ثورة ١٩١٩
«ذاع بين الطلبة نبأ عجيبٌ كان حديثَنا اليوم كله، وهو أن وفدًا مصريًّا مكونًا من
سعد زغلول باشا وعبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا توجَّه أمس إلى دار الحماية،
وقابل نائب الملك للمطالبة برفع الحماية وإعلان الاستقلال.»
١ وقرأ ياسين (بين القصرين) رسالة الوفد إلى السلطان التي وُزعت في منشورٍ
على الجماهير، وقال: يا له من خِطاب! لا أحسبني أستطيع أن أوجِّه مثله إلى ناظر مدرستي
دون أن ينالني العقاب الرادع! فقال فهمي: الأمر قد جلَّ الآن عن أن يُراعى فيه أي اعتبار
غير منفعة الوطن!
•••
«بدا الطريق أمام دكان السيد أحمد — كعادته — مكتظًّا بالسابلة والمركبات ورواد
الدكاكين المتراصة على الجانبين، إلا أن هامته ازدانت بشفافية مقطرة من جو نوفمبر
اللطيف الذي حُجبَت شمسه وراء سحائبَ رقاقٍ، لاحت رقاعها ناصعة البياض فوق مآذن قلاوون
وبرقوق كأنها بحيرات من نور. لم يكن شيء في السماء ولا في الأرض قد خرق المألوف مما
اعتاد السيد أن يراه كل يوم، ولكن نفس الرجل، والأنفس الموصولة بنفسه، وربما أنفس
الناس جميعًا، تعرَّضت لموجة عاتية من الانفعال والشعور خرجت بها عن طورها أو كادت، حتى
قال السيد إنه لم تمر به أيام كهذه الأيام اجتمع الناس فيها حول نبأ واحد، وخفقت قلوبهم
بإحساسٍ واحدٍ.»
٢
•••
«انظر إلى الطريق، انظر إلى الناس، من يقول بعد هذا إن الكارثة لم تقع؟!»
ولكن السيد أحمد لم يكن في حاجة إلى مزيد من النظر، الناس يتساءلون، ويرجفون، وأصحابه
يخوضون في الحديث خوضًا حارًّا تجاوبت فيه الحسرة مع الحزن، إلى أن الخبر قد تردد على
ألسنة كافة من مرَّ به من الأصدقاء والزبائن. أجمع الكل على أن سعد زغلول وصفوة أصحابه
قد
اعتُقلوا، وسيقوا إلى مكانٍ مجهول في القاهرة أو خارجها. قال السيد محمد عفت وهو محتقن
الوجه بدم الحنق: لا تشكُّوا في صحة الخبر؛ فإن لأخبار السوء رائحةً تزكم الأنوف، ألم
يكن هذا متوقعًا بعد خِطاب الوفد للسلطان، أو بعد ردِّه على الإنذار البريطاني بذلك الخِطاب
الجبار إلى الوزارة الإنجليزية؟!
فقال السيد بوجومٍ شديد: يعتقلون الباشوات الكبار! يا له من حدثٍ مخيف، ترى ما عسى
أن
يصنعوا بهم؟
– الله وحده يعلم، البلد يختنق في ظل الحكم العرفي.
ودخل عليهم السيد إبراهيم الفار تاجر النحاس مهرولًا، وهو يهتف لاهثًا: أما سمعتم
بآخر
الأنباء؟! مالطة!
وضرب يدًا بيدٍ وراح يقول: النفي إلى مالطة، لم يعُد أحد منهم بيننا. نفوا سعدًا
وأصحابه إلى جزيرة مالطة.
وهتف الجميع في نفس واحد: «مالطة!»
٣
أثار نفي سعد زغلول وزملائه في نفوس الناس، ما يتذكرونه من المصير الذي انتهت إليه
أحداث الثورة العرابية. نفي أحمد عرابي الذي كان إعلانًا بهزيمة العرابيين، ونفي سعد
زغلول، وخشي المصريون من تكرار النفي، وتكرار الصورة: «أيجري نفس المصير على سعد زغلول
وصحبه؟ أينقطع حقًّا ما بينهم وبين الوطن إلى الأبد؟ أتموت هذه الآمال الكبار وهي لا
تزال في مهد الإزهار؟
٤
•••
«متى حدث هذا؟ وكيف حدث؟ كان راكبًا ترام الجيزة في طريقه إلى مدرسة الحقوق، فوجد
نفسه بين شرذمة من الطلاب يتناقشون ملوِّحين بقبضاتهم. نُفي سعد وهو يعبِّر عن قلوبنا،
فإما أن يعود سعد ليواصل جهاده، وإما أن نُنفى معه. وانضم الراكبون من الأهالي إليهم
في
الحديث والوعيد، حتى الكمساري أهمل عمله، ووقف ينصت ويتكلم، يا لها من ساعة! فيها أشرق
بنفسه الأمل من جديدٍ بعد ليلة من الحزن واليأس قاتمة، فأيقن أن هذه النار المتقدة لن
تخمد ولن تبرد. ولما أقبلوا على فناء المدرسة وجدوه مكتظًّا صاخبًا مرعدًا، فساقتهم
قلوبهم إليه، ثم هرعوا إلى زملائهم تحدِّثهم نفوسهم بحدثٍ وشيك، وما لبث أن انبرى أحدهم
مناديًا بالإضراب! شيء جديد لم يسمع به من قبل، بيد أنهم هتفوا بالإضراب وهم يتأبطون
كتب القانون. وجاءهم ناظرهم المستر والتون في لطفٍ غير معهود، ونصحهم بالدخول إلى
الفصول، فكان الجواب أن صعد شاب منهم إلى أعلى السلم المفضي إلى حجرة السكرتير، وراح
يخطب بحماسة فائقة، فلم يسع الناظر إلا الانسحاب. أنصت إلى الخطيب بمجامع روحه، وعيناه
شاخصتان إلى عينيه، وقلبه يتابع دقاته في سرعة ونشاط. كم ودَّ لو يصعد إلى موقفه فيفيض
من
مَعين قلبه المستعر، ولكنه لم يكن ذا استعداد قوي للخطابة، فقنع بأن يردد غيره هواتف
نفسه. وتابع الخطيب بانتباه حماسي حتى وقف عند مقطع من خطابه، فصاح مع زملائه جميعًا
في
نفس واحد: يحيا الاستقلال. ثم تابع الإنصات باهتمام بثَّ الهتاف فيه حيوية جديدة، حتى
انتهى الخطيب إلى مقطعٍ ثانٍ، فهتف مع الهاتفين: لتسقط الحماية. والى الإصغاء بجسمٍ
متصلب من الانفعال وهو يعض على أسنانه، ليحبس الدمع الذي زفره جيَشان نفسه، حتى إذا بلغ
الخطيب المقطع الثالث هتف مع الهاتفين: يحيا سعد؛ هتاف جديد، وكل شيء جديد بدأ ذلك
اليوم …»
٥
«لم يكن المصريون يملكون من الأسلحة غير القول، ومن المعدات غير البيان.»
٦ وانقسم المتظاهرون «بين خطيب وهاتف، وساروا في الطرقات هاتفين، طالبين
تحطيم أغلال العبودية.»
٧
•••
«لم يعُد أحد يستطيع الادعاء بأن الثورة لم تغيِّر ولو وجهًا من وجوه حياته، حتى
كمال
نفسه عرض لحريته التي تمتع بها طويلًا في ذهابه إلى المدرسة وإيابه منها طارئٌ ثقيل
ضاق به كل الضيق، وإن لم يستطع له دفعًا؛ ذلك أن الأم أمرت أن تتخلى عنه بحال كي تعود
به إلى البيت إذا صادفتها مظاهرة دون أن تدع له فرصة للتلكؤ أو مطاوعة نزوات الطيش. دار
رأس الأم بأنباء المظاهرات والاضطرابات، وارتج قلبها لحوادث الاعتداء الوحشي على
الطلبة، فعانت من ذاك الزمن أيامًا كالحات ملأتها هلعًا وجزعًا، فودَّت لو تستبقي
ابنيها إلى جانبها حتى تثوب الأمور إلى مستقرها.»
٨ وفي رواية «الأسرة المنكودة» تأخر محمد عن العودة إلى البيت، طال انتظار أبيه
العم مرزوق له، وتوقع أن يكون قد خرج مع المتظاهرين في أحداث الثورة. قال له وهو يترك
البيت «كيف أبقى هنا في عقر الدار، وأسمع هذا الضجيج الذي يصم الآذان، وتلك الصيحات
والنداءات التي تخلق من الجبان شجاعًا، بل كيف أبقى هنا وأسمع نداء الوطن دون أن ألبي
نداءه.»
