وفي أثناء الثورة العرابية، كان يرافق عبد الله النديم قسيس، يتلوه في الخطابة، ويدعو
إلى الاتفاق بين عنصري الأمة، وحقها المؤكد في الحكم النيابي المستقل.
ومن المؤكد أن سلطات الاحتلال حاولت — منذ دخلت قواتها القاهرة — إذكاء نيران
الطائفية، فقد كان في مقدمة القضايا التي تبنَّتها حماية الأقليات. لم يكن الدين — على
سبيل المثال — مؤهلًا، أو مانعًا، لتولي الوظائف العامة، لكن بعد دخول الإنجليز تبدَّى
حرصهم على ذلك المبدأ الغريب. وعلى الرغم من الدور — الذي يصعب إغفاله — لنبوية موسى،
في توسيع قاعدة التعليم بالنسبة للفتاة، فإنها قد شاركت (يصعب القول إن المشاركة كانت
بحسن نية!) في المخطط السياسي الذي حاول ضرب الوحدة الوطنية وإثارة العداء — المعلَن،
والمستتر — بين المسلمين والأقباط.
١٥ وحين وصلت إلى الإمام محمد عبده في منفاه ببيروت — ١٨٨٨م — أنباء الوقيعة
بين المسلمين والمسيحيين المصريين، بسبب تصرفات منسوبة لبعض الموظفين في وزارة الحقانية
— العدل الآن — كتب يؤكد على وجوب الفصل بين الوطني — بصرف النظر عن ديانته — وبين
الأجنبي الذي يظل — رغم كل شيء — أجنبيًّا مستعمِرًا. «إن التحامل على شخصٍ بعينه لا
ينبغي أن يُتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملَّة؛ فإن ذلك اعتداء على غير معتدٍ،
ومحاربة لغير محارب، أو كما يقال: جهاد في غير عدو، وهو مما ضرره أكثر من نفعه، إن كان
له نفع. فليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض
واحدة فيشملوها بشيء من الطعن، أو ينسبوها إلى شائن من العمل، تعللًا بأن رجلًا أو
رجالًا منها قد استهدفوا لذلك. فإذا تنافرت الطوائف تشاغلت كلٌّ منها بما يحط من شأن
الأخرى، فكانت كل مساعيهم ضررًا على أوطانهم. نعم. إن كانت الطائفة، أو الأمة — أي
الجماعة — من قومٍ أجانب عن البلاد، متغلبين عليها بقوة قاهرة، أو حيلة غادرة. وكانت
أعمال آحادها مبنية على أصول سَنَّها المتغلبون، فيكون عمل الواحد كأنه صادر عن الجملة،
كما في أعمال الإنجليز بمصر، جاز للناقد أن يأخذ الجماعة بإثم الواحد منهم، ويستصرخ
أبناء الوطن جميعًا لكشفهم عن بلاده، واستخلاص الحق منهم لأربابه.»
١٦ وعندما دارت مساجلة صحفية بين جريدتَي «المقطم» و«المؤيد» حول أوضاع
الأقباط والأرمن، في أواخر القرن التاسع عشر — بعد أن زجت «المقطم» وضع الأقباط في عرضها
لوضع الأرمن — أعلن الأقباط «نحن والمسلمون إخوان في السراء والضراء، وقد عشنا ثلاثة
عشر قرنًا ونحن متساوون في رحمة الحكام وظلمهم، ونود أن نبقى هكذا إلى ما شاء
الله.»
١٧ وقد رفض الأقباط أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات، برغم قرب
العهد الذي كان الحزب الوطني يدعو فيه إلى الجامعة الإسلامية.
١٨ بل إنه عندما اتهم اللورد كرومر المصريين بالتعصب الديني، رد عليه
المسيحيون ينفون التهمة.
١٩ وقد عدل كرومر — فيما بعد — عن دعواه فكتب في «مصر الحديثة»: «لم أجد فرقًا
بين قبطي ومسلم سوى أن الأول يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد، والثاني يذهب إلى المسجد يوم
الجمعة. والقبطي الحديث — من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في السلوك واللغة والروح — مسلم،
وإن لم يدرِ كيف، والقبطيات محجبات كالمسلمات، والأطفال الأقباط تأقلموا بشكل عام،
وعادات الزواج والوفاة مشابهة لتلك المتبعة لدى المسلمين، وكذلك في قواعد الميراث.»
وحين حذَّر بشرى حنا، شقيقه سينوت حنا من مغبة الإسهام في الحركة الوطنية قبل نشوب ثورة
١٩١٩م، وقال له: «إذا أصررت على سلوك هذا السبيل، فستُسجن وتعذَّب، وربما نفوك من البلد
كما نفوا عرابي وطلبة وعبد العال حلمي. فقال سينوت: يا أخي بشرى، لا تخف عليَّ، إنني
أسعى في الحصول على استقلال مصر، وإخراج الإنجليز منها، لأن هذا هو الضمان الوحيد
لسلامتنا جميعًا، أقباطًا ومسلمين. أنت تظن أن الإنجليز يحرسون أموالنا، ويحمون حقوقنا
نحن الأقباط. هذا خطأ، إنهم لا يحمون إلا أنفسهم. وها أنت تراهم يستكثرون من نصارى
الشوام، ويعتمدون عليهم من دوننا، وانظر عنايتهم بالأروام والأرمن والمالطيين. أنت تعرف
أن الحكومة الإنجليزية هي التي بنت من مالها كنيسة الروم وكنيسة الأرمن في القاهرة، وهم
يمولون الآن المستشفى الإسرائيلي … فهل ساهموا بقرشٍ في بناء كنيسة قبطية؟ إنهم يا أخي
أعداء المصريين جميعًا، وأملنا الوحيد هو أن نظل متحدين مع إخواننا المسلمين، فنحن وهم
دائمون في هذا البلد، وما عدانا زائل. هذا هو الأمان الوحيد لي ولك، ولأموالك التي تخاف
عليها.»
٢٠ ولعل أهم ما في روايات جُرجي زيدان التي استوحت التاريخ الإسلامي — ١٨
رواية طويلة — أنه كتبها في الفترة التي علت فيها اتهامات كرومر للمصريين بالتعصب
الديني ضد الأقلية المسيحية «التعصب مخيف على شواطئ النيل»! واللافت في هذه الروايات
أنه يوجد من بين أبطالها بعض المسيحيين الذين يدينون بالإخلاص للدولة الإسلامية،
ويعملون على تنفيذ أهدافها. مع ذلك، فلم يخل جُرجي زيدان — كما يقول فتحي رضوان — من
الطعن «فقد رماه الكثيرون بأن رواياته التي ألَّفها عن العهود الإسلامية، كُتبَت بروح
متعصب
للمسيحية، كاره للإسلام، وأنه دس فيها ما يجعل للمسيحيين في كل دور من أدوار الإسلام
أكبر مما كان لهم، وغمز خلفاء المسلمين وأمراءهم هنا وهناك غمزات قد تخفى على غير
المتمكن العارف بتاريخ حضارته ودينه، ولكنها واضحة جليَّة للعلماء الجهابذة.»
٢١ وثمة من ذهب إلى أن جُرجي زيدان «تأثر في نظرته إلى العالم الإسلامي تأثرًا
خفيفًا بنظرة بعض المؤرخين الغربيين، من حيث إنصاف الشعوب الأعجمية، ووضع حالات مثالية
حول الأديرة والرهبنة، وتصوير الخلفاء تصوير الوصوليين الذين يضحون في سبيل الملك بأقرب
الناس إليهم.»
٢٢ ويقول الكاتب الإنجليزي س. ﻫ. ليدر إن أصدقاءه من بين كبار المسلمين ذكروا
له إن فكرة التمييز أُوحي إليهم بها من الإنجليز أنفسهم. وقد أقر هؤلاء الأصدقاء بأنه
ليس في السوابق التاريخية للبلاد وجود لهذا المبدأ، ذلك لأن الفارق الوحيد بين القبطي
والمسلم «هو أن الأول مصري يعبد في كنيسة مسيحية، والآخر يعبد في مسجد مسلم.» وعلى سبيل
المثال، فقد لجأ جورست إلى وسيلة استعمارية لإيجاد الخلاف والشقاق بين المسلمين
والأقباط، فكان الموظفون الإنجليز يحرِّضون الأقباط من ناحية على المسلمين، ثم يعودون
فيحرضون المسلمين من ناحية أخرى على الأقباط، وشرعت المصالح الحكومية تخرج إحصاءات —
غير مطلوبة — كي تبيِّن عدد الموظفين من القبط والمسلمين، وشرع كل فريق يعقد المؤتمرات،
ويطالب بطلبات، كما أن مصر لم يعُد لها طلبات قبل الإنجليز المعتدين علينا جميعًا، وإنما
صار كل ما نطمع فيه أن يطلب المسلمون من الأقباط ترك هذه الوظائف أو تلك، ويطلب الأقباط
من المسلمين هذا الحق أو غيره.
