل كمال الصغير أمه يومًا: «أيخاف أبي الله؟» وأجاب عن سؤاله مؤكدًا: «لا أتصور أن أبي يخاف شيئًا!» وبعد مغادرة أمينة البيت، كان الشغل الشاغل لأبنائها هو مخاطبة الأب للعفو عنها، وإرجاعها. وكانت تلك مناسبة ليعلم الجميع أن إرادتهم هي لا شيء أمام إرادة الأب القوية المتحكمة المسيطرة: «بدت خديجة وعائشة أضيق الجميع بغياب الأم، فإلى حزنهما الذي يشاركهما فيه الإخوة، تحمَّلتا وحدهما أعباء البيت وخدمة الأب، بَيْد أن أعباء البيت لم تكن لتنوء بهما، أما خدمة الأب فهي التي عملتا لها ألف حساب. ونزعت عائشة إلى الهرب من منطقة أبيها معتلة بأن خديجة سبق لها أن تدربت على خدمته في أثناء رقاد الأم، فوجدت خديجة نفسها مرغَمة على العودة إلى تلك المواقف الدقيقة الرهيبة التي تكابدها وهي على كثبٍ من السيد، أو وهي تقضي له حاجة من حاجاته. ومنذ الساعة الأولى لذهاب الأم، قالت خديجة: «ينبغي ألَّا تطول هذه الحال، إن الحياة بدونها في هذا البيت عناء لا يطاق.» فأمَّنت عائشة على قولها، ولكنها لم تجد من حيلة في وسعها غير الدموع فذرفتها. وانتظرت عودة إخوتها من بيت الجدة، حتى جاءوا. وقبل أن تلفظ كلمة مما يدور في نفسها راحوا يتحدثون عن حال أمهم في «منفاها» فوقع الحديث من نفسها موقع الغرابة والاستنكار لأنها كانت تسمع عن قوم غرباء لا يُتاح لها لقاؤهم، فغلبها الانفعال وقالت بحدة: «إذا قنع كلٌّ منا بالسكوت والانتظار، فربما تلاحقت الأيام والأسابيع وهي مبتعدة عن بيتها حتى يضنيها الحزن. أجل، إن مخاطبة بابا في هذا الشأن مهمة شاقة، ولكنها ليست أشق من السكوت الذي لا يليق بنا، ينبغي أن نجد طريقة … ينبغي أن نتكلم.»

ومع أن صيغة «نتكلم» التي ختمت بها جملتها جاءت شاملة لجميع الحاضرين، إلا أنه قُصد بها — كما فهم بالبداهة — شخصٌ أو شخصان شعر كلاهما لدى سماعها بارتباكٍ لم تخفَ بواعثه على أحد، بَيْد أن خديجة واصلت حديثها قائلة: «لم تكن مهمة مخاطبته فيما يعرض لنا من أمورٍ بأيسر على نينة مما هي علينا؛ ومع ذلك لم تتردد عن مخاطبته إكرامًا لأي واحدٍ منا، فمن الإنصاف أن نتحمَّل نفس التضحية من أجل خاطرها.»

تبادل ياسين وفهمي نظرة فضحت إحساسهما بالخناق الذي أخذ يضيق حولهما سريعًا، ولكن واحدًا منهما لم يجرؤ على فتْح فِيه أن ينتهي به الكلام إلى أن يقع عليه الاختيار ليكون كبش الفداء، فاستسلما لانتظار ما يجيء به النقاش كما يستسلم الفأر للهرة. وتركت خديجة التعميم إلى التخصيص، فالتفتت إلى ياسين قائلة: «أنت أخونا الأكبر، وإلى هذا فأنت موظف، أي رجل كامل، فأنت أجدرنا بالقيام بهذا الواجب.»

ملأ ياسين صدره بالهواء، ثم نفخ وهو يعبث بأنامله في ارتباكٍ ظاهر، وتمتم قائلًا: «والدنا رجل ناري الغضب، لا يقبل مراجعةً لرأيه، وأنا من ناحيتي لم أعُد غلامًا، بل صرت رجلًا وموظفًا كما تعلمين، وأخوف ما أخاف أن ينفجر فيَّ غاضبًا، فيفلت مني زمام نفسي، ويثور غضبي بدوره!»

وغلبهم الابتسام على أعصابهم المتوترة وأنفسهم المحزونة، فابتسموا، وأوشكت عائشة أن تضحك، فأخفت وجهها في كفَّيها، ولعل حالهم المتوترة نفسها مما هيَّأهم لقبول الابتسام كمسكِّن وقتي للتوتر والألم، كما يحدث للنفوس أحيانًا عند اشتداد الحزن من الاستسلام للطرب لأتفه الأسباب على سبيل التخفيف عن حالٍ بأضدادها، ذلك أنهم عدُّوا قوله نوعًا من الدعابة الجدير بالضحك والسخرية، وكان هو أول من يعلم أنه قال ما قال فرارًا من مواجهة أبيه واتقاء لسخطه. فلما رأى هُزْءهم لم يسعه إلا أن يبتسم بدوره وهو يهز منكبَيه كأنما يقول لهم: «دعوني وشأني.» فهمي وحده بدا متحفظًا في ابتسامه لشعوره بأن القرعة ستصيبه قبل أن تغيب ابتسامته، وصدق شعوره إذ أعرضت خديجة عن ياسين في ازدراء ويأس، وخاطبته قائلة برجاء وإشفاق: «فهمي … أنت رجلنا!»

فرفع حاجبَيه في ارتباك، متطلعًا إليها بنظرة كأنما يقول لها: «أنت أدرى بالعواقب!» حقًّا كان يتمتع بمزايا لا يتمتع ببعضها أحد في الأسرة، فهو طالب في مدرسة الحقوق، وهو أكبرهم عقلًا وأنفذهم رأيًا، وله من ضبط النفس في المواقف المحرجة ما يدل على الشجاعة والرجولة، ولكنه سرعان ما يفقد جملة مزاياه إذا مثل بين يدي أبيه، فلا يعرف غير الطاعة العمياء. وبدا وكأنه لا يدري ماذا يقول، فحثَّته على الكلام بإيماءة من رأسها، فقال متحيرًا: «هل ترينه يقبل رجائي؟ كلا … ولكنه سينهرني قائلًا: لا تتدخَّل فيما لا يعنيك … هذا إذا لم يثر غضبه فيوجه إليَّ كلامًا أشد وأقسى!»

وارتاح ياسين إلى هذا الكلام «الحكيم» الذي وجد فيه دفاعًا عن موقفه أيضًا، فقال وكأنه يكمل رأي أخيه: «وربما جرَّ تدخُّلنا إلى محاسبتنا من جديدٍ على موقفنا يوم خروجها، فنفتح على أنفسنا فتحة لا ندري كيف نسدها!»

فالتفتت الفتاة نحوه مغيظة، وقالت بمرارة وسخرية: «لا منك ولا كفاية شرك!»

فقال فهمي الذي استمد من غريزة «حب البقاء» قوة جديدة للدفاع عن نفسه: «فلنفكر في الأمر بعناية شاملة، لا أظنه يقبل لي أو لياسين رجاء ما دام يعتبرنا شريكين في الخطأ، وعليه فالقضية خاسرة إذا تقدَّم أحدنا للدفاع عنها، أما إذا حدَّثته واحدة منكما فلعلها تنجح في استعطافه، أو لعلها تجد — على أسوأ الظنون — إعراضًا هادئًا لا يبلغ حد العنف، فلماذا لا تحدثه إحداكما؟ أنتِ مثلًا يا خديجة؟!»

فانقبض قلب الفتاة التي وقعت في الشرك، وحدجت ياسين لا فهمي بنظرة غيظ، وهي تقول: «ظننت هذه المهمة أخلق بالرجال!»

فقال فهمي مواصلًا هجومه السلمي: «العكس هو الصحيح ما دمنا نتوخَّى نجاح المسعى، ولا تنسي أنكما لم تتعرضا لغضبه طول حياتكما إلا في النادر الذي لا يقاس عليه، فهو يألف الرفق بكما كما يألف البطش بنا!»

فأطرقت خديجة متفكرة في قلقٍ غير خافٍ، وكأنها خافت إن طال صمتها أن تشتد عليها الحملة، فتستقر المهمة الخطيرة في قرعتها، فرفعت رأسها قائلة: إذا كان الأمر كما تقول فعائشة أخلق مني بالكلام!

– أنا؟ … لمه؟

نطقت بها عائشة في فزع من وجد نفسه بغتة في مرمى الخطر، بعد أن اطمأن طويلًا إلى موقف المتفرج الذي ليس له من الأمر شيء، خاصة وأنها — لحداثة سنها وغلبة إحساس الطفولة المدلَّلة عليها — لم تكن تُندَب لشيء هام، فضلًا عن أخطر مهمة يمكن أن تُعرَض لأحدٍ منهم. إلا أن خديجة نفسها لم تجد فكرة واضحة لتبرير اقتراحها، بَيْد أنها أصرَّت عليه في عنادٍ مشبَّع بالمرارة والتهكم، فقالت تجيب شقيقتها: لأنه ينبغي الانتفاع بصفرة شعرك وزرقة عينيك في إنجاح مسعانا!

– وما دخل شعري وعيني في مواجهة أبي؟!

لم تكن خديجة تهتم في تلك اللحظة بالإقناع بقدر ما تهالكت على إيجاد مخرج لها ولو بتحويل الأذهان إلى أمور هي بالمعابثة أشبه، تمهيدًا للتقهقر. فالقرار من أسلم السبل الممكنة كمن يقع في مأزق حرج، وتعوزه الحجة في الدفاع عنه، فيلجأ إلى المزاح ليمهد لنفسه مفرًّا في ضجة من السرور بدلًا من الشماتة والازدراء؛ لذلك قالت: أعرف لهما تأثيرًا ساحرًا في كل من يتصل بك، ياسين … فهمي … حتى كمال، فلماذا لا يكون لهما نفس التأثير عند أبي؟

فتورَّد وجه عائشة، وقالت بانزعاجٍ: كيف أخاطبه في هذا الشأن وأنا لا تقع عليَّ عيناه حتى يطير ما في رأسي؟!

عند ذاك — وبعد أن تهربوا تباعًا من المهمة الخطيرة — لم يعُد يشعر أحد منهم بتهديدٍ مباشر، ولكن النجاة لم تعفهم من إحساس بالذنب، بل لعلها كانت أول دافع إليه، حيث إن الإنسان يركز تفكيره في النجاة عند الخطر، حتى إذا ظفر بالنجاة عاد ضميره يناوشه، كالجسم الذي يستنفد حيويته كلها في العضو المريض، حتى إذا ما استرد صحته توزعت حيويته بالتساوي على الأعضاء التي أُهملَت إلى حين، وكأن خديجة أرادت أن تتخفف من هذا الإحساس فقالت: ما دمنا نعجز جميعًا عن مخاطبة بابا، فلنستعن بجارتنا أم مريم.»٣٠

ثم عفا الرجل عن زوجته، وكانت عودتها بمثابة البداية الفعلية لانكماش سلطان أحمد عبد الجواد على أفراد الأسرة. لقد شارك كل أفراد الأسرة في «جريمة» خروج أمينة من البيت — بدون زوجها — للمرة الأولى، كي تزور الحسين، بدءًا بفكرة ياسين، مرورًا بموافقة وتحريض بقية الأبناء، فهم إذن قد شاركوا في التمرد — دون وعي — على سلطة الأب الغائب. ثم قامت الثورة، وكان رفض فهمي لإرادة والده بأن يتخلى عن تأييده المادي للثورة معلَمًا مهمًّا في طريق تلاشي سلطان الأب ونفوذه. وكلما مضت الأعوام، تغيَّر شكل العلاقة بين أحمد عبد الجواد وأبنائه. فلم يعُد الإفطار — على سبيل المثال — عقابًا يوميًّا يتعرض فيه الأبناء للسان والدهم، وليده أحيانًا، ولكنه أصبح مجالًا خصبًا لإثارة بعض المشكلات العامة والخاصة: «اتخذ الثلاثة أماكنهم — أحمد عبد الجواد وياسين وكمال، فقد مات فهمي — حول الصينية. وبسمل الأب وهو يتناول رغيفًا، معلنًا بدء الأكل، فتبعه ياسين ثم كمال، على حين وقفت الأم وقفتها التقليدية إلى جانب صينية القلل. كان مظهر الأخوين يدل على الأدب والخشوع، ولكن خلا قلباهما — أو كادا — من الخوف الذي كان يركبهما قديمًا في حضرة الأب. ياسين لأن بلوغه الثامنة والعشرين منحه امتيازًا من امتيازات الرجولة، وضمانًا ضد الإهانات الجارحة والاعتداءات التعسفية، وكمال لأن بلوغه السابعة عشرة، وتقدُّمه في الدراسة وهباه نوعًا من الضمان أيضًا، إلا يكن بقوة ضمان ياسين، فإنه لم يخل من العفو والتسامح على الأقل في الهفوات التافهة، إلى أنه آنس من أبيه في السنوات الأخيرة أسلوبًا من المعاملة تخفف من البطش والإرهاب بدرجة محسوسة. ولم يكن من النادر أن يدور حديث مقتضب بين الآكلين بعد أن كان الصمت يتحكم في مجلسهم تحكمًا مخيفًا، إلا أن يسأل الأب أحدهم فيجيب بعجلة ولهوَجة، ولو بفمٍ ممتلئ بالطعام، أجل! لم يعُد غريبًا أن يخاطب ياسين إياه، فيقول مثلًا: «زرت أمس رضوان في بيت جده وهو يقرئكم السلام ويقبِّل يدكم» فلا يَعُد السيد الخطاب جرأة غير محمودة، ولكنه يقول ببساطة: «ربنا يحفظه ويرعاه.» … ولا يبعد عند ذاك أن يتساءل كمال بأدب، مُحدِثًا بذلك تطورًا خطيرًا في علاقته التاريخية بأبيه: «متى يستحق رضوان شرعًا لأبيه يا بابا؟» فيجيبه السيد: «عندما يبلغ السابعة.» بدلًا من أن يصيح به: «اخرس يا ابن الكلب».» ثم مضى الزمن الذي كان أحمد عبد الجواد «يملي فيه إرادته إملاء، فلا يجد رادًّا لها» (ألا يُعَد انتصار ياسين على أبيه في الاستحواذ على قلب زنوبة — برغم كل الفوارق المادية بين الأب التاجر والابن الموظف البسيط — إشارة موحية إلى تأكد تلاشي السطوة الأبوية على أفراد الأسرة؟) ثم وصلت إرادة الأب إلى أقصى لحظات الضعف، عندما اكتشف كمال في المخبأ الذي لاذ به أفراد الأسرة — فرارًا من غارات الحرب العالمية الثانية — أن يده تلامس يد أبيه لأول مرة منذ مولده، وفي تلك الليلة بالذات، مات السيد أحمد عبد الجواد.

