الثورة في الأقاليم
عندما وصلت أنباء مظاهرات القاهرة إلى الإسكندرية، اتفق طلبة المدارس والمعاهد
الدينية على الإضراب، ونفَّذوا ما اعتزموه يوم الأربعاء ١٢ مارس، فأضربوا في ذلك اليوم،
وألفوا موكبًا بدأ يتحرك من ميدان جامع أبي العباس المرسي، ثم تجددت المظاهرات. ويصف
محمد مفيد الشوباشي في «الخيط الأبيض» مظاهرة بدأت انطلاقها من جامع أبي العباس: «لم
يكن
أحد يتصور أن اجتماع المصلين ظهر الجمعة بمسجد أبي العباس سيكون على هذا النحو، لقد
دخلت الحياة بمشكلاتها إلى بيت الله، وامتزجت مشاعر الدنيا بمشاعر الدين، ولكن الخطب
السياسية استأثرت وقتئذٍ بأوفى نصيب من الاهتمام … خرج من الجامع وسط حشد مواطنيه الزاخر،
وقلبه طافح ببغض الإنجليز. وما إن وصل مع تلك الجموع إلى طريق البناء حتى رأى على مقربة
جنود الأعداء يقفون صفَّين، صفًّا وراء الآخر، ويصوبون مدافعهم الرشاشة إليهم، وتوقع
شرًّا.
ولاحظ مصطفى توجسه، فقال له إن هؤلاء الجنود يقفون في هذا المكان كل يوم جمعة ليحُولوا
دون تحوُّل حشد المصلين إلى مظاهرة سياسية. وقال حسين لطفي إنهم يخشون الآن الاحتكاك
بالمصلين لأن بين هؤلاء كثيرين يحملون السلاح.»
١ ومن خلال رواية الشوباشي، فقد كانت القطارات القادمة من القاهرة تمتنع عن
الوقوف في محطة سيدي جابر، لتجد في محطة الإسكندرية عشرات من جنود الاحتلال يحيطون
بالمسافرين، يسألون عن الأسماء والمهن وبواعث الزيارة قبل أن يحصل المسافر على جواز
مرور. حتى حارة الشارع الجديد التي كانت تحيا في غيبة عن العالم، سرت فيها حياة جديدة،
وراح الصبية يرددون أغنيات الثورة وأناشيدها.
٢ وكانت أحداث الثورة مناسبة لأن ينضم الصعايدة إلى الفلاحين في حي كفر عشري
بالإسكندرية، يشاطرونهم أفراحهم، ويتركون «الزفة» تمر في الحي بسلام، دون أن تنشب
المعركة التقليدية، «فقد نامت الحزازات، ووُئِدت النعرات، واتحد الجميع لكفاح الغاصب
الدخيل … كانت هناك ثورة وحَّدت الصفوف، وصهرت النفوس، ومسحت من الصدور الأحقاد.»
٣ وقد فاقت أعداد الذين أعدموا شنقًا من أبناء الإسكندرية، غيرهم من أبناء
المدن الأخرى.
٤
وعلى الرغم من اقتصار أحداث الثورة في «بين القصرين» على القاهرة — وحي الحسين بصفة
خاصة — فإن الفنان يصور انعكاسات الأحداث في الأقاليم من الأنباء التي كان يحملها الشيخ
متولي عبد الصمد للسيد أحمد عبد الجواد في متجره بالحمزاوي: «كنت أول أمس في زيارة
الحسيب النسيب شداد بك عبد الحميد بسراياه العامرة بالعباسية. دعاني إلى الغداء والعشاء،
فأتحفته بأحجبة له، ولآل بيته، وهناك حدَّثني بحديث العزيزية والبدرشين.» وراح الشيخ
يروي
الفظائع التي ارتكبتها القوات الإنجليزية ردًّا على خروج الفلاحين ينادون
بالاستقلال.
٥ والواقع أنه لم تكد تبدأ المظاهرات والإضرابات في القاهرة، حتى انتقلت
أنباؤها بسرعة إلى الأقاليم، وقامت مظاهرات فاقت مظاهرات القاهرة عنفًا وشدة — أذكِّرك
بما فعله فلاحو «الضاحك الباكي» — ساعد على ذلك انتقال عدد كبير من طلبة العاصمة إلى
بلادهم وقراهم، بعد إغلاق مدارس العاصمة، فحملوا إلى ذويهم في القرى عوامل الثورة
وأحداثها وأساليبها؛ وكانت نفوس الفلاحين على استعداد لتلبية أي نداء للثورة. وفي
الثاني عشر من مارس بدأت جماعات من الفلاحين تقطع خطوط السكك الحديدية، بقصد المشاركة،
وإسماع الصوت أحيانًا، حدث بعد الثورة بأعوام، أن قام الفلاحون المؤيدون لأحد خصوم سعد
زغلول، بتحطيم القضبان ليمنعوا أنصار سعد من الدخول إلى الدائرة الانتخابية (مذكرات
محام مصري).
