ثورة ١٩١٩ بين أسرة «بين القصرين» وأسرة «عودة الروح»
تُعَد أسرة «بين القصرين» — الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ — تجسيدًا لمتناقضات
المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. ثمة تيار إسلامي يجد
انتماءه في الباب العالي، وتيار لا يؤمن بالعنف سبيلًا لأي شيء. حياة اللهو والمتعة
التي يتوخاها تجعل الهدوء أغلى أمنياته، وتيار لا ينتمي إلا إلى مصريته وحدها، وأن
«مصر للمصريين» هي الدعوة التي يجب أن تعلو عل كل ما عداها.
أحمد عبد الجواد — مثلًا — يرتدي الجبة والعمامة، ولا يعدل حبه للخديو المنفي أي
شيء.
تقول أمينة: «ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس، فيهز الرجل رأسه ويتمتم
قائلًا: متى؟ متى؟ عِلم هذا عند ربي … ما نقرأ في الجرائد إلا عن انتصارات الإنجليز …
فهل ينتصرون حقًّا، أو ينتصر الألمان والترك في النهاية؟ اللهم استجب!»
١ وفهمي يتحمس لمصريته، وهو قد أخلص لقضية الوطن، وشارك فيها، حتى سقط شهيدًا
برصاصة غادرة، أما ياسين، فقد كان تعبيرًا عن أعداد غير قليلة من المصريين، تكتفي أمام
الأحداث بأن تقف موقف المتفرج، وقد تزيد فتطلب مهادنة الاحتلال إيثارًا للسلامة. وأما
النساء الثلاث — أمينة وخديجة وعائشة — فلسن سوى تعبير عن المرأة التي شلَّتها إرادة
الرجل، أو، على حد تعبير ياسين، يعشن في حُقٍّ مغلق، لا يكدن يعلمن شيئًا عما يدور
حولهن.
٢ لكن الفنان يربط بين تناقضات أفراد هذه الأسرة، كما تلم بغالبية البشر،
لكنها لا تظفر منها بقلب أسود، فترسب فيه وتستقر، منهم من قابليته للغضب كقابلية الكحول
للاشتعال، ولكن سرعان ما يسكت عنهم الغضب، فتصفو نفوسهم، وتعفو قلوبهم كأيام من شتاء
مصر، يطلخم سحابها حتى تمطر رذاذًا، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة، حتى تنقشع السحب عن
زرقة صافية، وشمس ضاحكة.
٣
القول بأن ثورة ١٩١٩م توارت في خلفية الأحداث في «بين القصرين» «إلى حد أن البصر
لا يرى
منها شيئًا.»
٤ هذا القول يجد ما يدحضه في العديد من المواقف التي تتخلل الرواية، بحيث
عكست تأثيرات الثورة على أفراد الأسرة جميعًا. يعبر تناقض أفراد الأسرة عن نفسه في موقف
أفرادها من أحداث الثورة؛ فالأب يكتفي بتأييده القلبي — والعيني أحيانًا — للثورة. نحن
نحس بتوفر النزعة الوطنية لديه، منذ قوله لأمينة: يا له من رجل كريم الأمير كمال الدين
حسين! أما علمت بما فعل؟ أبى أن يعتلي عرش أبيه المتوفى في ظل الإنجليز. ثم توقيعه —
بلا تردد — على عريضة التوكيل، وابتهاجه بالإفراج عن سعد وزملائه، ولكنه يعبِّر — في
الدرجة الأولى — عن نزعة تكتفي بالحماسة المتفرجة، أو التأييد السلبي، فهو يسعد لأنباء
الثورة، لكنه يقنع بالمشاركة الوجدانية دون أن يخطر بباله الإسهام الإيجابي في الأحداث
الدائرة من حوله، وكان قد تعلَّق — لسنوات — بمبادئ الحزب الوطني، لكنه لم يفكر في أن
ينضم إلى إحدى لجانه، ولا أن يشهد أحد اجتماعاته: «ليكن وقته إذن خالصًا لحياته، وللوطن
ما يشاء من قلبه وعواطفه، بل وماله كلما تيسر.»
٥ ولكن حادثة الحفرة التي أجبره عساكر الإنجليز على ردمها،
٦ ثم عِلمه باشتراك فهمي في توزيع المنشورات، ومحاولته إثناء فهمي عن طريقه،
وسماعه — للمرة الأولى — كلمة «لا» تصدر عن الابن الحبيب … ذلك كله، دفعه — على الرغم
منه
— إلى إلقاء التساؤل — لا أقول السؤال: «الثورة؟ أي جندي يقبض عليك، تحمل التراب بكفيك،
فهمي يقول لك: لا؛ متى تعود الدنيا إلى أصلها؟»
٧ ويقول: «الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته، فإذا طرقت
بابه، وإذا تهددت أمنه وسلامه وحياة أبنائه، تغيَّر طعمها ولونها ومغزاها، انقلبت هوسًا
وجنونًا وعقوقًا وقلة أدب.»
٨ إنه لا يبخل بمال ولا يضن بعاطفة، أما بذل الحياة فأمر آخر.
٩ ويهمس لنفسه: «ما أتعس الحياة في ظل الموت. هلَّا عجلت الثورة بتحقيق
غاياتها من قبل أن يمتد أذاها إليه، أو إلى أحد من ذويه.»
١٠ ويكشف نجيب محفوظ عن الطبيعة الانتهازية في نفس أحمد عبد الجواد، من خلال
قوله — عقب سماح الإنجليز بعودة سعد زغلول: «ليته — فهمي — اشترك في الأعمال الكبيرة
ما
دام الله قد كتب له العمر حتى اليوم، سأقول من الآن فصاعدًا إنه خاض غمار الثورة، والله
لو كنت شابًّا لفعلت ما لم يفعل ابنك.»
١١ أما الأم؛ فإن قلبها الطيب لا يستطيع أن يكره الإنجليز، لأنه لا يستطيع أن
يكره أحدًا على الإطلاق، فضلًا عن أنهم — في رأيها — لم يفعلوا شيئًا: «اللهم أسألك
الرعاية لسيدي وأبنائي وأمي وياسين، والناس جميعًا مسلمين ونصارى. حتى الإنجليز يا ربي،
وأن تخرجهم من ديارنا إكرامًا لفهمي الذي لا يحبهم.»
١٢ وإذا كانت أمينة لا تُعنى «بأنباء هذا العالم إلا للسرور الذي يبعثه فيها
ما تجده في حديث بعلها في هذه الشئون الخطيرة من لفتة عطفٍ تزدهيها، وإلى ما في الحديث
نفسه من ثقافة يلذُّ لها أن تعيدها على مسمع من أبنائها، وبخاصة فتاتيها اللتين تجهلان
مثلها العالم الخارجي جهلًا تامًّا.»
١٣ فإن السبب الأهم — في تقديري — لانشغال أمينة — أحيانًا — بتطورات الأحداث
السياسية، هو انعكاس تلك الأحداث على الحياة اليومية لأفراد أسرتها. وما لبث حب أمينة
لكل الناس، حتى للإنجليز، أن تحوَّل إلى كراهية للإنجليز. أحسَّت أمينة بكره حقيقي لهم
—
ربما للمرة الأولى — عندما أجبر جنودهم زوجها على ردم الحفرة التي صنعها فتوات
الحسينية. أدركت أنهم يمثلون خطرًا، وأن خطرهم وصل إلى بيتها، وإلى زوجها المهيب. وأما
ياسين، فقد كان أقرب إلى السلبية في متابعة أحداث الثورة، ورغم أنه كان يبغض الإنجليز
مثلما يبغضهم المصريون جميعًا، فإنه — في قرارة نفسه — كان يحترمهم ويجلُّهم حتى ليخيل
إليه كثيرًا أنهم من طينة غير طينة البشر.
١٤ وكان موقفه الوطني يتحدد في التفرج على ما يجري دون ارتباط، أو إحساس
بالمسئولية أو المشاركة. وآثر ياسين السلامة بالابتعاد عن طريق عساكر الإنجليز في
الأزبكية وغيرها، حيث كان يقضي أوقاته الطيبة، في الوقت الذي كان كمال الصغير يعتز
بصداقتهم. بينما خديجة وعائشة قابعتان في حياة الحريم، ولم يكن ثمة إلا فهمي الذي ظل
ينادي بجلائهم، حتى صرعته رصاصة طائشة. ثم تصاعدت أحداث الثورة، وأصبحت — دون أن يسعى
لذلك معظم أفراد الأسرة — أحد مكونات حياتهم. حتى الذي آثر السلامة، وجد نفسه — ذات
صباح — في رحى الأحداث، عندما عسكر الإنجليز أمام باب البيت، واضطر الجميع إلى قضاء
أيامهم بصورة غير طبيعية «لم يعُد أحد يستطيع الادعاء بأن الثورة لم تغير ولو وجهًا
واحدًا من وجوه حياته.»
١٥ استجاب الجميع إلى الأحداث استجابات متباينة، وأحيانًا متناقضة … ففهمي
ثائر، يحمل على الإنجليز بحنقٍ قاتل، ويحنُّ إلى سعد حنينًا يفجر الدمع، ويستنكر حياة
أسرته التي تمضي على وتيرة محددة، بينما الثورة تعم مصر «تراءت لعينيه دنيا جديدة، موطن
جديد، وبيت جديد، وأهل جدد، ينتفضون جميعًا حيوية وحماسًا.»
