نذر ثورة ١٩١٩م
قال ياسين: حصل ما لم يحصل منذ أعوام، فانتهت الحرب وسلم غليوم.
تساءلت الأم: هل يذهب الغلاء والأستراليون؟
١
انتهت أكبر حرب عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت، بعد أن استمرت أربع سنوات، بسقوط
الإمبراطوريات الألمانية، النمساوية، المجرية، العثمانية. وهي الدول التي جمعها التحالف
ضد كل من إنجلترا وفرنسا وروسيا. وبلغ مجموع قتلى الحرب حوالي عشرة ملايين شخص، بينما
وصل
عدد المصابين بجروح خطيرة إلى أكثر من ستة ملايين نسمة، بالإضافة إلى ستة ملايين ما بين
أسير ومفقود.
٢
•••
لم يكن يوم الثالث عشر من نوفمبر ١٩١٨م هو أول الأيام التي طالب فيها المصريون
بالاستقلال، فقد كان الشرط الوحيد للزعماء المصريين لتأييد إنجلترا في الحرب العالمية
الأولى — بعد ساعات من نشوب الحرب — هو أن «مصر مستعدة لمناصرة بريطانيا العظمى، بشرط
أن تعترف باستقلالها»، ذلك ما صارح به حسين رشدي السير ريجنالد وينجت، فأبدى السفير
ارتياحه للفكرة، ووعد بأن يعرض الأمر على حكومته.
٣ وقد اعترف وينجت — فيما بعد — بأنه «علينا أن نتوقع عرضًا صريحًا للأماني
الوطنية حين تنتهي الحرب.»
٤ وفي تعقيب سعد زغلول على محاضرة للمستر برسيفال القاضي الإنجليزي في نادي
جمعية الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع (٧ فبراير ١٩١٩م) ضغط على هذه الحقيقة بكلمات
واضحة: «في سنة ١٩١٤م أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها، بدون أن تطلبها الأمة
المصرية، فهي حماية باطلة، لا وجود لها قانونًا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي
بنهايتها، ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة.»
٥ ومن قبل أن يعلن الزعماء الثلاثة مطلب الاستقلال، بدأ أعضاء الجمعية
التشريعية — التي أوقف الإنجليز انعقادها قبل خمس سنوات — الدعوة للاستقلال التام
باجتماعات علنية، وسرية أيضًا، وبمنشورات موقَّع عليها من أعضاء الجمعية، فضلًا عن
الإرهاصات التي حققتها المجهودات الفردية والجماعية.
والحق أن ثورة الجماهير المصرية — غداة اعتقال سعد ورفاقه — كانت تعني — في بُعد
هامٍّ لها — أن مأساة نفي أحمد عرابي لن تتكرر، فقد ظل عرابي ورفاقه في المنفى حتى
تساقطوا بالوفاة أو العجز أو اليأس، ولم يكن الشعب — الذي فقد استقلاله حالًا — يقدر
على التحرك الإيجابي. لكن توالي الأعوام أعاد الروح إلى الجسد الهامد، وكانت المظاهرات
الصاخبة، المفاجئة — إعلانًا بأن ما أملي على الإرادة المصرية في عام ١٨٨٢م لن تسمح
بتكراره في عام ١٩١٩م.
ومن الإنصاف للزعيمَين مصطفى كامل ومحمد فريد، أن نشير إلى كلماتهما المتبتلة في حب
مصر، والتي أصبحت شعارات يرفعها المصريون دفاعًا عن حقِّهم في الحرية والاستقلال، فقد
أحدثت كلماتهما — فضلًا عن تحرك محمد فريد الإيجابي في الإعداد للثورة قبل خروجه من مصر،
ثم في استمالة الرأي العام العالمي لصالح القضية المصرية بعد خروجه — تأثيرها المؤكد
في
التهيئة للثورة.
وكانت مبادئ ولسن الأربعة عشر — والكلام لسلامة موسى — من أكبر العوامل للثورة
المصرية في ١٩١٩م. وإذا كان الرئيس الأمريكي قد أعلن مبادئه الأربعة عشر التي تحترم
الأماني القومية للشعوب الصغيرة، وتعطيها الحق في تقرير مصيرها، فقد أيَّد الحلفاء هذه
المبادئ في التصريح الفرنسي الإنجليزي الذي صدر في نوفمبر ١٩١٨م، وجاء فيه أن الدولتين
تنويان تحرير الشعوب التي أُنقذت من الحكم العثماني تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات
وإدارات أهلية، تبني سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم
بذلك من تلقاء أنفسهم. وقد نقضت الدولتان الحليفتان تصريحهما بعد انتهاء الحرب، كما
تخلَّى ويلسون عن مبادئه.
ولعله من المهم أن نشير إلى العرض البريطاني على الشعوب العربية — حين اشتدت الحرب
ضد
الأتراك في ١٩١٥م، بواسطة الشريف حسين — تكوين أمة مستقلة لهم في الشرق العربي إذا
اختاروا جانب الحلفاء ضد الخلافة العثمانية. ورغم أن العرض البريطاني قد استثنى قطاعًا
من الساحل غربي سوريا، يشمل فلسطين تحديدًا، فضلًا عن أن عملية تبادل الرسائل بين
الشريف والخارجية البريطانية، لم تسفر عن إبرام معاهدة ما، فقد دخل العرب منحازين إلى
الحلفاء.
٦
والمؤسف أن بريطانيا — حين وعدت العرب بالاستقلال — كانت تعدُّ لعدم حصولهم على
الاستقلال الذي توهَّموا أنهم يحاربون من أجله. حتى لورنس الذي نُسجت حول حياته أسطورة
من
تأييده للعرب ومناصرته لقضاياهم، كتب في أوراقه الشخصية: «لما لم أكن مغفلًا تمامًا،
فقد كان في استطاعتي أن أرى أن وعودنا للعرب بعد انتهاء الحرب، ستكون مجرد حبر على ورق،
ولو كنت مستشارًا مخلصًا حقًّا للعرب، لكنت قد نصحت الرجال المحاربين بأن يعودوا إلى
بيوتهم، ولا يعرضوا أرواحهم للخطر في سبيل هذا الهراء، لكني كنت أعلم أن آمال العرب هي
الأداة الوحيدة لكسب الحرب، ولذلك فقد أكدت لهم أن إنجلترا ستحافظ على عهودها لفظًا
وروحًا … ولكن — بالطبع — كنت أشعر دائمًا بالمرارة والخجل.
٧ لكن بعض قادة العرب عاشوا على وهم تحقيق الحلم الذي سرَّبه الاحتلال إلى
نفوسهم، بالتخلص من دولة الخلافة، وإنشاء دويلات — أو دولة كبرى عربية موحدة — في الشرق
العربي. وكان جزاء سنمار الذي نالته الشعوب العربية بعامة — بعد اشتراكها مع الحلفاء
ضد
الأتراك — هو اعتراف مؤتمر الصلح بالحماية البريطانية على مصر. سمحت بريطانيا لعرب
الصحراء والسوريين والقبارصة بحضور مؤتمر الصلح، بينما رفضت ذلك بالنسبة للمصريين،
لأنهم — في تقديرها — أدنى منزلة.
٨ فضلًا عن تقسيم بقية البلاد العربية إلى خمسة أجزاء، فأصبحت سوريا ولبنان
من نصيب فرنسا، ووُضعَت فلسطين تحت حماية بريطانيا، لتديرها نيابة عن عصبة الأمم، كذلك
وُضِع العراق وشرقا الأردن تحت حماية بريطانيا، أما الجزيرة العربية، فقد تركها الحلفاء
تحت حكم الشريف حسين ملك الحجاز، لأن مستقبلها البترولي كان مطمورًا في رمل
الصحراء.
لقد سقط العالم العربي كله تحت أقدام الاستعمار الأوروبي، بعد أن تحالف معه للتخلص
من
سطوة دولة الخلافة؛ تمخضت الأحلام العربية عن مأساة كاملة. احتل الإنجليز فلسطين
والعراق، وكانوا قد احتلوا السودان ومصر من قبل. واحتل الفرنسيون سوريا ولبنان، وكانوا
قد احتلوا دول المغرب العربي، واللافت أن أبناء الشمال الأفريقي شاركوا قوات الفرنسيين
معاركهم منذ بداية الحرب إلى نهايتها. وبالطبع، فإن تلك المشاركة لم تسفر عن حصول
الجزائر أو المغرب على أية درجة من الاستقلال. وأمضى الشريف حسين بقية حياته منفيًّا
في
قبرص يحيا على وعد الإنجليز، ويثق بكلمة الشرف التي أعطوها له، وإن عاب على رئيس
الوزراء لويد جورج أنه أساء إلى ذكرى اللورد كتشنر «إن الإنجليز يا ولدي قوم شرفاء،
بالقول وبالفعل، وحين تُقبل الأيام وتدبر، أقول شرفاء، ولكن حضرة صاحب الدولة لويد جورج
بهلوان وثعلب، رحم الله روح حضرة صاحب المعالي كتشنر.»
٩
وكان من الطبيعي أن يواجه الوطن العربي سلبيات التعهدات المتناقضة التي التزم بها
البريطانيون — قبل الحرب وفي أثنائها — والتي زادت نتائجها من تعقيد الوضع وتأزُّمه.
فالوعد الذي قطعوه للعرب بأن يكون الشرق العربي (الأوسط؟!) من نصيبهم لقاء العون الذي
قدموه لهم، كان يقابله اتفاق مع الفرنسيين لاقتسام الشرق العربي بين الدولتين. فرضت
المصالح المشتركة على البريطانيين أن يتعاونوا مع الفرنسيين، بدلًا من التعاون مع
العرب، باعتبارهم الحليف القوي وليس التابع الذي ينشد مجرد التحرر من التبعية! وفي ١٩٢٠م
استقلت كلٌّ من الدولتين فعلًا بمنطقة نفوذها، وبدأت قصة الاستعمار في المنطقة فصلًا
جديدًا؛ أدرك العرب أن أحلام الوحدة والاستقلال قد اغتيلت بخيانة سافرة، ومن ثَم بدءوا
في نسج خيوط الثورة ضد الدولتين معًا.
لقد بدأ النضال العربي — عقب الحرب — محليًّا، ثم اكتسب قوميته، وحاول توحيد كلمته،
منذ أسفر الخطر الصهيوني عن ملامحه.
•••
وبالنسبة للأوضاع المصرية، فإن تأثير الحرب العالمية الأولى يجد شموله في تأكيد
الشخصية المصرية التي أزيلت من حولها آثار السيطرة العثمانية بفصل السلطنة المصرية عن
الخلافة التركية، وإعلان الحماية البريطانية، تلك الحماية التي رفضها الشعب المصري حتى
لا يبدِّل استعمارًا باستعمار.
من الصعب إغفال الجوانب الإيجابية في قرار الحماية، فقد جاء تأكيدًا لإزالة ما تبقى
من آثار السيطرة التركية. فضلًا عن أنه أكد حتمية التخلص من السيطرة العثمانية، ووجوب
تحقيق الشعار الذي لم يكن قد ارتفع صوته بعمقٍ كافٍ بعد، أعني به شعار «مصر للمصريين»
فلم يكن هذا الشعار — عندما ارتفع به صوت مصطفى كامل — في نظر الكثيرين ممن تردَّت بهم
الأزمة إلى هاوية اليأس — سوى صرخة رومانسية يصعب تحويلها إلى واقع، بالإضافة إلى أنها
كانت تعني مصر التابعة للخلافة العثمانية، تلك التبعية التي أكدت مظاهر الحضارة الوافدة
منذ الحملة الفرنسية، إنها تعني العزلة الكاملة عن المجتمع الإنساني المتطور. ثم حدد
لطفي السيد مفهوم الشعار بأنه المصرية الخالصة التي لا تَدين بالتبعية لدولة الخلافة،
أو
تخضع نفسها لسيطرة الاستعمار. وظل هذا الشعار أشبه بصرخات في وادٍ، حتى أتاحت له تناقضات
الحرب العالمية الأولى فرصة أن يعلو، ويمتد، ليصبح أملًا لكل المصريين.
والواقع أن مصر كانت، حتى عام ١٩١٤م — من الناحية القانونية — تابعة للدولة العثمانية،
لكن بريطانيا كانت تمارس السلطة الفعلية بواسطة مجموعة من الموظفين الإنجليز الذين
يعملون في الإدارات المصرية. وكان المستشارون الإنجليز بالذات هم الوزراء الحقيقيون في
الحكومة المصرية. بالإضافة إلى مجموعة من الضباط في قيادات الجيش المصري والبوليس
المصري، وأيضًا النصائح الملزمة التي أعلنها جرنفيل وزير خارجية بريطانيا في ١٨٨٣م؛ ذلك
لأن الإمبراطورية العجوز ظلَّت — لأمد طويل — نهبًا للفساد والتفسخ والتعفن، حتى أصبحت
فريسة سهلة لأصابع الأخطبوط الاستعماري التي بدأت في اقتناصها، فضمَّت روسيا إلى أراضيها
قسمًا كبيرًا من الأراضي التركية، شمالي البحر الأسود، واحتلت بريطانيا عدن ومصر ومنطقة
الخليج، واستولت فرنسا على الجزائر وتونس، أما إيطاليا فقد استولت على ليبيا. وفي ١٩٠٨م
قام مجموعة من الضباط الشبان بتدبير انقلاب للاستيلاء على الحكم، وتمكَّنوا — في العام
التالي — من إرغام السلطان عبد الحميد على التنازل عن العرش، لينقضي حكم السلاطين، ثم
تعرضت الإمبراطورية لهزات عنيفة، أصبحت — بتأثيرها — أثرًا بعد عين.
وكان السلطان التركي قد ظل أشهرًا ثلاثة بعد إعلان الحرب، مترددًا في خوض غمارها،
على
الرغم من توقيعه لمعاهدة سرية مع الألمان، قبل نشوب الحرب بيوم واحد. ثم لجأ الألمان
إلى حيلة ذكية لتوريط تركيا، بأن أصدروا أمرًا إلى البحارة الألمان في سفينتَين
حربيتين، اشترتهما تركيا حديثًا ورُفع عليهما العلم التركي، بأن يبحروا إلى البحر الأسود
لضرب الساحل الروسي، وكان إعلان الحرب على الإمبراطورية العثمانية هو رد الفعل الطبيعي
من روسيا، ثم من بقية دول الحلفاء.