٢٣ فقد تعاظم نفوذ الأقباط — باتساع النفوذ الاحتلالي، والأجنبي عمومًا، في
مصر — واشتغل العديد من الأسر القبطية بالاستيراد والتصدير كوكلاء لشركات أوروبية،
فضلًا عن استثمار أموالها في الزراعة، بحيث أصبح لتلك الأسر ملكياتها الواسعة، ونفوذها
الاقتصادي الذي ما لبث أن تحوَّل إلى نفوذ سياسي، حتى إن عمداء تلك العائلات عملوا قناصل
للدول الأجنبية في مصر. وحرص جورست — في المقابل — على استبقاء بعض الوظائف للمسلمين
دون الأقباط، مثل وظائف المديرين والمأمورين ونظار المدارس ومعلمي اللغة العربية، حتى
تظل الحزازات قائمة بين العنصرَين. وعلى الرغم من دعوة مصطفى كامل لتبعية مصر إلى دولة
الخلافة، فإنه كان على يقين أن المسلمين والأقباط في مصر أمة واحدة، وأن الدم الذي يجري
في أغلب مسلمي مصر، هو الدم نفسه الذي يجري في عروق الأقباط. مع ذلك، فقد كان الشبان
من
الأقباط — كما يقول سلامة موسى — يجدون بعض الاستياء من الدعوة الدينية في الحزب
الوطني، وكذلك الدعوة العثمانية، أي التركية. وكان منطقهم يقول: «إذا كنتم تدعون إلى
جامعة إسلامية، وإلى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع أن الأتراك ليسوا فقط أجانب،
بل
إن تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر؛ فإن لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية، والاعتماد
على الاحتلال البريطاني.»
٢٤ ويضيف الكاتب إن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الإسلامية من ناحية،
وبالرغبة في السيادة العثمانية من ناحية أخرى، كان سببًا في عرقلة الاندماج التام
للأقباط في الحركة الوطنية.
٢٥
مقتل بطرس غالي
في ٢١ فبراير ١٩١٠م نشرت «الأهرام» نبأ يقول: «أمس الأحد الساعة الواحدة بعد الظهر،
اهتزت القاهرة، بل اهتزت البلاد كلها، لطلق ست رصاصات من يد شاب وطني على عطوفة رئيس
النظار بطرس باشا غالي، وهو خارج من نظارته يستعد لركوب عربته. أطلقها عليه فتًى وطني
يسمى إبراهيم ناصف الورداني، لا يتجاوز عمره الثالثة والعشرين، فقُبض عليه في محل ارتكاب
الجريمة، ورُبط بحبل، وسُجن في إحدى غرف نظارة الحقانية، واستلمه سعادة النائب العمومي
للتحقيق.» كان اغتيال بطرس غالي جريمة سياسية، لكن سلطات الاحتلال وجدت فيها فرصة
للقضاء على الحركة الوطنية. اتهمت الصحف الإنجليزية العناصر الوطنية بالتعصب، وأكدت
«الجازيت» أنه حادث ديني، وأشارت إلى ما كتبته «اللواء» في ١٩٠٨م من تهديد للأقباط، ودعت
إلى وضع فِرق من القوات الإنجليزية في مدن الوجه البحري والصعيد، بدعوى أن الصحف
الراديكالية تحرض على كراهية الأقباط علنًا. أما «البورص» فقد أعلنت أن الرجل قد قُتِل
لأنه مسيحي، ودعت «ديلي جرافيك» الأقباط — من ناحية ثانية — إلى القيام بعملٍ يضمن لهم
الأمن بأية وسيلة، وعزفت جريدة «مصر» المعبِّرة عن الأقباط على النغمات نفسها، فدعت إلى
التسبيح بحمد الاحتلال لأن في ذلك حماية للأقباط، وأكدت أن حياتهم كانت عرضة للإبادة
لو
أبطأت قوات الاحتلال في دخول البلاد أسبوعًا واحدًا، وسخفت الجريدة محاولات تقليص
النفوذ الإنجليزي.
٢٦ وأدت نغمات الاستعداء والتحريض إلى تأجيل الأقباط مؤتمرهم الذي كان مقررًا
لعقده في فبراير ١٩١٠م، بهدف حل مناقشة بعض الشئون الداخلية، إلى أجل غير مسمى، وأعلنوا
اعتزامهم الاحتماء بدولة قوية (!) تعينهم على خطوات المستقبل، وارتفعت الأعلام السوداء
فوق بيوت الأقباط، وعلت الأصوات الداعية إلى التظاهر احتجاجًا على الحادثة.
٢٧ ومع أن المسئول الإنجليزي المستر جراي أعلن أن الجريمة سياسية تمامًا، فقد
أوعز للصحف البريطانية وللمتعصبين من الأقباط بتشديد الحملة ضد الحزب الوطني. وعلت
الدعوات إلى الثأر، وإلى الحكم المباشر للاستعمار، وإلغاء الجيش المصري، وزيادة قوات
الاحتلال، وردَّت «المؤيد» بنشر برقيات من المواطنين الأقباط والمسلمين، تستنكر تلك
الدعوات، وترفضها. ووقف عدد من الوطنيين الأقباط أمام الحملة، ومنهم مرقص حنا ومرقص
فهمي وسينوت حنا وغيرهم، ونزع نصيف المنقبادي المحامي عن الحادثة صفتها الدينية، ووصف
بطرس غالي بأنه من أشد أنصار الإنجليز، كما دافع عن الورداني، ووصفه بالذكاء والثقافة
والوطنية. ومضت الأزمة في طريق الحل حين تكوَّن وفد من كبار المحامين المصريين، بهدف
إيقاف الفتنة، والحفاظ على الوحدة الوطنية.
٢٨
وكان مقتل بطرس غالي باشا إذن فرصة لإذكاء نيران الطائفية، حاولت سلطات الاحتلال
استغلالها إلى أقصى الحدود، فادَّعت أن الحادث مبعثه روح التعصب الديني من جانب المسلمين،
برغم أن التحقيق، ثم المحاكمة من بعد، قد أثبتا أن «الاعتداء سياسي بحت، وأن أسبابه
ودوافعه سياسية، لا دخل للدين فيها بأي وجه من الوجوه.»
٢٩ كان تعيين بطرس غالي رئيسًا لمحكمة دنشواي، محاولة من السلطات الإنجليزية
لتحريك الحساسية الدينية بين الطائفتَين المسلمة والقبطية. ومع أن اغتياله في فبراير
١٩١٠م يرتبط بتوقيعه لاتفاقية السودان، ومد امتياز قناة السويس، وترأسه لمحكمة دنشواي؛
فإن الاتهامات انصبَّت على التعصب الديني! وكان رأي الشيخ نور الدين (سيرة الشيخ نور
الدين) أن مقتل بطرس غالي لا يعني أن مسلمًا قتل قبطيًّا، ولكن مصريًّا قتل
خائنًا.
٣٠ ويقول الرافعي إن «الأسباب التي دعت الورداني إلى القتل هي أسباب سياسية،
ولو لم يكن بطرس باشا قبطيًّا لوقعت الجريمة، مهما تكن ديانة المعتدى عليه.»
٣١ اعترف الورداني أنه قتل بطرس غالي لأنه خائن لبلاده، وقد تأكدت خيانته في
حادثة دنشواي، وفي اتفاقية السودان التي وقعت عام ١٨٩٩م، وفي قانون المطبوعات الذي كمَّم
الصحافة، وقضى على حريتها، وفي مصادرة الحركات الوطنية، وأخيرًا، في موقفه من مشروع
امتياز قناة السويس.
٣٢ يسأله المحقق: لماذا فعلت فعلتك بالباشا؟ قال: لأنه خائن للوطن.
٣٣ ويقول أحمد شفيق: «ومما هو جدير بالذكر أن الفتى المحكوم عليه أبدى ثباتًا
مدهشًا حتى آخر لحظة.»
٣٤ نُفِّذ فيه حكم الإعدام صباح ٢٨ يونيو ١٩١٠م بسجن الاستئناف بالقاهرة، وكتب
نصيف المنقبادي: «إن الورداني لم يقتل بطرس غالي لأنه قبطي، بل لأنه رئيس الوزارة،
ولأنه ظن أنه خان مصر، وأضر بها، فاستحق القتل، ولو كان محله مسلم، وظن فيه ما ظن،
لقتله أيضًا.»
٣٥ أما السير إلدون جورست، فقد كتب في تقريره بتاريخ ١٠ مارس ١٩١٠م: أما الباعث
على ارتكاب الجريمة فسياسي، ولم يكن للقاتل ثأر شخصي على القتيل، ولا كان مدفوعًا بعامل
التعصب الديني، إلى ارتكاب الجريمة. وقد بذل الخديو عباس الثاني ما وسعه للتخفيف من وقع
هذا المصاب، فزار عائلة الفقيد وواساها، وعيَّن الابن الأكبر نجيب باشا غالي وكيلًا
لوزارة الخارجية. كما بذل عقلاء الأقباط جهودًا مشكورة في وضع الأمور في نصابها، وإظهار
الحقائق للسواد الأعظم من أبناء الطائفة القبطية. ونخص بالذكر في هذا المقام مرقس فهمي
باشا الذي ألقى جملة خطب كان فيها مثالًا للرجل النزيه المنصف والوطني المخلص. فمن إحدى
خطبه التي نشرت سنة ١٩١٠م قوله: «إذا قتل الورداني متعصبًا وحده، أو مع شركائه، فليس
ذلك
دليلًا على أن كل المسلمين أرادوا هذا القتل لسبب، ولا على المسلمين أن يقتلوا
المسيحيين تعصبًا. بلادنا بلاد الهدوء والسلام، تدعونا إلى السكينة والصفاء والوفاء.
