السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين

الظاهرة التي تبين عنها غالبية الأعمال التي حاولت أن تناقش دعوة قاسم أمين في ضوء الظروف القائمة آنذاك، أنها خلصت إلى إدانة حاسمة وشجب لدعوة قاسم أمين. ففي رواية «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين» (١٩٠٢م) لمحمد كاظم الميلاني، أُعجب الأب بدعوة قاسم أمين، فأمر ابنته برفع الحجاب ومخالطة الرجال، ووهبها حرية الاقتران بمن تشاء. وكما يقول الراوي، فقد «كانت وحيدة سافرة الوجه، وكانت تجالس الرجال أمام والدها الذي كان يحرضها على ذلك» وكان والدها يطنب في هذه الأثناء على من جوَّز رفع الحجاب، ويقول: «نِعم الرأي رأيه، فقد نطق بالصواب. حقيقة أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق، فله ما لها، وعليه ما عليها من سابق وملحوق، فكيف نهضم حقها ونحرمها من الحياة نفسها، ونسجنها بين حيطان أربع كأنها من الرفاة؟ أليس هضم الحقوق من أعظم المظالم، وسلب ما للغير من أكبر الجرائم؟ رحمك الله يا فلان — يعني بالطبع قاسم أمين — حيث كنت السبب، ولولاك لما نالت ابنتي من حقوقها ما وجب.»١ ولكن الفتاة أساءت استغلال الحرية التي وهبها لها أبوها؛ يقبِّل المحب يدها، فتتأوَّه وتقول: أهكذا يكون حال العشاق؟ أهكذا يكون تقبيل المشتاق، بل قبلة الغرام لا تكون إلا بهذه الكيفية، وتقبِّله في جبينه بضع مرات، وتقول: هذا ما ورد في شروط المحبِّين (الرواية، ٩٠)، ثم تقبِّله — فيما بعد — في فمه.٢ واضطر خطيبها إلى فك خطبته منها، وإلى هجر حياتها تمامًا وهو يقول: لا كان التقليد ولا كنا لزمانه، ولا كان اليوم الذي يصرح فيه للمرأة فيه باختلاط شبانه، فأي شريعة جوَّزت هذا الاختلاط المشئوم؟٣ وبعث الشاب رسالة إلى والد الفتاة يعلن إنهاء علاقتهما وقال «ضرب الله على نسائنا حجابًا مستورًا، فخرقه أحد الناس — يقصد قاسم أمين — فأوسعتم الخرق باتباعكم إياه ظلمًا وفجورًا.»

قدم الراوي/الكاتب نفسه بأنه وُلِد من أب إيراني وأم مصرية، فضلًا عن انتساب الأم إلى ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب. قبل أن يتم المرحلة الابتدائية (١٣٠٥ هجرية) ألزمه والده العمل في الدكان الذي يملكه بسوق الطباخين، الموازي لشارع الميدان. كما يصفه الكاتب، أهم مركز تجاري للبضائع الشرقية: الأبسطة والشيلان وغيرها. لكن الكاتب فضَّل — بعد فترة — أن يتخذ لنفسه دكانًا ملاصقًا لدكان الأب، جلب إليه أنواعًا من الخردوات والأحجار الأصلية والتقليد والأصناف الإسلامبولية والإفرنجية، وعني بخاصة بلوازم النساء الحديثة. وإذا كانت الظروف قد أجبرت الصبي كاظم أن يهجر الدراسة، فإنه — على حد تعبيره — لم يترك المطالعة «ولا آن، وما كنت أسمع عن جمعية إلا وانضممت إليها، ولا عن طغمة إلا وأنالها، ولا عن جريدة إلا طالعتها، ولا مجموعة إلا ذاكرتها.» وثابر الراوي/الكاتب على القراءة في اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية «لم أترك فيها المطالعة عند الفراغ من الأشغال، ولا طلب الراحة من الأيام والليالي.» وظل الراوي/الكاتب في عمله، إلى اللحظة التي أمسك فيها القلم، وبدأ في كتابة روايته.

•••

ذات صباح، دخلت الدكان فتاة «كأنها حور الجنان»، تغزَّل الراوي في جمالها بأبياتٍ من الشعر — أشهد أنها من أجمل ما قرأت من موروث الشعر العربي! — كان يتبعها خادم وخادمة «حسب عادة أكابر السيدات» إذا خرجن لقضاء مهمة في الذهاب والعودة. وحين تكلمت لتطلب ما تريد أضاعت بعذوبة لفظها حواسه «ما سمعت بأفصح وأرق منه كلامًا، مهما اجتهد الأصمعي أو أبو تمام.» ظهرت الفتاة في حياته ومضت كأنها حلم — ونتذكر بياتريس في الكوميديا الإلهية! — وتحوَّلت — في اللحظة التالية — إلى شاغل له في الصحو والمنام. أخذت عليه حياته، فهو لا يفكر إلا فيها «ما بعدت عن ناظري إلا ووقعت في حيص بيص، واستولت عليَّ الدهشة حتى صرت لا أميز بين الخبيص والبصيص.»٤ وأمضى الشاب أيامه التالية متنقلًا بين الأسواق والدكاكين، يمني النفس بلقاء فتاته، حتى تصور أنها ليست حقيقة، وأنها «لم تكن من البشر، أو أنها مَلَك من السماء.» وبعد أن أوشك على اليأس من لقائها، لزم دكان جواهرجي في ممر بشارع الضابطة، جعله موضعًا يراقب منه حركة الطريق، لعله يلتقي بفتاته. ولما أخفق الشاب في العثور على فتاته في مدينة الإسكندرية، أزمع أن يترك المدينة إلى القاهرة، ربما قدمت المحبوبة منها لقضاء إجازة الصيف. وأقام في العاصمة ضيفًا على صديق له هو «عارف»، يقضي طيلة النهار في البحث عن محبوبته، ويتعرَّف — في الوقت نفسه — إلى مشاهد وتصرفات لا تهملها ملاحظاته.
روى الشباب لصديقه عارف حكايته منذ زارت الفتاة دكانه، واختفائها كأنها لم تكن، وعرض عارف على الراوي أن يصحبه إلى بعض الأماكن التي قد تتردد عليها فتاته للتسوق أو للنزهة. وكانت تلك فرصة للراوي كي يشاهد ويتأمل ويبدي الملاحظات، بل ويعلن انتقاده للعديد من الظواهر السلبية. رجح عارف أن تكون الفتاة «من وجوه المصريات»،٥ فزيارتها إلى الإسكندرية لقضاء إجازة الصيف. واقترح عارف على صديقه أن يلزم نقطة في شارع الموسكي الموصل للسكة الجديدة، أمام محل الخواجة سمعان، والذي تتردد عليه أعداد كبيرة من النساء لشراء احتياجاتهن. لزم الراوي الموضع الذي حدَّده صديقه، لم يتركه من الصباح إلى المساء، ثم صحبه عارف إلى الأزبكية للقاء بعض الأصدقاء، وطالت ملاحظات الراوي على ما شاهده من تسابق «في مضمار الملاهي وسوء المنقلب.»٦ واتجهت الجماعة بعد ذلك إلى أحد المسارح «مارستان من الصراخ والضحك والشخر والنخر والهذيان.»٧ وفي صباح أحد الأيام، ذهب الراوي إلى الموقع الذي حدَّده له عارف في ناصية الممر، فطالعته مواكب ما يُسمَّى بمولد الفار، وهي مواكب تمر من شارع محمد علي إلى مسجد السيدة نفيسة، تتمة للاحتفالات بمولد السيدة نفيسة. وينتقد الكاتب الزحام والتصاق الأجساد وحركات البغي والضلال والصخب والصياح … إلخ، ويتساءل الراوي: «أترضى السيدة الطاهرة — في يوم احتفال مولدها — بهذه الأفعال الشنيعة؟ كلا! وألف كلا! فما هي وجدُّها إلا غاضبان يتبرآن من هذه الأمور الفظيعة فندمت لرؤيتي هذا الموكب، وهذا الفجور، ورجعت آسفًا على حالنا وتقهقر الأمور. فلماذا ضعفت عقائدنا وقمنا نقلد الأجانب؟ ولماذا تركنا الفضائل واتَّبعنا المصائب؟ وكلما رأينا في الغربي عادة قبيحة تمسَّكنا بها وتجنَّبنا المليحة؟» … إلخ.٨ ثم يعيب الراوي اختلاط اللغة وما يحدثه من اختلاط الطباع، ويتأمل أحوال علماء الدين الذين ضاع احترامهم — على حد تعبيره — بين الناس، وأصبح لا هَمَّ لهم إلا الكسب والتداخل مع الأمراء والأعيان لحضور الولائم والأفراح.
ويصحب كاظم صديقه عارف إلى عرض لمسرحية هملت التي قدمتها جوقة إسكندر فرح، وقام ببطولتها «الشيخ سلامة حجازي الصييت الشهير.»٩ ويَدين الراوي الحضارة الغربية التي حاول البعض من الذكور والإناث تقليدها، فمن «شروط حضور التمثيل وسُننه المتبعة، أن تكون صدور السيدات عارية، ونهودهن بارزة غير ممتنعة»،١٠ «وكل فرد يشير لمن يغازلها وتغازله.»١١

ويتسلل طيف الحبيبة إلى نوم الراوي فيحلم بها. أصل ما حدث بعجائبية «ألف ليلة وليلة» و«حي بن يقظان» و«رسالة الغفران» وغيرها من كنوز التراث العربي. ذلك لأن الواقعية السحرية — بنت الثلاثينيات من القرن العشرين — كانت في علم الغيب بعد — ظهرت الحبيبة كسحابة رقيقة، أو كمَلكٍ، وانتفضت، فإذا هي المحبوبة المفارقة، سألها الوصال، فأرجأت كل شيء إلى حينه. وصحا من نومه.

وينصح عارف صديقه — إشفاقًا لما آلت إليه أحواله — أن يزورا حلوان «فاصرف عنك هذه الأحزان، وهيا معي سوية لنرى مدينة حلوان.»١٢ وتصادف عيناه الخادم الحبشي الذي رافق الحبيبة حين زارته في الدكان، وعرف منه أن أسرة الفتاة تقضي الشتاء في حلوان — كانت مشتى! — وتقضي الصيف في الإسكندرية، وأخبرها الخادم باسمها «وحيدة»، وهي وحيدة أبويها. عانت — لفترة — من مرض تهدد حياتها، ومن ثَم كان تنقلها بين الإسكندرية وحلوان. وتوسل كاظم بتجارته للحصول على موعدٍ من وحيدة ليعرض عليها ما قد ترغب في شرائه. اقتنى من السوق بضائع جميلة حدس أنها ستروق لفتاته، واتجه إلى الدار التي وصفها له الخادم الحبشي، «ثم دخلت لقاعة الاستقبال، فجيء بالقهوة في الحال، ولا أطيل الشرح، فبعد تناولها طلبتني السيدة للداخل، يعني لمحل الحريم الخلاصة والحاصل، فسرت، ولكن الأرجل كأنهما شعلة القنديل من كثرة الارتعاش إذا أصابه من الريح العليل، أو كأنني مريض مفارق الفراش، تغلَّب عليه الضعف فلا تحمله الأرجل من الارتعاش …»١٣ والتقى — أخيرًا — بحبيبة عمره. وتفاجئه الحبيبة بأنها أميل إلى ممارسة الحرية بموافقة والديها «وقد صرَّحا لي أن أستعمل التفرنج وأسير على هواي، وأخرج بغير مأزر وحجاب حسب مشتهاي، بخلاف ما يجب على ذوات الحجاب من فرائض العفاف، والتمسك بفضيلة التمنع من مخالطة الرجال والاستخفاف، والشاهد على قولي هذا طلبي مقابلتك هنا بتمام الحرية، مع عدم جوازها عند أغلب المسلمين المتمسكين بالقواعد الأصلية. فما هذا الذنب وهذا التعود مسئوليتهما عليَّ، بل الذنب كل الذنب على والدَي، لأنهما أباحا لي هذا التصرف وعوَّداني متابعته، بعدما استصوبا رأي فلان المنادي برفع الحجاب (قاسم أمين!) ولزوم مخالطة الإناث بالرجال.»١٤ ويتساءل الراوي — بينه وبين نفسه: كيف تبدأ الفتاة بإظهار حبها له قبل أن يبادئها هو بذلك؟ فلما رأت الذهول قد تملَّكه، قالت: «لا تستغرب حالتي، لأني أرى الصدق دائمًا يجب. وما خروجي لهذا الحد إلا من الصداقة، فلا أرغب في التملق ولا لي بها علاقة، فما أشعر بشيء في الضمير إلا وأظهرته، وما أرى من واجب إلا واستعملته، وهذه من بعض محاسن الحرية التي تعوَّدتها، وعن والدَي الشفيقين أخذتها.»١٥ واللافت أن الفتاة كانت تنفذ ما يطلبه الأبوان دون أن تقتنع هي بذلك، وأنها سارت في تلك الطريق «إلى الآن — بغير إرادة، ولكن نفسي مستقيمة، ولذلك تراني عند الخروج أتستر فوق العادة، ولو أردت الخروج عارية لما منعني أحد، بل كان والدي يسر سرورًا ما له أمد!»١٦ لقد حرَّض الأب ابنته على ما يمكن تسميته في ضوء المفهومات الأخلاقية — بعامة — بالانحلال؛ فهي تلتقي بضيوف أبيها، وتجالسهم، وتصادق الشاب الذي يستهويها، وتميل لتصرفات ربما أراد الكاتب من تجسيدها أن يصور التطبيقات السلبية لدعوة قاسم أمين، لو أن ذلك ما حدث! وفي المقابل، فقد وافق الشاب — أعماه الحب! — على أن الفتاة عنوان الفضيلة — هذا هو تعبيره! — والكمال من بعض شيمتها. وصارحته الفتاة بأنه لم يحاول وحده العودة للقائها بعد أن زارته في دكانه بالإسكندرية، فقد تقلبت بعدها «على فراش الأمراض والسقام» … «ولا تظن أن يوم حضوري بحانوتك كان أول مرة، بل من قبلها كنت أزورك خفية، وعلى اختفائي كنت مصرة، ولما تغلب عليَّ الغرام عند مبارحتي الإسكندرية تظاهرت — كما حصل — لأتمكَّن من مكالمتك طويلًا، وأستميلك أو أصادف الفشل، فرأيت بعض التأثير على محياك الباهر من أول مكالمة، فأملت خيرًا من البدء للخاتمة.»١٧ وأقسم الحبيبان على «دوام المحبة والعهد»،١٨ وقبَّل يدها، وقبَّلت جبينه، لأن «قبلة الغرام لا تكون إلا بهذه الكيفية.»١٩ ودعته إلى تناول الغداء معها، ولما أبدى إشفاقه من أن يصل والدها وهو في البيت طمأنته بأن أباها ليس له عليها طائل!٢٠ والتقى الشاب — في الليلة نفسها — بوالد وحيدة «اسمه محمد بك، وكنيته لا تفيد.»٢١ ولبَّى الشاب دعوة الرجل لزيارته في البيت الذي كان قد التقى فيه بفتاته، قبل ساعات قليلة. ودار حوار، تناول قضايا دينية واجتماعية، وثارت آراء وملاحظات.٢٢ وعندما بدت مشكلات الإسلام مختلطة ومتشابكة، فإن الراوي/الكاتب يشير إلى الإيرانيين الشيعة، وما يتميزون به من الاتحاد الذي ردُّوا به الأجنبي عن التدخل في أمورهم، ومنعه من السيطرة عليها. ويهبنا الكاتب — من خلال حديثه إلى محاوريه — ملامح من حياة الشيعة الاثني عشرية، وصولًا إلى أن اتحاد الإيرانيين وتمسكهم بالدين، دفع عنهم نفوذ الأجنبي، وخلص الوطن المسكين.
بعد أن غادر الأصدقاء بيت محمد بك، أصر الرجل على أن يستضيف الراوي «ومما يزيد اهتمامي بالرغبة في ضيافتكم، ما شرحته ابنتي عن سابق إحسانكم ومعرفتكم.»٢٣ ودخلت وحيدة الحجرة، وجلست «بقرب والدها أمامي وجهًا لوجه بكل حرية، وأخذت تسارقني النظر وتشير بإشارات معنوية. وكان والدها يطنب في هذه الأثناء على من جوَّز رفع الحجاب، ويقول: نِعم الرأي رأيه، فقد نطق بالصواب.»٢٤ وقد ناقش الشاب نفسه — بالطبع — في تلك الحرية التي تتمتع بها الفتاة بتأييد — أو بتحريض — من أبيها!٢٥ وتعدَّدت زيارات الشاب إلى بيت المحبوبة، وتعدَّدت كذلك لقاءاتهما خارج البيت، وأقامت أسرة محمد بك — الأب والأم والابنة — في بيت الشاب، بدعوة منه «وصارت العائلتان ببعضهما مولعة، ولكن والدتي لم تستحسن خطة تبرج وحيدة، وتأسفت كثيرًا على تمسكها بالبدعة الجديدة، وشاورتني باستقباحها لهذه البدعة الفاسدة، وأظهرت عدم جواز تأهلي بها إن بقيت على هذه القاعدة، فوعدتها بأني مهما كنت مغرمًا مفتونًا، فلا أقبلها حليلة ولو ذقت لبعادها المنون.»٢٦ مع ذلك، فقد تواصلت ليالي «المسامرة والمصاحبة والمزح والسرور والملاعبة.»٢٧ أما النهار، فقد شغله الراوي للبحث في عقيدة أهل الشيعة. وكانت المشاهدات التي أقام عليها أولى ملاحظاته ما يتعرض له الحجاج الإيرانيون — عند نزولهم إلى الإسكندرية — في الطريق إلى البيت الحرام، من سوء المعاملة والسلب والنهب والشتم والسب «ولا يستحون — أبناء الإسكندرية — من ادعائهم أن مال مثل هؤلاء غنيمة للمسلم والمسلمين.» وأنهم «يذهبون لتنجيس الكعبة.»٢٨ ورافق الشاب صديقه إلى جامع السيدة زينب، وطالت مشاجرة بين سائق مركبة وأجنبي. واستاء كاظم من اتهام السائق للراكب بأنه أعجمي أو عجمي «وتصورت البين لكلام هذا الشقي، حيث يدعي أن العجم أو الأعجام أرفاض، وهو أعمى القلب والبصر لا يفرق بين الارتفاع والانخفاض. كان مبعث المشاجرة خلافًا حول الأجرة، وقد أنهاها الراوي، لكن ظل في نفسه غضب من رأي السائق في الشيعة. وعادت مشكلة النظرة إلى الشيعة تفرض نفسها على ذهن الشاب: «كيف ينسبون الأعجام إلى ما ليس فيهم، وأنا واقف على ظاهرهم وخافيهم. الكل أراه يدعي أنهم مخالفون وأرفاض، ويرمونهم كما شاءوا وشاءت الأهواء والأغراض؛ هذا محض بهتان وزور، وأشد باعث للنفور … إلخ.٢٩ وأكد الراوي أن العداوة توجب التقول والافتراء، وتسبِّب الاختلاق بلا مراء، فكما نختلق ونقول إنهم أرفاض أو مخالفون، قالوا: أما أنتم مبتدعون وناكثون. أما نحن أشد إيمانًا وهدى، وأثبت يقينًا وأقرب للندى. أما آمنا بالنبي ورسالته بدون جدال، ولم تؤمنوا حتى حملتموه من العذاب أشكالًا» … إلخ.٣٠ وعدَّد الكاتب إيجابيات الشيعة مقابلًا لسلبيات السنة، وانتهى إلى القول: «تعالوا إلى بلادنا (هو إذن ينسى، أو يتناسى، موطنه!)، وانظروا الدين والتدين كيف يكون، والشيعي كيف بمظاهر الإسلامية الحقة مفتون، فلا نُظر ولا سُمع في جميع بلادنا لهذا الآن عن أحد فرَّط لسانه بإهانة الدين، وفي بلادكم سبُّه متواتر جهرًا بدون حذرٍ وخوف من غضب الخالق ذي القوة المتين. فلا حانة ولا خمارة عندنا، ولا دار فحش وزنِا تضلنا، ولا محل ميسر ولا مرقص ولا أقل أثر من الآثام ولا مصدر للغصص. فبأي عيب ومذلة تباكتوننا، وبأي خسران وخسارة تندبوننا، بل بأي وجه تفتخرون علينا، بل بأي لسان تظهرون بيننا. أما كان الواجب عليكم أن تتقلدوا بأعمالنا، وتفتخروا بأنسابنا، وتقولوا نِعم الإخوان إخواننا الشيعة، ونِعم الأمة أمة تمسكت بالشريعة، وتساعدوننا لإعلاء كلمة الدين، ووضع أيديكم بأيدينا لقهر العدو وطرده من الكمين، فالمسلمون ليسوا بالقليلين ولا بالضعفاء، ولم يضعفهم غير التفرق من كثرة الاختلاف والشحناء. فتأمَّلوا أيها السادة لقولهم واعتراضهم، وبرهانهم واقتراحهم. فلا يشك في الحقيقة، والحقيقة لذي العينين كالشمس ظاهرة، ولا يخفى الصدق والصدق مؤثر للنفوس الطاهرة، فلا فائدة حينئذٍ من هذا الحال، وهلموا بنا للتقرب والوصال.»٣١