وفي «بين القصرين»، قال فهمي: هذه هي الثورة حقًّا، فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم،
فلن يزيدنا الموت إلا حياة.
قال ياسين: ما كنت أتصور أن في شعبنا هذه الروح المكافحة.
قال فهمي: بل إنه ممتلئ بروح الكفاح الخالد التي تشتعل في جسده الممتد من أسوان إلى
البحر الأبيض، استثارها الإنجليز حتى ثارت، ولن تخمد إلى الأبد.»
٩
•••
ذلك — باختصار — تطور الأحداث كما يصوره الفنان في «بين القصرين» منذ طلب الوفد المصري
رفع الحماية، وإعلان الاستقلال، حتى تفجَّرت الثورة الشعبية في شوارع القاهرة، ومنها
إلى
بقية مدن وقرى الأقاليم.
كان طلب الاستقلال همًّا لكل المصريين، حتى لمن لا يعرفون السياسة، مثل خديجة التي
استطاعت أن تتخلص من سيطرة حماتها أم خليل شوكت، فقالت لها عائشة: أنت سيدة مستقلة …
عقبى لمصر.
١٠ وقد وصف السير شيتهام — في رسالة منه إلى إيرل كيرزون — تحركات سعد زغلول
بأنها «وصلت إلى نقطة يتحتم معها الالتجاء إلى وسائل أشد عنفًا.»
١١ حتى اللورد كرومر، اعترف — بعد توالي الأحداث — أن مصر كانت تذوب شوقًا إلى
الثورة.
ومع أن الراوي (قصة حياة) يشير إلى شعوره باقتراب الثورة، حتى إنه قرر أن يعفي أهله
من المتاعب التي تجر إليها الثورات واضطراب حبل الأمور، فحملهم إلى بيت جده لأمه على
حدود المقابر، واتخذ فيه شقة، وانتظر نشوب الثورة.
١٢ مع ذلك فإن الثورة بدت مفاجأة خالصة. يقول الراوي (أم أحمد): «دهمتنا ثورة
١٩١٩م، ونحن ننعم بالهدوء النعسان. استيقظت بغتة على دوي الهتاف وفرقعة الرصاص، ورأيت
الألوف الغاضبة (نجيب محفوظ، أم أحمد، صباح الورد، مكتبة مصر)، وإن أرهصت بيوم الثورة
أفكار أحمد منصور التقدمية، وسعيه للتخلص من السيطرة الأجنبية،
١٣ وكره حسان الاحتلال البريطاني إلى حد الانضمام لقوات الأتراك التي قدمت
لغزو مصر،
١٤ وانضمام سامي إلى التنظيم السري، تطلعًا إلى المقاومة التي تقضي على
الاحتلال،
١٥ وتلهف فهمي عبد الجواد على يوم الاستقلال من خلال نضال سعد زغلول، زعيمه
المقدس، ورغبة أشجان في الثأر لوحيدها.
١٦ بالإضافة إلى ذلك، فثمة سبب تشي به كلمات الصحفي محمد توفيق عن «الفائدة
التي يجنيها الشعب المصري من أعضاء العائلة الخديوية، حتى يُصرَف إليهم فوق الثلاثمائة
ألف جنيه في السنة الواحدة، ينفقونها في متنزهات باريز وجبال سويسرا ومجتمعات لندرة في
الصيف، وفي البوديجا ودراكتوس في الشتاء. ولم لا تنفق الحكومة هذه الأموال على تخفيف
الضرائب ومساعدة الفقراء، وتدع هؤلاء الشبان يسعون كما نسعى نحن وغيرنا من كل عاقل في
تحصيل أرزاقهم بالكد والاجتهاد الزائد؟»
١٧ ولعله مما يدعو إلى التأمل قول بشير (النمل الأبيض) إن الوثائق السرية
البريطانية عن ثورة ١٩، أثبتت أن سبب استمرار الثورة هو الرواج الاقتصادي الذي نعم به
المصريون أعوام الحرب العالمية الأولى.
١٨
يقول الفنان: «ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار، وإذا أربعة عشر
مليونًا من الأنفس، لا تفكر إلا في شيء واحد: الرجل الذي يعبِّر عن إحساسها، والذي نهض
يطالب بحقها في الحرية والحياة، قد أُخذ وسُجن ونُفي في جزيرة وسط البحار.
١٩ ويقول الرجل (تحت عجلة الحياة): لقد كانت سنوات مجيدة. يضيف الآخر: لم نكن
نتوقعها حتى نحن أنفسنا!
٢٠ ويذكر اللورد اللنبي في تقرير له أمام مجلس العموم البريطاني في ٢٤ يوليو
١٩١٩م أن عدد ضحايا الثورة — في تاريخ كتابة التقرير — بلغ ٨٠٠ قتيل، و١٦٠٠ جريح من
المصريين، و٣١ قتيلًا و٣٥ جريحًا من الأوروبيين، و٣٩ قتيلًا و١١٤ جريحًا من القوات
البريطانية، وإن ذهب الرافعي إلى أن الإحصاء الأقرب إلى الحقيقة يرتفع بعدد ضحايا
الثورة إلى ثلاثة آلاف قتيل، كما أُعدِم، ودخل السجن آلاف آخرون.
٢١
أصبح لكل حي زعيم يقود الثورة، يدبر الهجمات ضد الإنجليز، ويوزع المنشورات، ويعقد
الاجتماعات، ويعين المتظاهرين على الإفلات من أيدي البوليس وقوات الإنجليز.
٢٢ ويصف الراوي (المرايا) المظاهرات التي كان يتابعها من وراء شيش النافذة:
«جموع من البشر متدفقة، من ذوي البدل والجِبب والقفاطين والجلابيب، حتى النساء في
الحناطير والكارو، يحملون الأعلام ويهتفون، وأزيز الرصاص ينطلق من اللوريات ومن فوق
صهوات الخيل، والإنجليز بقبعاتهم العالية، وشواربهم النافرة، ووجوههم الغريبة، والجثث
بالعشرات مطروحة في جوانب الميدان، والدم البشري يلطخ الملابس وأديم الأرض، والحناجر
تهتف من الأعماق: يحيا الوطن … نموت ويحيا سعد.»
٢٣ وقد بعثت دار الحماية برسالة إلى لندن تقول فيها إن الجنرال يالفين زار
السلطان، وذكر له أن لديه القوات الضرورية للقضاء على أعمال الإثارة، وأنه يعتزم أن
يقمعها، لكن ما رآه من تماسك وصلابة، ومدى انتشار الثورة، جعل قمع الثورة مستحيلًا بدون
اللجوء إلى أشد عمليات القمع.
٢٤
ولعل السِّمة التي يتميز بها كل أولئك الذين بذلوا حياتهم وقودًا للثورة، أن أسماءهم
لم
تجاوز محاضر المستشفيات وأقسام البوليس، بمعنى أنهم جميعًا من أفراد الشعب العادي الذين
وقَّعوا توكيلات الوفد ليمثِّلهم — سياسيًّا — أمام حكومة الاحتلال، وفي المجالات
الدولية، ولكنهم — حين بدءوا الثورة — لم يوكِّلوا قيادة، ولم ينتظروا الإذن. فاجَئُوا
حتى هؤلاء الذين تصوروا أن الجماهير المصرية قد أسلمتهم خطواتها، وخرجوا — بتحريضٍ ذاتي
— ينادون بالاستقلال، ويستقبلون الرصاص، والموت! إن تحوُّل ملايين المصريين من أسلوب
في
الحياة إلى الأسلوب المقابل، فيما بين أكتوبر ونوفمبر ١٩١٨م، شهر واحد — هو — في الدرجة
الأولى — تعبير عن سر هذا الشعب العظيم … «إنهم عشرات، إنهم مئات، إنهم آلاف، أولئك
الأبطال المجهولون الذين حصدتهم الرشاشات كالسنابل.»
