استقلال وتحفظات
إذا كان سعد زغلول قد غاب عن أحداث «بين القصرين» — الجزء الأول من الثلاثية — الذي
بدأ
خيطه السياسي في صبيحة طلب الاستقلال، وانتهى في مظاهرات الفرحة بالإفراج عنه، فإننا
نلتقط الخيط السياسي في «قصر الشوق» في إبحار سعد زغلول من الإسكندرية إلى باريس، ومنها
إلى لندن، للتفاوض مع ماكدونالد في الاستقلال، وتتفجر الخلافات بين سعد زغلول من ناحية،
وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت من ناحية أخرى، ويلقى السردار ليواجه سعد زغلول بالمطالب
الإنجليزية التي ترغمه على الاستقالة، قبل أن يعود الائتلاف، ويتولى عدلي يكن رئاسة
الوزارة، بينما يكتفي سعد زغلول برئاسة مجلس النواب، ونخلي طرف النهاية في صياح باعة
الصحف في الشوارع وهم ينادون على ملحق المقطم الذي يعلن وفاة سعد زغلول.
ولعل أول ما يأخذنا في «قصر الشوق» — والثلاثية بعامة — أن الفنان عرض لنا مقدمات
ثورة
١٩١٩م، مقدماتها، وأحداثها، ونتائجها، من وجهة نظر وفدية خالصة، أو لعلها وجهة نظر تشي
بإجلالٍ وتقديسٍ عميقَين لسعد زغلول دون سواه من
زعماء الثورة، بل إن أحاديث شخصيات «بين القصرين» كانت كلها تدور حول اعتقال سعد زغلول
وحده، دون التفاتة إلى بقية مَن اعتقلوا مِن الزعماء، اللهم فيما عدا ياسين الذي يقول:
من
حسن الحظ أن الباسل باشا بين المنفيين، إنه شيخ قبيلة مرهوبة الجانب، ولا أظن رجاله
يسكتون على نفيه. فيعلو صوت فهمي قائلًا: والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضًا؟! إنها ليست
قضية نبيلة، ولكنها قضية الأمة كلها. ثم تختلط الأحداث والشخصيات والمواقف، لتعزف لحنًا
واحدًا، نبضه زعامة سعد زغلول التي تجب كل الزعامات. يقول محمد عفت لأحمد عبد الجواد:
ولكن سعد أثبت دائمًا أنه جدير بإعجاب المعجبين، أما حركته الأخيرة فهي خليقة بأن تحمله
من القلوب في أعز مكان. ويقول أحمد عبد الجواد لأصدقائه: إنما ثار سعد لإسعاد المصريين
لا لتعذيبهم، فلا تخجلوا عند الحزن عليه من معاقرة الشراب! حتى دروس الإملاء التي كان
يلقيها فهمي على كمال، بات يختارها من خطب سعد زغلول. ويسأل محمد عفت صديقه: هل جاءتك
أنباء المؤتمر الذي احتشد في بيت محمد محمود؟ عشنا وشفنا مرة أخرى سعد وعدلي وثروت في
جبهة واحدة، فيتمتم أحمد عبد الجواد قائلًا: ربنا من حكمته أن يقبل التوبة.
– إني لا أثق في هؤلاء الكلاب.
– ولا أنا … ولكن ما العمل؟ الملك فؤاد طيِّنها، ومن المحزن أن المعركة لم تعُد بيننا
وبين الإنجليز.
ويقول إسماعيل لطيف — مخاطبًا حسين شداد وهو يشير إلى كمال: صاحبك غير راضٍ عن
الائتلاف، عزَّ عليه أن يضع يده في يد الخونة، وعزَّ عليه أن يتحاشى الاصطدام بالإنجليز،
فينزل عن الوزارة إلى خصمه القديم عدلي، وهكذا تجده أشد تطرفًا من زعيمه المقدس نفسه!
أما حسين شداد وحسن سليم — وقد حاول الفنان أن يعبِّر من خلالهما عن وجهة النظر المقابلة
— فأولهما — حسين شداد — أرستقراطي، يستهويه حديث الشعر والخيال والسياحة، أضعاف ما
يستهويه حديث السياسة والوطنية. السياسة — في رأيه — تفسد الفكر والقلب، ينبغي أن يعلو
الإنسان عليها، حتى تتراءى له الحياة ميدانًا لا نهائيًّا للحكمة والجمال والتسامح، لا
معترك صراع وكيد. أما تفضيله لعدلي على سعد — رغم عدم إيمانه بكليهما — فلأن عدلي يمتاز
بكريم أصله، وعظيم جاهه وثقافته. أما سعد «فما هو إلا أزهري قديم»، وثانيهما — حسن سليم
— أرستقراطي آخر، يعتبر سعد زغلول مهرجًا شعبيًّا، ليست الوطنية عنده إلا نوع من
البلاغة التي تستهوي العامة، وأنه يأبى أن يقوم في مصر من يتكلم باسمها غيره، ولو كان
خير الرجال وأحكمهم.
١
وفي المقابل، فقد كان عدلي وثروت ومحمد محمود وغيرهم من قيادات الأحرار الدستوريين
—
في نظر كمال عبد الجواد — مجرد خونة أو إنجليز مطربشين!
٢ يقول لحسن سليم: أنت لا تهمك السياسة في شيء، لكن مزاجك يفصح أحيانًا عن
موقف فئة من المتمصرين المحسوبين على المصريين، كأنك ناطق بلسانهم، تراهم يائسين من
نهوض الوطن، يأس الاحتقار والتعالي، لا يأس الطموح والتطرف، ولولا أن السياسة مطية
لأطماعهم لاعتزلوها كما تفعل أنت. وعندما حدث الشقاق بين سعد وعدلي، تشاور أحمد
المراكيبي (حديث الصباح والمساء) وشقيقه محمود فيما ينبغي فعله، قال محمود: انقضت فترة
العواطف وجاءت فترة العقل. قال أحمد: الأرض كلها مع سعد.
– نكون حيث تكون مصلحتنا.
– لا يغرنَّك الهتاف، الإنجليز هم القوة الحقيقية. عدلي يوفر الأمان الدائم. هناك
سلطة
شرعية هي الوسيلة الباقية بين الإنجليز، وهي العرش؛ فليكن ولاؤنا للملك!
٣ أما عفت (حديث الصباح والمساء) فتقول لزوجها: لا وجه للمقارنة بين عدلي
باشا النبيل وبين زعيمك الأزهري.
٤
والحق أننا لا ندري: لماذا كان سعد زغلول وطنيًّا؟ ولماذا وصم عدلي وثروت
بالخيانة؟
ربما نجد في التفسيرات التاريخية الموضوعية تأييدًا لذلك، لكننا نفتقده عبر صفحات
الثلاثية، إنما هو حوار يمتد ويتشابك ويتصل، فيتبادله أصدقاء كمال عبد الجواد في قصر
شداد، وسمار الليالي في عوامة النيل، ونساء الأسرة في جلسة العصر الهادئة … سعد المهرج
الشعبي والأزهري القديم الذي يستهوي الناس ببلاغة كاذبة، هو الاتهام الذي يوجهه خصوم
سعد
— في الثلاثية — إليه. أما ثروت وعدلي، فهما يواجهان تهمة الخيانة، ومن ثَم، فالشعب يهتف
بسقوطهما ليل نهار. بل إن خديجة — تلك التي لا تفقه من أمر السياسة شيئًا، تدعو لولديها
أن يصبحا مثل سعد زغلول. ويقول لها ياسين متهكمًا: هلا قنعت بأن يكونا مثل عدلي أو
ثروت؟ فتصيح كالمستعيذة بالله: الخونة؟ لن يكونا من الذين يهتف الناس بسقوطهم ليل
نهار!
وربما لم تكن المواقف التي يستشفها القارئ في أعمال نجيب محفوظ — كما يقول رجاء
النقاش — تعود إلى التزام الفنان بمذهب سياسي «لأنه ليس من أصحاب المذاهب السياسية التي
يكتب أصحابها بوحي منها، وتطبيقًا لها»، وإن كانت الاشتراكية هي الأمل الذي أعلن —
يومًا — أنه يحلم بتحقيقه، لكنني أسمح لنفسي بأن أضغط على تعاطف الفنان مع الحزبية
الوفدية، ومع شخصية سعد زغلول بالذات، ذلك التعاطف الذي ورثه كمال عبد الجواد — أقرب
شخوص الثلاثية إلى نفس الفنان، بل لعلها الفنان ذاته كما قال ذلك مرة — عن شقيقه الأكبر
فهمي. وقد قرعت يدا كمال أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى التي تحدَّت الملك هاتفة: سعد
أو الثورة! فتراجع الملك، واستقال سعد من الوزارة.
إن أول ما يطالعنا في «بين القصرين» أن الفنان عرض مقدمات الثورة وأحداثها ونتائجها،
من
جهة نظر «وفدية» خالصة، أو لعلها تشي بإجلالٍ وتقديس عميقين لسعد زغلول، دون سواه من
زعماء الثورة. بل إن أحاديث شخصيات الرواية، كانت كلها تدور حول اعتقال سعد زغلول وحده،
دون التفاتة إلى بقية مَن اعتُقلوا مِن الزعماء. يقول حسن سليم: أمسى الرجل — الخديو
—
وعهده في ذمة التاريخ. الحاضر يمكن تلخيصه في كلمتين، وهما أن سعد يأبى أن يقوم في مصر
من يتكلم باسمها غيره، لو كان خير الرجال وأحكمهم. فيعلو صوت كمال عبد الجواد في تأكيد:
الحاضر في كلمة واحدة، أن ليس في مصر من تكلم باسمها إلا سعد، وإن التفاف الأمة حوله
جدير في النهاية بأن يبلغ بها ما ترجو من الآمال.
ذلك الالتزام الحزبي — إن جاز التعبير — هو ما يطالعنا في عرض التناقضات الحزبية بين
سعد وخصومه، على الرغم من التفوق الملحوظ الذي يخفي به الفنان أفكاره خلف شخوصه
الروائية، حتى لقد واجه الاتهام بأنه لا يعبِّر عن رأي محدد. وهو رأي خاطئ، لأن
الأيديولوجية السياسية لنجيب محفوظ هي الخلفية البانورامية لكل أعماله. من هنا، فقد كان
الأوفق للفنان — مع التسليم بحقه في التعاطف مع حزب بذاته، أو التزامه موقفًا معينًا
—
أن يعرض لنا كل وجهات النظر، ليحدد طبيعة الصراع السياسي وأبعاده.
كان سعد وعدلي وثروت وغيرهم من الزعماء، مجرد توقيت زمني لأحداث «الثلاثية»، فلم يكن
لهم أثر مباشر في الرواية جميعًا، لكن الرواية ذات نبض سياسي واضح، فقد لجأ الفنان —
مثلًا — إلى تقريرية مباشرة في عرض بعض التطورات السياسية، ولم تقف طبيعة العمل الفني
دون تضمينه منشورًا سريًّا في ثلاث صفحات، رفعه الوفد إلى السلطان. وما دام الأمر كذلك؛
فإن الفنان مطالَب بأن يتتبَّع أطوار الشخصية النفسية من خلال تشربها للصراعات الاجتماعية
والسياسية، ويضع القارئ أمام المحرك الحقيقي لهذه الصراعات، وأن يحيط بأبعاد الواقع
الاجتماعي والسياسي، بكل أطرافه المتصارعة.
•••
رفض الإنجليز الموافقة على طلب وزارة حسين رشدي — أثناء وجودها في الحكم — ورأت
الوزارة أن تستقيل — كما يروي إسماعيل صدقي في مذكراته — وظل الوفد يحاول السماح له
بالسفر، فلم يظفر بنتيجة. وتضامن مع الوفد المصري جميع الوزراء السابقين وسائر الرجال
ذوي الكفاية لإدارة البلاد، وامتنعوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة، وبقيت البلاد بلا
حكومة لفترة من الزمان.
٥
وبدأت الأزمة.
ظلت الاستقالة في قصر السلطان — دون أن يعلن قبولها — من ٢٢ ديسمبر ١٩١٨م إلى أول
مارس
١٩١٩م. وكان الرأي العام — والكلمات للرافعي — على استئناس من بقاء وزارة رشدي باشا في
الحكم، لأنها أظهرت رأيها في مشاركة الشعب شعوره، وتمكينه من رفع صوته في
المؤتمر.
٦ وتعدَّدت المحاولات لإقناع حسين رشدي بالعدول عن استقالته، فلم يقبل، فاتجهت
المحاولات نفسها إلى وزرائه لإقناع أحدهم بتولي رئاسة الوزارة، فلم يقبل منهم أحد.
وأخيرًا، وفي أول مارس ١٩١٩م، أعلن عن قبول استقالة وزارة حسين رشدي، وفي اليوم التالي
كتب أعضاء الوفد خِطابًا موجهًا إلى السلطان، ينعون عليه — باسم الشعب — قبول استقالة
رشدي وعدلي «لقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعًا عن الحرية عضد
قوي من نفحات عظمتكم. لذلك لم يكن يتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حلٍّ لمسألة سفر الوفد
قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا، وتمكينًا للعقبة التي
ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضا بحكم الأجنبي علينا إلى
الأبد.»
٧
كان قبول استقالة حسين رشدي، بداية مرحلة جديدة في مسار الأحداث، وإدراكًا من قيادة
الوفد بهذا المنعطف الخطير، فقد رفعت إلى السلطات مذكرة تبدي فيها دهشتها من قبول
استقالة رشدي باشا لا تسمح لمصري ذي كرامة ووطنية أن يخلفه في مركزه. وبعث الوفد
باحتجاجات إلى معتمدي الدول الأجنبية في القاهرة على العسف الذي تلقَاه الأماني المصرية
الوطنية من الحكومة البريطانية. وكان استدعاء الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية
في مصر بالنيابة، لرئيس الوفد وأعضائه للحضور إلى مركز القيادة، رد فعل طبيعيًّا من
سلطات الاحتلال.
•••
كان أول ما أقدم عليه سعد زغلول لتحقيق خطة الوفد، أنه اجتمع برئيس الوزراء حسين
رشدي، وأطلعه على تفصيلات ما ينوي الوفد القيام به، ومن بينها — بالطبع — تقديم الوفد
مطالب الجماهير المصرية إلى أعضاء مؤتمر الصلح. واتفق سعد ورشدي على كل الخطوات، وأعدَّا
— في الوقت نفسه — خطوات أخرى يصعب للسلطات البريطانية — سياسيًّا — أن ترفضها، من
بينها أن يطلب حسين رشدي — كرئيس للوزراء — التفاوض مع الحكومة البريطانية للجلاء عن
مصر. وقدم كلٌّ من سعد ورشدي طلبه في يوم واحد. وربما يبدو غريبًا أن يحصل رجلان في قمة
الجهازين التشريعي والتنفيذي — سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية، وحسين رشدي رئيس
الوزراء — على تصريح بالسفر إلى خارج البلاد.
لكن ذلك كان تكوينًا في الصورة لواقع المجتمع المصري منذ بداية الاحتلال، وبالذات
منذ
إعلان الحماية في ١٩١٤م. ولم يكن أي مواطن — مهما يبلغ مركزه — يستطيع أن يغادر البلاد
إلا بتصريح من الحاكم العسكري الإنجليزي. وبالفعل، فقد رُفِض الطلبان في يوم واحد هو
الثالث عشر من نوفمبر ١٩١٨م. وإذا كانت السلطات البريطانية قد استندت إلى دعامة دستورية
شكلية في رفض طلب «الوفد» وهي أن «أعضاءه لا يمثلون الأمة»، ومن ثَم فإن السفر ليس من
حقهم، فإنها قد واجهت الطلب الذي يتسم بالدستورية — وهي دستورية شكلية أيضًا — ذلك لأن
أحدًا في مصر — على حد تعبير نجيب محفوظ في «بين القصرين» — «لم يكن يرفع رأسه
آنذاك.»
٨ وكانت الحياة الدستورية تعاني محنة أليمة؛ فالجمعية التشريعية معطَّلة،
والمصادرة والاعتقال والسجن، إجراءات تُتخَذ لمجرد الشبهات. أقول: واجهت بريطانيا طلب
حسين رشدي بأن الموقف غير مناسب للسفر. ولم يشِر الرد البريطاني إلى الرفض، حتى لا يتأكد
إجهاض الحياة الدستورية. ولأن الهدف كان — في الدرجة الأولى — أن تصل وجهة النظر
المصرية، بصرف النظر عن قائلها، فقد أعلن سعد زغلول أنه لا يعارض فكرة سفر رشدي إلى
لندن، وأعلن رشدي — في المقابل — عن موافقته على فكرة سفر الوفد إلى مؤتمر الصلح.
كان في وسع سعد زغلول أن يمتنع عن الاتصال برئيس الوزراء الذي يعمل في ظل الاحتلال،
وفي ظل الرفض البريطاني لسماع أية وجهة نظر مصرية، وكان في استطاعته أن يشجب فكرة رئيس
الوزراء «العميل» بالسفر إلى لندن، وإلا فإن جورج الخامس سيتفاوض مع جورج الخامس. وهو
التعبير الذي استخدمه سعد زغلول — فيما بعد — في معاركه السياسية ضد عدلي يكن. لكن حسين
رشدي لم يكن جورج الخامس، ولم يكن عميلًا، إنه رئيس الوزراء الذي كان باستطاعة الوفد
أن
يلجأ إلى معونته.
وحتى يبطِل الوفد دعوى الإنجليز بأنه لا يمثِّل أحدًا، فقد اتجه إلى الشعب يجمع
التوكيلات المناصِرة له. وكان المفروض لرئيس الوزراء الذي يعمل ضد الحركة الوطنية، أن
يبذل جهدًا لإفشال عملية جمع التوكيلات، فهي الأرضية التي سيقف عليها سعد زغلول في
أحقيته للتفاوض ممثِّلًا للجماهير المصرية. لكن حسين رشدي أصدر تعليمات سرية إلى جميع
العمد أن يسهموا في عملية جمع التوكيلات، وقد ساعد ذلك — كما يقول الرافعي — «على
انتشار الحركة واتساع مداها.»
٩ يقول محمود عزمي إنه كان في أثناء عمله بجريدة «المحروسة» عام ١٩١٩م، أن
ثلاثة من الوزراء المصريين — أحدهم رشدي — كانوا يغذون الوفد المصري
بتقاريرهم.
١٠ أما أستاذنا الصحفي محمد نجيب، فهو يؤكد في ذكرياته أن حسين رشدي كان يغذي
الثورة في الخفاء، ويؤازرها، ويشعل وقودها.
١١ وقد صارح المندوب السامي البريطاني رئيس الوزراء المصري، بأن التعليمات
السرية لم تعد سرية، وطلب تفسيرًا لما يحدث. فقال رشدي في هدوء: إن الهيئة التي شكَّلت
للدفاع عن مطالب المصريين صاحبة حق ديمقراطي فيما ذهبت إليه! وتيقن السير وينجت —
المندوب السامي البريطاني — أن رئيس الوزراء الذي كان له مواقفه السياسية المشبوهة في
فترة الحرب العالمية الأولى قد أخذ موقف المناصِر للحركة الوطنية.
•••
كما أشرنا، ففي أعقاب الحرب، ذهب الوفد الثلاثي لمقابلة المعتمد البريطاني، وفي نية
أعضائه طلب «حق تقرير المصير لمصر والسودان؛ فإن أُجبنا إلى طلبنا كان ذلك ما ينبغي،
وإلا ذهب رشدي وعدلي إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية في تنظيم العلاقة بين مصر
وإنجلترا في حدود الحماية.»
١٢ وثمة محضر للمقابلة بين أعضاء الوفد والسير ريجلند وينجت، يحدد مطالب الوفد
في تنظيم الحماية.
كان يقين الشباب — عقب إعلان الحماية في بدايات الحرب العالمية الأولى — أن رئيس
الوزراء حسين رشدي «قبِل ذل الحماية البريطانية في مقابل ثلاثة ملايين من الجنيهات
الإنجليزية.»
١٣ والواقع أن حسين رشدي — في محاولة لتجنب سخط المصريين دون أن يواجه رفض
الإنجليز! — قدم مشروعًا حول حصول مصر على الاستقلال الذاتي، وتعديل القانون النظامي
الصادر في يوليو ١٩١٣م بتوسيع اختصاصات الجمعية التشريعية. حقيقة ذلك المشروع أن رشدي
طلب منح مصر قدرًا من الاستقلال في إطار الحكم الذاتي، وتعديل القانون النظامي القائم،
لقاء إعلان الحماية على مصر. كان المشروع — كما أشارت إليه صحف تلك الفترة — يتضمن وضع
نظام سياسي لمصر يوفِّق بين مصالح إنجلترا وآمال الشعب المصري في الاستقلال التام. حدد
رشدي قيودًا للاستقلال المطلوب، منها أن يكون لإنجلترا حق حماية قناة السويس، والمحافظة
على سلامة مصر، وحق مراقبة المالية المصرية بواسطة هيئة إنجليزية تحل محل صندوق الدَّين،
وحق الموافقة على القوانين المتعلقة بالأجانب، وعقد المعاهدات السياسية وغيرها من
المعاهدات التي يكون طرفها المقابل دولًا أجنبية، على أن يعدَّل القانون النظامي القائم
بجعل رأي الجمعية التشريعية نهائيًّا في العديد من الأمور، بعد أن كان يقتصر على
المشورة وإبداء الرغبات.
١٤ وقد عرض حسين رشدي أفكاره على سعد زغلول الذي وجدها غير وافية، وطالب بأن
تضاف إليها القوانين المدنية والجنائية الخاصة بالوطنيين، فلم يعارض رئيس الوزراء، وإن
أشار إلى تشدد الإنجليز.
١٥ وإدراكًا من حسين رشدي لصعوبة موقفه إذا انتهت الحرب دون نتائج فعلية
يقدمها لمواطنيه، فقد حاول أن يستميل الأمير حسين كامل إلى «مبادئه من محبة الاستقلال
النوعي للبلاد.»
١٦ وكان الأمير قد أعلن نيته — عقب توليه العرش — بالسفر إلى لندن — بعد
انتهاء الحرب — بهدف «تنظيم الحماية».
١٧
•••
كان قرار اللنبي بتعيين حسين رشدي رئيسًا للوزراء، عقب اندلاع الثورة، بناء على مذكرة
قدَّمها الوفد يأخذ فيه على السلطة العسكرية تصرفاتها العنيفة في مواجهة الثورة، وينصح
بتعيين حسين رشدي أو عدلي يكن أو عبد الخالق ثروت رئيسًا للوزراء، بالإضافة إلى الإفراج
عن سعد ورفاقه، وأفرج اللنبي عن المنفيين بعد شهر واحد من الاعتقال.
وقد ظلَّت البلاد بلا وزارة — لمدة شهر — بعد استقالة رشدي، ثم تألَّفت وزارة محمد
سعيد
باشا الذي أعلن أنه يرأس وزارة إدارية، لا تمت إلى السياسة بصلة، وإن كان من الواضح
أنها تألفت لمناهضة الثورة. وقد قوبلت وزارة محمد سعيد بالمظاهرات العدائية في القاهرة
والإسكندرية وبعض مدن الأقاليم. واعترف سعيد باشا بالعداء الشديد الذي واجهته وزارته
في
حديث أدلى به إلى صحيفة الطان الفرنسية — ٢١ يوليو ١٩١٩م: «إني لا أجهل الطعن الشديد
الموجَّه إلى وزارتي، فإنه لا يمر يوم إلا ويكون زملائي كما أكون أنا نفسي، موضع تهديدات
تُوجَّه إلينا مباشرة، ولا يخفاك أنه قد أُطلقَت في إحدى الليالي طلقات نارية على منافذ
منزلي، وكان الهياج من الشدة بحيث يستحيل أن يهدأ مرة واحدة، غير أني مع ذلك، ممتلئ ثقة
بوطنية المصريين وحكمتهم.»
١٨ وقد بلغ تحدي وزارة محمد سعيد لإرادة الشعب المصري ذروته، حين وقَّعت معاهدة
الصلح في فرساي في ٢٨ يونيو ١٩١٩م، فقد أعلنت الحكومة ابتهاجها بتوقيع المعاهدة، بتعطيل
الوزارات والمصالح، وإطلاق مائة مدفع ومدفع في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية وبورسعيد.
وفي الثاني من سبتمبر ١٩١٩م وقع اعتداء على محمد سعيد، بينما كان يستقل سيارته في طريقه
إلى مبنى الوزارة ببولكلي. ألقى عليه سيد محمد علي — من أبناء كفر الزيات — قنبلة،
بالقرب من محطة جاناكليس، فانفجرت القنبلة، لكنها لم تصِبه.
•••
لعل في مقدمة الأسباب التي دفعت إنجلترا إلى الإفراج عن سعد وصحبه — إلى جانب مهادنة
الثورة — يقينها من أن مؤتمر الصلح الذي كان الوفد يتجه إليه، سيقر الحماية الإنجليزية
على مصر. وفي اليوم نفسه الذي شهد الوفاة الروائية لطالب الحقوق فهمي عبد الجواد (بين
القصرين) تألفت وزارة حسين رشدي الرابعة. وبنى رشدي قبوله على أمل في «حل يرضي الأمة»،
لكن الأحداث الفعلية اتسعت، وتفاقمت، وراح العشرات من الشهداء ضحايا رصاص قوات
الإنجليز، وعاود الموظفون إضراباتهم بعد أن وضعوا شروطًا محددة، هي تصريح الوزارة بصفة
الوفد الرسمية، وتأكيد إلغاء الاعتراف بالحماية، وإلغاء الأحكام العرفية … ولكن رشدي
واجه هذه المطالب بإنذارٍ متشددٍ، دفع بقية طوائف الشعب إلى تأييدهم، وشارك الجميع في
الإضرابات، حتى كنَّاسو الشوارع. ولما أيقن رشدي من إخفاقه في إعادة الموظفين إلى
أعمالهم، قدم استقالته لاعتبارات صحية. ومن عجب — والكلام للرافعي — أنه على أثر تقديم
رشدي باشا استقالته يوم ٢١ أبريل، اجتمع عشرة من أعضاء لجنة الموظفين بصفة مستعجلة في
منتصف الليل. وقرروا عودة جميع الموظفين إلى العمل، لأنهم اعتبروا استقالة الوزارة
ترضية لهم، والتعليل الصحيح لذلك القرار «المستعجل» — في تقدير الرافعي — أن أعضاء لجنة
الموظفين العشرة علموا بأن الجنرال اللنبي قد أعد إنذارًا للموظفين بالعودة إلى
أعمالهم، وأن الإنذار سيُعلَن في اليوم التالي، فأصدروا قرارًا بالرجوع لا يستند إلى
إنذار
اللنبي.
١٩ وقد تلا قرار عودة الموظفين قرار آخر اتخذه المحامون بالعودة إلى أعمالهم،
كما عاد عمال المخابز، وعمال الترام في القاهرة ومصر الجديدة، عادوا جميعًا إلى أعمالهم
— ما عدا الطلبة الذين واصلوا الإضراب — باعتبار أن الوفد سيبدأ مهمته في الدفاع عن حق
البلاد في الاستقلال. وسافر المنفيون من مالطة إلى باريس مباشرة، على أن يلحق بهم بقية
أعضاء الوفد الذين كانوا في مصر. وقد اضطرت السلطات البريطانية إلى الموافقة على سفر
الوفد إلى باريس، بعد أن تعللت — لفترة — بقلة البواخر حتى تضيع على أفراده فرصة الحضور
أمام مؤتمر الصلح، أو الوصول إلى باريس أثناء انعقاده، ولكن الوفد فوَّت عليها خطتها
بتقديم التماس إلى السلطان يطلب الإذن له بالسفر على الباخرة «المحروسة». وأدرك
الإنجليز أن وصول الوفد إلى أوروبا على ظهر يخت السلطان سيخوله مظهرًا رسميًّا أمام
وفود المؤتمر، فاضطروا إلى تدبير الأماكن المطلوبة على الباخرة «كاليدونيا» بالإضافة
إلى ستة أماكن أخرى لمن يشاء السفر من خصوم الوفد.
وصل الوفد إلى باريس في ١٩ أبريل ١٩١٩م، يرافقه الأمل في الإفادة من مبدأ حق تقرير
المصير الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي ويلسون، صاحب المبادئ الشهيرة. وكما يقول الراوي
(عصفور من الشرق) فما أن وصل الوفد المصري إلى باريس، حتى وجد كل الأبواب موصدة في
وجهه، ولم تقبل أية جريدة أن تكتب سطرًا واحدًا عن مهمة الوفد، وكاد يفشل في
مهمته.
٢٠ وفي الثاني والعشرين من أبريل طلب سعد زغلول مقابلة الرئيس ويلسون، الذي كان
يشارك في جلسات مؤتمر الصلح. وكان الرد هو «اعتراف الرئيس الأمريكي بالحماية البريطانية
على مصر.» رئيس الجمهورية يعترف بالحماية البريطانية على القطر المصري، وهي الحماية
التي بسطتها حكومة جلالة الملك في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م. هذا وإن الرئيس باعترافه هذا: «يحفظ
بالضرورة لنفسه حق البحث — فيما بعد — في تفاصيل هذا الاعتراف، مع مسألة تعديل حقوق
الولايات المتحدة التعديل الذي يقتضيه هذا الأمر. وقد كلِّفت بهذا الصدد أن أقول إن رئيس
الجمهورية والشعب الأمريكي يعطفان كل العطف على أماني الشعب المصري المشروعة للحصول على
قسط آخر من الحكم الذاتي، ولكنهما ينظران بعين الأسف إلى كل مسعى لتحقيق هذه الأماني
بالالتجاء إلى العنف.»
٢١ ومثَّل ذلك الاعتراف مفاجأة قاسية لسعد زغلول ورفاقه، وصدمة هائلة بالتالي
لمشاعر الجماهير المصرية لا تقل عن صدمة الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا عام ١٩٠٤م،
وقد حاول الوفد إثارة حوار مع الرئيس الأمريكي لإقناعه بوجهة النظر المصرية، لكنه كان
قد أصم أذنيه تمامًا.
٢٢ كذلك أعلنت ألمانيا أنها تعترف «بالحماية التي أعلنتها بريطانيا العظمى على
مصر في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م، وتتنازل عن نظام الامتيازات الأجنبية في القطر المصري، ويكون
هذا التنازل اعتبارًا من ٤ أغسطس ١٩١٤م، وأن جميع المعاهدات أو الاتفاقات أو الترتيبات
أو العقود التي عقدتها ألمانيا مع مصر، تُعَد ملغاة اعتبارًا من ٤ أغسطس سنة ١٩١٤م،
بالإضافة إلى بنود أخرى، تضع كل السلطات في يد الحكومة البريطانية.
٢٣
وعلى الرغم من أن الوفد قدم طلبًا «باسم الشعب المصري من مؤتمر الصلح أن يسمح له
بتقديم مطالب البلاد طبقًا لقواعد الحق والعدالة التي هي قاعدة مفاوضات
المؤتمر.»
٢٤ فإن مؤتمر فرساي لم يكتفِ بإعلان اعتراف الدول المنتصِرة بالحماية البريطانية
على مصر، ولكنه «حتَّم على الدول المنهزمة أن تعترف بهذه الحماية. وكان قرار المؤتمر
—
كما قالت برقية الوفد المصري إلى مجلس الشيوخ الأمريكي — لا يحرم مصر حقَّها الطبيعي
الشرعي في الاستقلال فقط، بل يحرمها أيضًا الصفة السياسية التي تمتعت بها منذ سنة ١٨٤٠م،
والتي أطلقت يدها في إدارة شئونها الداخلية إطلاقًا تامًّا.»