أفرد الكاتب للشيعة الاثني عشرية، وجوانب اختلافها عن المذاهب الإسلامية الأخرى، أكثر من نصف صفحات الرواية، وهو الهدف الذي انشغل به الكاتب، فضلًا عن نقداته لبعض سلبيات الحياة المصرية. وبالتحديد، فقد تحوَّلت الرواية في قسمها الثاني إلى ما يشبه البحث المطول عن الشيعة الاثني عشرية، وما يجعلها إضافة إلى الاجتهاد الإسلامي، وليس العكس. وهو يستشهد في ذلك بآيات من القرآن الكريم، وأحاديث للرسول ووقائع تاريخية، وفقه الاثني عشرية، والفروق بينها وبين غيرها من المذاهب، ومعنى الإمامة، وفِرق الشيعة، بل إنه قدم تراجم لأئمة الاثني عشرية منذ الإمام الحسن الابن الأكبر لعلي بن أبي طالب، حتى محمد بن الحنفية الذي يعتقد الشيعة أنه هو المهدي المنتظَر، وغيرها من المعلومات التي تطالعنا في كتب الشيعة مثل «المراجعات» و«فقه الإمام علي» و«الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» و«المهدي الموعود المنتظر» و«الشيعة في التاريخ»، وغيرها من الكتب التي ربما لم يكن يتاح لي قراءتها، لولا السنوات الثماني التي أمضيتها في منطقة الخليج. بالإضافة إلى مئات القصائد والأبيات الشعرية والأقوال المأثورة التي تشيد بالشيعة، وانتسابهم إلى صحيح الدين الإسلامي. ثمة عناوين: بيان الفِرق المتخرجة من بين أهل السنة والجماعة … في ذكر الأحاديث الواردة في الأئمة عليهم السلام … في حديث الثقلين … في حديث غدير خم … في استشهاد على الناس في حديث يوم الغدير … في حديث الطير المشوي والمواخاة والنجوى وخاصف النعل … في بعض ما ورد عن عهد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لعلي عليه السلام، وجعله وصيًّا … في بيان كون علي قسيم النار والجنة … في تفسير ما ورد من الآيات في فضل علي عليه السلام … في تفسير قوله تعالى: وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ … في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ … في قوله تعالى: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً … تتمة المناظرة مع الجماعة، وذكر مناقب أهل البيت بقدر الاستطاعة … مناقب الاثني عشر إمامًا … الإمام جعفر الصادق … الإمام موسى الكاظم … الإمام علي الرضا … الإمام محمد تقي … الإمام علي النقي … الإمام حسن العسكري … في الأبيات التي وردت في مدايح أهل البيت … ثبوت الاثني عشر إمامًا … حديث ما طلعت الشمس وما غربت على أفضل من أبي بكر … الخلافة صحَّت بطريق الوصية، أم بطريق الشورى والأولوية … لو وضع النبي الخلافة في كف علي … منع الأصحاب عن كتابة الوصية، والمصيبة الكبرى في هذه البلية … قول النبي لعمار: تقتلك الفئة الباغية … إثبات لمخالفة عائشة رضي الله عنها، وما صدر الإسلام منها … لولا اشتغال علي بالفئة الباغية، لملك الأمصار الباقية … الحزن لواقعة كربلاء حسنة أم سيئة، ولماذا تمسكت بها الفرق المتشيعة … ما هي الحكمة في خروج الخلافة من أهل البيت رضي الله عنهم، وسكوت علي عن مطالبة حقه منهم … الجملة الأخيرة وملخص السريرة … في الكلمات الصادقة.

حاول الكاتب أن يجعل معلوماته وآراءه نبض مساجلات بينه وبين «العقلاء والفضلاء» الذين أحاطوا به من كل فجٍّ لمناقشته حسابات الدخل والخرج، لكن المساجلات تحوَّلت إلى ما يشبه الدراسة المطولة، التي تناقش ما يبدو من أوجه الاتفاق والاختلاف، وأنه «لا فرق ولا اختلاف في الأساس، وما سمعناه وما أُشيع عن هذه الطائفة هو محض اختلاق ومساس.»٣٢
طالت رحلة الكاتب — والقارئ — في توضيح سلامة المذهب الشيعي، وأنه ليس كما يتصوره البعض من أهل السنة. واختتم رحلته بالقول إنه لا يرغب بواسطة إثبات حق أهل البيت «استرجاع الحق المغصوب، أو إصلاح الماضي، وهو عكس ما أبحث عنه وكل مطلوب. فليس العاقل من يذهب لإصلاح الماضي، أو المنصف مَن يحد سيفه الماضي. نعم، لا فائدة من تجديد ماضي السيرة، وهل يجوز الحكم على السريرة؟ ومن رام مثل ذلك فهو ضالٍّ عن السبيل، ومسبِّب لضياع بقية المسلم بغير تعليل.»٣٣ ويضيف: «كفى ما حصل بين الفريقين من النقض والإبرام، وما قاساه الطرفان إلى هذه الأيام، فقد أصبحنا والحمد لله للاتحاد أقرب، ولأسباب الانضمام على مشرب. فالكلمة مفهومة وسهلة، لا تحتاج لنظر أو مهلة. وبالحقيقة: لماذا تفرَّقنا مع تمسُّكنا بلا إله إلا الله، وهي الكلمة الجامعة لمن هداه الله؟ كيف يجمعنا الدين ونتفرق؟ وكيف تربطنا رابطة الكلمة ونتمزق؟»٣٤

•••

يعود الراوي إلى سيرة الحبيبة، فقد التقى بها مصادفة في أحد المتنزهات، لا تعلو فيه غير ألحان الموسيقى والرقصات، ويزدحم بالشبان والفتيات اللائي يرتدين اليشمك للتحلية، والحجاب الذي ليس فيه إلا الاسم. ويقف الراوي وصديق له على حافة بحيرة صناعية داخل المتنزه، يشاهدان «الصارخ والصارخة، والضاحك والباكية، بعين الاستغراب والحيرة. وبينما أنا وصاحبي نتندم على هؤلاء النسوة اللاتي خلعن الحياء، لركوبهن مع الرجال كي يتعلقن بهن … ترى الواحدة تترامى على الثاني، والثانية تتظاهر بحركاتها للآخر فيعاني، وما أدراك ما يعاني.»٣٥ ويلمح الراوي بين كل هؤلاء حبيبته وحيدة: «لا كان التقليد ولا كنا لزمانه، ولا كان اليوم الذي يصرح فيه المجتمع باختلاط شبانه. من التي أراها، وكنت أقسم بذيلها الطاهر (نسي مصارحته لأمه بأنه مهما كان مغرمًا بالفتاة، فلن يقبلها حليلة ولو ذاق لبعادها المنون!) وكيف بالاختلاط أصبحت كالعواهر، خرجت تتسنَّد على ذراع أحد الفتيان، كأنه من الأقارب أو من الخصيان.»٣٦ وواجه الشاب الفتاة بأنه قد أحلَّها من «كل رباط ووثاق بيننا، فلا عهد ولا اتفاق بعد هذا يجمعنا.»٣٧ وبعث كاظم رسالة إلى محمد بك، أشار فيها إلى أن الله ضرب على نساء المسلمين حجابًا مستورًا، فخرقه أحد الناس جهلًا، فأوسعتم الخرق باتِّباعكم إياه ظلمًا وفجورًا … فالمرأة مرآة خدرها وبيتها، ولا تصلح لزوجها وبنيها، وإن جاوزت بابها وسترها.»٣٨ وأكد على تمسُّك الإيرانيات بالحجاب، فلا «يُرى لهن أقل عضو، لا عين ولا جبهة ولا أقل أثر للناظر منه يستفيد. ومع هذا الاحتجاب وعدم الاختلاط يربين أولادهن أحسن تربية مع ما يشتغلنه من الأشغال اليدوية التي عجزت عن تقليدها أوروبا بأجمعها، فلا تناظرهن أعظم امرأة في الغرب مهما كانت متربية. فالمرأة لا تقوم مقام الرجل مهما فعلت، ويكفيها وظيفتها، ولو قدرنا أنها من التطبع بالرجل تبدَّلت … إلخ.»٣٩ واختتم رسالته بسحب يده لعدم توافق المشرب «وليس في مذهبي هذا مما يستغرب. يجب على المسلم أن يتعصب لدينه وعرضه، ولا يتساهل فيهما لميله وغرضه.»٤٠

•••

الرواية تطرح قضيتها الأهم في العنوان «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين»، وهو سبب — كما يشير في الصفحات الأولى — إلى عناصر الاختلاف بين السنة والشيعة، وكفى — على حد تعبيره — ما حوى هذا الاسم من الإشارة، وما فيه من المعنى ودليل العبارة.

يلحظ الراوي/الكاتب أن الإيراني «عند الجميع مذموم، ويرمونه بسهام الطعن واللوم، ويتقوَّلون عنه بكل قبيح، ويسلبون ما له من كل مليح، مع أنهم قوم لم يخرجوا عن الحق ووافقوا الصواب ونطقوا بالصدق، معترفين لله عز وجل بالوحدانية الأبدية، ولمحمد بالرسالة الأزلية، فليس لمسلم سبيل للطعن فيهم، ولا يجوز مطلقًا الافتراء عليهم.»

إعادة النظر إلى الشيعة — بتجرد وموضوعية — منطلق مهم لتحقيق الوحدة بين المذاهب الإسلامية — السنة والشيعة على وجه التحديد — «إذ لا يخفى ما لاتحاد الإسلام من الأهمية، وما يعود بالنفع إذا اتفقا سوية، فكفانا من الانحطاط الناتج عن نفور الطرفين، والبغضاء المتسبِّبة من أقاويل وشماتة الفريقين.» ويضيف الكاتب أن الاتحاد بين السنة والشيعة ممكن، «إذا دفعنا ورفعنا العقبات، وأزلنا من بيننا الإساءات، بحيث تنقشع السحابة المظلمة بين أهل الشيعة وأهل السنة، وتتجدد الوصلة، ويُمحى المرض، وتُشفى العلة.»٤١

•••

الرواية تذكِّرنا — في البداية — ﺑ «الكوميديا الإلهية» لدانتي، ثم تذكِّرنا — في رحلة البحث عن الحبيبة — ﺑ «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي.