٦ وفي الخامس عشر من الشهر نفسه، كانت الثورة قد عمت معظم المديريات، بدأت
بالمنوفية، ثم تطاير الشرر إلى غيرها من الأقاليم. ففي الثاني عشر من مارس قامت مظاهرة
كبيرة في طنطا، تألَّفت أولًا من طلبة الجامع الأحمدي والمدرسة الثانوية، وأخذوا يطوفون
في الشوارع الكبيرة، وانضمَّت إليهم جموع المواطنين، فأصبحت مظاهرة كبيرة قوامها عدة
آلاف
من المتظاهرين. وعند ميدان المحطة، تصدى لهم الجنود الإنجليز، فقتلوا ١٦، وجرحوا ٤٩.
وكانت البادرة الأولى لاشتراك أبناء القليوبية في أحداث الثورة، هي مظاهرة الرابع عشر
من مارس، والتي أحرقوا فيها محطة السكة الحديد. كما أتلفوا الخط الحديدي، وأسلاك
التليفون والتلغراف، وخرَّبوا الطريق الزراعي بإحداث حفر عميقة تعيق سير السيارات. وفي
السادس عشر من مارس قامت مظاهرة من الطلبة في كفر الشيخ، واتسعت حتى بلغت عشرة آلاف
شخص. وهاجم المتظاهرون مبنى المركز، وقذفوه بالطوب والحجارة. وفي اليوم التالي قامت في
دمنهور مظاهرة كبرى، طافت بشوارع المدينة. واعترض مدير البحيرة إبراهيم حليم باشا طريق
المتظاهرين، وأهانهم بكلمات أثارت غضبهم، ثم تحدَّاهم بأن يكون من بينهم رجل، فانقض
المتظاهرون عليه ضربًا بالنعال حتى كادوا يجهزون عليه، لولا تدخل البوليس الذي قتل من
الأهالي ١٢ شخصًا. وشهدت مدينة رشيد في اليوم نفسه مظاهرة بدأت سلمية، فلما تصدى لها
البوليس، هاجم أفرادها ديوان المركز، ورجموه بالطوب والحجارة، ثم أشعلوا فيه النيران،
وضربوا محطة السكة الحديد، ونزعوا قضبانها، وأتلفوا خطوط التلغراف والتليفون. وحدثت في
بورسعيد مظاهرة واحدة صبيحة الحادي والعشرين من مارس. بدأت في شارع أوجيني، وسارت نحو
شارع محمد علي، فتصدى لها الجنود البريطانيون، وأطلقوا النار على المتظاهرين، فبلغ عدد
القتلى سبعة والجرحى ١٧. وقد استيقظ حنفي أفندي — القضبان — ذات ليلة، على طرقات عنيفة
على باب بيته، فهبَّ مذعورًا ليجد عددًا من جنود الاحتلال يرتدون ملابس الميدان، يشرعون
بنادقهم في وجهه، ويقتادونه إلى المحطة. وهناك فوجئ بالقضبان قد اقتُلعَت، والقطارات
توقفت، واضطر الرجل — تحت تهديد السلاح — إلى إصلاح القضبان، وواصلت القطارات سيرها.
ورغم أن الرجل لم يكن بوسعه إلا أن يفعل ما فعل، فقد كانت تلك سقطة عاناها طيلة
حياته، وقد كفَّر الرجل عن تلك السقطة، لما نسف بنفسه — فيما بعد — قضبان القطارات، ودفع
حريته مقابلًا لذلك!
كانت المظاهرات تنطلق في القرى، يرفع أحدهم إصبعه وهو يقول: بالاستقلال أبشر. فيرد
الرجال: رغم أنف الإنجليز، وكانوا يرددون: يا إنجليزي يا حرامي أصولي … خدت شعيري وقمحي
وفولي.
٧ وكانت الأمهات يناغين الأطفال بأغنية تقول: فاطمة مراتي … قاعدة تهاتي:
تحيا الأوطان.