ولكن موقف الاستبداد الذي ظل أحمد عبد الجواد يقفه لفترة طويلة من أفراد أسرته — وتلك حقيقة مهمة — يقابله موقف آخر يناقضه تمامًا. ألا يعبِّر — بدرجة ما — عن الطبيعة المصرية، الخصبة، المعطاءة؟ ألم يكن من بين أبنائه فهمي الذي استُشهد وهو يهتف بحياة مصر؟ وكمال الذي آمن بالفلسفة والعلم سبيلًا لغدٍ أفضل، ثم أحفاده الثلاثة الذين تنوعت اهتماماتهم وتوزعت — شأنهم شأن كل أبناء مصر — فانضم أحدهم إلى اليمين، واعتنق الثاني اليسار المتطرف، بينما فضَّل الثالث أن يحقق أهدافه بمواهبه الجسدية؟

•••

ويختلف الشيخ سلطان عبد الصبور (لقاء هناك) عن السيد أحمد عبد الجواد في أنه لم يكن يعاني انفصامًا في أسلوب حياته داخل البيت وخارجه، لكنه كان أقرب الشخصيات الروائية — في حياته الأسرية — إلى أحمد عبد الجواد. فقد كان هو السيد في بيته؛ كل شيء يخضع لإرادته، ويهيئ له الراحة والدعة. وكانت ليلى — ابنته — ترى أن كل شيء يضمه البيت يظل آلة تعاني الموات، حتى يبعث الأب الحياة فيها بأوامره ونواهيه، فهي جليسة البيت لأن أباها شاء ذلك، وهي تؤدي الأعمال المنزلية لأن تلك كانت إرادة أبيها، وهي يصلي وتصوم لأن الرب قال لها: صلِّي وصومي.٣١ ويقول المازني في «صندوق الدنيا»: وللرجل في ذلك العصر — أواخر القرن التاسع عشر — مكانه بين الرجال لا بين الأطفال والنساء، حتى الأكل كان يتناوله وحده، أو مع ضيوفه في «منظرة» الرجال.٣٢ من هنا جاء قول الراوي في قصة «اخرجي» يصف جيل الآباء في مطالع القرن — بأنه «اعتاد أن يأمر وينهى في أتفه الأشياء بلا معقب لأمره.»٣٣ ويصف الراوي علاقته بأبيه بأنها كانت علاقة إعجاب وتهيب أكثر مما هي علاقة محبة «كنت أعجب بشجاعته وأتهيَّبه لقسوته.»٣٤ وثمة مَن يملؤه شعور بالسعادة لأنه يحبس لنفسه خاصة، ومن دون سائر الناس، امرأة لا تخرج إلا بأمره، وتطبخ له أكله، وترتب فراشه، وتقف نفسها وحياتها وأوقاتها على خدمته وحده.٣٥ كان ذلك تعبيرًا عن مجتمع «يمنح» فيه الرجل المرأة، ولا يقبل أن تشاركه الحياة على قدم المساواة. يقول أحمد عبد الجواد لأمينة: «ما أنت إلا امرأة، وكل امرأة ناقصة عقل ودين.»٣٦ ويصف الفنان شخصية خالد (شجرة البؤس) بأنه «كان يعيش في أيام لم تكن حياة الأبناء فيها شيئًا ما دام آباؤهم ناهضين بما كان ينهض به الآباء من الأمر في ذلك الوقت، فهم كانوا كل شيء. يصدر عنهم ما يدبر شئون الأسرة من أمر، وينتهي إليهم ما يعرض للأسرة من خطب، وما أبناؤهم إلا ظلال ناقصة، تصور ما كان آباؤهم يريدون لهم أن يكونوا، إنما كان الأبناء يستكملون شخصيتهم بأمرهم حين كان آباؤهم يفارقون هذه الأرض، ويضطرهم المرض والكبر إلى أن يلزموا بيوتهم عابدين أو فارغين، لا يأتون شيئًا، ولا يدعون شيئًا، لأنهم لا يقدرون على شيء.»٣٧ وفي قصة «غريب» يهبنا الفنان هذه الصورة لوضع الرجل في الأسرة: «في الشقة الصغيرة يسود الصمت. السكون يخيم على كل شيء فيها، مع أن سكانها أحد عشر إنسانًا. تسعة منهم أطفال وأولاد يستطيعون إقلاق الجن لو أطلق لهم عنان الحركة والكلام، ولكن أباهم نائم، وهو إذا نام القيلولة فلا بد أن ينام كل شيء، ويخمد كل صوت في ذلك الكون الصغير الذي يحكمه بالحزم والعزم … والحب أحيانًا. يظل كل شيء ساكنًا لا يبرح، حتى يصحو الولد من نوم العافية، وإشارة صحوته هي أن يصفق بيديه طالبًا القهوة؛ هنا تدب الحياة في كل شيء من جديد، فينطلق الشياطين الصغار.»٣٨ ورغم انتماء الأب في قصة محمد حسين هيكل «وفاء» إلى بيئة اجتماعية مغايرة، فإنه كان يمارس السلطة نفسها التي كان يمارسها أحمد عبد الجواد في بيته، فهو قد قرر تزويج ابنتيه دون أن يستشير أحدًا. لم يكن يتصور أن تعارضه زوجته أو إحدى ابنتيه، وكان يرى في أية معارضة له عقوقًا وخروجًا على ما أدَّب به أسرته من أنه السيد المطاع.٣٩ بل إن الشيخ عبد الرحيم لا يملك إلا الموافقة على قرار أبيه بأن يزوِّجه دون أن يأخذ رأيه، ودون أن يرى زوجته.٤٠ ولما أصر الأبوان على زواج سناء وحسن، فقد اتفق الشابان على الطلاق في ليلة زفافهما، لأن الزواج كان بإرادة الأبوَين، وضد إرادتهما.٤١

•••

ثم تبقى ملاحظة مهمة، هي أن أحمد عبد الجواد — بتشدُّده — والشيخ سلطان عبد الصبور بالتالي — لم يكن صورة لعصره على الإطلاق، بل إنه كان يمثِّل صورة متطرفة من محافظة الطبقة الوسطى، حتى إنه لما طرد الأم من البيت بعد زيارة الحسين، ضرب ياسين كفًّا بكفٍّ وقال: إن رجالًا غيورين مثله، منهم أصدقاء له، لا يرون بأسًا في السماح لنسائهم بالخروج كلما دعت ضرورة أو مجاملة، فما باله يقيم من البيت سجنًا مؤبدًا؟٤٢ كذلك صارحت حرم المرحوم شوكت أحمد عبد الجواد بأنه يغالي في المحافظة على أسرته مغالاة خرقت المألوف، وأنه يجمل به أن يأخذ نفسه بشيء من الهوادة والرفق.٤٣ بل لقد تعلَّم أحمد عبد الجواد من اختلاطه بالأصدقاء، أن ما يتشدد فيه بالنسبة لأسرته، يلقى التسامح من رجال آخرين، فهم لا يرون بأسًا من أن تخرج نساؤهم للزيارة أو للتسوق، ولا يجدون غضاضة في توجيه تحية بريئة، بل كانوا يصطحبون زوجاتهم وبناتهم للتنزه في الخلوات، أو لمشاهدة العروض الغنائية والمسرحية.٤٤ بل إن أشد ما كان يضيق به حسن بك في قصة «رجل البيت»، امتثاله لإصرار زوجته على تسلم مرتبه كاملًا، لتنفق منه بمعرفتها، وتعطيه مصروفًا، تمامًا مثل الأبناء.٤٥ وإذا كان المفروض أن الرجل هو السيد في الأسرة المصرية، فثمة استثناءات تتكاثر، لتصبح موازية لسلطة الأب، أو مساوية لها، وتتفوق عليها في بعض الأحيان، مثل جعدة وزوجته حسنية. كانت هي الأقوى، وكانت لا تفتأ تكيل له الضربات وهو يكتفي بالصراخ والشكوى والتساؤل: ما لي أُضرَب من دون الرجال جميعًا!٤٦ والحق أن أحمد عبد الجواد لم يكن — في حياته اللاهية خارج البيت — يعبِّر عن أخلاق طبقته، وعن تقاليد التجار. يقول له جميل الحمزاوي: لو كنت اتخذت من التجار خُلقهم، كما اتخذت حرفتهم، لكنت الآن من كبار الأغنياء.٤٧
إن شخصية الأب في رواية «طلائع الأحرار» — مثلًا — تناقض شخصية أحمد عبد الجواد إطلاقًا. فقد كان الرجل يخضع خضوعًا خالصًا لإرادة ابنه، وهو قد تزوج بمعرفته، ووافق — دون ملاحظة — على أن تنتقل الأسرة من البيت القديم إلى بيت آخر يتلاءم مع حياة الابن الجديدة. و«في قافلة الزمان» طلب الحاج أسعد من أكبر أبنائه أن يزوِّجه، بعد أن توفيت الزوجة … لكن الابن رفض، وأصر على الرفض. وكان الأب يونس (الشارع الجديد) ينفر من الشدة، وإذا اشتد، فإنه يفعل ذلك افتعالًا ليدلِّل على سيادته، لكن سرعان ما تخبو الحدة المصنوعة ليعود إلى هدوئه وسماحته.٤٨ بل إن الزوجة في «الضباب» هي التي تسعى لتزويج رجلها من إحدى فتيات القرية، نتيجة لعقم الزوجة وحرصها على أن يكون للرجل مَن يخلفه:

– ألم تعرف كيف تزوجت يا زين العابدين بك؟

– نعم عرفت.

– عرفت أن زوجتي هي التي خطبت لي؟

– نعم … ولا أكتمك … لقد اندهشت لهذا … وكنت أريد أن أسألك منذ سمعت، ولكنك لم تأت.

– خجلت أن ترى وجهي.

– ولماذا تخجل؟

– ما الذي يجعل امرأتي تخطب لي؟ لا بد أنها رأت حرصي الشديد على الإنجاب.

– نعم … لا شيء في ذلك.

– أليس هذا مخجلًا؟

– لماذا؟

– كيف سوَّلت لي نفسي أن أهين كرامة زوجتي إلى هذا الحد؟! يا سعادة البك أنت سيد العارفين … ألا تتصور مقدار الألم الذي عانته امرأتي، وهي تخطب لي امرأة غيرها، أقسم بالله يا سعادة البك إنني منذ جاءت زوجتي، وأنا أستحي أن أكلمها أمام الحاجة.٤٩
الحاج والي يتعذب خجلًا من أنه أهان كرامة زوجته، لما اضطرَّها إلى أن تخطب له، بعد أن لمست حرصه الشديد على الإنجاب. وإذا كان أحمد عبد الجواد قد عامل أبناءه بقسوة، فإن السقَّا شوشة كان يعامل ابنه الصغير سيد بأسلوب مختلف تمامًا «فهو لا يسبُّه ولا يضربه، ولكنه يبيِّن له الخطأ من الصواب، ويشرح له ما خفي عنه وينصحه ويرشده. فإذا ما أخطأ — وهو غالبًا ما يخطئ، لأن الخطأ دائمًا أحب وأسهل من الصواب — لامه في رفق. فإذا كرره — وهو غالبًا ما يكرره — زجره في شدة. فإذا لم يزدجر، أوقع عليه عقابًا نفسيًّا، كأن يخاصمه أو يحرمه من بعض مزايا الرجولة التي كان يمنحها له، ولم يكن هناك أقسى على نفسه من هذين العقابين.»٥٠ ولعله في المقابل من علاقة أحمد عبد الجواد وأمينة، تلك التي يحكمها استبداد الرجل وخضوع المرأة، تبدو علاقة والدَي عايدة شداد «لا سيد ولا مسود، ولكن صديقان متساويان، يتحادثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، حتى إذا بلغا السيارة تنحَّى البك جانبًا حتى تركب هي أولًا، فيتساءل كمال: هل يتأتى لك أن ترى والديك في مثل هذه الصورة؟! يا لها من خاطرة مضحكة!»٥١ وفي المقابل من شخصية أحمد عبد الجواد كذلك، تقف شخصية محمد أفندي (نحن لا نزرع الشوك) الذي كان أهم ما يميزه شخصيته المرحة المنطلقة داخل البيت وخارجه، دون أن يعطي وزنًا كبيرًا للمظهر أو فارق السن أو المركز.٥٢ (كانت البلانة للرجل — كما للمرأة — زينة وأبهة (نجيب محفوظ، قسمتي ونصيبي، رأيت فيما يرى النائم)). «وهو — رغم ما يقال عن فراغة عينه — وثيق الصلة بزوجته، حريص على راحتها، وعلى سعادتها، مطيع لرغباتها، وهي — رغم لومها الدائم له — تحترمه وتخشاه، وتضعه من البيت موضع السيادة، بحيث يكاد يتحرك كل من في البيت في محيط خدمته.»٥٣ وبينما كان من المألوف أن يغادر حمدي ووالده (نحن لا نزرع الشوك) البيت كصديقين، وقد وضع الأب ذراعه على كتف حمدي، فقد كانت اللحظة الوحيدة التي وضع فيها كمال عبد الجواد يديه في يدَي والده هي تلك التي سبقت وفاة الأب. حتى الجنس كان ضمن أحاديث محمد أفندي مع ابنه حمدي، فهو يشير إلى أنه ليس هناك في هذه الدنيا خير من أكلة فول من «أبو ظريفة»، وأكلة طعمية من الحلوجي، وأكلة نيفة من الدهان، وسهرة مع صالح عبد الحي والقضابي، وست حلوة.٥٤ لذلك يمكن القول إنه إذا كان أحمد عبد الجواد نموذجًا متشددًا للأب في العقد الثاني من القرن العشرين، فإن محمد أفندي نموذج للأب المتساهل في الثلاثينيات، إلى حد تأكيد أصدقاء حمدي أن والده «من الآباء اللقطة، ليس له مثيل.»٥٥ ويقدم الفنان في «الأيام» مثلًا مناقضًا لفهمي عبد الجواد، الذي قبل — على مضض — قرار أبيه بعدم الخوض في حديث الزواج، فعندما صارحه أبوه بأن بينه وبين الزواج وقتًا طويلًا، اصطنع الجنون. وكان لا يكاد يدخل البيت حتى يؤذن أهله بمقدمه، رافعًا صوته بكلمة واحدة: جنان! ثم يأخذ في تحطيم كل ما تصادفه يداه، حتى اضطر أهله إلى الموافقة على زواجه ولما يبلغ الثامنة عشرة!٥٦ ويشير محمد عمر في كتابه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» إلى أن بعض الآباء أضحوا يخشون أبناءهم الذين فسدت أخلاقهم، ومن ثَم كان حرص بعضهم على عدم مخاطبة ابنه في أي أمر، خوفًا من أن يوجِّه إليه الابن ألفاظًا غير كريمة، ووصل الأمر أن بعض الآباء كان يكتب لابنه ما يريد، ويبعث به مع الخدم!٥٧
ومع أن صفية (الشارع الجديد) تمثِّل جوانب مناقضة لأمينة في «بين القصرين» فإنها كانت حريصة — في الوقت نفسه — على سلطة الرجل، وعلى هيبته. لقد كان من عادة «الأزواج» أن يغادروا البيت كل ليلة، ليعودوا في المساء المتأخر، وقد غشي ضباب الحشيش عيونهم. وعلى الرغم من أن هنيَّة كانت على معرفة باستقامة زوجها، فإنها رفضت سهر زوجها — خارج البيت — لأي سبب. حتى ولو كان الذهاب إلى نادي الحزب الوطني، وأصرَّت إن لم يحترم مشاعرها، أن تغادر البيت حالًا. والواقع أن ذلك لم يكن تسلطًا من صفية بقدر ما كان خوفًا على زوجها من الحياة التي تشمل أزواج أخواته. ولعله من هنا كان شعور الارتياح الذي غمرها حين تأخر علي في الليلة نفسها التي أعلنت فيها الثورة، فقد كانت تخشى أن يعود مبكرًا فتضيع هيبته!٥٨ وفي المقابل من تشدُّد أحمد عبد الجواد في تربية أبنائه، فقد كان ياسين — ابنه — حريصًا على أن تكون له آراؤه المتميزة في التربية: «أنا الأب الصديق، لا أحب أن يرتعد أبنائي خوفًا في محضري، أنا حتى اليوم ينتابني الارتباك أمام أبي.»٥٩ والملاحَظ أن الأب المصري يحب — أحيانًا — أن يرى ابنه في صورة رئيسه، في المنصب نفسه الذي يشغله رئيسه — والأسباب واضحة — وقد كانت الصورة التي يحيا فيها إبراهيم أفندي، الكاتب بإدارة المستخدمين بوزارة الحقانية — منذ حملت زوجته — مكتب سعادة الوكيل، رئيسه الأعلى، ويرى نفسه، أو يرى ابنه، في صورة سعادة الوكيل.٦٠
وعلى النقيض من هذا الترابط الأسري، بدءًا بقسوة الأب التي تضمر حبًّا ورحمة، وانتهاء باستسلام الأم الذي يحفظ للبيت تماسكه، مرورًا بمشاعر الأبناء وتصرفاتهم الجادة اللاهية العابثة الخائفة في آن معًا، فإن أسرة يونس في «الشارع الجديد» — لغير سبب — تعاني التفكك القاسي الأليم. فعندما تدخل زهيرة على أمها وهي تعاني المرض، تحاول أن تُظهِر الوله والاهتمام، وتبالغ في إظهار شعورها لتؤكد لأمها رقة مشاعرها. ولحظة وفاة الأم تصيح الابنة «لتُسمِع الجيران، ليشهدوا لها بالبر والوفاء: ليتني فديتك يا أمي … ليتني مت قبلك.» الأمر نفسه بالنسبة للأب — يونس — الذي اشتد عليه المرض، فوقفت بناته الثلاث حول الفراش «يتظاهرن بالجزع، ويبالغن في إظهار الالحَبَرة.» وبعد وفاته خفت عزيزة إليه، ودسَّت يدها في صدره، وأخرجت حافظة نقوده، وغيَّبتها في صدرها، ومدَّت زهيرة يدها في خفة إلى إصبعه تخلع منها خاتمه، وأخذت ثريا ساعته، وأسرعت كلٌّ منهن تأخذ منه ما تصل إليه يدها، كأنما كان يونس قتيلًا من الأعداء وجب سلبه، وكادت تنشب معركة بين الأخوات على الغنائم، لولا إقبال فاطمة وهي تنتحب، فخمدت الثورة في الصدور إلى حين. والواقع أنه لم يكن ثمة ما يبرر ذلك التفكك العائلي الرهيب الذي جعله الفنان بُعدًا هامًّا في أحداث روايته، اللهم إلا الضغوط الاقتصادية العنيفة التي لم تكن وقفًا على أسرة «الشارع الجديد» وحدها، وإنما كانت نبضًا لحياة الغالبية من الشعب المصري. ولعل ضغط الفنان على الحقد الذي يحكم تصرفات زوجات «الثيران»، وما يقابله من حب تجعله صفية أساسًا لعلاقتها بالآخرين، ثم إخفاق الزوجات في أن يجعلن من أولادهن شيئًا. ظلَّت العنابر هي الماضي والحاضر والمستقبل، بينما حرصت صفية على تعليم أبنائها حتى تخرجوا في الجامعة، واستطاعوا أن ينسلخوا عن بيئة العنابر تمامًا.٦١ لكن تلك نظرة خاطئة، لأن الضغوط الاقتصادية الحادة قد تخلق — بالفعل — حقدًا من الطبقات الأدنى في المجتمع على الطبقات الأعلى، فيصعب أن يكون ذلك الحقد قوامًا لحياة أفراد الأسرة الواحدة.