•••
أعلن جلادستون — بعد ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بثلاثة عشر يومًا — أنه «ليس
لبريطانيا مطامع في مصر، ولم ترسل الجنود إليها إلا لإعادة الأمن فيها، ولكي ترجع
للخديو سلطته التي فقدها.» ثم أكد جلادستون — بعد أربعة أشهر من الاحتلال — «أن عدد
الجنود البريطانيين قد أُنقص إلى اثني عشر ألفًا، لأن احتلال مصر احتلال مؤقت.» وتعدَّدت
الوعود، وإن لم تجاوز صفتها الفعلية. بل لقد حرصت سلطات الاحتلال على تأكيد وجودها من
خلال عشرات القوانين والقرارات والإجراءات التي تتحوَّل بها مصر إلى مستعمَرة دائمة ضمن
التاج البريطاني، وكان قرار الحماية خطوة هامة في هذا السبيل. وفي الحقيقة أن ذلك كله
كان محصلة النظرة البريطانية إلى الشعب المصري، والتي كانت تساوي بين مصر وأيرلندا من
حيث تبعيتهما للتاج البريطاني، حتى لقد سُئل السير هنري ويلسون رئيس أركان حرب
الإمبراطورية عما يوصي به لتوزيع القوات البريطانية في الخارج. أجاب: اخرج من الأماكن
التي ليست لك، وابق فيما هو لك.» وكانت مصر وأيرلندا تدخلان في هذه الأخيرة.
١٠ بل إن المارشال ويفل يجاوز تلك النظرة الغريبة إلى القول: «قليل من
الإنجليز — حتى من الذين عرفوا مصر جيدًا — من نظر في مارس ١٩١٩م إلى المصريين على أنهم
أمة بمعنى الكلمة، وقليل منهم من وجد لغضبهم سببًا معقولًا. فلما كنا منشغلين بالحرب،
أوشكنا أن نقطع خلالها كل صلة لنا بالشعور المصري، حتى لقد بلغ الأمر بنا أن حسبنا
إعلان الحماية في ديسمبر ١٩١٣م — الذي كان مجرد إجراء حربي، والذي حسبه كذلك أغلب
المصريين — تقريرًا لمستقبل مصر، وبذلك لم يعُد يحتاج هذا المستقبل — في نظرنا — إلى
تغيير عاجل.»
١١ نسي المسئولون الإنجليز تمامًا — كما يقول المارشال ويفل — أن مصر كانت
تتمتع باستقلالها الذاتي تحت الحكم التركي منذ أيام محمد علي، وأن هذا الاستقلال كاد
أن
يكون تامًّا إذا استثنينا الامتيازات. وإذن فلم يكن المصريون — حين طالبوا بالاستقلال
—
يبحثون عن شيء لم يسبق لهم أن عرفوه، بل كانوا يبغون بذلك استعادة حقوق اكتسبوها يوم
كان الأتراك سادتهم، وإن كان صحيحًا أن تلك الحقوق إنما اكتسبها وتمتع بها حاكم أجنبي
مطلق، لا هذا الشعب المصري الذي يطالب بها الآن.
١٢ وتشير البرقية التي بعث بها الوفد إلى المستر هندرسن: «أن مصر التي كانت
تتمتع باستقلال ذاتي تام، ضمنته الدول الموقعة على معاهدة لندرة في سنة ١٨٤٠م، والتي
كانت مقتنعة بأن حرب ١٩١٤م يجب ألا تكون إلا حرب تحرير وعدالة عامة، قدمت كل ما تستطيع
دون حساب بغية تحقيق أمانيها الأهلية والديمقراطية، وعلى الرغم مما بدأت الصحف في نشره
من أخبار الصلح القريب منذ أوائل أكتوبر ١٩١٨م، واعتبار النظرة إلى الحماية ضرورة حرب،
لا بد أن تزول بزوالها، فإن مصر وجدت نفسها — عندما جاءت ساعة الحساب — قد حُرمت حتى
من
الحرية التي كانت لها من قبل، بدلًا من أن تنال الاستقلال الذي يحق لها الحصول عليها.»
١٣ لكن بعض المسئولين البريطانيين ذهبوا إلى أن «مصر قد تمتعت بكل مزايا الحرب
الطويلة المضنية من غير أن يصيبها هي شيء من خسائرها. فلماذا إذن لا ترضى؟ أو لم يبلغ
الجحود بها أن تعض اليد التي أطعمتها بسخاء كل تلك السنوات التي كان فيها الفزع والفقر
والموت نصيب كثير من الشعوب؟»
١٤
باختصار، فإن فصل مصر عن الخلافة العثمانية، وفرض الحماية البريطانية عليها، أتاح
لشعار «مصر للمصريين» أن ينشد سبيله إلى الواقع، فضلًا عن أن الهزات السياسية
والاقتصادية التي تعرض لها المجتمع المصري بتأثير الحرب، أسهمت في خروجه من عنق الزجاجة
الذي ظل حبيسًا له منذ الثالث عشر من سبتمبر ١٨٨٢م.
•••
كانت التناقضات العنيفة هي سبيل المجتمع المصري للخروج من أزمة التبعية والاحتلال،
والعثور على الشخصية التي خرج ينادي باستقلالها في عام ١٩١٩م. وكان في مقدمة تلك
التناقضات عزل الخديو عباس من الحكم، وإحلال السلطان حسين كامل مكانه، وهو القرار الذي
أحدث هزة عنيفة بين أبناء الشعب، والبسطاء منهم بصفة خاصة، هؤلاء المؤمنون بالخديو
كممثل للسلطان، وكرمزٍ للحركة الوطنية الناشئة التي تنشد الاستقلال من السيطرة العثمانية
«إن المصريين كانوا متبرمين بحكم الإنجليز، وساعين إلى التحرر من سلطتهم عليهم، فلما
أحدث الإنجليز هذا الانقلاب، عدُّوه ضربة قاسية موجهة إلى آمالهم في الاستقلال.»
١٥ والحقيقة التي لا يمكن تغافلها في غضبة الجماهير المصرية على عزل الخديو
عباس، هي إدراك الخديو عباس — بداءة — أن مبادئ الثورة العرابية ظلَّت راسخة إلى وقت
اعتلائه الحكم، وأن أقل حافز كان ينذر باندلاعها من جديد. وارتكازًا إلى تلك الحقيقة،
حاول الخديو، منذ توليه العرش، أن يستميل الحركة الوطنية، وكتب محمد فريد في مذكراته
«إن
جميع الأهالي مستبشرون بهذا الخديو الجديد، ويؤملون فيه عدم مرافقة الإنكليز على
مطالبهم المجحفة بحقوق الأمة.» وظل الخديو عباس بالفعل — لفترة طويلة — محرك القوى
الوطنية في البلاد، وأسهم — بصورة ما — في تكوين الحزب الوطني، وكانت الإهانات الشخصية
التي تلقَّاها من اللورد كرومر حافزًا لمضاعفة تأييده المادي والأدبي للحركة الوطنية
الناشئة. لكن إعجاب المثقفين بشخصية الخديو ما لبث أن تبدَّد بعد اتخاذه سياسة الوفاق
مع
السير إلدون جورست في تقرير له: «ومهما يكن قد تم من الأعمال الحسنة، فالفضل للخديو
ونظاره على معونتهم الصادرة من صميم الفؤاد، واتفاقهم على العمل بالوئام والإخلاص مع
البريطانيين الموظفين في الحكومة المصرية.» ثم عُيِّن كتشنر خلفًا لجورست، واتخذ من الخديو
موقفًا عدائيًّا، فعاود الأخير لجوءه إلى الحركة الوطنية، يلتمس منها المساندة
والتأييد. ومن هنا أصدر الشيخ علي الغاياتي حكمه عليه بأنه «يلعب أدوارًا مشكوكًا فيها،
ليست كلها ضد الإنجليز، وليست كلها في صالح مصر.» ولعله يكفي للتدليل على الموقف
الحقيقي للخديو عباس من الحركة الوطنية قوله — عندما تشكلت وزارة بطرس غالي: «إن هناك
أفكارًا مثل الأفكار التي يسمونها بالوطنية والحرية، عليكم أن تعملوا جهدكم في استئصال
الطائش منها، ورده إلى الصواب.»
١٦ ولكن جماهير البسطاء ظلَّت على ثقتها بالخديو عباس، باعتباره ممثل الخلافة.
تقول أمينة لزوجها: ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس، ويقول الشيخ متولي عبد
الصمد: أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس مؤيَّدًا بجيش من جيوش الخليفة لا
يعرف له أول من آخر.
١٧ بل إن مجالس الأنس التي يرتادها أحمد عبد الجواد، كانت لا تعدم واحدًا
يهتف: تحيا الخلافة! وفي رواية «طلائع الأحرار» ذهبت جموع غفيرة من المواطنين إلى دار
مصطفى كامل، وطلبت إليه أن يصرف النظر عن فرنسا، فهي لا تختلف عن إنجلترا، ولا عن الدول
الأجنبية الأخرى «قلنا له ألَّا يعتمد إلا على السلطان، فهو وحده الذي يستطيع إنقاذ
البلاد، نصر الله السلطان وعساكر السلطان.» وكانت الأنباء الزائفة التي اجتهد في
إذاعتها أنصار الخلافة عن اقتراب الجيش التركي من القناة، وانتصاراته المتوالية على
القوات البريطانية. كانت تلك الأنباء تجد قبولًا شديدًا من البسطاء من الشعب المصري.
(وكان المثقفون يسعون لتحقيق ذلك أيضًا، فقد تكوَّن — بعد عزل الخديو — جهاز سري لإعادته،
برئاسة عبد اللطيف الصوفاني، يماثل الجهاز السري الذي تكوَّن لإلغاء الحماية برئاسة عبد
الرحمن فهمي). وعلى الرغم من القانون الذي صدر في ١٩١٥م بمنع ترديد الأغنيات التي تدعو
بعودة الخديو عباس، فإن الشيخ أحمد كان يتقدم مواكب الصبية في أواخر العشرينيات بسيفه
الخشبي، وهو يهتف: الله حي! عباس جي! اضرب بمبة وهو جاي!
١٨ ومن الأغنيات التي رددتها الجماهير تعبيرًا عن حزنها وغضبها لنفي الخديو:
يا أمة الإسلام ليش حزينة … إن كان على عباس بكرة يجينا … ويدق طبل الفرح في أراضينا.
واستبعدت أغنية لسلامة حجازي في مسرحية «هاملت» مطلعها: عم يخون وأم لا وفاء لها، ثم
أوقفت الرواية ذاتها.
١٩ ويومًا دخل إسماعيل على زوجه قائلًا: ذهب حسان لقتال الإنجليز، ركب المركب
ولم يلتفت إلى توسلاتي … ذهب! كان حسان يَدين بالولاء الديني للخلافة العثمانية، وأن
كل
مسلم مكلَّف — شرعًا — بطاعة الخليفة، ومن ثَم سافر إلى إسطنبول لينضم إلى الجيش التركي
في
حملته على سيناء.
٢٠ وقد ظلَّت صورة الخديو عباس تحتل مكانًا واضحًا في قهوة المعلم كرشة، حتى
أواخر الحرب العالمية الثانية.
٢١ مع ذلك، فإنه بعد عزل الخديو عباس وإعلان الحماية، حرص بعض كبار موظفي
الدولة على تأكيد رفضهم لعهد الخديو، حتى إن حمدان بك فكر في طلاق امرأته للتخلص من
أبيها المتمسك بولائه للخديو المترقب عودته على رأس الجيش التركي! ونزع — وهو يتباكى
—
صور الخديو من غرف الاستقبال والمائدة والكتب، بدعوى أن الجاسوسية منتشرة في طول البلاد
وعرضها.
٢٢ ومن المؤكد أن الخديو عباس كان يأمل في أن يحقق الغزو التركي الألماني
أهدافه: إعادته إلى عرشه الذي عزله منه الإنجليز. ويذهب العقاد إلى أن الإنجليز شرعوا
في خلع الخديو عباس من قبل أن تنشب الحرب العالمية الأولى، لأنه مدَّ في الصحراء الغربية
سكة حديد مريوط، وفاوض شركة أوروبية لشرائها وإدارتها. وكانت للخديو — كما يقول العقاد
— ميول معروفة إلى دول الوسط، لأنه تربَّى في النمسا، وورث العلاقة بين جده إسماعيل
وبيت سافوي في إيطاليا؛ فلم يسترح الإنجليز إلى بقائه على عرش مصر، وهو يعمل لتسليم
مواصلات الصحراء الغربية إلى دولٍ تهم بالإغارة على حدودها.
أما لماذا اختار الإنجليز — فيما بعد — السلطان فؤاد بالذات، ليرتقي عرش مصر بعد وفاة
شقيقه السلطان حسين — ذلك الحدث الذي بدأ به نجيب محفوظ أحداث الثلاثية — فلأنهم كانوا
يعلمون من ماضيه، ومن تاريخه السيئ، أنه على استعداد لأن يبذل كل شيء في سبيل هذا
العرش، وكانوا يعلمون أنه سعى لدى الإيطاليين لتولي عرش ليبيا، فلما أخفق، عاد وطلب
إليهم أن يعينوه على عرش ألمانيا، وأبدى استعداده لأن يخرج من الدين الإسلامي، ويعتنق
المسيحية الكاثوليكية في سبيل ذلك العرش.
وكان قرار إعلان الحماية، استمرارًا لتلك الهزَّة العنيفة التي أحدثها قرار عزل
الخديو عباس: «يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى، أنه بالنظر إلى حالة
الحرب التي سبَّبها عمل تركيا، قد وُضعَت بلاد مصر تحت حماية جلالته، وأصبحت من الآن
فصاعدًا، من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية، وبذلك قد زالت سيادة تركيا على مصر،
وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر، وحماية أهلها ومصالحها.» وقد
تلا قرار إعلان الحماية، قرارات أخرى بإلغاء وزارة الخارجية، وتعطيل الجمعية التشريعية،
وفرض الأحكام العرفية، وإصدار قانون منع التجمهر الذي يعِد تجمهرًا كل اجتماع من خمسة
أشخاص في الأقل، في طريق أو محل عام، كما فُرضَت الرقابة على الصحف، وغصَّت السجون
والمعتقلات بالعشرات من قادة الحركات السياسية والنقابية. وكان الراوي في قصة «اخرجي»
أحد ضحايا ذئاب فيليبيدس مأمور ضبط القاهرة المشهور طول مدة الحرب، إلى حد أنه واجه
السؤال يومًا: لماذا لم يُنفَ إلى مالطة كبقية زملائه؟
٢٣ وبلغ الأمر بسلطات الاحتلال أنها ألقت القبض — يومًا — على سبعة وعشرين
شخصًا لغير تهمة محددة، سوى أن عددًا منهم كانوا يجتمعون في بيت له بابان، كل باب منهما
في شارع، وكانوا يدخلون — أحيانًا — من الباب الأمامي، ويخرجون من الباب الخلفي، فقُبِض
عليهم، وقُبِض على أصدقائهم، حتى هؤلاء الذين لم يسبق لهم التردد عليهم، بحجة أن للمنزل
الذي يجتمعون فيه مدخلين.