ظهور الحبيب في حياة الراوي واختفاؤها كطيف، في لحظات كأنها السحر يذكِّرنا بظهور بياتريس واختفائها في «الكوميديا الإلهية». وكانت تلك اللحظات القصيرة هي انطلاقة الأحداث في «السبب اليقين» وفي «كوميديا» دانتي. اختفى ما قبل، ووضع الراوي انشغاله فيما بعد. ظلت الفتاة في ذهنه ووجدانه، فهو دائم التفكير فيها، ودائم البحث عنها. أصبح البحث عن الحبيبة ومحاولة لقائها محور حياته جميعًا. ويبين تأثر الكاتب بحديث المويلحي في توالي المواقف التي يناقش الراوي — من خلالها — بعض قضايانا الاجتماعية؛ ثمة اختلاف — واتفاق — المذاهب الإسلامية، ووضع المرأة، والحجاب، والأحوال الاقتصادية، والمتنزه، والفندق، والكازينو، والمولد، وشاطئ البحر، والمسرح، وغيرها في «السبب اليقين».

كان المنيكلي باشا هو رفيق عيسى بن هشام في الأماكن المختلفة التي زارها، وكان عارف هو رفيق كاظم ميلاني في الأماكن التي تردد عليها، بصرف النظر ما إذا كانت أماكن حقيقية أم فرضها الحدث الروائي. وكان الباعث للزنكلي هو التأمل في الحياة والبشر، وما آلت إليه الأمور بعد انقضاء عقود على زمانه. أما كاظم فقد كان باعث رحلته التي صحب فيها — فيما بعد — صديقه عارف هو حبه لوحيدة، منذ ظهورها في حياته كطيفٍ ما لبث أن اختفى، فبدأ بالتالي رحلة البحث عنها.

ومن الواضح أن معظم آراء الراوي/الكاتب تصدر عن مفهوم أخلاقي، ينتصر للصواب، ويُدين الخطأ، وهو ما ينتظم فصول الرواية جميعًا، العين ناقدة، ترى وتتأمل وتصدر الحكم. فهو — على سبيل المثال — يُدين اختلاط النساء بالرجال، والتعري في حمامات السباحة، وشرب الخمور، ولعب القمار، وغيرها من المظاهر السلبية التي أتاح له البحث عن فتاته أن يتعرَّف إليها.

وتبيِّن دعوة قاسم أمين في «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» عن ملامح مؤكَّدة في الحرية التي أتاحها الأبوان لابنتهما، وكما تقول، فإنهما أباحا لها «هذا التصرف، وعوَّداني متابعته، بعدما استصوبا رأي فلان المنادي برفع الحجاب — تقصد قاسم أمين — ولزوم مخالطة الإناث بالرجال، وشرح فضيلته.»٤٢

•••

وفيما يشبه المحاكاة، تحدَّث الراوي في رواية محمد لطفي جمعة «في بيوت الناس» (١٩٠٤م) عن التأثيرات التي أحدثها كتابَا قاسم أمين في المجتمع المصري. حاول الفنان — وقد رمز إلى نفسه باسم شاب فقير — أن يناقش صدى دعوة قاسم أمين في بعض قطاعات المجتمع، وبالذات في طبقة أبناء الذوات — وهو المصطلح المصري لطبقة البرجوازية الكبرى — من خلال حكايات يومية، عبارة عن حوادث شهدها بطل الرواية بنفسه، كل حادثة مستقلة بذاتها، لا علاقة لها بالتي قبلها، أو بالتي بعدها، إلا في أن الكل من بحر واحد ومن كنانة واحدة.٤٣ وبطل الرواية حسن الحوذي علَّمه أهله تعليمًا قليلًا، ثم سار في طريق الشر، ساعده في ذلك بعض الأغنياء (يذكِّرنا بذلك — فيما بعد — المحامي رءوف علوان في رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب»)، حتى أنقذه من نفسه حلم رآه، فثاب إلى نفسه، وعمل حوذيًّا ليتاح له التعرف — من خلال عمله — إلى مشكلات الناس، ويرويها للعبرة والموعظة الحسنة.

وإذا كان الحب عيبًا يصل إلى «التحريم» في مطالع القرن العشرين، من خلال بعض الأعمال الأدبية التي صدرت في الفترة نفسها، أو تلك التي كان المجتمع المصري — آنذاك — نبضًا لها، فإن المقولة التي نغادر بها رواية «شاب فقير» أن العلاقات العاطفية — والجنسية — كانت أمرًا متاحًا بين طبقة أولاد الذوات بتأثير دعوة قاسم أمين.

لقد وجد الأب — حسب رواية حسن الحوذي — في دعوة قاسم أمين «تعليم المرأة وتحريرها تعليمًا جيدًا وحرية مطلقة.»٤٤ ما دفعه إلى تحريض زوجته وابنته على الخروج سافرتين متزينتين بالزي الغربي، وألبس ابنه الصغير قبعة. كما أباح لابنته أن تلتقي ضيوفه، وتحادثهم كما تشاء، وزاد فدعا شابًّا فرنسيًّا ليعلِّم الابنة والزوجة قواعد الفرنسية، وانتهت العلاقة بين الابنة والشاب إلى مأساة كاملة، فقد قتلها الشاب بعد أن هتك عرضها، وسرق ما كانت تمتلكه من حلي، وأنهى الفنان قصته بهذه العبارة البليغة «العالم يسير في سبيل الرقي خطوة خطوة، فمن شاء أن يعجل سيره، فقد أضر من حيث أراد النفع، ولم يئن لنسائنا أن يتحررن.»٤٥ المقولة مشابِهة لما انتهى إليه الراوي في رواية «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين»: إن الدعوات المشوبة بالعجلة والتسرع، قد تأتي بنقيض النتائج المرجوة.

•••

كان محمد بك عبد القادر (ربي لمن خلقت هذا النعيم، ١٩١٧م) يدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين على العوائد والتقاليد القديمة.٤٦ وقد أسهم كاتب العصر — مصطفى لطفي المنفلوطي — في التحريض على الدعوة لسفور المرأة — من خلال قصتين هما «الحجاب» و«الهاوية». في قصة «الحجاب»، عاد صديق الراوي من أوروبا بأفكار متحررة، وحاول أن يقتبس بعض العادات التي استهوته في الحياة الأوروبية، دفع زوجته إلى السفور، وإلى الخروج من البيت، والمشاركة في الحياة العامة. «ليس لي في الحياة إلا أمل واحد، هو أن أغمض عينَي، ثم أفتحهما فلا أرى برقعًا على وجه امرأة في هذا البلد.» لكن الزوجة التي نشأت على العادات والتقاليد الموروثة ترفض تحقيق مطلب زوجها، ولم ينصت الصديق إلى نصيحة الراوي بأن «الحجاب أصون للمرأة»، وأن «كل نبات يُزرَع في غير أرضه، أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإما أن ينشب فيها، فيفسدها.» وإن كانت ترضخ أمام إصرار الزوج، وتكون النهاية تحوُّل الزوجة — التي أُجبرَت على نزع الحجاب — إلى عاهرة تتردد على «بيت ريبة»، ويصارح الزوج نفسه: «نعم، إنها قتلتني، ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدته في صدري، فلا يسألها أحد عن ذنبي» … «البيت بيتي، والزوجة زوجتي، والصديق صديقي، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي فتعرَّف إلى زوجتي، فلم يذنب إليَّ أحد سواي.»٤٧ أما قصة «الهاوية» فتعرض لحياة رجل غاب عن القاهرة بضع سنوات، ثم عاد وقد تغير كلية، فقد هجر زوجه وأولاده، وأدمن شرب الخمر ولعب القمار، ولم يعُد يأبه بتردد الأصدقاء على بيته، يحدِّقون في وجه الزوجة، أو يحاولون نزع خمارها على مرأًى من الزوج، فلا يغضب أو يستنكر، ويُطرَد الرجل — بعد أن يبدد ثروته — من عمله، ومن بيته. ثم تأتي النهاية المفجعة حين تلد الزوجة طفلًا، وتقضي عليها — للإهمال — حمى النفاس، وتتملك الرجل هستيريا «فوطئ في تراجعه صدر ابنته الوليدة، فماتت كذلك، وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى أصبح مقيدًا مغلولًا في قاعة من قاعات البيمارستان، فوا رحمتاه له، ولزوجته الشهيدة!»٤٨ وهاجم ناقدٌ توفيق الحكيم الذي تهكَّم في مسرحيته «المرأة الجديدة» على النهضة النسوية الحديثة، لكنه «بكل أسف — والقول لرمسيس عوض — لم يستطع أن يعيب عليها أكثر من السفور، وحرية اختيار الأزواج، وأن للمرأة قلبًا من الظلم أن نقتل حياته وعاطفته، فنسوقها إلى زوج كأنما نسوقها إلى يدَي جلاد.» ويتحدث الراوي عن ظاهرة جديدة لم تكن موجودة في الحياة المصرية من قبل، وهي «خروج نساء مصريات في المتنزهات والضواحي، بل وفي شوارع القاهرة، يصاحبن رجالًا من الفرنجة.»٤٩ ويخاطب الراوي هؤلاء النسوة بقوله: «إننا نضن بما أودع فؤاد المرأة المصرية من الرقة والعطف أن يُدخَر لغير أبناء مصر. وإذا كانت نساؤنا يشعرن بالحاجة إلى العشق، فإن رجالنا إليه أحوج، وهم به أجدر، وإنا لنكره أن يحق على أولئك الراغبات من أبناء جنسهن المَثَل العامي، فلان «زي النخلة العرجة ترمي برة».»٥٠ ولم يكن الحجاب يُقتصَر على العائلات المسلمة وحدها؛ فالأسر المسيحية أيضًا كانت تفرض على نسائها ارتداء الحجاب، وقد فرض الحاج يعقوب الصراف الحجاب على بناته، فلا ترى البنت وجه خطيبها، لا يرى الخطيب وجهها إلا ساعة الزفاف أو بعدها.٥١
وفي المقابل من تلك الأعمال التي عنيت بتأكيد الجوانب السلبية لدعوة قاسم أمين، فقد حاولت بعض الأعمال الأدبية الأخرى أن تناقش الدعوة، وتستشرف نتائجها في إطارٍ من الموضوعية والتفهُّم لطبيعة الظروف التي كان يحياها المجتمع المصري آنذاك. تقول الفتاة الشرقية في قصة «العم أبو حسن يستقيل»: «إن الرجال المستعدين بطبيعتهم وبعلمهم لتحرير المرأة، هم الأقلية، ليس في الشرق فقط، بل في العالم أجمع.»٥٢ وحين يأذن الأب لابنته (النفس الحائرة) أن تجلس إلى صديقه المحامي، تدرس معه تفاصيل القضية، فإنها تبرر ذلك بأن أباها ليس كسائر أهل الأرياف الذين لا يقيمون للمرأة وزنًا.٥٣ وفي «ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم نقرأ: لقد فعلوا تحت الحجاب ما ينكس له الأدب رأسه. وفي قصة «عطفة اﻟ … منزل رقم ٢٢» لمحمد تيمور، نجد الزوجة التي تصادق الرجال متخفية بنقابها، حتى عن عين زوجها.٥٤ شكَّل ما يشبه الظاهرة ما يهبه الحجاب للمرأة التي ترتديه من فرص الجنس، بحيث «يكون من المستحيل على الزوج الغيور أن يتعرف إلى زوجته في الشارع إذا قابلها.»٥٥ وكان الحجاب كذلك دافعًا لأن ينشد الرجال صداقة السافرات من النساء «وإذا كنا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء الشبان بأنهم أخطئُوا لأن ما عملوا ليس من ذنبهم، وإنما هو ذنب مجتمعهم المصرُّ المبقي على عادة الحجاب.»٥٦ وقد تعرَّف فخري (قصة «مأساة قروية» لعيسى عبيد) إلى حياة الخطيئة نتيجة لتلك «التقاليد الشرقية التي قضت على الاختلاط الجنسي، وحالت بينه وبين الفتيات، فاضطر كثير من شبابنا إلى الالتجاء إلى بائعات الهوى لإخماد الجذوة الإحساسية المتقدة في أعماق قلبه.» وتقول إحسان هانم في رسالتها إلى صديقتها دولت: «إني ألمس هنا يا دولت مرضًا من أعظم وأخطر أمراضنا الاجتماعية، فإن الشباب المصري حينما يستيقظ قلبه البدري البكر، يهب مطالبًا بمخلوقة طاهرة مثله، تشاطره عواطفه الفياضة المضطربة الغامضة، وعندما لا يجدها بين فتيات أسراتنا — إذ الحجاب وتقاليدنا الشرقية تحُول بيني وبين الحب الشريف — يضطر — رغمًا عنه — إلى الالتجاء إلى بائعات الهوى.»٥٧
الجوانب السلبية تعبير متشدد لواقع المرأة المصرية عمومًا، ربما منذ أشارت الست نفيسة حرم علي بك الكبير إلى الباب الموصل لمكان الحريم في القصر الكبير: هيا بنا إلى السجن، سجن الجسم والقلب والروح.٥٨ وكانت المرأة في عهد محمد علي تتمتع — رغم الحجاب — بمطلق الحرية في أن تخرج وتقوم بزيارات، وتستقبل الضيوف من النساء. وكان من المناظر المألوفة — كما يقول إدوارد لين — أن «ترى نساء الطبقة الفقيرة يداعبن الرجال، ويصرخن معهم في الطريق العام علانية جهارًا.» واستمرارًا لتلك النظرة، ففي المقابل من رأي أحمد عبد الجواد أن أية امرأة ليست إلا جسدًا.٥٩ فإن الراوي يقول في أسًى: «أي نفس لا تتقزز، وأي قلب لا يتحكم، إذا كان الجسد هو كل ما يبتغيه الرجل من المرأة.»٦٠ وكان رأي محمد توفيق دياب أن احتجاب المرأة هو — في الواقع — «أسخف سخف، واحتباسهن المؤبد في طوايا البيوت كبرى الجرائم.»٦١ في حين ذهب هيكل إلى أنه «لو لم تعم الحرية بلدنا، ويتمتع بها النساء والرجال على السواء، فإننا سنبقى في ذلنا الذي نحن فيه إلى الأبد.»٦٢ ويرجع نجيب سرور سبب تضييق فرصة الزواج أمام خديجة (بين القصرين) إلى الحجاب.٦٣
وكان حامد برهان (الباقي من الزمن ساعة) من بين أصحاب الأسر الذين أهملوا ارتداء زوجه وبناته للحجاب «غير مبالٍ بالقيل والقال، فلم يمِل إلى التزمت أبدًا.»٦٤
من هنا، تتحدد نظرتنا إلى الفرق بين سجن «بين القصرين» الذي يضم بين جدرانه ثلاث نساء، أكبرهن لم تغادره منذ ربع قرن، وصغراهن تفزع لمجرد خاطر أن أحدًا يضبطها وهي تتسلل بنظراتها عبر أحداق المشربية إلى «المنتظر» وهو في طريق عودته إلى البيت، وبين سنية «عودة الروح» التي أوقعت في هواها شباب عائلة سلامة جميعًا، ولم تكن — على حد تعبير الفنان — «فتاة من الطراز القديم.»٦٥ ولكن شخصيات «بين القصرين» — كما أشرنا — أمثلة متشددة لأخلاق العصر، وربما لهذا السبب كان إعجاب كمال — أو عجبه! — بخروج والدَي عايدة معًا إلى المتنزهات والزيارات، على غير ما ألِفه في البيت «وردت مخيلته على غير ميعاد صورة عبد الحميد بك شداد وحرمه سنية هانم، وهما يسيران جنبًا إلى جنب من الفراندا إلى السيارة المنيرفا المنتظرة أمام باب القصر، لا سيد ولا مسود، ولكن صديقان متساويان يتحادثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، حتى إذا بلغا السيارة تنحَّى البك جانبًا حتى تركب هي أولًا، هل يتأتى لك أن ترى والديك في مثل هذه الصورة؟! يا لها من خاطرة مضحكة!»٦٦ ولعل النموذج المقابل لشخصية أحمد عبد الجواد وأمينة — وإن كان يفصل بين النموذجين مساحة زمنية تقارب الخمسة عشر عامًا — محمد أفندي والست فاطمة في رواية يوسف السباعي «نحن لا نزرع الشوك»، فالرجل — على سبيل المثال — يغيظه مرأى البيت المقلوب استعدادًا للعيد، ويصرخ في المرأة: إنتِ اتجننتي يا ولية؟

تجيبه في بساطة: جن لما يلخبطك!