•••

الأسرة تقابلها Family باللغة الإنجليزية، وهي تقابل من الناحية السوسيولوجية معيشة رجل وامرأة، أو أكثر، معًا، على أساس الدخول في علاقات جنسية يقرُّها المجتمع، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات اجتماعية، وما يترتب على ذلك أيضًا من رعاية وتربية للأطفال الذين يأتون نتيجة لهذه العلاقات، والأسرة تتحوَّل إلى عائلة إذا انتقلت من حالة البساطة، إلى حالة تعقيد بوجود أكثر من جيل واحد فيها.٦٢ بتعبير آخر، فإن الأسرة جماعة اجتماعية، أو هي إحدى الجماعات الاجتماعية التي يتكوَّن منها المجتمع. بل إنها أهم هذه الجماعات، وهي تتكوَّن — في صورتها الأعم — من زوج وزوجة وأبنائهما. وعادة، فإن الأسرة الواحدة تتفتَّت إلى عدة أسر، البنت لرجلٍ في الخارج، والولد لامرأة في الخارج.٦٣ وقد كتب بتاح حتب في وصاياه: «إذا كنت رجلًا عاقلًا، فأسِّس لك بيتًا، واتخذ لك زوجة تحبها، وخذها بين ذراعيك. أشبعها واكسها وأدخل الفرح على قلبها طول حياتك، فمثلها مثل الحقل الذي يعود بالخير الوفير على صاحبه. لا تكن فظًّا لأن اللين يفلح أكثر من القوة، وانتبه إلى ما تريده، وإلى ما تتجه رغباتها إليه، وما تنظر إليه عيناها، وأحضره لها. وبهذا تظل معك، وتظل تحميك.» والمصريون مشهورون بكثرة الإنجاب، أو بالرغبة في كثرة الإنجاب.٦٤ يقينهم أن الرجل يتزوج حتى ينجب، فيخلد.٦٥ (كان يقين جابر محجوب أنه إن لم يتزوج في الدنيا، فسيتزوج من بنات الحور في الجنة (محمد جبريل، الصهبة، هيئة الكتاب، ٥٢)). الصلة بين الآباء والأبناء هي أن يرث الولد أباه، ويحمل رسالته من بعده، وإذا كنا سنموت يومًا، فسوف نحيا في أولادنا.٦٦ الأطفال زينة الحياة الدنيا، وهم دليل رجولة الزوج وخصوبة الزوجة، وبإنجابهم يكسب الزوج مكانة اجتماعية جديدة هي مكانة الأب، وتكسب الأم مكانة أخرى هي مكانة الأم. والمرأة العاقر — عمومًا — تعاني تدني المكانة، وسلبية النظرة إليها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إنجاب الأطفال — الأولاد بالذات — يحفظ لاسم الأسرة تواصله وامتداده، ويخلق «العزوة» والعصبية نتيجة لكبر حجم الأسرة، أو العائلة، ويضيف إلى الأسرة أدوات إنتاج جديدة، ويضمن للأسرة استقرارها، فالسهل على الزوج أن يطلق المرأة التي بلا أطفال، ومن الصعب أن يطلق المرأة التي أنجبت أطفالًا كثيرين. لذلك فقد اعتاد المصريون الإكثار من النسل. تلجأ الزوجة إلى كثرة الإنجاب حتى تشغل زوجها عن النظر إلى غيرها، فالمثل يقول: «قصقصي طيرك لا يلوف بغيرك.»٦٧ ومن تراث الفراعنة أن الكاهن الكبير بشرنبتاح حزَّ في نفسه أن زوجه أنجبت له ثلاث بنات، ولم تنجب له ولدًا، وكان يتمنى الولد، الذكر، الذي يتولى المسئولية من بعده، ويخلد اسمه، الابن الذكر هو الذي يحيي اسم أبيه، ويتولى دفنه، ويعنى بصيانة مقبرته.٦٨ ويقول الحكيم المصري آني لابنه: «اتخذ لابنك زوجة وأنت صغير، حتى تراه وقد اشتد وأصبح رجلًا. إن السعيد من كثرت محاسنه وعياله، فالكل يوقرونه من أجل أبنائه.»٦٩ هذه العبارات التي أوصى بها آني ابنه، هي ما يردده المسنُّون — حتى الآن — من وصايا للأبناء والحفدة، وفي تقدير الراوي أن «معظم الرجال لا يحب خلفة البنات.»٧٠ «البنات! قصف الله رقابهن، فهن مجلبة للعار والشنار، وليس من ورائهن إلا الخسارة والفضيحة، أما الولد فهو ولد لا يُعيَّر الإنسان به.»٧١ وتقول المرأة: كل الرجال يحلمون بالابن الذكر.٧٢ الرجل يجد في المولود الذكر ادخارًا للمستقبل، يوم يقعده الكبر فيعوله، أو يوم يموت فيرعى أمه وإخوته.٧٣ ويقول الأب في نفسه: «إنني لن أجد مَن يدافع عني عندما أشيخ، لأنني لم أنجب ولدًا.»٧٤ والمثل الشعبي يقول «اللي خلف ما متش»؛ أي إن من أنجب لا يموت. ويقول الشاب: «الولد ذكرى، الواحد لازم يسيب ذكرى في الدنيا.»٧٥ لذلك فإن المرأة (جحيم حارة الغريب) قد تلجأ إلى المشعوذين، خشية أن يطلقها زوجها، إن لم تأتِ له بالولد.٧٦ وكانت العادة أن الطفل/الصبي يظل في الحريم إلى السن التي يراها الأب مناسبة لضمِّه إليه في الطابق الأول من البيت، تُفرَد له غرفة بجوار غرفة أبيه في الطابق الأول، ويضم لمجتمع الرجال، فلا يصعد للطابق الثاني إلا إذا أوحشته أمه، أو طلبت هي.٧٧
إنجاب الأطفال الذكور بُعد أساس في الأسرة المصرية. ولعله أهم الأبعاد إطلاقًا، لا يختلف في ذلك ريف ولا حضر، ولا ارتفاع — أو تدني — طبقة أو ثقافة. الأطفال — الذكور بخاصة — زينة الحياة الدنيا، بدءًا بالحرص على الحامل من الحسد، والحرص على استكمال نمو الجنين، وكثرة الطقوس المتعلقة بالولادة وما بعد الولادة، كالمشاهرة والسبوع والختان وغيرها.٧٨ وفي الموروث الشعبي: لبِّس ابنك خلاخيل في رجله تحفظه من العين. وضع الخمسة وخميسة على صدر العيل يحفظه من الحسد. تخريم ودن العيل يخليه يعيش. اشحتي على عيلك عشان يعيش. دقِّي لابنك عشان يعيش. لبِّس حلق في ودن ابنك عشان يعيش.٧٩ ويشير الرجل إلى الرباط المقدس — يعني الأبناء — حين تهدد الزوجة بترك البيت.٨٠ وتسأل سمارة (سمارة الأمير) الأمير مهدي باشا جلال: متى ماتت زوجتك؟

– إنك تتحرين عني، حسنًا، منذ عشرين عامًا.

– ولم لم تتزوج؟

– حزنًا عليها وعلى نفسي، لأن الله لم يكتب لي الإنجاب.

– كنت تود أن يكون لك ولد؟

– إني أسلم بمشيئة الله!٨١
الإنجاب دليل على رجولة الزوج: «اللي يختشي من بنت عمه ما يخلفش منها عيال.» وهو — في الوقت نفسه — دليل على أنوثة الزوجة وقدرتها على الإنجاب. وكلاهما يكسب — بالإنجاب — قيمة اجتماعية جديدة، هي الأبوة بالنسبة للزوج، والأمومة بالنسبة للزوجة. ومكانة الأب يترتب عليها حقوق وواجبات، ومكانة المرأة يترتب عليها كذلك حقوق وواجبات.٨٢ منطق الزوجين أن لكل مولود رزقه.٨٣ وعندما أخفق الرجل في الإنجاب من زوجته الأولى، والثانية، قرر أن يتزوج ثالثة لكي تنجب له الولد الذي يريده.٨٤ وبالطبع، فإن تكرار الإنجاب يؤكد فحولة الرجل، كما يؤكد شباب المرأة الأم، بمعنى أنه لم يدركها سن اليأس بعد.٨٥ وثمة مَن تجلس على كرسي الولادة — بعد أن تلد — لكي تُرزَق سريعًا بطفلٍ جديد، بل إن بعض النساء يلجأن إلى وهب أنفسهن لغير أزواجهن من أجل إنجاب الأطفال. ويتحدث الراوي عن المرأة التي فني جمالها وأصابها «ما يصيب كل امرأة في مصر بسبب الإسراف في النسل من ذبول الشباب في عنفوانه، وتشوُّه ملامح الحسن في ربيعه.»٨٦
وإذا كان المجتمع المصري يتسع للزوج غير القادر على الإنجاب، فإن موقفه يختلف بالنسبة للمرأة العاقر. وعندما يقترن الزوج بثانية، فإن دعوات الأولى ضدها تتركز في عدم الإنجاب «لا تطول ولا تنول ولا تُداوى ولا تنادى طول عمرها.»٨٧ فإذا طال ترقُّب المرأة للإنجاب فإنها قد تواجه «المعيرة» بعدم الخلفة.٨٨ وهو ما حدث عندما تأخر نور وزوجه عن الإنجاب، فقد اتخذ منه أصدقاء المقهى مادة للتندر والسخرية.٨٩ وكان ناس الصهبة يمارسون طقسًا فريدًا، بهدف أن تنجب المرأة. كل من يشق عليها الإنجاب تقف في المزاد الصوري، من يرسو عليه المزاد يرفع نقابها، فيزول العقم.٩٠ وتتوضح قيمة الإنجاب في إقدام متولي على الزواج من ثانية لتأتي له بالذرية، بعد أن عجزت زوجه قمر عن الإنجاب.٩١ والنصيحة التي يتلقَّاها مَن تتأخر زوجه عن الإنجاب عمومًا هي «تزوج إذن من أخرى لتأتي لك بالعيال.»٩٢ بل إن الزوجة العاقر ربما تحاول تزويج زوجها من أخرى، كي تنجب له الذرية الصالحة.٩٣ وقد وافقت الزوجة نعمات على أن يتزوج الشيخ محمود من ثانية، ولأن الزوج رفض فقد دفع ثمن رفضه لما استولى شقيق زوجته على كل أمواله، ومات الشيخ محمود كمدًا.٩٤ وعندما يتزوج الرجل على امرأته، فإن دعوات الزوجة الأولى تتركز في ألَّا تنجب أطفالًا.٩٥ ويتحدث رضوان أفندي إلى نفسه بالقول: «عاقر هي، ما أبغض المرأة العاقر إلى قلبي! شجرة لا تنبت ولا تخضر، سائرة إلى الجفاف بلا ربيع لها. لا تتجدد، ولا تتجدد الحياة فيها، فالحياة حولها طريق إلى النهاية، طريق لا ينيره أمل من طفل ولا ابتسامة من طفلة، ولا وعد من الحياة أن لي في الحياة من بعدي وجودًا من أطفالي، أنا جذورهم وهم الفروع، مثلما كنت فرعًا لجذور من قبلي. إنني بزوجتي العاقر قد أوقفت الحياة، لن تتجدد وتسير وتزدهر، كأني كتبت على هذا الجزء الذي أمثله من الحياة: ينتهي بانتهاء صاحبه. أنا في الحياة فناء، أنا نهاية شجرة بدأها آدم ورعاها أجدادي على مر الأجيال، فهي قائمة مزهرة منتِجة باقية، حتى إذا بلغتني توقفت عن الازدهار والتجديد، فهي إلى الفناء تجف كلما مر بها يوم، لا نماء لها ولا أمل في النماء.»٩٦ وقد صحب الشيخ زوجته — ذات صباح — إلى دكان الشيخ سعيد المأذون الشرعي ليطلقها. وسُئل الشيخ: لم تريد أن تفارق زوجتك؟ فقال ببساطة: هي ولية طيبة، وما أنكرت منها شيئًا منذ سحبتها، وقد قضيت معها ثلاثة أشهر في غاية الانبساط، غير أنها لم تحمل في هذه المدة. وما أريد بالزواج إلا تحقيق ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.»٩٧
واللافت أن نسبة المواليد في الأسر المصرية هي — في الأغلب — نسبة عكسية طبقيًّا، فأفقر الطبقات أكثرها عددًا، والباعث معتقدات يدين بها الرجل والمرأة على السواء، فالرجل يؤمن بزيادة النسل مراعاة لنصيحة الرسول : تكاثروا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة، والمرأة تدين بنظرتها إلى الرجل، وأنه مثل الطير الذي يحتاج إلى قص أجنحته — بكثرة الأبناء — حتى لا يستبدل أخرى بها، أو يأتي لها بضرَّة، فضلًا عما أشرنا إليه من أسباب. ويقول صفوت لصاحبه في الأوتوبيس: «تقول لمين إذا كانت الناس ما بتفكرش في حاجة إلا إنهم يخلفوا أولاد ويرموهم زي القطط والنمل في الحواري والشوارع.»٩٨
ولأن عدم الإنجاب مشكلة ملحَّة في الريف المصري، وفي الطبقات الأدنى بعامة، فقد أفرزت المشكلة بعض الظواهر السلبية، والسيئة، وفي مقدمتها اللجوء إلى الدجالين والمشعوذين وأدعياء الطب الشعبي. وقد حاولت خيرية أن تعالج العقم؛ زارت أضرحة الأولياء. لجأت إلى الحاجة وسيمة كي تفك عكوساتها. اشترت هدهدًا، وذبحته، وشربت دماءه. جلست تحت الكوبري، و«انخضِّت» لمرور القطار، مع ذلك فإنها لم تحمل، ولجأت إلى ارتكاب جريمة: اشترت رضيعًا لا تعرف أصله، كان ما يشغلها ألَّا تجعل زوجها يتزوج عليها.٩٩ أما الجدة خضرة، فقد نصحت المرأة العاقر أن تأكل كبد الحوت، أو أن تخطِّي من فوق سمكة الحوت إحدى وعشرين خطوة.١٠٠ وربما «طس» الأسياد المرأة بين فخذيها، فمنعوها من الحمل، بحيث يجب إرضاؤها.١٠١ لذلك فإنه على الأسرة أن تنظف المرحاض جيدًا، ثم يُفرَش بالرمل، ويُزيَّن بالأزهار والورود، وتُصب فيه زجاجة شربات، وأخرى من ماء الورد، وكيلو ملبِّس، ثم يُطلَق البخور، وتُقرَع الطبول، ويُحرَم الدخول إليه. فإذا أراد الزوج، أو الأبناء، أن يقضي حاجته، فإن عليه أن يلجأ إلى مرحاض الجيران. وتستمر هذه الطقوس أربعًا وعشرين ساعة، تنتهي بذبح خروف، شريطة ألَّا يطلع النهار على جزء منه.١٠٢ وحتى الآن، فإن النساء في الريف المصري يطفن بتماثيل الفراعنة، توصُّلًا إلى إنجاب الأطفال. الفلاح يحتاج إلى الأيدي العاملة في حقله، ويحتاج إلى العزوة والعشيرة في قريته، في حاجة إلى الأولاد.١٠٣