٢٤ وتكررت الاعتداءات على المصريين، سواء كانوا مارة أو باعة جائلين أو أصحاب
محال، من جنود بريطانيين وأستراليين ونيوزيلنديين، وكانت تلك الاعتداءات تُرتكَب ليلًا
ونهارًا على مرأًى من رجال البوليس المصري الذين كانوا لا يملكون شيئًا لحماية مواطنيهم.
٢٥ وكانت القاهرة والإسكندرية تعانيان حوادث السلب والنهب التي يقوم بها جنود
الحلفاء حتى فضَّل أغلب الناس عدم مغادرة بيوتهم ليأمنوا الاعتداء.
٢٦ وكتبت مس درهام في «الديلي نيوز» (٢/ ٤/ ١٩١٩م) «أقمت في مصر من نوفمبر ١٩١٥م
إلى أبريل ١٩١٦م، وإني أؤيد رأي الدكتور جست إذ يقول إن هذا الاضطراب يرجع إلى سوء
معاملتنا للمصريين. وقد ارتكب ولاة الأمور في مصر أسوأ الأخطاء؛ إذ أتوا بجنود
المستعمرات في البلاد المصرية دون أن يذكروا لهم شيئًا عن السكان الذين سيعيشون بين
ظهرانيهم. وقد بلغ من جهل هؤلاء الجنود أن كانوا يظنون أن مصر بلاد إنكليزية، وأن
المصريين قوم دخلاء، ويعجبون كيف سُمِح لهؤلاء العبيد — المصريين — أن يأتوا إلى هذه
الديار؟»
٢٧
كانت تصرفات جنود الاحتلال — وخاصة الأستراليين والنيوزيلنديين — تثير مشاعر المصريين
وكرامتهم، وتعبِّئ نفوسهم بالغضب. ثمة «المصابيح الضريرة، وصفارات الإنذار تولول في
الليل، والذعر يُمنى به الناس وهم يسرعون إلى المخابئ، ورائحة الخمر تلوث نسيم النيل،
وأغاني السكارى تجرح هدوء الليل، وضحكات الفتيات اللائي أحببن الظلام، وضللن الطريق.»
٢٨ وعرف الموظفون — لأول مرة — علاوة الغلاء، وبلغت ١٠٠٪ وإن لم تفلح في تعويض
الغلاء المفاجئ.
٢٩ حتى باعة الفول السوداني وضعوا حول بضاعتهم سياجًا من السلك، لحمايتها من
الخطف والنهب، ورأى باعة التين الشوكي ما يبيعونه يؤكل بقشره خطفًا ونهبًا.
٣٠ وتقول صحيفة «الديلي نيوز»: «لقد ارتكب ولاة الأمور في مصر أسوأ الأغلاط.» ولقد سمعت
غير واحد من الأستراليين يقول: «لو كان الأمر بيدي لما أبقيت على واحد
من المصريين في هذه البلاد.»
٣١
لقد انتهت قصة الحب الدافئة بين المحامي المسلم شكري والفتاة القبطية مريم، بعد أن
افترسها ذئب أسترالي، فأباحت له أن يتحلل من خطبتها، وحاولت الانتحار.
٣٢ وأراد أهل الفتاة أن يثأروا لشرفهم، فواجهتهم مذبحة، ولم يجد الأب إلا
الابنة المسكينة، يهوي بسكينه لقتلها، لولا أن ينقذها — في اللحظة الأخيرة — شاب نبيل،
يطلب يدها، ويتزوجها فعلًا. وقد عانى الأستاذ شكري المحامي هو الآخر كثيرًا «من رذالة
الأستراليين، وتمحك الأستراليين، وتعدِّي الأستراليين.»
٣٣ وفي «الشارع الجديد» يتعرض علي — ليلة — لمضايقات الجنود الأستراليين، عندما
اقتحم المقهى أربعة من الجنود الأستراليين، وطلبوا منه ومن رفاقه أن يقدموا كل ما معهم
من نقود، ويرفض علي، وتدور بينه وبين الجنود الأربعة معركة رهيبة ينجو فيها بحياته بعد
أن ينتصر عليهم، أما رفاقه فقد لاذوا بالفرار.
٣٤ ويقول ياسين لنفسه: «يا شماتة الأستراليين فيك يا أنا، يا طريد الأزبكية
وحبيس الجمالية، الحرب يا هوه، شنَّها غليوم في أوروبا، ورحت أنا ضحيتها في النحاسين.»
٣٥ كان ينطلق — كل ليلة — في مهاوي الأزبكية، حتى ظهر الأستراليون، فاضطر إلى
التخلي عن مغاني العبث فرارًا من وحشيتهم،
٣٦ واكتفى بأن يهمس لنفسه في غيظ: لعنة الله على الأستراليين! أين أنت يا
أزبكية لأبثك همي وأشجاني، وأتزود منك بشيء من الصبر؟
٣٧ وبالمثل، كان والده — أحمد عبد الجواد — يحنق على الأستراليين، ففضلًا عن
السبب الوطني، المتمثل في انتشار الجنود الأستراليين في المدينة كالجراد، ويعيثون في
الأرض الفساد. كان ثمة سبب شخصي، وهو أنهم — بجبروتهم — حالوا بينه وبين مجالَي اللهو
والطرب في الأزبكية، فارتدَّ عنها مغلوبًا على أمره — إلا في القليل النادر من مختلَس
الفرص — لأنه لم يكن يسعه أن يعرض نفسه للجنود الذين يسلبون الناس متاعهم جهارًا،
ويتسلَّون بصبِّ ألوان الاعتداء عليهم بغير رادعٍ.
٣٨ ويقول الأسطى حنفي أبو محمود: «إذا كنت ممن غضب الله عليهم، وحنن عليك بنفر
من جنود جلالة الملك — أيام الحرب طبعًا — وهم «مقشعين» وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من
الضواحي — العباسية أو الجيزة مثلًا — فثِق إنك ستتعلم منهم في فن الزوغان أحدث الطرق،
وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالبًا حقك، أعطاك إياه لكمًا ورفسًا، وجعلك تتعلم آداب
المطالبة بطريقة إنكليزية.»
٣٩ حتى الشيخ متولي عبد الصمد الذي جاوز الخامسة والسبعين من عمره، اعترض
سبيله — ذات ليلة — جنديان أستراليان، وطالباه بما معه، فما كان منه إلا أن نفَّض لهما
جيوبه، وأخرج الشيء الوحيد الذي كان معه، وهو كوز ذرة، فتناوله أحدهما وركله كالكرة،
وخطف الآخر عمامته، وحلَّ الشال ومزَّقه ورمى به في وجهه.
٤٠ من هنا، كان وصف الفنان «لتلك الأيام السود التي ينحجر فيها الرجال في
البيوت كالفيران رعبًا من الأستراليين.»
٤١
•••
وعلى الرغم من فرض الإرهاب والقهر والكبت الشديد شعارات لأعوام الحرب، فقد جرت
محاولتان لاغتيال السلطان حسين كامل، وأكثر من محاولة لاغتيال بعض وزرائه: أطلق الشاب
محمد خليل — تاجر خردوات بالمنصورة — عيارًا ناريًّا على موكب السلطان حسين كامل في ٨
أبريل ١٩١٥م، أثناء مروره في شارع عابدين، فأخطأ السلطان وأصاب العربة التي كانت تقله،
وحُكِم على الشاب بالإعدام شنقًا، ونُفذ فيه الحكم يوم ٢٤ أبريل ١٩١٥م، وكما أعلن محمد
خليل
أمام المحكمة العسكرية البريطانية، فقد كانت المحاولة احتجاجًا فعليًّا، وعلنيًّا، على
قرار الحماية البريطانية.
٤٢ ثم وقع اعتداء آخر على موكب السلطان في أثناء سيره بالإسكندرية في طريقه
لأداء فريضة الجمعة (٩ يوليو ١٩١٥م) في مسجد عبد الرحمن بن هرمز. أُلقيَت عليه قنبلة
من
نافذة بيت بشارع رأس التين، فسقطت القنبلة على ظهر أحد جوادَي مركبة السلطان ولم تنفجر،
وأسفر التحقيق عن إدانة تسعة من الشبان بتهمة تدبير الحادث، وهم: محمد نجيب الهلباوي،
محمد شمس الدين، محمد فريد، محمود عنايت، شفيق منصور، أحمد سابق، عبد الفتاح يوسف، عبد
الله حسن، علي صادق. وقدَّمت النيابة اثنين منهم فقط إلى المحاكمة، وهما الهلباوي وشمس
الدين، اللذين صدر عليهما الحكم بالإعدام شنقًا، ثم استُبدِل بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ثم
وقع اعتداء ثالث على إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف (٤ سبتمبر ١٩١٥م) في أثناء وقوفه
على رصيف محطة القاهرة في طريقه إلى الوجه القبلي. اعتدى عليه الشاب صالح عبد اللطيف
—
موظف بوزارة المالية — بأن طعنه بخنجر ثلاث طعنات، فأصابه بجراح بليغة، وحُكِم على الشاب
بالإعدام شنقًا، ونُفِّذ فيه الحكم صباح الثالث من أكتوبر. وتعدَّدت عمليات سرقة الأسلحة
من
معسكرات الجيش البريطاني، ونسف خطوط السكك الحديدية لتعطيل القطارات الحربية، مما ألجأ
سلطات الاحتلال إلى التحذير بأنها «ستطلق الرصاص فورًا على كل من يُضبَط متلبسًا بمحاولة
تعطيل القطارات.»
•••
إذا جاوزنا تحالف الحمل والذئب، فقد كان في ظروف الحرب ذاتها ما ساعد على تأكيد
الحاجة إلى الثورة، والتعجيل بها. بل كانت الثورة — في الحقيقة — وليدًا شرعيًّا لتلك
الظروف. فإذا كانت مصر لم تدخل الحرب — رسميًّا — في أيامها الأولى، فقد عطلت الجمعية
التشريعية، واتخذ مجلس النظار في ٥ أغسطس ١٩١٤م، أي بعد ٢٤ ساعة فقط من إعلان الحرب،
قرارًا خطيرًا، اشتُهر — فيما بعد — بقرار ٥ أغسطس، يعلن فيه أنه «ما دامت الحرب قائمة
بين ألمانيا والحلفاء، فلا يجوز لأي إنسان مقيم بالديار المصرية أن يعقد مشارطة أو
اتفاقًا أو أي نوع كان بالذات مع الحكومة المحارِبة لصاحب الجلالة البريطانية … إلخ.»
و«أن القوات البحرية والحربية التابعة لصاحب الجلالة البريطانية يجوز لها أن تباشر جميع
حقوق العرب في المواني المصرية، أو في أرض القطر المصري، وكل ما يجري الاستحواذ عليه
في
المواني المصرية، وفي أرض القطر المصري من سفن حربية ومراكب تجارية أو بضائع، يجوز
إحالة النظر فيه إلى إحدى محاكم الغنائم البريطانية.»
٤٣ وأصدر مجلس الوزراء المصري — عقب اجتماع برئاسة السلطان فؤاد في ٩ مارس
١٩١٨م — قرارًا بأن تتحمَّل مصر ٣٫٥ ملايين جنيه إنجليزي، أنفقت على الأغراض العسكرية
البريطانية، وأكد المجلس أن القرار اتُّخذ اعترافًا بجميل بريطانيا العظمى التي حمت
البلاد من خطر الغارات الجوية،
٤٤ وكان يحق لمصر المطالبة بذلك المبلغ، والكلمات للورد ملنر في تقريره.
٤٥ وعلى الرغم من الحياد المزعوم، فإن الحكومة أصدرت قانونًا بمنع التجمهر،
ومنعت التعامل مع رعايا ألمانيا والنمسا والمجر، وفرضت رقابة على البرقيات والخطابات
المرسلَة بين مصر والخارج، وتخويل القوات البريطانية حق الحرب في الأراضي والمواني
المصرية، ثم — بعد دخول تركيا الحرب — أعلنت الأحكام العرفية، وفرضت الرقابة على الصحف،
تمهيدًا لإعلان الحماية الذي استتبعه، في اليوم التالي مباشرة، خلع الخديو عباس الثاني،
وتولية السلطان حسين كامل، وأعاد حسين رشدي تشكيل وزارته التي كانت قائمة فعلًا، بعد
أن
أجرى تعديلات يسيرة في مناصب الوزراء. ثم تلا ذلك كله حركة اضطهاد ومصادرة واعتقال
للوطنيين. صودرت مقار الحزب الوطني، ونُفي بعض قادته إلى مالطة وأوروبا، وفُصِل أربعة
وخمسون طالبًا من طلبة مدرسة الحقوق، بعد أن نفَّذوا إضرابًا صامتًا ضد السلطان حين زار
المدرسة في ١٨ فبراير ١٩١٥م، وبدأ حشد الآلاف من العمال والفلاحين للعمل في خدمة القوات
البريطانية، وأخيرًا تقديم الحكومة المصرية منحة ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه إلى
الحكومة البريطانية قبيل انتهاء الحرب (ونتذكر الصورة الموحية التي أوردها الفنان حين
أخفق علي في العثور على من يترجم له شكواه إلى وزارة الخارجية البريطانية؛ خاف الجميع
أن يعرف اللورد كرومر خط المترجم، فيتعرض لاضطهاده وتشريده! (الشارع الجديد، ٣٣)). ومن
المؤكد أن ذلك كله كان مناقضة صريحة للتعهد البريطاني بأن تأخذ السلطات البريطانية على
عاتقها جميع أعباء الحرب، لا تطلب من الشعب المصري سوى الامتناع عن أعمال عدائية ضدها.