– قلبتي الدنيا … حرام عليكي.

– حرام عليَّ النظافة … إلهي يعدلها لك.٦٧
وثمة عشرات «السنيات» تحفل بهن الأعمال الأدبية التي تعرض لنفس الفترة، بل إن إحدى شخصيات «بين القصرين» — مريم ابنة محمد عفت — توسِّع دائرة علاقاتها، فتخطب ود جندي بريطاني عسكر أمام سبيل «بين القصرين». ولعله — في نفس الليلة التي كان أحمد عبد الجواد يقرص فيها أمينة من أذنها، وينصحها بألَّا تسأله عن بواعث تأخُّره، كانت صفية (الشارع الجديد) تصر على أن تذهب إلى بيت أهلها لأن علي — زوجها — يتركها وحدها بالليل، ونفَّذت إرادتها بالفعل، لولا أن أعادها عمها إلى البيت بعد رجاء. ولعلَّه — في الوقت نفسه الذي كان بنات «بين القصرين» ينتظرن انتهاء الذكور من تناول الطعام، ليأكلن ما تبقى منهم، كانت أسرة عبد الرءوف أفندي تتناول العشاء معًا.٦٨ وكان «تمرد» بعض الزوجات يتمثَّل في الامتناع عن الاتصال الجنسي، أو التمارض، أو هجر البيت، إذا كانت من عائلة أخرى.٦٩ وربما نجد في خديجة — بعد أن غادرت بيت أبيها إلى بيت زوجها — شخصية مناقضة — في معظم جوانبها — لشخصية أمينة — الأم — ولعلها أقرب إلى شخصية الأب القوية المسيطرة، فهي — برغم نفسها الطيبة الحانية — تخلص للشجار والنقار. وعندما يعلن كمال دهشته للعلاقة الغريبة بينها وبين زوجها، علاقة مغايرة تمامًا لما كان يشهده في بيت «بين القصرين»: كأنك تخافها!
يقول الزوج وهو يهز رأسه: أنا أتفادى من النكد ما وجدت سبيلًا إلى السلامة، وأختك تتفادى من السلامة ما وجدت سبيلًا إلى النكد! وتهتف خديجة: اسمعوا الحِكم — ثم وهي تشير إليه كالمتحدية — أنت تتفادى من اليقظة ما وجدت سبيلًا إلى النوم!٧٠ ونتذكر كلمات أمينة التي كانت زجرة الأب كفيلة بأن تقتلها على شفتيها! وكان جبر بك السيد (السراب) المفتش بالري، من الأزواج المطيعين، وأن زوجه هي الآمرة الناهية في البيت.٧١
ونحن نجد في قصة «كله نصيب» (١٩٠٣م) لنقولا الحداد، نقاشًا صريحًا حول وجوب إطلاق الحرية المتطرفة للفتيات، فضلًا عن أن عيسى عبيد يصف فتاة العشرينيات في «ثريا» بأنها متحررة جدًّا. وفي ٤ مايو ١٩١٠م كتبت «المحروسة» عن أول فرقة تمثيلية من النساء. ولم تكن أهمية تكوين تلك الفرقة في مجرد أنها كانت أول فرقة من النساء، وإنما كانت أيضًا في نوعية المسرحية التي قدمتها في عَرضها الأول، والتي كانت تتضمن «دعوة مقنعة إلى الحب المتكافئ الذي تفتقده المرأة الشرقية بوجه عام، فليس من الطبيعي أن يتزوج الملك فتاة في عمر ابنته، ولكن من الطبيعي أن يختارها ابنه زوجة له.»٧٢ وتُعَد زنوبة (عودة الروح) من أشد النماذج الروائية تعبيرًا عن أعداد هائلة من النساء المصريات في مطالع القرن العشرين، فهي لم تكن تعاني سيطرة الرجل، لكنها كانت تخفي وراء التحرر الظاهري، والتمدن الذي يتبدى في الملابس والأصباغ والتعلق بالألفاظ الغريبة؛ كانت تخفي إيمانًا عميقًا موروثًا بالبدع والخرافات والسحر والشعوذة. أما أم محسن، فهي نموذج مثير وغريب وشاذ لنساء تلك الفترة، فسيطرتها تبدو منذ اللحظة الأولى التي تطالع فيها القارئ عبر صفحات الرواية. فعندما يسأل الأب ابنه عن الدروس، وعن أساتذته، وعن امتحان الكفاءة الذي سيتقدم إليه، تتدخل الأم منتهرة زوجها: يا باي عليك … مش تصبر عليه لما ياخد نفسه … أيوه اسأله الأول عن صحته، وعن صحة أعمامه … إيه قلة الذوق بتاعتك دي؟! ثم تنظر إلى حذاء الرجل، وتضيف: برده لابسها؟ مش قلت لك اقلع جزمتك دي؟ ثم تواجه الرجل في صراحة قاسية: من امتى يا حضرة العمدة الفلاح؟ أنت تنكر إني أنا اللي مدنتك وعلِّمتك الأبهة؟ فيقول متقهقرًا: الله … وأنا قلت حاجة … طبعًا أنت يا هانم تركية بنت أتراك!٧٣

أما مجلس نساء «بين القصرين» فإنه يتسم بطبيعة خاصة؛ فالنساء يجلسن متلاصقات كأنهن جسم واحد ورءوس ثلاثة (ألا تثير هذه الصورة الموحية في النفس شيئًا؟) ويدور حوار نبضه حياة الأسرة ومشكلاتها اليومية، صورة تتناقض تمامًا مع تلك المجالس التي يصِفها كاتب «رعمسيس» بأنه لم يكن يدور فيها من حديث سوى «ما اخترعته المودة، وتفصيل ما جرى يوميًّا في بيوت الجيران، واستعراض كل مَن مرَّ على الطريق (ونتذكر نظرات عائشة المتلصصة إلى المنتظر من أحداق المشربية، وقول عائشة المتذمر: ليس في بيتنا كله نقطة بودرة أو كحل أو أحمر، كأن ليس به نساء!)، فضلًا عن استعراض كل من خطب أو تزوج إلى غير ذلك. وقد أشار المستر س. ﻫ. ليدر (١٩١٦م) في محاضرة له، إنه يعرف عائلة مشهورة في مصر يُعزى نجاحها الدنيوي إلى حذق جدة تولَّت قيادة أمورها بدلًا من الرجل، وسارت بها في كل خطوة من خطواتها إلى أن أوصلتها ذلك النجاح الباهر.

ألا تذكِّرنا تلك الجدة بصفية «الشارع الجديد» التي أصرت على أن تصل بقارب أسرتها — في ظروف بالغة القسوة — إلى مرفأ ينعم فيه الأبناء بالكرامة والأمان؟

•••

كانت مشكلة السفور والحجاب — كما أشرنا — هي المشكلة الاجتماعية الأهم حوالي الحرب العالمية الأولى، وإن كان هناك الكثير من المشكلات التي عانت المرأة تأثيرها. ثمة مشكلة الأمية، والسجن في البيت — ونتذكر المسكينة أمينة! — ومنعها من حق العمل والمشاركة في الحياة الاجتماعية … ولكن مأساة الحجاب كانت هي التعبير الحقيقي عن واقع المرأة المصرية في مطالع القرن العشرين، إلى حد أن المجتمع المصري — على حد تعبير توفيق الحكيم — كان يهتز لأمرين: الخلاص من الاحتلال، والتخلص من الحجاب.

وعلى الرغم من أنه كانت قد تغيرت — أو كادت — تلك الصورة التي رسمها بقلمه إدوارد لين عن حياة المرأة في عهد الحريم، فلم يعُد ثمة حريم من الزوجة، أو الزوجات اللائي ربما يصل عددهن إلى أربع، والجواري والخادمات والعبيد والخصيان. وعلى الرغم من أن الحجاب لم يعُد سِمة غالبة في حياة المرأة المصرية، فإن نساء الطبقة الفقيرة كن يخرجن إلى الطريق سافرات، إما لعجز عن شراء البرقع، أو لعدم استطاعة المرأة تغطية وجهها بطرف الطرحة إذا كانت تمسك بكلتا يديها شيئًا تحمله على رأسها، فضلًا عن أن بعض الأسر المتوسطة لم تكن تتمسك كثيرًا بالحجاب، على الرغم من ذلك، فإن الحجاب كان هو القضية التي لا يبدو لها أي حل. ولهذا السبب — ربما — لم يطالب قاسم أمين بأن تتحقق دعوته بتحرير المرأة دفعة واحدة — وكانت تقوم على منح المرأة حريتها، وتقبيح الحجاب، والنهي عن الطلاق، وتعدُّد الزوجات، مما يعده العامة من قبيل العقائد الدينية، وهو ما لم يبحه الدين إلا لضرورة — لكنه ذهب إلى أن هذا «الانقلاب» ربما ينشأ عنه مفاسد جمة، لا يتأتَّى معها الوصول إلى الغرض المطلوب، كما هو الشأن في كل انقلاب فجائي، وإنما الذي أميل إليه هو «إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير.» وذلك بالتحديد هو ما دعا إليه بطل «فتاة مصر»: «يقولون إن القلب يغوي، وهذا صواب، ولكن الألفة تزيل الغواية. ففي أول نوبة دخلت مرقصًا، وشاهدت النساء مكشوفات السواعد والصدور، دهشت واشمأززت واستغربت، وصرت أحجب طرفي لئلا أُغوى … ثم قل هذا الاستغراب في المرة الثانية والثالثة، إلى أن زال.» وكتب طه حسين (مجلة الهداية، ١٩١١م): «لا فرق بين رجل وامرأة في الحرية، فكلاهما مأمور الأخلاق، وللمرأة أن تطرح الحجاب وترفع النقاب، وتتمتع بلذائذ الحياة كالرجل.» وأضاف: «إذا كان الحجاب وسيلة صناعية لإنقاذ البشر، وكانت هذه الوسائل لا تُتخذ إلا لشذاذ الأفراد، فلا شك في أن الحجاب لا يصلح لأن يُتخَذ قاعدة اجتماعية تُبنى عليها نهضة الأمة، العلم الصحيح يؤيد الحرية ويمقت الرق، وعلى ذلك فهو لا يؤيد الحجاب لأنه نوع من الرق والاستعباد.»٧٤

•••

الحرمة في اللغة هي المرأة، وجمعها حرم، والحريم كل ما يخص المرأة. وتشير كلمة «الحريم» إلى زوجات، أو زوجات الرجل؛ فالإسلام يأذن للرجل الواحد بأربع زوجات. وتاريخيًّا، فإن عصر الحريم يعود إلى بدء عادة اقتناء الجواري والسراري في المجتمعات العربية في القرون الوسطى، فضلًا عن أنه كان باعثًا لنشوء نظام اجتماعي جديد. أما الحجاب، فإن معناه ستر العورة بالخمار أو البرقع وغيرهما. والحجاب موجود قبل الإسلام، وقد عرفته أوروبا في العصور الوسطى، ولا تزال بعض تأثيراته باقية في بعض دول أوروبا إلى الآن. والحجاب في العالم الإسلامي يعني حبس المرأة في بيتها، وتذهب بعض الاجتهادات إلى أنه لم يكن معروفًا في الصدر الأول من الإسلام، بل إنه مخالف لتعاليمه، فقد فرض النبي النقاب على زوجاته ليميزهن عن بقية النساء المسلمات. وكان ارتداء أعداد من هؤلاء النساء للنقاب بمثابة تقليد لزوجات النبي وإن لم يؤمرن بذلك، لكن المتشددين — في العصور التالية — حوَّلوا التقليد الذي أقدمت عليه المرأة إلى فرضٍ تُلزَم بأدائه!

وفي تقديري، أن ظهور الحجاب كمشكلة ملحَّة، يعود إلى الحملة الفرنسية، عندما حضر بعض أفراد الحملة، ومعهم نساؤهم «وكانوا — والكلام لعبد الرحمن الجبرتي — يمشين في الشوارع وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول ويسوقونها سوقًا عنيفًا مع الضحك والقهقهة، ومداعبة المكارية معهم لخضوعهم للنساء، وبذل الأموال لهم.» لذلك فقد كان «من مصائب هذا العام تبرج النساء، وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء.» على أن ذلك التعميم ليس صحيحًا تمامًا، فقد كان ظهور الفرنسيات في الحياة المصرية هزَّة عنيفة لنظام الحريم، ولكن الحجاب ظل مسدلًا، والمرأة تدخل بيت زوجها فلا تفارقه حتى الممات — والمقصود هنا، القسم الأكبر من النساء — «كان مجرد ظهور امرأة خلف شيش الشباك يحرك الخيال، ويوقظ المشاعر الكاذبة.»٧٥ حتى أمينة التي كانت تحيا في الربع الأول من القرن العشرين، كان جزاؤها الطرد لما غادرت البيت خلسة لزيارة الحسين بعد ربع قرن، امتنعت قدماها عن أن تطآ أرض الطريق. ولعل المرة الأولى — والأخيرة — التي تآمرت فيها أمينة ضد أحد، عندما وشت إلى زوجها بذهاب ياسين وزوجه إلى كشكش بيه؛ أحزنها أن يعاقبها الرجل على زيارتها للحسين، فهل ينتهي ذهاب المرأة الأخرى إلى كشكش بيه بلا عقاب؟ وقالت لنفسها: «إما أن تنال الأخرى الجزاء، أو فلتذهب الحياة هباء.»٧٦
يقول هيكل في «مذكرات الشباب» إن الجهل والحجاب سيكونان على الأمة ضربة قاصمة.٧٧ وكان تعليم المرأة — بالفعل — هو البداية الفعلية لرفع الحجاب، بمعنى أن التعليم كان هو الإرهاص الممهِّد بالدعوة إلى رفع الحجاب. وكانت الدعوة إلى تعليم المرأة أقرب إلى الخطة المدروسة، ولم تأخذ شكل «الطفرة» التي قد تؤدي إلى عكس نتائجها. فقد بدأ رفاعة رافع الطهطاوي دعوته إلى تعليم الفتاة، بإعلانه أن تعليم النساء الكتابة جائز، ثم أضاف إن التجربة اقتضت في كثير من البلاد «إن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل لا ضرر فيه أصلًا، فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن بالمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم، ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش، مما ينتج من معاشرة المرأة المصرية لامرأة مثلها.» ثم زاد الطهطاوي بأنه «ليس مرجع التشدد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن.» وكانت هذه الآراء انعكاسًا صادقًا لمعارضة المجتمع المصري آنذاك لتعليم المرأة. ثم لقيت دعوة الطهطاوي استجابة من بعض الأسر التي دفعت ببناتها لتلقي العلم، وأنشئت أول مدرسة للبنات في العام ١٨٧٣م، وإن ظل رأي الكثيرين — على حد تعبير لطفي السيد — أن «تعليم البنات في المدارس جريمة لا تُغتَفر.»٧٨ باعتبار أن المدارس تفسدهن، وتُعلِّمهن الثرثرة، وتشجعهن على التحكم في الرجال.٧٩ وفي عهد إسماعيل، كانت البنات يتعلمن القراءة دون الكتابة «حتى لا تستطيع البنت استخدام الكتابة طوع نزعات الشباب.»٨٠ وإلى الثلاثينيات من القرن العشرين كان رأي سعفان أن «البيت هو المدرسة الحقيقية للبنت.»٨١ وحتى بين الأسر الثرية، لم تكن فرصة الفتاة في التعلُّم تزيد عن تلقن ما يهبه لها كبار الأسرة من علم وأدب وأخلاق. فإذا زادت تلك الفرصة عهِد بالفتاة إلى شيخ من حفظة القرآن، يعلِّمها كتابة اسمها، ويلقِّنها الأبجدية، وبعض قصار السور. فإذا بلغت التاسعة في أكثر تقدير، فإنها تكون قد بلغت سن الخوف منها وعليها، الخوف من تصرفاتها ونظراتها وإنصاتها لما ينبغي أن تبتعد عنه، والخوف على عفافها وأخلاقها، فهي تلزم بيتها لا تغادره إلا محجبة، وبرفقة بعض أفراد الأسرة، أو خادم يرافقها كظلِّها.٨٢ وبعد أن نالت سنية (الباقي من الزمن ساعة) الابتدائية، فإن أباها أصر على حجبها، برغم اعترافه بذكائها، وبأنها كانت خليقة بإتمام تعليمها.٨٣ ويتحدث الحكيم (سجن العمر) عن فتاة تعلَّمت بفضل ابن خالة لها. يقول: «يبدو أن الفضل كان له في دفعها إلى تعلم القراءة والكتابة، ذلك الأمر المعيب بالنسبة إلى فتاة في ذلك العصر.»٨٤

كانت دعوة الطهطاوي إلى تحبيذ اشتغال المرأة، لأن هذا «من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل.» ثم كانت دعوة قاسم أمين خطوة مرحلية حاسمة نحو تحقيق أماني الطهطاوي — الرائد الحقيقي لحركة تحرير المرأة — ولم تكن في تلك الدعوة إضافة حقيقية إلى آراء الطهطاوي، ولكن الطبقة المتعلمة كان قد تضاعف عددها، وأصبح المجتمع — بوجه عام — على استعداد لتقبُّلها.