١٦ بل إن أحداث الثورة تنسيه حبه لمريم «مريم؟ من هي؟ ذلك التاريخ القديم، نحن
نعيش للمستقبل لا للماضي.»
١٧ كان فهمي — كما يقول سامي خشبة — هو المنشغل الوحيد بين مجايليه في الرواية
بشيء أكبر من ذاته الفردية الصغيرة، على العكس تمامًا مما كان يفعل كمال من بعده، انشغل
فهمي بالعمل الثوري دون كثير من التفلسف، أو دون تفلسف على الإطلاق، بالصورة التي أرادها
له المؤلف، من أجل استقلال وطنه.
١٨ ويقول له ياسين: «كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تُلقي إليها
بكل قلبك.»
١٩ وكان ياسين يناقش الأخبار في اهتمام رصين، مشوب بأسف هادئ، لا يمنعه من
مواصلة حياته المعتادة بين السمر والضحك، وبتلاوة الأشعار والقصص، ثم السهر حتى منتصف
الليل «وراح الأخوان — فهمي وياسين — يتحدثان بالأنباء المثيرة التي تناقلتها الألسنة
عن الثورة المستعرة في جنبات الوادي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. تكلم فهمي عما يعلم
من قطع السكك الحديد والتلغرافات والتليفونات، وقيام المظاهرات في شتى المديريات
والمعارك التي تنشب بين الإنجليز والثوار والمذابح والشهداء، والجنازات الوطنية التي
تُشيَّع فيها النعوش بالعشرات، والعاصمة المضربة طَلَبتها وعمالها ومحاموها، والتي لم
يعُد بها
من وسيلة للمواصلات إلا العربات الكارو. ثم قال الشاب بحرارة: هذه هي الثورة حقًّا،
فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم، فلن يزيدنا الموت إلا حياة. فقال ياسين وهو يهز رأسه
عجبًا: ما كنت أتصور أن في شعبنا هذه الروح المكافحة.»
٢٠ ومن الطريف — ولعله من المألوف فيما يتصل بياسين — أن يقول لنفسه بعد نقاشٍ
عن تطورات أحداث الثورة «حسبي اليوم ما بذلت من جهد في سبيل الحركة الوطنية؛ فإن لبدني
عليَّ حقًّا.»
٢١ وبعد أن يحادث ياسين واحدًا من جنود الاحتلال، ويشعل له سيجارة، يعقب
قائلًا في إعجاب: «الظاهر إننا غالينا في التشاؤم، حينما ظننا أن احتلال هؤلاء الجنود
لحيِّنا سيكون مصدر متاعب لنا لا تنتهي.»
٢٢ ويبلغ برود حس ياسين الوطني مداه في تلك الليلة التي عسكرت فيها دورية
إنجليزية أمام البيت، وبدلًا من أن يكون ما حدث باعثًا لهزة في تفكيره، بحيث يغادر
الخاص إلى العام، فإنه — بانشغالٍ بذاته لا يقاوَم — حاول الاستعاضة عن مغامرته الليلية
المعتادة خارج البيت، بمغامرة داخله، مع نور، خادم زوجته. أما أمينة، فلم تكف عن الدعاء
بأن ينشر الله السلام، ويعيد الأمان، وراحت تبدي خشيتها على الصغير كمال من غدر
الإنجليز، وإشفاقها على فهمي من انخراطه في العمل السياسي، وتلعن الإنجليز الذين أذلُّوا
كبرياء رجلها، حين أجبروه على ردم الحفرة التي صنعها فتوات الحسينية. ولم تجد زينب —
زوج ياسين التي أفزعتها الأحداث — مَن تصب عليه غضبها إلا سعد زغلول، متهمة إيَّاه
بأنه سبب هذا الشر كله.
٢٣ حتى كمال الطفل تساءل متحيرًا: ما الذي حدث للدنيا وللناس؟ «ذاك صراع عجيب
قضى عنفه بأن تنقش عناصره الجوهرية في نفس الغلام بلا وعي أو قصد، فتغدو أسماء سعد
زغلول، الإنجليز، الطلبة، الشهداء، المنشورات، المظاهرات … من القوى المؤثرة الموحية
في
أعماقه، وإن وقف من معانيها موقف المستطلِع الحائر، وضاعف من حيرته أن آله استجابوا
للحوادث استجابة متباينة، وأحيانًا متناقضة.»
٢٤ ثم وجد كمال نفسه — ذات يوم — محاصرًا داخل دكان بائع بسبوسة، هربًا من
الصراع المحتدم بين المتظاهرين والقوات الإنجليزية. فلما أقام الإنجليز معسكرهم أمام
البيت، أصبح صديقًا لأفراد القوة، في الوقت الذي كان يردد فيه ما قاله مدرس اللغة
العربية: إن الأمم تستقل بعزائم أبنائها.
٢٥ ودروس الإملاء التي كان يلقيها فهمي على كمال، أصبح يختارها من خطب سعد
زغلول، مثل: «أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها، دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة
المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونًا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي
بنهايتها.»
٢٦ كذلك وجد الأب نفسه جزءًا من الحدث الكبير، عندما أوقفه الإنجليز — عند
عودته إلى البيت ذات ليلة — وأجبروه على ردم حفرة حفرها فتوات الحسينية. أما ياسين، فقد
اشتبه بعض الشبان في عمالته للإنجليز، لكنه — في الواقع — كان يتخذ موقفًا وسطًا بين
شقيقه فهمي الذي مضى في درب الوطنية إلى غايته، وبين عبد المنعم (طلائع الأحرار) الذي
يَدين بمنصبه لخيانته. إنه يحب الوطن بقدر كرهه للخيانة، فضلًا عن حبه لسلامته الشخصية:
«أحسبني فاقد الوطنية؟ المسألة أني لا أحب الزياط والعنف، ولا أجد حرجًا في التوفيق بين
حب الوطن وحب السلامة.» ويسأله فهمي: «وإذا شق التوفيق بينهما؟» يقول دون تردد: «قدمت
حب
السلامة! نفسي أولًا.»
٢٧ ولم تعُد الأم تكتفي بمشاعرها الساذجة التي تتمنى الخير للجميع، فعمَّ قلبها
شعور الخوف والقلق على أفراد الأسرة، خاصة فهمي الذي كشفت حادثة الحسين عن انتمائه
للحركة الوطنية، وفهمي بالذات أصبح رمزًا لأبناء جيله الذين يحلمون بوطن جديد. كان
الوحيد في أسرته الذي يقف من إيمانها بالتعاويذ والرُّقى والأحجبة وكرامات الأولياء موقف
المتشكك، وإن لم يحاول المجاهرة بذلك، حتى إنه كان يتقبَّل — برضًا ظاهري — حجاب الشيخ
متولي عبد الصمد الذي كان يجيء به أبوه بين حين وآخر.
٢٨ وقد استنكر فهمي موقف أسرته من الأحداث، فالموت يجوب شوارع القاهرة طولًا
وعرضًا، ويرقص في أركانها. مع ذلك فإن أمه تعجن كعهدها منذ قديم، وكمال يغط في نومه،
ويتقلَّب في أحلامه، وياسين ينتزع نفسه من الفراش الدافئ، والأب ينصب قامته تحت ماء الدش
البارد، وكل شيء يواصل حياته المعهودة، كأن شيئًا لم يحدث.
٢٩ وزاد فهمي، فأحس حاجته أيضًا إلى «بيتٍ جديد وأهل جدد، لأن الكل مشغول بصورة
ما عن القضية الأساسية التي يجب أن تكون محورًا لتفكير كل فرد، هو إحساس كثيرًا ما
يفصله عن آله وهو بينهم، فيشعر بالغربة أو الوحدة رغم زحمة المجلس، ينفرد بقلبه وحزنه
وحماسه بين أناس لاهين ضاحكين، حتى نفي سعد يتخذون منه دعابة إذا لزم الأمر.»
٣٠ ولم يقف الأمر عند حد إنكار فهمي انشغال أفراد الأسرة كل بالعالم الذي يحيا
داخله، وصل عند الأم حد استثارة بُنوِّته، وعند الأب حد التهديد بالتبليغ عنه إن لم يقطع
صلته بالثورة. ثم كان موته في مظاهرة السلام تأكيدًا على استمرار الثورة، بعكس موت عباس
الحلو في «زقاق المدق»، ونفيسة وحسنين — إن كان قد مات — في «بداية ونهاية»، فهو إعلان
واضح
عن الهزيمة واليأس (ألا يذكِّرنا فهمي عبد الجواد بأنور الحلواني، طالب الحقوق الذي صرعته
رصاصة في مظاهرة بيد جندي إنجليزي، كان هو الآخر طالبًا بالحقوق، وكان يميل إلى الهدوء
والرزانة، وله أيضًا نشاطه الوطني (المرايا، ٤٤ وما بعدها)). أما الرأي بأن فهمي كان
يمتلك شخصية «جبانة» فلعله ارتكز إلى لواذ فهمي بالفرار، حين فرقع الرصاص في اليوم
الثاني للثورة، وسقط أول الشهداء، لكن الضعف الإنساني حقيقة. فقد كان كالياييف بطل
«العادلون» لألبير كامي مناضلًا وثوريًّا، لكنه عجز عن إلقاء القنبلة على عربة الدوق،
حالت بينه وبين تنفيذ ما أعد له نفسه، تلك النظرات التي كان الطفلان في العربة يتجهان
بها إلى الفراغ: «إني لست جبانًا، وأنا لم أتراجع، لم أكن أنتظرهما، مرَّ كل شيء بسرعة
فائقة. هذان الوجهان الصغيران الجادان، وفي يدي هذا الحمل الفظيع، كان عليَّ أن ألقيه
عليهما هما، هكذا، رأسًا، أوه، لا … لم أستطع.»