قد تمثِّل ولادة الطفل في المدينة عبئًا اقتصاديًّا؛ فهو يحتاج إلى التعليم والتأهيل لكي يستطيع أن يخرج إلى الحياة العملية. لكن ولادة الطفل في المجتمع الريفي تعني يدًا عاملة رخيصة؛ فالطفل يساعد والده في أعمال الحقل الصغيرة — مثل نقاوة الدودة — ثم ما يلبث أن يقوم بمعظم العبء قبل أن يجاوز عقده الأول. من هنا، يصل الخط البياني لنسبة المواليد إلى ذروة ارتفاعه في الريف، بينما يتضاءل هذا الخط — بصورة نسبية — في المدينة. كذلك فإن ارتفاع المستوى الاجتماعي والثقافي في المدينة يوازي الحد من النسل، فالزوجة العاملة، والزوجة المتعلمة — والاستثناءات واردة — أقل إنجابًا من الزوجة غير المتعلمة، أو غير العاملة. ذلك لأن شعور الأولى بالمسئولية الاجتماعية والاقتصادية نحو أطفالها، يفوق — بلا جدال — شعور الثانية. بالإضافة إلى أن الزوجة غير المتعلمة تريد أن تجعل زوجها مشدودًا إليها من البداية بقيود، فهي تحاول أن تلد كل سنة، باعتبار أن كثرة الأبناء — والأولاد بالذات — قيد يصعب على الرجل الفكاك منه. ثم يبقى عامل مهم هو عدم انتشار الكهرباء، وقلة فرص السهر، إن لم يكن انعدامها، ومن ثَم فإن فرص الاتصال الجنسي بين الزوجين تزداد — ونتذكر «أرخص ليالي» ليوسف إدريس. ولعله يمكن إضافة ليل القرية المبكر، وندرة وسائل الترفيه، إلى أسباب أخرى ساعدت — ولا تزال — على وسائل النسل ومنها: أن المرأة المصرية ولود بطبيعتها … تفشي الأمية، وما يتصل بها من التواكلية وقلة الوعي … تعدُّد الزوجات، وتنافس كل زوجة في الارتباط بالزوج بأكبر عددٍ من الأبناء … إباحة الطلاق، مما يعطي الفرص لزيادة النسب بصورة مكثفة … إنتاجية الطفل في الأسرة الريفية تدفعها إلى الحرص على الإكثار من الأبناء، قلة نفقات الأطفال في الريف، مقابلًا لإمكانية الإفادة منه في مدى أعوام قليلة، لا تجعل من إنجاب الأطفال — في الأغلب — عملية اقتصادية مرهقة … تفشي العصبية القبلية، وحرص كل عائلة على أن تكثر من ذريتها.

•••

ويتصل بتلك الظاهرة، أن البيئة كانت — ولا تزال — تعاني تفضيل الولد على البنت بشكلٍ واضح. لقد أعلن الطهطاوي أن «الله يحب أبا البنات الصابر المحتسب»، وأنه «ينبغي سرور الوالدين بالبنات كسرورهما بالبنين، بدليل قول الرسول : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى.» لكن الموالي المصري يقول: يا عين ابكي على اللي مات … وابكي على اللي خلفته بنات. ميلاد البنت يذكِّره بأحبائه الذين فقدهم، إنه مثل الموت سواء بسواء. وفي الحكاية الشعبية المصرية «الرجل الذي ولد بنتًا» ينجب الأب ولدًا، فيلفُّه في قماش من الحرير، ويحضره معه، فإذا أنجب بنتًا لفَّها في قماش من الخيش وتركها. والمثل العامي يقول «الولاد ذكرى»، و«الولاد قناديل البيت.» وكما أن البكاء على الأحياء واجب، فإن البكاء على «خلفة» البنات أوجب. وكان الأب يقول لنفسه: «إنني لن أجد مَن يدافع عني عندما أشيخ لأنني لم أنجب ولدًا.»١٠٤ ولم يقتصر الأمر على مشاعر الرجل وحده. ثمة أغنية ريفية تعكس مشاعر الأم الريفية عقب الولادة:
لما قالوا ده غلام
انشد عضمي وقام،
وجابوا لي البيض مقشر
وعليه السمن عام.
لما قالوا دي بنية
انهد ركن البيت عليه،
وجابوا لي البيض مقشر
وعليه السمن ميه.
وحين عرفت الجارات أن مولود الجارة ذكر، أطلقن المزيد من زغاريد المجاملة.١٠٥ ومع أن مجد الدين (لا أحد ينام في الإسكندرية) لم يكن لديه سبب محدد لتفضيله الذكور على الإناث، فإنه نشأ — مثل كل الفلاحين، وربما كل الناس — يحب الذكور ويتمنَّاهم.١٠٦ ويحيي الأب ابنته على أفعالها الطيبة: «يبارك لك يا بنتي … عوض عن الولد.»١٠٧ ومع أن الموروث الشعبي يذهب إلى أن «البنت مرزوقة» فإن الرجل أعلن أمله في أن تكون كل ذريته من الأولاد «عشان الولاد عزوة.»١٠٨ وكان أشد ما يعتز به الحاج عوضين (الممكن والمستحيل) أن زوجته أنجبت له خمسة أولاد ذكور.١٠٩
إن القيمتين الأساسيتين في حياة القرويين هما: المهارة في العمل الزراعي … القدرة على الإنجاب، وإنجاب الذكور بخاصة.١١٠ الأرض والأولاد هما المظهران المميزان لقوة العائلة، ومكانتها بين العائلات. الأولاد قوة عاملة مجانية، فهم يساعدون أباهم في عمله، يعزقون، ويشتلون، ويحصدون، ولا يتقاضون أجورًا.١١١ كان معظم الرجال في القرية المصرية يتزوجون حتى يفيدوا من عمل المرأة، ومن الأولاد الذين تنجبهم.١١٢ قليلة هي حكايات الحب التي يتقدم فيها الشاب لخطبة فتاة لمجرد أن كلًّا منهما أحب الآخر، ويهملان أعرافًا اجتماعية واقتصادية. وحين ولد يوسف عبد الحميد وظل صامتًا، تصورت الداية وفاته، فصرخت: «خسارة … ده ولد.»١١٣ ومع أن البنت — في المثل الشعبي — حبيبة أمها، فإن الولد يظل هو الأفضل للأب والأم معًا، إن قيمة الذكر الاجتماعية أعلى من قيمة الأنثى، لأنه هو الذي يضمن استمرار بدنة العائلة.١١٤ الولد — لا البنت — هو الامتداد الطبيعي لحياة المرء.١١٥ «الولد سند وظهر.»١١٦ وتقول الأغنية الشعبية «لما قالوا إنه ولد … اشتد ضهري واتسند.»١١٧ ولأن حسونة (كفر الهلالي) كان وحيد أمه، فقد كانت تخشى عليه من الحسد، وألبسته ثياب أنثى، ووضعت في أذنه قرطًا ذهبيًّا.١١٨ وكان الشيخ زكية رجلًا، سمَّاه أبواه بهذا الاسم، وثقبا أذنَيه، حتى لا يعرف الناس أنه ولد، فيموت من الحسد.١١٩ ولعل أشد ما يخيف الرجل الذي لم ينجب أبناء، ذكورًا، أنه قد يفارق الدنيا دون أن يترك خلفه عقبًا يحمل اسمه، ولقب عائلته بالتالي، ويخلد ذكره.١٢٠ فكرة الخلود هي التي تفرض على الزوج أن ينشد طفلًا ذكرًا، فالذكر يحمل اسم أبيه ويخلفه.١٢١ وظل محمد الشرنوبي إلى ما بعد بلوغه الستين، يقول: «لو كان لي ولد لعاش معنا، ولحمل أبناؤه اسمي. عائلة الشرنوبي ستندثر، آخر حلقة في العائلة، رجل في الستين، خطوتان والقبر.»١٢٢ وعندما يكون للبنت إخوة ذكور وأعمام ذكور، فإن ذلك يعطي اطمئنانًا إلى نوعية الإنجاب.١٢٣ وقد استبعدت أم نعمان عبد الحافظ من المرشحات لزواجه، بنت ابن بيومي البنَّاء لورودها من أصلاب أناس تقل فيهم خلفة الصبيان.١٢٤

ويتساءل الحاج والي: أهو حرصنا على أن يظل اسمنا من بعدنا؟ فيقول زين العابدين بك: وماذا يهم من بعدنا إن بقي اسمنا أو لم يبقَ؟

«– فماذا إذن؟ أي شيء عجيب في هذه المخلوقات الصغيرة الجبارة يجعلنا نحبها ونحرص عليها، ونتوق إلى أن نصبح آباء لها.

– لعلنا نحب فيهم الحياة يا حاج والي، فهم حياة جديدة، وإقبال الأطفال يشعرنا، أو هو يشعر الآباء أن الحياة ما زالت تستطيع أن تجدد نفسها.»١٢٥ البعض يرى في الأبوة انتصارًا على الموت، إنها تعني الامتداد والاستمرار. يقول الراوي (بعد الغروب) «وتسألني اليوم بعد أن غربت شمسي، ولم يبقَ لي من الحياة إلا آثار نور يرسلها الشفق وحده على أفقي، تسألني: هل نِلت كل ما تتمناه؟ فأقول لك: إلا شيئًا واحدًا أعده اليوم أعظم أمانيَّ جميعًا: الولد! الولد! وهل تتصور أنني أحسد «حامدًا» وأتمنى أن لو كان لي مثل حظه، حتى أسمع تصايح أولاده بين الحقول، وفي باحة الدار؟! معذرة يا صديقي، كأننا لا نفهم حقائق الأماني إلا في أخريات العمر! بعد ألا يبقى لنا من آثار الحياة إلا النور الذي يرسله الشفق وحده، أعني بعد الغروب.»١٢٦ حقق الراوي كل أمنياته، إلا أن الأمنية الأعظم — كما سمَّاها — كانت هي الولد، تلك الأمنية التي لم يتُح له أن يحققها. الأبوة انتصار على الموت، لأن حياة الأب ستستمر في أبنائه، وقد طال انتظار الرجل للولد، حتى أنجبت له زوجته ست بنات.١٢٧ ولأن الشيخ عبد الحليم كان بلا ولد، فقد اعتبر نفسه مقطوع الصلة بالحياة.١٢٨ وخضع السيد عبد المقصود لليأس من أن تنجب له زوجه الولد، فقرر أن يرثه إخوته، لأنهم أولى من الزوجة.١٢٩ وحين ماتت زوجة العمدة (الجبل) ظل حزنه عليها شديدًا: «كان ظني مريم تعطيني عيال. كان جصدى ما ينجطعش. اسمي ييجي على ضهر الدنيا. ما بجاش جصادي إلا الموت.»١٣٠ واللافت أن والد الطفل الذكر يقيم باسمه «وليمة مولود ذكر»، يدعو إليها الأقارب والأصدقاء، وتُقدَّم فيها ألوان الطعام والحلوى، فضلًا عن مضاعفة الحفاوة بالأم التي أنجبت ذكرًا.١٣١ وفي رواية «حواء بلا آدم» أقدم الزوج على تطليق زوجته، لأنها لم تلد له إناثًا، وهو يريد النسر الصغير.١٣٢ ورغم كثرة إنجاب أم سعاد للبنات، فإن زوجها ظل قعيد البيت، وترك لها مهمة السعي لإطعام الأسرة، فلما أنجبت مولودًا ذكرًا خرج هو للعمل بدلًا منها «وهي قاعدة مرتاحة في بيتها الغالية أم الولد.»١٣٣ وعندما كانت الأم حاملًا، كان الأب يخشى أن يأتي المولود الثاني بنتًا، لم يصرح مخافة الله، لكن قلقه تبدَّى بصورة واضحة. وحين أنجبت الأم ولدًا، لم يخفِ سعادته إلى حد ادعاء المرض لأول مرة في حياته، ليظل يومين كاملين في البيت، وملأت ضحكاته أرجاء البيت، بل لقد سمعته الأم يدندن!١٣٤ ويوصي الرجل زوجه على ابنه، وهو يفارق الحياة: إنه حياتي الثانية يا أم فلان، لا تفرطي في تربيته؛ إنه سند البنات.١٣٥ وعندما طال غياب الأب عن مدينته، بعد أن تلقَّى ما ينبِّئه بولادة زوجته لطفلة جميلة، قالت الجدة: ربما حزن لأنه لم ينجب ولدًا؛ كل الرجال يحلمون بالابن الذكر.١٣٦ وكانت حجة الزوج في تطليق زوجته أنها لم تلد له إلا إناثًا، وأنه يريد النسر الصغير!١٣٧ وقد واظب الأب على الإنجاب، وظل في انتظار الذكر، حتى أصبح لديه سبع بنات دون أن يأتي الولد.١٣٨ وحين رأى الرجل أصدقاءه يذكرون أبناءهم، في نغمة هادئة من الرضا، ويعوذونهم من العين بالخميسة الزرقاء من الخرز، اشتهى أن يكون له الولد الذي تمتد به حياته، وطلَّق امرأته لأنها لم تنجب له ولدًا، وتزوج امرأة ثانية.١٣٩ الأمر نفسه واجهته السيدة التي تصورت أنها قد احتفظت — إلى الأبد — بقلب زوجها؛ فمالها وفير، وجمالها لا بأس به، فضلًا عن أنها حاولت استرضاءه بكل الطرق، لكن الزوج هجرها أخيرًا، وطلقها، ليتزوج امرأة تنجب له طفلًا.١٤٠ وعندما أراد العمدة أن يزكِّي عن إبلاله من مرضه، فإنه أمر بجنيه كامل لمن تلد ولدًا، أما البنت فلها خمسون قرشًا!١٤١ بل إن السيدة التي تحمل — بعد أن أنجبت ولدًا — تُعلِن رغبتها في أن تلد — هذه المرة — أنثى، لكن المربية محبوبة تهتف: بنت يا ستي؟ لا قدَّر الله! تقول السيدة: ولماذا يا محبوبة؟ أنا عندي حسام. ألا يكفي ولد واحد؟ تقول المربية: لا يكفي أبدًا يا ستي، ولد يا ستي، إن شاء الله ولد.١٤٢ (ونتذكر المثل الشعبي من أمريكا اللاتينية «ابن مشوه خيرٌ من عشر بنات لهن حكمة بوذا») وتعبِّر زينب عن رفض حرص الرجال أن تلد زوجاتهم ذكورًا: «وماذا علينا إذا كانت ذريتنا بنات؟ هذا ليس عيبنا … إننا نلد ما يضعه الرجال فينا!»١٤٣
الحقيقة التي تضغط عليها كل تلك المواقف والكلمات، هي إيمان الإنسان المصري بالخلود في أبنائه، الذكور تحديدًا، ذلك الإيمان الذي يجد امتداداته في الأساطير الفرعونية. الإنجاب يحقق التواصل، من الموت تتخلَّق الحياة، ومن الجفاف تزهر الخضرة، والنهار يتبع الليل، والقمر يدخل المحاق، ثم يكبر ويكبر فيصير بدرًا. الرجل الذي يموت، لا يُجتث أصله، يبقى أبناؤه من بعد ليمدُّوا فروعه، ويعيش في أبنائه وأحفاده وذريته، أما الذي يموت دون أن ينجب ولدًا فهو يفنى، سيذهب هباء منثورًا.١٤٤ وبعد وفاة المعلم شوشة، استمرت الحياة في شخص ابنه سيد الدنك، الذي تربَّع على عرش أبيه بعد وفاة أبيه، في كشك الحنفية بدرب السماكين.١٤٥ ربما لهذا السبب تأتي الكثافة السكانية في الريف، والتي تتغلب — بصورة مؤكدة — على كثافة الحضر، والمدن بعامة. وكما يقول سلامة موسى فإن للرأي العام في إيثار الذكور على الإناث قوة تجعل أم البنات تحس كأنها موصومة، وتشتاق — صونًا لكرامتها — إلى أن تلد ذكرًا.١٤٦ الذكر المصري يحمل اسم أسرته التوجيهية (الأب والأم والإخوة والأخوات)، فإذا تزوج ورث هذا الاسم أبناءه وبناته، وهو المسئول عن الأسرة، وحقوقه أكثر من حقوق المرأة، فله من الميراث مثل حظ الأنثيين، ويمنع غير المقربين من الميراث، ومن حقه أن يتزوج إلى أربع زوجات، وله على المرأة حق الطاعة، وعلى الأسرة حق القوامة، وله كذلك حق الطلاق!١٤٧ وإلى جانب كل هذه العوامل، فإن تكاليف الأولاد أقل — بالضرورة — من تكاليف البنات، منذ الطفولة إلى ما بعد الزواج. وكان زواج الابنة الكبرى — أحزان مدينة — بمثابة كارثة حلَّت بالبيت، هذا ما اعتبرته الأم نفسها.١٤٨ وقد تأتي الخشية من إنجاب البنت خوفًا على البنت؛ الولد رجل، أما البنت، فربما يهينها زوجها.١٤٩ إن الابنة ستشق طريقها — بصعوبة — في مجتمع معقد لم تستقر فيه الأوضاع الاجتماعية.١٥٠ وكان المعلم سيد بائع الصحف يؤمن بأن الولد إن صلح أو فسد، فهو ولد لا يُعيَّر الإنسان به، بينما البنات مجلبة للعار والشنار؛ ليس من ورائهن إلا الخسارة والفضيحة.١٥١
مع ذلك، فإن هذه الظاهرة ليست مطلَقة. كانت نبوية تتمنى أن تكون إحدى بناتها صبيًّا، وإن كانت على إيمان بأن كل ما يجيء به ربنا خير.١٥٢ وكان الشاويش صقر يؤمن بأن الذرية قسمة ونصيب، رغم أن زوجه لم تنجب أولادًا.١٥٣ وعانت أم فكرات — على سبيل المثال — معيرة حماها لها بأنها لم تنجب سوى ثلاث بنات، وتسأل زوجها بقلق: إسماعيل … انت نفسك في ولد؟