٢٥
والحق أن موقف الحكومات الأمريكية من الأماني الوطنية المصرية اتسم — في توالي العهود
— بالرغبة في الاستلاب والسيطرة، وإنكار حق مصر في الاستقلال. توضح ذلك منذ بدأت
الولايات المتحدة في مجاوزة حدودها، والتطلُّع إلى العالم القديم، ثم قدوم البعثات
التبشيرية الأمريكية إلى مصر في عهد الوالي سعيد، فمحاولات الإسهام في الأنشطة
الاقتصادية والتجارية في إطار دبلوماسية الدولار التي كانت مبدأ أعلنه، وتبنَّاه، الرئيس
الأمريكي تافت. وكانت ذروة المواقف الأمريكية السلبية ضد مصر، تلك المحاضرة التي ألقاها
الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت في زيارته للجامعة المصرية الأهلية — ١٩١٠م — عندما حاول
إثارة النعرة الطائفية بالتحدث عن حادثة مقتل بطرس غالي. ثم تحدث عن صلاحية الشعب
المصري للحكم الديمقراطي في قوله: «إن مثل هذه الأمم تكون خطرًا على نفسها، لأنها لم
تنمُ فيها الصفات التي تمكِّنها من الانتفاع بالدستور، وإن الأمر الجوهري ليس هو الإسراع
للحصول على سلطة ليس أسهل من سوء استعمالها.» وحين سافر إلى لندن، فإنه طعن — ضمن
محاضرة أخرى — في أخلاق المصريين، ووصفهم بالتوحش. وأكد أن الإنجليز في مصر «ليسوا حراس
مصالحهم فقط، بل هم — فوق ذلك — حراس مرافق المدنية.» وعاب على الإنجليز أنهم «مكَّنوا
المصريين من التمتع بشيء من الحرية.»
٢٦ ومع أن المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي في أثناء الحرب
العالمية الأولى، كانت بصيص ضوء للحركة الوطنية المصرية في صراعها لنيل الاستقلال؛ فإن
الرئيس الأمريكي نفسه هو الذي أعلن اعترافه بالحماية البريطانية على مصر، بعد أن وضع
فيه المصريون آمالهم «ولو أن أعماله للآن — والكلمات لمحمد فريد في أوراقه — لم تطابق
أقواله، بل قد اضطرته الظروف لمحاربة فرنسا وإنجلترا في أمور كثيرة تخالف مبادئه
الأربعة عشر.»
٢٧ وتعدَّدت المواقف الأمريكية فيما بعد، وكلها تعادي الحقوق الوطنية المصرية،
والحقوق العربية بعامة، كتأييد الاستيطان الصهيوني لفلسطين، ومناصرة الاستعمار
البريطاني، والوقوف إلى جانب الامتيازات الأجنبية، وتكثيف نشاط الإرساليات التبشيرية،
ومحاولة استلاب ثروات مصر القديمة.
•••
امتد التأثير السلبي لاعتراف الرئيس الأمريكي ويلسن بالحماية البريطانية على مصر
على
مواقف أعضاء الوفد من المهمة التي سافروا لإنجازها. فقد رأى البعض وجوب العودة إلى
القاهرة في ظل الفشل المؤكد، والاقتصار على محاولة تحسين وضع مصر في إطار الحماية، وهو
ما يبين في مذكرات إسماعيل صدقي بأن الاستقبال جاء غير كريم «أشعرنا لأول وهلة بنذير
الفشل.»
٢٨ أما الآخرون — وفي مقدمتهم سعد زغلول — فقد رأوا أن إعلان انتهاء مهمة
الوفد سيحدث رد فعل سلبيًّا بين المصريين، وأصروا على بذل كل الجهود الممكنة لإنجاح
مهمة الوفد، وكانت هذه هي بداية الخلاف بين أعضاء الوفد الذي امتدت آثاره إلى عقود
تالية.
•••
والحق أن اعتراف ويلسون بالحماية البريطانية على مصر في أبريل ١٩١٩م، ثم قرارات مؤتمر
فرساي المؤكِّدة لذلك، مثَّلت منعطفًا جديدًا في مسار الثورة، فقد خرجت منها جماهير
الفلاحين التي كانت قد دخلت المعركة بكل ثقلها، فتبدَّى الطابع العنيف الذي اتسمت به
الثورة في مرحلتها الأولى. وتألَّفت اللجان الوطنية التي كانت مهمتها الحفاظ على النظام
أثناء المظاهرات، ومنع الاعتداء على ممتلكات الأجانب والمصريين، وترفع شعار «النضال
بالوسائل السلمية المشروعة»، وتدعو إلى الإذعان للقانون، فضلًا عن الاتصال بالجمعيات
والهيئات الدولية «لا ينبغي أن ننسى أن هناك قوة هائلة عالمية تشترك معنا في الدفاع عن
الحقوق، تلك هي هيئات المحامين في مختلف أرجاء العالم، فعلينا أن نستنجد بها، علينا أن
نخبرها بالبرقيات والرسائل أننا وكَّلناها للدفاع عن حقنا في بلادنا.»
٢٩
وعمومًا، فقد تخلصت الثورة من شوائب الانفعال تمامًا، ولم يقلل خروج الموظفين وعمال
العنابر والمحامين وغيرهم من الطوائف من سيرها الصاعد نحو تحقيق أهداف محددة. حتى رد
فعل الصدمة المترتبة على تصريحات ويلسون لم ينحرف بمسار الثورة، وظلَّت البلاد — برغم
الهدوء النسبي الذي ران عليها، متمثلًا في تحويل وكلاء الوزارات سلطة الوزارات بعد
استقالة وزارة رشدي وإصلاح السكك الحديدية وإعادة البريد وزيادة رواتب الموظفين
والإفراج عن بعض المعتقلين … إلخ — ظلت البلاد في حالة ثورة ممتدة، يعدها الرئيس حركة
طلابية نشطة، لم تفلح كل إغراءات اللنبي وتهديداته، في إثنائها عن الثورة.
أخيرًا، فقد كانت الثورة الشعبية الهائلة هي العنصر الحاسم والمؤكَّد في إعلان الحكومة
البريطانية طلب التفاوض مع الوفد المصري الموجود في باريس. إن كل النشاط السياسي الذي
قام به أعضاء الوفد من اللقاءات الشخصية بكبار الساسة العالميين، إلى تقديم المذكرات
وإلقاء البيانات لم يحل دون إعلان قرارات مؤتمر فرساي الذي أكد الحماية البريطانية على
مصر، بينما قاطعت الجماهير لجنة ملنر طوال وجودها في القاهرة. ونُظِّمت ضدها المظاهرات
الصاخبة، مما اضطر الحكومة البريطانية إلى التخلي عن إصرارها بأن الثورة ليست سوى «مضغة
تبغ تطفئها بصقة»!
•••
بدأت فكرة إيفاد لجنة إلى مصر للتحقق من أسباب الثورة في الشهر التالي لبدئها، أي
في
أبريل ١٩١٩م. فقد صرح المستر هارمسورث وكيل وزارة الخارجية البريطانية في مجلس العموم،
أن حكومته تجري تحقيقًا عن أسباب الحركة الثورة في مصر بأسرع ما يستطاع. وكان ذلك أول
إشارة رسمية إلى اللجنة. وكما يقول المارشال ويفل، فقد كانت لجنة التحقيق هذه هي
الوسيلة المحبَّبة لدى الحكومة البريطانية لحل المشكلات المعقدة سواء في الداخل أو الخارج،
وإن لها لمزايا واضحة، فهي تؤجل في الأقل مدة ما بهدف الانتهاء إلى قرار غير مرغوب فيه،
وقد أتاحت لهم — بالفعل — لجنة ملنر، والمفاوضات التي أعقبتها، فرصة للتنفس استمرت أكثر
من عامين، إلى جانب أنها تقدم لعدد من الموظفين الممتازين السابقين والحاليين، عملًا
مسليًا يشغلون به وقتهم، فضلًا عما تتركه من تقارير كثيرة، جديرة — في الأغلب —
بالقراءة لما تزخر به من معلومات قيمة وإحصاءات منظمة، وهي أخيرًا تشي بالأمل في أن
تسفر عن أعمالها عن حل عملي مقبول للمشكلة.
٣٠ وفي الخامس عشر من مايو ١٩١٩م أعلن اللورد كيرزون في مجلس اللوردات اعتزام
الحكمة إيفاد هذه اللجنة برئاسة اللورد ألفريد ملنر وزير المستعمرات آنذاك. وحدد اللورد
كيرزون مهمة اللجنة بأنها «تحقيق أسباب الاضطرابات التي حدثت أخيرًا في مصر، وتقديم
تقرير عن الحالة في تلك البلاد، وعن شكل القانون النظامي الذي يُعَد تحت الحماية خير
دستور لترقية أسباب السلام واليسر والرخاء فيها، وتوسيع نطاق الحكم الذاتي لها، توسيعًا
مطرد التقدم والرقي، وحماية المصالح الأجنبية.»
٣١ لكن مهمة اللجنة كانت — في الحقيقة — تأكيد الحماية، والحصول على اعتراف
المصريين بها، بعد أن أفلحوا في الحصول على الاعتراف الدولي، وهو ما أعلنته دار الحماية
في البيان الذي أصدرته (١٤/ ١١/ ١٩١٩م). وكان رأي المستر سبندر — أحد أعضاء اللجنة —
أن «المسألة ليست مسألة استقلال تام، وأن أكثر المصريين لا يدركون معنى الاستقلال التام
الذي يطلبونه، وأنه ليس بينهم اثنان يعرفان ماهية الاستقلال التام الذي يطالبون به، وأن
المسألة مسألة إصلاحات داخلية، وإنقاص عدد الموظفين الإنجليز، وإزالة أسباب الشكوى من
بعض مسائل إدارية، وغيرها.»
٣٢ وقد واجهت لجنة ملنر المتاعب قبل أن تبدأ مهمتها، فقد قوبلت برفضٍ عام من
الشعب المصري لتمسُّك الحكومة البريطانية بالحماية. وظلَّت اللجنة تؤجل حضورها، ثم بدأت
في
التمهيد لذلك في سبتمبر ١٩١٩م، حين صدرت الأوامر إلى المصالح والدواوين الحكومية بإعداد
التقارير التي يلزم أن تكون تحت أيدي أعضاء اللجنة، ثم أعلن في ٢٢ سبتمبر عن تأليف
اللجنة ليحدث رد فعل مباشر وفوري في مصر والإسكندرية على صورة مظاهرات صاخبة واحتجاجات
جادة في أعمدة الصحف. ولكن دار الحماية أعادت — في ١٤ نوفمبر ١٩١٩م — تأكيد قرب قدوم
لجنة ملنر، وحددت مهمتها بأنها «اقتراح النظام السياسي الذي يلائم مصر تحت
الحماية.»
٣٣ وكان الطبيعي أن يظل السخط الشعبي على حاله، بل ويزداد قوة وعنفًا، وتجددت
المظاهرات في القاهرة والأقاليم، وتُعَد استقالة وزارة محمد سعيد باشا في ١٥ نوفمبر ١٩١٩م
نتيجة مباشرة لها، ليكلف السلطان فؤاد يوسف وهبة باشا بتأليف وزارة جديدة. وتواصلت
المظاهرات، وتواصلت — في المقابل — حملات الاعتقال وحوادث إطلاق الرصاص على
المتظاهرين. ثم وصلت اللجنة أخيرًا إلى ميناء بورسعيد — السابع من ديسمبر ١٩١٩م —
واستقل أعضاؤها قطارًا خاصًّا إلى العاصمة، يتقدمه قطار كشاف لحراسته، فضلًا عن خمس
طائرات حربية، ولم يُعلَن عن وصول اللجنة إلا بعد أن وصلت إلى القاهرة فعلًا، وأقام
أعضاء اللجنة في فندق سميراميس تحت حراسة قوية.
واندلعت المظاهرات بصورة شبيهة لما حدث في الأيام الأولى من الثورة، وأضرب الطلبة
من
جديد، وأغلق التجار محالهم، واجتمعت السيدات المصريات بالكاتدرائية المرقسية ليصدرن
بيانًا يحتججن فيه على قدوم لجنة ملنر، وأرسلت لجنة السيدات التي تم تأليفها مذكرة إلى
اللورد ملنر تقول: «إن السيدات الموقعات على هذا، النائبات عن نساء مصر، يبلغكن إجابتهن
عن بلاغ اللجنة المعلَن في ٢٩ ديسمبر ١٩١٩م، وإننا متفقات مع مواطنينا على استحالة مفاوضة
لجنتكم الموقرة ما دامت لا تعترف قبل كل شيء باستقلال مصر.»
٣٤ وقرر الموظفون الإضراب يومًا واحدًا، وامتنع الفلاحون حتى عن بيع أي شيء من
بلادهم على أفراد اللجنة — برغم الأثمان المرتفعة التي عُرضَت عليهم — مما اضطر اللجنة
إلى تخصيص رفَّاص صغير لشراء ما تحتاجه من القاهرة. ويروي عبد الرحمن فهمي أن الفلاحين
رفضوا أن يبيعوا للجنة ما احتاجت إليه من السلع الضرورية، مثل البيض واللبن والدجاج
وغيرها، وظلوا على رفضهم أمام عروض رفع الأسعار، وكانت العبارة التي حرصوا على ترديدها:
اسأل سعد باشا زغلول.
٣٥ وكان الجواب التقليدي لكل فلاح يوجه إليه أفراد اللجنة سؤالًا: اسأل سعد
باشا زغلول، بل إنه حينما سُئل بعضهم عما كان يزرعه، أجاب بقوله: اسأل سعد باشا زغلول.
بل إن الفلاحين المصريين ظلوا — لفترة طويلة — يرفضون التحدث إلى أجنبي، خشية أن يكون
عضوًا في لجنة ملنر.
٣٦ ورافقت حركة المقاطعة إضرابات لطلبة المدارس والمعاهد الدينية والمحامين
الأهليين والشرعيين وطوائف المهنيين والحرفيين. وكما قالت جريدة «الأحرار» فقد أظهرت
الأمة كلها من العواطف الوطنية ما يشرف كل مصري ويرفع رأسه حتى في أعين أعدائه. ودخلت
حركة المقاطعة منعطفًا جديدًا يتسم بالعنف، منذ ٢٤ أكتوبر ١٩١٩م، فقد اندلعت المظاهرات
في معظم المدن المصرية، وحدثت صدامات بين المتظاهرين والقوات البريطانية، فضلًا عن
مساندات قوات الجيش والبوليس المصرية؛ وواجهت القوات البريطانية ذلك بقمعٍ شديد بلغ قمته
حين اقتحم الجنود الإنجليز جامع الأزهر لمطاردة المتظاهرين داخله.
حدد ملنر مهمة لجنته — ابتداء — بأنها «هي المحادثة معكم فيما ترغبون، فأنتم أحرار
في
أن تقولوا ما تريدون، وأن تطلبوا لا مجرد إلغاء الحماية فقط، بل وضع أيديكم على شيء من
أملاك الإنجليز، وكل ما تقولونه سيُدوَّن ويُرفَع للحكومة الإنجليزية، وهي — دون لجنتنا
—
صاحبة الشأن في تقرير ما تراه.»
٣٧ ومع ذلك، فقد أعد ملنر مشروعه، بعد سلسلة من الاجتماعات، ثم غادرت لجنته
البلاد في ٦ مارس ١٩٢٠م، بعد أن قضت في مصر نحو ثلاثة أشهر، أجرت خلالها — كما يقول
المارشال ويفل — «بعض اتصالات من وراء الستار.»
٣٨ يقول ملنر: «كان بيننا وبين المصريين حجاب كثيف لا يُرفَع، ومع أن الناس
حادثونا على انفراد، فلم يكن هناك شخص واحد مستعد لأن يتقدم ويقول إنه يعرب لنا عن
آراء أي طائفة كبيرة من الشعب المصري.»
٣٩ وكان مشروع اللجنة فرصة لفرز المعتدلين عن المتشددين من قيادات
الثورة.
٤٠ وكان البعض (تحت عجلة الحياة) يتنكر في زي ماسح أحذية، أو بائع أوراق
يانصيب، أو منادي سيارات، ليراقب «دعاة الهزيمة والتردد» الذين كانوا يتصلون باللجنة
خفية.
٤١ والغريب أن جريدة «المورننج وست» الإنجليزية أكدت ترحيب المصريين بمشروع
ملنر، إلى حد القول — على لسان المصريين — «إن الله بحكمته قد خلق بعض الناس مجانين،
ومن هؤلاء الإنجليز، لأنهم سيعسكرون في ناحية من بلادنا المصرية لحمايتنا من أي اعتداء
خارجي، وذلك على حسابهم، وبدون أن يكلف مصر قرشًا واحدًا، وبهذا نوفر أموال ميزانيتنا،
ونصرفها فيما ينفع ويفيد.»
٤٢
وقد حاول اللنبي ضرب الوحدة الوطنية بتعيين قبطي هو يوسف وهبة باشا رئيسًا للوزراء
بعد استقالة محمد سعيد باشا.
٤٣ وكان رد عبد الرحمن فهمي على تلك المحاولة لضرب الوحدة الوطنية، أن دعا
اللجنة المركزية للوفد إلى الاجتماع، وعُيِّن عضو اللجنة مرقس حنا وكيلًا لها، ورئيسًا
بالنيابة.
٤٤ «أجمعنا كلمتنا على اختيار قبطي نسند إليه مركز الوكيل ليترأس على اللجنة
مدة إبعاد محمود باشا، وإبراهيم باشا، رادِّين بذلك كيدَ المتسلطين إلى نحرهم، ولنثبت
لهم
أن هذه السفاسف أصبحت بعيدة عن أفكارنا، وأن مبادئنا وطلباتنا لا يمكن أن يقف أمامها
أي
عائق.»
٤٥ وفي ١٩ مايو ١٩٢٠م استقالت وزارة يوسف باشا وهبة بحجة «الاحتياج للراحة» وإن
كان السبب الحقيقي هو عجزها الواضح عن مقاومة الحركة الوطنية. وتألفت وزارة جديدة
برئاسة محمد توفيق نسيم باشا لتواجَه — هي الأخرى — بموجة من الرفض الذي توضَّح في
الاعتداء على رئيسها.
كان رأي السلطان فؤاد أن يتولى عدلي يكن رئاسة الجانب المصري في المفاوضات، على أن
يظل توفيق نسيم رئيسًا للوزارة، وكان السخط الشعبي عليه عارمًا، لأنه — باعترافه
شخصيًّا — كان صنيعة سلطات الاحتلال، والمنفذ لأوامرها. ورفض عدلي الفكرة، وأصر على أن
يكون رئيسًا للوزارة طيلة فترة المفاوضات، واستقال نسيم، وقوبلت استقالته بترحيبٍ شعبي،
وأطلق على الوزارة الجديدة «وزارة الثقة»، وظل ذلك كذلك بالفعل، حتى دبَّ الخلاف بين
سعد
وعدلي حول رئاسة المفاوضات مع اللورد كيرزون، أصرَّ كلٌّ منهما على رئاسة الوفد، وكان
ذلك
بداية الانقسام الخطير في صفوف الوفد، وصفوف الأمة بالتالي.
وارتكازًا إلى الفشل المؤكَّد الذي واجهه الوفد في باريس، كان قراره بتلبية الدعوة
التي
وجهتها إليه لجنة ملنر — بعد عودتها إلى لندن — للمفاوضة مع اللجنة في العاصمة
البريطانية — كان مبدأ التباحث مع أعضاء الوفد أول مكسب للثورة. يقول سعد زغلول في خِطاب
له إلى عبد الرحمن فهمي في ٥ فبراير ١٩٢٠م: «ربما التبس الأمر على كثير، فلم يفهموا
قبولنا مفاوضة لجنة ملنر، بعد أن أشرنا بمقاطعتها لكونها لجنة غير دولية موضوعها البحث
عن نظام حكومي في دائرة الحماية، ولهذا ينبغي أن نوضح المسألة توضيحًا يمنع كل
التباس.»
٤٦ وأوفد الوفد ثلاثة من أعضائه هم عبد العزيز فهمي ومحمد محمود وعلي ماهر،
لتبين جدية اللجنة للمفاوضة، ولحق بهم بقية أعضاء الوفد، لتجري مفاوضات مطولة، أسفرت
عن
تقديم كل من المتفاوضين مشروعًا رفضه الطرف الآخر. كان استقراء سعد زغلول لهدف لجنة
ملنر قد تحدد في نقطتين: إبقاء قوة عسكرية بريطانية في مصر، بما يعني استمرار بقاء
الاحتلال بموافقة الشعب المصري … مراقبة التشريع الخاص بالأجانب، بما يعني استمرار
التدخل في شئون مصر الداخلية، كان المطلوب رفع الحماية، واستبدال حماية من نوع جديد
بها.
٤٧ وكانت الأرضية التي وقف عليها بعض المفاوضين المصريين مع لجنة ملنر «أن
بريطانيا مزهوة بنفسها، وهي الآن أقوى دولة في العالم، وخرجت منتصرة من الحرب العالمية
الأولى، ونفوذها بين الدول ساحق، ماحق، ولا ينازعها منازع، ومصر أضعف دولة في العالم،
وواقعة بين براثن هذا القول البريطاني، ونحن هنا شحاذون نشحذ منها استقلالنا
وحريتنا.»
٤٨ ولعل تلك النظرة السلبية كانت هي الباعث لأن يكتب ملنر في تقريره أن الوفد
يتألف من أعضاء أصلهم من حزب الأمة القديم الذي يسعى للتقدم الدستوري تدريجيًّا، فهو
حزب كبار الملاك والأعيان، بحيث أشاد بعدالة إنجلترا، وتواضع في مطالبه منها.
٤٩ وتوقفت المفاوضات حينًا، استؤنفت بعده بوساطة عدلي يكن، وهو ما يعيبه محمد
كامل سليم في كتابه «صراع سعد في أوروبا»، «فالحقيقة المرة هي أن أغلبية أعضاء الوفد
جعلت من عدلي زعيمها في المفاوضة ذات الرجاء المحدود، وانصرفت عن سعد رئيسها وزعيم
الثورة التي انتهت إلى طريق مسدود، على حد تعبير عبد العزيز فهمي.»
٥٠ وكتب سعد زغلول إلى صديقه طاهر اللوزي (٣١ يناير ١٩٢١م) حول الخلاف بينه
وبين أنصار عدلي يكن من أعضاء الوفد، في مشروع لجنة ملنر، يقول: «إن هذا الخلاف لا يرجع
لأسباب شخصية حتى يهون احتماله، ويُرجى زواله، ولا يضير خفاؤه، ولكن يرجع إلى الاختلاف
في الغاية والشعور، فهم ملُّوا العمل، وقطعوا الأمل، وقليل ما أُعطينا كثير في نظرهم،
وقريب ما نرجو بعيد في اعتبارهم، والمشروع عندهم يهدي مصر استقلالًا، ويبوِّئها أشرف
مركز
بين الأمم، ونرى فيه حماية، ولا يُبوَّأ من المراكز إلا أتعسها، ولا يفيد إلا ضياع
الاستقلال … فكيف يمكن التوفيق بين هذين الرأيين، وهاتين الغايتين؟!»
٥١ ثم قدَّم اللورد ملنر مشروعًا ثالثًا، نهائيًّا، قرر الوفد وضعه تحت
الاستفتاء الشعبي. كان ملنر قد واجه لجنة المفاوضة عن الجانب المصري بالقول: إنكم
تطلبون أشياء لم تطلبها الأمة المصرية. فانتدب الوفد — من ثَم — بعض أعضائه لسماع رأي
الأمة. واستؤنفت المفاوضات مرة ثالثة، ووصلت إلى طريق مسدود. فغادر أعضاء الوفد لندن
إلى باريس، وأعلن سعد زغلول — بعد رفض المشروع — أنه كان قد أزمع الانسحاب من الوفد،
واعتزال السياسة كلها، لو أن الأمة قبِلت مشروع ملنر من غير تحفظات «لأني أومن إيمانًا
جازمًا قاطعًا بأنه مشروع حماية.»
٥٢ وبعث سعد زغلول — من العاصمة الفرنسية — بنداء إلى الشعب المصري قال فيه:
«لقد رفعتم منذ عامين عن كبريائكم القومي، ذلك العبء الذي كان يثقل كاهله، وبصيحة
الاستقلال أعلنتم في وجه العالم بأسره حقكم في الحياة، وما زلتم — منذ ذلك اليوم —
تثبتون أنكم جديرون بأمانيكم الوطنية، وجاءت نتيجة الاستنارة برأيكم في مشروع الاتفاق
مثبتة أن الاستقلال ليس في نظركم كلمة تُردَّد في الفضاء بغير معنى، بل أنتم تريدونه
استقلالًا حقيقيًّا خليقًا بكم، وبمستقبلكم الذي سيرسل غدًا أشعته الوضاءة على مصر
الحرة، وهذا الاستقلال سيحصل باتحادنا، وبروح التضحية والإيمان بأنفسنا، وبعدالة قضيتنا
المقدمة إيمانًا هادئًا صادقًا.»
٥٣
أما لجنة ملنر، فقد لخصت نتائج اتصالاتها بالمصريين بأنهم «على آراء شتى ومذاهب
مختلفة، ولكنهم متفقون على أمر واحد، وهو رغبتهم في حفظ قوميتهم وجنسيتهم، بحيث يكونون
شعبًا ممتازًا عن سواهم.»
٥٤ وقال التقرير «إن كل مصري يستحق أن يُسمَّى مصريًّا وطنيَّ النزعة في قلبه.»
ونصح التقرير أن تشرع الحكومة البريطانية «بلا إبطاء زائد» في مفاوضة الحكومة المصرية،
لعقد معاهدة على المبادئ التي طرحها، وأكد «أن إضاعة هذه الفرصة مصيبة عظيمة.»
٥٥
وقد قدم ملنر استقالته، نتيجة للخلاف حول التقرير الذي أعدَّته اللجنة التي ترأسها!
وعُيِّن ونستون تشرشل وزيرًا للمستعمرات خلفًا له.
٥٦ مع ذلك، فقد قررت الحكومة البريطانية اعتبار الحماية على مصر علاقة غير
مرضية، ودعت ممثلي الشعب المصري للدخول في مفاوضات رسمية «للوصول — إذا أمكن — إلى
إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح الخاصة لبريطانيا العظمى، وتمكِّنها من تقديم الضمانات
الكافية للدول الأجنبية، وتطابق الأماني المشروعة لمصر والشعب المصري.»
٥٧ ويمكن القول إن الحكومة البريطانية استندت في قرارها — إلى جانب تقرير
اللورد ملنر — إلى رأي اللورد اللنبي معتمدها في مصر، والذي قال فيه «إن مركزنا في مصر
لا يعتمد في الواقع على حماية خيالية غير محدودة، بل يعتمد على قوتنا البحرية في
المتوسط، كما يعتمد على حامياتنا الموجودة في الدلتا، فهذه هي ضماناتنا الحقيقية. فإذا
أعلنا — ونحن الطرف الأقوى — إننا مصممون على حفظ حقوقنا في المسائل الأساسية، لم يكن
هناك خوف من إعطاء الاستقلال لمصر، بل يكون لذلك فائدة كبرى؛ إذ سيرجع التعاون المصري
بقوته مرة أخرى.»
٥٨ وقد وجد الحزب الوطني في قواعد الاتفاق بين الوفد وملنر أنها تؤدي إلى
اتفاقٍ خالٍ من المزايا بالنسبة لمصر، وأنه يتضمن تمسك إنجلترا بحماية سنة ١٩١٤م، وإقرارًا
ضمنيًّا من مصر بهذه الحماية، وتنظيم هذه الحماية، ويسلب مصر سيادتها الداخلية
والخارجية، وإقرار مصر لاتفاقية السودان المنعقدة في ١٩ يناير ١٨٩٩م.
٥٩ وكان المنطقي — بعد الدعوة البريطانية — أن تستقيل وزارة نسيم، لتخلفها
وزارة أخرى أقرب إلى الجماهير. وعلى الرغم من أن السلطان فؤاد كان يميل إلى بقاء نسيم
لتدعيم الحكم المطلق والخضوع للسراي، فقد اضطر إلى قبول استقالة نسيم، وتكليف عدلي يكن
بتأليف وزارة جديدة. وتألفت وزارة الثقة — كما سمَّاها سعد زغلول — لتتولى المفاوضات
وتُعِد
للدستور. وقوبلت بابتهاج شعبي كبير. وأبرق عدلي إلى سعد يدعوه إلى العودة، والمشاركة
في
المفاوضات الرسمية، وردَّ سعد ببرقية أعلن فيها اعتزامه العودة إلى مصر. ووصل إلى
الإسكندرية فعلًا في ١٤ أبريل ١٩٢١م، فقابلته — كما يقول الرافعي — «سلسلة لا نهاية لها
من المظاهرات والزينات والأفراح والحفلات مما لم يسبق له نظير في تاريخ مصر
الحديث.»
٦٠ وعلى أنغام العود والقانون والرق رقص الرجال، وغنَّت العالمة ألماظية: ليالي
الأنس عادت بالليالي، وغنت: يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح، وغنت: يا واد يا اللنبي كان
جرى لك إيه يا ابن المرة … جد الاستقلال غصبًا عنك وعن إنجلترا.
٦١
•••
بصرف النظر عما لاحظه الرافعي من أن تأليف الوفد كان في الجملة من عناصر لا يثق في
إخلاصها وثباتها على النضال، ولا في تمسكها بحقوق البلاد؛ فإن الأسئلة التي تطرح نفسها:
لماذا كان سعد زغلول وطنيًّا؟ ولماذا وُصِم ثروت وعدلي بالخيانة؟ وما طبيعة التناقضات
الحزبية التي تلت قيام ثورة ١٩١٩م؟ ومن هو سعد زغلول؟ ومن هو عدلي؟ ومن هو ثروت؟
تلك هي الأسئلة التي تواجهنا عبر صفحات «الثلاثية»، دون أن تجد — في الحقيقة — أجوبة
منطقية لها، تستند إلى إرهاص كل حدث، ووقائعه، ونتائجه.
لقد استطاع الوفد — طوال المرحلة الأولى للثورة — أن يستقطب الإرادة الشعبية، تلك
الإرادة التي حددت هدفها بأنها «لا تقبل غير استقلالها التام، استقلالًا غير مشوب بأية
حماية أو وصاية أو سيادة أجنبية أو أي قيد يقيِّد هذا الاستقلال.» وحاولت لجنة ملنر أن
تتصل بالمعتدلين من الزعماء لإقرار الحماية بصورة مُرضية، لكن الفشل كان هو المصير الذي
واجهته اللجنة لأن الشعب كله قاطعها، واضطرت الحكومة البريطانية من ثَم إلى استدعاء وفد
مصر الذي كان في باريس ليذهب إلى لندن للمفاوضة.
وكان أول انشقاق في هيئة الوفد في يوليو ١٩١٩م، حين اعتبر الوفد إسماعيل صدقي ومحمود
أبو النصر منفصلَين عن عضويته، ارتكازًا إلى ما نُسِب إليهما من مخالفة لمبادئ الوفد.
فقد
اعترفت معاهدة فرساي بالحماية البريطانية على مصر، ورفض أعضاء المؤتمر طلب الوفد بأن
يعرض مطالبه إعمالًا لمبدأ حق تقرير المصير. وأحدث اعتراف معاهدة فرساي بالحماية
تأثيرًا سلبيًّا في نفوس أعضاء الوفد. قدَّم عزيز منسي مستشار الوفد استقالته، وأكد أن
مهمة الوفد قد انتهت، وخرج حسين واصف من عضوية الوفد، وعاد علي شعراوي إلى مصر معتزِلًا
الحياة السياسية. أما إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر فقد كان رأيهما أن «الموقف يحتم
على
الوفد — بعد موقف مؤتمر الصلح — أن يسعى للتفاهم مع إنجلترا، وبمفاوضة لجنة ملنر في
إطار الحكم الذاتي، وأنه ليس ثمة ما يوجِب تحكيم العواطف، ولكن الأصوب هو الاتجاه نحو
الواقع المفيد والوصول إلى النتائج.» ففصلهما سعد زغلول من عضوية الوفد في ٢٤ يوليو
١٩١٩م. وكتب سعد إلى عبد الرحمن فهمي يقول: «لم يقرر الوفد فصل إسماعيل صدقي وأبو النصر
من عضويته إلا لأسبابٍ مهمة رفعت ثقة إخوانهما بهما، ولا يمكن بعد ارتفاع هذه الثقة أن
يشتركوا معهما في عملٍ من الأعمال العمومية.»
٦٢ ويقول عبد الرحمن فهمي — وكان قد أصبح سكرتيرًا عامًّا للجنة المركزية للوفد
منذ تأليفها في أوائل أبريل ١٩١٩م،
٦٣ «فكرة الاستقلال الذاتي لم يروجها إلا الخونة الأنذال والمأجورون، ولكنها
على كل حال لم تلق قبولًا، لأن السواد الأعظم، بل الأعظم جدًّا من الأمة لا يريد غير
الاستقلال التام.»