وقد ظل الزعم البريطاني قائمًا، على الرغم من زعم الحكومة المصرية بأن البلاد كانت
بعيدة عن المشاركة الفعلية في تلك الحرب. لقد تراكم الدين الأجنبي على مصر فبلغ ٩٨
مليونًا من الجنيهات، بأسعار فائدة عالية، وبخصم كبير، وقد ضاع جزء كبير من ذلك الدين
في مشروعات غير منتِجة، وقُدِّرت الفوائد التي دفعتها مصر عن هذا الدين في الفترة من
١٨٨٢م
إلى ١٩١٤م، ٥٠ مليونًا من الجنيهات.
٤٦
وقد سخَّرت بريطانيا معظم موارد مصر الاقتصادية والبشرية — في سني الحرب — لخدمة
القوات
البريطانية، رغم تأكيدها — على لسان قائد قواتها بمصر — أنها أخذت على عاتقها جميع
أعباء الحرب، وأنها لا تطلب من المصريين مساعدات من أي نوع، وإن كانت تنتظر منهم
الامتناع عن أداء أية مساعدة لأعدائها. بل لقد بلغ تأثير تسخير الموارد الاقتصادية على
الاقتصاد القومي هبوط أسعار القطن بصورة لافتة، بينما البنوك العقارية تطالب بأقساطها،
حتى المحال التجارية الصغيرة وصغار الملَّاك والحرفيين، اجتذبتهم دوامة الضغوط الاقتصادية
العنيفة. كذلك فقد ارتفعت كمية إنتاج القطن المصري من ٢٧٩٢٠٠٠ قنطار في عام ١٨٨٥م إلى
٧٦٦٦٠٠٠ قنطار عام ١٩١٤م، وذلك على حساب المحاصيل المصرية الأخرى، مثل القمح والذرة،
التي
كان يعتمد عليها الشعب كمصدر قوت يومي. كان الهدف تحويل مصر إلى مزرعة قطنية تكون في
خدمة مصانع لانكشير التي كان من المحتم أن تجد لها مصدرًا للمواد الخام، لا يضعها تحت
رحمة القطن الأمريكي، ويكون أرخص منه، بالإضافة إلى مميزاته الطبيعية. وعندما ارتفعت
أسعار القطن — قبل نهاية الحرب — احتكرت الحكومة البريطانية المحصول كله بسعر ٤٢ ريالًا
للقنطار، بينما كان سعره في الأسواق العالمية مائتَي ريال، وبلغت خسارة مصر في عام واحد
٣٢ مليون جنيه.
٤٧ أصبح القطن محصول البلاد الرئيس بعد أن مثَّل أكثر من ٨٥٪ من تجارتها
الخارجية. مع ذلك، فلم يكن للدولة أو للأفراد الوطنيين أي تدخل في تحديد سعر القطن،
فضلًا عن أن عمليات تمويله وتسويقه وكبسه وتصديره كان يتولاها الأجانب، وكانوا يتولون
أيضًا عملية النقل والتأمين وإعادة استيراد القطن بعد نسجه وطباعته في الخارج.
٤٨ كانت أسعار القطن قد انخفضت في العام الأول للحرب، نتيجة لعوامل القلق التي
سادت الحياة الاقتصادية. بلغ سعر القنطار في ١٩١٣م، ٣٫٨ من الجنيه، ثم أصبح في ١٩١٤م،
٢٫٤
من الجنيه، واضطر عدد كبير من المزارعين إلى بيع أقطانهم بأسعار تقل عن ذلك، حتى بيع
القنطار في بدايات أعوام الحرب — في بعض المدن والقرى — بما يتراوح بين ستين و١٢٠ قرشًا.
وكانت الحكومة تدفع الفلاحين إلى بيع ما لديهم من مصوغات وماشية ودواجن لأداء بقية ما
عليهم من أموال للدولة،
٤٩ ثم لجأت الحكومة إلى إصدار قانون بتحديد مساحة زراعة القطن لأي فلاح بما لا
يجاوز الثلث من زمامه. وبعد الإقبال على القطن للأغراض الحربية، ارتفع سعر القنطار إلى
٧٫٧ من الجنيه في ١٩١٧-١٩١٨م.
٥٠ وفي ١٩١٨م احتكرت سلطات الاحتلال كل محصول القطن، وحدَّدت ٤٢ ريالًا سعر شراء
القنطار، في حين كان سعره في الخارج وقت صدور القرار ٦٤ ريالًا؛ وخسر كبار الملَّاك —
بهذا الاحتكار — نحو ٣٢ مليونًا من الجنيهات.
٥١ وفي أعقاب الحرب، كتبت «المقطم» «إن غلاء الخضر والبقول في هذه الأيام التي
غلا فيها كل شيء، شديد الوطأة على الطبقات الفقيرة، وبعض الطبقات المتوسطة التي تعتمد
كثيرًا في طعامها على الخضر بعد ما كاد الحصول على اللحم والأدهان والبيض والدجاج، يصير
متعذرًا.»
٥٢ وقد طالما حمل أحمد عبد الجواد على ارتفاع الأسعار، واختفاء المواد
الضرورية، نتيجة لمتطلبات الحرب.
٥٣ لقد ارتفعت الأسعار (زقاق السيد البلطي) ارتفاعًا جنونيًّا، وصل ثمن أردب
القمح إلى ستة جنيهات بعد أن كان ثمنه ستين قرشًا.
٥٤ ويقول اللورد ملنر في تقريره: «إن أسعار الأشياء ارتفعت في مصر ارتفاعًا
متواليًا لم يسبق له مثيل، ولا سيما أسعار الحاجيات كالحبوب والأقمشة والوقود، فثقلت
وطأتها على الفقراء، ولا سيما أن أجورهم لم تكن لتكفي النفقات التي يقتضيها غلاء
المعيشة، في حين أنهم كانوا يرون عددًا من مواطنيهم، ومن الأجانب غير المحبوبين عندهم،
يجمعون الثروات الكبيرة، فإن عائلة مكوَّنة من أربع أنفس، رجل وزوجته وطفلين، لم تكن
تستطيع — في أوائل سنة ١٩١٩م — الحصول على ما يكفيها من القوت إلا بثمن يفوق متوسط
الأجرة وقتئذٍ، فهذه العوامل المختلفة، أفضت — ولا ريب — في أواخر سنة ١٩١٨م، إلى
الاستياء والقلق بين معاشر الفلاحين.»
٥٥ كسدت تجارة الفاكهاني بكير، بعد أن أقلع الناس عن شراء الفاكهة، واكتفوا
بالبحث عن الخبز!
٥٦ وردَّد الناس أغنية شعبية تقول: بردون يا وينجت … بلادنا خربت.
٥٧
والملاحَظ أن نتائج الحرب الاقتصادية كانت دافعًا مباشرًا لأن يشترك العمال في ثورة
١٩. فبالرغم من الرخاء النسبي الذي أوجدته الحرب، فلم يستفِد منه إلا طبقتا التجار
والأرستقراطية الزراعية، بينما لم تزِد دخول العمال عما كانت عليه قبل الحرب، ومن ثَم
كان
اشتراك العمال في الثورة ضرورة فرضتها ظروفهم وأوضاعهم. لقد زاد الدخل القومي مائة
وخمسين مليونًا من الجنيهات في أثناء الحرب، وارتفعت أسعار الجملة — في نهاية أعوام
الحرب — ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في عام ١٩١٤م، لكن لم يطرأ أي تغيُّر على الأجور
والمرتبات، وذهبت الزيادة كلها إلى جيوب الأثرياء. وكتبت مجلة «رائد العمال» الإنجليزية
في ١٣ أبريل ١٩١٩م تقول: «فالآلام التي عاناها الأهلون من السلطة العسكرية كانت من أهم
أسباب نقمة الشعب على السياسة البريطانية؛ إذ لم تقتصر المظالم على نظام التطوع
الإجباري، بل اجتمعت إلى تلك المظالم مظالم أخرى بما لجأت إليه السلطة العسكرية من
مصادرة الناس في أرزاقهم وحاصلاتهم الزراعية ومواشيهم ودوابهم. فقد استولت عليها بأبخس
الأثمان، وبأسعار تقل كثيرًا عن أسعارها في الأسواق، وفرضت على كل مركز من مراكز القطر
المصري مقدارًا معينًا من الحبوب يورده إلى الجيش بهذه الأسعار البخس، فكان الأهلون
يُطلَب منهم — في بعض الأحيان — أكثر مما عندهم، فيضطرون — تحت تأثير الضغط — إلى شراء
ما
يطلب منهم بأسعار السوق، ويقدمونه — كرهًا — بالسعر البخس. ولقد أصابهم — من جراء ذلك
— ما
أصابهم من العنت والعسف والإرهاق»، «… فمخازن الذرة خلت من المحاصيل، والدور لم يعُد
يصيح فيها الدجاج، والقرى أقفرت من الرجال لأن المحتلين أخذوا كل شيء، وحشدوا كلَّ ما
في
مصر من حيوان وطيور وغذاء لحربهم مع الألمان والأتراك، الخيول للحرب، وكل الدواب للحرب،
والغلال، وحتى لقمة العيش أخذوها من أفواه الجياع، وساقوا الكثيرين منهم إلى الحرب.»
٥٨ وقالت «رائد العمال»: «وضع نظام للتطوع وضح عدم كفايته، فصدرت الأوامر بأخذ
العمال من الحقول بالإكراه. وطريقته أن يدخل رجال الحكومة القرية، وينتظروا رجوع
الفلاحين إلى منازلهم في الغروب، فيحدقون بهم كالأنعام، وينتقون خيرهم للخدمة، فإذا رفض
أحدهم هذا التطوع الإجباري، جُلد حتى الإقرار بالقبول.»
لا شك إذن أن تأثيرات الاحتلال كانت أكثر وضوحًا في الريف مما هي عليه في العاصمة:
٥٩ يقتاد الجنود طوابير الفلاحين، يستحثُّونهم بالسياط، ثم يدفعون بهم فوق عربات
تجرُّها الخيول، حتى محطة السكة الحديد، يُشحَنون في عربات قطار البضاعة مع ما استولى
عليه
الإنجليز من دواب وخيول، وينطلق القطار إلى جهة غير معلومة.
٦٠ وكان العملاء يستولون على المحاصيل من قمح وذرة وقصب، دون مقابل.
٦١ حتى الكثير من الأثرياء، استولت السلطة على جميع ما في شُونهم من قمح وقطن،
ولم تعد أراضيهم تدر عليهم إيرادًا ما.
٦٢
•••
ساقت سلطات الاحتلال الآلاف من أبناء الفلاحين لمقدمة جيوشها في سيناء، كما أرسلت
عشرين ألفًا منهم إلى فرنسا بعد أن تبيَّن لها قوة احتمالهم لأهوال الحرب. وكان عملية
جمع
العمال، وسوقهم إلى جبهات القتال، تتم بطريقة مهينة. فقد كان الرجال من كل قرية يُربَطون
بحبل واحد، وغالبًا ما كان هؤلاء الرجال من خصوم الإدارة أو العمدة، فيساقون بالتالي
إلى ميادين القتال دفعًا بهم إلى المهالك والأخطار. ويصِف محمد أبو سويلم (الأرض) ما
كان
يجري في تلك الأعوام: «كان بيلموا الخلق من السوق، كان معايا أيامها الشيخ حسونة، وكان
لسَّه مدرس، خدونا مع بعض وحطوا الحديد في إيدينا ولبسونا عساكر، وقالوا علينا متطوعين.
لكن هو وقف لهم، قاموا حطُّوه في الحبس، وبعتونا احنا على الشام. رحت أنا في بلاد الشام،
وفي بر الشام شفت الموت بعيني دي ألف مرة، زحفنا على التلج، تعرف التلج؟ وكانت الأرض
كلها تلج في تلج، واحنا بنزحف على بطننا وبنطق بارود، وزحفنا في الطين، ولما كنا
بنستريح ونتلفت لبعض نسأل بعض، احنا هنا بنعمل إيه يا ولاد؟ احنا ما لنا ومال دا كله؟
ما حدش يعرف يرد، بنحارب مين؟ بنحارب ليه؟ ليه الحرابة دي؟! ما حدش عارف، يقولوا لنا
العدو، عدو مين وعدو ليه؟ ولا حد منا عارف. وكان الرصاص يفوت من جنبنا ومن فوق دماغنا،
وألاقي اللي بيسألني وقع مين بالرصاص من غير ما يحط منطق؟ يا سلام يا خواتي على دي
أيام … الله لا عاد يعودها، ولا يكسِّب اللي لمُّونا ورمونا هناك، ما حدش رجع من النواحي
دي
غيري … إلخ.»
٦٣ أما الفنان في «الضاحك الباكي» فهو يعكس تأثير تلك المأساة على واقع الأسرة
الريفية: «هذه أم رجب التي عرفها ضحوكًا ثرثارة حاضرة البديهة سريعة النكتة زاخرة
بالأمثال، ما بالها قد تغيَّرت وهرمت وتجللت بالسواد؟ لك العزاء يا مسكينة … ابنها
الوحيد قد غيَّبته صحارى فلسطين، فكان من ضحايا السلطة … وهذه أم الخير مثلها، وإنما
فقدت
اثنين، وهذه أم نعمة مثلها، وإنما فقدت ثلاثة. حسنًا، حسنًا. يا ولايا يا ثكالى، لا
تبتئسن ولا تحزنَّ، ففي سبيل الوطن ذهبت فلذات الأكباد! في سبيل الوطن؟ نعم! ولِمَ
لا؟! هكذا قال أقطابنا وزعماؤنا وساستنا، وإلا فكيف رضيت ضمائرهم المصرية؟ وكيف
قبلت قلوبهم الوطنية؟ وكيف سمحت عقولهم الشرقية … أن تسوق ذلك الجيش العرمرم من العراة
الحفاة كقطيع الغنم ضد الأتراك، ومع الإنجليز إلى الحدود، وإلى ما بعد الحدود، حيث
ضحُّوا المهج في وهج الشمس وظلام الليل وفي الأغوار والأنجاد والهضاب والجبال؟!»