٢٥
•••
البداية تعود إلى الساعة الحادية عشرة من صباح الحادي عشر من نوفمبر ١٩١٨م، حين استقبل
المندوب البريطاني السير ريجلند وينجت
Reginald Wingate
الزعماء المصريين الثلاثة — سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي — بهدف سماع رأيهم
في طلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب البلاد على الحكومة البريطانية. لم يرحب
المعتمد البريطاني في البداية بمقابلة الزعماء الثلاثة، لكن رئيس الوزراء حسين رشدي
أقنعه بتحديد موعد لهذه المقابلة، وتحدد الموعد بالفعل. وقد بدأ وينجت اللقاء بقوله:
«إن
الصلح اقترب موعده، وإن العالم يفيق بعد غمرات الحرب التي شغلته زمنًا طويلًا، وإن الله
مع الصابرين، وإن المصريين هم أقل الأمم تألمًا من أضرار الحرب، وإنهم — مع ذلك —
استفادوا منها أموالًا طائلة، وإن عليهم أن يشكروا دولة بريطانيا العظمى التي كانت
سببًا في قلة ضررهم، وكثرة فائدتهم.» فقال سعد زغلول: «ما تكون إنجلترا فعلته خيرًا
لمصر؛ فإن المصريين بالبداهة يذكرونه لها مع الشكر» وأضاف سعد قوله «إن الحرب كانت
كحريق انطفأ، ولم يبقَ إلا تنظيف آثاره، وإنه يظن ألا محل لدوام الأحكام العرفية، ولا
لمراقبة الجرائد والمطبوعات، وإن الناس ينتظرون — بفارغ صبر — زوال هذه المراقبة، كي
ينفسوا عن أنفسهم، ويخفِّفوا عن صدورهم الضيق الذي تولَّاهم أكثر من أربع سنين.» واتصل
النقاش بين الزعماء الثلاثة والمندوب السامي البريطاني (كان المندوب السامي — كما تصفه
الفنانة — هو الحاكم الحقيقي لمصر (مآذن دير مواس، ٩٤)). وقال علي شعراوي باشا: إننا
نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز صداقة الحر للحر، لا العبد للحر، فقال وينجت: إذن أنتم
تطلبون الاستقلال؟! وأضاف مستنكرًا: قد كانت مصر عبدًا لتركيا … أفتكون أحطَّ منها لو
كانت عبدًا لإنجلترا؟! ورفض فكرة منح مصر استقلالها «لأن الطفل الذي أُعطي من الغذاء
أزيد من اللازم يتخم»، و«لأن نسبة الأميين كبيرة في مصر.»
٢٦ ويروي الفولي (الغجر) أنه صحب سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي إلى
مكتب وينجت، وأنه انتظر على باب البيت، توقعًا منه أن يأمر بإيداعهم السجن، فيعدو إلى
بقية الأصدقاء يخبرهم بما حدث، فينقلوه بالتالي إلى كل الناس، وتنشب الثورة.
٢٧ وبعد المقابلة مباشرة، التقى الزعماء الثلاثة بحسين رشدي في وزارة
الداخلية، ليفضوا إليه بما دار من حديث، فأعاد تأكيد مساندته لهم، وأعلن أنه سيبعث من
فوره برسالة إلى السلطان فؤاد، يستأذنه في السفر إلى لندن مع عدلي يكن. لم يكن فؤاد
حينذاك ملكًا، وإنما كان سلطانًا، وهو لم يصبح ملكًا إلا بعد إعلان الاستقلال ذي
التحفظات الأربعة الشهيرة.
٢٨
ويقول ملنر في تقريره إنه في الوقت الذي علت فيه الأصوات بطلب الاستقلال — عقب انتهاء
الحرب العالمية الأولى — عرض حسين رشدي أن يسافر هو وعدلي يكن — وزير المعارف حينذاك
—
إلى لندن «للمناقشة في شئون مصر، وقال إن السلطان موافق على ذلك تمام الموافقة، وكانت
حجة هذين الوزيرين أن مؤتمر الصلح سيوافق على الحماية رسميًّا، وعليه لا يمكن ترك
ماهيتها وكنهها بلا تعريف وتحديد، فقد كان لمصر تحت السيادة العثمانية حقوق معلومة،
وهما يريدان أن يعلما ما هي حقوقها على بريطانيا العظمى تحت حمايتها.»
٢٩ وقد قابل حسين رشدي السير وينجت في اليوم نفسه الذي استقبل فيه الزعماء
الثلاثة، وكرر الرغبة في السفر إلى لندن. وأشار وينجت إلى كلمات الزعماء، وقال إنه يدهش
لرجال ثلاثة يتحدثون عن أمر أمة بأسرها، دون أن تكون لديهم ما يخوِّلهم صفة التحدث
باسمها. فقال رشدي إن لهم هذه الصفة، لأن سعدًا هو الوكيل المنتخَب للجمعية التشريعية،
وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي عضوان
فيها. والتقى حسين رشدي — للمرة الثانية في اليوم نفسه — بالزعماء الثلاثة، وانضم إليهم
عدد آخر من الزعماء، واتفق الجميع على تأليف هيئة باسم «الوفد المصري»، تسعى إلى
المطالبة باستقلال مصر، وأن تحصل — في سبيل هذا الهدف — على توكيلات من الأمة، تخوِّل
لها
صفة السعي إلى تحقيقه. وتكوَّن الوفد في اليوم نفسه — يوم تاريخي حافل بالفعل، كما ترى
— برئاسة سعد زغلول، وعضوية علي شعراوي وعبد العزيز فهمي ومحمد محمود وأحمد لطفي السيد
وعبد اللطيف المكباتي ومحمد علي علوبة. وكانوا جميعًا — في رواية لطفي السيد — من أعضاء
حزب الأمة، ما عدا سعد زغلول.
٣٠ وانضم إلى الوفد — بعد التصديق على قانونه في ٢٣ نوفمبر ١٩١٨م — عضوان آخران
هما مصطفى النحاس القاضي بالمحاكم الأهلية، والدكتور حافظ عفيفي، باعتبارهما ممثلين
للحزب الوطني، فضلًا عن بعض الشخصيات الأخرى التي تحقق التكامل — ما أمكن — في تمثيل
فئات الأمة. أما إسماعيل صدقي فهو يروي في مذكراته أنه حين كان الوفد المصري في دور
التأليف «وجدت أنني كنت في الإسكندرية مع دولة محمد سعيد باشا، فاجتمعنا بالأمير عمر
طوسون، وفكرنا فيما يجب أن يُعمَل، ورأينا من جهتنا أن نقوم بواجب الجهاد، فاتصل بالمرحوم
سعد زغلول باشا ما اعتزمناه، فبعث إلينا، واجتمعنا به في فندق شبرد بالقاهرة، وتم
الاتفاق على أن نتعاون معًا في الوفد المصري.»
٣١ وقد لقيت حركة التوقيعات عطفًا ومباركة من حكومة حسين رشدي، وانتشرت الحركة
في كل المدن والقرى المصرية، رغم مقاومة سلطات الاحتلال لها.
٣٢
وفي «بين القصرين» قال السيد أحمد عبد الجواد للسيد محمد عفت: صباحنا ناد … ماذا وراءك
يا سبع؟
اتخذ السيد محمد عفت مجلسه لصق المكتب، وهو يبتسم ابتسامة وَشَت بالعجب، كأن قول
السيد
«ماذا وراءك» وهو نفس السؤال الذي يتكرر كلما لاقى أحدًا من صحبه — إقرارًا بأهميته في
هذه الأيام البالغة في أهميتها بالنظر لما يربطه ببعض الشخصيات المصرية المهمة من صلات
القربى … بسط السيد عفت صحيفة كانت مطوية بيمينه، ثم قال — خطوة جديدة — لم أعد ناقل
أنباء فحسب، لكني بتُّ رسولًا أحمل إليك وإلى غيرك من الأكرمين هذا التوكيل السعيد.
وأعطاه الصحيفة وهو يغمغم مبتسمًا: اقرأ، فتناولها السيد وقرأ: «نحن الموقعين على هذا،
قد أنَبْنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي علوبة
بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم
من يختارون، في أن يسعوا — بالطرق السلمية المشروعة — حيثما وجدوا للسعي سبيلًا — في
استقلال مصر استقلالًا تامًّا.»
٣٣
وفي العشرين من نوفمبر ١٩١٨م، طلب سعد زغلول من قيادة قوات الاحتلال، تصريحًا له،
ولأعضاء الوفد بالسفر إلى بريطانيا. وبعد إبطاء من السلطة العسكرية، واستعجال من الوفد،
تلقَّت دار الحماية تعليمات من لندن، أبلغتها إلى سعد زغلول، برفض الترخيص للوفد بالسفر،
ودعوته إلى تقديم مقترحاته إلى المندوب السامي، بشرط ألا تجاوز أسوار الحماية. واعترض
الوفد على هذا الرد لدى سلطات الاحتلال. وكبداية لحملة دولية ضد الاحتلال، بعث قادة
الوفد برقية بالمعنى نفسه إلى المستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية، ثم أرسلوا
نداء إلى معتمدي الدول الأجنبية بمصر، توضح أهداف تأليف الوفد ومقاصده، وتُشهِدهم على
التصرفات المتعسفة للسلطة العسكرية الإنجليزية، وبرقية إلى الرئيس الأمريكي ولسن لتحقيق
سعي الوفد في السفر لحضور مؤتمر الصلح. كذلك فقد ألقى سعد زغلول أول خطبة سياسية له بعد
تأليف الوفد، في الحفل الذي أقامه بدار حمد الباسل باشا — ١٣ يناير ١٩١٩م، وقال في
خطبته: إن الحماية باطلة بطلانًا أصليًّا أمام القانون الدولي، ومخالِفة مخالفة صريحة
للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة، فنحن أمام القانون
الإنساني أحرار من حكم أجنبي، فلا ينقصنا إلا أن يعترف مؤتمر السلام بهذا
الاستقلال.»