٣١ لكن فهمي يختلف — بلا جدال — عن مسعد بطل مسرحية «اللحظة الحرجة» ليوسف إدريس،
ذلك الذي كان يعرف أن باب الغرفة الذي أغلقه والده عليه، ليمنعه من المشاركة في
المقاومة الشعبية مغلق، لكنه كذب حتى على نفسه بأنه لم يكن يعرف، بتأثير ضعف إنساني
غلَّاب، لا يقاوَم. ولعل ذلك الرأي قد ارتكز أيضًا إلى المونولوجات المستفيضة التي كان
فهمي عبد الجواد يناقش — من خلالها — نفسه، وينقدها «كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه
رائعة باهرة تخطف الأبصار، وطالما أنصت إلى نداء باطني يهيب به إلى الإقدام والتأسِّي
بالأبطال، كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة، فما تنحسر موجة حتى يجد نفسه في
المؤخرة.»
٣٢ لكن فهمي الذي كان يتحاشى أن ينحرف بصره — مثلًا — إلى أحد الجنود الإنجليز
المرابطين أمام البيت، مدفوعًا بضعفه الإنساني وهو يتلمس سبيله تحت رحمتهم، هو الذي كان
يتساءل في الوقت نفسه — بسخرية — عما كانوا يفعلونه لو أنهم علموا بأنه راجع من مظاهرة
اشتبكت مع جنودهم في شبه معركة، أو أنه وزَّع في مطلع اليوم عشرات المنشورات التي تحرض
على المقاومة.
٣٣ حتى حبه الرومانسي لمريم، تراجع عن بؤرة شعوره الذي شغلته الشواغل
الكبرى.
٣٤ بل إنه — في اللحظة التالية لالتماس أوامر والده بمنع مغادرة البيت، عذرًا
يبرر به أمام ضميره امتناعه عن الخروج إلى الطريق المحتلة بالجنود المتعطشين إلى دماء
الطلبة من أمثاله، يعلو صوته بحرارة: «هذه هي الثورة حقًّا، فليقتلوا ما شاءت لهم
وحشيتهم، فلن يزيدنا الموت إلا حياة.»
٣٥ وحين طلب منه الأب أن يقطع كل صلة بينه وبين الثورة، رفض، لأنه كان قد اتخذ
قراره وانتهى الأمر «إن قوة في الوجود لا يمكن أن تحُول بينه وبين واجبه
الوطني.»
٣٦ وأكد بينه وبين نفسه — أن قوة في الوجود لا يمكن أن تحول بينه وبين واجبه
الوطني — لن يتراجع خطوة واحدة، انتهى زمان ذلك إلى غير رجعة. ثمة حياة حارة باهرة
انبثقت من أعماق قلبه، وأضاءت جوانب نفسه، لا يمكن أن تغيض، وهيهات أن يغيضها هو
بيده.
٣٧ ويقول له ياسين: «كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة، كي تُلقي إليها
بكل قلبك.»
٣٨ وقد شارك فهمي منذ البداية في اجتماعات قهوة أحمد عبده، التي كان يناقش
فيها الطلبة تطورات الأحداث، وماذا يصنعون، وعندما «وقعت الواقعة وجدته على ميعاد،
فألقى بنفسه في خضمها.»
٣٩ وشارك في المظاهرات التي تصدى لها الجنود الإنجليز «في شبه
معركة.»
٤٠ بل إنه كان على ثقة بأن الانفجار الرهيب لو لم يقع لمات غمًّا وكمدًا، فما
كان يحتمل أن تواصل الحياة سيرها الهادئ الوئيد على أطلال الرجال والآمال.
٤١ ثم انضم إلى لجنة الطلبة التنفيذية، ولما سأله الرئيس الأعلى للجنة، ضمن
أسئلة أخرى: ألا تعلم ما جزاء الذي يُضبَط وهو يوزع منشورات، أجاب بعزم وحماسة: كلنا
فداء
للوطن.
٤٢ ثم «اعتاد أن يواجه أخطارًا شتى، حتى الطلقات النارية ألِف
أزيزها.»
٤٣ وعندما وثب إلى ذهنه السؤال: ماذا يصنع والداه إذا علما بجهاده المتواصل؟
ابتسم قائلًا لنفسه إن المتاعب التي قد تعترضه حينئذٍ، لن تفوق المتاعب التي قد تعترضه
أمام سلطات الاحتلال نفسها. وغمغم: «سيَّان أن أحيا أو أن أموت، الإيمان أقوى من الموت،
والموت أشرف من الذل، فهنيئًا لنا الأمل الذي هانت إلى جانبه الحياة، أهلًا بصباحٍ جديدٍ
من الحرية، وليقض الله بما هو قاض.»
٤٤
لقد تعمدت اختيار هذه الفقرات، للتدليل على أن شخصية فهي عبد الجواد — كما صوَّرها
نجيب
محفوظ — لم تكن شخصية «جبانة»، لكنها كانت شخصية إنسانية، بكل ما تنطوي عليه من نواحي
القوة والضعف. وإذا كان فهمي قد وصف نفسه بأنه «موزع منشورات، وجندي من جنود
المؤخرة.»
٤٥ فإن ذلك الوصف تعبير عن تحمسه للبذل وليس العكس؛ كان يستطيع أن يحيا بوهم
العطاء، وأن ما يؤديه هو — بالتحديد — ما تطلبه منه قيادات الثورة، لكنه كان يعيب على
نفسه ذلك الشعور الإنساني الذي يخالط حتى أشجع الثوار، وهو أن أعصابه كانت تخذله في
اللحظة الحاسمة، فما تنحسر موجة المعركة، حتى يجد نفسه في المؤخرة، إن لم يكن مختبئًا
أو هاربًا، ثم «يعود إلى التصميم على مضاعفة البذل والكفاح والتماسك بضمير معذَّب، وقلب
حائر، ورغبة في الكمال لا تحد.»
٤٦ ولعل أصدق وصف لشخصية فهمي، إنها «تخيَّرت طريقها بأسلوب إرادي صارم، ورسمت
لهذا الطريق بداية واعية، صاعدة، كانت نهايتها أشبه بعملية تتويج بطولية لمجموعة من
خطوات النضال الهادف.»
٤٧
•••
وإذا كانت الثورة — على المستوى المادي — لا تعد مفاجأة خالصة لأسرة «بين القصرين»،
باعتبار أن أحد أفرادها — فهمي — كان عنصرًا إيجابيًّا في تحريك أحداثها، بالإضافة إلى
انشغال أفراد الأسرة أنفسهم — بدرجة أو بأخرى — بالأحداث السياسية، بدءًا بنفي الخديو
عباس، مرورًا بأحاديث ياسين وفهمي عن تطورات الحرب الأولى، وتذمر أحمد عبد الجواد من
الضغوط الاقتصادية، وتعليقات خديجة الساذجة، ودعاء الأم بالخير للجميع، وانتهاء باشتراك
الكل — سلبًا وإيجابًا — في أحداث الثورة، فقد كانت بالنسبة لأسرة عودة الروح
٤٨ مخرجًا غير متوقع من أزمة الحب العنيف التي واجهتهم جميعًا، بأكثر من أن
تكون صادرة عن طبيعتهم الخالصة. لقد تحدث الحكيم عن بواعث كتابته لهذه الرواية بأنها
للتحدث عن تلك المخلوقات التي كانت قبيل ذلك مدفونة في التراب، تراب الأجيال أو الزمن،
وفيها سر موتها، وسر عظمتها دون أن تشعر.
٤٩ «عودة الروح» أشبه بالروايات البوليسية «الكوميدية» التي تتقافز سطورها بين
الأحداث المثيرة، لتصل إلى ختام مؤداه أن الجريمة لا تفيد، فهي لا تعدو سلسلة من
المواقف الضاحكة والمقالب الصبيانية، التي تؤدي بنا — فجأة — إلى قلب الثورة. بل إن
اشتراك أفراد «الشعب» في المظاهرات، وتوزيع المنشورات الثورية، كان هو التعبير عن
اشتراكهم في الثورة — وهو التصرف الذي أقدم عليه آلاف المصريين. وعندما قبض عليهم، سعى
والد محسن، بوساطة صديقه مفتش الري الإنجليزي، حتى أمكن نقلهم إلى مستشفى السجن، تمهيدًا
لإطلاق سراحهم بعد أن تهدأ الحالة. أفراد الأسرة هم: حنفي الذي يعمل مدرسًا للحساب
بمدرسة ابتدائية، وعبده الطالب بالهندسة، وسليم الضابط الذي أحيل إلى الاستيداع قبل أن
يبلغ نهاية الخدمة لولعه الشديد بالنساء، وزنوبة الشقيقة الريفية التي جاءت لتخدم الشعب
وترعاه، فضلًا عن الخادم مبروك … وقد وقع أفراد الأسرة جميعًا في حب سنية ابنة الدكتور
حلمي الطبيب السابق في الجيش المصري، والذي يسكن شقة مجاورة في نفس البيت. وتعدَّدت
محاولات الجميع ابتداء من رئيس شرف العائلة إلى خادم شرف العائلة ليصبح حب «معبود الكل»
معبودًا للواحد. التعبير نفسه، تقريبًا، يستخدمه المنفلوطي حين يقول في مناسبة عودة سعد
زغلول من منفاه: «مرحبًا بالأمة في رجل، والعالم في واحد.»