٨
اندلعت الثورة «لا يقف في سبيلها شيء، وانقطعت الأسباب بالقاهرة. وكان زين العابدين
بالقرية، فأرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، وجعل أمره إلى الله، وأقام بالبلدة. وحين
عسكر الإنجليز على مشارف القرية، أبى أن يتصل بهم، برغم الجهد الجهيد الذي بذله كبيرهم
في الاتصال به، ولم يكن ذلك صادرًا إلا عن مشاعره الصادقة، وراح الإنجليز يحاولون
إصلاح الخطوط المقطوعة، فلا يجدون من الفلاحين إلا ازدراء.»
٩ «وانقطعت الأنباء عن الفلاحين في قراهم، بعد أن قطعوا الخطوط الحديدية،
ووقفت السلطات الإنجليزية تعيد الخطوط إلى أمكنتها، وتمنع الحوادث، فسكن الفلاحون
ينتظرون، ولكن الثورة في نفوسهم لم تسكن، لا حديث لهم إلا عما كان من الحوادث، وما
يرغبونه من مستقبل. وكان الحاج والي (الضباب) وهو في طريقه إلى العشماوية لا يكاد يمر
بجماعة من الفلاحين في طريقهم إلا وسمع كلمة «سعد» أو كلمة «الإنجليز» أو كلمة «الثورة»
أو كلمة «القضبان» … لم يسمع الحاج والي — فيما سمع — كلمة السماء، أو القمح، أو الأرض،
أو كلمة من هذه الكلمات التي تعوَّد أن يتبادلها أبناء القرية في مألوف حياتهم.»
١٠
ويقف الراوي (الليلة نغني) أمام مدينة زفتى يتأمل «المدينة ونحن ننطلق إليها، نلمس
مشارفها. لم يكن هناك ما يدل على أن قصة مثيرة قد حدثت هنا منذ خمسين عامًا. تجمَّع الناس
في زفتى، خرجت المظاهرات في البداية من المدرسة الثانوية، ذهبوا إلى يوسف الجندي في
بيته؛ ترددت أخبار خطبه الحماسية في كل مصر. ضاق بهم البيت، ذهبوا إلى مقهى مستوكلي.
كانت المواصلات مقطوعة، وكانت المدينة خالية من جنود الاحتلال. ولا يعرف أحد كيف بدأت
الفكرة، لكن في لحظة أصبحت زفتى مدينة مستقلة، سلَّم لها المركز دون مقاومة، وأصبح لها
جيشها من المتطوعين ووزارة وحكومة، ورفعت المدينة الصغيرة رايتها.»
١١ لقد تشكَّلت لجنة للثورة من بعض الأعيان والمثقفين وصغار التجار، واتخذت
اللجنة مقرًّا لها قاعة بالدور الثاني في مقهى مستوكلي. وحين قررت اللجنة أن يكون
استيلاؤها على مركز البوليس أول مظاهر سيطرتها على السلطة التنفيذية، فوجئت بوطنية
مأمور المركز الذي رفض إراقة الدماء، وخرج إلى أبناء البلدة الذين أحاطوا بالمركز وقد
تسلحوا بالبنادق القديمة والعصي وفروع الأشجار والفئوس، فسلَّم يوسف الجندي — قائد الحركة
— مبنى المركز والسلاح وقيادة الجند والخفراء. ثم توالت سيطرة اللجنة على كل المنشآت
الحكومية، حتى استقر لها الوضع تمامًا. وهنا بدأت اللجنة في الالتفات إلى مشكلاتها
الداخلية، أليست قيادة لجمهورية مستقلة؟! وأشرف على جمع التبرعات من سراة المدينة، وعلى
ردم البرك والمستنقعات والشوارع، وإصلاح الجسور. وزادت اللجنة، فأقامت كشكًا للموسيقى
على ضفة النيل، وجنَّدت فرقًا من التلاميذ لحفظ النظام، ومراقبة الحدود، وإبطال عمليات
التسلل والتجسس، وولَّى عمليات الري، وتزويد الأرض بالماء. وكتبت «التايمز» اللندنية
أن
قرية زفتى المصرية أعلنت استقلالها، وأنها رفعت علمًا جديدًا على مبنى المركز، ولم تدخل
قوات الإنجليز المدينة الثائرة إلا بعد أن هدأ صوت الثورة في البلاد كلها.
•••
كتب اللورد كرومر في تقريره: «في ١٦ مارس قُطعَت سكك الحديد والأسلاك التلغرافية
في
القاهرة وبين الوجهين البحري والقبلي، وقُطعَت المواصلات تمامًا بين القاهرة والوجه
القبلي، ولم يأت يوم ١٨ مارس حتى كانت مديريات البحيرة والغربية والمنوفية والدقهلية
قد
جاهرت بالثورة.»