٦٤ أما إسماعيل صدقي فهو يقول: «ومكثت في باريس أعمل في الوفد المصري برياسة
سعد باشا، إلى أن وجدت آرائي في تصريف الأمور تخالف آراء بعض أعضائه، لأني كنت، وما زلت،
لا أميل إلى تحكيم العواطف، بل إن خطتي على الدوام تتجه نحو الواقع المفيد، وترمي إلى
الوصول إلى النتائج، فانفصلت عن الوفد، وعدت إلى مصر، وتبعني بعض أعضائه.»
٦٥ ويضيف: «قيل وقتئذٍ إنني فُصلت من الوفد، ولم أستقل، ونسبوا إليَّ أنني ذهبت
إلى لندن، واتفقت مع بعض الساسة الإنجليز. والواقع أن ذلك لم يحصل بدليل أنه على إثر
عودتي إلى القاهرة، واشتراكي بلا تردد في الحركة الوطنية، بعث إليَّ القائد العام لجيش
الاحتلال، وألزمني بأن أسافر إلى إحدى ضياعي بعيدًا عن القاهرة، بحيث تكون إقامتي في
إحدى القرى التي تبعد عن أية مدينة بما لا يقل عن ستة كيلومترات، فاخترت الإقامة في
بلدي «الغريب».
٦٦ لم يعُد مع سعد زغلول سوى مصطفى النحاس وسينوت حنا وواصف غالي وويصا واصف،
وكما يقول العقاد، فقد «خرج المنشقون على الوفد وهم يريدون أن يثبتوا للملأ أنهم هم
الأصلاء في تأليف الوفد، وأن سعدًا قد سيق إلى هذه الحركة بعد مجاهدة وإلحاح، وكادوا
يزعمون أنهم هم الذين أكرهوه، بالضغط المتواصل عليه، إلى أن يقبل العمل في هذا
الميدان.»
٦٧ لكن مكانة سعد ظلت على قوتها، وخاصة بين العمال والفلاحين والطلاب
والموظفين، بل لقد زادت مكانة سعد إلى حد تفرُّده بزعامة الأمة.
٦٨ وعند قدوم إسماعيل صدقي ومحمود أبي النصر إلى مصر، قابلتهما جماهير الشعب —
التي كانت تحيا بأعصاب قلِقة متوترة — بتهمة الخيانة، باعتبار أن أي شِقاق في صفوف الوفد
سيؤدي إلى إضعاف القضية، ولكن أحد المرافقين للوفد — وهو محمود أبو الفتح — نفى عن صدقي
وأبي النصر تهمة الخيانة. ويروي قصة انسحابهما من الوفد بأن اتهامًا وُجِّه إلى أبي النصر
بإرسال خطابات إلى القاهرة تحمل على سعد زغلول. وقال أبو الفتح: «ومهما يكن الأمر،
فمبلغ بحثي وعلمي أنه لا صحة مطلقًا للإشاعات الغريبة التي نشرت عند عودتهما عن
اتصالهما بالسفارة البريطانية أو نحو ذلك من تهم الخيانة الشنيعة. ولا جدال أنهما كانا
مخلصين في جهودهما كبقية رجال الوفد، وكانا يخدمان القضية بكل إخلاصٍ ونشاطٍ، الأول
بخبرته السياسية ومقدرته العظيمة ومعرفته بأساليب الأوساط السياسية والرسمية، والثاني
بصلاته الكثيرة في الدوائر المختلفة منذ كان أستاذًا للغة العربية بكلية اللغات الشرقية
بباريس.
٦٩
•••
غادر الوفد العاصمة في صباح الحادي عشر من أبريل وسط توديع شعبي رائع كأنه توكيل جديد
من الأمة. وتألَّفت في اليوم التالي لسفره لجنة مركزية كبرى تنوب عن الوفد في غيابه،
وتتولى إنشاء اللجان التي تنوب عنه في الأقاليم. ويرى هيكل في مذكراته أنه ذهب إلى لطفي
السيد في الأيام الأولى لتكوين الوفد يسأله عن خطته، فأجاب لطفي السيد في صراحة: «إن
خطتنا أن نسافر إلى باريس، وأن نطرح قضيتنا على مؤتمر لندن، وأن نطلب حق تقرير المصير
على مصر والسودان؛ فإن أُجبنا إلى مطلبنا كان ذلك ما نبغي، وإلا ذهب رشدي وعدلي إلى
لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية في تنظيم العلاقة بين مصر وإنجلترا في حدود الحماية.»
وكانت هذه — بالفعل — هي خطة كبار الملاك: تنظيم العلاقة بين مصالحهم وبين مصالح
الاستعمار البريطاني، وفي حدود الحماية. ولكن عدلي ظل يجس نبض الإنجليز ليدرك مدى
استعدادهم للتفاوض مع الوفد على أساسٍ يخرج عن نطاق الحماية. وكانت الثورة قد جعلت
الإنجليز في وضعٍ يقبل مبدأ التفاوض مع الوفد بعد أن كانوا يرفضون الاعتراف بشرعيته
إطلاقًا.
ووصل الوفد إلى لندن في يونيو ١٩٢٠م، وبدأت مفاوضات سعد-ملنر. ولم يكن عدلي يكن
آنذاك عضوًا في الوفد، لكنه كان يقوم بدور الوسيط بين سعد زغلول وملنر بوصفه صديقًا
للطرفين، ولأن سعد زغلول كان يجهل اللغة الإنجليزية. وانتهت المفاوضات برفض ملنر
لمقترحات سعد، وعرض مشروعًا للتسوية عدل فيه مشروعه الأول على ضوء المقترحات المصرية.
كان ذلك المشروع هو بداية الانفصال المؤكد بين عدلي وسعد، فقد رفضه سعد زغلول وبعض
أعضاء الوفد، بينما قبله محمد محمود وعبد العزيز فهمي ولطفي السيد وعبد اللطيف المكباتي،
وانقسم الوفد إلى متطرفين ومعتدلين، وإن كان المعتدلون قد امتنعوا عن الجهر بآرائهم
خوفًا من الجماهير التي كانت الثورة ما تزال تضطرم في صدورها. وعاد بعض أعضاء الوفد إلى
القاهرة لاستشارة الأمة في مشروع المعاهدة، فأعلنت رفضه لأنه لم يكن يحقق الحد الأدنى
من مطالبها، ولأن سعد زغلول — الذي أصبح رمزًا مقدسًا — رفضه، وقُطعت المفاوضات في ٩
نوفمبر ١٩٢٠م. ونتيجة ذلك خرج من عضوية الوفد في العام ١٩٢١م محمد محمود وعبد العزيز
فهمي وعلي ماهر ولطفي السيد وعبد العزيز المكباتي. وكتب اللورد ملنر يقول: «إن الهيئة
المستحقة الاعتبار المعروفة بالوفد التي تسلطت على عقول المصريين تمام التسلط، مؤلَّفة
من
أعضاء أكثرهم ليسوا من الغلاة المتطرفين، بل أصلهم من حزب الأمة القديم الذي كان غرضه
التقدم الدستوري تدريجيًّا، بخلاف الحزب الوطني الذي هو حزب الثورة ومعارضة
البريطانيين. نعم إن زغلول باشا ورفاقه مالوا إلى المعارضين، وما زالوا يدنون منهم شيئًا
فشيئًا، ولكن ظهر لنا بالاختبار أن الأمر لا يقتضي غير يسيرٍ من العناء حتى يُستمال
كثيرون منهم إلى المناقشة في الحالة بتمام العقل. وهذا يصدَّق على الذين هم أكثر منهم
اعتدالًا مثل رشدي باشا وعدلي باشا وثروت باشا.»
٧٠ وفي ٢١ ديسمبر ١٩٢٠م نشرت جريدة «المورننج بوست» «أن الشعب المصري قد أصبح
الآن منقسمًا على نفسه: فريق يؤيد زغلول باشا، وفريق يؤيد عدلي باشا، وبعد أن كان الشعب
المصري كله واقفًا خلف زغلول باشا، يناصره ويؤيده ويهتف بحياته؛ فإن ما حدث الآن يُعتبَر
ظاهرة كبيرة المعنى. والملاحَظ أن أنصار عدلي باشا أخذوا يتزايدون قوة وعددًا، وبسرعة
تلفت الأنظار في الشهرين الأخيرين، وأن المتطرفين من أنصار زغلول باشا بدأ نفوذهم في
الضعف، ونجمهم في الأفول. ولا يمكن أن تنجلي الحالة جلاء واضحًا إلا بعد الوقوف على رأي
الحكومة البريطانية. وقد تنقَّل مراسل الجريدة في الريف المصري، وتحدث إلى كثير من
الأعيان فوجدهم — كما وجد الفلاحين — غير مبالين بالسياسة، وقضية الاستقلال أقل مبالاة،
وأزمة القطن هي شاغلهم الشاغل، وهي موضوع أحاديثهم في الصباح والمساء.»
٧١
•••
في الخامس من أبريل ١٩٢١م عاد سعد زغلول إلى مصر، «وأظهر عدلي نحوه كل ما يثبت به
صداقته، فذهب بنفسه إلى المحطة لتحيته كما لم يتخذ أي إجراء من شأنه أن يحُول بين الأمة
وبين إظهار أحر تحياتها لزعيمها الوطني.»
٧٢ وبدأت المحادثات بين سعد زغلول وعدلي يكن حول اشتراك الوفد في المفاوضات
الرسمية التي تمهد لعقد معاهدة بين مصر وإنجلترا. وقد اشترط سعد للاشتراك مع الوزارة
في
المفاوضات:
-
أن يكون الهدف إلغاء الحماية فيما يتصل بعلاقة مصر بالدول عمومًا، وليس
بإنجلترا فحسب.
-
الوصول إلى الاعتراف بالاستقلال التام لمصر، سواء داخليًّا أو
خارجيًّا.
-
إلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف قبل البدء في
المفاوضات.
-
أن يترأس سعد زغلول الوفد المصري في المفاوضات، وأن تكون للوفد أغلبية
المفاوضين.
٧٣
كانت المشكلة — في الحقيقة — في الرئاسة، فقد تمسَّك عدلي بأن تكون له رئاسة هيئة
التفاوض باعتباره رئيسًا للحكومة، بينما أصرَّ سعد زغلول على أن تكون له الرئاسة باعتباره
الزعيم الذي أولته الأمة ثقتها. كان رأي العدليين أن «التقاليد السياسية في جميع البلاد
لا تسمح بحالٍ من الأحوال أن يكون رئيس الحكومة مرءوسًا في هيئة تتفاوض مع حكومة أخرى،
فضلًا عن أن التصرف في المفاوضات ليس من حق الرئيس، بل من حق الهيئة.»
٧٤ وكان هيكل يذهب أيضًا إلى أن «سعد باشا والوفد المصري يجب أن يظل بعيدًا عن
المفاوضة الرسمية، واقفًا منها موقف الرقيب ليوجِّه الرأي العام في أمرها التوجيه الذي
تقضي به مصلحة البلاد.»
٧٥
بدأ سعد زغلول حملة عنيفة ضد عدلي بخطبة ألقاها في ٢٥ أبريل ١٩٢١م في حفل تكريم له
بشبرا، ردًّا على حديث لعدلي نشرته «الأهرام» في صباح ذلك اليوم، أصر فيه على أن تكون
الرئاسة له بوصفه رئيسًا للحكومة، وأنه سيسير في المفاوضة، ولو لم يتم الاتفاق مع سعد.
وكان حديثه تحديًا لسعد، فجاءت خطبة شبرا ردًّا على هذا التحدي. قال سعد في هذه الخطبة:
«فلا يمكن لرئيس الوزارة أن يدَّعي أنه يدير سياسة مصر الخارجية حتى يكون له وجه في أن
يكون رئيسًا لمأمورية سياسية متعلقة بمستقبلها وبعلاقتها مع الحكومة الإنجليزية، ورئيس
الوزارة ليس إلا موظفًا من موظفي الحكومة الإنجليزية يسقط ويرتفع بإشارة من المندوب
السامي، وهو بهذه الصفة لا يمكنه أن يكون بإزاء رئيسه وزير خارجية إنجلترا حرًّا في
الكلام، لأنه مدين له بمركزه.»
٧٦ ثم أعلن سعد زغلول أن حكومة بلد تحت الحماية البريطانية تفاوض الإنجليز هي
بمثابة جورج الخامس يفاوض جورج الخامس! ولكن المرسوم السلطاني صدر فعلًا في التاسع عشر
من مايو ١٩٢١م، بتأليف الوفد الرسمي للمفاوضات برئاسة عدلي يكن وعضوية عدد كبير من أعضاء
الوزارة والمستشارين والموظفين، وبدأ عدلي يعيد ترتيبات السفر والمفاوضة، وكان ذلك خطأ
فادحًا، لأن الرأي العام كان يغلي بالغضب ضده. وكما يقول الرافعي فقد كان واجبًا على
الوزارة أن ترجئ المفاوضة الرسمية حتى يزول الخلاف الذي وقع بينها وبين الوفد، لأن
إجراء المفاوضة الرسمية في هذا الجو يزيد الفتنة استفحالًا، ويضعف مركز مصر. وكان
واجبًا على عدلي إذا لم يُوفَّق في حسم هذا الخلاف أن يستقيل تخفيفًا لوطأة الانقسام.
«حقًّا ان سعد كان مسرفًا في الحملات التي شنَّها على عدلي، وكان — في الغالب — متجنيًا
عليه، ولكن استقالة عدلي أمام هذا الإسراف كانت تُعَد عملًا نبيلًا يبطل حجة المرجفين،
وبخاصة لأن المفاوضات كان متوقعًا لها الإخفاق، وقد استقال فعلًا بعد
إخفاقها.»
٧٧ أما هيكل فيؤكد أن عدلي فكر في الاستقالة بالفعل، مقابلًا للحملة التي
وجهها إليه سعد زغلول، لولا خوفه — أي عدلي — أنه إذا استقال وتولَّى الوزارة شخص سواه،
فربما اختلف معه سعد، ولجأ — سعد — في تصرفاته إلى وسائل لا يُرعى فيها من الحكمة النصيب
الذي تقضي به المصلحة الوطنية، فتؤدي الأمور في تلك الآونة الدقيقة إلى نتائج غاية في
الخطورة.»
٧٨
كان هدف الإنجليز من فتح باب التفاوض مع عدلي يكن تمزيق شمل الأمة، فضلًا عن توقعهم
الليِّن من جانب عدلي، مقابلًا للتشدد من جانب سعد وحزبه، ومن ورائهم جماهير الشعب
المصري. وكان مطلب سعد زغلول هو إصدار مرسوم سلطاني — قبل المفاوضات — يحدد موضوع
التفاوض، ويكون أساسًا له، لكن عدلي أقدم على المفاوضات دون أن يعبأ بالنصيحة!
٧٩ وكان تحدي سعد زغلول وحزبه للعدليين، رفع الأحكام العرفية والقوانين
الاستثنائية، ورفض الوصاية الأجنبية، وقطع المفاوضات امتثالًا للإرادة الشعبية،
والاعتراف بأن حزب الحكومة هو حزب «مصنوع موضوع»… والتعبير للمنفلوطي!
٨٠ وقد طرح الحزب الديمقراطي فكرة الاتصال، وتقضي بأن يتولى عدلي ووفده الرسمي
المفاوضات الرسمية، على أن يكون متصلًا بالوفد المصري يقف من شئونها على كل كبيرة
وصغيرة، ولا يخطو خطوة فيها إلا بالتفاهم عليها.
٨١ ولكن عدلي وسعد رفضا الفكرة حالًا، فأجهضت. وقال سعد لعزيز ميرهم سكرتير
الحزب: «هل تعني أن يحضر عدلي إلى مائدة المفاوضة، وأن أكون أنا في غرفة مجاورة أصفق
له؟!»
٨٢
كان الحزب الديمقراطي قد انفرد عن بقية الأحزاب القائمة آنذاك، في أنه قرر توكيل
الوفد المصري في قضية الاستقلال، لينفق مجهوداته في العمل الداخلي.
٨٣
وطبيعي أن الاختلاف قد عكس تأثيرًا حادًّا في قيادة الوفد المصري نفسه. فقد رأى عدد
من
قيادات هيئة الوفد — لما نوقش، في ٢٨ أبريل ١٩٢١م، أمر الاشتراك في المفاوضة — عدم
اشتراك الوفد، مع عدم حجب الثقة عن الوزارة، ولكن سعد زغلول أصر على إعلان عدم الثقة
بوزارة عدلي، فاستقال علي شعراوي، وكتب خمسة من الأعضاء بيانًا في الصحف يعترضون فيه
على إهمال سعد زغلول لرأي أغلبية الأعضاء. ونشر سعد زغلول بيانًا للأمة — في اليوم
التالي — اعتبر فيه هؤلاء منفصلين عنه، وأن الوفد ماضٍ في سبيله. وسُمِّي الأعضاء المنفصلون
— منذ ذلك الحين — «منشقين»، وشمل الوصف كلَّ مَن خالف سعدًا في رأيه، فقد استقال كلٌّ
من
عبد العزيز فهمي وحافظ عفيفي وعبد الخالق مدكور، ولم يبقَ من الأعضاء سوى خمسة فقط، هم:
مصطفى النحاس وواصف بطرس غالي وسينوت حنا وويصا واصف وعلي ماهر، لكن الأمة كلها كانت
تقف إلى جوار سعد زغلول، تناصره ضد عدلي، وضد الأعضاء المنشقين … وقامت مظاهرات صاخبة
في
المدن المصرية، أسفرت عن اشتباكاتٍ وقتلى وجرحى. ومع ذلك فقد كوَّن عدلي الوفد الرسمي
للمفاوضات. وسافر الوفد إلى لندن في يوليو ١٩٢١م، لتجري مفاوضات بينه وبين اللورد كيرزون
وزير الخارجية البريطانية، انتهت بالإخفاق بعد أن قدَّم كيرزون مشروعًا يضع من الشروط
ما
يجعل الاستقلال مجرد تنظيم للحماية. وعلى الرغم من تعسُّف المفاوض الإنجليزي حيال المطالب
المصرية على مائدة المفاوضات، فقد أثبتت البرقيات المتبادَلة بين كيرزون واللنبي — كما
أشرنا — إلى أن الحكومة البريطانية أعدَّت خططها — بالفعل — لرفع الحماية وإعلان
الاستقلال. وفي برقية من كيرزون إلى اللنبي قال: «نظرًا لكونك كنت حاضرًا اجتماعات
الوزارة حين تقررت الشروط التي تُعرض على عدلي باشا، لا يسعنا إلا أن نحس بالدهشة من
أنك لم تبين للمستشارين أنهم كانوا في جهلٍ تام للموقف الحقيقي حين وصفوا قرار حكومة
جلالة الملك بأنه يستبقي الحماية، ويأبي قبول الاستقلال المصري، وهذه الغلطة — التي
ينبغي أن تشرحها لهم حالًا — تجعل حجتهم غير قويمة.»
٨٤ وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت سلطات الاحتلال تعاني — كما نقرأ في الرسائل
المتبادلة بين كيرزون واللنبي — من نظام المسئولية الثنائية في أجهزة الدولة المختلفة،
الأمر «الذي يمكِّن الوزارة «المصرية» من أن تعزو إلى السلطات البريطانية باللوم عن كل
الأغلاط التي تقع، وأن تختار لنفسها الفضل في كل نجاح إداري في مصر.»
٨٥
رفض عدلي يكن العروض البريطانية، واقترح على كيرزون أن تصدر حكومته من جانبها
تصريحًا بالقدر الذي تستطيع الوصول إليه، ثم أدركه اليأس من تحقيق خطوات إيجابية، فعاد
إلى القاهرة وقدم استقالته.
وإذا كانت الجماهير قد حملت سعد زغلول على الأعناق بعد رفضه لأسلوب المفاوضات مع
لجنة
ملنر، فإنها قد ألقت الأوساخ والقاذورات على رأس عدلي بعد عودته من رحلة المفاوضات
العقيمة. فبعد أن وصلت مفاوضات عدلي-كيرزون إلى طريق مسدود، قطع عدلي المفاوضات، وعاد
إلى مصر في الخامس من ديسمبر ١٩٢١م، فاستقبله المصريون استقبالًا سيئًا، وقذفوا موكبه
بالطماطم والبيض، وقدَّم عدلي استقالته في الثامن من ديسمبر إلى الملك فؤاد، ارتكازًا
إلى
فشله في الحصول على اعتراف باستقلال مصر وإلغاء الحماية تمامًا.
٨٦
ويقول الرافعي: «حقًّا إن سعدًا كان مسرفًا في الحملات التي شنَّها على عدلي (كان
عدلي
— في رأي سعد — أرستقراطيًّا «والأرستقراطي يأخذ ولا يعطي») وكان في الغالب متجنيًا
عليه. ولكن استقالة عدلي أمام هذا الإسراف كانت تُعَد عملًا نبيلًا يُبطِل حجة المرجفين،
وبخاصة لأن المفاوضات كان متوقعًا لها الإخفاق. وقد استقال فعلًا بعد
إخفاقها.»
٨٧ ولكن المنفلوطي يحدد مهمة وزارة عدلي بأنها
«تقدمت لأداء الامتحان أمام اللورد كيرزون في القدرة على حمل مشروعه إلى الأمة، وتنفيذه
فيها، فأخفقت، فعادت أدراجها.»
٨٨
واللافت أن سعد زغلول لم يرَ مانعًا — وهو في باريس — من أن يتولى عدلي رئاسة
المفاوضات. فلما عاد إلى مصر، أدرك — من الاستقبال الأسطوري — أن الشعب المصري قد أولاه
ثقته المطلقة، فأصر على أن يرأس وفد المفاوضات، بينما أصر عدلي — في المقابل — على يكون
الوفد برئاسته باعتباره رئيس الحكومة الذي أيَّده سعد نفسه، وكان كلا الرجلان على
حق!
٨٩
•••
كان المتوقع — كما يقول الرافعي — أن تجد الوحدة الوطنية سبيلها إلى الالتئام — بعد
الصدع الذي أصابها في أبريل ومايو ١٩٢١م — ولكن المظاهرات الصاخبة المنددة التي كانت
في
استقبال عدلي عند عودته من لندن، زادت الشرخ اتساعًا. وكان اعتقال سعد للمرة الثانية
في
صباح الجمعة ٢٣ ديسمبر ١٩٢١م، نتيجة مباشرة لاستمرار الخلاف مع عدلي، فقد واصل سعد تحدِّيه
لعدلي، وللسلطات البريطانية في آن، مما ألجأ البريطانيين إلى مطالبته بمغادرة القاهرة،
والإقامة في الريف، ثم اعتقلته بعد أن ردَّ بخِطابه الذي قال فيه: إن للقوة أن تفعل بنا
ما
تشاء! ولعله مما يُحسَب لعدلي أنه استعجل قبول استقالته التي قدَّمها بعد عودته من لندن،
في
اليوم نفسه الذي اعتُقلت فيه السلطات البريطانية سعد زغلول حتى لا يلصق بنفسه المشاركة
فيما حدث، وربما — إذا راعينا الجانب الوطني — احتجاجًا على ذلك الاعتقال.
وعندما تقرر أن يُنفى سعد للمرة الثانية، اقترح اللنبي — في البداية — أن يكون النفي
إلى جزيرة سيلان، لأنها — في تقديره — «أوفق مكان لأنها مقرونة في الأذهان باعتقال
عرابي، فمن شأن اسمها أن يحدث تأثيرًا عظيمًا.»
٩٠ وقد أكد نفي سعد زغلول للمرة الثانية مكانة سعد في قلوب الجماهير، بل إنه
أعاد إلى صفوف الوفد بعض «العدليين» الذين كانوا قد انشقوا على سعد زغلول. صحيح أنهم
عادوا — فيما بعد — إلى صفوف العدليين بعد اشتداد الثورة، ورفضوا التوقيع على بيان
المقاومة السلمية، لكن مكانة سعد ازدادت رسوخًا، واهتزَّت مكانة عدلي بشدَّة. ويقول مكرم
عبيد في خطبة له إن السبب في عودة سعد يرجع إلى العوامل نفسها التي من أجلها نُفي، وهي
الثورة المحتدمة في نفوس المصريين، لقد نفوا سعدًا ليهدئوا ثورة الأفكار، وأعادوه لأن
الأفكار لم تهدأ، بل زادت من ثورتها.
٩١ وقد ألقى المحيطون بسعد في روعه أن ثروت هو الذي نصح بنفيه، فزاد سعد من
حملته على ثروت إلى حد اتهامه بالخيانة! وكما يقول أحمد لطفي السيد فإن عبد الخالق ثروت
رفض تولي رئاسة الوزارة لثلاثة أسباب: اعتقال سعد زغلول، قسوة مذكرتهم إلى السلطان
فؤاد، وضع العقبات أمام عدلي يكن،
٩٢ والمعروف أن ثروت قد دخل المفاوضات بإذن من سعد زغلول.
وفي سبتمبر ١٩٢٢م — قبل صدور الدستور — عاد سعد زغلول إلى مصر. ووصل الإسكندرية في
١٧
سبتمبر، وأقيمت احتفالات هائلة، أكدت — كما يقول الرافعي — زعامة سعد للأمة، وتعلُّقها
به، والتفافها حوله، وجاءت برهانًا جديدًا على أنه أقوى شخصية في البلاد.
٩٣
•••
وبصرف النظر عن وطنية عدلي وثروت أو التشكيك فيها، فمن المؤكد أن سلطات الاحتلال
كانت
تحرص على أن يتولى أحدهما رئاسة الوزارة بدلًا من سعد زغلول، وأن يتولى الأحرار
الدستوريون الوزارة بدلًا من الوفد.
٩٤ مبعث التأكيد — مثلًا — تلك البرقية التي بعث بها اللنبي إلى كيرزون في ٢٠
ديسمبر ١٩٢١م، ويقول فيها: «لم يستطع ثروت باشا — إلى الآن — أن يجمع وزارة، على الرغم
من
الموافقة على برنامجه، ولست أستعجله بلا داعٍ. وأنا أبذل كل ما في طوقي لإقناع أعضاء
من
حزب عدلي بالانضمام إلى الحكومة لأني أشعر بأن هذا الحزب لا محالة ممزقٌ ما لم يتقدم
الآن، وإذ ذاك يكون زغلول هو الوحيد الذي يربح مما يكون بمثابة تسليم من جانب
الحزب.»
٩٥
والحاصل أنه بعد أن قبِل السلطان فؤاد استقالة عدلي، ظل منصب رئاسة الوزارة شاغرًا
أكثر من شهرين، لتردُّد الكثيرين في قبول المنصب، ثم وافق عبد الخالق ثروت على تأليف
الوزارة بشروط، من بينها عدم قبول مشروع كيرزون، والاعتراف — بداية — باستقلال مصر،
وإلغاء الحماية، وإعادة وزارة الخارجية، وإنشاء مؤسسات برلمانية، واستبدال موظفين
مصريين بالموظفين الأجانب، ورفع الأحكام العسكرية، والدخول في مفاوضات جديدة بعد تشكيل
البرلمان للنظر فيما لا يتنافى مع استقلال البلاد من الضمانات لإنجلترا والجاليات
الأجنبية، ولحل مسألة السودان … إلخ، وقد هاجم الوفد هذه الشروط لأنها — في تقديره —
أغفلت أهم المطالب المصرية على الإطلاق، وهو الجلاء. ولكن شروط ثروت ورفض الوفد لها،
كانت دافعًا لأن تُصدِر الحكومة البريطانية تصريح ٢٨ فبراير، باعتباره — كما يقول الرافعي
بحق «أقل ترضية للأمة المصرية في ثورتها على الحماية وعلى الاحتلال» وكان التصريح
يتضمن إعلان الحكومة البريطانية انتهاء الحماية، والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة،
وإلغاء الأحكام العرفية بمجرد إصدار الحكومة المصرية قانون التضمينات مع تحفظات أربعة
هي: تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية … الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي
…
حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات … السودان. ويُرجِع هيكل اعتراف إنجلترا
بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، إلى «مجهودات ثروت باشا السلمية، ومقدرته على الاستفادة
من
الظروف بتقديره قوة بلاده ومطالب إنجلترا.»
٩٦
والعيب الأول الذي يأخذه الرافعي على وزارة ثروت، أنها تألَّفت دون اتصال بالرأي
العام،
ومن ثَم فلم تكن وليدة الإرادة الشعبية بقدر ما كانت وليدة إرادة فوقية شارك فيها السراي
وسلطات الاحتلال، فضلًا عن أن الوزارة تألَّفت في الوقت الذي اعتقلت فيه السلطات
البريطانية سعدًا ورفاقه، وقامت بترحيلهم إلى جزيرة سيشل.
٩٧ ومما يُنسَب إلى سعد قوله إن اللورد اللنبي لم يقدِم على اعتقاله وزملائه، إلا
بعد الإيعاز من ثروت، والاستئذان من إنجلترا؛ ووافقه الجميع على ذلك الرأي.
٩٨
والحق أن كفة السلبيات في الوزارة الثروتية تبدو راجحة إلى حدٍّ كبير، فقد اتخذت
إجراءات متوالية من إجراءات العسف والاضطهاد ومصادرة الحريات، مثل منع الاجتماعات
السياسية المخالفة لها، وتعطيل الصحف المعارضة، والوقوف موقف المتفرج من اعتقال السلطات
البريطانية أعضاء الوفد، ومحاكمتهم. ثم كان إسهامها المباشر في إفساد الحياة المصرية
بالمساعدة في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين في أكتوبر ١٩٢٢م. وكان إعلان ذلك الحزب بداية
انعطافٍ حادٍّ في الحياة السياسية في مصر. وكما يقول الرافعي، فقد كان قوام حزب الأحرار
الدستوريين «من كانوا ينادون بالديمقراطية، ويتغنَّون بالدستور والحرية، وقد برهنت
أفعالهم على نقيض أقوالهم، ودلَّت الحوادث على أنهم لم يكونوا جادين في الدعوة إلى هذه
المعاني السامية، وأنها قد تضاءلت في سبيل الوصول إلى المناصب، وتحقيق الأطماع
الشخصية.»
٩٩ ولعله مما يدين ثروت — شخصيًّا — أنه عندما أراد أن يحتكم في خلافه مع سعد،
فإنه «اختار الأمراء وذوي الرأي والمكانة في البلاد.»
١٠٠ وكان سعد ذكيًّا عندما رفض التحكيم.
وأيًّا يكن الرأي في وزارة ثروت — وهو رأي يُدينها عمومًا — فقد حاولت أن تضفي على
الحياة السياسية المصرية بعض مظاهر الاستقلال، مثل إنشاء وزارة الخارجية، وإبطال عادة
الاحتفال بيوم عيد جلوس ملك إنجلترا، أو يوم عيد ميلاده، وإلغاء وظيفة مستشار وزارة
الداخلية، ومنع المستشار المالي البريطاني من حضور جلسات مجلس الوزراء، وتعيين عددٍ من
كبار الموظفين المصريين — بدلًا من كبار الموظفين الإنجليز — في الدوائر الحكومية
المختلفة، وإنشاء المجلس الاقتصادي، وإيفاد البعثات العلمية إلى الخارج لتخريج مصريين
أخصائيين في الوظائف الفنية. ثم كان وضع دستور ١٩٢٣م أهم الإنجازات التي تحققت في عهد
الوزارة الثروتية. من هنا جاء قول إسماعيل صدقي في مذكراته عقب استقالة وزارة ثروت
(٢٩/ ١١/ ١٩٢٢م) إنها تركت لخلفها تراثًا سياسيًّا مجيدًا.
١٠١
•••
تجدد الخلاف — أو تفاقم — للمرة الثانية، بين سعد زغلول زعيم الأمة وعدلي يكن رئيس
الحكومة على رئاسة وفد المفاوضة الثاني سنة ١٩٢٢م، فقد تمسَّك عدلي بأن تكون له رئاسة
وفد
التفاوض ما دام هو رئيسًا للحكومة، وباعتبار أن التقاليد السياسية لا تسمح بأن يتدخل
رئيس الحكومة في هيئة سياسية للمفاوضة أو غيرها، ولا يكون هو رئيسها، بينما أصر سعد
زغلول على أن يكون هو رئيس هيئة المفاوضات، ما دامت الأمة قد أولته زعامتها، فمن حقِّه
أن
يتولى رئاسة الهيئة التي ستصل عملها بتقرير مصير الأمة.