٥٠ حتى سليم العطيفي الذي لم يكن يرى في المرأة سوى جسد، تحوَّل إلى رجل ينبض
قلبه بأرق العواطف، إلى حد أنه يختار عبارات من «ماجدولين» المنفلوطي، ليضمنها رسالة
إلى
سنية. وكان مبروك الخادم يرتدي قفطان «الطلعة» عندما ترسله زنوبة لأمر إلى بيت سنية،
ثم
زاد فاشترى نظارة لما أنبأته سنية أنه يشبه العمدة بهذا القفطان، لكن العمدة كان يرتدي
نظارة! وانشغل الجميع بالصراع في استمالة قلب المعبود دون أن يتنبهوا إلى أن الخطر ليس
مبعثه الداخل، لكنه تمثَّل في مصطفى الشاب الأعزب الأنيق الذي ترك متجرًا ورثه عن أبيه
في
المحلة، وقدِم إلى القاهرة سعيًا وراء وظيفة. قدم الخطر من الخارج، ولم يتنبه أفراد
«الشعب» في حمى صراعهم للفوز بقلب المعبودة، أن مصطفى قد حصل عليه بالفعل، ومن خلال
علاقة نامية لم يدرك أحد منهم طبيعتها، على الرغم من أنها جرت تحت سمعهم وبصرهم. وبدأ
اليأس من استمالة قلب «المعبود» يتسرب إلى أفراد «الشعب» واحدًا بعد الآخر، فيما عدا
محسن الذي أدركه اليأس متأخرًا، دون أن تكون لمحاولات السحر التي قامت بها زنوبة نصيب
في ذلك، بعد أن وصلت العلاقة بين مصطفى وسنية مرحلة الاتفاق على الزواج، بشرط أن يرجع
عن طلب الوظيفة، ويعود لإدارة تجارة أبيه في المحلة، وينمِّيها، ويدرأ عنها خطر التجار
والمرابين الأجانب. ثم تنشب ثورة ١٩١٩م، وتطحن كل شيء في رحاها، فلا يعود ثمة أمل ولا
يأس ولا عواطف خاصة على الإطلاق. توحدت مشاعر «الشعب» الصغير، وأصبح جزءًا من الشعب
الكبير الذي يهدر بطلب الاستقلال.
والحق أن واقع ثورة ١٩١٩م يختلف عن التصور الذي طرحته «عودة الروح»، فهي ترى في ظهور
الزعيم تعبيرًا مطلقًا عن الثورة، لكنه — في الواقع — بعض الإفرازات والحقائق التي
فرضتها. الثورة التي قامت بلا أسباب ولا إرهاصات في «عودة الروح»، كان لها أسبابها
وإرهاصاتها في واقع الحياة المصرية منذ هزيمة العرابيين، فخروج البسطاء من أبناء
القاهرة — حالًا — لمقاومة الاحتلال، فقيام الحركات الوطنية — السرية والمعلنة — لإنهاء
الوجود الاستعماري، ثم تعجيل أحداث الحرب العالمية الأولى — بكل نتائجها العالمية
والمحلية — بنشوب الثورة الشعبية المصرية في ١٩١٩م.
الأسطورة المصرية القديمة تروي حكاية إيزيس التي جمعت أوصال أخيها وزوجها أوزوريس
المبعثرة، حتى أعادته كائنًا مكتملًا دبَّت فيه الحياة من جديد، أو عادت إليه الروح
ثانية. إن الزعيم من أبنائها يتصدى — مثل إيزيس تمامًا — لعملية جمع الأشلاء المبعثرة،
فتعود أمة سوية تنبض بالحياة. ثمة رأي يجد في سنية إيزيس التي جمعت أوصال مصر المتقطعة
في واحد، وألقت به في خضم الحياة الجديدة العائدة المتمثلة في ثورة مصر. إن الأقارب
الثلاثة ينقسمون — من أجلها — ويتفرقون، ثم يجتمعون من جديد، وبسببها أيضًا، فكأنها هي
الدافع والمحرك الذي يجتذبهم إلى المعركة. وهي تقوم بدور أخطر من ذلك في حياة مصطفى،
فتدفعه إلى التماس العمل الحر، وانتزاع محل تجارته من الأجنبي الذي كان يسعى إلى تملُّكه.
فسنية إذن «تدفع فريقًا من أبناء الطبقة الوسطى إلى الاشتراك في الثورة التي تمهد
الطريق لمستقبل الطبقة كلها، وتدفع فريقًا آخر من أبناء نفس هذه الطبقة إلى مقاومة
السيطرة الأجنبية على اقتصاد البلاد، ليتسع مجال العمل أمام الطبقة، وتحصل على مكاسب
جديدة تبني لأبنائها مصيرهم الجديد.»
٥١
إن أفراد الشعب جميعًا — فيما عدا مبروك — ينتمون إلى الطبقة الوسطى. مصطفى أيضًا
يصعب تصنيفه فيما فوق ذلك، أو فيما دون ذلك. فما معنى أن تتعرف الفتاة إلى العشاق، وأن
ترفضهم واحدًا واحدًا حتى تفرغ لمصطفى من بعد، وحتى يفرغوا هم لأنفسهم، فيتطهروا
ويتهيئوا للاشتراك في الثورة، وهو شيء أقرب إلى مشاهد الخطبة في الحواديت، عندما يتقدم
إلى خطبة الأميرة الواحد بعد الآخر من الخُطَّاب بطريقة موحدة من حيث الشكل، وإن كانت
تختلف من خاطب إلى آخر فيما يخص العرض والحوار. يتقدم الخطَّاب إلى الأميرة، فيرفضون
واحدًا تلو الآخر، حتى يتقدم من وضعت عليه الأميرة العين فتقبله على الفور.
٥٢ أفراد الشعب يزورون بيت سنية بحججٍ من اختلاق سنية نفسها، تعطي الضوء
الأخضر، فتتوالى الزيارات إلى بيتها، كل واحد بحجة من ابتداعها، ويعود إلى «الشعب» وفي
نفسه سخط على أسلوب حياته، ولكن الغرض الشخصي ما يلبث أن ينداح شيئًا فشيئًا، ليفرض
الإحساس بالجماعة نفسه، ويتهيأ الجميع للاشتراك في الثورة المقابلة.
المستوى الأول لحكاية سنية — إن كان هناك مستويات أخرى — أنها فتاة وجدت من الحرية
ما
يتيح لها مغازلة أفراد أسرة مجاورة بأكملها، ثم تزيد فتنشئ علاقة — عبر الشرفة — مع جار
جديد هو مصطفى. لقد انصرفت سنية إلى عشاقها واحدًا واحدًا، وتعلقوا بها، ثم رفضتهم كذلك
بقلبها واحدًا واحدًا، ومالت بقلبها إلى مصطفى، فذوى الحب الأناني في نفوسهم شيئًا
فشيئًا، مقابلًا لانشغالها بحب مصطفى، وتهيَّأ الجميع للاشتراك في الثورة، ولم يكن العشاق
يمثلون تناقضًا، فلماذا توالى لقاؤها بهم إذن؟
كانت الثورة مخرجًا من الأزمة العاطفية الحادة التي دارت قلوب «الشعب» في رحاها،
بل
إن اشتراكهم في أحداثها يُعَد مخرجًا من الأزمة العاطفية التي لفَّتهم جميعًا، حتى لقد
كدَّر
التنافس على خطب ود سنية صفو العلاقة — بعض الوقت — بين الثلاثي محسن وعبده وسليم.
ولهذا السبب — ربما — جاء القول إن «صورة الثورة باهتة مقتضبة، ويمكن أن يقال إنها
دخيلة على القصة، وثانوية بالنسبة لموضوعها.»
٥٣ وربما لهذا السبب أيضًا يذهب الرأي إلى أن الفنان قد حوَّل عواطف شخصيات «عودة
الروح» من حب امرأة، والتنافس عليها، إلى حب الوطن، والتضامن من أجله. وهو رأي يقوِّض
البناء الرمزي للرواية، ذلك الذي حاول الفنان أن يقيمه، فلن تصبح سنية هي إيزيس، ولكنها
المقابل التافه لحب الوطن العظيم. وفي الحقيقة أن أحداث «عودة الروح» — على المستوى
الواقعي — تضعنا أمام السؤال: لماذا مصطفى بالذات؟ كان بين أفراد الشعب من يغري
بالزواج، ربما أكثر من مصطفى الذي توزعته الحيرة بين التجارة والوظيفة.