٣٤ وطبع الوفد نصوص هذه الخطبة، ووزَّعها على الجماهير في أرجاء البلاد، بعد أن
منعت الرقابة نشرها في الصحف. وفي ١٣ يناير ١٩١٩م قال سعد زغلول في اجتماع شعبي عقد في
دار حمد الباسل: «ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر، بل هي قديمة يتأجج في قلوب
المصريين الشوق إلى تحقيقها.»
٣٥ وفي ٣١ يناير من العام نفسه دعا سعد زغلول المئات من «وجوه البلاد» إلى
اجتماع في داره، لكن السلطات البريطانية تدخلت، ومنعت الاجتماع قبل أن ينعقد.
٣٦ ثم ألقى سعد زغلول خِطابه الثاني في قاعة جمعية الاقتصاد والتشريع — ٧
فبراير ١٩١٩م — وأعلن بطلان الحماية بطلانًا تمامًا، وأن الشعب يرفضها ويطلب الاستقلال،
وأنه وزملاءه موكَّلون من الشعب للسعي في تحقيق هذا المطلب العزيز. وتساءل ياسين أحمد
عبد
الجواد: وكيف كان ردهم (الإنجليز) عليه؟ قال شقيقه فهمي: لم يجئ ردهم بعد، والكل يتساءل
عنه في حيرة وقلق، إنها غضبة مزمجرة في وجه أسد لم يؤثر عنه الحلم أو العدل. ثم وهو
يتنهد مغيظًا محنقًا: كان لا بد من غضبة بعد أن مُنِع الوفد من السفر، وبعد أن استقال
رشدي باشا من الوزارة فخيب السلطان المأمولَ بقبول استقالته.
٣٧ ثم قرأ على شقيقه رسالة الوفد إلى السلطان تستنكر فيها قبول استقالة
الوزيرين «لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا، وتمكينًا للعقبة التي ألقيت في سبيل
الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضا بحكم الأجنبي علينا إلى
الأبد.»
٣٨ وحرص سعد زغلول على أن يرفق بالرسالة ترجمة فرنسية لها، «لكيلا يفوت
السلطان معنى من المعاني الدقيقة الواردة فيها.» ويقول السير وينجت في رسالة إلى لورد
هاردينج: «بلغ إلى علمي أن الدعاية للاستقلال التام منتشرة في الأقاليم بواسطة منشورات
موقَّع عليها من قِبَل أعضاء الجمعية التشريعية، وأن هؤلاء الأعضاء انتدبوا سعد زغلول
وأعضاء حزبه، ليكونوا ممثلين عنهم في إثارة مسألة الاستقلال المصري الذاتي أمام الشعب
البريطاني.»
٣٩ أما رد الفعل الشعبي، فقد كان عنيفًا، واضطرت الحكومة البريطانية من ثَم إلى
استدعاء السير وينجت إلى لندن في ٢١ يناير ١٩١٩م، ليقدم تقريرًا عن الحالة. وزاد الوفد
من
نشاطه بعد رحيل وينجت، حتى لجأت سلطات الاحتلال إلى منع الاجتماعات العامة، حتى ذلك الذي
كان قد أعد له سعد زغلول في بيته، في ٣١ يناير ١٩١٩م. ونتيجة لذلك، استدعى الميجر جنرال
واطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة، رئيس الوفد وأعضاءه للحضور إلى مركز
القيادة بفندق سافواي بعد ظهر السادس من مارس ١٩١٩م، وتلا عنه أحد مساعديه بلاغًا باللغة
الإنجليزية، نصه: «علمت أنكم تضعون مسألة وجود الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون
العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تشكيل وزارة جديدة، وحيث إن
البلاد لا تزال تحت الأحكام العسكرية؛ لذلك يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى
عرقلة سير الإدارة، يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية. ولما أراد بعض
أعضاء الوفد الكلام، قال في هدوءٍ حاسمٍ وهو ينصرف: لا مناقشة! وبعث سعد في اليوم نفسه
برقية إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا يحتج فيها على الإنذار، وفي اليوم التالي —
الثامن من مارس — أُلقي القبض على سعد وثلاثة من رفاقه: محمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد
الباسل، وسيقوا إلى ثكنات قصر النيل، ومنها إلى بورسعيد، لتقلهم الباخرة إلى جزيرة
مالطة. وقد حدد حافظ محمود أسباب اختيار المنفيين الأربعة بأن سعد زغلول ترأس الحركة،
أما محمد محمود فيمثِّل الصعيد، وأما إسماعيل صدقي فيمثِّل الدلتا، بينما حمد الباسل
يمثِّل
سكان الصحاري المصرية،
٤٠ وهو اجتهاد يخلو من تثبت تاريخي.
•••
والحق أن الاعتقال كان متوقعًا منذ اللحظة التي قابل فيها الزعماء الثلاثة المعتمد
البريطاني، وعرضوا عليه مطلب الاستقلال، حتى إن ياسين (بين القصرين) قال ساخرًا: إذا
كانت — بريطانيا — قد نفت عرابي الفارس، فهي أجدر أن تنفي سعدًا العجوز!
٤١ وقد طبع طلبة الأزهر والحقوق والمدارس العليا — في نشرة خاصة — نص الحوار
الذي دار بين المعتمد البريطاني والزعماء المصريين، ووزعوها على الأهالي في امتداد
الأقاليم المصرية، وأحس الناس أن البلاد مقبلة «على تطورات خطيرة وأحداث
جسام».
٤٢ وحين سرى الخبر باعتقال سعد وأصحابه؛ فإن السيد محمد عفت (بين القصرين) راح
يذكِّره قائلًا: لا تشكُّوا في صحة الخبر؛ فإن لأخبار السوء رائحة تزكم الأنوف. ألم يكن
هذا متوقعًا بعد خِطاب الوفد للسلطان؟ أو بعد رده على الإنذار البريطاني بذلك الخِطاب
الجبار إلى الوزارة الإنجليزية؟ فقال أحمد عبد الجواد متسائلًا: يعتقلون الباشوات
الكبار؟! يا له من حدث مخيف، ترى ما عسى أن يصنعوا بهم؟
– الله وحده يعلم، البلد يختنق في ظل الحكم العرفي …»
٤٣
ويقول الفنان (عودة الروح): «ما غابت شمس ذلك النهار، حتى أمست مصر كتلة من نار،
وإذا
أربعة عشر مليونًا من الأنفس لا تفكر إلا في شخص واحد: الرجل الذي يعبِّر عن إحساسها،
والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة، قد أُخذ، وسُجِن، ونُفي، في جزيرة وسط
البحار.»
٤٤
وفي ٤ أبريل ١٩٢١م — بعد عامين من نفي سعد زغلول، ومن الثورة — عاد زعيم الوفد إلى
الإسكندرية، وإن اختلفت مصر التي عاد إليها عن مصر التي نُفي منها.
٤٥ «في شهر مارس، بدأ الربيع، فصل الخلق والبعث والحياة. اخضرَّت الأشجار بورق
جديد، وحبلت، وحملت أغصانها الأشجار. وكذلك مصر أيضًا، قد حبلت وحملت في بطنها مولودًا
هائلًا. وها هي مصر التي نامت قرونًا تنهض على أقدامها في يوم واحد. إنها كانت تنتظر
—
كما قال المفتش الفرنسي — تنتظر ابنها المعبود، رمز آلامها وآمالها المدفونة يُبعَث من
جديد، وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح.»
٤٦ وقد اعترف اللورد ملنر في تقريره أن أحداث الثورة بأنها «شملت كل ناطق
وساكن»، وأن الحركة الوطنية اجتذبت الجميع «إما طوعًا أو كرهًا، من أمراء العائلة
السلطانية، إلى صبية الكتاتيب وأصحاب الأملاك وأهل الصناعات العالية ورجال الدين
والأدباء والصحافيين وطلبة المدارس. وأخطر من هذا شأنًا أنها تخللت طبقة الموظفين وكبار
ضباط الجيش.»
٤٧ ويؤكد الراوي (الأيام) أن التاريخ لم يعرف لهذه الثورة نظيرًا، إلا
الثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر.