لذلك عاش المسلم أخًا للمسيحي، إذا حصل بينهما خلاف، فإنما يكون خلافًا سريع الزوال لا
يلبث أن ينقضي.»
٣٦ وفي الوثائق التي خلَّفها محمد فريد، تتكشَّف تفاصيل مؤامرة دبَّرتها السلطات
الإنجليزية لإجراء عملية جراحية لبطرس غالي، برغم نصيحة الأطباء المصريين بعد إجرائها
خشية وفاته، ولأن الرصاصات لم تكن قاتلة، وكان بالإمكان شفاؤه منها، لولا العملية
الجراحية التي قام بها طبيب إنجليزي!
٣٧
والواقع أن اختيار بطرس غالي لرئاسة محكمة دنشواي لم يكن وليد ذاته ولا مصادفة، لكن
الهدف — بالتحديد — كان إشعال نيران الفتنة بين المسلمين والأقباط، وهو ما كادت شرارته
تنطلق بالفعل، فقد شنَّت «المؤيد» حملة عنيفة على بطرس غالي وسياسة اللورد كرومر حيال
الأقباط. وكتب الشيخ علي يوسف سلسلة مقالات بعنوان «الإسلام غريب في وطنه». لكن الحادثة
— رغم كل محاولات احتوائها — أعطت ثمارها السيئة، فقد تعالى النحيب والصراخ والبكاء في
البيوت القبطية، ووُضعَت شارات الحداد، وعُقدَت اجتماعات السخط والمطالبة بالثأر. وبلغ
الأمر حد مطالبة سلطات الاحتلال بتشديد النكير على المصريين، وبالذات أعضاء الحزب
الوطني، وشككت أقلام كُتاب أقباط في صلاحية المصريين للنظام الدستوري، وللحكم
الذاتي.
٣٨ كما تنكَّر عدد كبير من الأقباط للحركة الوطنية، حتى الذين رفضوا تصديق أن
يكون التعصب الديني وراءها، مثل ويصا واصف ومرقس حنا، اضطروا — مراعاة لمشاعر الأغلبية
من الأقباط — إلى التردد — لفترة — عن متابعة الحركة.
٣٩ وسافر قرياقص ميخائيل ممثلًا مزعومًا للصحافة القبطية، إلى لندن، ونشر
مقالات فيما سُمي بالخلاف بين المسلمين والأقباط، وذهب عدد من قيادات الأقباط إلى دار
المعتمد البريطاني — بتأييد منه! — «طالبين حمايتهم من اضطهاد الحزب الوطني.»
٤٠ وعقد الأقباط مؤتمرًا دينيًّا في أسيوط، ردَّ عليه المسلمون بمؤتمر آخر بمصر
الجديدة في العام نفسه.
وفي الحقيقة أن بطرس غالي — بصرف النظر عن انتمائه الديني — كان هو رجل الإنجليز في
مصر قبل ثورة ١٩١٩م، مثلما أصبح أمين عثمان — المسلم — رجل الإنجليز في مصر بعد الثورة.
وقد بدأت معارضته للحركة الوطنية منذ الثورة العرابية. فقد جاهر بمعارضته لعرابي. وكان
بطرس غالي مرافقًا للخديو في رحلته إلى لندن، والتي انتهت بتوقيع الاتفاق الذي يُطلِق
يده
في الحكم. وقد احتفظ بمناصب وزارية مختلفة في الوزارات المتعاقبة بعد ١٨٨٢م، وهو الذي
أبرم اتفاقية السودان عام ١٨٩٩م، وهو الذي ترأس المحكمة المخصوصة في دنشواي. وإذا كان
بطرس غالي قد واجه الموت مقابلًا لخيانته، التي بلغت ذروتها في إصدار أحكام الإعدام
والجلد والسجن على أبناء دنشواي؛ فإن إبراهيم الهلباوي الذي كان مدعيًا في القضية، واجه
مصيرًا أكثر قسوة. أولته الحركة الوطنية ظهرها، وجُوبِه بمعاداة صريحة إلى آخر يوم في
حياته، رغم أن قبوله منصب الادعاء في محكمة دنشواي لم يكن يقل — في جسامته — عن قبول
بطرس غالي رئاسة المحكمة، فضلًا عن أن موقف بطرس غالي كان حلقة في سلسلة من المؤامرات
ضد الحركة الوطنية، بينما كانت المسألة بالنسبة للهلباوي سقطة من رجل عاش حياته قريبًا
من الحركة الوطنية، ومتعاطفًا معها، بل ومسهمًا بجهدٍ إيجابي في إثرائها. وقد حاول
الهلباوي — في مناسبات عديدة — أن يبرر سقطته، ويدافع عن موقفه الذي يمثِّل نتوءًا في
حياته السياسية. أما بطرس غالي، فقد كان — إلى أن مات — صريح العمالة للاحتلال، صريح
العداء للحركة الوطنية. مع ذلك؛ فإن الهلباوي ذهب — بوفاته — إلى حيث ألقت — كما يقول
المثل الأشهر، بينما كاد مصرع بطرس غالي يؤدي إلى أزمة طائفية، وأقيمت حفلات التأبين،
وحررت المقالات، وألقيت القصائد التي تحيط عنق الراحل بأكاليل الغار! وفي المقابل، فقد
أعلن الشعب بعامة الحداد على إبراهيم ناصف الورداني، وارتدت النساء قماشًا أسود سُمي
«حزن الورداني»، وتلا الحادثة إنشاء العديد من الجمعيات السرية التي التزمت بأسلوب
الكفاح المسلح.
لقد فشلت كل المحاولات التي بذلها وطنيون مصريون لمنع عقد المؤتمر القبطي في الموعد
الذي تحدد له، وهو ٦ أكتوبر ١٩١١م، في أسيوط، ثم فشلت محاولات أخرى لنقل المؤتمر إلى
القاهرة، حتى لا تتجدد المعارك التي كانت قد نشبت في أسيوط بين المسلمين والأقباط في
٤
أبريل، أي قبل موعد افتتاح المؤتمر بأشهر قليلة. لكن المؤتمر أقيم في الموعد والمكان
المحدَّدين من قبل، وانتهى إلى مطالب، في مقدمتها يوم الأحد عطلة إلى جانب الجمعة، وأن
تكون الكفاءة هي قاعدة التوظف، وإتاحة فرص تعليم متساوية للأقباط والمسلمين، ووضع نظام
يكفل تمثيل كل عنصر مصري في المجالس النيابية. وكان لذلك المؤتمر، والمطالب التي تمخض
عنها، ردود فعل عنيفة، وأحدث صدعًا حقيقيًّا في بِنية الائتلاف المصري، وتبودلت
الاتهامات على صفحات الجرائد. وفي محاولته لسد الثغرة التي أحدثها مؤتمر أسيوط، عقد
خمسة آلاف مصري ما بين مسلم ومسيحي مؤتمرًا في فندق هليوبوليس برئاسة مصطفى رياض،
وانتهى المؤتمر إلى مجموعة قناعات، من بينها صعوبة قسمة الحقوق السياسية في مصر بين
طوائفها الدينية، وأن العطلة الأسبوعية ليست حقًّا دينيًّا، ومن ثَم فإن العطلة الرسمية
يجب أن تكون الجمعة فقط، وأن الكفاءة هي قاعدة التعيين في وظائف الحكومة. أما تعديل
قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة دينية مصرية دائرة انتخابية خاصة، فهو مستحيل
التحقيق عمليًّا. ثم وافق المؤتمر على بعض الخطوات الإصلاحية التي تمس المواطنين
جميعًا، ومن بينها إنشاء بنك وطني، وعقد مؤتمر للتعليم، وتأسيس النقابات
الزراعية.
٤١
والحق أن فكرة عقد مؤتمر قبطي كانت مطروحة للنقاش، وللتنفيذ، قبل مصرع بطرس غالي
بسنواتٍ، واتُّخذت خطوات فعلية، سرية، لعقد المؤتمر.
٤٢ والحق أيضًا أن بطرس غالي كان وراء إجهاض تلك الفكرة، إلى حد أنه أنذر
جريدة «الوطن» بعدم الإشارة إلى فكرة المؤتمر. وكان الهدف من إقامة ذلك المؤتمر مناقشة
مطالب الأقباط الذين كانوا يشكون من أنهم مغبونون في الوظائف والحقوق العامة.
٤٣ فلما اغتيل بطرس غالي، تجددت الدعوة إلى عقد المؤتمر القبطي، لأنه ارتكز
إلى مناسبة خطيرة تؤكد وجوب انعقاده، فضلًا عن أن بطرس غالي نفسه كان الشخصية الأقوى
في
رفض انعقاده.