٥٤ فثمة المهندس — على سبيل المثال — لكن سنية فضَّلت اختيار مصطفى، واشترطت
عليه أن يلغي فكرة الوظيفة من رأسه تمامًا، وأن يعود إلى المحلة لإدارة تجارة أبيه
وينمِّيها ويحميها من الأجانب. فماذا يعني ذلك؟ وقد ذهب علي الراعي إلى أن الفكاهة تقوم
في الرواية بوظيفة فنية متعددة الأطراف، فهي — أولًا — ترسم جزءًا مهمًّا من الروح
المصرية يتمثَّل في حب المرح والدعابة، وهي تساعد المؤلف — ثانيًا — على تمثيل وتأكيد
جو
الأسرة المصرية، وحياتها من يوم إلى يوم. فضلًا عن أن المؤلف يستخدم الفكاهة لرسم كثير
من شخصياته، مثل حنفي ومبروك وسليم، ويوجه عن طريقها انتقادات اجتماعية لاذعة، لنواحٍ
من
الحياة المصرية. وهذه كلها نواحٍ تفيد الرواية فنيًّا، وتزيد من ربط القارئ بها … لكن
الراوي يعترف بأن غلبة الروح الفكاهية على الجزء الأول من الرواية تسيء إلى المعنى العام
لها، من حيث إنها تحمل القارئ على تناولها تناولًا خفيفًا، لا يتناسب مع عمق معناها
الحقيقي وجديته. كما أن كثرة الفكاهة في هذا الجزء تجعله غير متكافئ فكريًّا مع الجزء
الثاني، فيحس المرء بشيء من الخلخلة، وعدم الاتساق بين الجزأين. ولعل هذه الوحدة من
الأسباب التي دعت الناقد الفرنسي جان فينو إلى التصريح بأنه يجد نفسه أكثر تذوقًا للجزء
الثاني من الرواية، منه لجزئها الأول.
٥٥
إذا ارتفعنا إلى مستوى الرمز، ونظرنا إلى سنية — أو إيزيس — بمفهومها الأعم — فإن
استيلاء مصطفى، ابن البرجوازية الكبيرة، على قلبها، مقابل للإفادة الهائلة التي خرجت
بها تلك الطبقة من الثورة (كان أول ما عرفته سنية عن مصطفى أن «صنعته من الأعيان» (الرواية،
٢: ١٠٨)). وكان أحب إليه — عبده — ألف مرة، أن تختار سنية «سليم» أو «محسن»
بدلًا من أن تختار هذا الغريب، مصطفى.
٥٦ وإذا اعتبرنا مبروك هو الشعب الذي تسلَّم السلطة؛ فإن ذلك الرمز يتبدد بعد
صفحات قليلة، عندما يشتري مبروك — في سذاجة — نظارة جديدة، ويرد لهم بقية الجنيه وهو
يقول في استخفاف: «أنا لا كان أبويا حكومة، ولا أمي حكومة، ولا قلت لكم اعملوني حكومة،
آدي فلوسكم، واعتقوني وابروا ذمتي كرامة لأم هاشم.»
٥٧ ربما تريد «عودة الروح» أن تقول — ولعله إذن أهم ما تريد أن تقوله على
الإطلاق — إن مصر قد تسلم نفسها إلى إغفاءة هائلة، لكنها لا تموت. ففي خضم انشغال أسرة
شارع سلامة، وتدفق تيار الحياة بها، ومن حولها، كانت بذرة الخلود ثابتة، تنمو وتتنفس
وتعيش، حتى آن لها أن تعلن وجودها في ثورة ١٩. لقد جاءت الثورة في «عودة الروح» فجأة،
كما
جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فجأة. لم ترهص حياة «الشعب» في الرواية بالثورة
المرتقَبة، كما لم ترهص حياة الشعب في مصر بالثورة نفسها. بدا كل شيء أقرب إلى المفاجأة،
المعجزة، الروح التي عادت إلى الجسد الهامد، لكن غرفة السطح في بيت شارع سلامة كانت —
حسب التعبير الشائع — نارًا تحت الرماد، النار نفسها التي كانت تحت رماد الأرض المصرية.
وكان الشعب في حارة سلامة هو التعبير عن الشعب الذي يحيا في الأرض المصرية، الحياة التي
يتسم ظاهرها بالهدوء والميل إلى الفكاهة واللهو، تخفي باطنًا يمور بالرفض والتمرد
والثورة. بل إن رواية الدكتور حلمي عن القردة في الغابة، وحرصها على الوحدة والتضامن
والثأر ضد من يعتدي على حريتها وحياتها، يمكن أن تقف هي الأخرى على أرضية الرمز. أقول:
ربما، لأن ذلك هو المعنى الذي يشير إليه الحكيم في «سجن العمر» من أنه أقدم على كتابة
روايته «بدافع العقل الواعي والحاجة العامة، حاجة المواطن إلى التعبير عن حماسه لبلاده،
وعن رؤيته لتطور بلاده، فإني لم أرد أن أجعلها سجلًّا لتاريخٍ بقدر ما أردت أن تكون
وثيقة شعور»، فضلًا عن تلميحات الفنان بأن سنية هي إيزيس التي بدأ حب مصطفى لها منذ وقع
نظره عليها، فوجد في شعرها الأسود وعينيها الواسعتين، ما يذكِّره بصورة إيزيس التي
يشاهدها في كتاب التاريخ، ومثل تلك الفقرات من «كتاب الموتى» التي قدَّم بها الفنان جزأَي
الرواية. ولعله مما يصح نسبته إلى الرمز أيضًا، ذلك الموقف المتكرر في حياة «الشعب».
فبعد أن يزورها — سنية — أحدهم، يشعر بالثورة على الحياة الرتيبة تمور في أعماقه: محسن
ينظر إلى الأسرَّة المتراصة ويتضايق. عبده — بعد أن يتولى إصلاح أسلاك الكهرباء في بيت
سنية — ينظر إلى الأسرَّة المتراصة ويتضايق. سليم أيضًا، دهش كيف أنه استطاع حتى الآن
أن يحيا مع أربعة أو خمسة في حجرة واحدة: «إحنا كلاب ولَّا إيه؟ أنا لازم أنقل سريري
وأعزِّل في أودة تانية، نص دستة في أودة زي الحجز، إحنا كلاب؟!»
٥٨ وفي المقابل؛ فإن الفنان ينسى السؤال الأهم في بيت الفلاح الذي شاهده محسن
أثناء زيارته لقريته في الإجازة «ليس غير الفلاح يستطيع هذه الحياة، هو وحده الذي — على
الرغم من رحب داره — لا بد له أن ينام هو وامرأته وعياله وعجله وجحشه في حجرة
واحدة.»
٥٩ أقول: نسي الفنان السؤال: هل المشكلة في ضيق المسكن ومستوى الحياة الأدنى،
أو أنها الرغبة في السكنى في قاعة واحدة برغم رحب الدار، على حد تعبير الحكيم؟ نحن
نتعرَّف إلى النظرة المناقضة لنظرة «عودة الروح» في اعتبار حياة الفلاح مع بهائمه صورة
سلبية «نعيش مع البهائم كالبهائم.»
٦٠ ولعلي أشير إلى ملاحظة عباس خضر بأن الحكيم اندفع في تمجيد الفلاح حتى بلغ
فيه قمة المبالغة المعهودة، وقلَبَ السيئ إلى حسن، فقد أشاد بالفلاحين لأنهم يجتمعون
على
الألم شاعرين بالسرور ولذة الاتحاد في الألم، بعكس العمال في أوروبا الذين أحسُّوا جراثيم
الثورة، وعدم الرضا بما هم فيه، ويضيف عباس خضر أنه يفضِّل الشعور بالثورة على الظلم
على
لذة الألم والرضا بالمذلة والخضوع.
٦١
الرواية تجد مدلولاتها الرمزية أيضًا فيما قاله الناقد الفرنسي جان ديستيو عن «عودة
الروح»: «ليس لمدلولها غير معنى واحد، هو أن الروح العائدة إنما هي روح فلاحي مصر
العريقة في القِدم.»
٦٢ وربما يجد الرمز ذاته أيضًا في عبارة الفنان عن محسن، بعد أن تلمَّس حياة
الفلاحين عن كثب: «هل يستطيع هو أيضًا أن يضحي في سبيل سنية، وأن يقذف بنفسه في الألم
والشقاء من أجلها، أم أنه ليس من دم ذلك الفلاح؟»
٦٣ بل إن الفنان يهبنا الدلالة في الصورة الواحدة التي ارتسمت في ذهن محسن
«مصر-سنية».
٦٤ وحين أكل محسن مع أمه وأبيه أكلًا فاخرًا، لم يحس بلذة، وتذكر قصعة الفول
النابت التي كان يأكل منها مع أعمامه والخادم مبروك «ما أسعد الجماعة، وما أحسن تلك
الحياة مع الشعب، نعم لهذا كان يأكل، ولهذا سمِن مع سوء الغذاء وقلة الألوان.»
٦٥ «إنه غريب بين أهله، وإن شيئًا لا يستوضحه يفصل بينه وبين والدَيه، وإنه —
مهما صنع — فلابد من تلك الكلفة والغموض بينه وبينهما، فليدعواه فلَّاحًا ما شاءا، فهو
لن يستطيع أن يعيش كما يريدان؛ إنه في حاجة إلى تلك الحرية، وذلك الهواء الطلق الذي كان
يستنشقه بين أعمامه السذج المتواضعين، ومهما كان من أمر هذا المنزل بخدَمه ونعمه، فهو
يغلُّ نفسه بأغلال ثقيلة، لا طاقة له بها.»
٦٦ وقد لفَّه الشعور نفسه عندما آوي إلى حجرته الفاخرة ليلًا؛ حنَّ إلى سريره
بجوار أسرَّة أعمامه، في الغرفة العمومية بشارع سلامة.