•••

ولا شك أن السفور، فالاختلاط المحدود في البداية، وخروج المرأة إلى العمل، تمثل عوامل مباشرة في توضيح صورتها في الرواية والقصة، بدأت مشكلاتها تقف بصورة متوازية — أو متعارضة — مع مشكلات الرجل، والمجتمع بعامة، وإن اتسمت صور المشكلات — في معظم تلك الأعمال — بالسذاجة. المثل الذي ربما يحضرنا عائشة وهي ترقب «المنتظر» من ثنايا المشربية، ثم موافقتها — فيما بعد — وبلا تردد، على الزواج من خليل شوكت، لأنها كانت تتوق إلى الزواج، إلى الرجل في صورته المجردة، وليس إلى رجل بالذات. ثم تطورت طبيعة المشكلات شيئًا فشيئًا، تصاعدًا مع دور المرأة، وظهر للإيجابيات وجهها الآخر، السلبي، متمثلًا في ردود الأفعال بالنسبة للرجل والمرأة على السواء، لخروج المرأة إلى العمل، ثم سماح بعض الأسر بالاختلاط المحدود، أو غير المحدود، وتعوُّد النساء المصريات السهر في الليالي الليلية (ونتذكر ثورة أحمد عبد الجواد على ياسين وزوجته لذهابهما إلى كشكش بك!) وإقبال الفتيات على التعليم، وما يعنيه من تفتُّح للذهن والوجدان.

وإذا كان كتابَا قاسم أمين «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» يشكِّلان معلمين هامَّين في قضية مناصرة المرأة، فإنه من الصعب أن يكون الكتابان بداية الدعوة لكي تنال المرأة حقوقها. سبقتها دعوات أهمها ما جاء في كتابات رفاعة الطهطاوي، والتي أيَّدها بتطبيقات، منها موافقته — في وثيقة زواجه — أن تُعطَى الزوجة حق طلب الطلاق. رفاعة رافع الطهطاوي — أحد الإرهاصات الأهم في تبني قضية المرأة المصرية — ينادي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» برفع سن الزواج إلى خمس وعشرين سنة ليُتاح التعلم للفتاة. وينادي الطهطاوي في كتابه «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» بوجوب تعليم الفتاة، باعتبار عدم معارضة ذلك مع الشريعة الإسلامية. رفاعة الطهطاوي — هنا — يدعو إلى المواد نفسها التي تضمَّنها أحدث مشروع قانون للأحوال الشخصية — ١٩٧٤م — والذي خرجت المظاهرات تهتف بسقوط الداعين له. ومن ثَمَّ، فإن الحقيقة التي تفرض نفسها، أن مظهر «القضية» قد تغير تمامًا. فثمة سفور، وسماح للمرأة بالعمل في غالبية المناصب، وثمة حرية وتحرر وحقوق مدنية، لكن «جوهر القضية» — وهو اقتناع الرجل بحق المرأة في المساواة — لم يتغير كثيرًا.

واللافت أن حركة تعليم المرأة في الهند بلغت ذروتها في سبعينيات القرن التاسع عشر، أي الفترة نفسها التي كانت مصر — بتأثير دعوة الطهطاوي — تنتبه إلى ضرورة تعليم الفتاة. وفي رواية «التوبة» للهندي نذير أحمد الدهلوي أقنع الرجل زوجته — هو الذي أقنعها — بأن التعليم مفيد للمرأة، فبدأت تدرس على يد زوجها، وخلال أربعة أو خمسة أشهر بدأت تكتب وتقرأ الأردية.٨٥ ويُعَد دور قاسم أمين في قضية تحرير المرأة مكملًا لدعوة الطهطاوي في أواسط القرن التاسع عشر؛ لقد جدَّد الدعوة، وأضاف إلى مساحتها.
ولا شك أن الدعوة إلى تحرير المرأة — بالكتابة في الصحف — سبقت صدور كتابَي قاسم أمين. أشير إلى كتابات عبد الله النديم في «الأستاذ» (أهملها — بلا سبب — المؤرخون وعلماء الاجتماع ومناصرو قضايا المرأة). أتوقف — على سبيل المثال — عند سؤال من قارئة، تسأله الرأي في دعوى البعض بالمساواة بين الرجل والمرأة. ذكر النديم — في ردِّه — أنه ليست هناك امرأة مصرية واحدة فيما يتعلق بموضوع المساواة بين الرجل والمرأة، فلا بد — في تقديره — أن نفرق بين المرأة في القرية، والمرأة في المدينة، حتى المرأة في المدينة ليست واحدة، هناك فقيرة المدن، ومتوسطة المدن. وأجرى النديم مقارنة بين طبيعة عمل الرجل وطبيعة عمل المرأة، في ضوء تقسيمه لنوعيات المرأة المصرية، وانتهى إلى أن «الفلاحة أكثر تعبًا من الرجل في الأعمال، وأن فقيرة المدن تساوي الرجل المشتغِل بعملٍ لطيف، لا النجار والحداد والبناء مثلًا، والمرأة المتوسطة أقلهن عملًا، والمرأة الغنية لا شغل لها إلا ذاتها اللطيفة، ولا عمل إلا فيما يختص بالزينة والقلع واللبس والنوم واليقظة، وعارِض الولادة قصير المدة يُنسى ألمه بعد أسبوع غالبًا. فإذا تأملت السائلة هذا التقسيم والتفصيل، علمت أن المرأة الريفية لا فرق بينها وبين الرجل، ولا تعاني مشكلة ما. تحايل ربات الرفاهية على مساواة الرجل بدعاويهن غير مقبول عند ذوي الاختيار. فنحن نقول إن غير الفلاحة والفقيرة من النساء لا يساوين الرجال في شيء من الأتعاب، وعلى الخصوص الفتيات اللائي يشتغلن بغير ذاتهن، فإنهن على فراش الراحة في الليل والنهار.» وكما ترى فإن تقدير النديم لمساواة المرأة للرجل رهن بقدرة المرأة على ممارسة عملها الذي يساوي — غالبًا — عمل الرجل. العمل — في رأي النديم — هو الشرط الذي يعطي للمرأة حق التمتع بالحرية والمساواة التي يتمتع بها الرجل، فالمرأة الريفية والمرأة الفقيرة في المدن لا تقل عن الرجل في التمتع بحقوق الحرية، بينما المرأة الغنية في المدن لا تملك شرط التمتع بهذه الحرية، وهو شرط العمل.٨٦ وتبيِّن مواقف النديم عن وضوح مؤكد، في دعوته إلى ضرورة تعليم البنات، وأن تهذيب البنات من الواجبات، وأن المرأة الجاهلة من أسباب خراب البيوت، وفساد الأخلاق، وضياع حقوق النساء. وتحدث النديم عن مجموعة من الرسائل، تكشف المصائب التي يجرها جهل المرأة، وعدم تعليمها، منها قصة التاجر الذي أدى تفاخر زوجته في إعداد جهاز ابنتيهما إلى استدانته، وكساد تجارته، ومنها قصة الخياط الذي لم تقدِّر زوجته ظروف انصراف الناس عنه لقاء إقبالهم على الملابس الإفرنجية، فظلَّت تطارده بطلباتها التي تفوق قدرته المادية، حتى طلقها وهو نادم، ومنها قصة الفتاة التي مات أبوها وتركها مع أمها، وجعل من أحد أصدقائها وكيلًا متصرفًا في مالها، فبدَّد الصديق مال المرأتين، وماتت الأم مقهورة، وجعل الرجل من الابنة خادمة عنده، فخرجت إلى الشوارع تتسوَّل. وأرجع النديم القصص الثلاث إلى عدم تهذيب الفتيات، وإهمالهن بلا تعليم وتأديب، سوى ما ألِفنه من الخرافات، وتمسكهن بقبيح العادات، ومن هنا، فقد اعتبر النديم تعليم البنات شرطًا لتقدم الوطن.٨٧ أشير كذلك إلى كتابات زينب فواز وعائشة التيمورية وملك حفني ناصف … إلخ، ممن شاركن في الدعوة لنيل المرأة حقوقها. ذلك المقال الذي نشرته — على سبيل المثال — مجلة «أنيس الجليس» (يناير ١٩٠٠م) تطالب فيه الذين يسعون في تحرير المرأة — هذا هو نص التعبير — أن يخصُّوا تحريرهم بالمرأة الريفية التي مضى عليها زمن طويل في أسر العبودية، (رأي مناقض لرأي النديم) إلى جانب مطالبة المجلة الهيئة الحاكمة بوضع قانون للنساء، تحدد فيه وظيفتهن وواجباتهن، ويحدد واجب الرجال نحوهن، وينص فيه على عقاب من يتعدى الواجبات. أضافت المجلة (دعك من أخطاء اللغة): «إن انفصال الزوجة عن الرجل الآن في بلاد مصر من الأمور البسيطة، وتعدُّد الزوجات أصبح عامًّا، وقد ترتب عليه شقاق وانقسام عظيمان بين العيلات لا يجهله أحد. وقد اتخذ أهل الريف تعدُّد الزوجات عادة ليشغلوهن في أعمالهن، ويغنوا بهن عن رجال يأخذون أجورًا على أشغالهن، وقد رأيت بعيني بعضهن يجر المحراث، وبعضهن يبذر الحبوب، وبعضهن يصلح الأرض، وغير ذلك من أعمال الزراعة. وإذا فصل الرجل إحدى نسائه عنه، تركها من غير نفقة، أو بنفقة لا تقوم بحاجتها، فتصبح في حالة يُرثى لها، فينتابها الجوع والشقاء، وبعضهن تؤدي بهن هذه الحال إلى ارتكاب الدنايا والموبقات.» وقول ملك «علِّموا البنت، ثم اتركوا لها الاختيار» ينطوي على دلالات مهمة؛ الفتاة المتعلمة تملك الاختيار، الاختيار، تلك الموافقة والرفض، المواصلة والانقطاع.
لقد ذهبت نبوية موسى إلى أن القرآن لم يأمرنا بالحجاب، بل أمرنا بالابتعاد عن الزينة في قوله: «قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن.» أمر الله بستر الصدر، لا بستر الوجه، وهو موضع الحلي في الجاهلية.٨٨ ثم قامت هدى شعراوي بدورٍ يصعب إهماله، في الدعوة إلى تعليم المرأة ومساواتها بالرجل، وبخاصة في الحقوق السياسية، وإتاحة فرص العمل لها كي تسهم بدورٍ إيجابي في حياة وطنها ومواطنيها. وقد واجهت الدعوة إلى تحرير المرأة تأييدًا ومعارضة، شُغل بهما الرأي العام المصري لأعوام طويلة. أيَّد بشارة تقلا في «الأهرام» دعوة قاسم أمين، وذهب إلى أنه لم يعُد يُخفى تأثير المرأة في الهيئة الاجتماعية، فالمتتبِّع لتاريخ المجتمع الإنساني يرى أن الأمم إنما ترقى بالمرأة الراقية، فمقام المرأة في كل أمة هو معيار رقي تلك الأمة أو انحطاطها.» بل إن يحيى حقي وجد في فلسفة قاسم أمين، ودعوته إلى الاستماع إلى النفس، ودوره في تحرير المرأة، مفتاحًا للمناخ الحقيقي لميلاد القصة.٨٩ وعلى الرغم من معارضة مصطفى كامل المعلَنة لدعوة قاسم أمين، فإنه كان ضد تعدُّد الزوجات، وكان يقبل بمبدأ الوحدانية في العلاقة بين المرأة والرجل، وحق العمل بخاصة، بل إن مصطفى كامل لم يعارض كلَّ ما دعا إليه قاسم أمين بشأن تحرير المرأة. لقد اتفق معه في وجوب الالتفات إلى تربية النساء «أما الحرية للمرأة، فلا حديث عنها الآن.» وأكد مصطفى كامل أن «الحرية التي تقتل العصمة، شر عندي من الحجاب القاتل المرذول.» (الملاحَظ أن كلمة «شادور» في اللغة الفارسية، تعني الحجاب، كما تعني الخيمة، وتقابُل التسميتين لا يخلو من دلالة).