١٠٢ ويسأل داود بركات رئيس تحرير «الأهرام» سعد زغلول في ٢٣ مايو ١٩٢٢م: هل
يمكننا أن نعرف الشروط التي اشترطتموها على الوفد الرسمي بشأن المفاوضات مع الإنجليز
حتى تولوا ذلك الوفد ثقتكم؟ فيجيب: لقد اشترطنا أن تعين مهمة المفوضين الرسميين، وتحدد
بمرسوم سلطاني تحديدًا يتفق مع مطلب الأمة ومبادئ الوفد، أما مهمة المفوضين فيجب أن
تكون:
-
(١)
الوصول إلى إلغاء الحماية إلغاء تامًّا صريحًا، أي إلغاء الحماية التي وُضعَت على
مصر في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م، والتي وردت في معاهدة فرساي ومعاهدات الصلح الأخرى التالية
لها.
-
(٢)
الاعتراف باستقلال مصر استقلالًا دوليًّا عامًّا سواء كان في الداخل أو في الخارج،
مع مراعاة إرادة الأمة التي أيَّدتها بالتحفظات المُدخَلة على مشروع اللورد ملنر عندما
عرض
عليها قبل الدخول في المفاوضات.
-
(٣)
إلغاء الأحكام العرفية والمراقبة الصحفية قبل الدخول في المفاوضات.
-
(٤)
أن تكون غالبية المفوضين الرسميين للوفد، وأن تكون رئاسة الهيئة المفاوِضة مع
الوفد. ويرى الوفد أهمية كبرى لرئاسة المفوضين لأن الوفد هو المسئول أمام الأمة عن
المفاوضات ونتيجتها، فيجب حتمًا أن تكون بيده إدارتها حتى يتصرف فيها بإبداء كل ما يراه
صالحًا ويقطعها على حسب الأحوال، ولا يمكنه أن يتمكن من ذلك إذا كانت الرئاسة بيد غيره.
إني لم أسع، ولن أسعى، لأن أكون مفاوضًا … ولكن الحكومة رأت ضرورة اشتراك الوفد في
المفاوضات، فرأى الوفد أنه لا يستطيع قبول الاشتراك بدون تلك الشروط. كما أنني لا
أستطيع أن أؤيد أي مصري يدخل في المفاوضة إذا لم يحدد مهمته بالمرسوم السلطاني على
الوجه الذي تقدَّم حتى أكون واثقًا بأن الغاية التي يسعى إليها هي غاية الأمة، فإذا فاوضت
الوزارة على غير شريطة الوفد فإن الوفد لا يؤيدها.
١٠٣
وفي نوفمبر ١٩٢٢م انعقد مؤتمر الصلح بين تركيا والحلفاء في لوزان، ولم يكن لمصر وفد
رسمي، ولكن كان لها وفدان متخاصمان: وفد الوفد المصري في فندق لوزان بالاس، ووفد الحزب
في فندق سيسيل. وكان سعد زغلول على مستوى المسئولية حين بعث برقية من جبل طارق إلى
الوفدين — الوفد المصري والحزب الوطني — بعد اتحادهما، قال فيها: «سرَّني الخبر الذي
وصل
إليَّ من إبرام الاتفاق بينكم، ولكني لا أرى لزومًا للسعي لدى مؤتمر لوزان من أجلي، إن
الأفضل أن توجهوا مجهوداتكم إلى تحقيق أهداف الأمة.»
١٠٤ بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت تصريحات المسئولين البريطانيين عاملًا حاسمًا
في انجذاب المصريين إلى سعد زغلول، ورفضهم لعدلي. فبعد أيام من نشوب الثورة قال كيرزون
وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم: «إن الحكومة البريطانية لم تبدِ قَطُّ أدنى معارضة
أو
سوء نية نحو مجيء رشدي باشا وعدلي باشا إلى إنجلترا، فإننا نرى دائمًا أن من أهم الأمور
أن نتفق معهما على تحديد الشكل الذي ستكون عليه الحماية البريطانية في مستقبل الأيام.
أما الحال مع سعد زغلول باشا فيختلف كل الاختلاف عنه مع هؤلاء لأنه هو وأنصاره هم الذين
دبَّروا هذه الاضطرابات، وهم قوم غير مسئولين، غرضهم إخراج الإنجليز من مصر.»
١٠٥ ومن الطبيعي أن يكون إيمان المصريين بكل ما يعلنه سعد زغلول، ورفضهم لكل ما
ينادي به عدلي يكن هو رد الفعل الطبيعي لمثل ذلك التصريح.
والمؤسف أن الخلاف بين الرجلين كان سببًا في انشقاق الأمة وبعثرة جهودها، واستطاع
الإنجليز أن يفرضوا سياستهم، ويحققوا أغراضهم الاستعمارية من وراء هذا الانشقاق، فكانوا
— أحيانًا — يقربون الدستوريين، ويقصون الوفديين، وكانوا — أحيانًا — يفعلون العكس «كل
ذلك على حساب الدستور ومصلحة الشعب.»
١٠٦
ولعلنا نذكر قول لامارتين: «في كل معركة عَلَمان، فإذا انتهت المعركة فقد ذهب علم
الهزيمة، وبقي علم الانتصار، إلا إذا كانت معركة بين أهل الوطن الواحد؛ عندئذٍ يسقط
العلمان، ويرفرف على الميدان علم أسود هو علم الموت والخراب.»
لقد كان ذلك الاختلاف هو بداية المأساة التي عاشتها الحياة السياسية المصرية منذ ١٩٢١م
إلى ١٩٥٢م، بل لقد كان ذلك الاختلاف نذير الإجهاض الذي عانت نتائجه ثورة ١٩١٩م.
•••
نحن نلحظ أن الأحزاب السياسية التي أفرزتها ثورة ١٩١٩م، لم تواجه الرأي العام ببرامج
محددة، واضحة، بل إن الوفد المصري ظل — إلى وفاة سعد زغلول، وربما إلى أعوامٍ تالية —
يعتمد على شخصية زعيمه، وحب المصريين له. ومع انقضاء عشرات الأعوام على انتهاء ثورة
١٩١٩م، ورحيل سعد؛ فإن الرجل (كوم الدكة) يؤكد أن مصر لم تعرف الزعامة إلا أيام سعد
زغلول.
١٠٧ أما برنامج الوفد المعلَن فلم يكن يعدو شعارَين يتسمان بالعمومية إلى حدٍّ
كبير: الاستقلال، وحكم الشعب بواسطة الشعب. من هنا جاء قول محمود كامل: «من الإسراف في
المغالطة أن يدعي حزب من الأحزاب السياسية المصرية، التي تتناوب الحكم في مصر منذ عام
١٩٢٠م، أنه أيقظ الشعور الوطني، وحدد للمصريين أهدافًا معينة دعاهم للوصول
إليها.»
١٠٨
وقد حرص عدد كبير من الإقطاعيين والرأسماليين على البقاء خارج الأحزاب، خشية التعرض
للخصومات الحزبية العنيفة، وما يسبقها من إجراءات للحزب الحاكم تستهدف خصومه. كانوا
يحرصون على الإفادة من كل الأحزاب في توالي ممارستها للسلطة، كل حزب بالقدر المتاح،
بقدر المصالح المتبادَلة بينهم وبين قيادات الأحزاب.
•••
يقول الضاحك الباكي: «إن صيف سنة ١٩٢٣م كان شيئًا جديدًا في حياة مصر، تمخض تصريح
٢٨
فبراير ١٩٢٢م عن شيء ظريف اسمه دستور وبرلمان، رقصت بعض الأحزاب، وطربت، وأطلقت
الزغاريد، وأقامت الزينات، ورقمت الأعياد في رسمياتها، وكشرت بعض الأحزاب عن أنيابها،
ولبست السواد، ونادت بالويل والثبور وعظائم الأمور، واعتبرت تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢م
نكبة! ونشبت المعارك، ودار الطعن والطحن والضرب والنزال والنضال، حتى نادى المنادي في
البوق أن هناك «انتخابات»، فإذا بالأحزاب الضاحكة والأحزاب الباكية تُقبِل على
الانتخابات.»
١٠٩
كان لهب الثورة يشوي وجه إنجلترا، ويكاد يلتهم مصالحها في مصر والشرق بأسره، فاضطرت
إلى التصريح من جانبها بأنها «تعترف باستقلال مصر، مع احتفاظها ببعض الحقوق.»
١١٠ ذلك ما كتبه مفيد الشوباشي في الخيط الأبيض. يقول لويد جورج وزير
المستعمرات: «ومن حيث إن كل المفاوضات الأخيرة لم تؤت ثمرة ما، فقد تقرر أن نمضي إلى
إنهاء الحماية على قاعدة تصريح من جانب واحد.»
١١١ كان لويد جورج يعتنق شعار تشرشل: قامت
الإمبراطورية بحد السيف، وتبقى به دائمًا. وكان رأيه أن شعوب الشرق لا تصلح لها إلا
سياسة العصا الغليظة.
١١٢ وحين زار لويد جورج مصر — بعد إعلان الاستقلال — لم يترك أي شك — منذ لحظة
وصوله — حول الهدف الذي قدِم من أجله، وتصرف كأنه الحاكم العام في إحدى مستعمرات التاج،
أو نائب الملك في نيودلهي. رفض أن يقدِّم أوراق اعتماده إلى الملك، وامتنع عن زيارة أحد
من الساسة المصريين، وانتظر أن يأتوا هم لزيارته في مقره، وقرر أن يطوف البلاد للتعرف
على المشكلات على الطبيعة في مواكب رسمية، أعد لها سلفًا.
١١٣ ويرجع محمد أنيس مبادرة إنجلترا بإصدار تصريح ٢٨ فبراير من جانب واحد، إلى
حركة الاغتيالات التي قام بها الفدائيون المصريون. فقد أحدثت رعبًا في نفوس الإنجليز
وصنائعهم من المصريين، وامتد توقع الخطر ليشمل كل الجاليات الأجنبية التي يحمل أفرادها
جوازات سفر بريطانية، فضلًا عن المحال التجارية والبنوك ووكالات الشركات التي تديرها
رءوس أموال غير مصرية. بالإضافة إلى ذلك، فقد أرادت بريطانيا بإعلان التصريح، رفع
مسئولية الأمن في مصر عن كتفيها، ووضعها على كاهل الحكومة المصرية.
١١٤ وثمة رأي مقابل يجد أن تصريح ٢٨ فبراير جاء استجابة لشروط عبد الخالق ثروت
بأن يسبق إعلان التصريح تأليفه للوزارة.
أما الحقوق التي احتفظت بها إنجلترا مع إعلان الاستقلال فهي ما اصطلح على تسميتها
بالتحفظات الأربعة التي تعد لمباحثات مقبلة، وهي:
-
حماية مصر من أي اعتداء خارجي.
-
حماية مواصلات الإمبراطورية.
-
حماية الأجانب والأقليات.
-
حماية حقوق بريطانيا في السودان.
كانت تلك التحفظات — أو النقاط الأربع — أشبه بالمصيدة التي أراد بها الإنجليز اصطياد
طلاب الحكم، فضلًا عن تعميق الخلاف بين البرجوازية الوطنية ممثَّلة في الوفد، وبين
الأرستقراطية والبرجوازية الزراعية ممثَّلة في الأحرار الدستوريين. وهو ما أشار إليه
الفنان بالفعل. والحق أنه كان للأرستقراطية الزراعية نفوذها الواسع في كل التنظيمات
السياسية والحزبية — أو معظمها في الأقل — ففي حزب الأحرار الدستوريين كان هناك محمد
محمود ومحمد علي علوبة وصالح لملوم وتوفيق دوس وإبراهيم الهلباوي وعدلي يكن والبدراوي
عاشور، وكان الحزب يسمي نفسه حزب أبناء البيوتات. وفي حزب الوفد كان هناك فتح الله
بركات وواصف بطرس غالي ومرقص حنا. وبعد عام ١٩٢٦م زاد عدد نفوذ كبار الملاك في حزب الوفد
بضم فؤاد سراج الدين ومحمد سليمان الوكيل ومحمد المغازي وبشرى حنا ومحمد الحفني الطرزي
وأحمد مصطفى عمرو وفهمي ويصا. وكان لأحمد عبود صلة وثيقة بالوفد (كتب فكري أباظة في
سبتمبر ١٩١٩م: «والأحزاب ترتكز في حياتها على المال والنفوذ والخبرة»)
•••
كثرت الشفاعات والوساطات والمحسوبية، وتوالت الوزارات دون أن يتاح لإحداها أن تمارس
عملها على نحوٍ صحيح، أو غير صحيح،
١١٥ وعمَّت البلاد موجات عارمة من السخط لأنه لم يتغير شيء من وجه الحماية
البريطانية. وهتف أحمد (الخيط الأبيض) في غضب: «ماذا يحسبنا أولئك الإنجليز؟ أيحسبوننا
أطفالًا؟! إنهم يظنوننا سذجًا، وظنهم هو السذاجة بعينها … هل يحسبوننا ننخدع بالأقوال
دون الأفعال؟ هل يحتفظون بحق بقاء جيشهم في مصر، وبحق الإشراف على شئوننا، ويعترفون مع
ذلك باستقلالنا؟ أي استقلال هذا؟ إنهم يأخذون بالشمال ما أعطوه باليمين.»
١١٦ وعلى الرغم من صدور التصريح؛ فإن عائشة التي لم تكن تفقه في السياسة شيئًا
تقول لأختها خديجة — بتأثير إحساسها أن الاستقلال ليس حقيقة — أنت سيدة مستقلة … عقبى
لمصر!
١١٧ ووصفت الصحف الكاريكاتورية السياسي المصري أمين يوسف بأنه «النقطة الخامسة
المحتفظ بها.»
١١٨ وأكد اللورد كيلرن عمالة الرجل بأنه التصق تمامًا بدار الحماية، وراح يطلب
— دون هوادة — تأييدها ومساندتها له، «وقد أنقذنا حياته الرسمية أربع أو خمس مرات،
بالتدخل الشخصي المباشر لدى رئيس الوزراء.»
١١٩ لكن اللورد اعترف بأنه منذ وفاة سعد زغلول، فَقَدَ أمين يوسف كل تأثير له في
الدوائر الوفدية.
١٢٠ وقد بعث لويد جورج إلى بعض الحكومات، يؤكد أن تصريح ٢٨ فبراير «لا يتضمن
تغييرًا ما في الحالة الراهنة من حيث مركز الدول الأخرى في مصر، وفي نيَّتنا أن نصرح
أن
رفاهية مصر وسلامتها ضروريان لسلم الإمبراطورية البريطانية وسلامتها، ولذلك فإنها — أي
بريطانيا — ستحافظ دائمًا بينها وبين مصر على العلاقات الخاصة التي اعترفت بها الحكومات
الأخرى منذ زمن طويل، باعتبار ذلك مصلحة بريطانية جوهرية.»
١٢١ وبالفعل فإن المواد المتصلة بتصريح ٢٨ فبراير تؤكد جميعًا أن الاستقلال
تغيب عنه تلك الصفة.
١٢٢ وقد علَّق توينبي على التحفظات الإنجليزية الأربعة بقوله: «إن الاستقلال الذي
منحته مصر قد حدت منه هذه التحفظات، لدرجة أنها أفقدته معناه الحقيقي.» وإذا كان ثروت
قد صرح بالقول: «أنا قبلت التصريح لا لأنه يحقق أمانينا، بل لأنه خطوة فقط نحو تلك
الأماني.»
١٢٣ فإن إسماعيل لطيف أعلن — في تأكيد — أن الأمة
المغلوبة على أمرها رفضت التصريح بإباء، «ولكنه فُرض عليها وما كان كان.»
١٢٤ وثمة رأي أنه «لولا جبن الوفد المصري وخوفه، ولولا معرفة الإنجليز بجبنه
وخوفه، لما تجاسروا قَطُّ، بل لما فكروا قَطُّ بامتهان حقوق مصر، بعدما وجفوا من عملها
المدمر
سنة ١٩١٩م، ولما أقدموا عليه من الاستهتار الذي تعاني مرارته الآن.»
١٢٥ ولم يقتنع الشباب بجدوى التصريح في السير إلى استقلال البلاد بخطواتٍ
حقيقية؛ اعتبروه من شأن السياسة، وقرروا تصاعد العمل الفدائي باعتباره السبيل الحقيقي
لانتزاع الاستقلال، والنظر إلى التصريح كأنه لم يكن.
١٢٦
مع ذلك، فقد وجد تصريح ٢٨ فبراير صدًى في نفوس بعض الزعماء الذين فقدوا ثوريتهم،
مثل
إسماعيل صدقي الذي يقول في مذكراته: «ومما يجب أن يُسجَّل للتاريخ أن جميع المحبين لمصلحة
البلاد قد وقع منهم هذا التصريح موقعًا حسنًا، إذ اجتازت مصر بمقتضاه طورًا جديدًا من
أطوار حياتها السياسية، وقطعت مرحلة من مراحل جهادها الوطني كان لها أثرها. ودلَّت
الحوادث — فيما بعد — على أن هذا التصريح ساعد مصر على دخول المفاوضات، وأتاح للوزارة
أن تبدأ عهدًا جديدًا، وأن تضع لنفسها دستورًا على أحدث المبادئ الدستورية، وأن تتصرف
في شئونها كدولة مستقلة ذات سيادة.» بل إن إسماعيل صدقي يجد في نفسه الجرأة ليعلن بأنه
«كان لي الشرف أن أكون أحد واضعي تصريح ٢٨ فبراير، ثم كان لي الشرف أن أكون عضوًا في
وزارة ثروت باشا التي أعلنت استقلال مصر بعد إعلان هذا التصريح بخمسة عشر
يومًا.»
١٢٧ ويصف صدقي فترة ما قبل ميلاد التصريح بأنه «قد دارت المحادثات بيننا نحن
الاثنين — ثروت وصدقي — من جهة وبين اللورد اللنبي. وإذا ما قلت ثروت وصدقي، فإني أقول
إننا كنا على اتصالٍ بعدلي باشا وإرشادٍ منه في كل الأدوار، وقد وضعنا مشروع تصريح ٢٨
فبراير، وتوليت تحرير هذا المشروع باللغة الفرنسية.»
١٢٨ فهو — بذلك الاعتراف — ينفي ما قيل من أن تصريح ٢٨ فبراير قد صدر من جانب
واحد.
١٢٩ ويقول الرافعي: «إن تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م يكون ضارًّا لو قبلته الأمة،
وارتضت به، واعتبرته خاتمة الجهاد. أما إذا كانت ماضية في جهادها، فإنه بلا شك فوز لها
في معركة من سلسلة المعارك التي يتألف منها نضالها القومي الطويل. إن ميزة هذا التصريح
أنه إعلان من جانب واحد هو إنجلترا، وليس فيه ارتباط أو قبول من جانب مصر، أي أن مصر
لم
تتقيَّد بموجبه بأي قيد، ولا تنازلت عن أي حق، ولا تقيَّدت بالتحفظات الواردة فيه، فهو
من
هذه الناحية يفضل حل القضية المصرية بواسطة مشروعات المعاهدة المتعاقبة، لأن هذه
المشاريع قد تضمنت تنازلًا من جانب مصر عن حقوق لها، واعترافًا بمركز غير مشروع
للاحتلال، وهذا الاعتراف، وذلك التنازل، لم يفرضا على البلاد في تصريح ٢٨ فبراير
١٩٢٢م.»
١٣٠ ثم يضيف الرافعي: «على أنه يجب أن نلحظ خطورة التحفظات التي استبقتها
إنجلترا في تصريح ٢٨ فبراير. حقًّا إن مصر لم تعترف، ولم ترتبط بهذه التحفظات، ولكنها
في
الواقع هادمة للاستقلال، مبقية مصر في دائرة الحماية الفعلية، ولهذا لم تقابل الأمة هذا
التصريح بغير الإعراض والاستنكار، وهي محقة في هذا الموقف.»
١٣١ وكان ذلك بالفعل ما عكسته تصريحات المسئولين البريطانيين، مثل لويد جورج
الذي أعلن «أن إنهاء الحماية البريطانية على مصر لا يتضمن تغييرًا ما في هذه الحالة
الراهنة من حيث مركز الدول الأخرى في مصر، وفي نيتنا أن رفاهية مصر وسلامتها ضروريتان
لسلم الإمبراطورية وسلامتها.»
١٣٢
•••
كان إعلان تصريح ٢٨ فبراير انتصارًا شخصيًّا للسلطان فؤاد، فقد انتهت تبعية مصر
لتركيا بهزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وكان من البديهي أن يعلن ملكًا لينفرد
بالسلطة. ومثَّل الإعلان كذلك استجابة لمطالب عبد الخالق ثروت، من هنا كان الأقرب إلى
التوقُّع أن يعهد إليه السلطان فؤاد بتأليف الوزارة الجديدة. وبالفعل، طلب فؤاد من ثروت
في أول مارس ١٩٢٢م تأليف الوزارة. وكان إعلان الاستقلال والمناداة بالسلطان فؤاد ملكًا
على مصر — ١٥ مارس ١٩٢٢م — في مقدمة الأحداث التي عاصرتها الوزارة الجديدة، ولكن
الجماهير المصرية قابلت مظاهر الفرح التي أبدتها الدولة بفتورٍ وإعراض، فلم يكن ثمة
استقلال حقيقي لأن قوات الاحتلال لم تنقص جنديًّا واحدًا، والأحكام العرفية الأجنبية
ظلت على حالها، والتحفظات الأربعة تقوِّض دعائم الاستقلال بصورة ناسفة، والسودان مقتطَع
—
عمليًّا — من الأرض المصرية.
•••
كانت مصر تعاني — إلى ما قبل تصريح ٢٨ فبراير — من الأحكام العرفية، والقوانين
الاستثنائية، وقانون المطبوعات، وتقييد حرية الخطابة والكتابة، ومنع المظاهرات السلمية
والاجتماعات السياسية، فضلًا عن افتقاد البلاد لدستور ينظم سيادتها، ثم المشكلات
الجديدة التي كان صدور التصريح نتيجة مباشرة لها، مثل تعويض الموظفين الأجانب،
والبريطانيين خاصة، الذين فقدوا وظائفهم في ظل النظام الجديد. وقد شكَّلت الزعامات
القائمة آنذاك — بعد صدور التصريح — لجنة الثلاثين، أو لجنة الأشقياء كما سمَّاها سعد
زغلول، لوضع الدستور، لتحويل اهتمامات الجماهير إلى المطالبة به، بدلًا من التركيز على
المطالبة بجلاء قوات الاحتلال. وقد نسي الزعماء بالفعل مبدأ الثورة الأول وهو الجلاء،
وأصبح الوصول إلى مقاعد الحكم هو الأمل الذي تتوق لتحقيقه كل الأحزاب. ومع ذلك، فحين
رفع ثروت مشروع الدستور إلى الملك فؤاد ليقوم بإعلانه، أخذ الملك يماطل ويسوِّف لأنه
رأى
أن الدستور يحد من سلطته المطلقة. وكان يرى إسقاط عبارتَين من مشروع دستور ١٩٢٣م، الأولى
إن «الأمة مصدر السلطات»، والثانية إن «الوزارة مسئولة أمام البرلمان». وحين أصر ثروت
دبَّر له الملك المكائد حتى حمله على الاستقالة، وأتى بتوفيق نسيم.
فلماذا استقال ثروت؟ ولماذا قبِل الملك فؤاد الاستقالة؟
كان صدور الدستور في عهد وزارة ثروت، وبتأييدٍ منه، عاملًا أساسيًّا في نقمة الملك
على
ثروت، ذلك لأن الدستور كان يغل سلطة السراي، ويُرجِع الحكم إلى الشعب، وذلك ما لم يكن
يريده الملك، فضلًا عن أن الملك — وهذا تفسير للرافعي — كان يحتمل ثروت على كرهٍ منه،
لأن ثروت كان ذا شخصية كبيرة، ويعتد ببرامجه وشخصيته، بينما كان المستوزرون — في تقدير
الملك — مجرد موظفين في بلاطه!
١٣٣
•••
يصف الماريشال ويفل الفترة من ١٩٢٢م إلى ١٩٢٤م بأنها تاريخ صراع ثلاثي، أطرافه الثلاثة:
الملك، والجماعة التي تضم معظم المثقفين المصريين، والتي يصح تسميتها بحزب الأحرار، ثم
الحزب الشعبي الذي كان ينادي بسعد زغلول رئيسًا له.
١٣٤ كان من بواعث كراهية المصريين للملك فؤاد أن الحكومة البريطانية هي التي
وضعته على العرش، وأنه يخدم مصالح بريطانيا، ولا يؤيد الحركة الوطنية، ولا يشغله سوى
بقائه على العرش.
١٣٥ وقد خرجت المظاهرات المؤيدة لسعد — ذات يوم — تسوق في مقدمتها حمارًا
مدثرًا بقماش أبيض نُقش عليه بالأحمر: السلطان فؤاد، ويمتطي أحد أبناء البلد حمارًا،
ويضع على رأسه قبعة بريطانية، والناس من حوله تهتف: يا فؤاد يا وش القملة … مين قالك
تعمل دي العملة؟
١٣٦
والحق أن طموح الملك فؤاد وفهمه للسلطة والثروة — والرأي لمحمد عودة — لم يكن يتعارض
في شيء مع المصالح البريطانية، بل كان همه أن يثبت لهم أنه وحده الأقدر والأفضل على
حراسة هذه المصالح، ولا بد أن يعتمدوه، ولا حاجة بهم إلى أحد آخر.»
١٣٧ أظهر الولاء للاحتلال طيلة فترة الحرب العالمية الأولى، وترأس اللجنة التي
تألَّفت لتكريم الجنرال السير جون مكسويل قائد جيش الاحتلال. ثم ارتضى أن تكون الحماية
هي
التي رفعته إلى عرش مصر، وأعلن ذلك في أول خِطاب له إلى رئيس النظار حسين رشدي في أكتوبر
١٩١٧م. وقد لاحظ الطالب السوري عدنان الأسطواني أن المندوب السامي البريطاني كان يجلس
في
حفل رسمي، وهو يضع ساقًا على ساق، وحذاؤه يتجه إلى حيث يجلس الملك فؤاد، دون أن يتململ
الملك، أو يبدو عليه الضيق.
١٣٨
هو آخر أبناء الخديو إسماعيل. وُلِد ونشأ وتخرج في المنفى بإيطاليا. التحق بالمدرسة
الإعدادية الملكية بتورينو، ثم بالكلية الحربية الإيطالية، وخدم بالجيش الإيطالي ثلاث
سنوات، ثم عُيِّن ملحقًا عسكريًّا لمدة عامين بالسفارة التركية في النمسا. وعُيِّن ياورًا
لملك إيطاليا، وزكَّى نفسه لكي يصبح ملكًا على ألبانيا، أو نائبًا للملك في ليبيا تحت
التاج الإيطالي، ثم عاد — بالإخفاق — إلى مصر، ليجد عرشها في انتظاره.
١٣٩ اختاره الخديو عباس حلمي الثاني كبيرًا للياوران لمدة ثلاث سنوات، ومنحه
رتبة لواء بالجيش المصري.
١٤٠ وقد تولى السلطنة وهو في التاسعة والأربعين من عمره. ويؤكد الأب (وطنه
قضيته) أن الملك فؤاد كان يعد الفلاحين عبيدًا؛ فهو يتقزز من رائحتهم، ويغسل يديه
بالمطهرات إذا اضطرته الظروف للسلام عليهم.
١٤١ وقد حرص الملك على أن يحقق أكبر امتيازات لنفسه ولأسرته، بدءًا بحصر الملك
في شخصه وأولاده من بعده، وانتهاء بتعيين ابنه فاروق وليًّا للعهد، مرورًا بحصر من يجوز
لهم أن يتسموا بالأمراء، وتصفية أملاك الخديو عباس حلمي الثاني حتى لا يطمع أحد من
أولاده في وراثة ملك أبيه.
١٤٢ وعندما عُيِّن فؤاد سلطانًا على مصر، كان مدينًا بمبالغ كبيرة للعديد من
الشخصيات المصرية، ولأندية القمار، وعُرف عنه أنه كان يتردد — في طلب الطعام — على بيوت
أصدقائه ليلًا، وكان ينزل من الحنطور — أحيانًا — دون أن يدفع للحوذي أجره،
١٤٣ لكنه ترك — عند وفاته عام ١٩٣٦م — ثروة تبلغ سبعة ملايين من الجنيهات، وكانت
مبلغًا هائلًا في تلك الأيام. تحوَّل الملك من أميرٍ مفلس مدين، إلى أكبر ملَّاك مصر،
وأثرى
أثريائها إطلاقًا، وأعاد تدريس كتابة تاريخ مصر ليصبح عهد الأسرة العلوية هو أبرز فترات
الحكم في مصر، وتولى المهمة مؤرخون محترفون، مصريون وأجانب.
١٤٤ ويقول اللورد كيلرن: «كانت مفاجأة لي عندما أخبرني رولو أن الملك فؤاد رجل
ثري للغاية، وأن الملك كلَّفه أخيرًا أن يشرف — شخصيًّا — على عملية نقل ٤٠٠ ألف جنيه
إسترليني — باسم الملك — إلى إيطاليا، وقال لي رولو إنه لا يعرف إذا كان الملك قد نجح
في إخراج هذا المبلغ ومبالغ أخرى مماثلة، أودعها هناك.»
١٤٥ وكان زواج فؤاد من نازلي هو الزواج الثاني له، وكان زواجه الأول من أميرة
واسعة الثراء، طلقها بعد أن أساء معاملتها، لأنها — كما قالت بعض الروايات — منعته من
الاستيلاء على ثروتها. وحاول شقيقها الأمير سيف الدين أن ينتقم لها، فأطلق عليه الرصاص،
لكنه نجا بعد إصابته بعاهة مستديمة في حلقه، واستطاع الأطباء أن يسدوا الثقب بجلبة (!)
من الفضة، ظلَّت تؤثر على قدرته على الكلام.
١٤٦ وكان يصفِّر إذا ضحك أو زعق.
١٤٧ ويقول نيفيل هندرسون إن الملك فؤاد كان «من هؤلاء المؤمنين إيمانًا راسخًا
بنظرية «فرِّق تسد» التي يتخيل أنه يمكن تطبيقها على أحسن وجه إذا كانت هناك أحزاب عديدة
قائمة.»
١٤٨
كان العيب في الذات الملكية — كما يؤكد الراوي في «المرايا» — يعد درجة لا بأس بها
من
درجات الجهاد، يضمن لصاحبه موضعًا في صفحة المجاهدين.
١٤٩ وثمة رواية عن مغني ربابة في الصعيد، دعاه حكمدار قنا ليغني أمام الملك
فؤاد، فأخذ المغني يعيد ويزيد في حساب الكفرة في الآخرة بدلًا من أغنيات الحب، واعتبر
الملك ذلك مؤامرة من الوفد للإساءة إليه.
١٥٠
•••
عهد الملك إلى رئيس ديوانه توفيق نسيم بتشكيل وزارة إدارية تجري التعديلات التي
يطلبها في الدستور، وكما يقول الرافعي فقد كان اختيار نسيم لرئاسة الوزارة أمرًا
طبيعيًّا لأن وزارته كانت من صنع السراي لتتولى من خلالها الحكم، ومن ثَم فقد كانت بلا
برنامج تسير عليه.
١٥١ وحاول توفيق نسيم إجراء التعديلات التي طلبها الملك في سرية تامة، لكن
الضغط الشعبي أرغمه على تقديم استقالته بعد ثلاثة أشهر فقط. وكان أهم إنجازات الوزارة
النسيمية مسخ الدستور، وسلب بنوده الأساسية، ليصبح الدستور — في النهاية — منحة من
الملك لا حقًّا من حقوق الشعب. ثم وافق نسيم على المطلب الإنجليزي بأن تجري أحكام
الدستور على المملكة المصرية جميعها، عدا السودان. وكما يقول نهرو فهو دستور لم يشبهه
دستور آخر في الرجعية، فقد أعطى الملك فؤاد — ذلك الحاكم الذي فرضه الإنجليز على
المصريين — صلاحيات واسعة جدًّا.
١٥٢ مع ذلك، فقد أعلن عبد العزيز فهمي — في خطبة له — (١٨ مارس ١٩٢٥م) أنه كان
يعتقد أنه مناسب لمصر، لكن العمل أظهر أن ثوبه فضفاض.
١٥٣
وقد ظلَّت البلاد بلا وزارة مدة تزيد عن الشهر، إلى أن تألفت — فجأة — في ١٥ مارس
١٩٢٣م
— والتعبير للرافعي — وزارة برئاسة يحيى إبراهيم، وكانت هي الأخرى وزارة بلا برنامج،
وكان خمسة من أعضائها — بمن فيهم يحيى إبراهيم نفسه — أعضاء في وزارة نسيم! من هنا يأتي
وصف الرافعي لوزارة يحيى إبراهيم بأنها مدرسة توفيق نسيم «مدرسة الوصولية وانتهاز الفرص
للوصول إلى كرسي الوزارة.»