•••
حاول الإنجليز إحياء الطائفية التي بدا وكأنه قُضي عليها تمامًا طيلة فترة زعامة
سعد
زغلول. وكانت جريدتا «الوطن» و«مصر» تذكيان الخلافات الطائفية، وتوسِّعان من أبعادها،
وتحرِّضان الأقباط على وجوب رفض ما اعتبر إجحافًا بحقوقهم. وكتبت صحيفة «مصر» عن اضطهاد
الموظفين الأقباط، وأنهم لا ينالون حقوقهم، ورفع بعض زعماء القبط عرائض إلى المندوب
السامي يرفضون فيها الدستور، ويؤكدون أن مصر غير أهلٍ للدستور. لكن قيادات الوفد من
الأقباط تصدوا للمحاولة، وكتب سينوت حنا مقالًا في «البلاغ» عنوانه «الوطنية ديننا،
والاستقلال حياتنا»، قال فيه: «لا قبطي ولا مسلم، وإنما كلنا أمام الوطن مصريون. وما
هذه الضجة التي دارت في الأيام الأخيرة باسم الأقباط المضطهدين في بعض الوظائف إلا إثم
في حق الوطنية وحق الحكم الدستوري كما هي إثم في حق الواقع، وإنه ليكفي الإنسان أن يذكر
أولئك الشهداء الذين جادوا بأرواحهم مسلمين وأقباطًا، فداء للوطن المصري، لا للوطن
المسلم أو الوطن القبطي، حتى يشعر بما في ذلك من الجلال والسمو.»
٤٤ ويقول رياض قلدس (السكرية): «إن الأقباط جميعًا وفديون. ذلك أن الوفد حزب
القومية الخالصة، حزب القومية التي تجعل مصر وطنًا حرًّا للمصريين على اختلاف عناصرهم
وأديانهم.»
٤٥ ويقول «إني حر وقبطي معًا. أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا
ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت، ولكن مهلًا … أليس من الجبن أن أنسى
قومي؟ شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية
المصرية.»
٤٦ ويلاحظ العقاد أن جميع المرشحين الذين استخدموا سلاح التعصب الديني كانوا
خصومًا لمرشحي الوفد، بينما لم يحاول مرشحو الوفد أن يلجئوا إلى هذا السلاح على
الإطلاق. وظل في مقدمة دعاوى الأحرار الدستوريين ضد الوفد — لأعوام طويلة — أنه يخضع
لسيطرة الأقباط الذين يحاولون أن يحققوا مصالح الأمة القبطية. وكتبت «السياسة» — أول
ديسمبر ١٩٢٩م — تقول إنه «إذا كان الرسول قد أوصى مسلمي مصر بقبطها خيرًا، فأولى بالقبط
اليوم أن يستوصوا بالمسلمين.» ويقول ديمتري (لا أحد ينام في الإسكندرية) لمجد الدين في
أعوام الحرب العالمية الثانية: «هذه الدولة شعارها من أيام سعد باشا: الدين لله والوطن
للجميع، لكن أولاد الحرام يحبون أن يشعلوا نار الفتنة، وخصوصًا في الأحياء
الفقيرة.»
٤٧ أما القول «بلاد ما فيهاش إسلام» فهو إشارة إلى دول الغرب، لا يعني رفض
الديانات الأخرى، وإنما يعني — على حد قول الشيخ — إنها «مش زي بلدنا، سواء أقباط أو
مسلمين، كلنا إخوان.»
٤٨ ذلك لأن كلمة «إسلام» الشائع استعمالها وترديدها في مصر بين بعض الأوساط،
ليس لها في الحقيقة أية صبغة دينية أو طائفية، وإنما معناها عاطفة الرحمة وطيبة القلب
وارتباط الأفئدة، وعواطف يجدها الإنسان في مصر، ولا يجدها في أوروبا.
٤٩
•••
كما أشرنا، فقد استطاعت سلطات الاحتلال أن تحقق بعض النجاح في محاولاتها للفرقة بين
عنصرَي الأمة، حتى إن الصحافة القبطية وجَّهت اتهامًا بالتعصب الديني إلى الصحافة
الإسلامية، لأنها هاجمت رئيس الوزراء بطرس غالي الذي عيَّن بعض الأقباط في مناصب القضاء،
وإدارة الأعمال العامة، وكانت وقفًا على المسلمين. وتحدث سلامة موسى عن «كاتب يُدعى عبد
العزيز جاويش.»
٥٠ هدد بأن يصنع المسلمون من لحم الأقباط نعالًا لأحذيتهم! — يوصف الشيخ جاويش
بأنه كان رجلًا عاطفيًّا بالغ العنف. كان من أولئك الذين إذا غضبوا وأمسكوا القلم، نسوا
كل شيء، وهان عليهم إشعال نار تحرق الوطن كله ليشفي غليلًا عارضًا (دراسات في ثورة
١٩١٩، ٢٠٦) — وعن الكاتبة مي التي لم تدعُ — في رأيه — إلى تحرير المرأة «لأنها لم تكن
مصرية، ولم تكن مسلمة»، متوهمًا أن غير المسلمة لا يحق لها أن تدعو إلى تحرير
المرأة!
٥١ وأصدرت المصالح الحكومية إحصاءات — غير مطلوبة! — تبيِّن عدد الموظفين من
الأقباط والمسلمين. كما استغلت سلطات الاحتلال حادثة الهماميل في الإسكندرية التي تشاجر
فيها مصري ويوناني إلى شراء قطعة من الجبن، فطعن اليوناني المصري بسكين، فقضى عليه. ثم
أطلق أحد اليونانيين رصاص مسدسه على يوناني آخر، فأخطأه، وقتل مصريًّا. وحاول بعض
المصريين أن يثأروا لأبناء وطنهم قائلين: اقتلوا النصارى — وكانت لفظة النصارى — في لغة
العامة آنذاك — تعني الأجانب من الإنجليز وغيرهم — وأدرك الجميع — قبل أن تستفحل الفتنة
— أن مرد ما حدث — في الدرجة الأولى — إلى العصبية الجنسية لا الطائفية:
«ألا تراهم يذيعون في تقاريرهم أن بقاءهم بيننا في مصلحة الجميع؟ ألا تراهم يذيعون
في
تقاريرهم ودعاياتهم أنهم رفعوا عنا الحيف، ووطدوا أركان العدل، وأنقذونا من غائلة المرض
والفقر، وزوَّدونا بالثقافة الغربية، فحمدنا لهم مساعيهم الجليلة، وأخذنا نطالب بأن تطول
إقامتهم بيننا. أليس القصد من نشر هذه الأكاذيب تهدئة خواطر الأحرار داخل جزيرتهم
وخارجها؟ ثم ألا تراهم يشلُّون تقدمنا الاقتصادي بتحويل القسط الأكبر من إيراداتنا إلى
صندوق الدَّين، وبإغراق أسواقنا بالبضائع الأوروبية التي بوَّرت صناعتنا، ويتوسَّلون
بذلك إلى
نشر العجز والعوز والتواكل بيننا، فلا نستطيع الفكاك منهم»؟ … إلخ.
٥٢
كانت إثارة النعرات الطائفية في مقدمة وسائل السلطات البريطانية لإيقاف المد الثوري،
ونشر قرياقص ميخائيل — ممثلًا مزعومًا للصحافة القبطية — ٢١ مقالة في الصحف الإنجليزية،
ودفعت الحكومة بعض الكُتاب الأقباط للإشادة بالاحتلال، والتنويه بمناقبه وخدماته، مثل
رمزي تادرس الذي كتب يقول عن الثورة العرابية إنها قد أدت إلى «الاحتلال الإنجليزي الذي
وُطِّد الآن في مصر، وأحيا فيها العدالة، وصيَّرها أمة متعلمة متحضرة غنية، بعد أن كانت
تهيم
في دياجي الفقر والجهل والفوضى وسوء النظام.»
٥٣ وكتب الشاعر نصر لوزا عن جيش الاحتلال:
هو ساهر يحمي الكنانة
بينما سكانها في غبطة نوام
٥٤
الأخطر أن بعض تلك الصحف أعلنت معاداتها — صراحة — للمطالب الوطنية، وقصرت اهتمامها
على تناول مشكلات القبط، على أن مصر هي بلدهم، وأنهم أمة مستقلة، ينبغي أن يكون لها
كيانها المستقل.
في الاتجاه نفسه، ذهب عدد من الأقباط إلى دار المعتمد البريطاني — بتأييد من الرجل
نفسه — للمطالبة بحمايتهم من اضطهاد الحزب الوطني، وأُجريت الاستعدادات لعقد المؤتمر
القبطي احتجاجًا على اغتيال بطرس غالي، مع ملاحظة أن فكرة المؤتمر كانت مطروحة قبل مقتل
الرجل، وكان بطرس غالي — شخصيًّا — ضد الفكرة.