– يعني إيه؟

– الحاج — والده — يعيِّرني أنني لم أنجب لك إلا ثلاث بنات.

ويفاجئها — ويفاجئنا — بقول: أبويا دائمًا يبحث عن أسباب للعراك والزعيق.

– وأنت يا إسماعيل … يضايقك أنك لم تنجب ولدًا؟

– ماذا جرى لعقلك يا نبوية؟ بناتنا أجمل من ألف ولد … يا ولية صلي على النبي.

– أنا حامل يا إسماعيل.

– هذه هي المسألة، ليتك تأتي ببنت رابعة حتى نغيظ أبويا.١٥٤

والمجتمعات العمالية بعامة، لا تفاضل في النظرة بين الولد والبنت، فمكانتهما تكاد تكون واحدة لدى الوالدين، أو أن النظرة — في أقل تقدير — ليست بالصورة القاسية التي هي عليها في الريف.

•••

الملاحَظ أن الأسرة الفردية التي تتكوَّن من زوج وزوجة وأبناء غير متزوجين يقيمون في مسكن واحد،١٥٥ قد حلَّت بدلًا من الأسرة المركبة، أي الأسرة التي تتكوَّن من أسرتين أو أكثر من الأسر الفردية، وتجمعها صلة القربى، ويعيش أعضاؤها في مسكن واحد.١٥٦ أسرة أحمد عبد الجواد، وأسرة أكبر أبنائه ياسين على سبيل المثال. ومنذ أواسط القرن العشرين، ونتيجة لعوامل مختلفة، منها نموذج الشقة الذي تحدد سكنًا للأسرة المصرية في عمومها، وميل الأبناء إلى الاستقلال، وعمل أفراد الأسرة في وظائف متباعدة في أمكنتها، وزحام المدن، فإن العائلة تتألف من الأقارب الذين ينتهي نسبهم إلى جد واحد، يرجع إلى الجيل الثالث في خط الذكور. أما الأسرة، فهي أصغر الوحدات الاجتماعية في إطار القرابة، وتتألف من الوالدَين والأولاد غير المتزوجين الذين يقيمون في مسكن واحد.١٥٧ ثمة مَن يرى في الفرد في الصعيد، وفي الريف بعامة، عائلة، بينما الفرد في الحضر نفوذ اجتماعي وعلاقات، بصرف النظر عن العائلة التي ينتمي إليها. أما الأسرة، فإن التعريف العلمي لها أنها «مجتمع صغير متعدد الأفراد، وذو مصالح مشتركة، فكان لا بد من أن يقوم فيها واحد من أفرادها لتكل إليه أسرة إدارة شئونها، هو رب الأسرة.»١٥٨ وكان يقين المصريين القدامى أن المرأة هي «الجذر الحقيقي للأسرة».١٥٩ وكانت طاعة الزوج لزوجته في وادي النيل — كما يقول ديودور الصقلي — من الشروط التي تنص عليها عقود الزواج. وقد أعطى القرآن الكريم الرجل حق قيادة الأسرة في قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وهذه «القوامة» هي ما تأخذ به الآن معظم القوانين الأوروبية؛ ذلك لأن الرجل هو الذي ينهض بأعباء المجتمع، وأعباء الأسرة كذلك. أذكِّر بقول لونا في مسرحية «أعمدة المجتمع» «إن مجتمعكم مجتمع رجال»، و«إن مجتمعكم أعزب الروح.» الأب في النظرية الفرويدية رمزٌ للأنا العليا أو الضمير، وهو الصورة العليا للسلطة الرادعة التي تندرج تحتها القوانين والأعراف والعادات والقيم والمثل والتقاليد، والأسرة المصرية أبوية Patriarchal (كان الحاج إمام يمنح أبوته لكل مخاطب، ليفوز منه بما تقتضيه الأبوة الفقيرة من عطف ومعونة).١٦٠ والذكور في كل أسرة هم المسئولون عنها، وللذكر المصري وظائفه التي لا تؤديها المرأة مثل المشرِّع والقاضي وعالِم الدين (شخصية الأب، سيد الرحيمي، في الطريق تمثل الحرية والكرامة والسلام). وقد اغتمَّ الأب حين أنجبت له زوجته بنتًا، ثم اغتمَّ ثانية حين أنجبت له الزوجة بنتًا ثانية، فلما أنجبت ذكرين فرح بهما، وصارت الأم هي الأثيرة لديه بين زوجاته.١٦١ وقد يكون عدم إنجاب الأطفال الذكور سببًا في الطلاق، وهو ما فعله الرجل حين طلق زوجته الأولى، لأنها لم تنجب له ولدًا، وكان يشتهي الولد ليستكمل به حياته.١٦٢

•••

والملاحَظ أن نسبة الأولاد المقيمين مع الأسرة من أقارب الزوج، تفوق نسبة أقارب الزوجة. مرد ذلك — في الأغلب — إلى غلبة سلطة الزوج في بيته، مما يجعله يرضى بإقامة أقارب له معه، فضلًا عن أن الرجل يتحمَّل — في العادة — مسئوليات أسرته، حتى بعد زواجه، وخاصة إذا كان والده متوفًّى، وكان أكبر إخوته، والإناث بخاصة.١٦٣
إن الرجل هو المتبوع، أما المرأة فهي التابع. المرأة — في جميع مراحل عمرها — تابعة للرجل، سواء كان أباها أو أخاها أو زوجها، حتى الابن أو الخادم الذي يرافقها لبعض شئونها في الطريق هي تابعة له، لا تستطيع أن تمضي خطوات بغير إرشاده وتوجيهه وعونه (ونتذكر أمينة لما غادرت بيتها في صحبة أصغر أبنائها — كمال — لزيارة الحسين!). فإذا سار الرجل في الطريق، فإن المرأة تسير وراءه، ومن الشتائم القاسية أن يُواجه رجل بالقول: أنت مرة!١٦٤ وعندما كانت الزوجة تزور أبويها، فإنها كانت تتعمَّد — باستمرار — أن تصل إلى القرية بعد الغروب، حتى لا يظن الناس أنها «غضبانة» من زوجها.١٦٥ بل إن الأمثلة الشعبية تحدد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وتؤكد على قيمة الرجل في حياة المرأة إطلاقًا: ضل راجل ولا ضل حيط … ما لها إلا راجلها … أخدوا جوز الخرسا اتكلمت … أقل الرجال يغني النسا … خدي لك راجل يبقى لك بالليل خفير وبالنهار أجير … إلخ. الراوية في «مآذن دير مواس» تقول إن نساء ذلك العصر كن يهبن أزواجهن، ويشعرن نحوهم بنوع من التقديس، قد يصعب على أبناء عصرنا فهمه.١٦٦ إن تميز الرجل عن المرأة يتوضح في مجرد القول «أنت رجل، فلا ينبغي عليك أن تفعل هذا ولا تفعل ذاك.» إنه رجل، ولأنه رجل فإن كل تصرفاته يجب أن تكون محسوبة. وثمة رأي أن المرأة تشعر بالإعجاب لتفوق الرجل وقدرته على السيطرة، وعجزها — في الوقت نفسه — عن مقاومته والحصول على حقوقها، ولا تجد — مقابلًا لشعورها بالتحيز ضدها — إلا إساءة معاملة بنات جنسها، وهو ما قد يتمثَّل في التمييز بين الجنسين من أطفالها، فهي تفضِّل الذكور وتضطهد الإناث، بل إنها تحرص على المعاملة القاسية لزوجة الابن متى تقدمت في السن.١٦٧ ونتذكر مشاعر أمينة (بين القصرين) وهي تراقب تمرد زينب — زوجة ياسين — على زوجها.
قد تضطر المرأة — لظروف الحمل والرضاعة — إلى البقاء في البيت. أما الرجل فهو يتولى — في كل الأحوال — توفير احتياجات أسرته المادية وغير المادية. العمل — خارج البيت — يجب أن يقتصر على الرجل «ما خلقت للهَمِّ أعوادكن، إنما خلقت له كواهل الرجال.»١٦٨ وكانت مهمة المرأة في نظر عبد التواب أفندي — وهو متعلم كما يبدو من اللقب! — أن تطبخ له أكله، وترتب له فراشه، وتقف نفسها وحياتها وأوقاتها على خدمته وحده، ولا تخرج من بيتها إلا بأمره.١٦٩ بل إن الراوي (خيانة في رسائل) يصف الحياة في قنا بقوله: «إني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله منه أمنا حواء، لا يقع بصري على وجه امرأة قطُّ، وإن كنت أرى — أحيانًا — بعض الأصدقاء يشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة، تسير كعمودٍ من الدخان الكثيف، وأسمعهم يقولون: انظر إلى هذه المرأة!»١٧٠ ويعبِّر الرجل عن موقعه في الأسرة، وموقع المرأة في المقابل، حين تسأل السائحة الأجنبية العم حسن — وكان كثير الزواج والطلاق: ألم تطلقك ولا واحدة من زوجاتك؟

– واحدة مرَة تطلقني (مشيرًا إلى نفسه) أنا … وهي المرأة تطلق؟

– ولماذا لا تطلقك المرأة إذا استاءت من زوجها زي ما هو يطلقها إن أزعجته عشرتها؟ أليست مثله إنسانًا يستاء ويرضى ويحزن ويفرح؟

إنسان مثله؟ — قال بتأففٍ وازدراء — دي واحدة مرَة، وتبقى مثله إزاي؟ الراجل يعمل زي ما يعجبه علشان راجل، إن خلَّاها ويَّاه خلَّاها، وإن طلقها برده كتر خيره.١٧١ وإذا كان آني — حكيم القرن السادس عشر قبل الميلاد — قد نصح ابنه بقوله: «احذر أن تمشي في طاعة أنثى، أو تسمح لها بأن تسيطر على رأيك»،١٧٢ فإن عبد المنعم (طلائع الأحرار) يحدد علاقة الرجل والمرأة، بأنها علاقة تملُّك وسيطرة، وقال في تأكيد: نعم، فالرجل لا يبغي من المرأة إلا أن يتملَّكها ويسيطر عليها.