١٢ أصبحت السفن الشراعية في النيل والترع وسيلة المواصلات الوحيدة في الريف،
وارتفعت أجورها بصورة حادة. أما السيارات فقد انعدم استعمالها تقريبًا، لأن الطرق
الزراعية أصابها التلف أيضًا بسبب الحفر والخنادق التي حفرت فيها، وركب الناس الخيل
والبغال والحمير في المواصلات القريبة. ولما كان إتلاف الخطوط الحديدية يقع ليلًا، فقد
منعت السلطات العسكرية خروج الأهالي من منازلهم من التاسعة مساء إلى الرابعة صباحًا،
وحمَّلت مشايخ البلاد مسئولية مخالفة الأوامر. كما استغنت عن استخدام الخفراء للمحافظة
على السكك الحديدية بعد غروب الشمس، وقام الجنود البريطانيون بحراسة السكك الحديدية
ليلًا، كما مُنع انتقال الأهالي من قرية إلى أخرى بين غروب الشمس وشروقها. وعلى الرغم
من
تلك الإجراءات، فقد اتسعت حركة قطع خطوط السكك الحديدية، وتدمير المحطات، ثم أصلحت بعض
الطرق، وأهمها خط مصر-الإسكندرية، وأصبح الانتقال على طول هذا الخط ممكنًا، لكن
بقيود، وتذاكر شخصية تصدرها المحافظة.
١٣ وأصدرت القيادة العامة في ٣٠ مارس إنذارًا بأن «كل حادث جديد من حوادث
تدمير محطات السكك الحديدية، أو المهمات الحديدية، يعاقَب عليه بإحراق القرية التي هي
أقرب من غيرها إلى مكان التدمير. وهذا آخر إنذار.»
١٤ لكن هذا الإنذار لم يجد شيئًا، ولم يقرأه الذين كانوا يقومون بعمليات
التخريب وقطع المواصلات، لأنهم لا يعرفون القراءة أصلًا. ولجأت السلطات البريطانية في
السادس عشر من يونيو إلى اتخاذ إجراء أكثر إيجابية، وهو فرض غرامات مالية على المناطق
التي وقعت فيها حوادث تدمير المحطات والمباني الحكومية. وبدلًا من أن تذهب تلك المبالغ
إلى خزانة الحكومة المصرية — مقابل تدمير المحطات والمباني الحكومية المصرية — آلت إلى
الخزانة البريطانية.
•••
أما في الوجه القبلي، فقد اتخذت الثورة مسارًا أكثر عنفًا وشدَّة، حتى انقطعت
المواصلات تمامًا بين الوجه البحري والوجه القبلي. بدأت الحركة في أسيوط بمظاهرات سلمية
في العاشر من مارس، إثر وصول نبأ اعتقال سعد زغلول، وأضرب طلبة المدرسة الثانوية ومعهد
أسيوط الديني ومدرسة الأمريكان، وشاركت جموع الفلاحين في المظاهرات التي انتشرت في
أرجاء المديرية، ثم كان لقرار مجلس نقابة المحامين إعلان الإضراب، أثر كبير في امتداد
الحركة واتساعها. وكان الخفير مسعود على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية
الوليدية في أسيوط، كمن هناك في النخيل قرب الخزان، حيث يعسكر الإنجليز، وأخذ يحصدهم
بمدفعه الرشاش.
١٥ ومع أن عبد الرحمن كان في العشرين من عمره، فإنه قاتل الإنجليز المتحصنين
في المدرسة الثانوية بأسيوط، وقتل منهم الكثير.
١٦
وحاصر الثوار قوات الإنجليز عند خزان أسيوط، وقطعوا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد،
ومن كل الطرق، وأمطروهم بالنيران سبعة أيام كاملة، فأوشكوا على إبادتهم، لولا تدخل
الطائرات المقاتلة الإنجليزية، فرفعت الحصار عن بقية القوة المحاصَرة،
١٧ كما استخدمت قوات الاحتلال الطائرات في قصف مواقع الثوار.