١٥٤
ولكن الدستور صدر أخيرًا في أبريل ١٩٢٣م، في ظل التدخل البريطاني من جهة، وسيطرة
السراي من جهة أخرى. وكما يقول شكري (الضاحك الباكي): «تمخض تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م عن
شيء ظريف اسمه «دستور وبرلمان»، رقصت بعض الأحزاب وطربت وأطلقت الزغاريد وأقامت الزينات
ورقَّمت الأعياد في رسمياتها، وكشَّرت بعض الأحزاب عن أنيابها ولبست السواد، ونادت بالويل
والثبور وعظائم الأمور، واعتبرت تصريح ٢٨ فبراير نكبة! ونشبت المعارك، ودار الطعن
والطحن والضرب والنزال والنضال حتى نادى المنادي في البوق أن هناك «انتخابات، فإذا
بالأحزاب الضاحكة والأحزاب الباكية تقبِل على الانتخابات.»
١٥٥ بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت نشأة النظام البرلماني في عام ١٩٢٣م، بُعدًا
جديدًا في الحياة المصرية، أثَّر — بصورة مباشرة — على توزيع الملكية الزراعية، فقد أدى
التنافس على الدوائر الانتخابية إلى الإقبال على اقتناء الأرض، وربط أكبر عدد من
الفلاحين عن طريق السيطرة على مقدراتهم ومصادر أرزاقهم، وأقدم على ذلك أيضًا عدد كبير
من غير ذوي المهن الزراعية، والذين اكتفوا بشراء الأرض، ثم تأجيرها.
كان دستور ١٩٢٣م — كما وصفه نهرو — «دستورًا لا يشبهه دستور آخر في
الرجعية.»
١٥٦ لكن شهدي عطية الشافعي تجاوز الملاحظات التي يمكن أن تُوجَّه إلى دستور ١٩٢٣م،
ووجد فيه «خطوة إلى الأمام، وكان يتيح للشعب أن ينظم صفوفه، وأن يتقدم في حركاته
الثورية، وأتاح هذا فعلًا في الفترات القليلة التي طُبِّق فيها، فكان الشعب يتنفس بعض
الشيء، ويفوز بقليلٍ من مطالبه، كما كانت الحياة البرلمانية بمثابة مدرسة يكشف فيها
أعداءه وأصدقاءه، ولكن الاستعمار والسراي والإقطاعيين وكبار رجال المال عملوا على تحطيم
الدستور المرة تلو المرة، بل على تعطيل الحياة النيابية بأسرها، على تزييفها وطبخ
انتخاباتها، وتدخل رجال الإدارة السافر في هذه الانتخابات، والالتجاء إلى القوة والبطش.
لقد فُرض دستور سنة ١٩٢٣م على الشعب، ولم يؤخذ رأيه فيه، سواء في لجنة تأسيسية أو غيرها،
ولكن سرعان ما أصبح الشعب أشد الناس استمساكًا به، وإصرارًا عليه، وأصبح الدستوريون
والسراي أشد الناس عداء له، فوصفه زعيم الدستوريين — ولما يمض عام واحد على وجوده —
بأنه «ثوب فضفاض»، ولم يتأخروا عن تعطيله وتزييفه، هم والملك، في أكثر من
مناسبة.»
١٥٧ ولعل أهم ما تضمنه الدستور أن الوصول إلى الحكم يأتي عبر صناديق الانتخاب،
وهو إنجاز ديمقراطي، رغم تدخلات السراي وعمليات التزوير، كما زادت الفرص أمام أبناء
الطبقة الوسطى في تولي الحكم، وحلولهم مكان الأجانب في الوظائف.
قاطع الوفد لجنة الأشقياء — كما سمَّاها سعد زغلول — لكنه ظل حريصًا على مراقبتها،
وإعلان هذه المراقبة من خلال خطب قادته، ومن البيانات والمقالات التي تناولت بها الصحف
الوطنية مناقشات الدستور، فضلًا عن الاجتماعات الجماهيرية التي كانت تمثِّل جمعية عمومية
قوامها قطاعات هائلة من المواطنين. وكان لذلك كله تأثيره في مناقشات اللجنة، وفيما
توصَّلت إليه من مواقف وبنود، حتى لقد أعلن هيكل أن المعارضة خارج اللجنة كان لها نفعها
في مساندة رأي بعض أعضاء اللجنة. كما أكد إسماعيل صدقي أن الدستور علقت به — عند صدوره
— آثار الفتنة التي ولد في حجرها، يعني أحداث ثورة ١٩١٩م.
•••
في ٣٠ أكتوبر ١٩٢٢م أعلن عدلي يكن عن تكوين حزب الأحرار الدستوريين، و«انضم إلى هذا
الحزب كثير من مفكري الأمة وأصحاب البيوت الكبيرة فيها.»
١٥٨ وكان من هؤلاء محمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وأحمد لطفي السيد بك ومحمد
علي علوبة بك وعبد العزيز فهمي بك وحافظ عفيفي بك وعبد الخالق مدكور باشا وجورج خياط
بك
وإبراهيم دسوقي أباظة بك وصالح لملوم بك وإبراهيم الهلباوي بك وعلي المنزلاوي بك،
بالإضافة إلى بعض المخالفين لسعد. وقد انضم آل داود (حديث الصباح والمساء) إلى الأحرار
الدستوريين، متوهمين أنهم يتبعون طريق الأسر الكريمة.
١٥٩ لذلك حمل الحزب منذ تأليفه طابع العداء لسعد وللوفد. ويفسر حافظ محمود
تسمية الأحرار الدستوريين بأنهم «أحرار» عن سلطان الزعامة، وأنهم لم يتحركوا بهذه
الحرية إلا في ظل الدستور.
١٦٠ فقد كان الشارع المصري كله مع سعد زغلول. ويقول هيكل إنه لما تم وضع دستور
١٩٢٣م أدرك عدلي يكن أن صدوره لن يكون سهلًا، ومن ثَم أقدم على تأليف حزب الأحرار
الدستوريين، وأنشأ جريدة «السياسة» لتكون لسان حاله، وأوكل إلى هيكل رئاسة
تحريرها.
١٦١ وثمة ظاهرة يرى إسماعيل صبري عبد الله أنها «تبدو لأول وهلة غير مفهومة»
وهي وجود أفكار راديكالية في كتابات الأحرار الدستوريين، مثل إقامة دولة عصرية،
والليبرالية الفكرية، والانفتاح على الثقافة الأوروبية، والدعوة إلى تعليم الفتاة … إلخ.
فسَّر إسماعيل صبري ذلك بأنه أشبه بالمحاولة التي قام بها — فيما بعد — جناح صديق المهدي
في حزب الأمة السوداني.
١٦٢ وقد وجد البعض فيما كانت تكتبه «السياسة» تباينًا لمواقف الحزب العملية،
وأنها كانت تحاول أن تقدم هوية ليبرالية تؤكد على الديمقراطية والحرية السياسية، وربما
الاجتماعية، ولكنها — في المقابل — وجهت هجومًا ضاريًا ضد الحزب الاشتراكي المصري،
وقذفته بعشرات الاتهامات. الأمر نفسه بالنسبة لموقفها من الاتحاد السوفييتي وثورته التي
كانت تجتاز أعوامها الأولى. وقد أعد الأحرار الدستوريون خططهم للانتصار على الوفد، على
أساس ما يتمتع به أنصارهم من عصبية عائلية أو مصالح مادية، وارتكازًا إلى أن غالبية
هؤلاء الأنصار من صفوة أصحاب الملكيات الزراعية في الريف.
١٦٣ ومن الواضح أن الرافعي كان له رأيه في الأحرار الدستوريين، فهو يقول إن
«الأطماع الشخصية لا تقف بهم عند حد، وهكذا كان تاريخهم القديم الحديث.»
١٦٤ ويقول الرافعي: «في الحق أن كل وزارة ألَّفها الأحرار الدستوريون، أو اشتركوا
فيها مع حلفائهم من الرجعيين، كانت أول قاعدة لها الحيلولة بين الأمة، وحقها في
الانتخاب الحر، وإهدار النظام الدستوري حكمًا أو فعلًا.»
١٦٥
•••
أحدثت حركة الوفد صدعًا هائلًا في الحزب الوطني، فقد انقسم إلى جماعتَين: جماعة
الرافعي التي كانت تؤيد الوفد، وجماعة مصطفى الشوربجي، وكانت تعلن ارتيابها في قيادة
الوفد، وتخوُّفها من أن تخسر الحركة الوطنية حين تتولاها تلك القيادة بمفردها.
١٦٦ وواجه الحزب الوطني مآزق عديدة في خصومته غير المبرَّرة للوفد المصري، مثل
هتاف بعض أنصاره في مظاهرات الثورة بحياة الخديو عباس، وتحالف جماعة مصطفى الشوربجي مع
حركة الأمراء، بل وتأليف وفد مقابل للوفد المصري. وقد انتخب الحزب الوطني محمد حافظ
رمضان رئيسًا له في أعقاب دستور ١٩٢٣م خلفًا لمحمد فريد، بعد أن قرر الحزب الاشتراك في
الانتخابات؛ فلم يكن من الجائز أن يشترك الحزب في المعركة الانتخابية دون أن يكون له
رئيس. وكان هناك رأي بمقاطعة الانتخابات لأنها وليدة دستور منبثق من تصريح ٢٨ فبراير
الذي هاجمه الحزب هجومًا عنيفًا، ولكن لم يؤخذ بهذا الرأي لأن مقاطعة الانتخابات تعني
إبعاد الحزب عن الحياة السياسية، وتجعله بمنأى عما يُتخذ في البرلمان من قرارات. وقد
كان
أهم مبادئ الاتجاه الرافض، عدم مشاركة الحزب الوطني في العمل الوزاري إلا إذا خرج آخر
جندي بريطاني من مصر، ارتكازًا إلى أن الوزارة في ظل الحكم الأجنبي المدعم بالقوة
العسكرية، إنما هي وزارة صورية لا تصنع شيئًا إيجابيًّا. وظل شعار الحزب الوطني حتى عام
١٩٤٦م، كما أعلنه زعيمه حافظ رمضان «الجلاء ووحدة وادي النيل وحيدة قناة
السويس».
١٦٧ لكن مصطفى الحفناوي يؤكد أنه ليس في برنامج الحزب الوطني هذه الأضحوكة التي
أُلصقَت به كذبًا وافتراء.
١٦٨ ويقول رفعت السعيد: «لقد كان حجم الحزب الوطني أقل بكثير من شعاراته
الطنانة، الأمر الذي جعل من هذه الشعارات — التي كانت مجرد تشدُّد لفظي لا يصاحبه أي
موقف
نضالي — مثارًا لسخرية الكثيرين، وخاصة الصحف الوفدية.»
١٦٩ وكانت الصحف الشيوعية تصفه بأنه «الحزب الذي يثرثر كثيرًا.»
١٧٠ أما محمد توفيق السلحدار، فقد كان يؤمن — إلى وفاته — أن الحزب الوطني هو
الحزب السياسي الوحيد الذي انفردت إرادة الأمة بتشكيله، رغم أنف الاحتلال، والذي قطع
كل
صلة به؛ ألا مفاوضة إلا بعد الجلاء. أما بقية الأحزاب السياسية ما بين التل الكبير
وثورة ١٩٥٢م، فبعضها في حكمه، خرج من معطف المعتمد البريطاني، وبعضها حسب حسابه بعد
مولده ألا يقطع صلته بالاحتلال.
١٧١
•••
في ١٥ مارس ١٩٢٣م تألَّفت وزارة يحيى إبراهيم بإيعازٍ من الإنجليز، بهدف تهدئة الخواطر
والأوضاع، وأعلنت الوزارة عن نيَّتها لإعلان الدستور إلى ما كان عليه، والإفراج عن
المعتقلين، والسماح بعودة المنفيين، والتمهيد لإقامة حكم دستوري صحيح.
١٧٢
وتولت وزارة يحيى إبراهيم إجراء الانتخابات — بداية ١٩٢٤م — ودخلها أحزاب الوفد
والأحرار الدستوريين والوطني، وعدد كبير من المستقلين. كان من المفروض أن يستمر الوفد
في موقفه من تصريح ٢٨ فبراير، وما ترتب عليه، لكنه ما لبث أن أعلن عن اشتراكه في
الانتخابات.
والملاحظ أن سعد زغلول وافق على دخول الانتخابات على الرغم من رفض الأمة لتصريح ٢٨
فبراير، وأن أعدادًا كبيرة من الوفديين كانت ضد فكرة تولي سعد زغلول الوزارة، مثل سالم
جبر (المرايا): «كان من رأيي ألَّا يتولى سعد زغلول الوزارة، وأن يظل الوفد وراءه في
الميدان الشعبي حتى تتحقق رسالة الوفد الوطنية.
١٧٣ وقاد الأحرار الدستوريون حملة ضد اشتراك الوفد في الانتخابات: كيف يستنكر
تصريح ٢٨ فبراير ودستور عام ٢٣، ثم يشترك في تنفيذهما؟ وردَّ سعد زغلول على ذلك بمقولته
المشهورة: «إن الاستنكار شيء، والتنفيذ شيء آخر.»
مع ذلك، فقد جرت الانتخابات في جو من الحرية الكاملة، ولم يُسمَح لرجال الإدارة
بالتدخل. ومع أن الانتخابات تمت على درجتين، فقد اكتسح الوفد المعركة تمامًا، وحصل على
١٩٥ مقعدًا، في حين لم ينل المعارضون إلا ١٩ مقعدًا، وفقد غالبيتهم قيمة التأمين.
وكما يقول الفنان فقد «افتتح إبليس اللعين معركة الانتخابات، فضاعت أسر، وضاعت روابط،
وضاعت تقاليد، وضاعت ثروات.»
١٧٤ لكن مجلس النواب لم يستعمل — منذ ذلك العام — حقَّه الدستوري في الاقتراع على
عدم الثقة بوزارة ما، وإسقاطها، بل العكس هو الذي حدث؛ فقد استطاعت وزارات الأقليات
التخلص من المجالس النيابية المناوئة لسيطرة السراي، أو النفوذ البريطاني.
وكانت انتخابات ١٩٢٤م امتحانًا حقيقيًّا للشعارات التي تعاني فقدان التطبيق، خسر مرشحو
«المصلحة الحقيقية» أصوات ناخبيهم، وخسر غالبيتهم تأميناتهم، وخسروا أيضًا كل فرصة
تالية في النجاح، ولم يعُد أمامهم إلا اللجوء لحق السراي — التي كانوا يعادونها — في
التعيين لمقاعد مجلس الشيوخ!
مثَّلت نتيجة الانتخابات إنذارًا إلى كبار الملَّاك — الذين نجحوا في الانتخابات أو
فشلوا
على حد سواء — فقد شعروا أن سلطتهم التقليدية في قراهم اهتزت بشدة. الفلاح الذي كسب حق
الانتخاب لن يصبح هو الفلاح الذي تسهل قيادته والسيطرة عليه، وبدءوا ينظرون إلى
المستقبل بنظرات ملؤها الريبة والقلق. كانت هزيمة أحزاب الأقلية — تحديدًا — بمثابة حكم
أصدره الشعب على القيم الحقيقية للقوي السياسية القائمة. تركزت ثقة الجماهير في الوفد
وزعيمه، بينما تراجع الحزب الوطني بشدة إلى دائرة الظل، ولم ينجح ممثِّلو الأحرار
الدستوريين رغم نفوذهم الإقطاعي الكبير الذي يمتد في مساحات كبيرة من الريف إلا في
مقاعد قليلة.
ومع أن بعض قيادات الحزب الوطني كانت تدعو إلى مقاطعة الانتخابات التي أعقبت صدور
دستور ١٩٢٣م، باعتبارها وليدة دستور منبثق من تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢م، وهو التصريح
الذي رفضه الحزب؛ فإن بقية القيادات رفضت الأخذ بذلك الرأي. وجدت في المقاطعة إبعادًا
للحزب عن الحياة السياسية، وانتخب محمد حافظ رمضان المحامي رئيسًا للحزب، خلفًا للزعيم
محمد فريد، وتقرر أن يشارك الحزب في المعركة الانتخابية، فلم يكن من المسموح به اشتراك
حزب في الانتخابات دون أن يكون له رئيس.
١٧٥ كانت تلك القيادات على ثقة من أن الحزب الوطني سيكسب الانتخابات لما له من
رصيد وطني في محاربة الاحتلال، لكنها صُدمَت في نتيجة الانتخابات، حتى لقد حصل علي فهمي
كامل — شقيق مصطفى كامل — على ٣٧ صوتًا في دائرة الجمالية، وأكبر عدد أصوات حصل عليها
الحزب الوطني لعبد اللطيف الصوفاني هو ٣٧٣ صوتًا، بينما حصل الرافعي على ٢٠١ صوت. ويقول
الرافعي: «أعلنت الانتخابات لبرلمان ١٩٢٤م، فرشحت نفسي لمجلس النواب في دائرة سندابسط
التي تتبعها بلدتي «الغريب». وإذ ذاك نشأت فكرة الأغلبية الساحقة برياسة سعد زغلول
باشا، فرشَّح الوفد أمامي الأستاذ نجيب الغرابلي. وعلى الرغم من كونه رجلًا فاضلًا، إلا
أنه لم يكن ابن الدائرة، ولم يكن معروفًا بها. وكنت أعتقد أنني سأنجح في دائرتي لأن
جهودي في خدمة بلادي، وماضيَّ في الجهاد، واشتراكي في الفوز باستقلال مصر بتصريح ٢٨
فبراير … كان كل ذلك مما يضمن النجاح، ولكن شخصية سعد زغلول في ذلك الحين كانت شخصية
جبارة، وفي الوقت نفسه جذَّابة، غمرت البلاد بقوتها وشدَّة تأثيرها، واجتاحت أمامها كل
شيء، وأصبح الاعتقاد فيها يشبه الاعتقاد بالأنبياء، فلم أفز في الانتخابات إلا بأقل
من ثلث الأصوات، وسقطت أمام منافسي الوفدي غير المعروف إذ ذاك لأهل الدائرة. ومن هنا
أستطيع أن أقول إن الانتخابات لم تكن حرة، ولا أقصد من ذلك أنه كان هناك ضغط إداري
استُعمِل ضدي، بل أعني أنه كان هناك ضغط نفساني أوجدته شخصية سعد زغلول القوية، وهو
والضغط الإداري سواء، في بلد لم تصل بعد إلى درجة النضوج السياسي، ولم تتكوَّن فيها الروح
الدستورية.»
١٧٦ ويروي الضاحك الباكي أنه بعد أن وقف مرشح الحزب الوطني يخطب في أبناء إحدى
القرى شارحًا مبادئ الحزب الوطني، وجهاد مصطفى كامل ومحمد فريد، مال عليه زعيم القرية
وسأله في بساطة: والحزب الوطني ده يبقى إيه؟
– يبقى الحزب الوطني.
– إيوه … لكن يعني يبقى سعدي ولا عدلي؟»
١٧٧
وربما كان مبعث هذه النتائج التي لم يكن يتوقعها — حتى المعارضون لمبادئ الحزب الوطني
كما يقول اللورد كيلرن — أن «المصريين لم يعودوا يأخذونه مأخذ الجد.»
١٧٨ لكن الحزب الوطني لم يعدم — حقيقة — من يتفهم صلابة موقفه المرتكز إلى
ضرورة انتزاع الاستقلال «رحم الله زعماء الحزب الوطني، عرفوا الحياة تضحية وجهادًا، لا
سياسة ومهادنة.»
١٧٩ وكان للحزب الوطني بالفعل مواقفه الإيجابية المتعددة، منذ دخلت الإرادة
المصرية في شرنقة الثورة، وبالتحديد منذ أسهم في تغيير صيغة التوكيل الذي وضعه الوفد
في
البداية بإسقاط العبارات اللينة، والتأكيد — صراحة — على وجوب الاستقلال التام.
والواقع أن تغيُّر موضع الحزب الوطني في خريطة الحياة المصرية يعود إلى سني الحرب
العالمية الأولى التي خرج منها حطامًا، نتيجة لعوامل القهر التي صاحبت الظروف الطارئة.
ثم تألَّف الوفد المصري، فانضمت إليه الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري — حتى أفراد
التنظيم السري الذين كانوا يدينون بالولاء لمبادئ الحزب الوطني — أو هكذا كان معظمهم
في
الأقل — ما لبثوا أن انضموا إلى الوفد، ولم يبقَ من أخبار الحزب الوطني إلا أعداد
قليلة من أنصاره الذين استهواهم جهاد مصطفى كامل ونضاله على وجه الخصوص، وبهذا لم يعُد
الحزب الوطني — منذ نهاية الحرب الأولى — تيارًا حقيقيًّا وسط تيارات السياسة
المصرية.
كان الوفد هو الامتداد الطبيعي للحزب الوطني. ولعلنا نجد تجسيدًا لذلك في أن الدكتور
إبراهيم عقل كان من المنتمين للحزب الوطني بحكم الجيل الذي ينتمي إليه، بينما كان
تلاميذه جميعًا من شباب الوفد بحكم الجيل الذي ينتمون إليه.
١٨٠ ويقدم الراوي (المرايا) الدكتور ماهر عبد الكريم بأنه من أسرة عُرفت بولائها
للحزب الوطني «وعُدَّ هو بالتبعية من الموالين للحزب، ولكن ذلك لم ينل من حبنا
له.»
١٨١ معنى هذا أن نفوذ الوفد قد أثَّر على كل الأحزاب إلى حد اعتبار الانضمام إلى
حزب آخر — ولو كان الحزب الوطني — جريمة! وكما أشرنا، فقد كان الحزب الوطني يصر على
مبدأ الجلاء الكامل، بينما أعلن الوفد قبوله للتباحث والمفاوضة.
١٨٢ ظلَّت الجماهير على تأييدها للوفد، لأن الحزب الوطني لم يقم بخطوة واحدة في
سبيل تحقيق الهدف، بينما كان للوفد وجوده الفعلي بين الجماهير. بالإضافة إلى أن الوفد
حرص على توحيد عنصرَي الأمة، بعكس دعوة الحزب الوطني التي كانت تقوم على مبدأ الاستقلال
في ظل الخلافة الإسلامية.
كان من الحتْم أن ينطوي الحزب الوطني في الوفد، لكن بعض زعمائه آثروا أن يظل الحزب
محتفظًا بتشكيله القديم، وأن يحيوا دعوتهم القديمة مذكِّرين بأمجاد مصطفى كامل ومحمد
فريد. وإذا كان الكثير من أنصار الحزب قد انضموا إلى عضوية الوفد؛ فإن الحزب — نتيجة
لافتقاده القيادة القوية — ما لبث أن انضم إلى أحزاب الأقليات بصورة تدريجية، حتى صار
إحدى الأدوات التي أضعفت الحياة الدستورية، وعجَّلت بانهيارها. ومع أنه كان من أهم مبادئ
الحزب ألا مفاوضة إلا بعد الجلاء، فإنه قد شارك في العديد من الوزارات التي كانت تسعى
إلى تحقيق الجلاء من خلال المفاوضات.
١٨٣ أخيرًا، فقد كان الحزب الوطني أقرب في مبادئه — كما أشرنا — إلى حزب الوفد،
بل إنه كان أكثر الأحزاب راديكالية في مبادئه، لكنه وضع يده في أيدي العناصر الرجعية
لمجرد الفوز في الانتخابات النيابية.
١٨٤
•••
في ٢٨ يناير ١٩٢٤م ألَّف سعد زغلول أولى الوزارات الدستورية. وكان في مقدمة ما أقدم
عليه
إفراجه عن ١٤٧ سجينًا سياسيًّا، كانت المحاكم العسكرية البريطانية قد أدانتهم فيما سُمي
بقضية المؤامرة الكبرى، أو قضية جماعة الانتقام،
١٨٥ وظل سعد في الوزارة حتى وقعت حادثة السردار.
يصف الضاحك الباكي موكب النواب والشيوخ ورجال الدولة، في توجُّهه لبداية الدورة
البرلمانية (يجدر بنا ملاحظة أن الرجل قد رسب في الانتخابات!)، يقول: «في منتصف مارس
وقف شكري في ميدان قصر النيل، يتفرج على موكب النواب والشيوخ ورجال الدولة الذاهبين
لافتتاح البرلمان، فصفق مع المصفقين، وهتف مع الهاتفين، وتشنج حماسة مع المتشنجين، ولكن
قلبه — رغم كل هذه المراسم والمظاهر — كان يقول له: لا! إنها نفخة كذابة، إنه طبل أجوف،
إن البرلمان خدعة إنجليزية، إن النظام البرلماني والحكم الشعبي مع الاحتلال حقنة من حقن
المورفين.»
١٨٦
ويروي الضاحك الباكي أن المعتمد البريطاني أقام حفلًا في قصر الدوبارة «طرقعت فيه
الشمبانيا»، وسأل: ماذا في قصر الدوبارة؟
قال الإنجليزي السكير: فرح!
قال: فرح بماذا أو لماذا؟
– فرح بنجاح سعد زغلول، ولنجاح سعد زغلول.
– وتفسير ذلك؟
– لشراء أنصار الوفد وقادته، وبالتالي القضاء على الثورة.
١٨٧
ولكن البرلمانية — مع ذلك، كما يقول الضاحك الباكي أيضًا — كانت في سنة ١٩٢٤م حادثًا
أو حدثًا خطيرًا، فلأول مرة في التاريخ الحديث يقوم في مصر بناء البرلمان، وترتفع فيه
أصوات النواب والشيوخ وتسمع فيه كلمة الأمة.»
١٨٨ وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت وزارة سعد زغلول مثيرة للعجب، أحدثت في تقاليد
البلد الوزارية حدثًا جديدًا.
١٨٩
والحق أن وزارة سعد زغلول لم تكن — كما أجمعت كل الأقلام المؤرخة — أولى الوزارات
التي ضمَّت إليها وزراء من الأفندية، فقد كان عدد الوزراء الأفندية في وزارة محمود سامي
البارودي ثلاثة من اثني عشر وزيرًا هم كل أعضاء الوزارة.
١٩٠
ومن الغريب أن يشير فكري أباظة في «الضاحك الباكي» — كما ذكرنا من قبل — إلى أن
الإنجليز لم يخفوا فرحتهم بنجاح سعد زغلول لأنه عندما ينجح زعيم الجهاد والكفاح، وتألف
البرلمان وفيه أغلبيته الساحقة، يحكم. وعندما يحكم يلقون زمام الجهاد والكفاح، ويرتطم
الزعيم المجاهد الحر بلاظوغلي، ويذوق أنصاره طعم الجاه والسلطان والنفوذ، ثم ما وراء
ذلك من مجد شخصي واستقلال ذاتي، فينسى المجاهدون المكافحون، وقد وقعوا في «الفخ»، الجهاد
والكفاح والاحتلال والاستقلال التام، والموت الزؤام، ويعضون على الحكم بالنواجذ
ويستريحون ونستريح! ولهذا احتفلنا.»
١٩١
•••
بعد مناقشات عديدة حول من يتولى رئاسة الوزارة: سعد زغلول أم أحد مساعديه، حسم سعد
القضية بأن تولى رئاسة الوزارة فعلًا.
١٩٢ وكان رأي سالم جبر (المرايا) «ألَّا يتولى سعد زغلول الوزارة، وأن يظل الوفد
وراءه في الميدان الشعبي حتى تتحقق رسالة الوفد الوطنية.»
١٩٣
وقد تلقَّى سعد — يوم افتتاح البرلمان — برقية تهنئة من مكدونالد رئيس الوزارة
البريطانية، أبدى فيها استعداده للتفاوض في القضايا المختلفة التي لم يتم فيها التوصُّل
إلى حلول نهائية. ووافق سعد زغلول، وسافر بالفعل إلى باريس، ثم إلى لندن … لكن المفاوضات
انقطعت في اليوم الثالث من بدايتها، لتشدُّد سعد في عرض وجهة النظر والمطالب المصرية.
وعاد سعد إلى مصر ليواجه مؤامرات إسقاطه، وازداد مركزه اضطرابًا بعد سقوط حزب العمال
في
الانتخابات العامة البريطانية، وحرضت السراي بعض مشايخ الأزهر على تنظيم حركة معارضة
ضد
سعد زغلول، وأثار الأزهريون بالفعل بعض مطالبهم التي لم تتحقق، وأضربوا عن الدروس في
أوائل نوفمبر. كما أضرب طلبة المعاهد الدينية في الإسكندرية وطنطا وأسيوط، وخرجوا في
مظاهرات تهتف ضد سعد وتأييدًا للملك. وقد أعلن سعد أمام مظاهرات الأزهريين أن «الحكومة
التي تنهزم أمام أية طائفة تحت الضغط، لا بد أن تذهب هيبتها، ويختل عليها نظام العمل
بسلوك كل طائفة لهذا الطريق الممقوت.»
١٩٤ واتهم سعد حسن نشأت بتدبير تلك المظاهرات، فعيَّن الملك نشأت وكيلًا للديوان
الملكي، وأنعم عليه بالوشاح الأكبر من نيشان النيل — وهو يُمنح للوزراء عادة — مكافأة
له
«على صدق خدمته وإخلاصه.»
١٩٥ وأدرك سعد — من ذلك التصرف — أن القصر يحيك حوله «الدسائس»، والتعبير لسعد
زغلول.
•••
ثمة عدد من رجال الإدارة وكبار الموظفين، كانوا قد بلغوا مناصبهم تحت ظل الاحتلال،
وفي ظل عونه وكفالته، ومن ثَم فلم يكونوا مؤمنين بكل تلك التطورات الدستورية باعتبار
أن
الاحتلال موجود، وأنه سيظل موجودًا، وأن إجراء الانتخابات وقيام البرلمان وإعطاء الحكم
لحزب الأغلبية، ليس إلا تمثيلية تصدر عن الوهم بأكثر مما تعبِّر عن الحقيقة. ويصف محمد
أنيس الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، بأنه كان على قدرٍ من استقلال الشخصية،
واتخاذ المواقف المتميزة، وأنه كان على صداقة بالإنجليز، ويميل إلى الملاينة
السياسية.
١٩٦ وقد تحوَّل الأزهر — عقب الثورة — من المعقل الأهم للثورة إلى تابع للسراي،
وخاضع لتوجيهاته وأوامره، وسند لكل خطواته الفردية. قدم الأزهريون إلى سعد زغلول — عقب
تشكيل وزارته — عريضة، يطالبون فيها بإصلاح الأزهر، وإلغاء مدرسة القضاء الشرعي، وشكَّل
سعد لجنة للنظر في مطالب الأزهريين، كان من بين أعضائها حسن نشأت وكيل وزارة الأوقاف،
والساعد الأيمن للملك فؤاد، وقدمت اللجنة تقريرها إلى سعد زغلول، فطاب إعادة بحث ما
تضمنه من اقتراحات، فاستغل القصر الفرصة، وحرك طلاب الأزهر في مظاهرات ترددت خلالها —
للمرة الأولى — هتافات تنادي بحياة الملك، وأنه «لا رئيس إلا الملك»!
١٩٧ وكان الراوي (حتى مطلع الفجر) واحدًا من المتظاهرين الذين خرجوا لإعلان
تأييدهم للشيخ المراغي، واستنكارهم لتدخل حكومة الوفد في شئون الأزهر، ودخل السجن
شهرين، ستين يومًا، ذاق فيها مرارة الحياة، وتعلم الكثير من فنون الصبر
والاحتمال.
١٩٨
وقد ذهب نيفيل هندرسون إلى أنه «لا توجد شخصية كبيرة تستطيع أن تقف ضد سعد زغلول
سوى
الملك.»
١٩٩ وكان أول صدام بين سعد زغلول وفؤاد حول اعتراض الملك على تعيين بعض
الوزراء، ثم كان الصدام الثاني حول الصفة التي كلَّف بها الملك سعد زغلول بتأليف الوزارة،
والتي تجاهلت أنه جاء إلى الحكم بثقة الجماهير. ثم كان الصدام الثالث في تمسُّك الملك
بحق
تعيين الشيوخ المعينين، ورفض سعد لذلك، ثم قبول الطرفين لتحكيم العالم البلجيكي البارون
فان دي بوش، والذي أشار إلى أن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ يجب أن يكون بناء على ما يعرضه
مجلس الوزراء.