•••

ولعله من المفيد أن نضغط على حقيقة مهمة، هي أن قضية تحرير المرأة لم تكن في الغرب مما يستوجب النقاش الملح ولا الجدل العنيف، بل إنها لم تصبح قضية على الإطلاق، فقد كانت مأساة المرأة في عالم يسيطر عليه الرجل هي الموضوع الكبير الذي يتناوله أدب الشطر الأخير من القرن التاسع عشر في أوروبا، مثل «بيت الدمية» لإبسن، و«آنا كارنينا» لتولستوي، و«مدام بوفاري» لفلوبير، وغيرها. ثم خفَّت حدة القضية بصورة واضحة، بينما كانت أمينة تُعِد عالمها المسور واقعًا محتمًا يجب ألَّا يراودها التفكير في تغييره أو الخلاص منه. رضيت بصداقة العين لشارع بين القصرين، وكل عالمها الخارجي هو الباعة والدكاكين أمام المنازل. أما ما تلتقطه أذناها من أنباء ذلك العالم، فهي تحرص على أن تعيده على مسمعٍ من أبنائها، وبخاصة خديجة وعائشة اللتين كانتا تشاركانها عزلتها عن العالم الخارجي. بالإضافة إلى ذلك، فقد كان الفرق بين المرأة الأوروبية والمرأة المصرية في «الواقع» الذي تفصله فجوة تمتد لأكثر من قرن كامل، أن الأولى كانت تؤمن بأنها حققت كل ما تصبو إليه من الحرية، وكانت تمارس حياتها بصورة طبيعية، ولم يكن ثمة قيود تؤدي إلى شعورها بفقدان حريتها إذا تجاوزت القوانين المدنية والسياسية التي كانت تمثِّل قيدًا — يصعب إغفاله — يحُول بين المرأة الأوروبية وممارسة دور حقيقي في المجتمع، فقد ظلت المرأة الإنجليزية — مثلًا — حتى ١٨٨٢م ممنوعة من حق الإشراف على الأبناء مثل الرجل. ولم يصدر القانون الذي يعطي المرأة حق الانتخاب إلا في ١٩١٨م، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. الأمر نفسه — تقريبًا — في معظم الدول الأوروبية. وتحدد سيمون دي بوفوار عام ١٩١٨م بداية جدية وحقيقية لتحرر المرأة الفرنسية، عندما كان الاحتياج للأيدي العاملة في فرنسا شديدًا، لأن أعدادًا هائلة من الرجال كانت قد ابتلعتها الحرب، ومن ثَم فلم يكن ثمة بد من الاستعانة بالمرأة. وعندما تحرك نحو ٢٦٪ من نساء فرنسا نحو العمل، بدأ تحرك موازٍ للحصول على حقوق المرأة السياسية.٩٠ أما المرأة المصرية فقد كانت تعاني الحجاب والمشربيات المغلقة، وحياة الحريم، وسطوة الرجل المطلقة.
إن مسرحية «بيت الدمية» لإبسن — مثلًا — تخاطب المرأة الأوروبية في الدرجة الأولى، وتوقظها بشدة من حلم المساواة التامة الذي رضيت به. كان الزوج حريصًا على أن يعامل زوجته نفس المعاملة التي لقيتها من والدها، باعتبار أنها لا تقوى على تحمُّل تبعات الحياة الجادة، بينما كانت نورا تتوق — في أعماق نفسها — إلى تحقيق ذاتها، وإلى أن تثبت أنها ليست دمية، بل قوة بنَّاءة لو أتاح لها المجتمع الفرصة. وبدأت المرأة الأوروبية تراجع حياتها، بعد أن أيقنت أن الحرية ليست في ارتداء أحدث الموضات، وليست في الخروج إلى السهرات والحفلات الصاخبة، ولكنها معايشة هموم المجتمع ومشكلاته بصورة حقيقية وتامة، وبدأت الأشغال التي كانت وقفًا على الرجل تفتح ذراعيها للمرأة، مثل العمل في المصانع والمراكز العلمية والمستشفيات … إلخ. أما الكُتاب المصريون الذين عالجوا قضية المرأة في أوائل القرن العشرين — والأعمال التي صدرت في الفترة نفسها — فقد كانوا يخاطبون ضمير الرجل ابتداء، باعتباره السيد الحقيقي الذي تصل قدرته إلى حد منع كلماتهم من أن تصل إلى المرأة القابعة وراء أسوار الحريم، حتى لقد كتب عبد الحميد حمدي صاحب «السفور» في عددها الأول يقول: «ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا، وكل شيء يبدو على غير حقيقته، فنحن أمة محجبة بحقيقتها، بادية منها ظواهر كاذبة، وقد تبين للباحث أن هذه العلل ليست طبيعية في نفس الأمة، وإنما هي عوارض تزول بزوال أسبابها.» ويتحدث الفنان عن تلك الفترة التي أعلن فيها الجيل سخطه على الحجاب، وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء.٩١
من هذه الزاوية يجب أن تتحدد نظرتنا إلى المعركة الضارية التي خاضها قاسم أمين دفاعًا عن قضية المرأة، والتي تمثَّل خصمها الأقوى في لواء مصطفى كامل — وهنا وجه العجب — بعكس «المؤيد» التي أفسحت صدرها للمعارضين والمؤيدين في آن. وقال مصطفى كامل إنه قد زار بلادًا أوروبية كثيرة، ودرس أحوال المرأة الغربية، فوجد الحرية قد أفسدت على المرأة آدابها، ومحت كثيرًا من الأخلاق الفاضلة، حتى عمت الشكوى هناك، وما وافق تلك البلاد غير ما يوافق البلاد الإسلامية، لأن العادات والتقاليد مختلفة. ومن هذه الزاوية أيضًا، يجدر ملاحظة أن نضال المرأة، دفاعًا عن حريتها، لم يكن من جانب واحد فقط، فقد كان الرجل — في المقابل — يدافع عما يراه حقوقًا مكتسبة له، وأولها حق السيطرة على الجنس الأضعف، والذي كفلته له الطبيعة منذ بدء الخليقة؛ ألم تخرج المرأة الأولى من ضلع الرجل الأول؟! بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الصعب على المرأة أن تتخلص — ببساطة — من الرواسب التي عانتها، طيلة عهود الاضطهاد، فهي تقنع نفسها بالتحرر، و«تتصور» أنها قد أصبحت في موقف الندية للرجل، وربما تهيئ لها الظروف من حولها تأكيدًا لهذا التصور، ولكن الرواسب في موضعها من الأعماق يصعب التخلص منها. ومن هذه الزاوية — أخيرًا — تتبدى أسطورية الرحلة التي قطعتها المرأة المصرية منذ وصفها إدوارد لين، بأنه لا يبدو من ثيابها سوى العينين المخضبتين بالكحل، والأصابع المخضبة بالحناء، وإلى جوارها يسير ابنها الطفل. ثم خروج أمينة إلى الحسين لتحطم أسوار ربع قرن من العبودية، ثم — بعد ذلك بنحو عشرين عامًا — إلى شيء آخر في قصص محمود كامل، فهي المرأة التي يغفر لها الزوج خطيئتها، وهي الحبيبة التي يعتبر الحبيب ماضيها ملكًا لها، ومن حقِّها إخفاؤه، ثم هي الزوجة في قصة محمد عبد الحليم عبد الله «حلاوة ونار»، تلك التي كانت تنتهز فرصة سفر الزوج لإحدى صفقاته، لتسافر إلى بلدة الحبيب الغائب،٩٢ ثم هي فتاة القطار في قصة محمد صدقي «لحظة حب» التي تحلم بأن تكون محبة محبوبة، ثم هي فتاة الأوتوبيس في قصة يوسف إدريس «محطة» التي تعطي موعدًا لشاب على مسمع من الركاب، وعلى مرأًى منهم. وتعبِّر آمال (بيت الطالبات) عن تلك الرحلة المضيئة للفتاة المصرية، حتى تنشئ — باختيارها — علاقة عاطفية مع شاب، مع رجل، وأن تكون محبة محبوبة «هذا الرجل، لا يعرف أنني لكي أصل إليه، لكي أجلس أمامه بجسدي الناحل، ووجهي الشاحب، وأصابعي السمراء، خضت صراعًا كبيرًا، بنيت كياني من خلال أب قاس، وأم خاضعة، ومجتمع ينظر إليَّ على أني مخلوق ناقص، أنا بنت، فماذا أستطيع أن أفعل؟»٩٣

•••

في رواية «الحال والمآل» التي تصور مجتمع القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر (تبدأ أحداث الرواية في ١٨٩٥م) يحرص أحمد حافظ عوض — ابتداء — على توضيح وجهة نظره التي تعيب على المجتمع امتلاك الرجال للنساء كما تُملك الأرقاء، وحجبهن في البيوت كما توضع الطيور في الأقفاص، فإذا خرجن ارتدين أثوابًا سوداء وبراقع بيضاء كأنهن الألاعيب أو الموتى تسير في الأكفان. ثم يتبدى موقف الفنان تأييدًا صريحًا للمرأة، ومعاداة لأفكار الرجل وتصرفاته، فهو يتحدث عن طالبات المدرسة التي التحقت بها بطلته بأنهن «سيصرن يومًا أمهات يلدن الأولاد، ويذقن آلام الوضع، ويتحمَّلن مشاق تربيتهم، والعناية بهم من ملبس ومأكل ومشرب ونظافة، ويسهرن عليهم في الليل، ويحترسن عليهم في النهار، ويعُلنَهم في كل ساعة، وإن مرض ولد حزنَّ عليه، وبِتن على أحر من الجمر في انتظار الطبيب والخوف من المنية، وهكذا يقضين أيامهن في الشقاء والعناء.»٩٤ ثم يضغط الفنان على أن هؤلاء الفتيات الصغيرات «قد يكن في مستقبل الأيام آلة في يد أهواء الرجال الجهلاء ذوي الأغراض السافلة والنفوس الدنيئة الذين يتزوجون بهن، ويعبثون بطهارتهن، وبعد أن يقضوا لبانات أغراضهم يطلقونهن، ويتركونهن عرضة للهدف، أو مع طفل أو طفلين صغيرين، يتكبدن لأجلهما العناء والبلاء.»٩٥
لقد نشأ الشاب على تقاليد فاسدة، تحتضن الفراغ، وترفض العمل بكل صوره، فهو يقضي وقته في ركوب الخيل ولعب الطاولة مع أصدقاء أبيه، والتنافس في تناطح الخراف ومصارعة الديكة. فلما بلغ عامه السادس عشر، زوَّجه أبوه فتاة تركية، «وأنفق في عرس ولده جزءًا كبيرًا من ثروته ليظهر بمظهر الأبهة والفخفخة اللائقة بمقامه العالي بين الفلاحين والأتباع.» ولكن الزواج لم يعمَّر طويلًا، فقد ضرب الشاب زوجته، وأصر والدها على تطليقها منه. وقبل أن تتسرب الأموال التي ورثها كامل بك عن والده — بعد وفاته — وُفِّق رجل صالح في تحريضه على الاستقامة، وعلى دفعه إلى الزواج للمرة الثانية، فأنجب طفلة سمَّاها أسماء.٩٦
كان الزواج — كما يقول الفنان — كل ما يخطر في بال فتاة في الرابعة عشرة من عمرها.٩٧ وكان خروج الفتاة — أي فتاة — سافرة الوجه أمرًا لافتًا للنظر، فظن أنها أجنبية، أو أنها مصرية أهملت التقاليد الصارمة. ولعله من هنا كان سؤال محمد لفتاته في لقائهما الأول: كيف تكونين مصرية وتخرجين هكذا مكشوفة الوجه وليس من عاداتنا رفع النقاب!٩٨ وتعبِّر أسماء عن موقف جيل الفتيات المصريات الطالع في أواخر القرن التاسع عشر من قضية الحجاب، في ردِّها على السؤال: أيهما أفضل عندك: الحجاب أو رفعه؟ تجيب: أقول لك الحق: إنني لا أميز بينهما، لأنني للآن لم أحجب، وما زلت صغيرة السن، ولكن قياسًا على ما أراه في منازلنا، ووجود نسائنا في دائرة ضيقة، محرومات من التمتع بمثل هذه المناظر الجميلة، أرى أن الحجاب استبداد من الرجال، وضعف للمرأة في قواها العقلية والجثمانية. ويسأل: إذا كان هذا رأيك، فكيف تقبلين العودة إلى الحجاب؟ تجيب: أقبله مضطرة بحكم العادة.٩٩ وإذا كانت أسماء قد حجبت في البيت بعد انتهاء دراستها الابتدائية، وأصبحت لا تخرج إلا بالنقاب، لكن ذلك لم يمنعها عن لقاء حبيبها سرًّا في الليل والنهار.١٠٠ ثم يعلن الفنان رأيه — صراحة — في الحجاب: «هذا ما يسمونه بالحجاب في بلادنا الذي يجب أن نحافظ عليه، وإلا كفرنا وفسدنا وضللنا وفسقنا.»١٠١
أما محمد السباعي فقد حاول أن يمسك بالعصا من وسطها — على حد التعبير المعروف — فأخفق في ذلك بصورة مؤكدة. دليلنا كتابه «المرأة الجديدة في مركزها الاجتماعي» إنه يضم مجموعة من الأفكار المتناقضة والمشوَّشة للكاتب ولغيره من الكُتاب العالميين، يصعب أن تندرج حتى تحت ذلك العنوان الذي اختاره الكاتب. فالفصل الأول يدافع عن نظرة الإسلام إلى المرأة، وأنه قد وضعها في مكانة تفوق — بمراحل — مكانتها في الجاهلية، أو في الديانات الأخرى، وفي الشعوب الأخرى أيضًا. ويدلل على رأيه بنماذج من الولايات المتحدة تضغط على التفسخ اللاأخلاقي الذي أصبح سِمة للحياة الأمريكية نتيجة لوضع المرأة هناك. وفجأة، يطلع علينا الكاتب بمجموعة من الآراء التي تضع إطارًا بالغ الرداءة لصورة المرأة، فقد «قلَّدت الطبيعة المرأة وظيفة تربية الأطفال، لأن المرأة بفطرتها صبيانية الذهن، قصيرة النظر، حمقاء، أو بعبارة أخرى هي طفلة طول حياتها، هي شيء بين الطفل والرجل، صاحب الرجولة التامة. انظر إلى الصبية، كيف تقضي اليوم أثر اليوم في ملاعبة طفل صغير، ترقص معه، وتغني له، ثم تصور لو أن صبيًّا كان مكانها مع الطفل، ماذا كان يصنع؟ أكان يصنع مثلها؟ الطبيعة تهب الفتاة حظًّا وافرًا من الحسن والملاحة لمدة بضعة أعوام قلائل أثناء الشباب، ثم تسلبها بعد ذلك هذا الجمال، والسر في ذلك هو أن طبيعة تمد الفتاة في تلك البرهة بالسلاح اللازم لاقتناص رجل يكون عائلًا لها، وقائمًا بشئونها، وحافظًا لحياتها، حتى إذا تم لها ذلك نزعت الطبيعة عنها ذلك السلاح، فالطبيعة تبدي في ذلك مبدأها الاقتصادي المعهود، وهو تقديم ذخائرها لأبنائها وقت الحاجة فقط.»١٠٢ وأخيرًا، يفصح السباعي — ربما — عن الهدف الذي أملى عليه كتابه، عندما يستشهد بكلماتٍ لفيلسوف ألماني. ثم يتساءل: فماذا يقول دعاة السفور بعد كلمة هذا الفيلسوف الألماني الكبير؟ ولكن السباعي يعود فيناقش نظام تعدُّد الزوجات، ويرفضه صراحة «الانحطاط والبربرية نتيجة لزمية لنظام تعدُّد الزوجات.»١٠٣ ويضيف: «ومما يزيد النظام المذكور شناعة آفة الحجاب، وتضييقه بالخناق على الجنس اللطيف — هي جنس لطيف إذن؟! — في كافة أنحاء المشرق.١٠٤ أما الزواج الذي لا يسبقه تعارف بين الزوجين، فمصيره الفشل لا جدال، ولما كان الحب مما لا يملكه الإنسان، بل هو اضطراري، أصبح ذلك الواجب يستلزم واجبًا أسبق وهو التحاب قبل الزواج، هذا هو قانون الطبيعة الذي لا يُنقَض.»١٠٥ ولكن الأفكار المشوشة تمضي في تفرعها، فنقرأ في كيفية توطيد دعائم الأمن والسلام في الأسرة إنه قد كُتب على الزوجة الخضوع للرجل والانقياد لأمره، والنزول على حكمه، وحكم الرأي العام والنواميس الأدبية السائدة السارية، والاصطلاحات الاجتماعية الشائعة الجارية، سنة الله التي ليس للمرء عنها محيد ولا منحرف، إلا إلى ما هو أضر وأقسى، وأمر وأدهى.١٠٦ مع ذلك، فإن السباعي ينادي بوجوب التربية الجنسية من الأبوين لأبنائهما حتى لا تعتب الفتاة ذات يوم: «لِمَ لَم يعلِّمني أبواي هذه المسائل قبل أن ينفذ السهم؟ لم لَم يعرِّفني أبواي ويفسران لي من أسرار هذه المسائل ما كان يجب عليَّ أن أعرف لأحترس من أخطارها، ولأحذر شرورها ومضارها.»١٠٧ ويجد السباعي حلًّا بارعًا لكل المشكلات التي طرحها، وهو الزواج «إنه العصمة المنيعة والحصن الحصين من بوادر تلك الآفات التي تهدد كرم الأسرات وسرف البيوتات، وتسمم شرايين الحياة الاجتماعية، وتهدم قواعد العيشة الطيبة الهنية. والزواج هو مفتاح السعادة الخالصة التي لا تشوبها شائبة، وهو السبيل المؤدية إلى الثراء والغبطة والرخاء، وإلى تقدم الشعوب، ورقي الأمم وإحرازها قصب السبق في مضمار الحياة الشريفة، وبلوغها الغاية في ميدان الفصل والأخلاق السامية المنيعة.»١٠٨ وحتى لا يتوه القارئ مثلما تاه الكاتب في سبيل الوصول إلى آراء واضحة ومحددة، فإنه يلجأ — أخيرًا — إلى عباس محمود العقاد، ينقل مقالة له بعنوان «نقائص المرأة»، يجمع فيها العقاد نقائص البشر كلها فيصبها — في ثقة غريبة — فوق رأس المرأة!