– أهي أمة في نظره؟

– نعم، فهي تحتاج إلى سيد!١٧٣ وعندما أراد فكري أفندي (الحرام) أن يتزوج، فقد اختار واحدة تخدمه، لا امرأة تشاركه حياته، وكان يعتبرها شيئًا خاصًّا به، يجب ألَّا يطلع عليه أحد، ولا حتى نساء الآخرين.١٧٤ وكان كفافي أفندي يحتقر صنف المرأة، ويعتقد أنها لا تليق أن تكون جليسة الرجل، تحادثه وتكلمه محادثة التدلل والرفيق للرفيق، لأن الرجل — في تقديره — يفوقها عقلًا وذكاء وعملًا؛ وكانت تلك النظرة سببًا مباشرًا في أن تفر زوجته مع ابنه من زوجته السابقة.١٧٥ وقد جاهد مخيمر أفندي (الوشاح الأبيض) حتى لا تبين مشاعره الرافضة، والمفتشة، المرأة، تعلن رأيها في أمر نقل ابنته المدرِّسة بطنطا: كيف تخاطبه بهذه الجرأة وهي امرأة — أيًّا كان منصبها — ينسحب عليها ما على النساء من خضوعٍ للرجال.١٧٦ حتى ياسين (بين القصرين) الذي لم يكن يفرق بين سيدة أو آنسة أو غجرية أو خادمة أو جارية أو بائعة دوم، كانت صدمته قاسية في أمه التي أكثرت من الزواج والطلاق: «امرأة، أجل ما هي إلا امرأة، وكل امرأة لعنة قذرة، لا تدري امرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا، حتى امرأة أبي الطيبة، الله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن تكون لولا أبي.»١٧٧ ويقول الراوي (شمس الخريف): هل في الرجال بكر وثيب؟!١٧٨ ويقول سلامة (البيت الصامت) لدرية: انظري كم نحن محظوظون نحن الرجال، نقترف الآثام ونظل عذارى.١٧٩ وعندما يبدي الراوي (الأرض) خوفه من عناق وصيفة، تقول باستخفاف: «خايف من إيه؟ دا أنا اللي حقي أخاف أكتر منك! أهو أنت برضه اسمك راجل … والراجل ما ينفضحش!»١٨٠ كان رأي سيدة يهودية مولودة في مصر أن المصريين يعشقون المرأة اللعوب، لكنهم لا يتزوجون إلا المتحفظة!١٨١ ويقول سلامة (البيت الصامت): ما أعظم أن يكون المخلوق رجلًا! فالرجل — في تقديره — من حقِّه أن يأكل وحده، ويشرب وحده، ويلبس وحده، وربما يتلذذ وحده، فهو — أي الرجل — يمتلك بالنسبة للمرأة ما يشبه الحق الإلهي.١٨٢ ويقول الأستاذ الإمام إنه ما كان يواكل نساءه وأولاده في القرن التاسع عشر إلا الفقراء وأهل الطبقة السفلى من أهل القرية.١٨٣ ثمة آراء كانت تجد قوام الأسرة الزوجية على أساس سيادة الرجل، وهدفها إنجاب أطفال غير مشكوك في أبوتهم، حتى يرثوا ثروة أبيهم. ومن حق الرجل حل الرابطة الزوجية،١٨٤ بل إن بعض المذاهب الإسلامية ترى أن الزوج لا يسمح لزوجه بالزنا، لسببٍ غاية في السخف والغرابة؛ فهو لا يريد أن يمتزج دم أجنبي بدم أبنائه (هكذا!)، ولأن الزوجة — من ناحية ثانية — ملك له اقتناه، فهو لا يسمح بأن يشركه في مُلكه أحد غيره!١٨٥
وعندما أصيبت أمينة في حادثة خروجها لزيارة الحسين دون إذن من زوجها، فإنه قاوم ما نزعت إليه نفسه من عطفٍ وعفو. خشي أن تضيع — إن أقدم على ذلك — هيبته وكرامته وتاريخه وتقاليده جميعًا، فيفلت منه الزمام، وينتثر عقد الأسرة التي جعل من سياستها — بالحزم والصرامة — سبيلًا وحيدًا.١٨٦
والحق أن الزوجة والبنات والأبناء كانوا يسلمون بهذه السلطة ويقبلونها، وحينما يستغرق الإنسان مثل هذا الإحساس، تنتفي كل رغبة في المقاومة، أو حتى الغضب والسخط، وتحل محلها رغبة في المسالمة، ونوع من الرضا القانع. وكان البنات والأبناء، ومعهم الزوجة أو الأم، في مثل هذه الأسرة يشعرون أنهم تابعون، لا واجب عليهم إلا الطاعة، ولا مسئولية إلا أن يرضوا «السيد» أو «الإله الصغير» وكانت الأمور تسير مع هذا الوضع سيرًا هادئًا، مقنعًا للأب أنه على صواب، ومقنعًا للرعية، التي هي الأسرة، أن الأب أيضًا على صواب.١٨٧ وظل كمال — حتى أصبح رجلًا — يجد في أبيه قوة جبارة، يخافها ويحبها معًا.١٨٨ وحتى العشرينيات، أو الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الأب يدبر لمستقبل ابنته كل شيء، وما على البنت إلا أن تتزوج!١٨٩ وقد اعتاد الابن منذ طفولته، أن يحدِّث أباه باحترام، حتى لا يكاد يملأ عينيه من وجهه لكثرة ما تملأ مهابة الرجل نفسه.١٩٠ وفي بحث ميداني، ثبت أن «الأب» هو أشد ما يخيف الطفل المصري عمومًا، فقد بلغت نسبة الذين يخافون من الأب ٥١٫٩٦٪، بينما جاء الظلام والحشرات والحيوان والعفاريت بنسب أقل.١٩١ ومع أن فهمي (بين القصرين) — بشهادة الجميع — كان أكبر إخوته عقلًا وأنفذهم رأيًا، وله مواقف تدل على الشجاعة والرجولة، فإنه كان يفقد كل مزاياه إذا وقف بين يدَي أبيه، فهو لا يعرف — ساعتها — إلا الطاعة العمياء.١٩٢
فإذا أدركت الشيخوخة الأب، أشرك أكبر أبنائه في المسئولية، وربما مارس أكبر الأبناء المسئولية منفردًا، تحت إشراف غير حقيقي من الأب. وبعد وفاة الأب، يتولى الابن الأكبر السلطة المطلقة بصورة معلنة، وإن أشرك أمه — أحيانًا — في الرأي والمشورة: «إنه يقوم مقام أبيه، فهو سيد الأسرة، وصاحب الأمر والنهي فيها»١٩٣ تعبيرًا مؤكدًا عن المجتمع الأبوي.
إن صورة الأخ الأكبر تختلف — بتقدُّم الأعوام — عن الصورة التي يكون عليها في مرحلتَي الطفولة والصبا. وعلى سبيل المثال، فقد عانى والدا ميلاد (اللحم والسكين) تحرش الطفل بشقيقه الأصغر، وإيذاءه له، حتى يظل — وحده — موضع اهتمامه بوالديه.١٩٤ وكان أول ما فعله الأخ الأكبر (كأن) صبيحة موت الأب، أنه ضرب أخاه أول علقة «تحرش بي من الباب للطاق.»١٩٥ وتذكِّرنا قصة «زامر الحي» بحكاية «الأخوين» المصرية القديمة، التي يعتبرها دارسو الأدب أول قصة في التاريخ. الاختلاف في الظلم الذي حرك الأحداث في قصة «الأخوين»، وزلَّة الأخ الأصغر في «زامر الحي».١٩٦
ولعل أهم ما يطالعنا في شخصية الأخ الأكبر — كما يبين في العديد من الأعمال الروائية والقصصية — أنه إنسان مضحٍّ، تصل تضحيته إلى حد التنازل عن تطلعاته الوظيفية والعاطفية، والقبول بمستوى أدنى من الحياة، لقاء توفير المستوى الأفضل لأسرته، وبالذات لأشقائه الذين يصغرونه سنًّا. يقول الأخ الأكبر «أنا تعودت على العطاء، التضحية، لقد ضحيت حتى يكبر إخوتي، لأراهم أحسن مني.»١٩٧ إنه يعطي ولا ينتظر المقابل، لا ينتظر الأخذ، لا يستأثر بأي شيء، يهب النصيحة والرعاية والتضحية. حتى المستقبل ربما تخلى عنه للأصغر سنًّا، وربما لا يشترط صغر السن إذا كان الإخوة فتيات، لذلك عابت الأم على ابنها إقدامه على خطبة فتاة، دون أن ينتظر زواج شقيقاته.١٩٨ بل إنه قد يكتم مشاعر الحب من أجل أن يصبح شقيقه محبوبًا من الفتاة التي كانت تحبه هو. ثمة أحمد عاكف (خان الخليلي) — على سبيل المثال — الذي أحب شقيقه رشدي أكثر من أي شيء في الدنيا. وجد أحمد عاكف نفسه مضطرًّا إلى قطع دراسته، والعمل كموظف صغير، بعد أن أحيل أبوه إلى المعاش — فجأة — وهو في حوالي الأربعين، لإضاعة عهدة مصلحية، ثم تطاوله على المحققين الإداريين. أصبح أحمد عاكف مسئولًا عن الإنفاق على أسرته المكوَّنة من أمه وأبيه وأخويه الصغيرين، مات أحدهما، وعُيِّن الثاني — رشدي — بعد التخرج، موظفًا ببنك مصر. ولم يكن اضطرار أحمد عاكف إلى قطع دراسته، وقبول الوظيفة الصغيرة، قرارًا سهلًا، فقد امتلأت نفسه مرارة وكمدًا، ووقر في أعماقه أنه شهيد مضطهد، وعبقرية مقبورة، وضحية مظلومة.١٩٩ لكن سخط الأخ الأكبر ما لبث أن تحوَّل إلى حب دافق نتيجة لإحساسه المؤكد أنه هو الذي صنع شقيقه بيديه «غذَّاه بروحه، وربَّاه بماله، فكان الشقيق الأكبر، وكان الوالد الحنون، تمتع بطفولته، فحمله على يديه، وعلَّمه النطق، ودرَّبه على المشي، ورعى صباه، ووجَّه تعليمه، ثم اعتبر نجاحه — بعد ذلك — ثمرة كفاحه، ومفخرة جهاده، ومذكِّرًا بتضحياته دومًا.»٢٠٠ وحين خفق قلب أحمد عاكف — بعد سبات أعوام — حاول إقناع نفسه بأن من حقِّه الآن أن يكون محبًّا محبوبًا، ألم يؤدِّ واجبه كاملًا؟ فتلقَّى العبء عن والده، ونهض بأسرته، وكفل أخاه حتى صار رجلًا.٢٠١ فلما بدأ رشدي في نسج علاقة بينه وبين الصغيرة نوال، كان ذهنه خاليًا من أنه يوجِّه طعنة إلى السعادة التي كان يحيا فيها أحمد، شقيقه الأكبر.٢٠٢ وفي قصة «حياة للغير» ترك الوالد أسرة مكوَّنة من أرملة، أربعة أبناء، اضطر أكبرهم — عبد الرحمن — يذكِّرنا بأحمد عاكف — لأن يتناسى مرحلته السِّنية الباكرة، ويقبر مواهبه وطموحه لكي يهيئ لأسرته بعض الرعاية التي كان يوليها إياها الأب الراحل، وقنع — مرغمًا — بوظيفة بائسة لم يتصور أن تنتهي إليها آماله.٢٠٣ بل إن كرَّ السنين أنساه حتى الزواج، فظل أعزب تمامًا، وحين خفق قلبه — متأخرًا — لفتاة تصغره في العمر، وتوهَّم أنه سيبدأ حياة جديدة، فإنه ما لبث أن كتم مشاعره، وإن كان قد بدأ في تذوق سعادة جديدة، هي السعادة التي يحدثها بذل النفس، والعمل من أجل سعادة الغير، وتخرج أحد إخوته ضابطًا في مدرسة البوليس، وتخرج الثاني مهندسًا. ثم يأتي الأخ الطبيب ليطلب من أخيه أن يزوِّجه من سمارا — التي كان يحبها الأخ الأكبر — ويوافق.٢٠٤ ومع أن الأخ الأصغر — كما في خان الخليلي — قد يصل إيذاؤه لمشاعر أخيه الأكبر حدَّ حرمانه من الفتاة التي يحبها، فإن عبد الرحمن (حياة للغير) ظل يحب شقيقه الأصغر، وينظر إلى مستقبله كشيء جميل من صنع قلبه وكدِّه.٢٠٥ الأمر نفسه عندما عرف أحمد عاكف بحب أخيه لنوال، الفتاة التي علق بها قلبه، أصيب قلبه بنوبة وقتية أفقدته وعيه، لكنه لم يمت!٢٠٦
وبعد أن استغنت الدائرة (التذكرة) عن خدمات الأب، تدهورت صحته، فانقطع أكبر الأبناء عن مواصلة تعليمه ليعطي الفرصة لبقية إخوته.٢٠٧ ومع أن تفوق الأخ الأكبر كان يؤهِّله لدخول الجامعة، فإنه قنع بالوظيفة الصغيرة حتى يكون لأسرته شقة لائقة، أو بيت، أو فيلا.٢٠٨ كما انقطع خيري (ثم تشرق الشمس) عن الدراسة بعد وفاة والده، لتعليم أخويه. قال لنفسه: «إن كانت الظروف حكمت ألا أنال أنا الشهادة العليا، فلا بد أن ينالها يسري.»٢٠٩ واطمأن بأن مستقبله «معلق بمستقبل يسري ونادية.»٢١٠ ويقول لهما: «أليس جميلًا أن تجد في الحياة أخًا مثلي، ترك تعليمه لتعليمك أنت وأختك؟! أليست جميلة هذه الصلات القوية الرقيقة التي تصل الأخ بأخيه؟»٢١١ وفي قصة «أغلال» تأخذنا تلك المحاولات المضنية التي بذلها الشقيق، حتى يترك شقيقه الأصغر بنها، وحياتها المملة، ويعيش في القاهرة عيشة البهجة والائتناس التي يصبو إليها من زمن بعيد.٢١٢ وقد حاولت أسرة كامل علي (بداية ونهاية) أن تجاوز — بالتدبير — ظروف ما بعد وفاة العائل، واقتصار مواردها على معاشٍ محدد، ومحدود، فتخلَّى أوسط الذكور — حسين — عن دراسته، وعمل كاتبًا بمدرسة طنطا الثانوية «ينبغي أن يضحي أحدنا، ويرضى بالتوظف الآن، وهذا هو واجبي أنا، أنا أخوه الأكبر، وأنا صاحب البكالوريا. إني أدرك الحال على حقيقتها، وأعلم أنه من القسوة الشريرة أن أفكر في تكملة تعليمي؛ فلأرضَ بحظي، ولندع الله جميعًا أن يوفقنا إلى ما نريد.»٢١٣ كان استكمال تعليمه هدفًا غاليًا، لكنه توقف عن مواصلة التعليم بعد أن اختار شقيقه الأكبر حسن طريق البلطجة، ولم تعُد إلا فرصة واحدة للأصغر حسنين كي يستكمل تعليمه. وكان يغمره — حسين — في بعض الأحيان، شعورٌ تمتزج فيه السعادة بالحزن، بأنه الضحية الصابرة على الأقدار التي تجهمت لأسرته، وأنه الدرع الذي يتلقَّى الضربات دون أن يتحطم.٢١٤ بل إن حسين أحب بهية قبل أن يتقدم حسنين لخطبتها — ونتذكر أحمد عاكف وعبد الرحمن — فلما أعلن أخوه عن رغبته في التقدم إليها كتم حبه في صدره «وتألم كثيرًا، وصبر كثيرًا. تعلم أنه — بشيء من الحكمة — يمكن أن يعثر في دنيا الألم على مسرات عالية، وخرج من التجربة ساكن القلب، بسَّام الثغر … وتعزَّى، ونسي من زمن طويل.»٢١٥ ولا يخلو من دلالة أن حسن — الابن الأكبر لكامل علي (بداية ونهاية) — رغم ابتعاده عن حياة الأسرة، وانغماسه في حياة أخرى شريرة — كان هو الذي أسهم — بصورة مادية فعالة — في تحقيق حلم شقيقه الأصغر حسنين بأن يلتحق بالكلية الحربية، ويتخرج ضابطًا. ظل حسن على حبِّه للأسرة، وحرص على مدِّها بمساعدته كلما واتته الظروف، بل لقد خطر له في أثناء المعركة التي خاضها مع الزنجي في القهوة أن حظَّه وحظ أسرته يتوقفان على نتيجة المعركة، استمات حتى انتصر، وبدأ الحظ يبتسم له، ولأسرته بالتالي.
وعلى الرغم من أن الفارق بين الأخوين (سأعود متأخرًا هذا المساء) لم يزِد على عشر سنوات، فإن الأخ الأكبر ظل يعتبر الأصغر ابنًا له.٢١٦ ومع أن الأخ الأكبر (أيام الطفولة) كان يكبر الأصغر بعامين فقط، فإنه كان يعتبر نفسه المسئول عن الأسرة كلها، في أثناء مرض الأب، وبعد وفاته.٢١٧ وقد أنزل الابن الأصغر (الذكرى) أخاه الأكبر من نفسه منزلة الأب، بعد أن تولى من بعد رحيل الوالد كل أموره، وتعهَّده بالرعاية والمحبة.٢١٨ ويقول كمال (قصر الشوق) عن أخيه ياسين، إنه «متسامح ولطيف، لم يشعرني أبدًا بأنه أخي الأكبر.»٢١٩ فهو لم يحاول — على سبيل المثال — أن يلجأ إلى حقِّه كأخ أكبر، حتى إنه عرض على شقيقه الأصغر — كمال — حين التقى به مصادفة في حي الدعارة، أن ينال الصغير متعته أولًا، على أن ينتظر الأخ الأكبر في الخارج. واللافت أن المرأة ثروت (الضاحك الباكي) قذفت الأستاذ شكري المحامي بنظرة ازدراء رهيبة، لما صحب شقيقه الأصغر إلى البنسيون الذي يقضي فيه أوقات المتعة، وهمست في أذنه قائلة: يا لها من سقطة! قال الأستاذ: وإذا جاء وحده؟ قالت: تكون بريئًا من ذنبه، ويكون بريئًا من ذنبك. احترامك مفروض على أخيك الأصغر، وقد تطوَّعت للقضاء على هذا الإحساس. ثم هبه يعلم، فإن التجاهل يقوم مقام الجهل، فهيا انصرف في الحال وخذه معك!٢٢٠ ويبدو اتفاق الفنان مع هذا الرأي في قوله: إن الأخ الأكبر كالأصل، تطابقه النسخ المطبوعة على غراره، فإن كان فاسدًا تبعه إخوته في الفساد، وإن كان صالحًا تبِعه إخوته في الصلاح. والواقع أن كلمات الفنان تقوم على النصيحة، ولا تنطلق من واقعٍ معاش أو فني، لأن الظروف، أو البيئة، قد تدفع الإنسان إلى بعض الاختيارات التي تفرضها الظروف. لقد فرض حسين كامل علي (بداية ونهاية) على نفسه تضحية كالرهبنة، في الوقت الذي تحوَّل فيه شقيقه الأكبر — حسن — إلى بلطجي في درب المومسات. وسار الشقيق الأصغر حسنين في رحلة الوصولية، إلى حد القبول بالانتحار. وبقدر ما كان أحمد أفندي عاكف (خان الخليلي) ساذجًا في حياته العاطفية، مترددًا، هيابًا، كان شقيقه رشدي جسورًا مقتحمًا، يقبل على المغامرات العاطفية وألعاب القمار، غير هياب. حسبه أن يحيا اللحظة، ولا يعنيه ما يأتي من لحظات، لا يشغل باله شيء مما يدور في مجتمعه من أحداث. وفي المقابل من انشغال ياسين (بين القصرين) بمتطلباته الحسية، وانحداره كسيلٍ في مهاوي الأزبكية، فقد كانت الحركة الوطنية، والثورة، والتحرير، هي اهتمامات شقيقه الأوسط فهمي، وقد مات شهيد اهتماماته. وبعد أن خلف الأب (وسادة فوق القمر) أبناء صغار، اضطر الأخ الأكبر إلى وأد تطلعاته وأحلامه، وهجر الدراسة، والتحق بوظيفة صغيرة، كي يضمن للصغار حظًّا أدنى من الحياة.٢٢١ وحين اضطر الأخ الأكبر (الإدانة) بإلحاح الأهل، للتخلي عن مواصلة تعليمه العالي، والالتحاق بوظيفة صغيرة ينفق من راتبها على إخوته، قال لنفسه: «لقد تقرر مصيري، وأنا الشاهد الغائب، لا حول لي ولا طول، وكل ذنبي أني البكر، ولي العهد.»٢٢٢ وكان أول ما حرص عليه لبيب (الشارع الجديد) أن يعِين أسرته لتجاوز ظروفها القاسية، وصرف النظر بالفعل عن استكمال تعليمه الجامعي، وقبِل العمل في وظيفة صغيرة حتى يتكفل بنفقاته الشخصية ويزوِّد أسرته بجزءٍ من راتبه. من هنا جاء وصف الفنان له بأنه — في حياة أسرته — أشبه بأساس البيت، يخفض في الأرض، ويُوارى التراب، لتشيَّد عليه مبانٍ رائعة، تجذب الأنظار، وتهفو إليها قلوب الناس.٢٢٣ يقول الأخ الأكبر: «إنهم يتوقعون أن أفعل ما لن يفعله الآخرون، أن أكون ممثل العائلة في الأفراح والمآتم، أسافر بلادًا لأؤدي هذه الواجبات. عندما يمرض أحد يلجئون إليَّ لإحضار الطبيب، وعندما تتأزم الأمور المالية، يبحثون عني. لقد ضحيت حتى يكبر إخوتي، لأراهم أحسن مني.»٢٢٤ وقد تفعل الأخت الكبرى الأمر نفسه، من حيث الانقطاع عن المدرسة، والتفرغ لرعاية إخوتها. ذلك ما فعلته ثريا (ثريا) بعد وفاة أمها، فقد انقطعت عن الدراسة، وتفرغت لرعاية إخوتها السبعة.٢٢٥ ذلك ما فعلته أيضًا هدى (شيء صغير اسمه قلبي) عندما توقفت — بعد وفاة أمها — في منتصف تعليمها، ولزمت البيت، تدير شئونه، وترعى إخوتها الخمسة الصغار.٢٢٦ وكانت أنيسة (الأقدار) هي الأخت الكبرى التي أهملت استكمال تعليمها، وضحت بسعادتها المقبلة، وأضاعت فرص الزواج، وآثرت أن تشقى لتطعم أسرتها.٢٢٧ وعندما حصل الأخ الأكبر (أيام الطفولة) على الشهادة الابتدائية، توردت وجنتا الأخت الكبرى، وغمرت وجهها الفرحة، وظلَّت تعمل طول اليوم، وتدير بقدمَيها ماكينة الخياطة بحماس أكبر، وهي تدندن وترفع صوتها بأغنيات الحب بعد أن رأت ثمار كدِّها قد بدأت في النضوج.٢٢٨ وعلى الرغم من فداحة الفاجعة، فإن خيري (ثم تشرق الشمس) استطاع — بعد رحيل والده المفاجئ — أن «يرى نفسه عماد بيت، والتذ شعوره بأنه يجاهد من أجل أمه أن تعيش كريمة، وأخيه أن يتم تعليمه، وأخته أن تثقف، حتى يرضيهم ربهم بمن يضمها إلى بيئة فقيرة ذات أصل وثقافة وجمال.»٢٢٩ ولما نال يسري (ثم تشرق الشمس) شهادة البكالوريوس، أحس خيري أنه أدى واجبه، ورأى في شهادة أخيه ثمار سعيه.٢٣٠ فقد اتجه إليه بالقول: «من قال لك إنني لست طموحًا، إنني بغير طموحي هذا ما كنت أستطيع أن أواصل تعليمك وتعليم أختك، والإبقاء على أسرتنا في ستر ورضا. ألم يكن هذا جميعه طموحًا؟!»٢٣١ وفي المقابل، فقد يتضافر الإخوة ليوفِّروا لواحدٍ منهم — قد يكون أكبر — نفقات تعليمه في الجامعة.٢٣٢ وفي «صباح الورد» قرر الأخوان ألَّا يتزوجا حتى تتزوج الأخت الوسطى.٢٣٣ وقد رفض الشاب (النور) أن يتزوج حتى تتزوج أخته أولًا. كان هو قد أصبح شيخًا، ولا خير يُرجى منه، فرفضت أن تتركه وحده، وعاشت له.٢٣٤ ويقول الأخ الأكبر (صوت البحر): «لقد شغلت بهن — شقيقاته — ونسيت نفسي، حتى فاتني القطار.»٢٣٥ وكان شرط الشاب (ثلاثة رجال وامرأة) الذي خطب محاسن بنت عياد أفندي، أن يرجئ الزواج حتى يزوِّج أخته، فلما طالت عزوبة الأخت، ضجر عياد أفندي ومحاسن، ونقضا الخطبة.٢٣٦ أما الأستاذ حبيب (رأسان في الحلال) فقد قبِل مبدأ البدل في الزواج، أي أن يتزوج من فتاة، ويتزوج شقيقها من شقيقته، بعد أن أصبحت عانسًا.٢٣٧