٦٤ ويفضح الفنان تلك المستشفيات الوهمية التي أقامتها القوات الإنجليزية
لاستخراج شهادات وفاة مزوَّرة للعمال المصريين الذين يستشهدون في جبهات القتال. كان
الطبيب المصري س وزميله يحرران تلك الشهادات المزوَّرة للمئات من موطنيهما، لإخفاء الأمر
على أهل الشهداء، رغم أنهما كانا يعلمان جيدًا أن الحقيقة غير ذلك، وأن الأبرياء
يبتلعهم الموت في صحراء سيناء. وفي محاولة من الطبيب س للفرار من تأنيب الضمير، يلجأ
إلى تعاطي الأفيون حتى تتدهور حالته تمامًا، لولا أن أحد أقرب أصدقائه ينقذه من نفسه!
٦٥
وقد بدأت مأساة استخدام العمال والفلاحين المصريين في أغسطس ١٩١٥م، لمَّا طلبت قيادة
القوات البريطانية في البحر المتوسط حوالي ٥٠٠ عامل مصري للعمل بجزيرة «موردوس»، وأثبت
هؤلاء العمَّال كفاءة في الأعمال الشاقة، مما دفع القيادة البريطانية إلى طلب المزيد
من
العمال المصريين، حتى بلغ عددهم عند هزيمة القوات البريطانية في موقعة غاليبولي ٣٠٠٠
عامل.
٦٦ كما استُخدم العمال والفلاحون بأعداد أكثر في سيناء وفلسطين والعراق، ووراء
خطوط القتال في الجبهة الغربية بفرنسا. وفي عام ١٩١٧م كانت عمليات «تجنيد» العمال
والفلاحين للعمل في السخرة قد بلغت ذروتها (أذكِّرك بما رواه محمود أبو سويلم عن فترة
تجنيده في بر الشام). وكانت لبيبة (مآذن دير مواس) تطل من مشربيتها في الصباح الباكر،
فترى الجنود يجرُّون الفلاحين من الحقول، يلهبونهم بالسياط، ويلقون بعضهم فوق بعض في
عربات تجرُّها الخيل إلى محطة السكة الحديد، حيث يُشحَنون في عربات البضاعة.
٦٧ وكان رجال السلطات ينتظرون رجوع الفلاحين من حقولهم في الغروب، فيحيطون
بهم كما لو كانوا من الدواب، وينتقون خيرهم للخدمة. منهم غلمان في الرابعة عشرة، ومنهم
شيوخ في السبعين. ثم كان الكرباج هو الوسيلة لتسخيرهم، وأصبح الجلد من الأعمال اليومية
في معسكرات هؤلاء المجندين … وأي معسكرات! إلا خيام، وسوء تغذية، ورداءة كساء، وقلة
غطاء، ثم أمراض تفترسهم افتراسًا. لقد كانوا يموتون كالذباب في الصحراء، وكثيرًا ما رفض
السماح لهؤلاء المجندين بالعودة إلى بلادهم، حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم.
٦٨«وبجانب مصادرتنا لهؤلاء الناس، فقد أعددنا مصادرة جِمالهم وحميرهم
ودوابهم أيضًا — الجيد منها في الأقل — فأصبحت الأعمال الزراعية متعذرة، وارتفعت أثمان
الحاجيات بمصادرتنا للمحصولات الزراعية، فعمَّ الغلاء، وأصبح العيش متعسرًا، وأجور
العمال كما هي، فساءت حالة الفقراء والعمال بدرجة عظيمة لم تتمالك الصحف — رغم الرقابة
الحربية — من الإشارة إليها … فهل بعد هذا نستغرب إذا بلغ الكره لنا، والحقد علينا،
مبلغهما في قلوب المصريين؟»
٦٩ وكان جد غانم (أخبار الدراويش) واحدًا من فيلق العمال المصريين الذين
جمعتهم السلطات البريطانية من القرى لحفر الخنادق في أثناء الحرب، فلما مات، دُفِن في
مقبرة جماعية ببلاد الشام.
٧٠ ومع أن الأرقام الرسمية لا تزال — حتى الآن — غير معلَنة، فإن «دورة العمل»
في تلك الفيالق تُقدَّر بمليون ومائة وسبعين ألف مواطن مصري. وبلغ مجموع المصريين الذين
جُنِّدوا في مختلف القوات مليون نسمة، من بين مليون ونصف المليون يمثِّلون المرحلة السِّنية
التي كان التجنيد يتم بين أصحابها (١٧–٣٠)، وقد تجاوز عدد الوفيات عدد المواليد، وبلغ
عدد الوفيات في ذلك العام أكثر من نصف مليون.
٧١ كان إسماعيل (قصة أبو فودة) واحدًا من فيلق العمال التابع للجيش الإنجليزي.
٧٢ كما كان جاد الله واحدًا من هؤلاء الشبان الذين قذفت بهم السلطة في الصحراء
«يقاتل جنودًا ليست بينه وبينهم خصومة، ولا يعرف لأي سبب يحكم الموت بينه وبينهم.»
٧٣
وقد بدأت صداقة سويلم وجابر منذ تعارفا تحت حكم السلطة أيام الحرب على أرض فلسطين.
٧٤ ولعلهما كانا ضمن الرديف الذي اتجه في شكل مظاهرة إلى عابدين في ٢٩ يناير
١٩١٦م، احتجاجًا على قسوة المعاملة ورداءة الغذاء «ورغم كبت حركتهم، إلا أنها كانت
نذيرًا بثورة الفلاحين.»
٧٥
الغريب أن الحكومة المصرية حاولت إجبار المواطنين على أداء فريضة الحج خلال عام ١٩١٦م،
وألزمت القادرين وغير القادرين على تحمُّل نفقاته، مما دفع الناس إلى الشكوى، بل والهرب
أحيانًا من قراهم، وكان ذلك بعد أن أعلن الشريف حسين ثورته على الدولة العثمانية.
٧٦ وفضلًا عن ذلك، فقد توخت سلطات الاحتلال انكماشًا مطردًا في سياسة التعليم،
بإغلاق أعداد متزايدة من المدارس، حتى بلغ عدد المدارس الثانوية في سني الحماية أربع
مدارس فقط، وتضخمت أعداد الموظفين الأجانب — والإنجليز بخاصة — على حساب عدد الوظائف
المتروكة للمصريين. ويقول محمد صبري إن الإنجليز أنشئُوا ٣٤٩٠ وظيفة كبيرة في عام ١٩١٨م
«وكانت هذه الوظائف مخصصة للإنجليز دون المصريين.» وفي المدة ما بين ١٦ أغسطس ١٩١٨م وأول
سبتمبر ١٩١٨م تقدَّم للمكتب المصري في لندن ١٣٣ شابًّا إنجليزيًّا من راغبي التوظف في
مصر،
ونجحوا جميعًا، ووفد هذا العدد على مصر، حتى اضطرت الحكومة المصرية إلى إيجاد أقسام
جديدة في مصالحها لاستيعاب هذا العدد. وحين وفدت لجنة ملنر إلى مصر عام ١٩٢٠م طلبت من
كل
وزارة بيانًا بتوزيع الوظائف فيها بنسبة بعضها إلى بعض في سنوات ١٩٠٥م، ١٩١٠م، ١٩١٤م،
١٩٢٠م. واتضح للجنة أن المصريين يشغلون من المناصب الصغيرة نحو ثلثَيها، وينخفض نصيبهم
إلى الثلث في المناصب المتوسطة والرواتب، أما الوظائف الكبيرة فكان نصيب المصريين فيها
لا يبلغ الربع.
٧٧ وثمة إحصائية عن عدد الأجانب الذين كانوا يحيون في الأرض المصرية عام ١٩١٨م؛
٦٢٧٩٤ يونانيًّا، ٣٤٩٢٦ إيطاليًّا، ٢٠٦٥٣ إنجليزيًّا، ١٤٨٩١ فرنسيًّا، ٧٧٠٥ نمساويين،
٢٤١٠ روسيين، ١٨٤٧ ألمانيًّا، ١٩٥٨ جنسيات أخرى. وكان عدد المصريين آنذاك ١٢ مليونًا.
وكان لتلك الظروف الغريبة تأثيرها الحاد والمباشر — للأسف — على بعض النفوس الصغيرة من
المصريين، مثل ذلك الموظف الصغير في مالية الزقازيق الذي زحف على ركبتَيه إلى عربة سكة
حديد، كانت تقل اللورد إدوارد سيسل، ليقبِّل قدم اللورد، متوسلًا إليه أن يرقِّيه (اسمه
صادق
حنين) وقد رُقي ذلك الموظف بالفعل، بل إنه غادر واقعه الوظيفي والاجتماعي تمامًا، ليصبح
— فيما بعد — وكيلًا لإحدى الوزارات، ولينال لقب الباشوية!
من هنا كان تيقُّن نبيه وزملائه — وجميعهم من الموظفين — أن هذه الحال ستدفع مواطنيهم
إلى القيام بثورة تعصف بالاستعمار، وتضع حدًّا لمخازيه.
٧٨
•••
كان الحزب الوطني هو أكثر المؤسسات الوطنية تعرضًا لأقسى الضربات من سلطات الاحتلال،
نتيجة لدوره الإيجابي والمهم في تصعيد المقاومة قبل نشوب الحرب. وقد أفقدته تلك الضربات
ديناميكيته، ولم يعُد منه عند نشوب ثورة ١٩١٩م إلا هيكل سياسي، استطاع عسف التدابير
الاستعمارية أن يفرغه من محتواه. فقد قامت سلطات الاحتلال بحملة اعتقالات واسعة بين
قادته وأعضائه، وصادرت مطبوعاته وأوراقه وسجلاته، وأغلقت مدارس الشعب التي أنشأها
للعمال، وهاجمت مقاره وأنديته العمالية. وكانت نقابة الصنائع اليدوية — بطبيعة الحال
—
في مقدمة المنظمات — التابعة للحزب الوطني والعمالية في آن — التي تعرضت لأقسى ظروف
القهر والاضطهاد، لارتباطها بالحزب الوطني منذ إنشائها. كذلك أدت الأحكام العرفية، وما
صحبها من قرارات وقوانين، إلى تجريد العمال من أسلحة العمل الجماعي، وشلَّت حركتهم في
العمل الاقتصادي والوطني، ولم يعُد يتاح لهم فرصة المقاومة بسلاح الإضراب، أو بالعمل
النقابي الذي بدأ يحقق فاعلية مؤكدة قبل نشوب الحرب. فقد أغلقت دور النقابات، وتوقفت
الحركة العمالية توقفًا تامًّا طيلة أعوام الحرب، على الرغم من تضخم القاعدة العمالية
بصفة عامة، نتيجة لازدياد النشاط الصناعي من ناحية، ولاشتغال الآلاف في السلطة العسكرية
من ناحية أخرى. أما بالنسبة لمشكلة العمال العاطلين، التي وجدت حلًّا مناسبًا في فتح
باب
الاستخدام في القوات البريطانية، فهي قد عادت إلى الظهور بصورة مكثَّفة بعد انتهاء الحرب
(تذكر وثائق الحكومة البريطانية أن عدد العمال المصريين الذين كانوا يعملون لدى الجيش
البريطاني في آخر مارس عام ١٩١٦م، بلغ ١٩٥٧٣ عاملًا، ثم ارتفع الرقم في مارس من العام
التالي إلى ٩٨٢٠٠ عامل (د. يونان لبيب رزق، الأهرام، ٢٨/ ٧/ ١٩٧٢م)) فقد سرَّحت السلطات
البريطانية العمال المصريين الذين كانوا يعملون في خدمتها، مما أدى إلى نشوء أزمة بطالة
قاسية ومخيفة، وترتب على وفرة الأيدي العاملة انخفاض في الأجور، ومن ثَم توضحت
الاختناقات الاقتصادية، بصورة مكثَّفة، بين أبناء تلك الطبقة. كذلك فقد كانت الأحزاب
السياسية — ربما لسطوة الأحكام العرفية — غائبة تمامًا حتى عن مجرد التأييد النظري
لقضية الفلاح، والتعسف البالغ الضراوة الذي كانت تعامله به سلطات الاحتلال. لم يتحرك
لنصرته أحد، لا رجال الحزب الوطني، ولا فلاسفة حزب الأمة، ولا أصحاب البيان ممن كانوا
يحررون صفحات المؤيد والأهالي، وتطلَّعت نفوسهم إلى زعيم يتصدى للدفاع عنهم، وإيقاف الظلم
الواقع عليهم.
٧٩
وإذا كانت الجماهير المصرية قد استقبلت إعلان الحماية بما يشبه الصدمة، فإنه لم يمضِ
وقت طويل حتى بدأ الهمس بأنباء المقاومة السرية، ونشاط الجمعيات الفدائية في المقابل
من
توضُّح بعض مظاهر الرياء الاجتماعي — على حد تعبير تيمور — أو الخيانة في تقديرنا!
متمثلة في شعارات جديدة براقة في ألوان صارخة، على هيئة بطاقات مصورة، أو رسوم كبيرة
الأحجام في إطارات مذهبة تعبِّر عن العلاقة الوطيدة بين مصر ودولة الاحتلال.
٨٠
وعلى الرغم من الانخفاض الواضح في الأسعار، بالقياس إليها في العقود التالية، فإن
«غلاء المعيشة» كان هو القضية التي فرضت نفسها على الرأي العام المصري (١٩٠٧م). وكانت
—
على حد تعبير الأهرام (فبراير ١٩٠٧م) «حديث السواد الأعظم من الشعب الذي يصرف جل كلامه
واهتمامه إلى الغلاء المحدق به من كل جهة؛ غلاء المأكول، وغلاء المشروب، وغلاء المسكن،
وغلاء الملابس.» وتقدَّم بعض المواطنين بنداء إلى الجمعية العمومية لمجلس شورى القوانين
يطالبون الحكومة بوضع حدٍّ لموجة الغلاء المتزايدة. كما تألَّفت في القاهرة لجنة للدفاع
عن
حقوق المستأجرين، بهدف تخفيض إيجارات المساكن، ووضع حدٍّ لاستبداد الملَّاك، ووضع نظام
لرفع
الإيجارات.
٨١
أسهمت الحرب — بصورة واضحة — في تعميق التفاوت الطبقي، حيث زادت أعداد الفلاحين الذين
يملكون أقل من فدان سنة ١٩١٠م إلى حوالي ٧٢٠ ألفًا من الملَّاك، ثم تجاوزوا المليون في
١٩١٦م، بمتوسط ملكية أقل من نصف فدان، كما زاد عدد الأُجراء فبلغ في إحصاء ١٩٢٧م حوالي
٦٦٠ ألفًا.