ولكن القوى الثلاث — أحزاب الأقلية والسراي وسلطات الاحتلال — كلٌّ بوسائلها الخاصة
—
سعت للإطاحة بحكم سعد زغلول. وإدراكًا من سعد زغلول لدور السراي في تنظيم المعارضة ضده،
وإثارة المتاعب في وجه حكومته، قدَّم إلى الملك فؤاد استقالته في ظهر السبت ١٥ نوفمبر،
وقال إنه لا يستطيع أن يعمل في الظلام، وكان من الواضح أنه يقصد السراي بالذات؛ وأصبحت
المعركة سافرة بينها وبينه.
بُذلت مساعٍ عديدة لكي يعدل سعد عن استقالته، لكنه اشترط ألَّا يفعل ذلك إلا إذا
قبلت
السراي ألَّا ينفرد الملك بمنح الرتب والنياشين، أو تعيين موظفي السراي بغير موافقة
الوزارة، وكان فؤاد قد عيَّن حسن نشأت وكيلًا للديوان الملكي، ورئيسًا له بالنيابة،
وأنعم عليه بوسامٍ دون علم الوزارة، فضلًا عن بعض المطالب الأخرى التي تؤكد الحياة
الدستورية، وتدعمها. واضطر الملك إلى التسليم بهذه الحقوق لممثل الأغلبية البرلمانية،
فعدل سعد عن الاستقالة، وقال: «إني سحبت استقالتي، وسيظل الدستور محترمًا بحماية جلالة
الملك، وأنا خادم الدستور، وسنبقى لننقذه معتمدين على الله وإرادة الشعب.»
٢٠٠
وبعد يومين فقط، في التاسع عشر من نوفمبر، وقعت حادثة السردار، فقوضت كل شيء!
•••
ولا شك أن السراي — رغم حرصها على منح الدستور للشعب — قد بدأت تشعر بوجود الشعب الذي
اختار — لأول مرة — ممثليه، بينما اعتادت السراي أن تعين هي قادة الحياة السياسية، سواء
برضائها الكامل أو خضوعًا لرأي البريطانيين. لذلك فإن الملك فؤاد لم يقبل صدور الدستور
ببساطة، ولم يوافق على استمراره ببساطة أيضًا، فقد كان يكره مجرد فكرته باعتبار أنه
يعطي الشعب حقوقًا لا يستحقها، ولا يقدر على النهوض بها، فضلًا عن أنه تولى الحكم —
مطلقًا — بإرادة الإنجليز، والدستور — في كل الأحوال — قيد، ربما كان غليظًا، ولعله
استطاع أن يجعله قيدًا خفيفًا، ولكنه يظل قيدًا على إرادة تعودت أن يخضع الجميع لها،
باستثناء خضوعها هي لإرادة سلطات الاحتلال. ثم يبقى سبب ثالث — ومهم — وهو أن فؤاد قد
لقي في ظل هذا الدستور، وبسببه، أول هزيمة سياسية له على يد حكومة سعد زغلول في ١٩٢٤م،
عندما أراد أن يمارس حقًّا — خوَّله لنفسه — بتعيين خمس أعضاء مجلس الشيوخ دون الرجوع
إلى
مجلس الوزراء، لكن فتوى النائب العام أمام المحاكم المختلطة — وهو بلجيكي، وباعتبار أن
الدستور المصري مستمد أصلًا من الدستور البلجيكي — جاءت مؤيدة لوجهة نظر سعد زغلول. وقد
نزل فؤاد عند فتوى المستشار البلجيكي، لكنه ظل يتحيَّن الفرصة للثأر لهزيمته، وعطَّل
الدستور فعلًا في أول نوفمبر ١٩٢٤م، وظل معطلًا حتى ١٩٢٦م، ثم عطَّله بعد ذلك بعامين
لعامٍ
ثالث، ثم ألغاه كليًّا في ١٩٣٠م، وأصدر بدلًا منه دستورًا جديدًا، يسلب الشعب كل الحقوق
التي أعطاها له دستور ١٩٢٣م.
•••
وللأسف، فقد كان الأزهر هو الواجهة التي يدبِّر، وينفذ من ورائها الملك فؤاد مؤامراته.
فبعد أن كان الأزهر حصنًا للوفد، استطاع فؤاد أن يستميل رؤساءه إليه، بالإضافة إلى
احتفاظه بحق تعيين الرؤساء الدينيين، وهو عامل لا شك في تأثيره. وحين شكَّل سعد وزارته،
قدَّم إليه الأزهريون عريضة يطالبون فيها بإصلاح الأزهر، وإلغاء مدرسة القضاء الشرعي.
وألَّف سعد لجنة للنظر في مطالب الأزهريين، كان من بين أعضائها حسن نشأت وكيل وزارة
الأوقاف، والساعد الأيمن للملك فؤاد. وقدمت اللجنة تقريرها إلى سعد زغلول، فطلب إعادة
بحث ما تضمنه من اقتراحات، فاستغل القصر الفرصة، وحرك طلبة الأزهر في مظاهرات، خرجت إلى
شوارع الإسكندرية وطنطا وأسيوط، قوامها أعداد من طلبة المعاهد الأزهرية ونداؤها — للمرة
الأولى: لا رئيس إلا الملك … مقابلًا للنداء الذي كانت تهتف به الجماهير المصرية: لا
رئيس إلا سعد!
وقد تصرَّف سعد زغلول في مواجهة مؤامرات القصر بتقديم استقالته، فانطلقت الجماهير
إلى
ميدان عابدين تهتف: سعد أو الثورة.
٢٠١ واضطر فؤاد إلى الرضوخ لشروط سعد حتى يسحب استقالته. وكانت هذه الشروط
هي:
-
(١)
أن تنظر الوزارة في قضايا الأزهر، لتكون مسئولة بصورة حقيقية عن الإصلاح.
-
(٢)
ألا ينفرد الملك بمنح الرتب والنياشين، ولا بتعيين موظفي السراي، بغير موافقة
الوزارة.
-
(٣)
أن تكون تبعية الوزراء المفوضين والقناصل المصريين لوزارة الخارجية تبعية فعلية،
بعد أن كانت صلاتهم بالسراي مباشرة.
-
(٤)
أن تطلع الوزارة على كل المخابرات الخارجية بين الملك والدول، وتوافق
عليها.
٢٠٢
كانت تلك الفترة — بعد صدور الدستور مباشرة — هي بداية اقتراب كبار الملَّاك — أو
التنظيم الذي يمثِّلهم على وجه التحديد — من السراي. فقد كان العداء المستمر هو موقف
كلٍّ
الطرفين من الآخر، ارتكازًا إلى الاحتقار الطبيعي الذي كانت تنظر به السراي إلى هذه
الطبقة بحكم مصريتها، وبالتالي فقد كانت السراي تنشد معاونة العناصر غير المصرية التي
لا تخشى من تضخم نفوذها، أو تراودها فكرة الوقوف في وجهها. وفي المقابل، كانت طبقة كبار
الملاك يسودها شعور مؤكد بأنها لم تتخلص من مهانة الحكام الأتراك إلا في وجود
الاحتلال البريطاني، خالقها الحقيقي.
•••
تبدأ أحداث «قصر الشوق» السياسية بسفر سعد زغلول من الإسكندرية إلى باريس، ومنها
إلى
لندن، للتفاوض مع رمزي ماكدونالد زعيم حزب العمال ورئيس الحكومة البريطانية على
الاستقلال. اقترح محمد عفت أن يشربوا كأسًا في صحة سعد زغلول ومصطفى النحاس اللذين
سيسافران في نهاية الشهر — أي شهر؟! — من باريس إلى لندن للمفاوضة. واقترح إبراهيم
الفار أن يشربوا كأسًا أخرى في صحة ماكدونالد صديق المصريين. وتساءل علي عبد الرحيم عمَّ
عناه ماكدونالد بقوله إنه يستطيع أن يحل القضية المصرية قبل أن يفرغ من فنجان القهوة
الذي كان بين يديه، فأجابه أحمد عبد الجواد بأن ذلك يعني أن الإنجليزي يشرب فنجان
القهوة — في المتوسط — في نصف قرن!
٢٠٣ أما كمال فقد عانى القلق لسفر زعيمه سعد زغلول، وقال في حدة: «والله
لأبغضنهم — الإنجليز — ولو وحدي!»
٢٠٤
وفي صباح ١٢ يوليو ١٩٢٤م حاول عبد الخالق عبد اللطيف قتل سعد زغلول في محطة السكة
الحديد بجوار القطار، في طريقه إلى لندن لمفاوضة الوزير البريطاني ماكدونالد.
•••
جرَّب سعد المفاوضات مرة، فانتهت بالفشل، وجرب عدلي المفاوضات مرة، فانتهت بالفشل
…
وسافر سعد يجرب المفاوضات مرة أخرى، يحمل — كما يقول الضاحك الباكي — آمال أمة، فيه،
وفي ماكدونالد العادل المنصِف. وكانت المفاوضات قصيرة، وموجعة، حُرقت فيها كبرياء الزعيم
وكبرياء الأمة، وانتهت في لمح البصر بالفشل. وبدأ رد الفعل القاسي يُحدِث أثره في نفوس
الجماهير: ماذا فعل البرلمان؟ ولِمَ لم ينسحب الاحتلال؟ وأين أين السودان؟ وأخذت الأحلام
تتلاشى، وتبدِّدها اليقظة ويطردها نور الصباح.
٢٠٥ يقول كمال عبد الجواد: يا له من موقف وطني جدير بسعد حقًّا! طالب بحقوقنا
الوطنية مترفعًا عن المساومة، ثم قطع المفاوضة حين وجب قطعها، وقال قولته الخالدة: لقد
دعونا إلى هنا لكي ننتحر، ولكننا رفضنا الانتحار، وهذا كل ما جرى.
فيقول إسماعيل لطيف الذي كان يأخذ السياسة مأخذ العبث: لو قبِل أن ينتحر لتوَّج حياته
بأجل خدمة يمكن أن يؤديها إلى بلاده.
ولكن حسن سليم الذي كان ينتمي إلى فكر الأحرار الدستوريين، ما يلبث أن يقول: «ليست
الوطنية عند سعد إلا نوعًا من البلاغة التي تستهوي العامة: لقد دعونا هنا لكي ننتحر …
إلخ، يعجبني الصدق في القول … إلخ، كلام في كلام … هنالك رجال لا يتكلمون، ولكنهم يعملون
في صمت، وقد حققوا للوطن الفائدة الوحيدة التي جناها في تاريخه الحديث.»
٢٠٦ وقد أدى الخلاف المستمر بين عدلي وسعد إلى إقدام عبد الرحمن فهمي على
اعتزال الحياة السياسية في ١٩٢٥م.
٢٠٧
•••
«شُغل الشعب بعداواته الحزبية عن الإنجليز.» ذلك ما قاله حسين شداد.
٢٠٨ أما الضاحك الباكي فهو يرى أن «ولاة الأمور خدموا «الحزبية» أكثر مما خدموا
الأمة من الناحية الزراعية والاقتصادية.»
٢٠٩ ويضيف الضاحك الباكي أن الناس «نسوا الإنجليز والاحتلال والحرية والاستقلال،
وتضاربوا حول كراسي الحكم، وحول مقاعد البرلمان.»
٢١٠ يقول الرجل (الوعي الجديد): «لقد عاصرت ثورة ١٩١٩م، كانت السياسة لها أهداف،
كانت الدنيا بخير، كان كل مصري يحب أخاه، وكان الجميع متحدين في إخاء وتحاب على تخليص
البلد من نير السلطة الأجنبية. أما اليوم فقد علَّمتنا السياسة أن يرطن كلٌّ منَّا للآخر
بلغة
المصالح الشخصية حتى كاد ينسى الجميع مصلحة الوطن.»
٢١١ ويُرجِع الدكتور إبراهيم عقل انهيار ثورة ١٩١٩م إلى المعارك الحزبية وحدها؛
فقد انحرفت بالجهاد الوطني عن مساره، وتوالت الانقلابات التي كان يُحدِث كلٌّ منها رد
فعل
فظيعًا في العادات والأخلاق.
٢١٢ ويقول المنفلوطي في كتابه الذي وقَّعه باسم «كاتب كبير»: «لقد ظننت في ساعة
من ساعات حياتي أنني قد أمنت على مصر أبد الدهر، وكان قلبي يستطير فرحًا وسرورًا كلما
سمعت تلك «الجوقة» الموسيقية الجميلة تتغنى في أرجائها بنغمة واحدة وتوقيع واحد، وكنت
أصغي إليها بسرور واغتباط إصغاء العاشق المفارق إلى تغريد الحمائم المترنمة فوق
أفنائها، ثم ما لبثت أن شعرت أن النغمة قد اختلفت، والتوقيع قد اضطرب، فذعرت وارتعت،
ورفعت رأسي فإذا أنا في «بيزنطية»، وإذا الناس جميعًا في كنيسة «أيا صوفيا» يتناقشون
ويتجادلون جدالًا شديدًا في مسألة الطبيعة والطبيعتين، وأبواب المدينة تقع تحت ضربات
معاول العدو فلا يسمعون لها صوتًا.»
٢١٣ بل لقد كان الهدف من محاولة اغتيال سعد زغلول في أسيوط — كما يقدر
المنفلوطي — إثبات أن عدلي يكن يمثِّل غالبية الشعب المصري، وأن الاتفاق الذي يتم معه
يُعَد
مشروعًا، فضلًا عن التدليل على وجود فئة في مصر بين الوفد والحكومة.
٢١٤ وكانت المأساة الحقيقية في الجامعة: دخول السياسة الحزبية إليها، وتشيُّع
الطلاب لهذا الحزب أو ذاك، وتحدد قيمة القيادات الطلابية في مدى نفوذها داخل الأحزاب
التي ينتمي إليها بأكثر من أن يكون تعبيرًا عن التفوق العلمي، فضلًا عن الوعي السياسي.
ويقول الراوي: «وفي بعض الأيام كنا نصل إلى المدرسة لنجد أن الزعماء قد دبَّروا مظاهرة،
ومع أننا كنا نفهم معنى الوطنية إلا أننا كنا نعلم أيضًا أن المظاهرات مدبَّرة لصالح
حزب من الأحزاب الحاكمة أو المعارضة، ولم يكن هناك بد من الاشتراك في المظاهرة، وإلا
اتُّهمنا بالجبن والخيانة.»
٢١٥
يقول الضاحك الباكي: «واستمر الحال على هذا المنوال — كما يقول الضاحك الباكي — وشيوخ
الأمة ونوابها يغشون الدواوين، ويسلِّطون عليها نفوذهم، ويطلقون أوامرهم، ويعيِّنون ويرقون
وينقلون ويتوجون رءوسهم بتاج الملوك في الأقاليم، فتضيع هيبة الحكام، وتطل الفوضى من
شقوقها ومفاوزها بالتدريج، حتى جاء يوم ١٩ نوفمبر سنة ١٩٢٤.»
٢١٦
ماذا حدث في ذلك اليوم؟
«حدثت حادثة السردار المشئومة، فقامت القيامة، واقتحم اللورد اللنبي بجنوده دار
الحكومة المصرية، وقرأ الإنذار التاريخي الرهيب على رأس سعد زغلول. ثم توالت الحوادث
بسرعة البرق فهوت وزارة الشعب، وهوى برلمانها ودستورها، وتألَّفت وزارة مختلطة من حزب
الأحرار بناة الدستور، وحزب الاتحاد الذي ترعرع في هذا العام واشتد وصال وجال، ثم جرت
الانتخابات على يد صدقي، فحاصر الزعيم وحبسه في داره، وخفت صوت الشعب، وحدث ائتلاف بين
الأحزاب الكارهة لسعد زغلول ووفد سعد زغلول.»
٢١٧ يقول الضاحك الباكي: «في الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم — ١٩
نوفمبر ١٩٢٤م — أطلق خمسة أشخاص — ستة أشخاص في رواية عبد الفتاح عنايت — النار على
السردار الإنجليزي في شارع الطرقة الغربي، شارع إسماعيل أباظة الآن، فأصيب السردار في
٢٠ نوفمبر ١٩٢٤م، شيعت الجنازة، وبعد تشييعها اقتحم اللورد اللنبي، وتلا على سعد زغلول
الإنذار البريطاني الفذ إلى الحكومة المصرية.»
٢١٨
كانت بنود الإنذارين البريطانيين تتلخص فيما يلي:
-
(١)
اعتذار الحكومة المصرية.
-
(٢)
أن تبحث عن الجناة وتنزل بهم أشد العقاب.
-
(٣)
أن تمنع من الآن وتقمع بشدة كل مظاهرة شعبية سياسية.
-
(٤)
أن تدفع للحكومة البريطانية غرامة قدرها نصف مليون جنيه. ولعلنا نستطيع تبين جسامة
مبلغ الفدية إذا لاحظنا أن مجموع ميزانية الدولة المصرية آنذاك لم يجاوز ٢٠ مليونًا من
الجنيهات!
-
(٥)
سحب الجيش المصري من السودان، وتحويل الوحدات السودانية التابعة للجيش المصري إلى
قوة سودانية تكون خاضعة وموالية للحكومة السودانية وحدها.
-
(٦)
إطلاق يد حكومة السودان في زيادة مساحة أطيان الجزيرة من ٣٠٠ ألف فدان — كما كان
مقررًا من قبل — إلى مقدار غير محدود.
-
(٧)
أن تعدل الحكومة المصرية عن كل معارضة لرغبات الحكومة البريطانية فيما يتعلق
بحماية مصالح الأجانب في مصر، وأن يُعاد النظر طبقًا لهذه الرغبات في شروط خدمة الذين
لا
يزالون في خدمة الحكومة المصرية، وفي الشروط المالية لتسوية المعاشات ممن اعتزلوا
الخدمة منهم، وأن تبقي منصبَي المستشار المالي والمستشار القضائي، وتحترم سلطتهما
وامتيازاتهما كما نص عليها عند إلغاء الحماية، وتحترم أيضًا نظام القسم الأوروبي في
وزارة الداخلية واختصاصاته، وتنظر بعين الاعتبار الوافي إلى ما قد يبديه مديره العام
من
المشورة.
استند اللنبي في تأكيد إنذاره إلى القوة المسلحة، فاحتلت القوات البريطانية جمرك
الإسكندرية، واستولت على إيراده ريثما يبت في الأمر. وقبِل سعد من شروط الإنذار ما يتصل
بمقتل السردار، ورفض ما عدا ذلك، ثم استقال معلنًا أنه على استعداد للتعاون مع أية
حكومة تعمل لصالح البلاد. ومن المهم أن نشير إلى حكم محكمة الجنايات في ٢٥ مايو ١٩٢٦م،
ببراءة أحمد ماهر والنقراشي من تهمة الاغتيالات السياسية، ومن تهمة الاشتراك في مؤامرة
اغتيال السردار، الأمر الذي أدان الإنذار البريطاني، وهو الإنذار الذي حمَّل الوفد
مسئولية ما جرى.
•••
يصف حسين فوزي صورة الشيخ الجليل بملابس التشريفة الكبرى في جنازة السير لي ستاك:
«وقد
انحنت قامته المديدة، ونُكست تلك الرأس تحت وقر الحادث.»
٢١٩ لكن عبد الفتاح عنايت يؤكد أنه كان في استطاعة سعد زغلول أن يغادر أسوار
المأساة إذا رفض الإنذار البريطاني.
٢٢٠ وبصرف النظر إذا كان قتل السردار لبواعث وطنية، أو تعبيرًا عن مؤامرة
للقضاء على الاستقلال الوليد، فالحقيقة المؤكدة أن القضية المصرية أصيبت بأضرار فادحة
من جراء تصرف مشبوه، أو غير مسئول.
يقول حسين شداد في «قصر الشوق»: لقد استقال زعيمك!
يبتسم كمال عبد الجواد ابتسامة حزينة، ولا يجيب، فيضيف الآخر: استقال بعد أن ضيَّع
السودان والدستور، هه؟
يقول كمال: كان قتل السير لي ستاك باشا ضربة موجهة إلى وزارة سعد.
يقول حسين: دعني أكرر على سمعك ما قاله حسن سليم. قال إن هذا الاعتداء مظهر للكراهية
التي يضمرها البعض — ومنهم القتلة — للإنجليز، وسعد زغلول هو المسئول الأول عن تهييج
هذه الكراهية!
يقول كمال: هذا هو رأي الإنجليز. ألم تقرأ برقيات الأهرام؟ فليس عجيبًا أن يردده
الأحرار الدستوريون، إن من مفاخر سعد أن يثير العداوة ضد الإنجليز.
٢٢١
•••
والواقع أنه منذ تولي سعد زغلول رئاسة الوزارة في يناير ١٩٢٤م بدأت مسألة السودان
تأخذ
طابعًا مختلفًا عن العهود السابقة، وبدأت الأوضاع غير الشرعية التي استنَّها الحكم
البريطاني تتكشَّف فيه. ثم كان اغتيال السردار فرصة للتخلص من الوجود المصري في السودان
ومن سعد زغلول في آن معًا، فقد ربط الإنجليز مقتل السردار بالثورة المسلحة التي قام بها
أبناء السودان، وراحوا ينفذون المخططات الاستعمارية في السودان، وفي مقدمتها تحويل
برامج التعليم ليتجه نحو تقليد البرامج الإنجليزية وإضعاف الثقافة العربية، إلى حد
تكليف إنجليزي — هو المستر سكوت — بوضع كتاب للمطالعة العربية. أما الأساتذة المصريون
فقد انتهى أثرهم في كلية جوردون وغيرها من المعاهد.
٢٢٢ كذلك فقد تعرض الضباط السودانيون لعنفٍ بالغٍ من قوات الاحتلال، فضلًا عن
تصفية ثورة ١٩ وتجريدها من كل مكاسبها، وتحميلها خسائر جديدة.
وأعلنت الحكومة قبولها لبعض هذه المطالب، فوافق على الاعتذار، وعلى القبض على الجناة،
وإنزال أشد العقوبات بهم، وعلى دفع نصف مليون جنيه … لكنها اعتذرت عن تلبية باقي
المطالب.
ولجأ اللورد كرومر إلى احتلال حمرك الإسكندرية، فأعلن سعد زغلول استقالته في ١٣ نوفمبر
١٩٢٤م.
«موت المنفلوطي، وسيد درويش، وضياع السودان، أحداث كلَّلت زماننا بالسواد.»
٢٢٣ ويقول حسين شداد لكمال عبد الجواد: لقد استقال زعيمك.
وأضاف: استقال بعد أن ضيع السودان والدستور … هه؟
قال كمال: كان قتل سير لي ستاك ضربة موجهة إلى وزارة سعد. وقد أكد اللورد اللنبي
—
فيما بعد — أن ما حدث كان متوقعًا، وأن الإنذار النهائي ظل في درج مكتبه لفترة طويلة
قبل اغتيال السردار، ثم غيَّر صيغته — بعد الحادثة — فأصبحت أكثر حدة.
٢٢٤
•••
ومع أن مقتل السردار لم يكن مفاجأة خالصة، ذلك لأنه كان ذروة الاغتيالات السياسية
التي شملت عددًا كبيرًا من المواطنين الإنجليز، وبعض العملاء المصريين. وكان واضحًا أن
المدبِّر والمنفِّذ جماعة من الشبان المصريين الوطنيين، لم يكن قد أزيح الستار عن هويتها
بعد؛ فإن الاجتهادات توزعت حول طبيعة القتلة. لقد اتجه التحقيق — لفترة طويلة — في
اتجاه السودانيين من جماعة «اللواء الأبيض» المقيمين في القاهرة. ساعد على ذلك أن سائق
التاكسي الذي أقل مرتكبي الحادث كان سوداني الجنسية، واسمه محمود صالح محمود، فضلًا عن
دور السير لي ستاك في تصفية حركة «اللواء الأبيض» بالسودان، مما رجح قيام أعضاء الحركة
باغتياله في القاهرة.
٢٢٥ وإذا كان الإنجليز قد حاولوا إلصاق التهمة بسعد زغلول، ارتكازًا إلى تشجيعه
للعمل السري؛ فإن الوفديين وجَّهوا التهمة نفسها إلى حسن نشأت وكيل الديوان، أما مصطفى
أمين فقد تحدد اتهامه في الإنجليز والملك فؤاد على أساس نظرية: ابحث عن المستفيد من
الجريمة تصل إلى الفاعل.
٢٢٦ كانت سلطات الاحتلال وراء حادثة القتل، حتى تفرض الشروط المعدة سلفًا، وفي
مقدمتها — بالطبع — القضاء على وحدة وادي النيل، وهي لعبة استعمارية قديمة (أعلنت
الحكومة البريطانية في مجلسي البرلمان أن بريطانيا العظمى ليس في نيتها مغادرة السودان
تحت أي ظرف (مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ٢٤٥)) وكما يقول إبراهيم أمين
غالي؛ فإن مجرى الأحداث قد يثير شيئًا من الريبة نحو الجريمة في ذاتها، كأنها كانت
منتظرة الوقوع، وكأن مقتل السردار كان متوقعًا كما يتبيَّن من البرقية التي أرسلت قبل
وفاة السير لي ستاك، والتي تشير إلى حالة «خلو الوظيفة بسبب الوفاة».
٢٢٧ أما محمد صلاح الدين فقد كتب في ذكرياته: «لا شك أن بريطانيا هي المستفيد
الوحيد من ذلك الحادث الذي أدى إلى التخلص من وزارة الشعب، وإخراج الجيش المصري من
السودان، إلى جانب التعويضات المالية التي دفعتها مصر. وقد أعطى إخراج وزارة الوفد
الفرصة للملك للعبث بالدستور، ولو استمرت الوزارة الوفدية آنذاك فترتها الدستورية لأرست
الحياة الدستورية بصورة أعمق. وأنا لا أشك في وطنية شفيق منصور، ولكن لا شك أنه اشترك
في
عمل ضار، فأخطأ خطأ كبيرًا.»
٢٢٨
كانت الحادثة فرصة للقضاء على سعد من القصر والإنجليز على السواء، وكما أشرنا، فقد
أعلن اللورد اللنبي — فيما بعد — في تصريح له أن الإنذار كان في درج مكتبه قبل جريمة
قتل السردار «لأقدمه عند سنوح الفرصة.»
٢٢٩ كان البديهي — في حالة قبول سعد زغلول للشروط الإنجليزية — خروج القوات
المصرية من السودان عقب الرد المصري، لكن عملية سحب القوات المصرية بدأت قبل إعلان
الرد، مما دل على أن كل شيء كان مُعدًّا له من قبل.
٢٣٠ لقد وجد مصطفى الفقي في الحادثة غموضًا «استفاد منه
الإنجليز كثيرًا على نحوٍ يدعونا إلى التشكك في دورهم وراءه.»
٢٣١ لكن محمد أنيس يذهب إلى أن «الإنجليز هم الذين دبَّروا اغتيال رجلهم هذا
للقضاء على وحدة وادي النيل.»
٢٣٢ أما القصر، فقد كان يعمل منذ قطع المفاوضات بين سعد وماكدونالد رئيس
الوزارة البريطانية على إسقاط سعد. وكما يقول مرتضى المراغي، فقد كان الملك فؤاد هو
المحرِّض على اغتيال السردار حتى يتخلص من سعد زغلول.
٢٣٣ واستطاع حسن نشأت — رجل القصر، في العديد من الاجتهادات التاريخية — أن
يتوصل إلى تلك الجماعة من خلال أعوانه، وأفاد من رغبتها في استئناف عمليات الاغتيال
السياسي، نتيجة لفشل مفاوضات سعد-ماكدونالد، فحرَّض أفرادها على ارتكاب الحادث، سعيًا
لإحراج مركز الوزارة وسعد زغلول من ناحية، وتخريب كل فرص التسوية بين سعد وإنجلترا من
ناحية ثانية.
٢٣٤ ويشير لويس عوض (أوراق العمر) إلى أن الحادثة ربما كانت من تدبير السراي،
أي الملك فؤاد، عن طريق حسن نشأت رئيس الديوان الملكي بالنيابة. وقال شقيق المتهم أحمد
إسماعيل أمام محكمة الجنايات: «هذا القفص ينقصه حسن باشا نشأت، لأنه المحرك الأول، واليد
الخفية في تحريك عصابات القتل.»
٢٣٥ ونحن نلحظ أن المندوب السامي البريطاني هو الذي تدخل لإقصاء نشأت من منصبه
بالسراي، بدعوى أن اسمه ورد في التحقيقات الخاصة باغتيال السردار.
تحقق للإنجليز وللقصر ما كانا يعدان له بالفعل، واعترف الرجل العجوز بأن الحادثة
«كانت ضربة قاضية لي.»
٢٣٦ وقال — بعد أن قدم استقالته: «كانت غلطتنا أننا صدقنا أننا
مستقلون.»
٢٣٧ ويذهب إبراهيم عبد الهادي في مذكراته إلى أن التآمر على سعد زغلول بدأ من
السراي والإنجليز، ومن وزرائه أنفسهم. اختار سعد بعض الوزراء بعض أعضاء الوفد من أمثال
توفيق نسيم باشا ومحمد سعيد باشا ليأمن دسائسهم. وتخلى توفيق نسيم عنه متعللًا بصحته،
بينما فترت همة محمد سعيد باشا. وفطن سعد إلى أن الاثنين تخليا عنه تأثرًا باتجاه
الإنجليز والسراي في وقت واحد، فاختار أحمد ماهر وزيرًا للمعارف، وعلي الشمسي وزيرًا
للمالية. وكان الاثنان من جيل الشباب، «وأراد سعد بهذا الاختيار أن يفتح الأمل أمام
الشباب المتعلم المثقف لتولي المناصب الكبيرة في الدولة بعد أن كانت وقفًا على من
تجاوزوا سن الخمسين.»
٢٣٨ وأمضت الوزارة أيامًا قليلة بعد ذلك التشكيل الذي صادف قبولًا بين الرأي
العام، ثم وقع حادث قتل السردار. وقد سافرت الليدي ستاك إلى بلادها، بعد فترة قصيرة من
مقتل زوجها، ورفضت أن يكون اللنبي بين مودِّعيها في محطة العاصمة، وقالت: إن زوجي لم
يقتله المصريون، وإنما قتله الإنجليز! وحين عرضت عليها سلطات الاحتلال تعويضًا ماليًّا
رفضت قبوله، وقالت: لا آخذ من مال المصريين شيئًا؛ إنهم لم يقتلوا زوجي!
٢٣٩
ذهب البعض إلى أن الهدف من الاغتيال كان محاولة الجماعات السياسية لسعد زغلول حتى
يقدم استقالته. وأكد رأي أن الأمر لا يعدو حماسة بعض الشبان الذين نذروا أنفسهم لخدمة
الوطن، وعز عليهم أن يروا جنود الاحتلال يمرحون في بلادهم، فأقدموا على الحادثة دون أن
يحسبوا الحسابات السياسية والآثار القريبة والبعيدة لما حدث، حتى لقد كان قول عبد
الحميد عنايت في ساحة الإعدام: «أنا لا يهمني شيء، لقد قمت بما هو واجب عليَّ خير قيام،
أنا لا يهمني الإعدام، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، رب ادخلني جنة النعيم.»
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ذلك التساؤل الذي ألقاه في ١٧ مايو ١٩٢٤م، حسن عبد الرحمن
في مجلس النواب، عما إذا كان السردار موظفًا مصريًّا ومرءوسًا لوزير الحربية، ويتقاضى
مرتبه من الخزانة المصرية، وكانت الإجابة على تساؤلات العضو بالإيجاب. واتفق العضو
السائل وممثل الحكومة على أنه «لا يتفق مع كرامة الدولة المصرية أن يكون الرئيس الأعلى
لقواتها أجنبيًّا، بل ولا الرئيس الأدنى أيضًا، ولكن هذا كان من قبل، ويجب علينا أن
نمحوه. كما أن إقامة السردار بالسودان لا تتفق مع مصلحة العمل، وهذا واقع من قبل أيضًا،
ويجب أن تُتخذ الوسائل لإزالة ذلك.» يقول عبد الفتاح عنايت: «قررنا اغتيال السردار يوم
الأربعاء الموافق ١٩ نوفمبر ١٩٢٤م، في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر، عند خروجه من
مكتبه بوزارة الحربية، عائدًا إلى منزله بالزمالك. وتم الاتفاق على أن يقوم بقتل
السردار ستة أعضاء هم: عبد الفتاح عنايت، عبد الحميد عنايت، إبراهيم موسى، محمود راشد،
علي إبراهيم، راغب حسين، بالاشتراك مع الدكتور شفيق منصور المحامي ومحمود
إسماعيل.»