وحين اتهم اللورد كرومر المصريين بالتعصب الديني وعداوة الأجانب، جمع الشيخ علي يوسف
نماذج الآراء التي تدفع التهمة عن كل صاحب صفة ترشحه لإبداء الرأي فيها. قال الخواجة
ميماركي اليوناني: «أشهد أنني ما شعرت قَط في معاملاتي مع المصريين بأنني أعامل أناسًا
يخالفونني في العقيدة.» وقال الفرنسي وكيل مصرف الكريدي ليونيه الفرنسي: «إننا لا نشعر
بهذا التعصب الذي اتُّهمت به الأمة المصرية، اللهم إلا إذا كان التعصب موجودًا في غير
الدائرة التي إليها معاملاتنا.» وقال شكور باشا الإداري اللبناني: «إنني أفضِّل أن أمشي
وحدي ليلًا في جهات السيدة زينب والنحاسين، على أن أمشي وحدي ليلًا في جهات مونمارتر
بضواحي باريس.» وقال إسكندر عمون المحامي: «إن المصري أكثر إكرامًا للغريب من سائر
الشعوب.» وقال باسيلي تادرس باشا: «لا صحة لما يقال من وجود التعصب الديني أو الجنسي
في
مصر.»
٥٥
•••
ولا شك أن الأرقام تنفي المزاعم الإنجليزية، مقابلًا لتثبيت الحقائق من وجهة النظر
المصرية، ففي تعداد ١٩٢٧م كانت النسبة بين المسلمين والأقباط هي ١٤: واحد.
٥٦ وفي عام ١٩١٢م كان الأقباط يملكون خُمس ثروة مصر من الأراضي الزراعية
والمباني، ونحو ٣٠٠ ألف بيت، فضلًا عن مئات الألوف من الجنيهات في البنوك.
٥٧
وقبل إعلان دستور ١٩٢٣م كانت نسبة الأقباط في وظائف الحكومة حوالي ٣٠٪، فلما تكوَّنت
أول
وزارة وطنية برئاسة سعد زغلول لم تحدث أية محاولة لتعديل هذه النسبة.
٥٨ وإن ظلت شكوى الموظفين الأقباط أن الأغلبية المطلقة من موظفي قنا وأسوان من
الأقباط.
٥٩
وكان سعد زغلول هو أول وزير أقدم على تعيين نظار للمدارس الأميرية من
الأقباط.
٦٠ وكانت العادة قد جرت — قبل تشكيل وزارة سعد زغلول الأولى — أن يكون في
الوزارة عضو قبطي، لكن سعد زغلول جعل في الوزارة عضوَين قبطيَّين. وكان عدد أعضاء الوزارة
عشرة، فأصبح للأقباط عشرون في المائة من حقائب الوزارة، مع أن نسبة الأقباط إلى مجموع
المصريين كانت حوالي ٤٪. كما أصبح الأقباط — أحيانًا — أغلبية في قيادة الوفد، وفي
أعقاب خروج عدلي وأنصاره، ذهب مكرم عبيد إلى سعد زغلول، وأشار إلى تلك الظاهرة، فقال
سعد زغلول: إني لا أعرفك أنت ولا إخوانك كأقباط، بل أنتم مصريون وكفى!
٦١ من هنا تأتي دلالة الكلمات التي قالها مكرم عبيد في خِطاب له أمام شباب شبرا
في ١٩ يوليو ١٩٢٣م: «إن كل المصريين أقباطًا ومسلمين هم إخوة، لأن أمهم مصر وأباهم سعد
زغلول.» وقد ظلَّت زعامة الوفد — بعد وفاة سعد زغلول عام ١٩٢٧م — لاثنين هما مصطفى النحاس
المسلم ومكرم عبيد القبطي، حتى انفرط ذلك الرمز للوحدة الوطنية إبان الحرب العالمية
الثانية.
•••
لاحظت قيادات الأقباط أن الزعماء الثلاثة الذين ذهبوا إلى دار الحماية في ١٣ نوفمبر
١٩١٨م للمطالبة بالاستقلال، لم يكن من بينهم قبطي، فانتدبوا وفدًا قابل سعد زغلول ليعلن
رغبة الأقباط في المشاركة. واختاروا من بينهم بالفعل ثلاثيًّا هم: سينوت حنا، واصف بطرس
غالي، جورج خياط، وأقسموا يمين الولاء لمبادئ الوفد. وكان ذلك بداية الاشتراك الفعلي
للأقباط في أحداث ثورة ١٩١٩م، وظهور الائتلاف الطائفي كأوضح ما يكون. وحين حاول يوسف
سعد
اغتيال يوسف وهبة رئيس وزراء ما قبل ثورة ١٩١٩م، فإنه حرص على أن يضمِّن ديانته كل
الاعترافات التي أدلى بها، حتى لا يستغل ما حدث في إثارة فتنة طائفية. ويلحظ الرجل أن
الناس — قبل ١٩١٩م — كانوا يهتفون: الله ينصر أمة المسلمين، ثم أصبحوا يهتفون في الثورة:
نموت نموت ويحيا الوطن.
٦٢ ويروي الفنان أن الناظر إلى شوارع القاهرة أيام ثورة ١٩١٩م، كان يرى الأعلام
المصرية ترفرف، وقد رُسم فيها الهلال يحتضن الصليب؛ أدركت مصر — في لحظة — أن الهلال
والصليب ذراعان في جسد واحد، له قلب واحد: مصر.
٦٣
•••
كانت نغمة الائتلاف بين الأقباط والمسلمين «أنشودة تلك الأيام».
٦٤ حتى ترنَّم بها المحامي شكري في نشيد له، ألقاه في الكنيسة صباح ذات يوم
«فإذا بالناس تموج موج يوم القيامة، وإذا بالشرر المقدس الوطني المتشفي السفَّاك يدفع
بالجموع دفعًا نحو الإنجليز.»
٦٥ وكانت أغلب اجتماعات النساء المصريات في أعوام الثورة، داخل الكنيسة
المرقسية، ويشارك فيها القبطيات والمسلمات. وحين أبدى الأفندي القبطي (عودة الروح)
استياءه لقول الشيخ في القطار عن أوروبا: «بلاد ما فيهاش إسلام» … تدخَّل أحد الركاب
مصححًا: «قصدك يا سي الشيخ بلاد ما فيهاش قلوب. مش زي بلدنا، سواء أقباط أو مسلمين …
كلنا إخوان.» ولاحظ راكب آخر ذلك، وكان من المتنورين، فدخل في الحديث، «وأخذ يستدرك
الكلام بكياسة حتى وصل إلى إفهام الحاضرين أن كلمة «إسلام» الشائع استعمالها وترديدها
في مصر بين بعض الأوساط، ليس لها في الحقيقة أي صبغة دينية أو طائفية، وإنما معناها
ومغزاها عاطفة الرحمة وطيبة القلب وارتباط الأفئدة، عواطف يجدها الإنسان في مصر، ولا
يجدها في أوروبا.»
٦٦ وكانت الثورة أرضية لقصة حب دافئة بين شكري المحامي المسلم ومريم الفتاة
القبطية (الضاحك الباكي). وحين تعرض عليه الهرب، فرارًا من مصير مؤلم يترصده، بسبب
النشيد الذي كان يمجِّد فيه الثورة، يهمس في أذنها: اتركي نشيدي، وتكلمي عن قلبك وعن
قلبي.
قالت: دع الحديث عنهما للمستقبل.
– إنك قبطية.
– ماذا تعني؟
– إنني مسلم.
– لم أفهم شيئًا.
– هل يمكن أن نلتقي؟
– بعد أن يستتب السلام … ولم لا؟
– لم تفهميني، هل يمكن أن نلتقي تحت ظل عقد مقدس!
انتفضت الفتاة وقد تورد خدَّاها، فتجلى القبطي، وامتزجت خمرة اللون بضعف الخفر، فكانت
سحرًا، وسحرًا حلالًا.
وتمتمت قائلة: شكري.
قال: نعم يا مريم.
– النشيد!
– بل القلب!
– أعد السؤال.
– هل يمكن أن نلتقي تحت ظل عقد مقدس؟
– عندي الجواب، ولكني …
– ماذا؟
– خجول.
– إذن لن أهرب!
…
قالت: الدين هو القلب.
– أتسمحين إذن بقبلة؟
– هاكها.
وقبَّلها الفتى قبلة الطهر، قُبلة جبانة خجولًا مترددة نزقة، لم تستغرق ربع
ثانية!
٦٧ وفي «عودة الروح» «كان الناظر إلى القاهرة وشوارعها في أثناء ذلك الوقت يرى
منظرًا عجيبًا، في وسط المظاهرات والهتافات كانت ترفرف الأعلام المصرية، وقد رُسم فيها
الهلال يحتضن الصليب؛ ذلك أن مصر أدركت — في لحظة — أن الهلال والصليب ذراعان في جسد
واحد له قلب واحد: مصر.»
٦٨ ثمة تأكيد لتلك الوحدة بين عنصرَي الأمة في شخص ميخائيل أفندي والشيخ علي
المدرسَين بالمدرسة الخديوية، فهما يشجعان الطلبة من قلبيهما على مزاولة العمل الوطني،
ومقاومة ضابط المدرسة عميل الإنجليز، أو «بردعة الإنجليز» كما كان الطلبة
يصفونه.