١٨
وفي الثامن من مارس، هاجم الثوار في ديروط، ثم في دير مواس، أحد القطارات القادمة
من
الأقصر إلى القاهرة، وقتلوا ثمانية من الضباط والجنود الإنجليز. وكان ذلك أول حوادث
الاعتداء على ضباط وجنود الجيش البريطاني، ومن ثَم فقد ألقت سلطات الاحتلال القبض على
مئات المتهمين، وقدَّمتهم إلى المحاكمة. ولعل اتِّسام أحداث أسيوط — والصعيد بعامة —
بالعنف
والثورة، أن أنباء الثورة وصلت إلى هناك — كما يروي الفنان في «الضاحك الباكي» — مضخمة
مجسَّمة «فهذا رجل محترم يقسم بأغلظ الأيْمان أن عرب الباسل، احتلوا القلعة، وهذا آخر
لا
يقل احترامًا يحلف بوحيده حسونة أن الرديف المصري تجمَّع واكتسح قشلاقات العباسية وقصر
النيل، وهذه منشورات اليد السوداء المصرية المستعينة بالفوضويين الطليان والإسبان قد
بشَّرت بفناء الاحتلال، وفرضت إرادتها فرضًا على حكام الأقاليم المصريين! نفثت هذه
الأخبار النارية روح الحماسة في صدور الناس، فتحفزت أسيوط، وكشرت عن أنيابها. وكان الحب
الميت قد أوقد في صدر المحامي الناشئ شعلة من الشعر الثائر، فألف نشيدًا وطنيًّا ملأه
بالدم وبالتضحية وبالفداء، ثم لحنه تلحينًا شعبيًّا سهلًا وأذاعه، وطبع منه الطابعون
أكثر من عشرين ألفًا من النسخ، وزَّعوها على الجماهير، وعلى المخادع، وفي العزب والكفور
…
ويزحف البؤساء العزل زحف الأسود الكاسرة المقلمة الأظفار والأنياب على مستودعات الذخيرة
المحلية، وعلى سلاح البوليس، فيتخاطفونه تخاطفًا، ويتقلدونه فارغًا ومملوءًا، ويتكوَّن
في
لمح البصر جيش الثورة من الجلاليب والزعابيط. وعدتهم عبوديتهم الكريهة التي طال عليها
المدى، وهناؤهم المالي والعائلي الذي سلطت عليه أهوال السلطة، فغيبت فلذات الأكباد في
فلسطين، والتهمت الذرة والقمح والحمير والجمال وزرق العيال وقوت العيال … إلخ.»
١٩ وتعدَّدت الحوادث في قنا والأقصر وإسنا والغرب وفرشوط، وأرسلت الحكومة دعمًا
لقواتها في هذه المدن، فانضم بعض الجنود للثوار.
٢٠ وقد واجهت السلطات البريطانية أحداث الثورة — كما يذكر فكري أباظة — بأوامر
صارمة: «يجب على كل مصري، كائنًا من كان، أن يؤدي التعظيم العسكري لكل بذلة رسمية من
بذلات جيش جلالة الملك البريطاني في الطريق» «يجب على كل صاحب بيت تطلب السلطة العسكرية
تفتيشه، أن يفتح الأبواب في الحال»… «يجب على من اتصل بعلمه أي تفصيل من تفصيلات
الاضطرابات أن يقدم البيانات في الحال.»
٢١ ثم أصدرت السلطة العسكرية في أسيوط إنذارًا بأنها ستفتش البيوت حتى الثانية
بعد منتصف الليل، وحذَّرت الذكور ممن هم فوق الثانية عشرة من البقاء داخل البيوت عند
التفتيش، وأضافت أن الطرق ستُراقَب، ويبدأ تفتيش المارة منذ لحظة إصدار الإنذار حتى
الساعة المحددة. ويقول الضاحك الباكي: «رُوعت أسيوط كل الروع بهذا النبأ، فهجرت الأسر
المسلمة في الحال منازلها، وقضت الليل في الجبانات على بُعد كيلومترات، وهاجرت الأسر
القبطية إلى العراء على مسافات تتراوح بين خمسة عشر كيلومترًا وعشرين، وانتشر الذعر،
وفقد الناس الإدراك خوفًا على الأعراض.»
٢٢ لكن السلطة العسكرية لم تنفِّذ إنذارها، لسبب بسيط، هو أن بيوت أسيوط خلت
تمامًا من الأسر، قبل أن يبدأ تنفيذ الإنذار. وفي ١٥ مارس هاجم المتظاهرون في بني سويف
مبنى المحكمة وسراي المديرية وبعض إدارات الحكومة، واعتصم الرعايا البريطانيون في ثلاثة
منازل بالمدينة.
٢٣ وفي ٣٠ مارس، اقتحم جنود الإنجليز قرية نزلة الشوبك بمركز العياط؛ أطلقوا
الرصاص على الأطفال بلا تمييز، واعتدوا على الأعراض، وأشعلوا النيران في المحاصيل
والمنازل، فاستُشهد وأصيب عدد كبير، من بينهم شيخ القرية وأخوه وابنه وواحد من الأهالي،
دُفنُوا في الأرض إلى منتصف أجسادهم، ثم قتلوا رميًا بالرصاص، كما دُمِّر ١٤٠ بيتًا.