•••

الحريم مشتقة من الحرام، وهو كل مقدس ومحرم، والمقصود هنا هو البيوت التي تقتصر الإقامة فيها على النساء، فلا يدخلها الرجال، ما عدا أرباب الأسر من الرجال، بالإضافة إلى العبيد والخصيان. ومع أن كلمة «الحريم» تُنتسَب إلى الحياة التركية، فإن السيدات الأتراك كن يمثِّلن بُعدًا متحررًا في الحياة المصرية، وكان الحجاب عند الأتراك متفقًا مع الشريعة في عدم تغطية الوجه والكفَّين والقدمَين.١٠٩ واللافت أن الأم عند آل شوكت هي التي سعت لتزويج ولدَيها، وتبدو شخصيتها المسيطرة في أحاديثها مع أحمد عبد الجواد. إنها ثمرة حياة الحريم التي فرضت نفسها في المجتمع التركي لقرون متلاحقة. يبدو الرجال — بداية من السلطان — بمظهر القوة الحاكمة، والمسيطرة، بينما المرأة تخلد إلى حياة الحريم، بعيدًا عن المشكلات السياسية والاجتماعية. كان الرجال — في الواقع — يتلقَّون الأوامر من النساء اللائي كن يسيطرن على حياة المجتمع من وراء المشربيات والخدور. وينبغي الإشارة إلى أن الدعوة إلى إلغاء الحجاب لم تصادف في البيئات المسيحية الصدود نفسه الذي لقيته في البيئات الإسلامية. ودعا غالبية الكتَّاب الأقباط إلى تحرير المرأة من الحجاب «وقالوا إن المرأة القبطية لم تكن تعرف الحجاب، وإنما الذي فرضه عليها هو أحمد بن طولون، وذكروا أن الحكم الإسلامي كان السبب في تأخر المرأة القبطية وتخلُّفها عن نساء العالم، وأن الدين المسيحي نهى عن الحجاب، وعن تغطية وجه المرأة بالبرقع، وعن لف جسمها بالحَبَرة أو الإزار، وقالوا إن المرأة القبطية طُبعَت على العفة والطهارة، وأن هذه الصفات طبيعية فيها منذ عصور الوثنية.»١١٠ وكان الأوروبيون يصحبون نساءهم وبناتهم في السهرات الخاصة، وفي الأندية.١١١ وكانت ملاحظة صلاح — الحسناء الوفية — الأولى عندما شاهد جوليا إنها كانت ترتدي الزي الأوروبي، بينما كانت في السن التي يحتم عليها «الائتزار» فيما لو كانت شرقية مسلمة، فهي إذن غربية، أو من طائفة غير مسلمة.١١٢

والحق أن الوضع الاقتصادي للطبقات الأدنى — سواء في المدينة أو القرية — كان يجعل من سفور المرأة أمرًا محتمًا، فالحجاب له تكاليفه، والمسكن يتألف — غالبًا من غرفة واحدة، يمارس فيها أفراد الأسرة كل شئون حياتهم اليومية، حتى استقبال الزوار تشارك فيه النساء — ولو اضطرارًا — مما يجعل من الحجاب أمرًا متعذرًا. والمرأة الفقيرة تدير شئون بيتها بمفردها، فهي تضطر إلى الخروج للتسوق، فإذا حجب أحدهم نساءه فإن معنى ذلك — في الأعم — تحسُّن أحواله المادية.

وعلى الرغم من أن المرأة الريفية لم تعرف الحجاب، إلا أن أسوار التقاليد فرضت عليها ما هو أقسى من الحجاب. فلا خيرة لها — غالبًا — فيمن يكون زوجها،١١٣ وهي ثوب أبيض طويل الذيل، عليها أن تمسك بذيل ثوبها، وتمشي في الطريق محاذرة، فليس بالطريق غير التراب والوحل والقش.١١٤ وهي لا تكاد تفرغ من الولادة حتى تنهض لتأدية عملها في اليوم التالي مباشرة، وهي تتولى مسئولية الرجل في الحقل، إلى جانب مسئوليتها في البيت، وهي تعنى بتربية الأولاد والبنات إلى ما بعد ذهاب الابنة إلى بيت زوجها، وتتولى تربية الأولاد الذكور إلى السن التي يصبح فيها تدخل الأب المباشر أمرًا مطلوبًا. وفي تعداد عام ١٩١٧م بلغت نسبة النساء إلى الرجال من عمال الزراعة ٤٠٪. مع ذلك، فإن المرأة ظلَّت تابعة للرجل في البيت، أو في الحقل، أو فيهما معًا. يصِف الفنان المرأة في الصعيد بأنها «شبح لا يُرى ولا ينبغي أن يُرى، وهي مخلوق جاف، لا فرق بينها هناك وبين الرجل؛ كلاهما شيء لا أثر للرقي فيه.»١١٥ ويقول وكيل النيابة لزميله مذكِّرًا: «فاكر في ديروط، لما كنا نقف في الشبابيك نبحث بعيننا فوق السطح عن قميص حريمي مشغول بالتنتنة، لأجل بس نطمئن على وجود صنف النسوان في البلد.»١١٦ وكان خضوع المرأة لسيطرة الرجل في ريف الصعيد أشد من خضوع المرأة للرجل في الحضر، وذلك لأبوية المجتمع، وسيطرة التقاليد البالية، فضلًا عن أن اشتغال المرأة كان بلا أجر دائمًا، سواء في حقل الأب أو الزوج أو ولي الأمر، وأنها — في كل الأحوال — خادمة، سواء في البيت أو الحقل.١١٧ ولم يكن يُباح للمرأة في غالبية قرى الصعيد أن تتناول الطعام إلا بعد أن يفرغ الرجال من طعامهم (كان ذلك ما يحدث في بيت «بين القصرين» القاهري أيضًا!) أو أن تمشي إلى جوار زوجها أو من في حكمه، أو أن تبادل رجلًا غريبًا عنها التحية أو الحديث،١١٨ وهي العيال، والجماعة. وعندما تدخل وطنية — هارب من الأيام — على جماعة الخير تلقي التحية: مساء الخير يا جماعة، فيقول كمال في حزم: اخرسي يا بنت، جماعة في عينك قليلة الأدب. تقول: لماذا يا سي كمال؟ أكل هذا لأني قلت يا جماعة؟ ألستم جماعة الخير؟ ظننتني — لا قدَّر الله — أقصد الجماعة التي يقصدها الفلاحون حين يتكلمون عن نسائهم؟!١١٩ وكانت المرأة حريصة على أن تنادي زوجها — وأشقاءه أيضًا — بألقاب السيادة، وتحرص إذا خرجت معه — كما أشرنا — أن تسير بعده بخطوات. وثمة حرص من الفلاح على أن يجعل نافذة داره في أعلى الحوائط، على ارتفاع أكثر من مترين، كوة صغيرة لا ينفذ منها شعاع الشمس، ربما لأن هذا هو ما كان يفعله الفلاح في القديم لكي يحمي امرأته من أعين الكاشف والملتزم والباشبوزق وجنود عسكري عسكر بونابرتة الكبير، وربما لأن حياة «الجماعة» داخل البيت تختلف عن الحياة خارجه. فإذا كان العامل الاقتصادي الملح قد ألجأ الفلاح لأن يسمح بخروج امرأته إلى الحقل تساعده، أو إلى السوق تبيع وتشتري، فإنها يجب أن تصبح «حريمًا» متى أغلق عليها باب البيت. وحتى أوائل الثلاثينيات كان نساء الشيخ يوسف (الأرض) لا يخرجن إلى الطريق كالقرويات، وإنما يخرجن في الليل والحجاب على الوجوه.١٢٠ وعمومًا، فإنه عندما تبلغ الفتاة في الريف الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، فالأصح أن تُحتجَز في البيت، فلا تخرج للعب، ولا إلى الطريق العام.١٢١ ومن هنا تأتي دلالة تلك الصورة التي تنبض بها «أيام» طه حسين عن نساء الريف المصري: «وكل امرأة في مصر محزونة حين تريد، وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعدِّدن، وكثيرًا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقًّا.»١٢٢
ومع أن «زينب» كانت تتمتع بحرية محدودة، فإنه يمكن اعتبارها شهيدة حرية المرأة المسلوبة. زُوِّجت الفتاة دون أن يستشيرها أهلها، ونُقلَت كالمتاع من بيت أبيها إلى بيت أسرة زوجها، وأسلمت خيبة الأمل زينب إلى حزن مقيم احتواها واهتصرها حتى الموت.١٢٣ ولما وُضع جثمان عزيزة (الحرام) في العربة، وتهيَّأ السائق للانطلاق، صرحت امرأة طالبة أن تصحبها، فالمتوفاة سيدة، وكل المرافقين رجال، ولا بد أن تصحبها لتحافظ عليها!١٢٤ حتى بعد الوفاة تظل المرأة عورة يجب أن تُصان!

ولا شك أن ذلك «الواقع» الذي فرض نفسه على المرأة المصرية لعشرات السنين، كان له تأثيراته السلبية على طبيعة الحياة المصرية:

  • إن إمام المسجد في «بين القصرين»، ذلك الذي ترف عينه إذا تأوَّه غلام في القلعة،١٢٥ والمعلم كرشة في «زقاق المدق»، والباشا في «السكرية» … تلك الشخصيات وغيرها، هي محصلة الواقع الأليم الذي كانت المرأة تحيا في إساره. ربما لم يعُد للشذوذ الجنسي ما يبرره، بعد أن نزعت المرأة الحجاب وغادرت أسوار الحريم، لكن التأثيرات كانت قد تركت بصماتها الواضحة في وجه المجتمع، وفي سلوكه الحياتي والأخلاقي لقادم السنين. وقد ظل الولد والبنت يلعبان مع بعضهما حتى بلغت البنت السادسة، فاحتُجزت في البيت.١٢٦ وربما يتصل بذلك أيضًا إصرار غالبية الأسر المصرية على ختان البنات،١٢٧ فمثلما كانت العفة تُفرض على العبد بالخصي، فإنها — والكلام لنوال السعداوي — تُفرَض على المرأة بالختان.١٢٨
  • لم تكن المرأة تشعر بالإهانة من معاشرة الرجل لها معاشرة جنسية فحسب، وكان الرجل — عادة — يميل إلى تقييمها ارتكازًا إلى جمالها الشكلي، والحسي في معظم الأحيان، وبالتالي فقد كانت تبذل عناية شديدة بامتلاء جسدها، حتى يرضي مزاج الرجل. وكانت المرأة التي تتطلع إلى حياة زوجية هانئة، تحرص على أن تحيط هيكلها العظمي بوسادة ثقيلة جدًّا من كومات الشحم واللحم، فهي التي ستتيح لزوجها «المتعة»، وتضمن استقرار حياتها الزوجية.١٢٩ كانت السمنة هي المظهر الوحيد لجمال المرأة «كان الجمال كل الجمال أن تكون المرأة سمينة حتى لا يكاد زوجها أن يحيطها بذراعيه.» وكان بعض النساء — حتى أوائل القرن العشرين — يطبخن الخنافس ويأكلنها طلبًا للسمنة، ويحاولن ستر نحافة جانب من أجسامهن فتطلب المرأة من الخيَّاطة أن تضع تحت الحَبَرة أسلاكًا، أو تحشوها، فتستر هذه النحافة.١٣٠ وكانت الفتاة التي تُرشَّح للزواج، تبذل محاولاتها لنسج وسادة ثقيلة من الشحم واللحم حول هيكلها العظمي، تُعَد جواز مرورها إلى الزواج ومؤهلاتها الحقيقية.١٣١ ولم يكن عمل أم حنفي في بيت «بين القصرين» يُعَد شيئًا بالقياس إلى واجبها الأول، وهو تسمين الأسرة — وبالأحرى إناثها — بما تَعِد لهن من «بلابيع» سحرية، هي رقية الجمال وسره المكنون. يقول أحمد عبد الجواد لنفسه وهو يصعد بعينيه في جسد المعلمة زبيدة: إنها لشهية لطيفة، وبها من طيات اللحم والدهن ما يدفئ المقرور في زمهرير الشتاء الذي غدا على الأبواب.١٣٢ ويتابع ياسين زنوبة العوادة وهو يهمس: «ربنا يلطف بي وبكل مسكين مثلي يؤرقه الثدي الناهد والعجيزة المدملجة والعين المكحولة. العين المكحولة في الآخر؛ إذ رب ضريرة ريَّا الروادف كاعب الثديين خير ألف مرة من عجفاء مسحاء مكحولة العينين.»١٣٣ وتصف خديجة عائشة بأنها — لا شك — جميلة، لكنها نحيلة و«السمانة نصف الجمال.»١٣٤ وبلغ الأمر بشحاتة أفندي في رواية «السقا مات» أنه غازل — يومًا — وهو يتهادى أمام القهوة بجسده السمين المربرب.١٣٥ أصبحت السمانة هدفًا في ذاته،١٣٦ لذلك فإن بعض أبناء الأحياء الشعبية لا يسمي المرأة امرأة، ولا سيدة، ولا أنثى، وإنما يسميها فخذًا، والمرأة النحيلة لا تعدل شيئًا، «إنما المرأة كل المرأة من ضخمت حتى اكتظت أعضاؤها بالشحم واللحم، فتشبه بالوسائد حينًا، وبالحشايا حينًا آخر.»١٣٧ أما سليم (عودة الروح) فقد كانت المرأة في نظره مجرد «ثدي» وجسد مكتنز، يقول لأفراد «الشعب» عن سنية: «أما يا ولاد عليها نهود، صلاة النبي أحسن، برتقال حلو صغير على أمه.» والمصريون بعامة يؤكدون أن السمرة روح الجمال ومصدر الخفة، لكنهم — في الحقيقة — من عشَّاق اللون الأبيض.١٣٨ الرجل المصري قد يتغزل في «السمار»، لكنه يميل إلى «البياض» ربما إلى حد العشق، قد يكون السبب في أن المرأة البيضاء تذكِّر بعهود الاستعمار، سواء الأتراك أو الأوروبيين. وقد يكون في أن المرأة البيضاء تميل إلى الرجل الأسمر، والعكس صحيح. وقد تكون هناك أسباب أخرى، ومن هنا يأتي المثل: «يا ريتني بيضة ولي جنب … ده البياض عند الرجال يتحب» … وتلخص زبيدة (قصر الشوق) صورة المرأة في عينَي الرجل، في قولها لأحمد عبد الجواد: «أعوذ بالله منكم يا رجالة … لا تودُّون المرأة إلا مطية.»١٣٩ لكن ذلك العشق للجمال بمظاهره المختلفة، ينتهي — بالإسراف في النسل — على حد تعبير الفنان — إلى أن يفنى جمال المرأة، ويصيبها ما يصيب كل امرأة في مصر من ذبول الشباب في عنفوانه، وتشوُّه ملامح الحسن في ربيعه.١٤٠ من هنا يأتي رأي بعض الرجال أن «المرأة إذا جاوزت الشباب لم تعُد امرأة.» وفي تعبير آخر، فإن «المرأة أقصر المخلوقات عمرًا، وإن هرمت.»١٤١
  • وعلى الرغم من التقاليد القاسية والحجاب والمشربية، وكل الضغوط التي حوَّلت البيت إلى سجن لا تغادره المرأة إلا إلى القبر، فإن الأسئلة تطرح نفسها حول بعض العلاقات آنذاك. تقول حكمت (مسامرات العصر) لصديقتها وحيدة، حين تشكو لها شابًّا بثَّها حبه: «والله يا وحيدة ليس لك حق في هذا، ولماذا لا تبادلينه حبه؟ إني أعرف كثيرًا من صديقاتي يكاتبن الشبان، حتى أصبح لكل فتاة فتى تداعبه وتكاتبه، ولو من قبيل صرف الوقت إشباعًا لبعض الشهوات.»١٤٢ وتنصت وحيدة — بإشفاق — إلى ما ترويه حكمت عن زكي ابن معاون الإدارة الذي حدث بينها وبينه مكاتبات ومقابلات. وحين علم بقرب خطبتها لآخر، أرسل لمقابلتها، وأنذرها — إذا شاءت أن تقطع علاقتها به — أن تختار بين أمرٍ من ثلاثة: إما أن تبحث عن عمل له وتقبل الزواج منه، على أن تساعدهما أسرتها، أو أن يطفئ شهوته منها (!) قبل زواجها، أو أن يقدم صورها ورسائلها إلى خطيبها ليمنع زواجها منه.١٤٣ القصة أقرب إلى ما تقدمه السينما المصرية في زماننا الحالي: الشاب الفاشل الذي يورط فتاته في علاقة، لا يلبث — فيما بعد — أن يبتزَّها بها!
  • وكان للحجاب كذلك تأثيراته المزعجة، حتى إن سطيحًا يقول: لقد فعلوا تحت الحجاب ما ينكس له الأدب رأسه. وتلك قضية قديمة، مبعثها — كما يقول الرحالة الفرنسي جيرار دونرفال — أن الحجاب يتيح للمرأة المصرية حرية أكبر من السفور؛ ذلك لأن المرأة المحجبة تستطيع أن تفعل ما تشاء دون أن يعلم أحد هويتها، فهي لن تكون سوى واحدة من آلاف الخيام المتحركة التي تسير في شوارع القاهرة. ويؤكد جيرار رأيه بحكايات من بينها أن بعض النساء كن يذهبن إلى بيت للزيارة أو إلى الحمام، ويتركن الحارس على الباب، ويخرجن من آخر ليفعلن ما شئن، ثم يعُدن ليخرجن من الباب الأول، مع الأغا المنتظر! وفي «بين القصرين» يطارد ياسين سيدة في الطريق، ويلقي على سمعها عبارات غزل، وتبيِّن له عن وجهها، فإذا هي أخته خديجة! الموقف نفسه يواجهه اليوزباشي سليم العطيفي،١٤٤ يعاكس جسدًا متموجًا، ويفاجأ بأن الجسد لشقيقته زنوبة. ويطارد أحمد (في قافلة الزمان) امرأة لم يستطع أن يكتم إعجابه بها، فراح يهمس لها بعبارات غزل رقيقة، وانفلتت من جواره وهي تضحك. ولما دلفت من باب البيت وقفت، والتفتت إليه، فألفى نفسه يقوم من كرسيه وينطلق إليها، فقد كانت فيه خفة، ولما اقترب منها غاضت نشوته وأحس خزيًا؛ كانت كبرى بناته.