٤٨
•••
يقول الراوي (أم أحمد) «دهمتنا ثورة ١٩١٩م ونحن ننعم بالهدوء النعسان، استيقظت بغتة
على دوي الهتاف، وقرقعة الرصاص، ورأيت الألوف الغامضة.»
٤٩
بدأت الثورة بمظاهرات سلمية، قام بها طلبة مدرسة الحقوق، صباح الأحد ٩ مارس. أضربوا
عن تلقي الدروس، واجتمعوا في فناء المدرسة بالجيزة يعلنون إضرابهم. وكان الإضراب حدثًا
جديدًا في الحياة المصرية، حتى إن فهمي لم يكن قد سمع به من قبل. نصحهم المستر والتون
ناظر المدرسة بالعدول عن الإضراب، فرفضوا سماع نصيحته. وكرر عليهم نائب المستشار
القضائي الإنجليزي النصح بالعودة إلى دروسهم، ودعاهم إلى ترك السياسة لآبائهم، فقالوا:
إن آباءنا قد سجنوا، ولا ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون! وخرج الطلبة من مدرستهم
إلى مدرسة المهندسخانة، ثم إلى مدرسة الزراعة، وكلتاهما بالجيزة، فخرج معهم طلبة
المدرستين، وساروا جميعًا يهتفون بحياة مصر، وحياة سعد. ثم ذهبوا إلى مدرسة الطب، فإلى
مدرسة التجارة العليا بالمبتديان. وانضم إلى المظاهرة طلبة مدارس التجارة المتوسطة،
ودار العلوم، والقضاء الشرعي، والإلهامية الثانوية وغيرها. وعندما وصل الطلبة إلى القنطرة،
داس حصان أحد الجنود على قدم طالب متظاهر، ونبَّهه الطالب، فضربه الجندي. غضب
الطلبة لزميلهم، وانضم إليهم عدد كبير من أفراد الشعب، وانهالوا على الجندي ضربًا
بالحجارة، وفرَّ الجندي، وتبعه بعض زملائه، وواصل باقي المتظاهرين السير حتى باب الخلق.
بينما اعتُقل نحو ثلاثمائة طالب، أودعوا مبنى المحافظة، ثم سيقوا ليلًا إلى القلعة.
وتظاهر الطلبة في الميدان للمطالبة بالإفراج عن المحتجزين، ودارت بينهم وبين بلوك الخفر
المسلَّحين بالعصي معركة عنيفة، استمرت عدة ساعات، وانتهت بإخلاء الميدان، لكن الطلبة
في
جميع المدارس اتفقوا على أن يضربوا في اليوم التالي، وتأليف مظاهرة تضمهم جميعًا. كان
يوم التاسع من مارس هو أول أيام الثورة، وانتهى دون أن تُسفَك دماء.
٥٠ تلك هي أحداث اليوم العظيم كما يصفها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي. وثمة
تناول آخر لتلك الأحداث من خلال تلقي محسن (عودة الروح) نبأ القبض على سعد زغلول
ورفيقيه، ثم كيف بدأت مظاهرة الحقوق. كان محسن في مدرسته في صباح اليوم المشهود، وإذا
أحد التلاميذ قد أقبل وهو يلهث. وكلما صادف في طريقه فئة، لفظ بضع كلمات سريعة بلهجة
خطيرة، فتتغيَّر وجوه السامعين، حتى بلغ الخبر مسامع محسن، وما كاد يفكر فيه، وفي معناه،
حتى ألفى المدرسة بأجمعها حوله تتهامس وتتناقش وتتساءل. ودق جرس الدخول، فلم يأبه له
أحد. أمر عجيب إذ ذاك في تاريخ المدارس: أن يحتشد الطلبة هكذا، وفي ملامحهم معنى واحد
هائل، ويُدعون إلى الدرس فلا يجيبون، كأنما هو يوم القيامة.»
٥١
ظلَّت المواصلات معطلة في اليوم التالي، وبدأ الناس يقضون مصالحهم سيرًا على أقدامهم،
أو على الحمير والدواب. حتى سائقو الحنطور، أعلنوا الإضراب، ولم يعُد ثمة إلا عربات
الكارو وسيلة وحيدة للمواصلات، بعد وضع مقاعد خشبية عليها، يستقلها الأفندية، ومن في
حكمهم. وقد فوجئ زين العابدين بك (الضباب) وهو ينتظر عربة تقله إلى الصاغة، بعربة كارو
تقف إلى جانبه، وسائقها يقول له: تفضَّل، وتساءل في دهشة: ماذا؟ «وأوشك أن يغضب، ولكنه
نظر فوجد الركاب لا يقلُّون عنه وجاهة. وقال أحدهم، وهو أفندي أنيق: تفضل يا بك، يظهر
أنك
حديث القدوم من الريف، وأضاف الرجل: هذه هي وسيلة المواصلات الرسمية الآن، فسائقو
الحنطور مضربون.»
٥٢ ورغم منع الرقابة البريطانية نشر كتاب الوفد إلى السلطان، فقد وُزِّع على نطاق
واسع، بعد أن طُبع منه — في السر — مئات الألوف من النسخ.
٥٣ وتجددت المظاهرات، وأضرب عمال النقل ثاني أيام الثورة. بدأ الإضراب عمال
الترام، وعمال المترو وترام هليوبوليس، ثم تبعهم سائقو سيارات الأجرة، وأضرب عمال
العنابر في ١٥ مارس، وكان عددهم يزيد على أربعة آلاف، وعمد بعضهم إلى إتلاف القضبان
الحديدية ومفاتيح القضبان في أماكن مختلفة، وقطعوا الخط الحديدي بالقرب من إمبابة،
فتعطلت قطارات الوجه القبلي. كما أضرب عمال الفنارات وأحواض السفن والورش في ميناء
الإسكندرية.
٥٤ وحين أضرب عمال شركة النور في ١٦ مارس، خرجت المظاهرات ليلًا تتقدمها
المشاعل، وكان عبد التواب أفندي أحد المشاركين في المظاهرات، ضرب الفوانيس بالطوب،
احتجاجًا على العسف الإنجليزي.
٥٥ وعاد الأب (أولاد حارتنا) من الخارج، كأنما هو راجع من خناقة؛ زر الطربوش
مفقود، وعقدة رباط العنق غائصة في ثنية الياقة، والجاكتة تنضح بالعرق والتراب، والصوت
مبحوح … لكن العينين تتألقان بنور ظافر، ويقول: هتفت حتى ضاع صوتي، نسيت نفسي
تمامًا.
٥٦ وقد أطلق جنود الإنجليز الرصاص على المتظاهرين، فقُتِل عدد منهم.
٥٧
كانت معظم المظاهرات تبدأ عند ميدان الأزهر، وكان غالبية القتلى من طلبة الجامعة
الأزهرية «مات أناس يحملون العلم أنفًا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من
السلاح. ويرى إخوانهم مصرعهم، فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا — على حد تعبير العقاد
—
مصرعًا كمصرعهم طائعين متنافسين، في لحظة يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة، ولا يطيقون
رؤية العلم مُلقى في التراب.» وكان ابن الفولي اللبان (بين القصرين) واحدًا من شهود
الثورة.
٥٨ كان يوزع سلاطين اللبن الزبادي، فصادف في طريقه مظاهرة، اشترك فيها، فأردته
رصاصات الإنجليز في ساحة الأزهر.
٥٩ أما إبراهيم، فقدْ فقدَ ساقه في أحداث الثورة، أفاق في المستشفى — عقب مظاهرة
— ليجد ساقه قد بُترَت.
٦٠ ثم تواصلت المظاهرات في الحلمية والغورية والظاهر وشبرا، وكان أهمها مظاهرة
قامت أمام جامع الحسين، مؤلَّفة من طلبة الأزهر، ساروا بموكبهم إلى الغورية، فالحلمية
الجديدة. وهناك التقوا بمظاهرات مماثلة من طلبة المدارس العليا والخصوصية والثانوية،
واتجهوا إلى المحكمة الشرعية بشارع نور الظلام. وفي صباح الخميس — اليوم الخامس
للمظاهرات في القاهرة — سألت أم حنفي (بين القصرين) — التي كانت تصحب كمال الصغير — بواب
المدرسة: هل يوجد تلاميذ في المدرسة؟ فقال الرجل: منهم من يدخل، ومنهم من يذهب، والناظر
لا يتعرض لأحد.