٢٤٠ أما أسباب اغتيال السردار؛ فإن عبد الفتاح عنايت يرجعها إلى أنه «عندما
أُحبطت المفاوضات نهائيًّا، وتهيأ سعد للعودة إلى مصر، اجتمعنا للأخذ بالثأر من هؤلاء
المستعمرين الطغاة. كنا نريد أن نُشعِرهم أن شباب مصر يستطيع أن يحطم أكبر رءوسهم في
مصر.
وفي البداية حددنا أكبر الرءوس: كان المندوب السامي البريطاني، حاكم السودان، سردار
الجيش المصري. واتجهت الفكرة إلى اغتيال المندوب السامي، لكن من خلال المراقبة وجدنا
أنه في حراسة شديدة، وأنه لا يتحرك إلا وسط مجموعة من الموتوسيكلات. وفكرنا في وكيل
حكومة السودان في مصر ليكون ردًّا عمليًّا على نظام الإنجليز في السودان، إلا أن القدر
ساق لنا السير لي ستاك الذي كان في طريقه إلى السودان مارًّا بالقاهرة. واجتمعنا، وقررنا
اغتياله يوم الأربعاء ١٩ نوفمبر ١٩٢٤م، وتم الاتفاق أن يقوم بالعملية ستة أعضاء هم: عبد
الفتاح عنايت، عبد الحميد عنايت، إبراهيم موسى، محمود راشد، علي إبراهيم، راغب حسين …
بالاشتراك مع الدكتور شفيق منصور ومحمود إسماعيل. وجاءت النتائج على غير ما نريد،
فامتلأت قلوب الإنجليز حقدًا، وكان الإنذار لسعد زغلول، وكان الإرهاب أكثر وأشد.» ثم
يضيف عبد الفتاح عنايت عاملًا ثانيًا حين يقول إن مقتل السردار كان نتيجة لفشل مفاوضات
سعد زغلول، فضلًا عن ثورة السودان التي أكدت أن الروابط بين مصر والسودان لا يمكن فضحها
أبدًا.
٢٤١ ثم يعود فيؤكد أن السبب هو الرد العملي على الفظائع المروعة التي ارتكبها
الإنجليز في السودان.
٢٤٢ وقد دافع جلال السيد عن المتهمين بأنه «مهما كانت الاجتهادات حول مقتل
السردار، فعلينا ألا ننسى تاريخ هؤلاء، وما قدَّموه من أجل وطنهم، وكانت كراهيتهم
للإنجليز هي المحرك دائمًا لأفعالهم.»
٢٤٣
أيًّا يكن الأمر، فقد أقدم أعضاء التنظيم على عملية الاغتيال — حسب رواية عبد الفتاح
عنايت — توهمًا أنها لخدمة الوطن: «بقينا أيامًا ننتظر نتائج هذه الغزوة التي قمنا بها
في سبيل ما كنا نراه خدمة للوطن. وكنا نعتقد أن مصرع صاحب الفخامة — السردار — سيملأ
قلوب الإنجليز رعبًا، وسيحملهم على التسليم بدون قيدٍ أو شرطٍ بجميع ما يطلبه المصريون
من
الجلاء الناجز والوحدة … وجاءت نتائج قتل السردار على غير ما نشتهي.»
٢٤٤ ويروي إبراهيم عبد الهادي في مذكراته أن عبد الفتاح عنايت اعترف على جميع
المتهمين الذين شُنقوا، ومنهم شقيقه عبد الحميد.
٢٤٥ ويروي الفنان (يوميات محام) أنه زار ليمان طرة في دورة تدريبية على أعمال
السجون، والتقى بعبد الفتاح عنايت في قسم صناعة السِّلال. ومع أن عنايت كان هو الذي طلب
اللقاء، فإنه أجهش بالبكاء لرؤية زملائه الذين كان يسبقهم ويتفوق عليهم، قبل أن يحكم
عليه بالسجن المؤبد، واضطر محمود كامل وزملاؤه إلى مغادرة قسم صناعة السلال.
٢٤٦
وفي الحقيقة أن مقتل السردار — بصرف النظر عن نيات أعضاء التنظيم السري — لم يكن
ضربة موجهة إلى سعد زغلول فحسب، بل كان — في الدرجة الأولى — فرصة مواتية للقضاء على
مظاهر العنف الفردي بين الطلبة وصغار الموظفين والعمال. كانت ضربة بارعة التوقيت لتنفير
الجماهير من فكرة الكفاح المسلح، فضلًا عن العامل الأهم، وهو إجهاض الثورة. وتمثَّل ذلك
—
في أحد جوانبه — في خلع سعد زغلول من كرسي الرئاسة، ووضع وزارة زيور بدلًا منه، فأعلن
حل مجلس النواب الأول بعد أن أتم من العمر دورة واحدة، وجاء إسماعيل صدقي ليجري له
انتخابات جديدة. ولما اجتمع البرلمان الجديد، تبيَّن أن الأغلبية فيه لا تزال وفدية تؤيد
سعد زغلول؛ فأعلن حل البرلمان الجديد بعد انعقاده بساعات.
•••
كانت النتائج التي تمخضت عنها حادثة السردار ذروة الفشل الذي واجهته ثورة ١٩١٩م، والذي
تمثَّل في عدة أسباب، منها:
-
عزل قيادة الثورة نفسها عن الوطن العربي والحركات الوطنية فيه.
-
قبول قيادة الثورة التنازلات الشكلية التي قدَّمها الاستعمار، والاكتفاء بتحقيق مطلب
الاستقلال، وما تلاه من مظهريات سياسية، مثل المناداة بالسلطان فؤاد ملكًا على مصر في
١٥ مارس ١٩٢٢م. ولم تعن بأن تكون هناك أرضية اجتماعية تحقق مصالح طبقات المجتمع المصري.
كانت خطوات الثورة كلها تصدر عن رؤية سياسية، أما الأهداف الاجتماعية فلم تكن مما يخطر
لها على بال، ومن ثَم فقد انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له.
-
أغفلت قيادات الثورة مطالب التغيير الاجتماعي، نتيجة لأن ملاك الأراضي وكبار
الرأسماليين كانوا هم أساس الأحزاب السياسية التي تصدَّت لقيادة الثورة، وبدأت تلك
القيادات بالتالي في السيطرة تدريجيًّا على أبعاد الحياة الاقتصادية، وشغل مواضع
الأجانب. ويعد اتحاد الصناعات الذي تأسس عام ١٩٢٢م أرقى تنظيمات الرأسمالية الاحتكارية.
وقد لعب دورًا خطيرًا في تاريخ مصر الاقتصادي والسياسي الحديث، فكان حربًا على الحركة
الوطنية والديمقراطية. كما تصدى لمقاومة الحركة العمالية والنقابية. ووقف ضد التشريعات
العمالية والإصلاحات الاجتماعية. وفي التاسع عشر من يوليو ١٩٢٤م ضُرب أول اتحاد لنقابات
العمال في مصر، واضطُهد قادته اليساريون … لكن عناصر نقابية إصلاحية وتابعة للطبقات
الرأسمالية بقيادة «زعيم العمال» عبد الرحمن فهمي، تمكنت من السيطرة على الحركة
النقابية المصرية لفترة طويلة، امتدت من يوليو ١٩٢٤م إلى ظهور أول تشريع يعترف بالنقابات
في ١٩٢٤م. وما من شك أنه لو كان المضمون الاجتماعي حقيقة مجسدة، لما انتهت ثورة ١٩١٩م
بهذه النهاية الفاشلة. فقد تخلَّت الطبقات الشعبية عن الإسهام بدورٍ ما في الثورة منذ
انقضاء مرحلتها الأولى، ومن ثَم كان العجز الواضح هو موقفها من التطور المباغت
للأحداث.
-
ولعل أخطر الأسباب، وأشدها تأثيرًا في طبيعة الحياة المصرية لفترة تمتد منذ ثورة
١٩١٩م حتى ثورة يوليو، أن الخصومة الحزبية كانت هي أقسى ما واجهه الشعب المصري في تاريخه
الحديث، تلك الخصومة التي عبَّر عنها السحار في «الشارع الجديد» بمعارك الصعايدة والفلاحين.
فقد أفرغت الثورة من محتواها الثوري تمامًا، وحوَّلتها إلى طريق التناحر الحزبي الذي
جعل
غاية الوصول إلى مقاعد الحكم، ولم يعُد التناحر وقفًا على السعديين والعدليين، بل أدلت
فيه كل الأحزاب بدلوها، فالحزب الوطني — مثلًا — يؤكد ما قاله زعيمه محمد فريد: «إني
أعتقد أن هذا الوفد لا يتأخر عن الاتفاق مع الإنجليز لو وجد منهم صدرًا رحبًا، ولا يبقى
يطالب فعلًا، وبإخلاص حقيقي، باستقلال مصر التام، إلا حزبنا، الحزب الوطني، ولكنا لم
نرد الآن الظهور بمظهر الإشفاق، فأظهرنا رضانا عن هذا الوفد وتشجيعنا له، مع اعتقادنا
بعدم إخلاص معظم رجاله.»
٢٤٧ كما أعلن الحزب أنه هو الذي غيَّر من صيغة توكيل الأمة للوفد، فنص فيها على
الاستقلال التام.
٢٤٨
-
حتى السراي، شاركت في لعبة الأحزاب بإنشاء حزب الاتحاد. أراد الملك فؤاد (١٩٢٥م) أن
ينشئ حزبًا سياسيًّا جديدًا لهدفٍ مزدوج: إيجاد ملاذ للسعديين الذين يحجمون عن الانضمام
إلى الأحرار الدستوريين، وتكوين مجموعة منظمة تتجه بولائها إلى القصر.
٢٤٩ فهي حزب يخضع لإرادته — القصر — ويناوئ الوفد من خلاله من قيادات رأسمالية
تتصل بالاحتكارات الأجنبية، وعهد حسن نشأت برئاسة الحزب إلى يحيى إبراهيم باشا، أحد
كبار الرأسماليين المصريين — وإن ظل نشأت — الذي وصفه اللورد كيلرن بأنه ميَّال للإنجليز
«ميلًا جديرًا بالتشجيع.»
٢٥٠ ظل الرجل هو الرئيس الفعلي للحزب — وأمر بإنشاء صحيفة يومية تحمل اسم الحزب
الجديد، وانضم إلى الحزب عدد من كبار الملاك ورجال الإدارة، وأُغرِي عدد من أعضاء مجلس
النواب المنحل من الوفديين بالخروج على سعد، والاستقالة من الوفد، بوعد مساعدة الحكومة
لهم في انتخابات المجلس الجديد.
٢٥١ كانت المعركة الانتخابية على الأبواب، بل إن بعض رجال الإدارة دخلوا
الحزب الجديد تحت ضغط الترهيب.
٢٥٢ وقد احتفل بالإعلان الرسمي لتأسيس الحزب بفندق سميراميس في ١٠ يناير ١٩٢٥م،
وحضر الحفل حوالي ثلاثمائة شخصية سياسية، وتم في الحفل اختيار ٢٨ شخصًا، من بينهم ستة
أعضاء في مجلس الشيوخ.
٢٥٣ وأعلن الحزب أن مبدأه هو الولاء للسراي، وأن الوفد وقادته لا ولاء لهم
لعاهل البلاد.
٢٥٤ وكتبت «التايمز»: «إن الحزب هو همزة الوصل بين جميع المعارضين للوفد الذين
لا ينضمون للأحرار الدستوريين لسبب أو لآخر، فيندمجون في هذا الحزب الجديد.»
٢٥٥ لكن هذا الحزب ظل أقل الأحزاب التي عاصرته شأنًا ونفوذًا، ذلك لأنه تألَّف في
الجملة — كما يقول الرافعي — من جماعة من الوصوليين، أرادوا الإفادة من صلة الحزب
بالسراي، لينالوا ما يبتغون من الرتب والألقاب والمزايا والنفوذ وكراسي الوزارة
والمناصب الممتازة لأنفسهم أو لذويهم.
٢٥٦ بل إن سنية قراعة — مؤرخة إسماعيل صدقي — تصف الحزب بأنه «ظهر في ميدان
السياسة المصرية كالنبات الشيطاني، وفي ظروف خاصة وطارئة، ولم يكن له تأثير، منذ ظهر
في
عالم الوجود حتى اختفى وزال شبحه.»
٢٥٧
واللافت أنه منذ فبراير ١٩٢٢م إلى توقيع معاهدة ١٩٣٦م، ظلَّت تحفظات فبراير تفرض ظلها
القوي على الحياة السياسية المصرية، فقد تدخلت بريطانيا في ٢٢ فبراير ١٩٢٤م عقب مقتل
السردار، وتدخلت — للمرة الثانية — في ٢٩ مايو ١٩٢٧م على عهد حكومة عبد الخالق ثروت؛
حيث
سلمت دار المندوب السامي مذكرة من الحكومة البريطانية تعترض فيها على محاولة مجلس
النواب إبعاد النفوذ الإنجليزي عن الجيش، وإحلال قيادات مصرية. كما حدث تدخل ثالث عندما
اعترضت الحكومة الإنجليزية على بعض القرارات التي وافق عليها البرلمان التي أضعفت من
سلطة الهيئات الإدارية المسئولة عن حفظ الأمن وحماية الأشخاص والأموال. واحتفظت الحكومة
الإنجليزية لنفسها «بالحق في اتخاذ أي إجراء ترى في نظرها أن الحالة تقتضيه.» وفي مارس
١٩٢٨م طلب المندوب السامي من رئيس الوزراء مصطفى النحاس أن يتخذ في الحال الإجراءات
اللازمة لمنع القانون المنظم للاجتماعات العامة والمظاهرات من أن يصبح قانونًا «وإني
مكلف بأن أطلب من دولتكم إعطائي تأكيدًا قاطعًا بأنه لن يستمر في نظر المشروع المذكور،
فإذا لم يصلني هذا التأكيد؛ فإن حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية تعد نفسها حرة في
أن تقوم بأي عمل ترى أن الحالة تستدعيه.»
-
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان إعلان دستور ١٩٢٣م بمثابة إعلان للهدنة بين المصريين
وسلطات الاحتلال، وإعلان موازٍ للخلافات الحزبية أن تزيد وتتفاقم، فأخذ على المصريين
كل
مناحي حياتهم، مع أن دار المندوب السامي كانت هي الحاكم الفعلي للبلاد، وجنود الاحتلال
يملئون شوارع القاهرة، ويطلون بوجوههم من ثكنات قصر النيل، أهم ميادين العاصمة.
-
وكان مقتل السردار قمة موجة من الاغتيالات السياسية قام بها أفراد التنظيم السري،
أو الجمعية الإرهابية — كما يسميها عبد الفتاح عنايت في مذكراته — بدأت في ١٩١٠م بمقتل
بطرس غالي على يد إبراهيم ناصف الورداني، وبلغت ذروتها — ونهايتها — في ١٩٢٤م بمقتل
السردار.
والحق أن الاغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد في إرهاصات الثورة، وفي أعقابها،
ضد
عدد من الساسة المصريين، كان مبعثها عجز القيادات السياسية المصرية عن تحقيق الشعار
الذي رفعته الجماهير: «الاستقلال التام». وحاولت أعداد من الشباب تحقيق الشعار من خلال
أفكار وتنظيمات، وعمليات اغتيال في الوقت نفسه. يشير سعد زغلول إلى تلك الجمعية السرية
التي كان من أهم أعضائها الورداني، وكانت غايتها جعل مصر للمصريين بوسائل كثيرة، منها
القوة.
٢٥٨ وبعد مصرع بطرس غالي تحوَّل الورداني إلى ممثل لعشرات الشبان الذين وجدوا في
العنف وسيلة وحيدة لمقاومة الاحتلال وأعوانه من كبار الساسة والباشوات. قال لي عبد
الفتاح عنايت إن فكرة التنظيم الذي نفَّذ العملية طرحت نفسها في أعقاب اغتيال الورداني
لبطرس غالي. والملاحَظ أن محمود طاهر العربي وعبد السلام البرعي، بعد أن استقر رأيهما
على قتل اللورد كتشنر، ووضعا أيديهما على القبر فوق المصحف والمسدس، وأقسما أن يكونا
أمناء على العهد، وأن يؤديا الفرض طائعين مختارين.
٢٥٩
ويبرر وسيم خالد عمليات الاغتيال الفردي عقب نشوب ثورة ١٩١٩م، بأن القيادات الانتهازية
انغمست في اقتسام الأسلاب التافهة التي ألقى لها بها الاحتلال الإنجليزي، وخفَّت أحلام
الاستقلال أو الموت الزؤام، لتفسح مجالًا لمأساة طويلة استغرقت رجال ١٩١٩م الذين وجدوا
أنفسهم يقدمون تنازلات جديدة، وحيويتهم تخبو شيئًا فشيئًا، بالإضافة إلى حرص كلٍّ منهم
على أن يُعنى بنفسه وطموحاته وتطلعاته، بحيث «يضمن مكانًا مريحًا، وتضيع أنفسهم
منهم.»
٢٦٠ ولم يواصل القتال سوى بعض العناصر الفردية، قوامها الطلبة والعمال وصغار
الموظفين، مارسوا عمليات اغتيال متوالية ضد الموظفين الإنجليز، كان آخرها قتل السير لي
ستاك سردار الجيش المصري.
٢٦١ كان تقدير مخطِّطي تلك العمليات، أن قتل جنود إنجليز سيرغمهم على أن يفكروا
في وضعهم: هل يحققون خسارة أو كسبًا؟ «وبعملية حسابية بسيطة يوقنون أن وجودهم عبث لا
طائل تحته.»
٢٦٢ ويصف وسيم خالد أسلوب الاغتيالات بأنه «ليس أكثر من ظاهرة تاريخية، وهو لم
يقم إلا عندما انعدمت القيادات ليعبِّر عن إرادة الشعب: من ضربنا على الخد الأيمن، لن
نعطيه الأيسر، وسنضربه حتى لو قتلنا! وهو — بهذا المعنى — ليس أكثر من شرارة لتفجير
دوافع الجموع الثورية، حتى تبلورت القيادة التي ارتبطت بالشعب في صراعه من أجل مستقبل
أفضل.»
٢٦٣ وفي تقدير حسين مؤنس أن صدور تصريح ٢٨ فبراير لا يرجع إلى العمل الفدائي
وحده «بل أقول إنه أسرع به، وفرض على بريطانيا أن تلين وتتساهل في وقتٍ كانت قد بدأت
فيه
تعود إلى الشدة والعنف والاضطهاد، ولا يظن أحد أنني أبالغ في تقدير عمل الفدائيين
المصريين، لأنك لا تستطيع تعليل مسارعة الإنجليز بإصدار تصريح ٢٨ فبراير وإعلان سقوط
الحماية، إلا إذا كان دافعهم إلى ذلك الرغبة في التخلص من موقف يعسر عليهم احتماله لزمن
طويل.»
٢٦٤
•••
ولعله يمكن القول إن الجمعيات السرية التي تكونت بقيام الثورة، أو بعد ذلك بقليل،
كانت تكتفي بالبعد السياسي وحده، دون أن تُعنى بالمضمون الاجتماعي، مثل جمعية «اليد
السوداء»، و«لجنة الدفاع الوطني»، و«اللجنة المستعجلة»، وجمعية «المصري الحر»، وجمعية
«الشعلة»،
وجمعية «المدارس العليا»، وجمعية «مجلس العشرة»، وجمعية «الخمسين»، وجمعية «الانتقام»،
وجمعية
«أولاد عنايت السرية»، وغيرها. وكانت كل جمعية مستقلة بأسرارها ونشاطها، وإن انضم البعض
إلى جمعيتين في وقت واحد. وشهدت تلك الجمعيات نهايتها عقب حادثة اغتيال السردار. يقول
رضا حمادة (المرايا): لقد فقد الوفد، أو قل الشعب، قوته الضاربة يوم قُبِض على زعماء
جمعية «الكف السوداء».
– ولكن الوفد يدعو إلى الجهاد المشروع.
– دعك مما يقولون.
ثم قال بحنق: لا نجاة لنا إلا بإبادة السراي وأحزاب الأقلية، ثم نواجه الإنجليز كتلة
واحدة!
٢٦٥
•••
أيًّا يكن الأمر، فمن المؤكد أن نشاط العمليات الفدائية كان له تأثيره، حتى بالنسبة
لاشتراط عبد الخالق ثروت أن يصدر التصريح قبل تأليفه للوزارة، ذلك لأن ثروت — وهو يقدم
شروطه — كان يعمل حسابه — في الحقيقة — لردود الأفعال التي سيؤدي إليها إقدامه على
تأليف الوزارة، بينما الأمة تخوض معركة استقلالها، دون أن يشي الأفق القريب — أو البعيد
— بانتصاراتٍ من أي نوع.
لقد تكوَّنت الجماعة التي قامت بعملية اغتيال السردار في أوائل ١٩٢٢م، واستمرت في
ممارسة
نشاطها حتى صُفيت في أعقاب الحادثة.
٢٦٦ وكان أعضاء الجماعة في البداية خمسة، هم: عبد الفتاح عنايت، عبد الحميد
عنايت، محمود عثمان، صديق لمحمود عثمان، محمد فهمي مندوب العمال. وخرج من الجماعة بعد
الحادثة محمود عثمان وصديقه — وكلاهما كان طالبًا بالمدارس الثانوية — بعد أن شاهدا
إطلاق الرصاص.
٢٦٧ واستبدل بمحمود عثمان عضو جيد، هو محمود راشد الموظف بمصلحة التنظيم،
واستبدل بصديقه العامل إبراهيم موسى من زعماء العنابر، وأصبحت الجماعة الأصلية مكونة
من
عبد الفتاح عنايت الطالب بكلية الحقوق، عبد الحميد عنايت الطالب بكلية المعلمين، محمد
فهمي مندوب حزب العمال، إبراهيم موسى الزعيم العمالي بالعنابر، محمود راشد الموظف
بالتنظيم.
٢٦٨ ويصف عبد الفتاح عنايت طبيعة الجماعة بأنها حزب يقوم على شكل حلقات خماسية،
تتفرع من الحلقة الرئيسة التي تُعد فروعًا من الشجرة الأم. وفي منتصف يناير ١٩٢٢م عقدت
لجنة الحزب الرئيسة اجتماعها الأول في حديقة النزهة بقصر النيل، وانتهت إلى قرار تكوين
حلقات خماسية فرعية، يرأس كلًّا منها عضو من أعضاء الحلقة الرئيسة، وأن يكون اتصاله بها
عن
طريق رئيس الحلقة الجديدة، دون أن يتصل بباقي الأعضاء حتى يظل مجهولًا لدى
الباقين.
٢٦٩ وكانت الحادثة الأولى مقتل جندي بريطاني في ميدان المحطة.
٢٧٠ وكانت حوادث الجماعة تتم علانية، وفي وضح النهار، وفي الشوارع المزدحمة
أيضًا. وكان ذلك — كما يقول عنايت — مقصودًا: «كان غرضنا من ذلك أن نشعرهم — المصريين
—
بقوتهم، وضعف الإنجليز أمام القوة.»
٢٧١ وأدى توالي الأحداث إلى استقالة عدد كبير من الموظفين «وهربهم إلى بلادهم
ليحتفظوا برءوسهم فوق أكتافهم.»
٢٧٢ و«انهارت الكبرياء المفتعلة والعنجهية المصطنعة التي عانى منها المصريون
الشيء الكثير.»
٢٧٣ ومن المهم أن نشير إلى أن الحاج محمد قطب العامل بعنابر السكك الحديدية،
كان هو الرأس المدبِّر وراء حوادث الاغتيالات — باعتراف عبد الفتاح عنايت — بدءًا بمقتل
الجندي البريطاني في ميدان المحطة، وانتهاء بمقتل السير لي ستاك سردار الجيش المصري.
«كان — إبراهيم موسى — هو اليد الفعالة في جمعيتنا الإرهابية.»
٢٧٤ مع ذلك؛ فإن الطلبة كانوا — كما يقول عنايت — هم أول من اتجه إليهم
التفكير، ذلك لأنهم كانوا أشد الطوائف حماسًا للقضية الوطنية، ثم ما لبثوا أن أبعدوا
عن
الطلبة اتهاماتهم، ذلك لأن العنف والجرأة التي صاحبت الحوادث لا يمكن أن تقوم بها أيدٍ
فتية، وأن الطلبة — رغم حماستهم — لا يجرءون على هذا النوع من الاغتيالات. وعادوا
فحصروا الشبهة في طوائف العمال، فهم أكثر عنفًا وقسوة وخشونة من الطلبة، لكنهم رأوا أنه
لا بد أن تكون هناك رءوس مدبِّرة، وأسندوا هذه الرءوس إلى زعماء الطلبة.
٢٧٥
واللافت في المحاكمة أن عمال العنابر تحديدًا — إبراهيم موسى وراغب حسن وعلي إبراهيم
— ظلوا على إنكارهم للتهمة حتى النهاية، بعكس بقية المتهمين الذين ما لبثوا أن اعترفوا،
وفي مقدمتهم شفيق منصور ومحمود راشد وعبد الحميد عنايت وعبد الفتاح عنايت. وقد بدأت
المحاكمة في أول يونيو ١٩٢٥م، وصدرت الأحكام في السابع من الشهر نفسه. وتقضي في القضية
رقم ١١٠ جنايات السيدة زينب بالأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين، وبالإعدام لسبعة، وصدرت
الأوامر — بعد ذلك — إلى الإنجليز بعدم السير على أقدامهم في الشوارع، وأن يكون
انتقالهم في عربات خاصة، على أن يجلس إلى جوار كل منهم جندي يحمل سلاحًا، وينظر في كل
اتجاه لمنع أية محاولة اغتيال ضد المواطنين الإنجليز.
٢٧٦
•••
تولى الحكم أحمد زيور باشا الذي وصفه اللورد كرومر بأنه لا يكاد يحس بالشعور الوطني
«وهو عديم النفع بالنسبة للوطنيين، ويفضِّل أي شيء أجنبي عن أي شيء مصري، وهو يعتبر غير
متحمس للوطنية على الإطلاق.»
٢٧٧ رفعت الوزارة الجديدة شعار «إنقاذ ما يمكن إنقاذه». وكما يقول فتحي رضوان:
«فقد كان هذا الشعار صادقًا تمامًا، لأن الغاية كانت إنقاذ ما يمكن إنقاذه لبريطانيا
لا
لمصر، وللقصر كما للشعب.»
٢٧٨ وقد ألغى زيور برلمان ١٩٢٤م، وبدأ في وضع قانون جديد للانتخابات، وتشكَّلت
لوضع القانون لجنة برئاسة إسماعيل صدقي وزير الداخلية، وعضوية كل من حلمي عيسى وعلي
ماهر وعبد العزيز فهمي وتوفيق دوس ومحمد علي. واقترحت اللجنة رفع سن الناخبين إلى ٢٥
سنة، على أن يكون حق الانتخاب بين ٢٥ و٤٠ سنة، وأن يقتصر على من يحوز ملكية معينة، أو
يدفع جنيهين في الأقل ضريبة سنوية، أو يقطن منزلًا إيجاره ٢٤ جنيهًا في الأقل سنويًّا،
أو من هو حاصل على شهادة عالية. كما اقترحت اللجنة إحالة مسألة الطعون في الانتخابات
إلى محكمة الاستئناف بدلًا من النواب أنفسهم. ويقول إسماعيل صدقي: «لا أنكر أننا في
وزارة زيور باشا أقدمنا على إجراءات جديدة أملتها علينا الظروف العصيبة في ذلك الحين،
وشجعنا عليها خوفنا على استقلال البلاد من أن يعصف به عاصف، أو تنتهز الفرصة — فرصة
الاضطرابات — لهدمه. وكنا نرغب — بكل إخلاص — أن ندخل في دور من الهدوء وتحسين العلاقات
بيننا وبين الدولة المحتلة. وكان الوفد يُعتبَر — في ذلك الحين — عدوًّا متحديًا لهذه
الدولة، خصوصًا بعد مقتل السردار الذي اتُّهم فيه بعض المنتسبين إلى الوفد، لذلك أقدمنا
على تعديل قانون الانتخابات.»
وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت شخصية سعد — كما قلت — شخصية جبارة، غمرت البلاد، ففاز
الوفد في هذه الانتخابات بالغالبية، ولو أنها لم تكن ذات خطر. ولما انعقد مجلس النواب،
وأجريت انتخابات الرياسة، فاز سعد زغلول بمائة وثلاثة وعشرين صوتًا ضد عبد الخالق ثروت
الذي فاز بخمسة وثمانين صوتًا، فرأينا أن هذه النتيجة في المجلس ستدفعنا إلى سياسة
بعيدة عن أن تحقق الهدوء الذي كنا ننشده في ذلك الحين؛ لهذا أقدمنا على حل هذا المجلس
رعاية للمصلحة الوطنية العليا.
٢٧٩ وقد أجريت تعديلات أخرى على مشروع القانون، نتيجة لتحذيراتٍ من دار المندوب
السامي (!) لأنه كان سيحرم ما قد يصل إلى ثلاثة أخماس الناخبين — بمقتضى قانون ١٩٢٣م
—
حق الانتخاب، وهو ما خشي المندوب السامي من تأثيراته بين الجماهير التي كانت أصداء ثورة
١٩١٩م ترن في أسماعها. مع ذلك؛ فإن القانون لم يقدر له الحياة طويلًا، بعد إصداره.
•••
على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها الحكومة لإسقاط الوفد، وإنجاح مرشحيها، مثل
تعديل معظم الدوائر الانتخابية على هوى مرشحي الحكومة، وتسخير رجال الإدارة للعمل لصالح
هؤلاء المرشحين، إلى حد التزوير في قوائم الناخبين، وفي النتائج، فقد جاءت نتيجة
الانتخابات فوز الوفد بالأغلبية. لكن الحكومة أصدرت بيانًا كاذبًا في ١٣ مارس، أعلنت
فيه فوز أحزاب الأقلية، ومن ثَم استمرار الحكومة القائمة في الحكم بعد إجراء تعديل في
شكلها يلائم نتيجة الانتخابات.
٢٨٠ وتكونت بالفعل وزارة جديدة برئاسة أحمد زيور، وعضوية مجموعة من زعماء
الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد وبعض المستقلين.
كان البرلمان — بمجلسَيه — قد اجتمع صباح الاثنين ٢٣ مارس ١٩٢٥م برئاسة توفيق نسيم
رئيس
مجلس الشيوخ، وحضر الملك حفل الافتتاح، وألقى زيور خِطاب العرش، ثم اجتمع مجلس النواب
لينتخب الرئيس. وتبدَّت الأغلبية الوفدية بفوز سعد زغلول (١٢٣صوتًا)، علي ثروت (٨٥ صوتًا)
مما أوضح كذب بيان الحكومة في ١٣ مارس، وتأجل اجتماع المجلس إلى مساء اليوم نفسه. ورفع
زيور إلى الملك فؤاد استقالة قال فيها: «بمجرد انعقاد المجلس، وقبل بحث برنامج الوزارة
الذي تضمنه خِطاب العرش، ظهرت في المجلس روح عدائية، تدل على الإصرار على تلك السياسة
التي كانت سببًا لتلك النكبات التي لم تنته البلاد من معالجتها، وقد بدت تلك الروح
جليَّة في أن المجلس اختار لرياسته زعيم تلك السياسة، والمسئول الأول عنها.»
٢٨١ جاءت نتيجة الانتخابات صدمة لزيور وصدقي، ورفض الملك فؤاد — من ناحيته —
قبول استقالة الوزارة، فلما عرض زيور حل مجلس النواب الجديد، وافق الملك وأصدر مرسومًا
بالحل. ولم يقدر للمجلس الجديد أن يحيا سوى بضع ساعات، وكان أقصر المجالس النيابية
عمرًا. وأرجأت الوزارة — بالطبع — عقد أية انتخابات جديدة، ومارس سياسة تتسم بالقمع
والاستبداد.
حل مجلس نواب ١٩٢٥م، ثم «جاء — كما يقول الضاحك الباكي — دور الأحرار الدستوريين،
ولم
يدُم ائتلافهم مع حزب الاتحاد طويلًا، فقد حدثت حادثة كتاب الشيخ علي عبد الرازق
(الإسلام وأصول الحكم) فقذفت بهم، وبحزبهم، من حالق، وأُخلي طرفهم في الحال، وأُسدل
الستار على برلمان ١٩٢٥م، بعد أن ابتلع أموال المرشحين، وبعد أن نُكبت الأمة نكبة جديدة
في أخلاقها وروابطها وهنائها.»