٨٢ وعجزت أعداد كبيرة من الفلاحين عن سداد الديون، فقد بلغت متأخرات الفلاحين
لدى البنك الزراعي وحده ٤١٦٨٨٧ جنيهًا في يناير ١٩١٠م، وباشر البنك إجراءات قضائية لنزع
ملكية الأرض من ٢٥٤٤ مدينًا.
٨٣ ومن ناحية ثانية، فقد زادت دخول الأغنياء بزيادة أسعار القطن وغيره من
المحاصيل، في حين واجه الفقراء ارتفاعًا متواليًا في أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية.
٨٤ فبينما أثرت طبقة الأغنياء نتيجة لارتفاع سعر القطن إلى ٩٠ جنيهًا للقنطار
الواحد، وزيادة قيمة الصادرات المصرية في عامين من ٤٧ مليون جنيه عام ١٩١٧م إلى ٨٠ مليون
جنيه عام ١٩١٩م، بالإضافة إلى أن أبناء الطبقة الوسطى كانوا يجدون فرصًا رائعة في
التجارة، أو يتمرغون في تراب الميري، ويقبلون على كل فرص التعليم … كانت حياة العامل
المصري — الفلاح الأجير، أو صاحب الأفدنة القليلة — قد وصلت إلى أقصى درجات السوء.
صادرت سلطات الاحتلال ماشيته ودوابه، وفرضت مقدارًا من الحبوب يتم توريده لجيش
الاحتلال، حتى لو لجأ الفلاحون إلى شرائه من السوق السوداء بأسعار مرتفعة، وأصبحت كل
موارد مصر من الرجال والمهمات والمؤن والماشية والحاصلات الزراعية والصناعية، تحت تصرُّف
السلطة العسكرية البريطانية، وخصَّصت بعض المصالح نفسها لذلك العمل. كذلك احتكرت سلطات
الاحتلال محصول القطن كله. وتقول جولييت آدم: «إن أثمان القطن قد سُعِّرت تسعيرًا بخسًا،
وقرر الكثيرون من الماليين الأخصَّائيين — والأمريكيون بخاصة — أنه لو كانت مصر في حيدة
إبان الحرب، لربحت أكثر من عشرة مليارات من الفرنكات.» بل لقد أعلن تشرشل في البرلمان
الإنجليزي أن الحكومة الإنجليزية «ربحت من عملية احتكار القطن المصري في أثناء الحرب
ربحًا كبيرًا، وأن من نصيبها في الربح وهبت مبلغ مليون جنيه إلى جمعية تشجيع وإنماء
زراعة القطن في المستعمرات البريطانية.» لقد كانت البذرة التي أنضجتها المأساة، تلك
الأغنية الحزينة التي كان فلاحو أرض الباشا يردِّدونها، تتحدث عن مخازن الذرة التي خلت
من
المحاصيل، وعن الدُّور التي لم يعُد يصيح فيها الدجاج، وعن القرية التي أقفرت من الرجال،
لأن المحتلين قد أخذوا كل شيء، وحشدوا كل ما في مصر من حيوان وطير وغذاء لحربهم مع
الألمان والأتراك، حتى لقمة العيش أخذوها من أفواه الجياع، ولم يكتفوا بذلك، بل ساقوا
الكثيرين منهم إلى الحرب. لقد رفض الباشا أن يغني فلاحوه ضد الإنجليز، فهم أصدقاؤه منذ
خان أبوه عرابي لحسابهم في التل الكبير، ويحتفظ حول قصره في المدينة القريبة ببعض
جنودهم، ليحموه من أذى الفلاحين. وحين أصر الشاب محمد على الغناء أمر الباشا بجلده،
وثار محمد، وثار معه كل رجال القرية، واهتزَّت الفئوس في الأيدي المعروقة، وهوت على رءوس
الزبانية والباشا يستغيث من داخل قصره بالإنجليز، والفلاحون يهتفون: يسقط الإنجليز.
ودفعت القرية — بالطبع — ثمن ما فعلت؛ أقبل جنود الإنجليز لتأديبها، وقتلوا العشرات من
أبنائها، وحطموا البيوت، وأشعلوا فيها النيران، لكن الرماد المتخلف ما لبث أن نفض نفسه،
وعاد إلى الاشتعال في ثورة ١٩١٩م.
٨٥
وكان من النتائج المباشرة لتطورات الأحداث في قرى الريف، نزوح أعداد كبيرة من أبناء
الفلاحين إلى العاصمة، للتعلم أو الالتحاق بمهن ووظائف، ومن حصلوا على شهادات ظلُّوا
في
المدينة الكبيرة، فلم يعودوا إلى مدنهم الإقليمية أو قراهم. وفي ٢٩ يناير ١٩١٦م سار
الرديف، الذي جُنِّد قسرًا، في مظاهرة إلى قصر عابدين، احتجاجًا على قسوة المعاملة ورداءة
الطعام، وكانت تلك المظاهرة مؤشرًا لثورة الفلاحين في ١٩١٩.
٨٦
•••
وعلى الرغم من البيان الإنجليزي الذي أعلن في ٧ نوفمبر ١٩١٤م — بعد دخول تركيا الحرب
—
أن إنجلترا تحارب لغرضَين: هما الدفاع عن حقوق مصر وحريتها التي كسبها محمد علي في ميدان
القتال، واستمرار تمتُّع مصر بالرخاء، وأن إنجلترا أخذت على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب،
فلا تطلب من الشعب المصري سوى الامتناع عن الأعمال العدائية ضدها … على الرغم من ذلك
البيان الذي يخلي الشعب المصري من أية مسئولية إيجابية، فقد أصدر مجلس الوزراء المصري
في ٥ أغسطس ١٩١٤م، عقب إعلان الحرب بين إنجلترا وألمانيا مباشرة، بشأن الدفاع عن القطر
المصري أثناء الحرب بين ألمانيا وبريطانيا العظمى «قرارًا بمنع التعامل مع ألمانيا
ورعاياها والأشخاص المقيمين فيها، ومنع السفن المصرية من الاتصال بأي ميناء ألماني،
وحظر التصدير إلى ألمانيا، وتخويل القوات البريطانية البرية والبحرية حق الحرب في
الأراضي والمواني المصرية، واعتبار السفن الألمانية الراسية في المواني المصرية سفنًا
معادية، وحجزها في تلك المواني.» ثم اتخذ مجلس الوزراء قرارًا بأن تتحمَّل الخزينة المصرية
ثلاثة ملايين جنيه اقترضتها الحكومة البريطانية، وأن تدرج وزارة المالية نصف مليون جنيه
آخر للقيام بالمصروفات التي من هذا النوع في السنة التالية «اعترافًا بجميل بريطانيا
العظمى التي حمت البلاد من خطر الغارات.» ثم أعلنت سلطات الاحتلال أنها تقبل متطوعين
للعمل كعمالٍ في الخطوط الخلفية للقتال، وتحت ظل هذا التطوع بدأت تجمع العمال والفلاحين
— قسرًا — في عملية أشبه بالسخرة، وترسلهم إلى شبه جزيرة سيناء والعراق وفلسطين والدردنيل
وفرنسا، وبلغ عددهم أكثر من مليون ونصف مليون رجل، وظهرت الأغنية الشعبية: يا عزيز عيني
… أنا بدِّي أروح بلدي … يا عزيز عيني … السلطة أخدت ولدي.
٨٧ كما غنَّى عمال السلطة: أنا كل ما جول النوبة يا بوي … ترميني المجادير … ليلي
عيني … ترميني المجادير. وقد أقامت سلطات الاحتلال مستشفيات صورية، لتستصدر منها شهادات
العمال المصريين الذين ماتوا بتأثير الظروف القاسية في صحراء سيناء، جيء بهم من أقصى
الصعيد لمد سكة حديد سيناء، وإقامة الأسلاك الشائكة والتحصينات، وحفر الخنادق، ونقل
مهمات الجيش الموجود أمام غزة.
٨٨ ولعل مأساة المعلم شعبان انعكاس مباشر لأحداث الحرب في حياة الملايين من
بسطاء المصريين، وبالذات هؤلاء الذين فقدوا أبناءهم في متطوعي (!) السلطة، تمامًا مثلما
فقدَ المعلم شعبان ولده الوحيد.
٨٩
جاءت الحرب في الوقت الذي كان الاحتلال البريطاني قد أفلح فيه — خلال سني الإصلاح
الثلاثين السابقة — على حد تعبير السير ملن شيتهام — في تطويع الاقتصاد المصري تمامًا،
لكي يصبح قابلًا للاستنزاف بأقل جهدٍ ممكن. ومن ثَم، تعرَّض الاقتصاد المصري للارتباك
الشامل، فقد أدى نشوب الحرب، وإغلاق البحر المتوسط، إلى صعوبة ورود الكثير من المنتجات
الأجنبية، مما أنشأ مشكلة تغطية مصر لاحتياجاتها من تلك المنتجات، فضلًا عن تلبية حاجات
القوات المحاربة. وفي إيرادات الجمارك بلغ العجز في الستة الأشهر الأولى من ٥٥ إلى ٦٠٪
بالنسبة لمتوسط السنين السابقة، نتيجة لوقوف حركة التجارة بين مصر وبلاد الحلفاء، وإلى
عدم توافر المال لاستيراد البضائع من الخارج، بعد توقف المعاملات التأجيلية بين مصر
وأوروبا. وعرفت البلاد — للمرة الأولى — نظام البطاقات في توزيع السلع التموينية نتيجة
لانقطاع الواردات من الخارج.
٩٠
وفي المقابل من ذلك كله، حصلت القوات البريطانية والأسترالية والهندية التي كانت
تقيم
في مصر إبان الحرب على سلع وخدمات بلغت قيمتها ما بين ٨٠ و٨٥ مليونًا من الجنيهات، وانعكس
ذلك على المستوى المعيشي للشعب المصري، فارتفعت نفقات المعيشة ارتفاعًا هائلًا،
فقد ارتفعت أسعار الذرة — على سبيل المثال — بنسبة ٨١٪ والأرز ٧٢٪ والفول ١١٤٪ والقمح
١٣١٪ والسكر ١٩٤٪ والبترول ١٠٣٪، وبلغ سعر الفحم تسعة أمثال ما كان عليه قبل الحرب.
٩١ ولخص عزيز خانكي صورة الموقف خلال سنوات الحرب بأنه «هو الخراب بعينه، سل
سواد الناس يقولون لك بالإجماع إن أيامهم هذه قطعة من سني يوسف.» ويقول ملنر في تقريره:
«فثقلت وطأة ذلك على الفقراء، ولا سيما أن أجورهم لم تكن تكفي النفقات التي يقتضيها
غلاء المعيشة، في حين أنهم كانوا يرون عددًا من مواطنيهم، ومن الأجانب غير المحبوبين
عندهم، يجمعون الثروات الكبيرة، مما أدى إلى الاستياء والقلق بين العمال في المدن
وجماهير الفلاحين في القرى.» وشهدت شوارع القاهرة والإسكندرية — للمرة الأولى — مظاهرات
العاطلين ومواكب الجوع،
٩٢ فقد خرجت مظاهرة في الإسكندرية يوم ٣١ أغسطس ١٩١٤م من ١٥٠٠ شخص، وفي الثالث
من سبتمبر من العام نفسه، خرج العمال العاطلون في مظاهرة مماثلة، تطالب بالخبز وتهتف:
«جعانين … جعانين … تسقط الحكومة … يسقط الظلم.» وقد فرقت القوات البريطانية المظاهرة
بالقوة، وأطلقت الصحف على تلك المظاهرة تسمية «مظاهرة الرعاع».
٩٣ بما يذكِّرنا بتسمية مماثلة، أطلِقَت على مظاهرات جرت بعد ذلك ببضعة عقود، وهي
«انتفاضة الحرامية» وكانت الحرب فرصة لتكديس ثروات قدَّرها كروتشلي بمائة وخمسين مليونًا
من الجنيهات، ذهبت كلها إلى خزائن السراة، بينما ظلت الأجور والمرتبات كما هي، لتواجه
ارتفاعًا في الأسعار يفوق ما كان عليه قبل الحرب بثلاثة أضعاف (ارتفعت أسعار الحاجيات
بنسبة ٢١٦٪ في الفترة من ١٩١٤م إلى ١٩١٨م (تطور الحركة الوطنية، ٣١)). كذلك أثرى عدد
من
التجار الوطنيين؛ فقد بدأ الأحمدي باشا — قبل الحرب — شيَّالًا في مضرب أرز، ثم تاجرَ
فيه،
وتحقق له كسب استطاع به في النهاية أن يشتري المضرب، ثم امتلك شونًا وعمارات ومئات
الألوف من الجنيهات في البنوك.
٩٤ وفي أكتوبر ١٩١٨م ارتفع ثمن قنطار القطن من سبعة ريالات إلى عشرين ريالًا،
واختفت شيئًا فشيئًا صورة جندي الاحتلال من تلك الملاهي، لتحل — بدلًا منها — صورة الفلاح
العمدة المصري الذي ينفق — بلا قيد — ثروته المفاجئة، والتي عبَّر عنها الريحاني في
شخصيته الشهيرة كشكش بيه عمدة كفر البلاص.
٩٥ وكانت قصص تجار الأقطان الذين أثروا حتى صاروا يشعلون سجاير الراقصات
بأوراق البنكنوت … كانت تلك القصص سببًا في إغضاء سكان الحارة عن سرقات «النجرو»
للأقطان من الميناء، فقد كانوا يعانون جميعًا وطأة الغلاء، وكانت سرقات النجرو تعبيرًا
عما يشعرون به لتجار الأقطان من حقد وكراهية.
٩٦ وقد أفاد والد يوسف من الرخاء الذي أصاب تجارة القطن، في أعقاب الحرب؛
فاشترى قطعة أرض جديدة، وزادت ملكيته إلى ثلاثة فدادين.
٩٧ كان الابن من بين الذين أفادوا من الحرب، فقد تاجر في الحديد الخردة، وأثرى.
٩٨ وتحقق للنحاس عصر ذهبي في أيام الحرب، حتى لقد ذكَّر إبراهيم الفار أصحابه
بأنهم كانوا يقبِّلون يده من أجل رطل نحاس.