٢٤
وفي فجر ١٨ مارس ١٩١٩م رُفع الأذان من مآذن دير مواس، وتوجه الناس إلى الجامع — باتفاق
مسبق — وانطلقوا — بعد الصلاة — في مظاهرة إلى السكة الزراعية، ومنها إلى الكوبري،
فمحطة السكة الحديد، وانتظر الجميع وصول القطار القادم من السودان ليهتفوا أمام مَن فيه
من الضباط الإنجليز بحياة مصر وسقوط الاستعمار.
٢٥ لكن المظاهرة لم تسر كما أعده لها قادتها؛ فقد زاد عدد المتظاهرين حتى جاوز
الأربعة آلاف، يحركهم الغضب، ويحملون الفئوس والنبابيت والبلط وكل ما وصلت إليه أيديهم،
واضطر سائق القطار إلى الوقوف أمام المتظاهرين الذين امتلأت بهم المحطة تمامًا، حتى
القضبان وقفوا فوقها ليحُولوا دون سير القطار.
٢٦ وأهمل المتظاهرون — فور توقف القطار — ما كانوا قد التزموا به من عدم
العنف؛ اقتحموا عربة الدرجة الأولى، وقتلوا تسعة من الضباط الإنجليز.
٢٧ وتحركت القوات البريطانية — بعد ٤٠ يومًا — بتأثير وشاية «حزين»، وما أفردت
له الصحف العالمية صفحاتها عن أحداث المدينة الجنوبية. ودوى قصف المدافع في البلدة
الساكنة، فزلزلها زلزالًا، وتعالى صراخ النسوة والأطفال في كل مكان، ونباح الكلاب، وعدو
البهائم في طرقات البلدة وأزقتها، كما لو كان قد أصابها مسٌّ … واعتقدت بعض المسنَّات
من
نساء البلدة أن اليوم هو يوم الحشر … وألصقت نشرات على جدران البلدة تتضمن أسماء
المطلوبين، وبعد أن فتش الجنود بيوت المدينة، عادوا لتفتيشها مرة ثانية، بهدف السلب
والنهب وانتهاك الأعراض.
٢٨
•••
حاولت الحكومة البريطانية أن تواجه تلك الثورة الشعبية المفاجئة بسلسلة من الخطوات،
كان أبرزها عزل ريجنالد وينجت، وعُيِّن مكانه الجنرال إدموند هنري هانيمان اللنبي — وهو
رجل
حرب — معتمدًا لبريطانيا، ونائبًا للملك في مصر والسودان. وكانت التعليمات التي أمدَّت
بها الحكومة البريطانية اللنبي هي: «أن يستخدم أقصى سلطة في جميع المسائل الحربية
والمدنية، وأن يتخذ كل الإجراءات اللازمة والملائمة لإعادة القانون والنظام، وأن يدير
كافة الشئون بما تتطلبه ضرورة استمرار الحماية البريطانية على مصر، على أساس وطيد
مشروع.»
٢٩
وبعد أن وصل اللنبي إلى القاهرة في ٢٥ مارس ١٩١٩م خطب في مجموعة من الأعيان في مساء
اليوم التالي، في دار المعتمد البريطاني، قال: «لقد عيَّنني جلالة الملك معتمدًا له في
مصر، ورغبتي وواجبي أن أساعد على إقرار السلام والهدوء وإرضاء المصريين. أما نواياي،
فهي؛ أولًا: وضع حدٍّ للاضطرابات الراهنة، ثانيًا: القيام بتحقيق دقيق لكل المسائل التي
سبَّبت غضب البلاد، ثالثًا: إزالة أسباب الشكوى متى ثبت صدقها.»
٣٠ أضاف اللنبي: «إنكم أنتم من يستطيع توجيه الشعب المصري، وواجبكم أن تعملوا
معي لمصلحة بلادكم. لا يمكنني أن أعتقد بأن واحدًا لن يساعدني في كل سبيل أسلكه، بل إني
على استعداد أن أعتمد عليكم للبدء بالعمل توًّا، وكل قصدي أن تهدأ العواطف الثائرة التي
جمحت الآن، وبعد أن يعود الهدوء أوقن بأنكم ستثقون بي لتحقيق جميع الشكاوى بنزاهة،
وسأتقدم بالاقتراحات المطلوبة لرضا المصريين وخيرهم.» ورغم وهج الكلمات، فقد بدأت —
بالفعل — سياسة القمع والعنف والمذابح. وكما يقول فيكتور مرجريت «هكذا عوقبت مصر على
جريمتها الكبرى، ثقتها بوفاء الإنجليز، وإيمانها بمبادئ ويلسون التي تتشدق بها أوروبا،
وسذاجتها التي صوَّرت لها سادتها في صورة الحلفاء.»