٦٩ وقد ساعد نشوء الأحزاب، وتعدُّدها، على استمرارية شحوب العنصرية الدينية. ندر
السؤال عن الدين الذي يعتنقه الشخص، ليحل محله السؤال عن الحزب الذي ينتمي إليه. وكان
من بين بواعث الائتلاف أيضًا، ظروف الحرب العالمية الأولى، والتأثيرات السلبية التي
أصابت كل المصريين. ويبين ذلك كله في شحوب — أو اختفاء — مشكلة الطائفية في الأعمال
الأدبية التي صدرت بعد أحداث ثورة ١٩١٩م، أو عرضت لتلك الأحداث. فليس ثمة إلا قصة «جنازة»
لنقولا يوسف التي تجري حوارًا بين نشالين، يتصوران انتسابهما إلى الإسلام. يعلقان على
جنازة مؤلَّفة من عربة موتى، يجرُّها الخيل، ويتبعها صفٌّ طويل من السيارات «وليه بيجروا
كده؟
عشان يوصلوه لجنهم بسرعة … معك حق، على جهنم حدف، دا كفر … أيوه، جهنم، والعياذ بالله
…
الحمد لله، احنا مش كفرة … الجنة لنا، الحمد لله.»
٧٠ وثمة كلمات رياض قلدس (السكرية) المحذِّرة، المشفِقة، إلى كمال عبد الجواد
خوفًا على الأقباط، وإن ظل الوفد — في تقديره — حزب الوطنية الخالصة، التي تجعل من مصر
وطنًا حرًّا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم، وكان يرى أن الأقباط جميعًا
وفديون.
٧١
•••
ويرمز عيسى عبيد إلى خصومة المسلمين والمسيحيين قبل نشوب الثورة، بتلك العداوة
القديمة التي ولَّدتها المنافسة بين المعلم مسيحة والشيخ عبد ربه. أخفق عقلاء الحي في
أن
يصلحوا بينهما، خوفًا من أن ينسب الإنجليز ذلك إلى التعصب الديني، لكنهم كانوا «يصطدمون
بقوة عنادهما الغبي، وما وضعاه شرطًا لصلحهما.»
٧٢ كان المعلم مسيحة يصر على أن ينقل الشيخ عبد ربه دكانه، حتى لا يأخذ منه
عملاءه، وكان الشيخ عبد ربه يرى الشرط نفسه. فإذا قامت الثورة تعانق الشيخ عبد ربه
والمعلم مسيحة. ويقول عبد ربه: «نحن إخوة يا معلم مسيحة، لا يحق لنا أن نتشاجر.» فقبَّله
مسيحة، وضمَّه إلى صدره «كأنه يعانق أخًا له لم يره منذ سنين عديدة.»
٧٣ واجتمع حولهما جمع غفير يصفق لهذه العواطف الوطنية المتجلية بأبهى
مظاهرها، والمثيرة في النفس نشوة طرب وإعجاب، وكان القوم يهتفون بكل ما فيهم من قوة:
يحيا الاتحاد!
٧٤ وانتشرت بين الشباب — زمن الثورة — موضة رباط العنق الأخضر، المزيَّن بالهلال
والنجوم، وتعانق المسلمون والأقباط، وخطب القسس في المساجد، والشيوخ في الكنائس. وكان
قليني فهمي باشا — من الزعامات المصرية القبطية — أحد المساهمين في جريدتي الحزب
الوطني، مما ينفي تعصب الحزب. أما ميخائيل أفندي والشيخ علي، فهما تجسيد لامتدادات
الائتلاف الطائفي الذي شهدته ثورة ١٩١٩م. كان الرجلان وراء كل الإضرابات، ومظاهرات
الطلبة. فإذا تعرض طالب للمؤاخذة، تشفَّع له المدرسان حتى يعفو الناظر عنه. وعلى الرغم
من
نقل الشيخ علي إلى مدرسة أولية في قنا، وميخائيل أفندي إلى مدرسة ابتدائية في أسوان؛
فإن الرجلين لم يتحوَّلا عن موقفهما الوطني. وكانت عشرة الأسرتين، المسلمة والمسيحية
(رأسان في الحلال) مضرب المثل، ففي أعياد كل من الأسرتين كانتا تتبادلان هدايا النقل
والكعك والغربية.
٧٥ وفي المناسبات الدينية بعامة يتبادل المسلمون والأقباط ألوان الطعام: أطباق
العاشوراء في العاشر من المحرم والكعك والبسكويت والغريبة والقراقيش في أعياد القيامة
والأضحى والميلاد والفطر.
٧٦ وكانت الست وهيبة (ترابها زعفران) صديقة أم الراوي القبطي، تقول لها إن
النبي محمد
ﷺ أوصى المسلمين بالقبط، وإن عيسى هو نبي من عند الله مثل
موسى وإبراهيم، وكانت تحلف بالمسيح ابن الله الحي.
٧٧ ولعلنا نجد في الصداقة النادرة بين كمال عبد الجواد ورياض قلدس (السكرية)
تعبيرًا عن الائتلاف الطائفي — في أروع صوره — بين عنصرَي الأمة. يقول رياض قلدس: «عشت
حتى الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية، فمنذ البدء لقَّنتني أمي أن أحب الجميع. ثم شببت
في جو الثورة المطهِّر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.»
٧٨ إن وسيلة الدفن هي التي تكشف عن هوية المرء الدينية، وفي قصة محمد صدقي
«الحزن الذي لا يموت»، يُتوفى عم عريان صانع الحصر البلدية الذي كان بلا أهل ولا أقارب.
تجمَّع العمال من ورش الشارع، وعلت أصواتهم بالترحم واسم الله والجنة وحق الثواب في دفن
الغرباء، وتكفَّل الأسطى نبوي بنقله إلى بيته، ثم أسهم الجميع في نفقات المدفن، حتى واروا
الرجل التراب.
٧٩ وتُعَد قصة «العجوز والدنيا وأنا» تأكيدًا على علاقة التسامح والمحبة بين
المسلمين والمسيحيين، من خلال علاقة صداقة بين صبي مسلم وعجوز قبطي. قال العجوز — وقد
أحس بدنو أجله: ليشهد الرب يا ولدي … أنني أحببت في دنياكم ثلاثة: عايدة، وراقصة في طنطا
أعطتني حنانها في فترة كانت الدنيا فيها ضدي، ثم أنت يا ولدي. ودفع إليه بكيسٍ يضم كل
ما
كان يملك من نقود، وأوصاه بأن يصلي المطران على جثمانه، وتسير فرقته من الشمامسة أمام
جنازته، وما يتبقى من النقود فإن عليه أن يحتفظ به لأنه «ليس لي سواك من يرثني.» وحين
مات العجوز، وضعوا جثمانه في صندوق خشبي، رفض سمعان النجار أن يأخذ ثمنه «وخرجت البلدة
كلها تقريبًا وراء نعشه، ودفعنا بها إلى مقبرة من مقابر الصدقة. كانت المقبرة بلا شاهد،
وبلا سماء، لم يكن يتوسط سدتها سوى صليب خشبي صغير، فأخرجت مطواتي، وحفرت بها على
الصليب اسمه.»
٨٠ وفي حصة الدين، يقرأ التلاميذ القرآن معًا بصوتٍ عالٍ منغَّم،
بينما يحفظ التلاميذ الأقباط قانون الإيمان والوصايا العشر ومزامير داود وموعظة الجبل،
بالإضافة إلى قراءات في كتاب ديني يحمل أسئلته وأجوبته.
٨١ والدلالة لا تغيب حتى في اختلاط «أبانا الذي» بسورة «الكرسي» داخل الملاجئ عند
اشتداد الغارات الجوية.
٨٢ ويقول مجد الدين (لا أحد ينام في الإسكندرية) إنه «لا يوجد فلاح لا يعرف
الشهور القبطية ولا يتابعها.»
٨٣ وزيادة مياه النيل ونقصانه يعتبرهما المصريون ويحسبون أيامهما في شهر
القبط، وكذلك الزراعات، بذرها، وحصادها، والمسيحي، القبطي — في تعبير بعض المسلمين —
«عضمة زرقة»، مجرد تعبير، لكنهم لا يشعرون إذا جالسوه بأي كره له.
٨٤ وكان المعلم سلامة من تجار النحل في البلدة الجنوبية. يقول عنه المسلمون
إنه «عضمة زرقة»، لكنهم لا يشعرون — إذا جالسوه — بأي كره له «لا لأنه بحكم مهنته بعيد
عن المساقي ومشاجراتها، والحدود وخصوماتها، والمواشي تنزل في البرسيم، والماء يمر
بالقوة، بل لأنه — رغم ما يقال عن شيبته الزرقاء، أيضًا! لا يكاد يفترق في مظهره، في
أخلاقه وعاداته، عن بقية المسلمين؛ اللبس واحد، والعمامة فوق رأسه عليها المقدار ذاته
من التراب، تتحجب امرأته في الطريق كأهل البلد.»
٨٥ وفي أثناء الثورة، كانت المآذن في دير مواس تعلو بأصوات المؤذنين، وأبراج
الكنائس بقرع الأجراس، وأقسم الجميع على القرآن والإنجيل على أن يكونوا يدًا
واحدة.