    والسؤال هو: هل كان تشابه المواقف الثلاثة لطرافة في طبيعة الموقف؟ أو أن الأمر كله لا يعدو تعبيرًا عن مأساة الحجاب؟!

    كان الحجاب كذلك دافعًا لأن ينشد الرجال صداقة السافرات من النساء «وإذا كنا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء الشبان بأنهم أخطئوا لأن ما عملوا ليس من ذنبهم، وإنما هو ذنب مجتمعهم المصري المبقي على عادة الحجاب.» وقد تعرَّف فخري («مأساة قروية» لعيسى عبيد) إلى حياة الخطيئة نتيجة لتلك «التقاليد الشرقية التي قضت على الاختلاط الجنسي، وحالت بينه وبين الفتيات، فاضطر كثير من شبابنا للاتجاه إلى بائعات الهوى لإخماد الجذوة الإحساسية المتقدة في أعماق قلبه.» وتقول إحسان هانم في رسالتها إلى دولت: «إني ألمس هنا يا دولت مرضًا من أعظم وأخطر أمراضنا الاجتماعية، فإن الشاب المصري حينما يستيقظ قلبه البدري البكر، يهب مطالبًا بمخلوقة طاهرة مثله، تشاطره عواطفه الفياضة المضطربة الغامضة، ولما لا يجدها بين فتيات أسراتنا؛ إذ الحجاب وتقاليدنا الشرقية تحُول بينه وبين الحب الشريف، يضطر رغمًا عنه إلى الالتجاء إلى بائعات الهوى.» واللافت أن قصص عيسى عبيد ارتكزت بعامة إلى الجاليات الأجنبية والمتمصرة، في تصويرها للعلاقات الاجتماعية والعاطفية، لأن أي دور للمرأة المصرية كان قد اختفى وراء الحجاب، ثم كان محمود كامل هو أول من عرض لمشكلات الفتاة المصرية بنفس الأسلوب الذي كان يعالج به عيسى عبيد مشكلات الفتاة الأجنبية، أو المتمصرة.

  • ثم تتولد — بالتالي — عن تلك العلاقات الزوجية المتهرئة، عدة مشكلات، تكاد لا تتغير، حدَّدها أحمد فارس الشدياق قبل مائة وخمسين عامًا: الفقر … الفارق في السن بين الزوج والزوجة … غرور الرجل وصلفه، ومعاملته السيئة للمرأة … زيادة الشعور بالغيرة عند المرأة … انصراف الرجل عن البيت … تدخُّل الحماة — أم الرجل أو أم الزوجة — في شئون البيت بما يفسد الوفاق الأسري،١٤٥ … برود المرأة، أو ضعف الرجل جنسيًّا … إلخ، ولعل قصص محمود طاهر لاشين هي الأشد تعبيرًا عن المشكلات «الأسرية» مثل بيت الطاعة، تعدُّد الزوجات، الخيانات الزوجية، الزواج غير المتكافئ في السن أو في المستوى الاقتصادي.

هوامش

(١) محمد كاظم ميلاني، السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ١١٢-١١٣.
(٢) المصدر السابق، ١١٧.
(٣) المصدر السابق، ٣١٢.
(٤) المصدر السابق، ١٦.
(٥) المصدر السابق، ٤٨.
(٦) المصدر السابق، ٥١.
(٧) المصدر السابق، ٥٣.
(٨) المصدر السابق، ٥٩.
(٩) المصدر السابق، ٧٦.
(١٠) المصدر السابق، ٧٧.
(١١) المصدر السابق، ٧٨.
(١٢) المصدر السابق، ٦٧.
(١٣) المصدر السابق، ٨٠.
(١٤) المصدر السابق، ٨٦.
(١٥) المصدر السابق، ٨٦.
(١٦) المصدر السابق، ٨٧.
(١٧) المصدر السابق، ٨٨.
(١٨) المصدر السابق، ٨٩.
(١٩) المصدر السابق، ٩٠.
(٢٠) المصدر السابق، ٩٠.
(٢١) المصدر السابق، ٩٣.
(٢٢) المصدر السابق، ٩٤ وما بعدها.
(٢٣) المصدر السابق، ١١٢.
(٢٤) المصدر السابق، ١١٢.
(٢٥) المصدر السابق، ١١٤.
(٢٦) المصدر السابق، ١٢٣.
(٢٧) المصدر السابق، ١٢٣.
(٢٨) المصدر السابق، ١٢٣.
(٢٩) المصدر السابق، ١٢١.
(٣٠) المصدر السابق، ١٢٤.
(٣١) المصدر السابق، ١٢٦-١٢٧.
(٣٢) المصدر السابق، ١٢٩.
(٣٣) المصدر السابق، ٣٠٦.
(٣٤) المصدر السابق، ٣٠٧.
(٣٥) المصدر السابق، ٣١١.
(٣٦) المصدر السابق، ٣١١.
(٣٧) المصدر السابق، ٣١١.
(٣٨) المصدر السابق، ٣١٣.
(٣٩) المصدر السابق، ٣١٤.
(٤٠) المصدر السابق، ٣١٥.
(٤١) المصدر السابق، ٣١٧.
(٤٢) المصدر السابق، ٨٦-٨٧.
(٤٣) محمد لطفي جمعة، شاب فقير، في بيوت الناس، مطبعة النيل، ١٩٠٤م.
(٤٤) في بيوت الناس، ٧٣.
(٤٥) المصدر السابق، ٧٨.
(٤٦) مؤلفات محمد تيمور، ربي لمن خلقت هذا النعيم، المكتبة العربية.
(٤٧) مصطفى لطفي المنفلوطي، الحجاب، العبرات، المكتبة التجارية، ١٩٤١م.
(٤٨) المصدر السابق.
(٤٩) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٩٧-١٩٨.
(٥٠) المصدر السابق.
(٥١) نقولا يوسف، قسمة ونصيب، مواكب الناس، مطبعة دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ١٩٥٢م.
(٥٢) مي زيادة، العم أبو حسن يستقيل، السياسة الأسبوعية، ٢٢/ ١/ ١٩٢٧م.
(٥٣) فريد حبيش، النفس الحائرة، المكتبة العصرية، ١٩٢٧م، ٩٠.
(٥٤) محمد تيمور، عطفة اﻟ … منزل رقم ٢٢، ما تراه العيون، مؤلفات محمد تيمور، المكتبة العربية.
(٥٥) أميرة الأزهري سنبل، النساء والأسرة وقوانين الطلاق في التاريخ الإسلامي، المجلس الأعلى للثقافة، ١٧٦.
(٥٦) محمد حسين هيكل، زينب، دار النهضة المصرية، ٣١.
(٥٧) عيسى عبيد، إحسان هانم.
(٥٨) أحمد خيري سعيد، الدسائس والدماء، مطبعة الهلال، ١٩٣٥م.
(٥٩) بين القصرين، ١١٢.
(٦٠) سيد القرية، من الأعماق.
(٦١) عالم الفكر، العدد ١٣٠.
(٦٢) مذكرات الشباب، ٤٠.
(٦٣) نجيب سرور، رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ، دار الفكر الجديد، ٢١٠.
(٦٤) الباقي من الزمن ساعة، ١٠.
(٦٥) عودة الروح، الرواية.
(٦٦) قصر الشوق، ١٨٤.
(٦٧) نحن لا نزرع الشوك، ٢٦٧.
(٦٨) مؤلفات محمد تيمور، ٣١٨.
(٦٩) القرية المتغيرة، ١٥٢.
(٧٠) قصر الشوق، ٣٨.
(٧١) السراب، ١٨٨.
(٧٢) رمسيس عوض، التاريخ السري للمسرح، ١١٦.
(٧٣) عودة الروح، الرواية.
(٧٤) نقلًا عن طه حسين الشاعر الكاتب، ١٣٤.
(٧٥) عبد الحميد جودة السحار، هذه حياتي، مكتبة مصر، ٢٠.
(٧٦) بين القصرين، ٣٥٧.
(٧٧) مذكرات الشباب، ٤١.
(٧٨) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، كتاب الهلال، ٢٠٢.
(٧٩) عبد العزيز عمر ساسي، سيد القرية، من الأعماق، جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية، ١٩٣٣م.
(٨٠) مذكراتي في نصف قرن، ١: ٤٩.
(٨١) نجيب محفوظ، حضرة المحترم، مكتبة مصر، ٢٨.
(٨٢) المرأة في عصر الديمقراطية، ١٠٧.
(٨٣) الباقي من الزمن ساعة، ٧.
(٨٤) سجن العمر، ٢٢.
(٨٥) نذير أحمد الدهلوي، التوبة، ت. سمير عبد الحميد إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة، ٦١.
(٨٦) فاروق أبو زيد، الديمقراطية في الصحافة المصرية، ١٦٢.
(٨٧) فاروق أبو زيد، الصحافة وقضايا الفكر الحر في مصر، ٢٦٩–٢٧٢.
(٨٨) نبوية موسى، تاريخي بقلمي، ٨٠.
(٨٩) فجر القصة المصرية، ٣٤؛ أيضًا: مختار التهامي، الصحافة والفكر والثورة، ثلاث معارك فكرية، ٤٤-٤٥.
(٩٠) الطليعة، أبريل ١٩٦٧م.
(٩١) إبراهيم عبد القادر المازني، من النافذة، دار المعارف، ١١٥.
(٩٢) محمد عبد الحليم عبد الله، حلاوة ونار، ألوان من السعادة، مكتبة مصر.
(٩٣) بيت الطالبات، ١٠٠.
(٩٤) أحمد حافظ عوض، رواية «فسحة الأمل ورواية الحال والمآل»، مكتبة ومطبعة الشعب بشارع محمد علي بمصر، ٦٣.
(٩٥) المصدر السابق، ٦٣.
(٩٦) المصدر السابق، ٥٨.
(٩٧) المصدر السابق، ٦٧.
(٩٨) المصدر السابق، ٧٩.
(٩٩) المصدر السابق، ٧٦-٧٧.
(١٠٠) المصدر السابق، ٧٩.
(١٠١) المصدر السابق، ٨٣.
(١٠٢) محمد السباعي، المرأة الجديدة في مركزها الاجتماعي، ٣٥.
(١٠٣) المرجع السابق، ٥٣.
(١٠٤) المرجع السابق، ٥٤.
(١٠٥) المرجع السابق، ٦٩.
(١٠٦) المرجع السابق، ٧٧.
(١٠٧) المرجع السابق، ٩٧.
(١٠٨) المرجع السابق، ٩٩.
(١٠٩) الحركة النسائية في مصر، ١٣٤.
(١١٠) قمر سيد كيلاني، الأدب القبطي، مكتبة الهلال بالفجالة، الطبعة الأولى، ١٩٦٢م، ١٨٩.
(١١١) الحسناء الوفية، ٣٠.
(١١٢) المصدر السابق، ٣٣.
(١١٣) محمود تيمور، محمد أفندي صلِّ على النبي، إحسان لله، مكتبة الآداب.
(١١٤) يحيى الطاهر، الطوق والأسورة، الأعمال الكاملة، دار المستقبل العربي.
(١١٥) يوميات نائب في الأرياف، ١٥٢.
(١١٦) المصدر السابق، ١٦٣.
(١١٧) إنجي أفلاطون، نحن النساء المصريات، ٧.
(١١٨) المرجع السابق، ٧.
(١١٩) هارب من الأيام، ٢٠٣.
(١٢٠) عبد الرحمن الشرقاوي، الأرض، دار النشر المصرية، ١٩٥٤م، ١٤٤.
(١٢١) أمينة قطب، أختان، الأطياف الأربعة، مكتبة مصر.
(١٢٢) الأيام، ١: ٢٦.
(١٢٣) زينب، الرواية.
(١٢٤) الحرام، ١٣٧.
(١٢٥) بين القصرين، ٤٧٥.
(١٢٦) نجيب محفوظ، الطاحونة، صدى النسيان، مكتبة مصر.
(١٢٧) حي محرم بك، ١٢٩.
(١٢٨) نوال السعداوي، المرأة والجنس.
(١٢٩) كمال النجمي، مطربون ومستمعون، كتاب الهلال، ١٢٢.
(١٣٠) هكذا خُلقت، ٢٤.
(١٣١) مطربون ومستمعون، ١٢٢.
(١٣٢) بين القصرين، ١٠١.
(١٣٣) المصدر السابق، ٢٧٩.
(١٣٤) المصدر السابق، ٢٧٧.
(١٣٥) السقا مات، ٨٨.
(١٣٦) بين القصرين، ٢٠.
(١٣٧) الأيام، ٢.
(١٣٨) خان الخليلي، ١٤٣.
(١٣٩) قصر الشوق، ٨٩.
(١٤٠) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٥٥.
(١٤١) السراب، ٢٥٩.
(١٤٢) عبد الكريم أحمد السكري، مسامرات العصر، ٧١.
(١٤٣) المصدر السابق، ٧٧–٨٢.
(١٤٤) عودة الروح، ٥٩.
(١٤٥) يُرجِع إدوار لين اسم حماة إلى فعل «حِمى»؛ ذلك لأن الأزواج الميسوري الحال كانوا يفضِّلون أن تقيم أمهاتهم معهم في بيت الزوجية لكي «تحمي» الأم زوج ابنها، و«تحمي» بالتالي شرف الابن (إنجليزي يتحدث عن مصر، ٦٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