ولعلِّي أوافق على أن الدلالات الرمزية في الرواية ربما لم تخطر للفنان إلا حين بدأ
في كتابة الجزء الثاني من الرواية، ومن ثَم فقد أعاد النظر إلى الجزء الأول، وحاول أن
يجعل له هو الآخر معنى موازيًا يساوي المعنى الرمزي في الجزء الثاني، وتبدَّت سنية أمام
محسن كأنها إيزيس الخالدة التي طالما تجسَّدت له في الخيال أثناء تلقِّيه دروس
التاريخ.
٦٧ ونتذكر تساؤل الفنان: «هل من الشعور الطبيعي للإنسان أن يتوهج فيه الحنين
لوطنه كلما زاد بعده؟ كل الذي أعرفه أنني لم أعش داخل بلدي بحرارة وقوة وحب للوطن مثلما
عشت في الوقت الذي كنت فيه بعيدًا. هناك في باريس، حوالي سنة ١٩٢٦-١٩٢٧م، أدى بي التفكير
إلى استعادة أعنف ما مرَّ بي منذ ثماني سنوات، أي فكرت في ثورة مصر سنة ١٩١٩م، عادت إليَّ
وأنا في الغربة بكل عنف مشاعرها، بكل ما فيها من ذكريات، بكل ما حاطها من ظروف
وملابسات. وفي الغربة — حيث يصبح كل شيء مجسَّمًا والمشاعر أشد احتدامًا، والحنين في
أعلى
درجة حرارة — هناك بدأت أجسد هذه المشاعر الوطنية تجسيدًا فنيًّا واقعيًّا، وكان هذا
هو
مبدأ عملي في «عودة الروح».
٦٨
•••
وإذا كان نجيب محفوظ قد ضحَّى بأهم أبطاله — فهمي — قربانًا للثورة؛ فإن أبطال الحكيم
قد خرجوا من لهيب الثورة دون أن يصيب أحدهم خدش، بل كانت الثورة فرصة مناسبة لكي ينسى
الجميع فداحة اختطاف مصطفى — ذلك الوافد الغريب — لمعبودتهم سنية. مع ذلك، فقد أيقظت
صدمة الفشل في الحب، في نفس اليوزباشي سليم عاطفة جديدة لم يكن يعرفها قبلًا؛ ألِف أن
يتردد على قهوة «الشيشة»، يجالس النساء، ويحتسي الخمر معهن. فلما دخلت سنية حياته،
وحاول أن يجد منفذًا من أزمته العاطفية بقضاء فراغ وقته مع أولئك النسوة، شمله شعور
بالقرف، وتساءل في دهشة: كيف كان يألف من قبل مثل هذا النوع من النساء؟ سَمت به عاطفة
الإعجاب النبيل، وأصبح يزدري النسوة الساقطات اللائي كان يعرفهن،
٦٩ وعاد إلى قهوة الجندي بعد أن أيقن أنه لا فائدة من بيت الجيران، وحاول
إقناع نفسه — والآخرين — أن سنية إن هي إلا فتاة ككل الفتيات.
٧٠ ونحن نعلم في «عصفور من الشرق» أن «سليم» قد تزوج — فيما بعد — من إحدى
قريباته، وأصبح أبًا لولدَين صغيرين، وشغل وظيفة عسكرية في مصلحة خفر السواحل. كما امتلأ
جسمه، وبرز له «كرش محترم»، وتهدَّل شارباه، ولم يعُد في ذاكرته من الماضي سوى أطياف،
حتى
سنية، اختفت صورتها من رأسه تمامًا.
٧١ أما عبده، فقد تحوَّل يأسه إلى عمل، فاتجه إليه بكليته، لا يعكر عليه صفوه سوى
صدمة مصطفى كلما مرَّت بخاطره.
٧٢ وغادر مصطفى — بتأثير حبِّه لسنية — حياة التبطُّل والكسل التي ظل يحياها، فعاد
إلى تجارته، ولم يعُد يتمسَّك بالإقامة في القاهرة، ليلحق بمحل أبيه قبل أن يبتلعه
الإفلاس: «إنه لا يحجم عن سكنى المحلة الكبرى، بل أقاصي الصعيد، ما دامت هي
معه.»
٧٣
•••
«بين القصرين» تأكيد على قيادة الطبقة الوسطى للثورة،
٧٤ بدءًا من الزعامة التي يمثِّلها سعد زغلول للثورة، إلى التأييد الإيجابي الذي
يبلغ حد الشهادة متمثلًا في الطالب فهمي عبد الجواد، إلى التأييد السلبي الذي يمثِّله
التاجر أحمد عبد الجواد، فتأييده للثورة دون غايتها «فهو يحلم بالاستقلال وبعودة سعد،
ولكن دون إراقة دماء أو خوف.»
٧٥ أما الطبقات الكادحة، فهي تقف في الخلفية البعيدة لتطورات أحداث الثورة،
حتى جميل الحمزاوي الذي يُعَد أحد أبعاد الثلاثية، لم يزِد دوره في الثورة عن تعليق صورة
سعد زغلول، أو توزيع الشربات، احتفالًا بإلغاء نفي زعيم الوفد بأمرٍ من السيد أحمد عبد
الجواد. أما الشيخ متولي عبد الصمد — الشخصية الثانية التي تنتمي إلى الطبقات الأدنى
—
فقد تحدد دوره في رواية أحداث الثورة في القاهرة والأقاليم. قدَّم لنا نجيب محفوظ طالب
الحقوق فهمي ابن التاجر أحمد عبد الجواد، رمزًا متفردًا لشهداء الثورة، ذلك الذي أردته
رصاصة غادرة في مظاهرة السلام، لكننا لم نتعرف إلى بقية الشهداء من عامة الشعب، من
أبناء بولاق وباب الشعرية والخليفة والخرنفش وكرموز ودير مواس … إلخ، وعلى الرغم من أن
الشعب في «عودة الروح» لم يشارك في أحداث الثورة إلا تخلصًا من أزمة عاطفية عنيفة واجهت
أفراده جميعًا؛ فإن تركيبهم الاجتماعي ينبض بأكثر من دلالة. إن صلة الأخوة تربطهم بحامد
بك العطيفي — والد الصغير محسن — لكن تركيبهم الاجتماعي يختلف عنه بصورة جذرية، فهم
ينتمون إلى البرجوازية الصغيرة، بينما ينتمي حامد العطيفي — الذي آلت إليه ثروته من
أمه — إلى طبقة ملاك الأرض. وهو قد تزوج من السيدة التركية ليفر من كلمة «فلاح»، وقد
قتلت فيه هذه الزوجة — بالفعل — كل شعور بانتمائه لمصريته. والملاحَظ أن الفلاح موجود
على
ألسنة شخصيات «عودة الروح»، لكنه لا يتحرك في سطور الرواية إطلاقًا، أما أفراد «الشعب»
فقد كانوا يشكِّلون عائلة لا صلة بينها وبين الأخ الأكبر الثري، وبالتالي فلم يعُد حامد
العطيفي هو الرئيس، كما جرى العرف في عائلاتنا الريفية التي تئول عمادة أفرادها إلى
كبير المنصب أو الجاه. كان حنفي أفندي العطيفي المدرس هو رئيس شرف العائلة، أما بقية
أفراد «العائلة» فهم: عبده العطيفي الطالب ببكالوريوس الهندسة، وأختهما زنوبة العانس
العاطلة من الجمال، وابن العم سليم ضابط البوليس الموقوف عن العمل نتيجة لمغامراته
النسائية، ومبروك «خادم شرف العائلة». حتى محسن العطيفي لم يكن يتمنى غير شيء واحد «أن
يكون مثل رفاقه الصغار الفقراء، ولا شيء كان يذيبه خجلًا سوى أن يبدو ممتازًا على
أقرانه بثوب أو نقود أو مظهر ثراء، واشتد به الأمر إلى حد أنه كان يخفي اسم أسرته عن
رفاقه.» وكان يفر من العربة التي كانت تنتظره كل يوم عند باب المدرسة، فضلًا عن أنه كان
أشد أفراد «الشعب» إحساسًا بالآخرين؛ فهو قد جعل من مبروك صديقًا له، يسأله، ويناقشه،
وربما طلب رأيه، وعندما أعلنت زنوبة أنها أحضرت «ورك الوزَّة» لمبروك، هتف في غضب:
ومبروك مش بني آدم؟! ومبروك مش واحد منا؟! وعندما زاط الجميع لانتزاع ميزانية البيت من
زنوبة، لاحظ محسن أن مبروك قد لاذ بصمت، فاتجه إليه قائلًا: وأنت يا مبروك … مش موافق؟
الملاحظ أن سليم وأسعد في رواية «في قافلة الزمان» — وهما ينتميان إلى فئة التجار كانا
يعانيان الشعور نفسه الذي عاناه محسن في «عودة الروح»، فقد حمل إليهما بواب البيت عمودًا
وسلة بهما الطعام، وفوطتان وشوكتان وسكينان وملعقتان. وما أن بدآ في تناول طعامهما في
حجرة الطعام بالمدرسة، حتى جعل التلاميذ من حولهما يتغامزون ويتضاحكون، وعاد سليم وأسعد
إلى البيت ليطلبا من أمهما ألَّا تبعث لهما الطعام بعد اليوم أبدًا، إن كل ما يريدانه
قرشًا يشتريان به غداءهما كما يفعل بقية الأولاد. ولبَّت الأم طلبهما، فذهبا إلى محل
الطعمية، واشترى كلٌّ منهما رغيفًا وطاجنًا به سلطة وورقة طعمية، ثم راحا يأكلان وهما
ينظران إلى الأولاد في مودة تقول: انظروا، نحن منكم.