٨٦ ويتحدث الراوي (ترابها زعفران) عن ليالي رمضان التي يسهر فيها العيال
الأقباط والمسلمون، يطوفون على البيوت، في أيديهم الفوانيس، يأخذون لقاء أغنياتهم
الساذجة ما يهيئه لهم أصحاب البيوت من النقود والمكسرات.
٨٧ كما يتحدث الراوي القبطي (الزمن الآخر) عن ترتيل الشيخ محمد رفعت الرخيم
الموجع العذب، في رمضان طفولته، وعن أذان الجامع الذي كان يطل على بيت عمَّته في شبرا،
وحلاوة المولد المتقطرة في فمه، ومواكب الصوفية، والذاكرين في موالد الأولياء، وغيرها
من الموروث الثقافي الإسلامي.
٨٨ ولا يخلو من دلالة، قول الراوي (فرعان من الصبار) إن نساء حارته من الأقباط
كن إذا حلفن بالمسيح الحي صدَّقتهن أمه، وإذا حلفت أمه بأشرف خلق الله محمد صدقها هؤلاء
النسوة تمامًا، وأمنوا على كلامها.
٨٩ وربما ينذر البعض من المسلمين لمار جرجس.
٩٠ وفي أعوام الحرب العالمية الثانية، كانت أسرة قلدس قلادة تترك شقتها — عند
حدوث الغارات — وتلجأ إلى الجامع المجاور للبيت «أحسن من المخبأ.»
٩١
النفس الحائرة
ماذا عن الشاب والفتاة المختلفي الديانة؟
قدم الفنان رواية «النفس الحائرة» بأنها تقصد عرض عادات وتقاليد وأخلاق، مع التنويه
بالحسن منها، والحض على التمسك به، فضلًا عن تدوين أساليب حياة الناس في هذا الوادي في
عجز القرن الماضي (التاسع عشر)، وصدر القرن الحاضر (العشرين).
٩٢
تبدأ أحداث الرواية في أكتوبر ١٨٩٦م، عندما ذهب رجب أفندي سمسار الدعاوى المعروف
في
القاهرة والأقاليم، إلى مكتب المحامي الشهير بول برتران في شارع بولاق (فؤاد الأول فيما
بعد).
٩٣ كان إبراهيم عبد الله شابًّا مسيحيًّا من أسرة معروفة في إحدى قرى كسروان
بلبنان. قدِم والده إلى مصر قبل الثورة العرابية لتعلُّم الطب في مدرسة قصر العيني، لأن
إبراهيم بن محمد علي كان قد خصص ثلاثة أماكن مجانية في المدرسة لثلاثة شبان من الموارنة،
تقديرًا لمساعدة الموارنة له عندما احتل سوريا في عهد الأمير بشير شهاب الثاني الكبير
أمير لبنان.
٩٤ عمل والد إبراهيم — قبل أن تفتح مدرسة الطب أبوابها — مع قريب له يتاجر في
القطن، بكفر الزيات. فلما تبيَّن له أن العمل سهل، والربح وفير، فضَّل الاستمرار فيه
على
تعلُّم الطب، واستطاع أن يكوِّن ثروة، فتزوج، وساعد أهله في لبنان. لكن المضاربة في البورصة
ضيعت كل شيء، فغادر كفر الزيات إلى القاهرة مع زوجته وابنه إبراهيم، واضطر الابن إلى
عدم استكمال تعليمه، والالتحاق بمكتب المحامي بول برتران.
ذات يوم، قال رجب أفندي: «إن لديَّ عميلًا يرغب في مقاضاة أحد ذوي اليسار من أهل
بلده
أمام المحاكم المختلطة، ويريد أن يفوض المطالبة بحقوقه إلى محام أجنبي، لاعتقاده أن
المحامي الأجنبي يتسنى له ما لا يتسنى للمحامي المصري، بيد أنه يريد أن يكون وكيل
المحامي الأجنبي مسلمًا.»
٩٥ ولأن الرجل لم يجد محاميًا أوروبيًّا له وكيل مسلم، فقد وقع اختياره على
إبراهيم أفندي عبد الله، وكيل المكتب، شريطة أن يتظاهر بأنه مسلم. وفاجأ الرجل إبراهيم
بما لم يصدقه: أريد أن تغيِّر دينك، ورفض إبراهيم: لقد ولدت مسيحيًّا، وأعيش مسيحيًّا،
وأموت على دين المسيح.
٩٦
لم يكن المحامي هو من يطلب رجب أفندي، وإنما تحدث إلى وكيل المكتب إبراهيم أفندي عبد
الله. فاجأه بالقول: أريد أن تغير دينك! واستطرد للدهشة الواضحة في عيني إبراهيم: أريد
أن تتظاهر بأنك مسلم.
قال إبراهيم: لا، لا يا صديقي، هذا أمر لن يكون، لقد وُلدت مسيحيًّا، وأعيش مسيحيًّا،
وأموت على دين المسيح.
– عش مسيحيًّا، ومت — بعد عمر طويل — مسيحيًّا.
– أمرك غريب يا رجب، يلوح لي إنك تريد المباسطة والمزاح.
– لا، لا يا صاح، أصغِ إليَّ …
٩٧
وشرح رجب أفندي مطلبه، وهو أن لديه عميلًا يرغب في مقاضاة أحد الأثرياء من أهل بلده
أمام المحاكم المختلطة، ويريد أن يفوض المطالبة بحقوقه إلى محام أجنبي، تصورًا منه أن
المحامي الأجنبي يتسنى له ما لا يتسنى للمحامي المصري، لكنه يريد أن يكون وكيل المحامي
الأجنبي مسلمًا، وهو ما تعذر عليه.
كان إبراهيم عبد الله شابًّا مسيحيًّا من أسرة لبنانية معروفة، قدِم والده إلى مصر
قبل
الثورة العرابية لدراسة الطب في قصر العيني على نفقة الحكومة المصرية، التي حرصت على
تلك المنحة الدراسية منذ خصصها إبراهيم بن محمد علي تعبيرًا عن تقديره للموارنة الذين
ساعدوه عند احتلاله سوريا، في عهد الأمير شهاب الثاني الكبير أمير لبنان.
٩٨
وصل والد إبراهيم في أثناء إجازة الصيف، قصد قريبًا له تاجر قطن في كفر الزيات،
واشتغل معه حتى تفتح المدرسة أبوابها، فلما رأى أن العمل سهل، والربح طيب، أزمع
الاستمرار في العمل مع قريبه بدلًا من دراسة الطب. وأفلح — خلال بضع سنوات — في تكوين
ثروة، وسافر إلى لبنان، حيث تزوج هناك، وعاد إلى كفر الزيات ليمارس تجارة القطن، وفي
١٨٩٠م دخل مضاربة بأملٍ أن يجني ثروة يعود بها إلى لبنان، لكنه فقد في البورصة معظم
ثروته.
٩٩
لم يطق الرجل العيش في كفر الزيات، فانتقل مع أسرته إلى القاهرة، وعدل إبراهيم —
مرغمًا — عن استكمال دراسته، وعمل موظفًا في مكتب أحد المحامين، ثم انتقل في ١٨٩٦م إلى
خدمة المحامي بول بوتران، واستطاع — في مدى قصير — أن يكسب ثقة المحامي، مستفيدًا من
إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية، وحرصه على أداء العمل بصورة حسنة.
١٠٠
أجاد المحامي برتران دراسة القضية، وتقديم الأوراق والدفوع اللازمة، وإثبات حق موكله.
وأصدرت محكمة مصر المختلطة الابتدائية حكمها بردِّ الأرض إلى عبد الجواد بك، وأيدت محكمة
الاستئناف الحكم الابتدائي، فلم ييأس الخصوم، وإنما قدموا التماسًا لإعادة النظر في
الدعوى.
١٠١
استولى مصطفى باشا على أرض لعبد الجواد بك في أعقاب الثورة العرابية، وكان عبد الجواد
قد اختفى فرارًا من تهمة أملتها وشاية بأنه مالأ الثوار. وبعد أن استقامت الأمور، حاول
عبد الجواد أن يسترد أرضه المغتصبة، لكن مصطفى أجَّر الأرض إلى ثلاثة من اليونانيين،
لينقل الدعوى من المحاكم الأهلية إلى المحاكم المختلطة.
١٠٢
نحن نستطيع التعرف إلى مدى السيطرة الأجنبية، من خلال علاقات الأفراد، مثلنا الأوضح،
الباشا التركي الذي يستولي على قطعة أرض من المصري عبد الجواد بك، ويؤجرها لثلاثة من
اليونانيين، ولا يجد المصري محاميًا يدافع عن أرضه سوى المحامي الأوروبي.
شهداء المروءة
«شهداء المروءة، أو غضون ثورة ١٩١٩»، رواية لأحمد رشاد سلامة، يصفها الكاتب بأنها
«رواية
أخلاقية، وطنية، اجتماعية، مصرية.»
١١٣ إسكندر وسعاد، أحب كلٌّ منهما الآخر، وأزمعا الزواج، فلما واجهتهما التقاليد
ثارا عليها، ثم صدمهما الدين، فثارا عليه أيضًا. كان إبراهيم طالبًا بالجامعة، مات أبوه
تاركًا ثروة لا بأس بها، قُسِّمت بين إبراهيم وأخته سعاد وأمهما.