٦١ ورغم أن كمال فضَّل العودة إلى البيت؛ فإن الأم أمرته بالانتظام في دراسته،
ليجد أن الأغلبية الساحقة من الطلبة كانوا مضربين. ولم يكن هناك في الحقيقة سوى صغار
التلاميذ، حتى هؤلاء أمرهم المدرس أن يراجعوا دروسهم السابقة، وانكبَّ هو على تصحيح بعض
الكراسات «فتركهم في شبه إضراب في الواقع.»
٦٢ لكن مد المظاهرات وصل إلى الصغير داخل مدرسته، فثمة «شيء استرعى انتباهه
فجأة، ولكي يستوثق من حاسته، نظر فيما حوله، فرأى رءوس التلاميذ مرفوعة، وأعينهم تتبادل
النظرات، ثم تتجه معًا صوب النوافذ المطلة على الطريق، إنه حقيقة وليس وهمًا ما استرعى
انتباههم. إنها أصوات مندمجة في صوت ضخم غير متمايز، تسمع لبعدها كهدير الأمواج من
بعيد، الآن وقد أخذت تشتد، يمكن أن تسمى ضوضاء، بل ضوضاء تقترب، وسوت في الفصل حركة،
وتعالى الهمس، ثم ارتفع صوت قائلًا: مظاهرة.»
٦٣ ولم تخفت حدة المظاهرات شيئًا ما في حي الحسين، إلا بعد
احتلال الجنود الإنجليز له.
٦٤ وقد انتهز كمال الصغير — فيما بعد — فرصة مداعبة جنود الإنجليز له في
المعسكر المقام أمام بيت بين القصرين، فطلب منهم أن يعيدوا سعد باشا. وسأله فهمي: حقًّا!
وماذا قالوا لك؟ قال: أمسك أحدهم بأذني، وقال لي: سعد باشا نو!
٦٥ وفي يوم الثلاثاء ١١ مارس كان إضراب الطلبة ما زال مستمرًّا، وتعطَّل سير
الترام، أضرب سائقوه، وسائقو سيارات الأجرة، وتعطَّلت المواصلات تمامًا، وأقفلت المتاجر
والبنوك. كما أضرب المحامون، وكان إضرابهم بمثابة دعوة عملية إلى طوائف الشعب للإضراب
العام، مما حدا بالقائد العام إلى إصدار قرار بمنع المظاهرات، وبدأت الدوريات
البريطانية تطوف الشوارع والميادين لتنفيذ هذا القرار. وكانت أول مصادفة بين الجنود
البريطانيين والمتظاهرين في ذلك اليوم بميدان باب الحديد، على مقربة من كوبري شبرا
الممتد فوق السكة الحديدية، ثم في شارع عماد الدين. وفي ذلك اليوم، سقط أول شهداء
الشباب: محمد عزت البيومي، على مقربة من كوبري شبرا «تصدى هؤلاء الجنود بدباباتهم
ورشاشاتهم وبنادقهم وخوذاتهم وسيوفهم، لجموع السائرين في مظاهرة رائعة عند كوبري شبرا،
ولا سلاح في أيديهم غير الرايات المصرية المختلفة الأحجام، وغير حناجرهم يرسلون منها
هتافًا داويًا، يقابل رصاص الإنجليز الداوي.»
٦٦ وبعد صلاة الجمعة — ١٤ مارس — أطلق جنود الإنجليز الرصاص على المصلين
المنصرفين من جامع الحسين — لظنهم أنهم متظاهرون، واستُشهد ١٢ وجُرح ٢٤. وفي اليوم نفسه،
حدثت مظاهرتان أخريان في شارع عباس والسيدة زينب، وقُتِل في مظاهرة السيدة زينب ١٣ وجُرح
٢٧، وكان جامع السيدة زينب هو المنبر الثاني للثورة بعد الجامع الأزهر.
٦٧ وخشيت قوات الاحتلال من أن ينضم جنود البوليس المصري إلى المتظاهرين،
فجرَّدتهم من السلاح — عدا العصي — وأوكلت إلى القوات البريطانية وحدها مهمة التصدي
للمتظاهرين. وضاعفت السلطة العسكرية قواتها في حي الحسين والأحياء الوطنية بعامة، بعد
المجزرة التي حدثت في ١٤ مارس، ورابطت دوريات من الجنود البريطانيين في مداخل الأحياء
القريبة من الأزهر كالتبليطة والغورية والصنادقية والكحكيين وغيرها، لمنع المظاهرات،
ونُصبَت المدافع السريعة الطلقات في الميادين الكبرى كالأوبرا وباب الحديد والعتبة وميدان
الأزهار، وبجانبها الجنود والفرسان بأيديهم السلاح.
٦٨ مع ذلك، فقد وقعت مظاهرات في الحسينية والظاهر وشارع عباس، ولم يفتح معظم
التجار محالهم. وفي ١٥ مارس أضرب عمال عنابر السكك الحديدية، ثم قطعوا الخط الحديدي
بالقرب من إمبابة، فتعطَّلت قطارات الوجه القبلي. في ذلك اليوم أيضًا، أنشأت القيادة
البريطانية محكمة حرب عسكرية، بدأت عقد جلساتها في قسم الأزبكية لمحاكمة المقبوض عليهم
في اليوم الأول للثورة، واستمرت في الأيام التالية، وكان أحكامها بالحبس والجلد. ويقول
طه هاشم — أحد القيادات الشابة في الثورة — إن المظاهرات استمرت يوميًّا «واستمر احتكاك
القوات الإنجليزية بالمتظاهرين والأهالي، وإطلاق الرصاص عليهم، فكانوا يقتلون منهم
يوميًّا عددًا يتراوح بين العشرين والأربعين، عدا الجرحى الذين يعدُّون
بالمئات.»
٦٩ واندفعت سيارة إنجليزية مسلحة — بكل قوتها — داخل مظاهرة، فصدمت
المتظاهرين، وداستهم تحت عجلاتها، وفتحت النار على الواقفين، أو اللائذين
بالفرار.
٧٠ وفي السادس عشر من مارس، حاولت السلطات تسيير بعض قطارات الترام في شبرا
وشارع بولاق، تحت حراسة الجنود الإنجليز، فرفض الأهالي ركوبها، وقاطعوها. وتجددت
المظاهرات في ذلك اليوم، وعمَّت أحياء المدينة، واشتدت في الأحياء الوطنية مثل الأزهر
والحسين والسيدة زينب وباب الشعرية والجمالية وغيرها، واستخدم المتظاهرون عربات الترام
كمتاريس، قلبوها، وتصدَّوا من ورائها لجنود الإنجليز.
٧١ ومع أن عقوبة الفصل كانت هي العقاب المعلَن — في الأقل — عند القبض على أي
متظاهر، إذا كان طالبًا أو موظفًا؛ فإن الموظفين والطلبة غادروا دواوينهم ومدارسهم في
مظاهرات صاخبة. وفي اليوم نفسه — ١٦ مارس — شاركت المرأة المصرية للمرة الأولى في
الثورة. خرجت السيدات في مظاهرة كبرى، للإعراب عن مشاعرهن، والاحتجاج على جرائم القمع
والقتل والتنكيل. سرن في صفَّين منتظمين وهن يحملن أعلامًا صغيرة، وطفن الشوارع الرئيسة
في موكب كبير هاتفات بالحرية والاستقلال وسقوط الحماية. قوبلن في كل مكان بتصفيق الناس
وهتافهم، وقدَّمن احتجاجهن إلى معتمدي الدول. لم تكن المظاهرات تنظم مسبقًا، وإنما كانت
تبدأ تلقائية. بضع عشرات يجتمعون في فناء مدرسة، أو داخل مقهًى، أو على ناصية شارع أو
ميدان، يبدأ أحدهم بالهتاف بسقوط الاحتلال، ويردد الآخرون الهتاف، وتبدأ المظاهرة
سيرها، ليصبح العشرات مئات، فآلاف.
٧٢ وقد استطاعت الجماهير أن تفرز من بينها شرطتها الأمنية، وقواعدها المنظمة
التي تحُول دون الفوضى وتسلل العناصر المخربة،
٧٣ من مهامها إلقاء القبض على ذوي السلوك السيئ في المظاهرات، وتحريض
المواطنين على تنفيذ الإضرابات، ومساعدتهم على تفادي الآثار السلبية لها. واستطاع
البوليس الأهلي أن يجتذب عددًا من أبناء الساسة وكبار الموظفين وكبار التجار.
٧٤ وكان فهمي عبد الجواد عضوًا في ذلك البوليس الوطني، يرشد المتظاهرين، وينظم
مواكبهم، وكان بعضهم يحمل القلل وقِرب الماء لري المتظاهرين.
٧٥ أما العربجي برعي، فهو لم يشارك في العمليات الفدائية، ولا المظاهرات، كان
ينقل على عربة صناديق الأسلحة المهربة من معسكرات الإنجليز، ليستخدمها الثوار في
عملياتهم ضد عساكر الاحتلال.