٣١ وكان الرئيس الأمريكي ويلسون قد وقَّع على اتفاقية فرساي التي أعلنت في مايو
١٩١٩م، واعترفت بحماية إنجلترا على مصر.
لقد أصدر اللنبي تصريحات عنيفة، متشددة، كما صدر بيان عن كبار العلماء وقادة الوفد
وعدد من الوزراء السابقين «باسم مصلحة الوطن، أن يجتنب كل اعتداء، وألَّا يخرج أحد في
أعماله عن حدود القوانين حتى لا يُسَد الطريق في وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق
المشروعة.»
٣٢ وألقى اللورد كيرزون خطبة في مجلس اللوردات، حاول بها استمالة موظفي الدولة
ورجال البوليس والجيش المصري و«عقلاء الأمة الذين لم يشتركوا في الثورة»… مع ذلك، فقد
ظلت الثورة قائمة. لم يكن الموظفون قد شاركوا في الثورة بعد، فأعلنوا الإضراب احتجاجًا
على خطبة اللورد كيرزون التي امتدح فيها عدم مشاركتهم في الثورة. وكان إضراب الموظفين
بالذات — ولم يسبق لهم، كما يقول الرافعي، أن أضربوا لأسباب سياسية، أو غير سياسية —
عاملًا مهمًّا في تطور الأحداث، فقد قامت القاهرة جميعًا بما يشبه الإضراب العام. أقفلت
المحال التجارية في الأحياء الوطنية، عدا المخابز التي طلب الناس من أصحابها أن يتابعوا
أعمالهم، وقَلَّ المعروض من اللحم لانقطاع معظم الجزارين عن الذبح، وأضربت طوائف الشعب
جميعًا، ونُظمَت الاجتماعات في الأزهر، وسارت المظاهرات في الشوارع تهتف بالاستقلال،
وواجهت القوات البريطانية ذلك بإطلاق الرصاص، واستُشهد وأصيب العشرات.
٣٣ وزادت القوات البريطانية من ضراوة التصدي للجماهير الثائرة، حتى أصبح
الرصاص يُطلَق — أحيانًا — للتسلية. ويومًا، أصيبت حمارة الحاج والي برصاصة قاتلة. ونظر
الرجل إلى مصدر الرصاصة، فتبيَّن له أنها لجنود إنجليز، أطلقت على الجزء الأعلى من ذيل
الحمارة. وقبل أن يفكر الحاج والي فيما يفعله «تقدم إليه شاب مصري، يرافقهم من قبل
مصلحة السكك الحديدية، وقال: على رسلك يا شيخ. وقال الشيخ في غضبته: أيرضي الله
هذا؟
– وهل يعرف هؤلاء الله؟!
– ماذا فعلت حتى يفعلوا هذا بي؟
– لا شيء، لقد تراهن أحدهم مع آخر على أنه يستطيع أن يصيب الحمار الذي تركبه دون
أن
يصيبك، وها هو ذا يضحك لأنه كسب الرهان.»
٣٤
وإذا كانت الأزبكية قد أصبحت وقفًا على جنود الأسترالييين، مما ألجأ ياسين إلى محاولة
ري ظمئه الجنسي بالاعتداء على أم حنفي، أو الخادمة نور، فوق سطوح بيت بين القصرين؛ فإن
خطر تلك المغامرات لم يقف عند الأزبكية وحدها، بل جاوزه إلى معظم أحياء القاهرة، وإلى
الأقاليم أيضًا. وكان الخِطاب الحزين الذي بعثت به مريم إلى شكري في «الضاحك الباكي»،
منطلقًا نحو مزيد من الثأر للوطن، وللحبيبة التي افترسها — في أسيوط — أحد الذئاب
الأستراليين.