٩٩ وظل حنفي الحوذي يترحم على أيام الحرب والضرب، أيام كان رطل النحاس بأُقَّة ذهب.
١٠٠ وكان بليغ معاوية القليوبي واحدًا من هؤلاء التجار الذين حققت لهم الحرب
ثراء مذكورًا، وتحسَّنت أحوالهم.
١٠١ الأمر نفسه بالنسبة للأحمدي باشا: كان — قبل الحرب — شيَّالًا في مضرب أرز،
تاجر فيه وكسب واغتنى واشترى المضرب، ثم تضخمت ثروته، وحصل على الباشوية.
١٠٢
لعل إصرار المصريين على مبدأ الاستقلال التام الذي رفعته ثورة ١٩١٩م شعارًا لها،
يتبدَّى في الحوار الذي تبادلته أسرة «بين القصرين» غداة انتهاء الحرب. تساءلت الأم:
هل
يذهب الغلاء والأستراليون؟ فقال ياسين ضاحكًا: طبعًا، طبعًا … الغلاء والأستراليون
ولسان خديجة هانم. ولاح التفكير في عينَي فهمي، ثم قال كأنه يخاطب نفسه: غُلِب الألمان!
من
كان يتصور هذا؟ لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد
ضاعت، لا يزال نجم الإنجليز في صعود، ونجمنا في أفول، فله الأمر!
١٠٣ والمقصود ﺑ «نجحنا» هو بعض التيارات الوطنية التي كانت تأمل في انتصار
الألمان، وبالتالي زوال الاحتلال البريطاني، حتى إنه أجاب على خديجة لما سألته من قبل:
لماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي قنابله علينا؟ قال: إن الألمان قصدوا
الإنجليز بقنابلهم لا المصريين.
١٠٤ لكن تيمور يلقي السؤال: هل الأصلح انتصار الألمان أم عدم انتصار أحد؟
١٠٥ ويجيب أحد أبطال الرواية عن السؤال: إن الإنجليز مثل الألمان، في الاحتلال سواء.
١٠٦
أما حسان، فقد رفض الإنجليز والألمان، والأتراك كذلك: «إذا ادَّعى الترك أنهم يحبونكم،
وأنهم يريدون الخير لكم، وأنهم ما فكروا في غزو بلادكم إلا لطرد الإنجليز، ومعاونتكم
على نيل استقلالكم، فلا تصدقوهم، إنهم يريدون استعبادكم، وحمل خيراتكم إلى بلادهم، إنهم
أنانيون منافقون، سلوني كيف كانوا يعاملونني أنا المصري الذي انضم إليهم متطوعًا لقتال
الإنجليز.»
١٠٧ وكان موقف حسان هو الأرضية التي وقفت عليها — فيما بعد — ثورة ١٩١٩م، ورفعت
من فوقها شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»!
ولعله من هنا، جاء قول كرومر — قبيل أن يبين الأفق عن الأحداث «إن مصر تذوب شوقًا
إلى
الثورة.»
•••
لعل أصدق الكلمات تعبيرًا عن «الجو» الذي فرضته الحرب على المجتمع المصري، تلك التي
نقرؤها في قصة يحيى حقي «ذكريات دكان»: «لقد ظل القاهريون منذ انقضاء هوجة عرابي (هوجة
هي
إذن، وليست ثورة؟!) زمنًا طويلًا لا يعرفون الحرب، ولكنهم سرعان ما ألِفوا الزحام لقراءة
منشورات القائد العام، والزحام لشراء البترول، والزحام حول بائع جريدة «الشعب» ولو كانت
بيضاء ليس فيها سطر واحد إلا عنوان المقال المحذوف وإمضاء كاتبه … هل تذكر؟ وأنستهم
هذه الحياة الجديدة التي تجرُّهم إلى غاية مجهولة أن يفطنوا لما في فتح دكان يبيع مخلفات
الحرب في أحد شوارع القاهرة المطمئنة من تناقضٍ وغربة، لا غرابة ولا دهشة، لا نرى الحرب،
ومع ذلك — هل تذكر؟ — نستنشق جوها البغيض، لا ننام في خنادق، ومع ذلك، فإن أعصابنا
متوترة، تضطرب للهمس، وتتلقف الإشاعات. لم تكن القاهرة أرض معركة، ولكني أذكر كيف كنت
أستيقظ في بعض الليالي على زمجرة السيارات، يلاحق بعضها بعضًا، تحمل الهنود
والأستراليين إلى القلعة، فأجد في سكون الليل معنى جديدًا، هو الجمود والتيقظ للإنصات
إلى زئير موقعة هي جد قريبة. لا أسمع شيئًا، ولكن أذني تطن وتتوهَّم أن الطنين إنما هو
صدى قصف المدافع البعيدة في موقعة لا تتبيَّنها مهما جهدت حواسها، وتظل فكرتي عنها مبهمة،
ويتملَّكني شعور كأنه لازمني طول حياتي — هل الحرب من غرائز الإنسان؟ — شعور بجبروت الحرب
وسلبه البشر عقلهم وضميرهم، فإذا علمهم ونشاطهم وشجاعتهم مسخَّرة للشر، وإذا بهم باقون
على الدهر، مجموعة من العي والضعف والذلة تستحق الشفقة. وكانت الصورة التي تؤلفها
الألوان القاتمة: الدردنيل، منشور القائد العام، التسعيرة، قد كملت ونطقت بالقسوة
والجبروت بفضل «رتوش» صغيرة. وكان دكان المعلم شعبان الذي يبيع فيه مخلفات السلطات
العسكرية أحد هذه الرتوش الصغيرة.»
١٠٨ ويصف الفنان انعكاسات الحرب على الحياة المصرية بعامة «ارتفاع أسعار بعض
الحاجيات، ونضوب البعض الآخر، حتى إن السكر والغاز والدقيق كانت تباع للأفراد بتصريحٍ
خاص من الحكومة، وبأفدح الأثمان. أما المزارع والمصانع فقد أقفرت من الأيدي العاملة،
بعد أن هجرها ناسها للالتحاق بالسلطة العسكرية في ميادين القتال. وكانت عشرات القطارات
تفِد في كل يوم وهي تحمل آلاف الجنود والجرحى والأسرى، إلى حيث تئويهم المستشفيات ودور
المدارس التي تحوَّلت إلى معسكرات ومعتقلات.»
١٠٩ وفي الصفحات الأولى من «بين القصرين» يعكس لنا الفنان تأثير الحرب العالمية
الأولى على تطورات الحياة في المجتمع القاهري: «وهكذا راح يحدِّثها — أحمد عبد الجواد
وأمينة — عن شئون البيت، فأنبأها بأنه أوصى بعض التجار من معارفه بشراء خزين البيت من
السمن والقمح والجبن، وجعل يحمل على ارتفاع الأسعار، واختفاء المواد الضرورية بسبب هذه
الحرب التي تطحن العالم منذ ثلاثة أعوام. وكعادته كلما ذكر الحرب، اندفع يلعن الجنود
الأستراليين الذين ينتشرون في المدينة كالجراد، ويعيثون في الأرض الفساد.» ويتحدث عزيز
خانكي عن أعوام الحرب، فيقول إنها «الخراب بعينه. سل سواد الناس، يقولون لك — بالإجماع
— إن
أيامهم هذه قطعة من سني يوسف.» وكان جاد الله الصغير واحدًا من هؤلاء الذين انتزعتهم
«السلطة» لتقذف بهم إلى الصحراء، يقاتلون جنودًا لا يضمرون — أي جاد الله ورفاقه — لهم
خصومة ما.
١١٠ وقد انعكست التأثيرات السلبية للحرب على بلدة ساحلية هي دمياط، بصورة
واضحة. فقد شُلَّت الأسواق، وتوقفت رحلات المراكب إلى شرق البحر المتوسط، وارتفعت أثمان
البضائع، وندر استيراد الأخشاب، فاضطر الكثير من تجار المدينة وحرفييها إلى «الهجرة»
لمدن أخرى سعيًا وراء لقمة العيش.
١١١ وكتب الفنان: «روت الجرائد أن رجلًا في القاهرة حاول الانتحار لأنه لم يجد
عملًا، وليس الانتحار جديدًا علينا، إنما الجديد أن يوجد بيننا عمال عاطلون يدفعهم
اليأس إلى الموت. هذا هو الخطر الداهم، ينبغي أن يفطن له من بيدهم تدبير شئوننا
الاقتصادية، فإن العاطل اليائس قد يدفعه يأسه إلى ما هو أشد؛ نكاية بالجماعة، وأشأم
أثرًا من الانتحار.»
١١٢ مع ذلك، فقد حقق الرجل من تجارة الأقمشة مكاسب هائلة، أتاحت له أن يقتني
أشياء كثيرة، من بينها مزرعة صغيرة.
١١٣
•••
عقب الحرب، تم تسريح الألوف من العمال المصريين من المعسكرات البريطانية، فتفاقمت
مشكلة البطالة، مما أدى — بالتالي — إلى انخفاض الأجور انخفاضًا كبيرًا، كما ارتفعت
معدلات الأسعار. والغريب أنه مع تلك الأعداد الهائلة من الفلاحين والعمال الذين ساقتهم
سلطات الاحتلال إلى جبهات القتال، فقد نشأت أزمة بطالة خانقة، قوامها أكثر من عشرة آلاف
عامل. وتجمَّعت أعداد من العمال العاطلين أمام دار محافظة الإسكندرية «طالبين عملًا أو
قوتًا يسدُّون به جوعهم.» كذلك تجمعت أعداد مماثلة أمام مبنى محافظة القاهرة، ونظموا
مظاهرة صاخبة طافت بشوارع القاهرة، انتهت بإلقاء القبض على مائة وخمسين منهم، وأحيلوا
إلى النيابة بتهمة النهب وإتلاف البضائع والاغتصاب بالقوة الجبرية. ونتيجة لتفاقم
المشكلة تألَّفت لجنة برئاسة وكيل وزارة الداخلية لتقديم الحلول المناسبة، وقدمت اللجنة
عدة مقترحات، منها:
-
الطلب من ديوان الأوقاف إنشاء مخابز لتوزيع الخبز على العمال العاطلين.
-
توزيع دعوة للأعيان للاكتتاب بما يجودون به لهذا الغرض، ونتيجة لضغطٍ مباشرٍ من سلطات
الاحتلال، وخوفًا من الأحكام العرفية، فقد بلغت جملة الاكتتابات — في فترة قصيرة
نسبيًّا — مبلغ مائة ألف جنيه.
١١٤
-
جمع النقود لإعانة العمال، على أن تُودع أمانة في خزينة المحافظة.
-
استخدام العمال المتعطلين في نقل تلال السباخ، في ضواحي القاهرة، وبيعه لحسابهم،
والاقتراح الأخير بالذات رفضته نظارة الزراعة باعتبار «أن هذه التلال لا تحتوي على
مقادير النتروجين الكافية التي توجد عادة في السباخ الذي يُحسَن استعماله للأطيان، وعليه
لا يمكن بيع ما يُستخرَج منها كسباخٍ نافع، ولا يمكن — بالتالي — تشغيل العمال العاطلين
في
ذلك، وكل عمل يعمل من هذا النوع يكون باطلًا، وبلا فائدة.»
وكان من النتائج المباشرة للأزمة الاقتصادية الخانقة — بالإضافة إلى الأفواج الهائلة
من الجنود الإنجليز والأستراليين الذين ملَئُوا شوارع القاهرة وميادينها وملاهيها —
انتعاش أحوال البارات والمطاعم لوجود القوات الإنجليزية والأسترالية بأعداد هائلة،
١١٥ وفود الآلاف من بائعات الهوى من بلاد البحر المتوسط المختلفة، للترفيه عن
أفراد القوات البريطانية المحارِبة،
١١٦ ويقول فايز (القضبان) «دلوقت الحرب ما خلِّتش فيه حد طيب، الحرب رخَّصت كل
حاجة، حتى الضمير.»
١١٧ وظهرت غانيات الحرب كفئة جديدة يعرفها المجتمع المصري لأول مرة؛ إن نرجس
التي حوَّلتها الحرب إلى نوني، ما تلبث أن تكرر نفسها في الحرب الثانية، لتتحوَّل من
حميدة
إلى تيتي، بل إن العسكري الإنجليزي الذي يقذف بالراوي إلى الرصيف
١١٨ يجد شبيهًا لفعلته، عندما ضرب الجنود الإنجليز عباس الحلو داخل الحانة حتى
قتلوه، والاثنتان — نرجس وحميدة — نتاج الظروف التي خلقتها الحرب. وقد فرَّ راوي «غانية
الحانة» بحياته لأنه أنصت إلى نصيحة أحد أبناء البلد: إلى أين؟ كن عاقلًا يا أفندي! أما
حسين كرشة، فقد اكتفى — مرغمًا — أن يقف وقفة المتفرج أمام محنة صديقه، دون أن يجرؤ على
الاشتراك في المعركة. ومع أن الإنجليز أجبروا حنفي (القضبان) على إصلاح ما أفسده
الثوار، عندما عطَّلوا العمل في المحطة الرئيسة للقطارات، فإنه اتهم مواطنيه بالخيانة،
واضطر لتقديم طلب نقلٍ إلى مكانٍ بعيدٍ.
١١٩
ومع كل تلك الخسائر التي حصدها المصريون ثمارًا من الحرب، فإن السير ريجلند وينجت
المندوب السامي البريطاني، أعلن ببساطة — عند مقابلة الوفد المصري له — إن المصريين هم
أقل الأمم تألمًا من أضرار الحرب، وإنهم مع ذلك استفادوا منها أموالًا طائلة، وإن عليهم
أن يشكروا دولة بريطانيا العظمى التي كانت سببًا في قلة ضررهم وكثرة فائدتهم.