١١٤ عاد إبراهيم ذات يوم معصوب الجبين، سألته أمه عما أصابه، فقال: جرح بسيط
أصابني في أثناء نزولي من الترام.
١١٥ ثم أعلن الخادم — فيما بعد — حقيقة الأمر؛ لقد قاد إبراهيم مظاهرة، فأصيب
بضربة هراوة من شرطي. أراد إبراهيم أن يخرج في اليوم التالي، فحاولت أمه أن تمنعه، لكنه
أصر على أن يخرج إلى المظاهرات (ونتذكر الحوار بين فهمي عبد الجواد وأبيه حول اشتراكه
في مظاهرات الثورة). رفضت سعاد أن تناصر أمها على رغبتها في منع أخيها من الخروج؛ قالت:
«ليتني كنت رجلًا لأكون بجانبه جنديًّا ندافع عن الوطن بأرواحنا.»
١١٦ واتجهت سعاد بالحديث إلى أمها: إنه إذا كان ابنك، وأن لك عليه
حقوق.
١١٧ لكن الأم رفضت مبدأ التظاهر؛ كانت مؤمنة بأن رقي الوطن هدف ينبغي السعي
إليه، بدلًا من الصياح في الشوارع كالباعة المتجولين.
١١٨ واستطاع إبراهيم وسعاد — أخيرًا — إقناع أمهما بأن يخرج بحجة أن البوليس لا
بهاجم ببنادق، لكن بهراوات يهش بها ولا يضرب.
١١٩
لم تكن المعارك بين المتظاهرين وقوات الإنجليز، لكنها كانت بين المتظاهرين
والبوليس.
١٢٠ وكانت سعاد تُعنى بتطبيب الجرحى من المتظاهرين.
١٢١ سألت الشاب الجريح: ما اسمك؟
– إسكندر.
– إذن أنت مسيحي؟
– نعم.
– لا بأس، فإننا، وإن فرقت بيننا العقائد الدينية، فقد جمعت بيننا العقائد
الوطنية.
١٢٢
احتدمت الثورة، فواجهتها سلطات الاحتلال بعنف وقسوة، فتحت سعاد باب البيت لكي يفر
إليه بعض الشبان المتظاهرين، ومن بينهم شقيقها.
١٢٣
قال إسكندر لما طرح الحب بينه وبين سعاد توقعاته: ولكن ماذا، وأمامنا عقبة هي اختلاف
ديننا …
قالت سعاد: آه … اختلاف ديننا … وهل كنت تظن أن اختلاف الأديان يحُول بين القلوب،
وإذا
كانت الأديان تدعو إلى هذا، فقل لي بربك لأي من نحن نعبأ بها …
– ولكن الناس يستنكرون هذا.
– وماذا علينا من الناس؟ إن الزواج لأسمى مما يتصور هؤلاء الحمقى.
١٢٤
– ولكن رجال دينكم لا يقبلون عقد زواجنا … وكذلك الكهنة عندنا.
– رجال الدين … الكهنة … لعلك تعني أولئك الشيوخ وأصحاب الزقومة الزرقاء والرءوس
الصلعاء … وما الذي سيحملونه لأجل ربط ما بيننا برباط الزواج؟
– يحررون كتابة بذلك، ثم يقرءون شيئًا لا أعرفه، ويقول لي: أقبِلت بها، ويقول لك:
أقبِلت
بي، فأقول: نعم، وتقولين: نعم.
– هاها … وهل في الممكن أن أكون غير قابلة بك، أو غير قابل بي؟
١٢٥
ورأتهما الأم وهما يتعانقان، فصاحت في ابنتها: يا لك من فاجرة … أتلك هي الوطنية
التي
تدَّعينها، وهذه عاقبتها التي كنت تنتظرينها.
١٢٦ وانهالت عليهما الأم بعبارات التأنيب والتوبيخ.
أصرَّ إبراهيم — الذي لم يكن قد عرف ما حدث — على أن يظل إسكندر في البيت، لأنه كان
فقيرًا. ورفضت الأم — من ناحيتها — أن تصارحه بالسبب، وكان سعاد تخشى أن يعلم أخوها،
فيتصرف بما يؤذي الجميع.
١٢٧
عاد إبراهيم — ليلة — بجندي إنجليزي، فصاحت سعاد: اقتله يا إبراهيم.
– لا يا أختاه … لقد وجدته جريحًا، والرجولة تحتم عليَّ أن أفعل ما فعلت.
– ولكنه إنجليزي.
قامت سعاد بمداواة الجندي الإنجليزي، وبعد شفاء الجندي، كافأ إبراهيم بأن أطلق رصاصة
في صدره.
١٢٩ جاء إسكندر مسرعًا، فعاجله الإنجليزي برصاصة قاتلة، وخرج الجندي ويداه في
جيبَي بنطلونه كأنه لم يأت شيئًا.
١٣٠
لم يكتفِ الجندي الإنجليزي بقتل مَن أنقذه، لكنه أبلغ عن الأم وابنتها، وأنهما كانتا
تريدان اغتياله، وأكد «جون» — اسم الجندي — اتهامه في المحكمة.
– لقد كدت أموت، لولا أن مسدسي أحياني، وكم من مرة كانوا يريدون أن يقضوا عليَّ، لولا
أنهم كانوا ينتظرون حضور حشد من الثائرين.
وصدر حكم القاضي الإنجليزي بحبس الأم وابنتها سنتين!
١٣١
•••
لم تترك علاقة سعاد وإسكندر في رواية «شهداء المروءة» تأثيرات ما، لأن إسكندر لقي
مصرعه
برصاص الجندي الإنجليزي، وأودعت سعاد السجن. وثمة حب كان يتناقل سيرته أبناء التفتيش
(الحرام) بين صفوت والست لندة، وهو حب كان يحدُّه عدم وجود الفرصة، واختلاف
الدين.
١٣٢ وفي قصة «الدين» قتل الأهل ابنتهم، لأنها أرادت أن تتزوج شابًّا على غير
دينها.
١٣٣ وقد امتدت صداقة الرجلين مرقص أفندي عبد الملك الموظف بحسابات وزارة
المالية والشيخ سلطان عبد الصبور بالوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف (لقاء هناك)، امتدت
تلك الصداقة إلى طفليهما: إيفون بنت مرقص أفندي وعباس بن الشيخ سلطان. ثم تطورت صداقة
الطفلين البريئة اللاهية إلى شبه حب عفيف. وأمسكت إيفون بالفانوس تشارك عباس احتفاله
بشهر رمضان، وأمسك عباس بسعف النخيل يشاركها الاحتفال بأحد السعف، ولعبت إيفون الكرة،
وقفز عباس الحبل، وكبر الحب معهما، حتى يأمر مرقص أفندي ابنته بألا تغادر البيت إلا
للمدرسة التي تذهب إليها في عربة حنطور «ماذا جنيت أو جنى؟ لقد ولدتُ مسيحية، ووُلِد
مسلمًا، فأي ذنب اقترفت، وأي ذنب اقترف؟»
١٣٤ ويبتدع عباس الوسائل لمقابلتها. نقطة البداية في مأساة عباس وإيفون هي
التربية الدينية الصارمة التي أخذ بها الأب المستبد ابنه. ويقف عباس — رفضًا أو تحديًا
— في المقابل من وصايا أبيه، فيؤمن بالعلم وحده، ويرفض الإيمان الديني، وينزع عنه
الفنان — بعد إلحاده — كل الأثواب الأخلاقية، فهو يحوِّل حبه الطاهر لإيفون إلى علاقة
جسدية، ثم يتخلى — بنذالة — عنها. وبرغم اقترانه بقريبته ليلى التي كانت تحبه في صمت
طول الوقت، فإنه ظل مزعزع العقيدة الدينية، حتى تتعرض زوجه — لحظة ولادتها — لخطر الموت،
فيضرع إلى الله أن يُبقي حياة زوجته، لكن ليلى تصعد إلى السماء، بوعدٍ أن يلتقيا هناك.
وقد أحب ابن الشيخ مهران (أطفال الله) ذو المكانة الدينية العريقة، ابنة أخت القس
إبراهيم كبير قساوسة مدينة أخميم، ولم يكن أحد يرى في ذلك غضاضة، فالبيوت متجاورة، هذا
على واجهته الهلال، وهذا على واجهته الصليب، ودكان المسيحي بجوار دكان المسلم، وغيطه
يلاصق غيطه، وعياله مع عياله، والنساء أمهات الجميع، ونصارى البلدة يقبِّلون أيدي الشيوخ
والأئمة، ومسلموها ينادون بلقب «أبونا» كل قساوستها.
١٣٥ أما أحمد حمدي ابن السيدة زينب (غادة حمانا) فقد عانى رفض أمه أن يقترن
بسلمى المسيحية، لأنها — على حد تعبير أمه — «ستنجِّس» البيت المسلم! ثم رضخت الأم —
أخيرًا — إزاء إصراره، وكان أحمد حمدي قد وافق أن تظل زوجه على دينها، تحيي شعائره كما
تشاء.
١٣٦