٧٦
•••
رجاء النقاش يضغط على أن توفيق الحكيم وضع يده في «عودة الروح» على طبيعة الثورة
القادمة في مصر، وهي ثورة ١٩٥٢م، وأنها ستكون ثورة فلاحين.
والواقع أن الحكيم كان يعني ثورة ١٩ وليس ثورة ١٩٥٢م، فقد كانت ثورة ١٩ هي النهاية
التي غادر بها القارئ «عودة الروح»، الأمر نفسه بالنسبة للزعيم الذي يخرج من صلب الفلاحين
ليقود الثورة؛ إنه سعد زغلول بطل ١٩١٩م، وليس جمال عبد الناصر قائد ثورة ١٩٥٢م.
٧٧ إن الزعيم الذي كانت «عودة الروح» تتنبَّأ بظهوره كان قد ظهر بالفعل قبل كتابة
الرواية، ومن هنا؛ فإن التفسيرات النقدية بأن الفنان كان يستشرف زعيمًا يظهر في الأعوام
التالية لثورة ١٩١٩م، قد اختلط عليها الرمز، ربما لأن جمال عبد الناصر أعلن تأثُّره —
قبل
١٩٥٢م — بكلمات الحكيم، بحيث شكَّلت دافعًا لنسج خيوط ثورة يوليو.
أيًّا يكن الأمر؛ فإن «عودة الروح» تبقى مَعْلمًا أدبيًّا مهمًّا في التعبير عن الثورة
المصرية عام ١٩١٩م، وعن التوقعات التي يحملها المستقبل، مثل الحضارة الصناعية التي ستقف
إلى جانب الحضارة الزراعية «ما أروعه شعبًا صناعيًّا غدًا.» بل إنه مما يحسب ﻟ «عودة
الروح» أن تلك المناقشة التي أدارها الفنان بين مفتش الري الإنجليزي وصديقه مفتش الآثار
الفرنسي في تحليل الطبيعة المصرية، كانت أساسًا لبعض الدعوات السياسية، مثل دعوة أحمد
حسين رئيس «مصر الفتاة» الذي جعل من تلك المناقشة مرتكزًا لأغراضه السياسية.
٧٨
•••
وثمة ظواهر مشتركة — ومتباينة — تطالعنا في شخصيات الروايات التي تعرض لتلك الفترة،
وأحداثها.
-
لقد أخذ ميخائيل (المعذبون) رب الأسرة القبطية، من ابنه نفس موقف أحمد عبد الجواد
من أبنائه؛ فهو لم يحرص على أن يرثوه في تجارته، لكنه دفع بهم إلى التعلم بأقصى ما
يسعفهم استعدادهم. طمع ميخائيل أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كُتبَت له في الحياة، فلم
ينشئه في التجارة ليخلفه في الدكان حين تتقدم به السن، وإنما أرسله إلى المدرسة
المدنية، بعد أن اختلف إلى الكتاب القبطي عامًا وبعد عام، وأضمر — فيما بينه وبين نفسه
— ألا يكتفي بالمدرسة الابتدائية، وأن يرسله — إن استطاع — إلى القاهرة، ليتعلم في
مدارسها، وليكون موظفًا من موظفي الحكومة، وليسلك بنفسه طريقًا جديدة غير الطريق التي
سلكها هو وأبوه من قبل.
٧٩
-
اندلعت نيران الثورة في «عودة الروح» فجأة، وبلا مقدمات، وشارك فيها أفراد «الشعب»
بعد قيامها، دون أن تخطر لهم الثورة — من قبل — ببال. أما في «بين القصرين» فقد تابعنا
الثورة منذ بداياتها، وربما من قبل أن تلُوح الثورة في الأفق، عندما تولى السلطان فؤاد
عرش مصر، ثم دنو الحرب العالمية الأولى من نهاياتها، فمقابلة القيادات السياسية المصرية
للمعتمد البريطاني، فاعتقال سعد ورفاقه، فتوالي أحداث الثورة. مع ذلك فإن لويس عوض يرى
أن ثورة ١٩١٩م توارت في الخلفية إلى حد أن البصر لا يرى منها شيئًا.
٨٠ في حين أن «عودة الروح» هي أقرب عمل فني يصور روح ١٩١٩م.
٨١ وكما أشرنا؛ فإن الثورة في «عودة الروح» تأتي مفاجئة، أو كالمفاجأة، فليس في
تصاعد الأحداث ما يشير إلى إمكانية حدوثها. نحن لا نعرف عن أحداث الحرب الأولى ولا
إرهاصات الثورة ولا مطالب الوفد … إلخ، وإنما نفاجأ بأن الثورة قد حدثت، وأن أفراد الشعب
قد شاركوا فيها، ربما للتخلص من أزماتهم العاطفية. أما في «بين القصرين» فإن خيط الثورة
ممدود منذ البداية، منذ نتائج الحرب العالمية الأولى، ومقابلة الوفد للمعتمد البريطاني،
والتوكيلات الشعبية للوفد، فنفي الوفد، فقيام الثورة، فالإعلان عن عودة الوفد، فاستشهاد
فهمي في مظاهرة السلام. وقد ظلَّت أسرة أحمد عبد الجواد في قلب الأحداث، وعانت نتائجها
بدءًا من التأييد المعنوي والمادي لعائل الأسرة، وانتهاء باستشهاد أحد أفرادها الذي كان
عضوًا بارزًا في تنظيم الطلاب في الثورة، مرورًا بإجبار أحمد عبد الجواد على ردم الحفرة
التي صنعها فتوات الحسينية، وتعرف الصغير كمال إلى الممارسة السياسية من خلال مظاهرات
الثورة، ولزوم أفراد الأسرة — حتى الرجال — بيت بين القصرين، لا يغادرونه، اتقاء أذى
جنود الاحتلال.
-
نحن نجد توافقًا يصل إلى حد المطابقة بين قصص الحب في حياة كلٍّ من سامي في «طلائع
الأحرار» ومحسن في «عودة الروح» وفهمي في «بين القصرين». لقد أحب ثلاثتهم، ثم تحطم الحب
على
صخرة الظروف القاسية، وذابت الأحزان في خضم الثورة الهادر المكتسح، وبتعبيرٍ آخر، فقد
كانت الثورة هي المخرج من مأزق الحب العنيف الذي واجهه كلٌّ من الشبان الثلاثة. يتساءل
فهمي: مريم … من هي؟ ذلك التاريخ القديم؟ نحن نعيش للمستقبل لا للماضي.
٨٢ أما محسن، فقد «استحال كل ما كان في قلبه من حبٍّ خاب فيه بقسوة إلى عواطف
وطنية حارة، وكل عواطف التضحية التي كان مستعدًّا لبذلها في سبيل معبودة قلبه إلى عواطف
تضحية جريئة من أجل معبودة وطنه.»
٨٣ تحدد السؤال أمامه — بعد فشل حبه: هذه الحياة التي أصبحت فارغة أمامه … كيف
يملؤها؟
٨٤ ثم أنقذته المظاهرات المفاجئة، الكاسحة، من دمار نفسي وعاطفي هائل، وكانت
صدمة الحب كذلك منعطفًا حادًّا في نفسية فوزي السيد (أزهار) فأعلن أن الحب ليس ألَّا
نوعًا من المرض لمن كان يريد أن يكرس حياته لخدمة بلاده.
٨٥
أما أحمد منصور (الخيط الأبيض) فقد اختلف موقفه عن مواقف تلك الشخصيات؛ لقد لاذوا
بالثورة فرارًا من صدمة الحب، بينما أهمل أحمد منصور حبَّه وهو يتطلع لقيام الثورة، ذلك
لأن المحبوب — هنا — كان مختلفًا؛ إنه لورا الإنجليزية التي تذكِّره في سحنتها وفي
أحاديثها بالاحتلال البريطاني الذي يبغضه!
•••
لعل اختلاف الظروف الأسرية والاجتماعية هو الذي دفع حسان (الشارع الجديد) لأن يقول
لأبيه عن سبب تأخره يومًا: كنت في نادي الحزب.
ويقول الأب في سخرية: ساهرًا على مصلحة الوطن!
فيقول حسان: ومن أجدر من الشباب بصيانة الوطن؟
– دعوا الهراء واعرفوا مصالحكم أولًا، تتظاهرون بالوطنية لتواروا خيبتكم، اسمع يا
حسان، لن أسمح بهذا العبث أبدًا، إنني أمنعك من السهر.
– وأنا لا أسمح لأحدٍ أن يعاملني معاملة الأطفال.
٨٦
أما أحمد منصور الذي كان رجل الأسرة في «الخيط الأبيض» بعد وفاة والده، فإنه يدخل
على
أخته حجرتها شاحب اللون، وقد تلوثت سترته بالدماء، فتصيح الفتاة: ماذا بك؟ وتسرع إليه
تتحسس صدره، وتسأله في لهفة: هل أنت جريح؟
– لا … ولكن حملت زميلًا جريحًا إلى صيدلية قريبة بعد أن سقط مضرجًا بالدماء.
قالت الأخت: إن الأمور تسوء يومًا بعد يوم … ولا يمكن أن تستمر على تلك الحال … كيف
ينازل العزَّل من السلاح جنودًا مدججين بالمدافع الرشاشة.