•••
والواقع أنه يصعب الادعاء بأن النتائج السلبية كانت — وحدها — ثمار الحرب العالمية
الأولى؛ فقد كانت بعض الصناعات، مثل النسيج والدباغة والنجارة والفخار والصابون
والأسمنت، تواجه ضغطًا من الواردات الأجنبية التي تتميز بقلة أثمانها. فلما نشبت الحرب،
ارتفعت أثمان المصنوعات الأجنبية لقلة الوارد منها، ووجد الصنَّاع الوطنيون فرصة مناسبة
لتصريف بضائعهم، دون منافسة جدية. كما دخلت بعض الصناعات الجديدة الضرورية، مثل الكبريت
والورق والزجاج، وازدهرت الصناعة في الإسكندرية برغم الصعوبات التي صادفتها نتيجة
للأزمة الاقتصادية العالمية. كذلك وجَّهت الحرب اهتمام «من بيدهم الأمر في البلاد
والمصلحين الاقتصاديين، إلى أهمية الصناعة كأساسٍ لاقتصاد قومي سليم. ففي ١٩١٥م كوَّنت
الحكومة «لجنة التجارة والصناعة» لدراسة الأحوال الاقتصادية المرتبطة بالتجارة والصناعة
في مصر، وتقديم مقترحات للتنمية التجارية والصناعية. وقد وضعت هذه اللجنة تقريرًا
وافيًا ضمَّنته مقترحات عملية لنهضة تجارية صناعية، وأخذت الحكومات العثمانية في تنفيذ
بعض هذه المقترحات تدريجيًّا.» بدَّلت تطورات الحرب من نظرة الكثيرين إلى الزراعة
باعتبارها المورد الاقتصادي الوحيد. نشطت الرغبة في التخلي عن النظرة القاصرة بأن مصر
مجرد بلد زراعي، ينتج الأقطان وبعض الحاصلات الزراعية، وعلت الدعوات بضرورة تغيير أوجه
النشاط الاقتصادي بإدخال التصنيع.
١٢٠
بالإضافة إلى ذلك، فقد اضطر العمال الأجانب إلى مغادرة البلاد، وصار العمال الوطنيون
أغلبية في الدوائر العاملة، وتجدَّد النشاط العمَّالي — من ثَم — ليحدث — بعد انتهاء
الحرب
مباشرة — أكبر إضراب عمَّالي في تاريخ مصر، اشتركت فيه طوائف عمالية عديدة، إعلانًا
بتجسيد القوة العمالية المصرية. ولعل في مقدمة النتائج التي أسفرت عنها الحرب الأولى
بالنسبة للطبقة العاملة، مشروع قانون حماية العمال، الذي وضعته نقابة عمال الصنائع
اليدوية بالإسكندرية، ونُشِر في الثاني من مارس ١٩١٩م، أي قبل نشوب الثورة بأقل من أسبوع.
كان هذا المشروع بقانون وثيقة مهمة تحمل المطالب الاجتماعية للطبقة العاملة، وقد دخل
بها العمال الثورة تأكيدًا بأنها لم تكن هدفًا سياسيًّا فحسب، إنما كانت هدفًا
اجتماعيًّا أيضًا.
كانت الطبقات الأدنى إذن هي أحوج طبقات المجتمع إلى الثورة، ولعله يجدر بنا أن نكرر
الإشارة إلى إفادة كبار الملَّاك الزراعيين من ارتفاع أسعار القطن، ثم من التوسع في زراعة
القمح، وتصديره إلى الخارج. حتى هبطت الديون العقارية من ٤٥ مليون جنيه قبل الحرب إلى
٢٠ مليون جنيه في ١٩٢٤م. كانت هذه الطبقات هي الأسبق لرفع الشعارات المنادية بالعدالة
الاجتماعية، في أعقاب الحرب مباشرة، فلما نشبت الثورة، أعطت للشعارات مضمونها الاجتماعي
المتمثِّل في تأكيد المطالب الخاصة بزيادة الأجور، وخفض ساعات العمل، والاعتراف بالوجود
النقابي، وتنظيم العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال … إلخ.
وبالنسبة للريف، وللمدن الإقليمية، فإن ثورة الفلاحين في ١٩١٩م لم تكن وليدة اللحظة،
ولا هي وُلدَت من فراغ. لقد سبقتها أحداث في الأقاليم المصرية المختلفة، كردود أفعال
لسياسة الضغط الإداري التي بلغت ذروتها في استخدام الشبان المصريين كجنود أو عمال
بالسخرة، ضمن قوات الاحتلال في حربها ضد العثمانيين. وفي رسالة للمندوب السامي
البريطاني إلى وزارة الخارجية البريطانية في ١٥/ ٩/ ١٩١٨م كتب يقول: «في شهر مايو الماضي،
نشبت عدة حوادث في المديريات، ضاع فيها عديد من الأرواح نتيجة لمقاومة الفلاحين لأوامر
السلطات المحلية، وإن لم تتحوَّل إلى اضطرابات واسعة النطاق.»
١٢١ ويقول الأثري الفرنسي للمفتش الإنجليزي: «احترسوا من هذا الشعب، فهو يخفي
قوة نفسية هائلة.»
١٢٢ ويقول الرجل نفسه: لا تستهِن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه،
ولا ينقصه إلا شيء واحد.
– ما هو؟
– المعبود.
– نعم، ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثَّل فيه كل عواطفه وأمانيه، ويكون له رمز الغاية.
عند ذاك، لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية إذا أتى
بمعجزة أخرى غير الأهرام.
١٢٣
•••
ويتصل بالنتائج الإيجابية التي صاحبت نشوب الحرب، صدور أكثر من عمل أدبي يُدين
الاحتلال البريطاني. فقد كتب توفيق الحكيم — على سبيل المثال — مسرحية «الضيف الثقيل»،
وتحدث عنها في كتابه «مسرح المجتمع» بقوله: «يظهر أن الحروب وما تثيره في الأمة من هزَّات
اجتماعية ترغم المشتغِل بالفن على الاستقاء من هذا النبع، وتدفعه إلى الاستيحاء مما
يضطرب فيه هذا المجتمع. هكذا كان الحال أيضًا بالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى؛ فقد
كان المجتمع المصري وقتئذٍ يهتز لأمرين: الخلاص من الاحتلال، والتخلص من الحجاب … في
ذلك العهد دفعتني تلك الهزة، حوالي ١٩١٨-١٩١٩، إلى كتابة قصة تمثيلية اسمها «الضيف
الثقيل» ترمز إلى معنى الاحتلال في صورة عصرية انتقادية: محام هبط عليه — ذات يوم — ضيف
ليقيم عنده، فمكث شهرًا، وما نفعَت في الخلاص منه حيلة ولا وسيلة. وكان المحامي يتخذ
من
سكنه مكتبًا لعمله، فما أن يغفل لحظة أو يتغيَّب ساعة، حتى يتلقف الضيف الوافدين من
الموكلين الجدد فيُوهِمهم أنه صاحب الدار، ويقبض منهم ما يتيسر له قبضه من مقدم الأتعاب،
فهو احتلال واستغلال، وأحدهما يؤدي إلى الآخر.» ويعقب محمد مندور على الجزء الأخير من
هذا النص بقوله: «ومعنى ذلك هو أن توفيق الحكيم قد استخدم الرمز ليعالج قضية كانت تحزِّب
قومه عندئذٍ، وما أظنه كان يستطيع غير الرمز في ظل الحكم العرفي الغاشم وسيطرة الإنجليز
المحتلين وبطشهم، ولكن كتابته لهذه المسرحية الرمزية تدل — قطعًا — على انفعاله بأحداث
عصره
الكبرى، واستجابته لها، أي أن نظرته إلى رسالة المسرح كانت نظرة المستجيب لأحداث الوطن
المحلية وقضاياه الكبرى.» ومنذ أواخر الحرب، بدأ أحمد ضيف يضغط على وجوب العمل لإيجاد
أدب مصري خالص — فضلًا عن التطلع إلى الفكر الأوروبي المتحرر — واصطبغت الأعمال الأدبية
عمومًا باللون المحلي، وإن قلَّت في جملتها، نتيجة لأزمة الورق التي «قضت تقريبًا على
حركة الطباعة»، بينما نشطت الحركة المسرحية. ثم اتسع نطاق «المصرية»، فطغى على كل
شيء، سواء أكان في السياسة والاقتصاد أم في الأدب والاجتماع. واستطاع محمد تيمور أن
يقدم «قصة مصرية» «في عهدٍ لم يألف هذا النداء بعد بضرورة خلق أدب مصري محلي صادق في
تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء ولا من الغرب.» ويقول المازني: «قضى الحظ أن يكون
عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن
يأتون بعدهم، ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض، ومهدوها، ورصفوها، ومن الذي يعنى
بالبحث عن هؤلاء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد، وبعد أن تُمهد الأرض،
وينتظم الطريق، يأتي نفرٌ بعدنا، ويسيرون فيه إلى آخره، ويقيمون على جانبَيه القصور
شاهقة باذخة، ويذكِّرون بقصورهم، ونُنسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها شاهقة باذخة،
ويذكِّرون بقصورهم، ونُنسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها شاهقة رائعة، والذين شُغلوا
بالتمهيد عن التشييد، فلندع الخلود إذن، ولنسأل كم شبرًا مهَّدنا من الطريق.»
١٢٤ وقد اشترك الفن — ممثَّلًا في العظيم سيد درويش — بأغنيات وأناشيد عاطفية،
تضمر أهدافًا وطنية عميقة الدلالات، وذلك نتيجة لطبيعة الظروف السياسية القائمة، ومن
هذه الأغنيات واحدة من تأليف وتلحين سيد درويش يقول فيها:
عواطفك دي أشهر من نار
بس اشمعنى جافيتيني يا قلبك
انت اللطف وليه احتار
سيد الكل أنا طوع أمرك
حالي صبح لم يرض حبيب
لوم الناس زودني لهيب
ما قلت إن الوصل قريب
يا مليكي والأمر لربك
الحروف الأولى من كل شطرة في هذه الأغنية، تشكِّل — في تجمُّعها — اسم عباس حلمي،
الخديو
الذي نفته سلطات الاحتلال، وحرَّمت على الموطنين ذكر اسمه صراحة.
وأيًّا يكن الرأي في قيمة مسرحيات كشكش بك التي قدمها الريحاني في الفترة التي تبدأ
بقيام الحرب، فإنه من الصعب تغافل الدلالات التي تعلن عنها أوبريت «حمار وحلاوة»، فهي
تتناول شخصية كشكش بك وصديقه الشيخ ينسون اللذين توهَّما — بتأثير غيبوبة المخدر — أن
الأول قد أصبح ملكًا لمصر، والثاني أصبح رئيسًا للوزراء، وفتحا الأبواب لفئات الشعب
المختلفة، تشكو المظالم التي زادت وطأتها سنوات الحرب: الغسَّالات والسقَّاءون والجزارون
وباعة السمك، حتى الخواجات حرصوا على الشكوى، وحتى مدمنو الأفيون ضغطوا على «مصيبة»
ارتفاع أسعار المخدرات.
•••
ولا شك أن الثورات الفكرية والسياسية والاجتماعية، في العديد من الدول المجاورة
والبعيدة، كانت عاملًا مباشرًا في إذكاء روح الثورة بين الجماهير المصرية. فقد بدأت
إيران ثورتها ضد الاستعمار والشاه في عام ١٩٠٥م، كما بدأت تركيا حركاتها الانقلابية منذ
١٨٨٩م، وبلغت ذروتها في ١٩٠٩م بخلع السلطان عبد الحميد على أيدي المثقفين والضباط. وعُرفَت
هذه الحركة باسم «تركيا الفتاة»، ثم اتسع المد إلى القدس ويافا (عام ١٩٠٦م) حيث تكوَّنت
جبهة وطنية. أما في الهند، فقد بدأت الاضطرابات عام ١٩٠٧م على أيدي المثقفين الهنود،
وقام حزب المؤتمر باتِّباع سياسة عدم التعاون مع السلطات البريطانية. وفي أيرلندا، أعلنت
الثورة بقيادة ديفاليرا، لتثبت أن رياح الحرية يمكن أن تعصف بأسطورة الإمبراطورية التي
لا تغيب عنها الشمس، حتى في الجزر البريطانية ذاتها. كما نشبت ثورة ١٩٠٥م في روسيا بعد
هزيمتها في الحرب اليابانية، وإن كانت ثورة ٨ مارس ١٩١٧م هي التي أطاحت بالحكومة
القيصرية. أما العالم الإسلامي، فقد بدأت فيه حركة فكرية تدعو إلى رابطة إسلامية في
نطاق البحر المتوسط، وفي المقابل، أسهمت الثورة المصرية — بقيامها — في إذكاء روح
الثورة في بلدان أخرى، حتى إن المستشرق الفرنسي جاك بيرك يصف في كتابه «مصر من
الإمبريالية إلى الثورة»: «كيف كانت المظاهرات في الجزائر تهتف باسم سعد زغلول، كما
تهتف باسم الأمير خالد الجزائري، وتحمل إلى جانب صور الأرامل المسلمات صورة مصطفى كمال
بنظراته الحادة العميقة.»
١٢٥
وبعكس ما تمخضت عنه الحرب العالمية الأولى في أوروبا من زخم سلبي وتشاؤمي وفقدان
للقيم والمبادئ، فضلًا عن الإحساس بالضياع على المستوى الفردي والجماعي، فإن محصلة
الحرب في مصر كانت الإرهاصة لقيام ثورة ١٩١٩م. لقد أصيب الصحفي جيك بطل رواية همنجواي
«الشمس تشرق أيضًا» بالعقم، وأصبح غير قادر على ممارسة الجنس أو الإنجاب، دلالة على العقم
الذي عانى تأثيراته عالم ما بعد الحرب، أما نتائج الحرب في مصر، فقد كانت مغايرة تمامًا.
…
– حصل ما لم يحصل منذ أعوام، فانتهت الحرب وسلم غليوم.
– هل يذهب الغلاء والأستراليون؟
– طبعًا … طبعًا.
– غُلِب الألمان … من كان يتصور هذا؟ لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد
…
كذلك آمال الخلافة قد ضاعت … لا يزال نجم الإنجليز في صعودٍ، ونجمنا في أفول، فله الأمر.
– اثنان كسبا الحرب، هما الإنجليز والسلطان فؤاد، فلا أولئك كانوا يحلمون بالقضاء
على
الألمان، ولا هذا كان يحلم بالعرش
١٢٦
ثم بلغت الأحداث — بعد انتهاء الحرب — ذروة خطيرة، عندما اعترف ممثِّلو الدول المنتصِرة
في مؤتمر الصلح، بالحماية البريطانية على مصر، وإقرارهم شرعية احتلالها، وكان ذلك —
بالإضافة إلى إيجابيات الحرب وسلبياتها — منطلقًا مهمًّا نحو ثورة ١٩١٩م.
هوامش