٧٦ وفي صبيحة السابع عشر من مارس، بدأت المظاهرة الكبرى التي سارت فيها
القاهرة كلها. كانت من أضخم مظاهرات الثورة، تولى رسل بك حكمدار العاصمة بنفسه حفظ
النظام، واستقل سيارة في مقدمة المتظاهرين حتى لا يصطدم بها الجنود الإنجليز. وقد بدأ
سير المظاهرة من جهة الأزهر، وكانت تضم حوالي ٥٠ ألفًا من المتظاهرين، سادهم النظام.
وحين طلبت سلطات الاحتلال — في الثاني من أبريل — من الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ
الجامع الأزهر، أن يغلق أبواب الأزهر، منعًا لتجدد المظاهرات من داخله، رفض محتجًّا بأنه
جامع تقام فيه الشعائر الدينية، ومن غير الطبيعي أن يغلق أبوابه في وجوه المصلين. وطلبت
دار الحماية أن يُفتَح الجامع في مواعيد الصلاة فقط، فرفض، وظل جامع الأزهر مفتوحًا في
كل
وقت، كما كان دائمًا.
يصف الراوي (المرايا) أحداث الثورة: «قبعت وراء شيش النافذة، أنظر بعينين محملقتين
إلى جموع البشر المتدفقة من ذوي البدل والجبب والقفاطين والجلابيب. حتى النساء في
الحناطير والكارو، يحملون الأعلام، ويهتفون. وسمعت أزيز الرصاص، أجل، لأول مرة أسمعه،
ينطلق من اللوريات، ومن فوق صهوات الخيل. ورأيت الإنجليز رؤية العين بقبعاتهم العالية،
وشواربهم النافرة، ووجوههم الغريبة. ورأيت الجثث بالعشرات مطروحة في جوانب الميدان،
ورأيت الدم البشري يلطخ الملابس وأديم الأرض، وسمعت الحناجر وهي تهتف من الأعماق: يحيا
الوطن، ونموت ويحيا سعد.»
٧٧ وكان عامر وجدي من شهود المظاهرة الدامية التي اقتحم الإنجليز على إثرها
ساحة الأزهر.
٧٨ ويشير مفتش الزراعة في رواية «عاصفة فوق مصر» إلى كمسارية الترام الذين كانوا
يحصلون على قيمة التذاكر دون أن يقدموها للركاب إذا كانت المسافة قصيرة لا ينتظر مجيء
المفتش خلالها. وكان معظم الركاب يغضُّون البصر عن تصرف الكمسارية، إدراكًا منهم بأن
الشركة الأجنبية تسرق العمال والجمهور في آن. فلما قامت الثورة، وأضرب عمال الترام
لأسباب سياسية واقتصادية، وأرغمت الشركة على زيادة أجورهم، حدث انقلاب واضح في مسلك
الكمسارية، فلم يعودوا يلجئون إلى الاختلاس الذي كانوا يباشرونه طيلة أعوام إحساسهم
بالظلم، وأن المقابل الذي ينالونه لا يتناسب مع ما كانت تحصل عليه الشركة
الأجنبية.
٧٩ ووصلت موجة الإضراب إلى عمال النظافة، وامتنع الكنَّاسون عن أداء وظيفتهم،
وأمرت السلطات جماعات من المسجونين بتنظيف الشوارع بدلًا من الكناسين الذين أضربوا عشرة
أيام متوالية،
٨٠ وتولَّت كل ربة بيت تنظيف الحيز الذي يقع فيه بيتها، حتى عائشة (بين القصرين)
التي تبشِّر شقيقتها خديجة بالبيت المستقل، تضيف: عقبى لمصر!
٨١ واعترض سائق عربة حاول أحمد منصور ولورا الإنجليزية الأصل — الخيط الأبيض —
أن يستقلَّاها، وقال في خشونة: أنا لا أسمح لامرأة إنجليزية بركوب عربتي أبدًا. ولم يهدأ
السائق، ويسمح لهما بالركوب، إلا بعد سمعها تخاطب أحمد باللغة العربية
الدارجة.
٨٢ وتسأل منى (الخيط الأبيض) شقيقها أحمد: مالك يا أخي … هل تشكو شيئًا؟
– لا، فليس ثمة إلا إجهاد بسيط.
– لقد بُح صوتك … أصبت ببرد؟
– لا … كنت أهتف بسقوط الاستعمار مع المتظاهرين.
– أي هتاف الذي أضرَّ بحنجرتك إلى هذا الحد؟
– كان هتافنا يرج المنازل.
– أتظن هذا الهتاف يخيف الإنجليز، أو يردعهم؟ إنه يزيدهم هياجًا ووحشية.
– سنصرخ حتى يصل صراخنا إلى أسماع العالم، ولن نكف عنه حتى ولو تمزقت حناجرنا.
– لا أحسب أن العالم سيهتم بنا، ويعيننا على المعتدين؛ إنه يحسب حسابهم.
– لا بد أن نفضح الطغاة، ونظهر للكافة أن الحرية التي يتشدقون بها أكذوبة
كبرى.
– إن الدول لا تهتم إلا بمصالحها، والشعوب لا حول لها ولا قوة.
– من أين لك هذه المعرفة؟ ولكن المظلوم يلجأ إلى الصياح حتى ولو لم يسمعه سامع ما
دام
لا يجد وسيلة أخرى، والذي يسفهه ذلك يظلمه ظلمًا مضاعفًا.
– هل نحن لا نملك وسيلة غير الصياح؟
– لا بد أن تكون هناك وسائل أخرى، ولكننا نحتاج إلى وقتٍ للاهتداء إليها، والتدرب
على
تنفيذها، بيد أننا لن نقف خلال ذلك صامتين.
٨٣
ثم لم تعُد المواجهة بالمظاهرات والمنشورات فقط، وإنما اتخذت — أحيانًا — أبعادًا
أخرى. قال أحمد منصور لأخته في يومٍ تالٍ: نحن لم نلجأ اليوم إلى الصياح مكتفين به،
ولكننا رددنا الاعتداء بمثله. أجبنا على رصاص الإنجليز بقذف الأحجار! تصوري طلبة مدرسة
الحقوق يقذفون أعداءهم الإنجليز بالأحجار! ولكن ماذا نصنع ما دمنا لا نجد وسيلة أخرى
نرد بها الاعتداء؟! وأعجب ما في الأمر أن جنود الاحتلال هربوا من وابل أحجارنا … هل
تصدقين ذلك؟!
٨٤ وتعدَّدت حوادث الاعتداء على الجنود البريطانيين، شارك فيها فتوات الأحياء
بالاعتداء على جنود الإنجليز، ونصب الكمائن لهم، ودفع أحمد عبد الجواد ثمن إحدى عمليات
فتوات الحسينية، عندما استوقفه جنود الإنجليز في عودته إلى البيت ليلًا — وأجبروه، وآخرين
— على ردم حفرة صنعها فتوات الحسينية. كان الناس يؤمنون بأن الدافع لهذه الحوادث
ليس إجراميًّا، فثمة حرب بين دولتين إحداهما تسعى إلى الاستقلال، والأخرى ترفضه «ولا
عقاب على ما يقع في الحرب من مثل هذه الحوادث.»
٨٥ وكان العمال المشاركون في العمل الفدائي ينتظرون جنود الإنجليز السكارى في
الأماكن المظلمة، ويستدرجونهم إلى مقابر الدراسة، حيث يقتلونهم ويستولون على
أسلحتهم.
٨٦ ورأى محسن (عودة الروح) مشهدًا من قريب، ظل أثره في نفسه طويلًا: أحاط
الثوار بجندي بريطاني، وضربه واحد منهم بقضيب حديدي على رأسه، فتناثر مخه في كل مكان،
ومات.
٨٧
•••
وطبيعي أن مسار الأحداث قد انعكس على طبيعة الحياة في القاهرة، وفي كل أنحاء البلاد
عمومًا. خطب القسس في المساجد، وخطب الشيوخ في الكنائس،
٨٨ ونظم محمود مراد المدرس بالمدرسة الخديوية نشيد «اسلمي يا مصر إنني الفدا»،
وحفظته الجماهير ورددته، ورسم التجار العلم المصري على واجهات متاجرهم، وانتشرت بين
الشباب موضة الكرافتة الخضراء المزدانة بالهلال والنجوم في هيئة العلم المصري.
٨٩ وصارت حديقة جروبي مكانًا لتلاقي الشبان، يناقشون تطورات الثورة، وربما لجأ
إلى الحديقة بعض المشاركين في الأحداث، وكانت قوات الاحتلال تفاجئ الحديقة — أحيانًا
—
بحثًا عن زعماء المتظاهرين.