•••

لكن العلاقة بين الأخوين — كطبيعة الأمور — لها وجهها الآخر. هل أذكِّرك بقصة الأخوين المصرية القديمة التي يُؤرَّخ بها كأول قصة في الأدب العالمي؟ في قصة رجل يشعر الأخ الأصغر أن علاقته بزوجة أخيه ستأخذ بُعدًا سلبيًّا، وأنه — ربما — يخون أخاه في زوجته، فيتصرف كرجل، ويبتعد عن البيت.٢٣٨ لكن الشقيق الأصغر لحلمي أفندي لم يفلت من إغواء زوجة أخيه، بعكس ما فعله الأخ الأصغر في قصة الأخوين، وفي «رجل». فقد تورط في علاقة آثمة مع زوجة أخيه، وانتهزا غياب الرجل منتدبًا — لمدة شهرين — في عمل بالإسكندرية. وتواصلت علاقتهما المحرمة، حتى باحت له ابنته بما يحدث من وراء ظهره، فطرد أخاه، وطلَّق زوجته، وقضى بقية عمره دون زواج.٢٣٩ وقد تبلغ الخصومة بين الشقيقين حدَّ القطيعة. كانا إذا التقيا في الطريق، تجنَّب كلٌّ منهما الآخر، وكأنه لا يعرفه، وبحيث حرَّض كلٌّ منهما زوجه وأولاده على تجنُّب الزوجة الأخرى وأولادها.٢٤٠ ويُعَد عبد الواحد تجسيدًا للأخ الأكبر الذي يستغل شقيقه، ويتبرَّأ منه في الوقت نفسه.٢٤١ ويقول شفيق لنفسه: «فقتل الغريب جريمة يحاسب المجتمع عليها، إذا اكتشفها، أما قتل أخيه فهو خطيئة، تحاسبه نفسه عليها، حتى وإن لم يكتشفه المجتمع.»٢٤٢

•••

إن انقياد الزوج لزوجه عيب ترفضه، ولا تقرُّه، التقاليد، وهو يقابَل بعقابٍ اجتماعي يتمثَّل في الهزؤ بالزوج من أصدقائه، والتندُّر به في مواجهته، حتى تتغيَّر صورة الزوج، ويثبت ذكورته. الزوج، الأب، هو صاحب الكلمة العليا في الأسرة، حتى لو كان عاجزًا. وكما أشرنا، فإن وضع الرجل في الأسرة يُعَد انعكاسًا لوضع الحاكم في المجتمع، والعكس صحيح. كان المجتمع المصري — وما زال — في بعض جوانبه — أبويًّا، تتركز سلطة الدولة فيه في يد الوالي أو الخديو أو السلطان، وتتحرك الحياة في المدينة أو القرية، من خلال سلطة المحافظ أو المدير أو الشيخ أو العمدة، ويخضع أفراد الأسرة/المجتمع لسطوته وإرادته. إنه — كما تقول لونا لبرنيك في مسرحية «مجتمع رجال»: مجتمع أعزب الروح!

إن رئيس العائلة هو — في العادة — أكبر أفرادها سنًّا، وربما أخلى مكانته لمن هو أكثر منه ثراء. وكلمة رئيس العائلة هي القانون الذي يجب على الجميع أن يخضعوا لأحكامه. وعندما يكون العم هو الخال في الوقت نفسه، فإن الناس يلتمسون بركته، لأن هذه الصفة قلما تجتمع لأكثر من فردٍ، في وقتٍ واحد.٢٤٣ مع ذلك، فإن علماء الاجتماع يذهبون إلى أن سلطة الأب في المجتمع تسود في الظاهر، لكن ما يؤثِّر في المجتمع، ويوجِّهه في الخفاء، وخلف الأستار، سلطة الأم والخالة والجدة.

•••

بدأت السُّلطة الأبوية تضمحل شيئًا فشيئًا، حلَّت محلها السلطة الأموية، أو سلطة الأبناء، وإن لم تندثر تمامًا. وهو ما تبدَّى في بعض مظاهر احترام الأبناء للآباء. وعلى سبيل المثال، فإنه مهما يكن الابن مدمنًا للتدخين، فإنه يمتنع في حضرة أبيه. وكان الراوي — فترة الأربعينيات من القرن العشرين — يدفع شقيقه الأصغر لحراسة الطريق، حتى ينبِّهه بسعلة إن رأى أباه مقبلًا.٢٤٤

إن السؤال الذي ألقته عالِمة الأنثربولوجيا مارجريت ريد: هل سيبقى نظام الأسرة؟ يصعب أن يطرح — لعشرات السنين في الأقل — في المجتمع المصري، لأنه يرتكز إلى موروثات كثيرة من قيم ومعتقدات وتقاليد.