صرخ أحمد: نحن لن نسكت مهما كانت مصاعبنا، لن نسكت.
قالت الأخت: ألم تقل أن هناك وسائل أخرى لمقاومة أولئك الوحوش.
– نعم، ولكن وقتها لم يحِن بعد.
٨٧
وفي «الضباب» قدَّم زين العابدين إلى لجنة الاكتتاب سوارًا اشتراه لصديقته الغانية
أنيسة
ولعة، وحين قدَّم للصديقة إيصال استلام السوار، احتضنته وقالت: «هذه أعظم هدية نلتها،
بل
أظنها أعظم هدية سأنالها في حياتي؛ لقد جعلت مني إنسانة لها وطن، وعليها واجب نحوه،
أطال الله عمرك.»
٨٨
•••
وفي المقابل من تلك المواقف جميعها، يتبدَّى موقف الأب (بين القصرين) الذي شارك في
الثورة بقلبه وماله، لكنه رفض مجرد التصور أنه يشارك فيها بمجهود مادي إيجابي. ويمتد
هذا الرفض فيشمل بقية أفراد أسرته؛ فهو إذا كان قد وقف في ساحة الحسين لصق ابنه ليتلقَّى
عنه ما يتهدده من أذى، لقاء اتهام شاب أزهري له بالخيانة؛ فإن كلمات الشاب التي كانت
السبب الوحيد في نجاتهم من مأزقٍ بلغ حد التلويح بالأحذية والمراكيب في وجوه السيد
وأبنائه، كانت هي الكلمات نفسها التي نبَّهته إلى وجود «مصيبة جديدة يجب أن نجد لها
علاجًا.»
٨٩ وقال الرجل لابنه: دعوتك لأعرف كل شيء، أريد أن أعرف كل شيء، ماذا قصد
صديقك بقوله إنك من الأصدقاء المجاهدين، وإنكما تعملان في لجنة واحدة … صارحني بكل شيء
دون تردد.»
٩٠ وفي الحقيقة أن رفض أحمد عبد الجواد اشتغال ابنه بالحركة الوطنية، مبعثه
الإشفاق على ابنه من أن تحرقه الثورة بنيرانها، ومن هنا تأتي سذاجة ذلك التبرير الذي
ساقه الأب جومييه، حين قال «مع أن هذا الوالد وطني لا غبار على وطنيَّته، فقد رأى في
اشتغال ابنه بالحركة الوطنية من غير إذنه خروجًا على طاعته لا يُغتفَر.»
٩١ فمن المؤكد أن غبار السلبية كان عالقًا بوطنية أحمد عبد الجواد، ولم يكن
غضبه على فهمي لأنه خرج على طاعته فحسب، بل لأنه جازف بالاشتراك الفعلي في الثورة، وهو
ما كان يحرص على أن يتجنَّبه وأولاده تمامًا، حتى إنه ألزم الجميع بالبقاء في البيت —
لعدة أيام — حين أقام الإنجليز معسكرًا أمام باب البيت. كان الرجل يقنع دائمًا من وطنيَّته
«بالعاطفة والمشاركة الوجدانية دون الإقدام على عملٍ يغيِّر وجه الحياة الذي آنس إليه
فلا
يرضى عنه بديلًا. لذلك لم يدر له بخَلَد أن ينضم إلى لجنة من لجان الحزب الوطني على شدة
تعلقه بمبادئه، ولا حتى أن يجشم نفسه شهود اجتماع من اجتماعاته، أليس في ذلك إهدار
لوقته «الثمين»؟ ليس الوطن في حاجة إليه على حين يتلهف هو على كل دقيقة منه لينفقها في
أسرته وتجارته، أو على الخصوص في لهوه بين الأحباب والخلان؟! ليكن إذن وقته خالصًا
لحياته، وللوطن ما يشاء من قلبه وعواطفه، بل ماله كلما تيسَّر.»
٩٢ ويقول الفنان عن أحمد عبد الجواد بأنه «لا يحتقر المجاهدين، هو أبعد ما
يكون عن ذلك. طالما تابع أنباءهم بحماس، ودعا لهم عقب كل صلاة بالتوفيق، طالما ملأته
أخبار الإضراب والتخريب والمعارك أملًا وإعجابًا، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا صدر
عمل من هذه الأعمال عن ابن من أبنائه.»
٩٣ بل إنه حين يجبره عساكر الإنجليز على ردم الحفرة، يصارح نفسه: «قراءة الصحف
وتناقل الأخبار شيء، أما حمل التراب تحت تهديد البنادق فشيء آخر، هنيئًا لكم أيها
النائمون في أسرَّتكم، اللهم احفظنا، لست لها، لست لها.»
٩٤ ثم يزداد سخطه ليرفض الثورة نفسها: «لا طعم للحياة في ظل الثورة، الثورة،
أي جندي يقبض عليك، تحمل التراب بكفَّيك، فهمي يقول لك لا. متى تعود الدنيا إلى
أصلها؟»
٩٥ وإذا كان أحمد عبد الجواد وأقرانه من التجار قد أقبلوا على التوقيع على
عريضة توكيل سعد زغلول؛ فإن اليأس هو رد الفعل الذي ران على مشاعرهم حين قبضت السلطات
البريطانية على سعد زغلول ونفته «رجل ولا كل الرجال، بعث لحظة من الحياة باهرة ومضى
كالحلم، وسوف يُنسى فلا يبقى منه إلا ما يبقى من حلم عند الضحى.»
٩٦ ذلك لأنهم لم يكونوا مؤمنين في أعماقهم بالثورة، وإن فسَّر نجيب محفوظ هذا
اليأس بأن النفي اقترن في أذهانهم بنفي أفندينا الذي لم يعُد.
٩٧ وحين تبدو ثمار الثورة وكأنها تتهيأ للنضج، يبدأ أحمد عبد الجواد في
التساؤل: «هلَّا عجَّلت الثورة بتحقيق غاياتها من قبل أن يمتد أذاها إليه أو إلى أحد
من
ذويه؟ إنه لا يبخل بمال ولا يضن بعاطفة، أما بذل الحياة فأمر آخر، أي عذاب صبَّه الله
على
العباد فهانت النفوس وجرت الدماء!»
٩٨ إن رفض أحمد عبد الجواد الحاسم لأن يشارك فهمي في الثورة، ثم تمنِّيه — بعد
إعلان الإفراج عن سعد — لو اشترك الابن في الأعمال الكبيرة ما دام الله قد كتب له العمر
حتى اليوم، ومصارحته لنفسه: سأقول من الآن فصاعدًا إنه خاض غمار الثورة،
٩٩ ذلك التناقض في موقف الرجل لحظات اشتداد الأزمة، ثم انفراجها، تعبير عن
الانتهازية التي تنظر بها الطبقة الوسطى إلى تطورات الأحداث من حولها، فهي أول من يسعى
إلى الفرار، وأول من يسرع إلى المغنم! (يصف الفنان أحمد عبد الجواد بأنه من أوساط
الطبقة الوسطى (بين القصرين، ٢٦١)). ولعل أحمد عبد الجواد أقرب إلى شخصية زين العابدين
بك، ذلك الذي ما استقر في القرية إلا لأن الفلاحين قطعوا الخطوط الحديدية التي تصل
القرية بالقاهرة. وأسهم الرجل في «الثورة» بأن أرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، ورفض
طلب الضابط الإنجليزي بالاتصال به، ورفض الإغراء بأن ينال رتبة الباشوية، وظل على حرصه
بعدم التعاون مع قوات الاحتلال «وإن كان في دخيلة نفسه يتحرق شوقًا أن يتم إصلاح الخطوط
الحديدية ليجد سبيله إلى القاهرة» حيث ليالي السهر واللهو.
١٠٠
ويقدم لنا الفنان (قصة «٨٧») نموذجًا مغايرًا للنموذج الذي يمثِّله أحمد عبد الجواد
وثاني أبنائه فهمي. فعلاقة حامد وابنه رضوان أقرب إلى الصداقة منها إلى علاقة الأب
بابنه. منذ وفاة الزوجة والأم تعلَّق كلٌّ منهما بصاحبه، ووجد فيه عزاءه. ولما خرجت
المظاهرات تنادي بالاستقلال، كان كلٌّ منهما يعد صاحبه بألَّا يعرض نفسه لخطر المشاركة
في
تلك المظاهرات، وفي اللحظة التي اكتشف فيها حامد أنه كان يخدع ابنه، وأن ابنه كان
يخدعه، وأنهما يسيران جنبًا إلى جنب في قلب مظاهرة صاخبة، سقط رضوان برصاصة غادرة. ولم
تنته الزمالة بين حامد ووحيده؛ هجر عمله لأنه حريص على أن يكون في طليعة كل مظاهرة،
وأنه ليجد دائمًا أن ذراعه في ذراع رضوان، كتلك المرة الأخيرة.
١٠١ لقد شارك الرجل بالفعل في مظاهرات الاستقلال، وحين اكتشف أن ابنه يشارك
مثله فيها، برغم وعده بالابتعاد عنها، فإنه لم يحاول إثناءه عما يفعل، بل إن استشهاد
رضوان لم يبتعد بأبيه عن الحياة السياسية؛ زاد انغماسه فيها إلى حد اعتزال العمل،
والاستباق للمشاركة في مظاهرات طلب الاستقلال.
هوامش