٩٠ وتوالت الألفاظ السحرية: سعد زغلول، مالطة، السلطان، الهلال والصليب،
الوطن، الموت الزؤام.
٩١ وإلى جانب قيادة سيد درويش للجماهير بأناشيده وصوته، وهو يقف في إحدى عربات
الحنطور، يردد الأناشيد والناس ألوف من حوله.
٩٢ ومشاركة الريحاني في الثورة بمسرحية «إش» التي قدمت لحنًا جاء في ختامه: لا
تقولي نصراني ولا يهودي ولا مسلم … يا شيخ اتعلم … اللي الأوطان تجمعهم … عمر الأديان
ما
تفرقهم.
٩٣ وما يُروى عن تعطيل نجيب أفندي الريحاني وعلي أفندي الكسار العمل في
مسرحيهما.
٩٤ إلى جانب ذلك؛ فإن المسارح — كما تقول روز اليوسف في مذكراتها — مضت «تمارس
عملها في هذه العاصفة، يقف الممثلون على المسرح، يؤدون أدوارهم وأصوات الرصاص والقنابل
في الخارج تغطي عليهم، والصالة ليس بها إلا متفرج أو اثنان. وقد ينفتح الباب فجأة،
ويندفع إلى الداخل شبان من الثوار يسرعون إلى الاختفاء من مطاردة الإنجليز في حجرات
الممثلات، وخلف ستائر المسرح، ويحتفظ الممثلون بهدوء أعصابهم لمقابلة الجنود، وإقناعهم
بأن أحدًا لم يدخل.»
٩٥ والتقى الممثلون في مسرح «برنتانيا»، واتجهوا في مسيرة ضخمة إلى بيت الأمة،
وفي مقدمة المظاهرة عربة حنطور، وفي الأيدي العلم المصري. وارتدت دولت أبيض وصالحة
قاصين وزينب صدقي وغيرهن ملابس التمثيل، وركبن عربات مكشوفة، وردَّدن الهتاف بالاستقلال
التام أو الموت الزؤام، وتبعتهن عربات استقلها عزيز عيد يرتدي زي نابليون بونابرت، وعمر
وصفي بملابس هارون الرشيد، وفؤاد سليم بملابس عطيل، وعبد المجيد شكري ومحمود رضا وحسين
رياض وعبد العزيز أحمد بملابس شيوخ العرب.
٩٦ وكان حسن فايق يلقي من خشبة المسرح مونولوجاته الوطنية. حتى المسارح
الصغيرة في روض الفرج والأحياء الوطنية، كانت تبدأ عروضها بفتيات يتوشحن بالأعلام
المصرية، ويلوحن بالأعلام المصرية أيضًا، وينشدن أناشيد وطنية. وغنَّت فرق المسرح الغنائي
من ألحان سيد درويش: دقت طبول الحرب يا خيَّالة … أحسن جيوش في الأمم جيوشنا … الجيش
رجع
م الحرب بالنصر المبين … إحنا الجنود زي الأسود … نموت ولا نبعشي الوطن، وتحولت الملاهي
الليلية إلى عنابر شعبية للأزجال والأغاني، وبدأت الأموال تُجمَع من أقصى الصعيد إلى
شمال
الدلتا لحساب الصندوق الوطني، واقتصر غناء منيرة المهدية بين عامَي ١٩١٨م و١٩١٩م على
الأهازيج الوطنية. بل إن موسيقى حسب الله شاركت في الثورة، كما يشير إلى ذلك البيان
الذي أذيع في اليوم الثاني من أيام الثورة — ١٠ مارس — «غدًا الثلاثاء، ستتحرك المظاهرة
السلمية الكبرى في الساعة العاشرة، مارة بالأحياء الوطنية، تتقدمها الموسيقى برئاسة حسب
الله … إلخ.» حتى سكينة سفاحة الإسكندرية، قالت في التحقيقات، وأمام المحكمة، إنها «إنما
كانت تخدم الوطن بقتل النساء العاهرات ليعتبر بمصرعهن الحرائر الشريفات، فلا يسقطن فيما
سقطن فيه.»
٩٧
•••
كان التراجع الذي أقدمت عليه الحكومة البريطانية، هو السماح للوفد الحكومي، برئاسة
حسين رشدي وعدلي يكن، بالسفر إلى لندن للتفاوض بشأن تنظيم الحماية البريطانية، وهو ما
أشار إليه سعد زغلول في مذكراته من أن عدلي ورشدي كانا قد وضعا مشروعًا لنظام مصر لم
يخرج عن الحكم الذاتي، وتوسيع اختصاص الجمعية التشريعية في بعض الشئون «وكانا يرغبان
كثيرًا في السفر إلى لوندرة لأجل تنظيم الحماية.» وحسب قول كيرزون وزير خارجية إنجلترا
في مجلس العموم فإن «الحكومة البريطانية لم تبدِ قط أدنى معارضة أو سوء نية في مجيء رشدي
وعدلي إنجلترا، فإننا نرى أن من أهم الأمور أن نتفق معها على تحديد الشكل الذي ستكون
عليه الحماية البريطانية في مستقبل الأيام. أما الحال مع سعد زغلول فيختلف كل الاختلاف،
لأنه وأنصاره هم الذين دبروا هذه الاضطرابات، هم قوم غير مسئولين، وغرضهم إخراج
الإنجليز من مصر، فلا سبيل للمناقشة معهم.»
٩٨ وكان كرومر قد صرح قبلًا إن وعد بريطانيا بالجلاء كان قبل أن تعرف الحالة
في مصر، فلما عرفتها علمت أن وعدها في غير محله، وأن تنفيذه يؤدي إلى أضرار
جسيمة.
٩٩ وقال جورست، بعد تشكيل وزارة بطرس غالي: «نحن في مصر محتلون، نعمل لخيرها،
والكلمة الأخيرة في تدبير شئونها لنا.» (يقول الميجور الإنجليزي سافج للراوي «من تظنون
أنفسكم؟ إنكم شعب من الهمج، لا تجيدون شيئًا حتى المشاغبات. كل أعمالكم تدل على بلادة
الذهن، ثم تنادون بالاستقلال.» يضيف الميجور: «أتعرف ماذا يحل بكم إذا خرج الإنجليز؟
إنه الخراب … الفوضى … الدمار … أفهمت؟» ويؤكد «لا تطمعوا في شيء مما تنادون به، إننا
باقون هنا، وبقاؤنا لمصلحتكم. عليكم أن تقبلوا حمايتنا لتمدينكم وترقيتكم» (محمود
تيمور: الميجور سافج، حكاية أبو عوف وقصص أخرى، دار نهضة مصر، ١٩٦٩))، لكن الوقت كان
قد انقضى على إمكانية حدوث تفاوض على أساس الحماية مع بريطانيا.
١٠٠ قضت الثورة تمامًا على مبدأ الحماية البريطانية، لذلك كان إصرار الوطنيين
في مصر على تعطيل سفر حسين رشدي وعدلي إلى لندن على أساس الحماية.
١٠١ وبعيدًا عن البيانات الرسمية التي كانت تصدرها سلطات الاحتلال، تهوِّن من
قيمة الأحداث، وتصف الحالة — في الأغلب — بأنها هادئة، فيما عدا بعض المناوشات الطفيفة،
فإننا نجد في البرقيات المتبادَلة بين المركيز كيرزون واللورد اللنبي ما يؤكد تسليم
المسئولين الإنجليز بحتمية رفع الحماية وإعلان الاستقلال. يقول اللنبي في برقية له: «إن
مستشار وزارة الداخلية ونائب المستشار المالي ومستشار وزارة المعارف ونائب المستشار
القضائي، مجمعون على أن كل قرار لا يسلِّم بمبدأ استقلال مصر، ويستبقي الحماية، يجر —
لا
محالة — إلى خطر جدِّي من نشوب ثورة في البلاد جميعها، ويقضي على أي حال إلى الفوضى
التامة في الإدارة، فتصبح الحكومة مستحيلة.»
١٠٢ وفي برقية أخرى يقول اللنبي: «لا يسعني إلا أن أطلب إليكم، وإلى حكومة
جلالة الملك، أن تصدقوني إذا قلت إنه ليس ثَم مصري — كائنًا ما كانت آراءه الشخصية —
يستطيع أن يوقع أية أداة لا تتفق في رأيه مع الاستقلال التام، ولذلك فإنه من الضروري
العدول نهائيًّا عن الفكرة القائلة بأن المسألة المصرية يمكن تسويتها بواسطة
معاهدة.»
١٠٣
هوامش