هوامش

(١) الثابت — تاريخيًّا — أن لفظة «سيد» تُطلَق على الشريف من سلالة النبي ، بصرف النظر عن مؤهلاته أو مكانته الاجتماعية. إنه سيد بحكم انتسابه إلى آل البيت، لكن أحمد عبد الجواد لم يكن من الأشراف، فلماذا جعل الفنان اسمه مسبوقًا بلفظة «سيد»؟
(٢) بين القصرين، ٢٧٢.
(٣) أحمد أمين، حياتي، ١١.
(٤) محمود طاهر حقي، أخرجي، غادة حمانا، كتب للجميع، ١٩٥٢م.
(٥) بين القصرين، ٣٨٨.
(٦) عبد العزيز عمر ساسي، سيد القرية، من الأعماق، جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية، ١٩٣٣م.
(٧) بين القصرين، ٢٥.
(٨) المصدر السابق، ١٦.
(٩) المصدر السابق، ١٨٠.
(١٠) المصدر السابق ١٨٢-١٨٣.
(١١) عبد الحميد جودة السحار، الشبابيك المغلقة، صور وذكريات، مكتبة مصر.
(١٢) بين القصرين ٣٢٣.
(١٣) بين القصرين ١٢.
(١٤) عبد العزيز البشري، ١٣٤.
(١٥) بين القصرين، ٦٠.
(١٦) السراب، ١٥.
(١٧) زينب، ٣٠١.
(١٨) الحركة النسائية المصرية، ٩٥.
(١٩) نوال السعداوي، المرأة والجنس، ٣: ١١٠.
(٢٠) إنجليزي يتحدث عن مصر، ٣٣.
(٢١) صباح الخير، ١٩٥٦م.
(٢٢) بين القصرين، الرواية.
(٢٣) المصدر السابق، ١٨٧ وما بعدها.
(٢٤) المصدر السابق، ٢٥٢.
(٢٥) المصدر السابق، ٤٨٦-٤٨٧.
(٢٦) بين القصرين، ٢٦٥.
(٢٧) المصدر السابق، ٣٣٠.
(٢٨) المصدر السابق، الرواية.
(٢٩) المصدر السابق، ٤٧٧-٤٧٨.
(٣٠) المصدر السابق، الفصل الرابع والعشرون.
(٣١) ثروت أباظة، لقاء هناك، ٢٧.
(٣٢) إبراهيم عبد القادر المازني، صندوق الدنيا، دار الشعب، ٧٦.
(٣٣) اخرجي، بسمات ساخرة.
(٣٤) يوسف الشاروني، الزحام، المجموعات القصصية الكاملة، هيئة الكتاب.
(٣٥) يحيى حقي، عبد التواب أفندي السجان، الفراش الشاغر، هيئة الكتاب.
(٣٦) بين القصرين، ١٧٩.
(٣٧) شجرة البؤس، ٥٧.
(٣٨) حسين مؤنس، غريب، إدارة عموم الزير، دار المعارف.
(٣٩) محمد حسين هيكل، وفاء، قصص مصرية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى.
(٤٠) ثروت أباظة، ذكريات بعيدة، دار القلم، ٧٤.
(٤١) ثروت أباظة، لأنه يحبها، هذه اللعبة، دار القلم.
(٤٢) بين القصرين، ٢١٧.
(٤٣) المصدر السابق، ١٧٤.
(٤٤) المصدر السابق، ٢٥٤.
(٤٥) عبد الحميد جودة السحار، رجل البيت.
(٤٦) زقاق المدق، ١٢٦.
(٤٧) بين القصرين، ١٧٦.
(٤٨) الشارع الجديد، ١٧٧.
(٤٩) ثروت أباظة، الضباب، طبعة دار نهضة مصر، ١٤-١٥.
(٥٠) يوسف السباعي، السقا مات، الخانجي، ٣١.
(٥١) قصر الشوق، ١٨٤.
(٥٢) نحن لا نزرع الشوك، ٢٤٥.
(٥٣) المصدر السابق، ٢٤٦.
(٥٤) المصدر السابق، ٢٤٨.
(٥٥) المصدر السابق، ٢٨٧.
(٥٦) طه حسين، الأيام، دار المعارف، ٣: ٦١.
(٥٧) حاضر المصريين، ٥٧-٥٨.
(٥٨) الشارع الجديد، ٢٨.
(٥٩) السكرية، ٢١٣.
(٦٠) الغبي، ٢١.
(٦١) عبد الحميد جودة السحار، في قافلة الزمان، الرواية، مكتبة مصر.
(٦٢) القرية المتغيرة، ١٣٤-١٣٥.
(٦٣) محمد عبد الحليم عبد الله، الوديعة، خيوط النور، مكتبة مصر.
(٦٤) جميل عطية إبراهيم، ليزا، أحاديث جانبية، مختارات فصول.
(٦٥) السكرية، ١٥٣.
(٦٦) فتحي غانم، حكاية تو، روايات الهلال، ٢٩.
(٦٧) كامل سعفان، الإدانة، مطبعة حسان، ٨٢.
(٦٨) بيير مونتيه، الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة، ت. عزيز مرقس منصور، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ١٩٦٥م، ٧٠-٧٦.
(٦٩) الطابع القومي للشخصية المصرية، ٦٤.
(٧٠) محمود البدوي، الشيطان، عذراء ووحش، الكتاب الذهبي.
(٧١) عبد العزيز عمر ساسي، من الأعماق، جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية، ١٩٣٣م.
(٧٢) إقبال بركة، تمساح البحيرة، ميدلايت، ١٩٩١م، ٣٥.
(٧٣) عبد العزيز عمر ساسي، مصطفى، من الأعماق.
(٧٤) محمد عبد الحليم عبد الله، الكنز، الضفيرة السوداء، مكتبة مصر.
(٧٥) رجب البنا، الفرامل، ابتسامة صغيرة، هيئة الكتاب.
(٧٦) محمد الصاوي، جحيم حارة الغريب، دار الوفاء، ٢٠٠٥م، ٧٠.
(٧٧) كوثر عبد السلام البحيري، مآذن دير مواس، مكتبة الآداب، ١٩٨٠م، ١٤.
(٧٨) سيد عويس، حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٦٨-٦٩.
(٧٩) المرجع السابق، ٧٣.
(٨٠) أحمد حسين، واحترقت القاهرة، مطبعة مصر، ٢٢٧.
(٨١) نجيب محفوظ، سمارة الأمير، الحب فوق هضبة الهرم، مكتبة مصر.
(٨٢) حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٦٩.
(٨٣) يوسف الشاروني، آخر العنقود، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب، ٤.
(٨٤) شحاتة عزيز، الجبل الشرقي، هيئة الكتاب، ٤.
(٨٥) حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٧١.
(٨٦) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٥٥.
(٨٧) سيد عويس، حديث عن الثقافة المصرية، ٦٩.
(٨٨) محمد البساطي، بيوت وراء الأشجار، روايات الهلال، ١٦.
(٨٩) نبيل راغب، الكودية، مكتبة مصر، ٦٩.
(٩٠) الصهبة، ٨.
(٩١) شمس الدين موسى، الزيارة، أشياء قديمة، هيئة الكتاب، ١٩٩٢م.
(٩٢) محمد كمال محمد، الأحباب، البحيرة الوردية، دار المعارف.
(٩٣) ثروت أباظة، الضباب، دار نهضة مصر، الرواية.
(٩٤) ثروت أباظة، تقرير الطبيب، هذه اللعبة، دار القلم.
(٩٥) حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٦٨-٦٩.
(٩٦) ثروت أباظة، رضوان أفندي، هذه اللعبة، دار القلم.
(٩٧) صفحات من سفر الحياة، من آثار مصطفى عبد الرازق.
(٩٨) محمد سالم، ابن ناس، باب المجتمع، هيئة الكتاب.
(٩٩) صالح مرسي، الابن، الخوف، دار النشر المصرية.
(١٠٠) خيري عبد الجواد، ما زالوا في البحيرة، حرب أطاليا، هيئة الكتاب، ١٩٨٩م.
(١٠١) يوسف الشاروني، الرجل والمزرعة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب، ١٩٩٣م.
(١٠٢) المصدر السابق.
(١٠٣) سعيد عبده، الست امرأة الدكتور، شُرابة الخُرج، كتاب اليوم.
(١٠٤) الكنز.
(١٠٥) مجيد طوبيا، شئون عائلية، الحادثة التي جرت، دار الشروق.
(١٠٦) إبراهيم عبد المجيد، لا أحد ينام في الإسكندرية، روايات الهلال، ١٦٨.
(١٠٧) سعد مكاوي، السائرون نيامًا، روايات الهلال، ١٧٨.
(١٠٨) فخري لبيب، الآخر، كنز الدخان، هيئة قصور الثقافة.
(١٠٩) طه وادي، الممكن والمستحيل، مكتبة مصر، ٤١.
(١١٠) القرية المتغيرة، ٨١.
(١١١) صلاح عبد السيد، السفروت، العصفور، هيئة الكتاب.
(١١٢) يوسف إدريس، حادثة شرف، دار الآداب ببيروت.
(١١٣) الرجل الذي فقد ظله، ٤: ٧.
(١١٤) الثأر، ٣٩.
(١١٥) إبراهيم الكاتب، ١١١.
(١١٦) جمال الغيطاني، سفر، ثمار الوقت، كتاب اليوم.
(١١٧) بهاء طاهر، خالتي صفية والدير ٩١.
(١١٨) شحاتة عزيز، كفر الهلالي، هيئة الكتاب، ٧٧.
(١١٩) أحمد هاشم الشريف، الشيخ زكية، بنت السني، الكتاب الذهبي.
(١٢٠) علي أحمد باكثير، ليلة النهر، مكتبة مصر ١٠.
(١٢١) عباس خضر، الكلمة التي قالها الولد، العجوز والحب، هيئة الكتاب.
(١٢٢) عبد الفتاح رزق، إلا الدموع، ع الربابة يا زمن، الكتاب الذهبي.
(١٢٣) محمد مستجاب، نعمان عبد الحافظ، مكتبة مدبولي، ١٩٥.
(١٢٤) المصدر السابق، ١٩٥.
(١٢٥) ثروت أباظة، الضباب، دار نهضة مصر، ١٩٧٦م، ١٧-١٨.
(١٢٦) محمد عبد الحليم عبد الله، بعد الغروب، مكتبة مصر، ٢٤٠.
(١٢٧) عباس خضر، الكلمة التي قالها الولد، العجوز والحب.
(١٢٨) محمد زكي عبد القادر، الساخر الكاره، لست مسيحًا أغفر الخطايا، كتاب اليوم.
(١٢٩) محمد سالم، الوريث الشرعي، هيئة الكتاب، ١٩٨٢م.
(١٣٠) فتحي غانم، الجبل، روز اليوسف، ١١٨.
(١٣١) الفنون الشعبية، العدد ١٨.
(١٣٢) حواء بلا آدم، الأعمال الكاملة، ٥٩٢.
(١٣٣) جاذبية صدقي، الولد، الأهرام، ١٢/ ١١/ ١٩٩٣م.
(١٣٤) أحزان مدينة، ٩.
(١٣٥) كامل سعفان، حتى مطلع الفجر، القاهرة، ١٩٨٣م، ٩٣.
(١٣٦) إقبال بركة، تمساح البحيرة، ميدلايت، ١٩٩١م، ٣٥.
(١٣٧) محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم، مطبعة الاعتماد، ٣٢.
(١٣٨) محمد الحديدي، شبان هذه الأيام، كتابات معاصرة، ٢٧.
(١٣٩) إدوار الخراط، في ظهر يوم حار، حيطان عالية، ١٩٦٨م.
(١٤٠) حسن فتحي خليل، إغراء، مؤسسة المطبوعات الحديثة.
(١٤١) للزمن بقية، ٣٨.
(١٤٢) ثروت أباظة، قصر على النيل، ٨٨.
(١٤٣) الشارع الجديد، ٣٤.
(١٤٤) الحصاد، ٤٣٨.
(١٤٥) السقا مات، الرواية.
(١٤٦) تربية سلامة موسى، ١٣٨.
(١٤٧) حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٢٥٣-٢٥٤.
(١٤٨) أحزان مدينة، ٨.
(١٤٩) بين القصرين، ٣٠٢.
(١٥٠) زكريا إبراهيم، سيكولوجية المرأة، مكتبة مصر، ٣٤.
(١٥١) مصطفى، من الأعماق.
(١٥٢) عباس أحمد، البلد، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ٤.
(١٥٣) نعيم عطية، قضية الشاويش صقر.
(١٥٤) البلد، ٣٦.
(١٥٥) محمد عاطف غيث، القرية المتغيرة، دار المعارف، ١٣٥.
(١٥٦) حديث عن المرأة المصرية المعاصرة، ٢٨٤.
(١٥٧) الثأر، ٣٩.
(١٥٨) عصمت سيف الدولة، نموذج رب الأسرة كنمطٍ من أنماط الاستبداد، جريدة «الخليج» ٣٠/ ١١/ ١٩٨٠م.
(١٥٩) الهلال، أبريل ١٩٧٠م.
(١٦٠) حواء بلا آدم، ٣٥.
(١٦١) مجيد طوبيا، حكاية ريم الجميلة، كتاب اليوم، ٣.
(١٦٢) إدوار الخراط، عمل نبيل، هيئة قصور الثقافة.
(١٦٣) حسن الساعاتي، المسح الاجتماعي لدائرة باب الشعرية، مطبعة جامعة عين شمس، ٣٢.
(١٦٤) سيد عويس، من وحي المجتمع المصري المعاصر، المساء، ٥/ ٤/ ١٩٧٣م.
(١٦٥) إبراهيم عبد الحليم، أيام الطفولة، دار الفكر، ١٩٥٨م، ١٨.
(١٦٦) مآذن دير مواس، ١٥.
(١٦٧) هدى بدران، المرأة العربية والتنمية، اليقظة العربية، نوفمبر ١٩٨٥م.
(١٦٨) محمد عبد الحليم عبد الله، لقيطة، الرواية، مكتبة مصر.
(١٦٩) يحيى حقي، عبد التواب أفندي السجان، الفراش الشاغر، هيئة الكتاب.
(١٧٠) نجيب محفوظ، خيانة في رسائل، همس الجنون، مكتبة مصر.
(١٧١) مي زيادة: العم أبو حسن يستقيل، السياسة الأسبوعية، ٢٢/ ١/ ١٩٢٧م.
(١٧٢) عبد الباسط محمد حسن، مكانة المرأة في التشريع الإسلامي، عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الأول.
(١٧٣) طلائع الأحرار، ١٢٩.
(١٧٤) يوسف إدريس، الحرام، روايات الهلال، ٦٧.
(١٧٥) محمود تيمور، مشروع كفافي أفندي، الشيخ جمعة.
(١٧٦) محمد عبد الحليم عبد الله، الوشاح الأبيض، الرواية، مكتبة مصر.
(١٧٧) نجيب محفوظ، بين القصرين.
(١٧٨) محمد عبد الحليم عبد الله، شمس الخريف، مكتبة مصر، ١٧٥.
(١٧٩) محمد عبد الحليم عبد الله، البيت الصامت، مكتبة مصر، ٦٧.
(١٨٠) عبد الرحمن الشرقاوي، الأرض، دار الشعب، ١٩٧٠م، ٢٨.
(١٨١) نجيب محفوظ، عابرو السبيل، بيت سيئ السمعة، مكتبة مصر.
(١٨٢) البيت الصامت، ١٢٧.
(١٨٣) مذكرات الإمام، ٢٩.
(١٨٤) كاميليا عبد الفتاح، ملامح من شخصية المرأة المصرية، الفكر المعاصر، العدد ٥٠.
(١٨٥) الإباضية بين الفِرق الإسلامية، ١٩٠.
(١٨٦) بين القصرين، ٢٢٣.
(١٨٧) محمد زكي عبد القادر، سلطة الأب، الأخبار، ٢٦/ ٣/ ١٩٦٤م.
(١٨٨) قصر الشوق، ٤١.
(١٨٩) بهاء طاهر، الخطوبة، الأعمال الكاملة.
(١٩٠) يوسف جوهر، دماء بريئة، الحياة قصص، كتاب اليوم.
(١٩١) الأسرة وسلوك الطفل، ٤.
(١٩٢) بين القصرين، ٢٤٧.
(١٩٣) طه حسين، صفاء، الكاتب المصري، فبراير ١٩٤٨م. (والملاحَظ أن أبناء أحمد عبد الجواد انشغلوا بالدراسة، فالوظيفة، فقد اضطر إلى تصفية تجارته بعد أن بلغ الخامسة والستين، لا لشيخوخته فحسب، وإنما لأن جميل الحمزاوي كان قد استقال من عمله، فتضاعف الجهد على أحمد عبد الجواد بصورة لم يحتملها (السكرية، ١٤٣)).
(١٩٤) يوسف الشاروني، اللحم والسكين، الزحام، دار الآداب.
(١٩٥) يحيى حقي، كأن، سارق الكحل، هيئة الكتاب.
(١٩٦) محمود تيمور، زامر الحي، دار المعارف، ١٩٥٣م.
(١٩٧) سحر الموجي، درس المعرفة الأول، آلهة صغيرة، ميريت.
(١٩٨) إحسان عبد القدوس، قتلت عمتي، بنت السلطان، مكتبة مصر.
(١٩٩) خان الخليلي، ١٥.
(٢٠٠) المصدر السابق، ١١٢.
(٢٠١) المصدر السابق، ٩٨.
(٢٠٢) المصدر السابق، ١٢٦.
(٢٠٣) نجيب محفوظ، حياة للغير، همس الجنون.
(٢٠٤) المصدر السابق.
(٢٠٥) المصدر السابق.
(٢٠٦) خان الخليلي، ١٥٠.
(٢٠٧) عبد العال الحمامصي، التذكرة، للكتاكيت أجنحة هيئة الكتاب.
(٢٠٨) محمد الشاذلي، بيت وقيراطين، تعاسات شكلية، هيئة قصور الثقافة.
(٢٠٩) ثم تشرق الشمس، ١٢٠.
(٢١٠) المصدر السابق، ١٦٨.
(٢١١) المصدر السابق، ٢١١.
(٢١٢) محمود تيمور، أغلال، مكتوب على الجبين، مكتبة الآداب.
(٢١٣) بداية ونهاية، ١٧٩.
(٢١٤) المصدر السابق، ٢١٤.
(٢١٥) المصدر السابق، ٣٣١-٣٣٢.
(٢١٦) محسن خضر، سأعود متأخرًا هذا المساء، أصوات أدبية.
(٢١٧) إبراهيم عبد الحليم، أيام الطفولة، ٦١.
(٢١٨) نجيب محفوظ، الذكرى، الهلال، مايو ١٩٧٧م.
(٢١٩) قصر الشوق، ٧٧.
(٢٢٠) فكري أباظة، الضاحك الباكي، ١٠.
(٢٢١) عبد العال الحمامصي، وسادة فوق القمر، هذا الصوت وآخرون، هيئة الكتاب.
(٢٢٢) كامل سعفان، الإدانة، مطبعة حسان، ٦٥.
(٢٢٣) الشارع الجديد، ٣١١.
(٢٢٤) درس المعرفة الأول.
(٢٢٥) فتحي زكي، أمل، أزمة ثقة، هيئة الكتاب.
(٢٢٦) جاذبية صدقي، شيء صغير اسمه قلبي، شيء حرام، الكتاب الذهبي.
(٢٢٧) يوسف المعناوي، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٦م، ٦٥.
(٢٢٨) أيام الطفولة، ٢٣.
(٢٢٩) ثروت أباظة، ثم تشرق الشمس، ١٠٦.
(٢٣٠) المصدر السابق، ٢١٦.
(٢٣١) المصدر السابق، ٢٦٧.
(٢٣٢) خيري شلبي، قرافة السيارات، أسباب للكي بالنار، هيئة الكتاب.
(٢٣٣) نجيب محفوظ، صباح الورد، مكتبة مصر، ٣١.
(٢٣٤) محمود البدوي، النور، قصص قصيرة، المجلس الأعلى للثقافة.
(٢٣٥) محمود البدوي، صوت البحر، عودة الابن الضال، مطبوعات الشعب، ١٩٩٣م.
(٢٣٦) إبراهيم عبد القادر المازني، ثلاثة رجال وامرأة، مكتبة مصر، ١١.
(٢٣٧) يوسف الشاروني، رأسان في الحلال، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٢٣٨) محمود البدوي، رجل.
(٢٣٩) حسن كامل إسماعيل، حكاية زوزو، روز اليوسف، العدد ١٣١.
(٢٤٠) يوسف الشاروني، الظفر واللحم، الزحام، هيئة الكتاب.
(٢٤١) محمد صدقي، بذلة العيد، الأنفار.
(٢٤٢) الظفر واللحم.
(٢٤٣) سعد القرش، فنجان ملوخية، مرافئ للرحيل، هيئة الكتاب.
(٢٤٤) عبد الرحمن الشرقاوي، قلوب خالية، الكتاب الفضي، ٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