٣٥ ثم لم تجد الحكومة البريطانية — رغم كل وسائل القهر — إلا أن تعلن فشلها
أمام الثورة الشعبية الهائلة، وتهادنها، في منشور أصدره اللنبي في السابع من أبريل، يُعَد
— في ذاته — أحد نجاحات الثورة: «الآن، وقد عاد النظام بنجاح عظيم، فبالاتفاق مع حضرة
صاحب العظمة السلطان، أعلن أنه لم يبقَ حجر على السفر، وأن جميع المصريين الذين يريدون
مبارحة البلاد، تكون لهم هذه الحرية. وقد قررت — علاوة على ذلك — أن كلًّا من سعد زغلول
باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا يُطلَقون من الاعتقال، ويكون
لهم كذلك حق السفر، ٧ أبريل ١٩١٩م، إمضاء.»
•••
«أبلغك الخبر؟
فقال السيد — أحمد عبد الجواد — وعيناه تلمعان تفاؤلًا من قبل أن يسمع شيئًا: كلَّا!
ماذا وراءك؟
قال الرجل بحماس: سعد باشا أفرج عنه.
فما تمالك السيد أن تساءل صائحًا: حقًّا؟!
فقال شيخ الحارة بيقين: أذاع اللنبي الساعة بيانًا بهذه البشرى.
في اللحظة التالية كانا يتعانقان، واشتد التأثر بالسيد أحمد، فاغرورقت عيناه، ثم قال
وهو يضحك مداراة لتأثره: كان العهد به دائمًا أن يذيع الإنذارات لا البشريات، فماذا
غيَّره ابن الهرمة؟!
فقال شيخ الحارة: سبحان الذي لا يتغير.
وصافح السيد، ثم غادر الدكان وهو يصيح: الله أكبر … الله أكبر … النصر
للمؤمنين!»
٣٦
اتخذت الحكومة البريطانية — في محاولة لإيقاف مد الثورة المتصاعد — قرارًا بالإفراج
عن سعد زغلول وزميليه. سُدَّت مداخل الدكاكين بأصحابها وزبائنها وهم يتبادلون التهاني،
وانطلقت الزغاريد من المشربيات والنوافذ، واعتلى المؤذنون شرفات المآذن يشكرون ويدعون
ويهتفون، واعتلى عربات الكارو مئات النسوة متلفعات بالملاءات اللف، ويرقصن، ويرددن
الأغنيات الوطنية، واختفت الأرض، وتوارت الجدران، وتعالى الهتاف لسعد في كل
مكان.
٣٧ وقال حمد الباسل لسعد — كلمات ذات دلالة مهمة — «اليوم اندرجت حياتنا في
حياة المجموع، واندمجت شخصياتنا في الأمة، فلا نفكر في أنفسنا، ولكن في بلادنا. وقد كان
الطريق غير واضح أمامنا، وأصبح الآن جليًّا، ما علينا إلا أن نستمر في سلوكه إلى
النهاية التي نرومها، ولا ينقصنا الإقدام.»
٣٨ وبعث اللورد اللنبي برقية إلى اللورد كيرزون يقول فيها: «إنني أعتقد أن
زغلولًا الآن في حالة من الزهو والترفع لا يبعد عليها معه أن يهم بضربة مفاجئة كضربة
عرابي باشا.»
٣٩
مات فهمي أحمد عبد الجواد يوم الثلاثاء الثامن من أبريل، قبل أن يرى ذروة الانتصار
الذي ساهم بروحه في صنعه، وهو عودة زعيمه المقدس إلى أرض الوطن. لكن سعد زغلول بدأ
قيادته للوفد فعلًا في مهمته الصعبة بباريس، بعد أن سافر أعضاء الوفد من القاهرة يوم
الجمعة ١١ أبريل ١٩١٩ إلى بورسعيد، ومنها أبحروا إلى مالطة، حيث التقوا بسعد وزملائه
الثلاثة، ومنها إلى باريس.
وإذا كان أحد كبار الموظفين الإنجليز قد وصف الثورة — في بدئها — أنها «لفافة تبغ
تطفئها بصقة»، وإذا كان محمود أبو الفتح قد أشار إلى أحداث الثورة بأنها «تلك الحركة
المباركة.»
٤٠ فإن النجاح المؤكد الذي أحدثته الثورة، قبل أن تجهضها قوى العمالة والرجعية، حقق نبوءة
مفتش الآثار الفرنسي في «عودة الروح» بأن «أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة
الأهرام، لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى، أو معجزات! أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون،
ولا يرون قلبها العظيم بارزًا نحو السماء بين رمال الجيزة! لقد صنعت مصر قلبها بيدها
ليعيش الأبد.»
٤١ ويقول مصطفى زهران (في بيتنا رجل): «كانت ثورة بصحيح … وكانت البلد كلها يد
واحدة.»
٤٢
هوامش