٢٨٢
لقد أجَّلت الوزارة الجديدة افتتاح البرلمان شهرًا، ثم قبل أن ينتهي الشهر بيوم واحد،
أصدرت مرسومًا بحل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب. ويبرر إسماعيل صدقي
ما أقدمت عليه الوزارة بأنها «إجراءات جريئة أملتها علينا الظروف العصيبة في ذلك الحين،
وشجعنا عليها خوفنا على استقلال البلاد من أن يعصف به عاصف، أو تُنتهَز الفرصة — فرصة
الاضطرابات — لهدمه، وكنا نرغب — بكل إخلاص — أن ندخل في دور من الهدوء وتحسين العلاقات
بيننا وبين الدولة المحتلة.»
٢٨٣ ويضيف صدقي: «أقدمنا على حل هذا المجلس رعايةً للمصلحة الوطنية العليا، ولكي
نعيد العلاقات الحسنة إلى نصابها حتى نصل بالبلاد إلى ما ننشده لها من خير في جو هادئ
يسوده التفاهم وعدم العنف.»
٢٨٤ ثم أجرت حكومة زيور تعديلًا في مقاعدها، تولى يحيى إبراهيم — في ضوئه —
وزارة المالية، وعُيِّن اللواء موسى فؤاد — بعد استقالته من الوفد — وزيرًا للحربية
والبحرية، ودخل عبد العزيز فهمي باشا — رئيس حزب الأحرار الدستوريين — وزيرًا للحقانية
(العدل) وأصبحت الوزارة مؤلَّفة من عشرة وزراء؛ أربعة من حزب الاتحاد، وثلاثة من حزب
الأحرار الدستوريين، وثلاثة من المستقلين.
وأُجريت الانتخابات في موعدها، واستخدمت الحكومة كل وسائل الإغراء المعنوي والمادي،
ولجأت إلى التهديد بالفصل والعسف لكسب الأصوات لمرشحي حزب الاتحاد، ومع ذلك فقد فاز
مرشحو الوفد بأغلبية الأصوات، وانتُخب سعد زغلول رئيسًا للبرلمان، وواجه الملك فؤاد
التحدي (!) بحل البرلمان في يومه الأول!
ظل البرلمان مُعطلًا، حتى قام ائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين في ١٩٢٦م، وأجريت
انتخابات جديدة في ظل ذلك الائتلاف.
يسأل محمد عفت: «هل أعجبتك أنباء المؤتمر الوطني الذي احتشد في بيت محمد محمود؟ عشنا
وشفنا مرة أخرى سعد وعدلي وثروت في جبهة واحدة.
قال أحمد عبد الجواد: ربنا من حكمته أن يقبل التوبة!
– إني لا أثق في هؤلاء الكلاب.
– ولا أنا … ولكن ما العمل؟ الملك فؤاد طينها، ومن المحزن أن المعركة لم تعد بيننا
وبين الإنجليز.»
٢٨٥
وطبيعي أن يفوز الائتلاف، و«يعود سعد زغلول فيعتلي عرشه، ويقبض على
صولجانه.»
٢٨٦ وكتب مراسل «كوكب الشرق» معلقًا على استقالة وزارة زيور: «دولة زيور باشا:
توليتم الوزارة، فكنتم حربًا عوانًا على الأمة، وشرًّا وبيلًا على دستورها، فأذقتموها
عذاب الهوان، وجرعتموها كئوس الشقاء.»
٢٨٧
يصف الضاحك الباكي تطورات الأحداث بقوله: «تكررت المهازل على نحو ما جرى في
الانتخابات الأولى؛ لقد أنفق أحدهم في مديرية المنيا سبعين ألفًا من الجنيهات في شهر
واحد. ودارت المعارك الانتخابية حامية الوطيس في بعض بلاد الوجهين القبلي والبحري، فسقط
القتلى والجرحى، وانغمرت محاكم الجنايات في قضايا كثيرة، واشتعلت نار الحزازات
الإقليمية، فالتهمت اليابس والأخضر في البيوت والأسر والجيران. واجتمع مجلس النواب
بقاعة جلساته في يوم الإثنين ٢٣ مارس ١٩٢٥م. وكان من بين الوزراء المعروفين عبد العزيز
فهمي ومحمد علي وتوفيق دوس وعلي ماهر وإسماعيل صدقي وزير الداخلية الذي أشرف على عملية
الانتخابات، وأعضاء يقسمون اليمين. ثم دارت مناقشة لم تستغرق عدة دقائق، عن إجراء
انتخابات رياسة المجلس إلى أن أُجريت، فإذا بسعد زغلول ينال ١٢٣ صوتًا، وعبد الخالق ثروت
٨٥ صوتًا، فيظفر سعد زغلول بالرياسة.»
٢٨٨ وبعد أربع ساعات من الجلسة الأولى، فوجئ المجلس بمرسومٍ بحل المجلس من الملك
فؤاد، لأن الرئيس الذي انتُخب ليس هو الرئيس الذي أرادته الحكومة!
٢٨٩
•••
في يناير ١٩٢٦م أنشئت لجنة تنفيذية للأحزاب الثلاثة المؤتلفة: الوفد، الحزب الوطني،
الأحرار الدستوريين، لتنظيم الجهود المشتركة، وتدعيم الائتلاف. واتفقت كلمة الأحزاب
المؤتلفة على مقاطعة الانتخابات، وعقد مؤتمر وطني لبحث الأوضاع التي تردَّت إليها البلاد.
واجتمع المؤتمر الوطني فعلًا في ١٩ فبراير ١٩٢٦م بحديقة منزل محمد محمود بشارع الفلكي،
وترأس سعد زغلول المؤتمر، وجلس بجانبه عدلي يكن وعبد الخالق ثروت، وأصدر المؤتمر أربعة
قرارات هي:
-
تأييد الأحزاب المؤتلفة في الاحتجاج على الوزارة فيما يختص بالتصرفات التي صدرت
منها مخالفة للدستور.
-
دعوة الأمة إلى الدخول في الانتخابات، لإعادة الحياة النيابية.
-
تأليف وزارة ذات ثقل جماهيري، وتوقيف العديد من القرارات والإجراءات التي اتخذتها
الحكومة القائمة.
-
انتخاب لجنة للقيام بما يلزم عمله لتنفيذ القرارات.
وقد أذعنت الحكومة لقرارات المؤتمر، واستصدرت في ٢٢ فبراير مرسومًا بإجراء
الانتخابات، طبقًا لأحكام قانون الانتخاب المباشر. وكان صدور هذا القانون بمثابة إلغاء
لقانون الانتخاب الذي أصدرته في ٨ ديسمبر ١٩٢٥م.
اتفقت الأحزاب المؤتلفة على عدم التنافس في الانتخابات، ووزَّعت الدوائر بينها على
قدر
الإمكان. وأسفرت الانتخابات عن فوز ١٦٥ نائبًا وفديًّا، و٢٩ من الأحرار الدستوريين، و١٠
من النواب المستقلين، و٥ من الاتحاديين.
كان لويد جورج قد صارح سعد زغلول بأن الحكومة البريطانية تعارض أن يتولى رئاسة
الوزارة، ورأى قادة التحالف الحزبي أن يفوِّت سعد الفرصة على مؤامرات السلطات البريطانية
والسراي، وأن يتنحى سعد عن رئاسة الوزارة. وأعلن ذلك فعلًا في حفل التكريم الذي أقيم
له
في ٣ يونيو، وبرر تنحيه بأن صحته لا تحتمل متاعب المنصب، وعهد الملك إلى عدلي يكن
بتأليف الوزارة، فكوَّنها من حزبَي الوفد والأحرار الدستوريين.
فقد أقام النواب المنتخبون حفل شاي في فندق الكونتيننتال لتكريم سعد زغلول … وعارض
الأستاذ شكري بطل «الضاحك الباكي» الفكرة، وقال إنها تقهقر ورضوخ من زعيم الأغلبية لإرادة
الإنجليز، ثم وقف طبيب سعد الخاص، فأيَّد الدعوة بالتخلي عن الحكم، وحسم سعد النقاش حين
قال إن صحته لا تساعده بالفعل على تولي رئاسة الوزارة.
وتولى عدلي يكن الوزارة، بعد أن أقصى زعيم الأغلبية.
يقول حسين شداد: نترككم وأنتم على خير حال من الوحدة والائتلاف، نفسي أن تسبقنا أنباء
الاستقلال إلى باريس.
فيقول إسماعيل لطيف مشيرًا إلى كمال عبد الجواد: صاحبك غير راضٍ عن الائتلاف؛ عز عليه
أن يضع سعده يده في يد الخونة، وعز عليه أكثر
أن يتحاشى الاصطدام بالإنجليز فينزل عن الوزارة إلى خصمه القديم عدلي (قصر
الشوق).
وفي ١٩ مايو ١٩٢٦م تألَّف الوفد المصري للمفاوضات برئاسة عدلي يكن، واشتد رد الفعل
الشعبي ضد خصوم سعد، واعتدت الجماهير على بيوتهم.
٢٩٠
•••
يثور السؤال — يونيو ١٩٢٦م — «هل بات من المأمول حقًّا — بعد الائتلاف — أن يعود
الدستور والحياة النيابية؟»
٢٩١
لقد تخلى عبد العزيز فهمي — في ذلك العام — عن رئاسة حزب الأحرار الدستوريين، بعد
أن
ائتلفت الأحزاب المصرية.
٢٩٢ وتجدد الأمل في عودة كل المنشقين إلى حظيرة الوفد بعد أن ملت الأمة
المهاترات الحزبية. وتنحى سعد زغلول عن قبول الوزارة لصالح القضية، وتركها لعدلي يكن.
فقد اشترط الإنجليز ألَّا يكون سعد زغلول رئيسًا للحكومة،
٢٩٣ وألَّف عدلي الوزارة في ٧ يونيو ١٩٢٦م من حزبي الوفد والأحرار الدستوريين،
وامتنع الحزب الوطني عن الدخول في الوزارة، لأن مبدأه ألا يلي مناصب الحكم في ظل
الاحتلال. وتولى عبد الخالق ثروت وزارة الخارجية في الوزارة الجديدة، وعقد البرلمان
أولى جلساته في ١٠ يونيو برئاسة حسين رشدي ومصطفى النحاس وويصا واصف وكيلين، وكتبت
الصحف الإنجليزية تصف الوزارة العدلية بأنها بناء وفدي ذو شرفة من الأحرار
الدستوريين.
٢٩٤
لقد أدركت السراي وطبقة كبار الملاك في آن، أن مصالحهما يتهددها الخطر نتيجة للمد
الثوري المتزايد، ومن ثَم فقد بدأ اقترابهما دفاعًا عن المصالح الشعبية. وإذا كان ثلاثي
الاحتلال والسراي والبرجوازية الكبرى، قد وجدوا في حادثة قتل السردار أصلح الفرص لإفشال
الثورة، وإفراغها من كل محتوى إيجابي، وتكبيل الشيخ بقيودٍ من الشروط المتعسفة والقاسية،
تدفع به بعيدًا عن الحياة السياسية؛ فإن الرجل ما لبث أن عاد — من خلال رئاسته لمجلس
النواب — ليعمل على توحيد الكلمة، وتبني مطالب الشعب … ومع أن وصفي كان يمثِّل — بدرجة
ما
— قوة مناوئة لسعد زغلول فإنه يجيب عن سؤال لعمِّه أحمد باشا شكري: «والله يا عمي سعد
باشا أصبح رجلًا عسيرًا على المهاجمة، فهو منذ تولى رياسة مجلس النواب وهو يعمل على ضم
الكلمة.»
٢٩٥
وفي ٢١ أبريل ١٩٢٧م قدم عدلي يكن استقالته، وعهد الملك فؤاد إلى ثروت أن يؤلف وزارة
جديدة، فقبِل المهمة، وألَّف وزارته في ٢٦ أبريل ١٩٢٧م.
•••
في يناير ١٩٢٥م أمر الملك فؤاد يحيى إبراهيم باشا أن يؤلف حزبًا باسم الاتحاد، يعبِّر
عن
السراي، ويدافع عن وجهة نظرها وينفذ اتجاهاتها. وكما أشرنا في فقرات سابقة، فإنه حين
أُجريت الانتخابات، استخدمت الحكومة كل وسائل الإغراء المعنوي والمادي، ولجأت إلى
التهديد بالفصل والعسف لكسب الأصوات لمرشحي حزب الاتحاد. ومع ذلك فقد فاز مرشحو الوفد
بأغلبية الأصوات، وانتُخب سعد زغلول رئيسًا للبرلمان، وواجه الملك فؤاد التحدي (!) بحل
البرلمان في يومه الأول! ففي ٢٢ مارس ١٩٢٥م عقد مجلس النواب جلسته الأولى، وكان المرشحان
للرئاسة سعد زغلول وعبد الخالق ثروت. وفاز سعد بأغلبية كبيرة، فطالب الإنجليز بحل مجلس
النواب حالًا، وهددوا — إذا لم يتم ذلك — بوضع أيديهم على مرافق البلاد بالقوة، ونفَّذ
زيور باشا أمر الإنجليز، وحلَّ مجلس النواب.
٢٩٦ ويقول عبد العزيز فهمي إنه لو «كان الإنجليز نفَّذوا تهديدهم بالاستيلاء
بالقوة العسكرية على مصالح البلاد، لكانت هذه طامة كبرى، تزيد على تلك المصائب التي
والوها علينا يوم مقتل السردار سنة ١٩٢٤م.»
٢٩٧
ولا شك أن ظهور حزب الاتحاد جاء توسيعًا لثغرة الخلافات الحزبية. كان ثمة أحزاب ثلاثة
هي: الوفد، والوطني، والأحرار الدستوريون، تعاني التناحر والخلافات، وغلبة المصالح
الشخصية على المصلحة العامة عند الكثير من قياداتها. يقول توفيق الحكيم في «سجن العمر»:
«فإن تكوين الأحزاب بعد ثورة ١٩١٩م على ذلك النحو الذي حدث، وتنافسها على اقتسام واقتناء
أصحاب الأموال والجاه وكبار الملاك، لضمِّهم إلى عضويتها، جعل قيادات هذه الأحزاب في
أيدي
تلك الطبقة، ولم تسمح للمفكرين والمثقفين الحقيقيين إلا بالمراكز الثانوية التي ليس لها
حق التوجيه. ومن هنا ضعف الدور الفكري والاجتماعي لهذه الأحزاب، واقتصر نشاطها على
الجانب السياسي. وحتى هذا الجانب أيضًا قد تمخض — أحيانًا كثيرة — عن مجرد تطاحن على
كرسي الوزارة، وتنازع على ثمار شجرة الحكم، وهو ما كان يهم أكثر تلك القيادات. أما
الكاتب المفكر المثقف في نظرها، فكان في الأغلب مجرد قلم يُستأجر للدفاع عن وجهة نظرها،
والهجوم على خصومها. وكان هذا ما نفَّرني وأبعدني عن هذه الأحزاب، وما جعلني أقف ضدها
جميعًا، وأرى كل شيء يتحرك من حولي داخل إطار سياسي كاذب مزيف، وما جعل الصورة التي
يمكن أن تكتب عن بلادنا وقتئذٍ أبعد ما تكون عما كانت تتمناه عواطفي المتحمسة التي
دفعتني إلى كتابة مثل «عودة الروح».» الأمر نفسه — تقريبًا — يعلنه محمود في رواية «نفوس
مضطربة»: «ولكني لا أحب أيضًا تكوين الأحزاب بحالتها الراهنة؛ إذ لا مبادئ مرسومة لها،
ولا سياسة موضوعة، ولا برامج للإصلاح الاجتماعي، إنما هو زعيق وصياح وس
•••
تلك طبيعة التناقضات التي تلت قيام ثورة ١٩١٩م، فهل كان سعد زغلول — حقيقة — زعيمًا
مقدسًا، بينما لم يكن الآخرون سوى حفنة من الكلاب الخونة؟ وهل كان الوفد — بالفعل — عقيدة
الأمة؟
٢٩٨
من الصعب أن تكون الخيانة هي محصلة الأخطاء التي وقع فيها عدلي يكن — مثلًا — منذ
اختلافه الشهير مع سعد زغلول على مائدة المفاوضات الملنرية حتى دخل حلبة الصراع الحزبي
— على رأس الأحرار الدستوريين — ضد سعد زغلول بالذات. ذلك الصراع الذي دفعه إلى خصومة
الجماهير، بعد أن رأى تمسكها بزعامة سعد، حتى لقد وصف الشعب يومًا بأنه كأعمدة السكك
الحديدية. وكان عدلي أبعد ما يكون عن الخيانة في حرصه على عدم الاشتراك في انقلاب ١٩٢٨م
الذي قام به الأحرار الدستوريون، رغم أنه كان أول رئيس للحزب، وكان أبعد ما يكون عن
الخيانة في استنكار مواقف وزارة إسماعيل صدقي في ١٩٣٠م.
وإذا كان عدلي قد واجه العديد من الاتهامات — والخيانة أحدها — فقد واجه سعد زغلول
كذلك العديد من الاتهامات، والخيانة أحدها. كان سعد — بحصوله على الليسانس — أحد الذين
حطموا الحاجز الاجتماعي — أو حققوا الحراك الاجتماعي — بواسطة التعلم، فقد حصل على
الشهادة العليا التي أهَّلته للوظيفة المناسبة، وللترقي. ثم أضاف إلى تكوينه الطبقي
الجديد زواجه في ٦ فبراير ١٨٩٦م بصفية ابنة مصطفى فهمي باشا الذي ترأس مجلس النظار في
أعقاب دخول الاحتلال لأعوام طويلة، وكان أخلص أصدقاء سلطات الاحتلال في أعوامه الأولى
«إن لم يكن خلال تاريخ الاحتلال الإنجليزي كله.»
٢٩٩ وكان سعد قاضيًا بمحكمة الاستئناف، ويقول أحمد عاكف: «لقد مهد له — أي سعد
زغلول — صهره سبيل النجاح، ولولا صهره ما كان سعدًا الذي نعرفه.»
٣٠٠ وقد وصفه أمين يوسف بأنه «الدبلوماسي المصري الجاهز، الناجز، والزميل
المطيع للورد كرومر.»
٣٠١
ويقول مؤلف «الحقيقة عن مصر»
Truth about Egypt: «في
سنة ١٩٠٦م تقلَّد سعد زغلول نظارة المعارف العمومية، واختير لهذا المنصب ليقضي على روح
الثورة التي نشرها مصطفى كامل بتهييجه المتواصل بين تلاميذ المدارس، وكان قد عظم
تأثيرها في نفوس الطلاب، وانتشرت بينهم انتشارًا سريعًا، وأصبح الإخلاد إلى النظام في
المدارس من الأمور المستعصية، وبذل سعد زغلول جهدًا عظيمًا في هذا السبيل، وكان يعيد
النظر في الإصلاحات التي أدخلها، ولكنه لم يُوفَّق كل التوفيق، وإن كان نجح أكثر من مصري
آخر في أن أصبح هدفًا للوطنيين.»
٣٠٢ كان رأي سعد في مصطفى كامل أنه مجنون، وأنه «نصاب، خدَّاع، ومنافق كذاب، وليس
بشيء.»
٣٠٣ وكان رأي سعد أن «العامة من كل شعب لهم آمال تخالف صوالحهم، وأفكار لا
تلتئم مع منافعهم، وشهوات إذا أُطلق العنان لها أفسدت الأخلاق، وعبثت بالآداب، فالذين
يبحثون عن رضا العامة إنما يساعدون على نمو الفساد، وانتشاره في الأمة.» وكان يرى أن
المصريين ليسوا مستعدين للحكم النيابي لأن «صفة الاستقلال ضعيفة في المصريين حتى ولو
كانوا في مراكزهم محاطين بكل أسباب الاستقلال.»
٣٠٤ وفي مذكراته، يقول وسيم خالد: «البطل محمد فريد الذي كان مفلسًا في أوروبا
بعد أن باع أراضيه، وصرف ثمنها في سبيل مصر. وحينما كنت أسأل: لماذا تركه سعد مفلسًا
في
أوروبا؟ كان الجواب الذي يفاجئني به بعض أقاربي: «سعد خان البلد … سعد خاين.» ولم أستطع
أن أفهم كيف يقول بعض أقاربي أن سعدًا كان خائنًا، والآخرون أنه عظيم؟» ويشير الرافعي
إلى أن الحكم على محمد فريد بالسجن ستة أشهر بسبب ديوان «وطنيتي» مرده إلى موافقة سعد
زغلول كوزير للحقانية على إجراء تلك المحاكمة.
٣٠٥ وقد بعث محمد فريد إليه برقية تهنئة بوصول الوفد المصري إلى باريس، ولكن
سعد زغلول لم يرد على البرقية.
٣٠٦ كما يأخذ عبد العزيز جاويش على سعد أنه لم يحاول أن يتصل بمحمد فريد بعد
وصول الوفد إلى باريس.
٣٠٧
•••
الحقيقة التي لا اختلاف عليها أن الثورة — كما يقول الرافعي — لم تكن وليدة سعد زغلول
ولا وليدة الوفد، بل إن سعدًا والوفد كليهما وليد الثورة، لأنهما لم يصلا إلى ما وصلا
إليه من نفوذ ومكانة إلا بفضل الثورة. الرأي نفسه الذي ذهب إليه مؤرخ يرفض الالتزام
الحزبي هو محمد أنيس «ثورة الجماهير في مارس هي التي جعلت من سعد زغلول ثائرًا؛ لأنه
أحس
بقوة الشعب، وبقدرته على الثورة.» ويضيف محمد أنيس: «إن ثورة مارس وحركة الجماهير،
أفهمت سعد أن المسرح السياسي القديم في مصر قد اختفى كلية، وأن حزب الأمة لا يستطيع أن
يكون الممثل الرئيسي فيه، بل فهم أن مصر أصبحت مسرحًا لتحركات ثورية شعبية لم يكن يحلم
بها قبل الحرب العالمية الأولى؛ ومن ثَم، فقد كان الموقف يتطلب تطورًا في ثورية القيادات
القديمة لترتفع إلى مستوى التضحيات التي بذلتها الأمة في سخاء، في ثورة مارس.»
٣٠٨ لقد تصور سعد زغلول — حين وصلت إليه أنباء المظاهرات — أنها دُبِّرت بواسطة
الإنجليز، للتأثير بها على الرأي العام العالمي، بإظهار الشعب المصري في صورة الساعي
إلى العنف وسفك الدماء.
٣٠٩ وحين عُرض مشروع ملنر في ١٩٢١م على سعد زغلول، قال إن فيه «مزايا لا يُستهان
بها.» فلما قابلت الجماهير المصرية المشروع بالغضب والاستنكار، اضطر سعد لتعديل مسلكه،
ووصف المشروع بأنه «حماية التلت».
٣١٠ مع ذلك، فقد ظل سعد زغلول حريصًا — في كل أحاديثه وخطبه — على ألا يذكر
كلمة «ثورة»، وكان يسميها «النهضة الوطنية». كانت الجماهير إذن هي التي توجه سعد زغلول،
وتصنع الزعيم فيه. واستطاع الرجل كذلك — ببصيرة نافذة وذكاء حاد — أن يدرك الفارق بين
مصر ما قبل الثورة، ومصر منذ نشوبها. بل إن القاعدة الجماهيرية — كما يقول عبد العزيز
فهمي في مذكراته — وأنا أحاول — هنا — أن أعرض لوجهة النظر المعارضة — لم يكن لها دور
في اختيار سعد زغلول زعيمًا للثورة. إن اختيار الوفد من عبد العزيز فهمي وسعد زغلول
وعلي شعراوي «إنما وقع بطريق المصادفة والاتفاق.» وفي المقابل، فقد كان عدلي وثروت
ومحمد محمود وغيرهم من قيادات الأحرار الدستوريين — في نظر كمال عبد الجواد — مجرد خونة
أو إنجليز مطربشين!
٣١١ يقول لحسن سليم: أنت لا تهمك السياسة في شيء، لكن مزاجك يفصح أحيانًا عن
موقف فئة من المتمصرين المحسوبين على المصريين، كأنك ناطق بلسانهم، تراهم يائسين من
نهوض الوطن، يأس الاحتقار والتعالي، لا يأس الطموح والتطرف، ولولا أن السياسة مطية
لأطماعهم لاعتزلوها كما تفعل أنت. وعندما حدث الشقاق بين سعد وعدلي، تشاور أحمد
المراكيبي (حديث الصباح والمساء) وشقيقه محمود فيما ينبغي فعله، قال محمود: انقضت فترة
العواطف وجاءت فترة العقل. قال أحمد: الأرض كلها مع سعد.
– نكون حيث تكون مصلحتنا.
– لا يغرنك الهتاف؛ الإنجليز هم القوة الحقيقية. عدلي يوفر الأمان الدائم. هناك سلطة
شرعية هي الوسيلة الباقية بين الإنجليز، وهي العرش، فليكن ولاؤنا للملك!
٣١٢ أما عفت (حديث الصباح والمساء) فتقول لزوجها: لا وجه للمقارنة بين عدلي
باشا النبيل وبين زعيمك الأزهري.
٣١٣
والحق أننا لا ندري: لماذا كان سعد زغلول وطنيًّا؟ ولماذا وُصم عدلي وثروت
بالخيانة؟
ربما نجد في التفسيرات التاريخية الموضوعية تأييدًا لذلك، لكننا نفتقده عبر صفحات
«الثلاثية»، إنما هو حوار يمتد ويتشابك ويتصل، فيتبادله أصدقاء كمال عبد الجواد في قصر
شداد، وسمار الليالي في عوامة النيل، ونساء الأسرة في جلسة العصر الهادئة … سعد المهرج
الشعبي والأزهري القديم الذي يستهوي الناس ببلاغة كاذبة، هو الاتهام الذي يوجهه خصوم
سعد
— في الثلاثية — إليه. أما ثروت وعدلي، فهما يواجهان تهمة الخيانة، ومن ثَم، فالشعب يهتف
بسقوطهما ليل نهار. بل إن خديجة — تلك التي لا تفقه من أمر السياسة شيئًا، تدعو لولديها
أن يصبحا مثل سعد زغلول. ويقول لها ياسين متهكمًا: هلا قنعت بأن يكونا مثل عدلي أو
ثروت؟ فتصيح كالمستعيذة بالله: الخونة؟ لن يكونا من الذين يهتف الناس بسقوطهم ليل
نهار!
وربما لم تكن المواقف التي يستشفها القارئ في أعمال نجيب محفوظ — كما يقول رجاء
النقاش — تعود إلى التزام الفنان بمذهبٍ سياسي «لأنه ليس من أصحاب المذاهب السياسية التي
يكتب أصحابها بوحي منها، وتطبيقًا لها.» وإن كانت الاشتراكية هي الأمل الذي أعلن —
يومًا — أنه يحلم بتحقيقه، لكنني أسمح لنفسي بأن أضغط على تعاطف الفنان مع الحزبية
الوفدية، ومع شخصية سعد زغلول بالذات، ذلك التعاطف الذي ورثه كمال عبد الجواد — أقرب
شخوص الثلاثية إلى نفس الفنان، بل لعلها الفنان ذاته كما قال ذلك مرة — عن شقيقه الأكبر
فهمي. وقد قرعت يدا كمال أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى التي تحدَّت الملك هاتفة: سعد
أو الثورة! فتراجع الملك، واستقال سعد من الوزارة.
إن أول ما يطالعنا في «بين القصرين» أن الفنان عرض مقدمات الثورة وأحداثها ونتائجها،
من
جهة نظر «وفدية» خالصة، أو لعلها تشي بإجلال وتقديس عميقين لسعد زغلول، دون سواه من
زعماء الثورة. بل إن أحاديث شخصيات الرواية، كانت كلها تدور حول اعتقال سعد زغلول وحده،
دون التفاتة إلى بقية من اعتُقلوا من الزعماء. يقول حسن سليم: أمسى الرجل — الخديو —
وعهده في ذمة التاريخ. الحاضر يمكن تلخيصه في كلمتين، وهما أن سعد يأبى أن يقوم في مصر
من يتكلم باسمها غيره، لو كان خير الرجال وأحكمهم. فيعلو صوت كمال عبد الجواد في تأكيد:
الحاضر في كلمة واحدة، أن ليس في مصر مَن تكلم باسمها إلا سعدًا، وإن التفاف الأمة حوله
جدير في النهاية بأن يبلغ بها ما ترجو من الآمال.
ذلك الالتزام الحزبي — إن جاز التعبير — هو ما يطالعنا في عرض التناقضات الحزبية بين
سعد وخصومه، على الرغم من التفوق الملحوظ الذي يخفي به الفنان أفكاره خلف شخوصه
الروائية، حتى لقد واجه الاتهام بأنه لا يعبِّر عن رأي محدد. وهو رأي خاطئ، لأن
الأيديولوجية السياسية لنجيب محفوظ هي الخلفية البانورامية لكل أعماله. من هنا، فقد كان
الأوفق للفنان — مع التسليم بحقِّه في التعاطف مع حزبٍ بذاته، أو التزامه موقفًا معينًا
—
أن يعرض لنا كل وجهات النظر، ليحدد طبيعة الصراع السياسي وأبعاده.
كان سعد وعدلي وثروت وغيرهم من الزعماء، مجرد توقيت زمني لأحداث «الثلاثية»، فلم يكن
لهم أثر مباشر في الرواية جميعًا، لكن الرواية ذات نبض سياسي واضح، فقد لجأ الفنان —
مثلًا — إلى تقريرية مباشرة في عرض بعض التطورات السياسية، ولم تقف طبيعة العمل الفني
دون تضمينه منشورًا سريًّا في ثلاث صفحات، رفعه الوفد إلى السلطان. وما دام الأمر كذلك؛
فإن الفنان مطالب بأن يتتبع أطوار الشخصية النفسية من خلال تشربها للصراعات الاجتماعية
والسياسية، ويضع القارئ أمام المحرك الحقيقي لهذه الصراعات؛ أن يحيط بأبعاد الواقع
الاجتماعي والسياسي، بكل أطرافه المتصارعة.
•••
رفض الإنجليز الموافقة على طلب وزارة حسين رشدي — أثناء وجودها في الحكم — ورأت
الوزارة أن تستقيل — كما يروي إسماعيل صدقي في مذكراته — وظل الوفد يحاول السماح له
بالسفر، فلم يظفر بنتيجة. وتضامن مع الوفد المصري جميع الوزراء السابقين وسائر الرجال
ذوي الكفاية لإدارة البلاد، وامتنعوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة، وبقيت البلاد بلا
حكومة لفترة من الزمان.
٣١٤
وفي رواية عبد العزيز فهمي عن ظروف تشكيل الوفد أن محمد محمود هو الذي أثار فكرة
طلب
الاستقلال، عندما قال لأصدقائه في يوم من أيام سبتمبر ١٩١٨م: إنني أريد أن نتحدث في مصير
مصر، لقد انتهت الحرب، وستحصل الهدنة، ولا بد من النظر في تأليف وفد كي يسافر للمطالبة
بحقوق البلاد.
٣١٥ واتفق أن ذهب سعد زغلول إلى فندق شبرد لتبليغ الأمير عمر طوسون ومحمد سعيد
باشا وغيرهما من الساسة الذين أزمعوا تأليف وفد آخر لمفاوضة الإنجليز بأن كل عضو في
الجمعية التشريعية سيكون عضوًا آخر في الوفد المصري. ولما هَمَّ سعد بالذهاب إلى الفندق
خرج وراءه محمد محمود ليبصره بأمرٍ مهم؛ ذلك أن سعد زغلول كان وزيرًا في وزارة يرأسها
محمد سعيد، وخشي محمد محمود أنه إذا دخل الوفد سينادي برئاسته. وقال محمد محمود لسعد
زغلول: إننا لا نقبل أن يكون سعيد باشا رئيسنا، بل أنت الرئيس للوفد.
٣١٦ ويشير إسماعيل صدقي في مذكراته إلى تلك الحادثة: «كنت وقتئذٍ خارج الحكم،
أشتغل بالاقتصاد العام، فوجدت أن من واجبي نحو وطني في هذه الظروف أن أتقدم لخدمته،
وأسعى مع الساعين للحصول على حقوقه، فبدأت بوضع مذكرة إضافية باللغة الفرنسية بلغت ستين
صفحة، ضمَّنتها مطالب مصر من إنجلترا، وعزَّزتها بالوثائق والمستندات. وكان الوفد المصري
وقتئذٍ في دور التأليف، وحدث أنني كنت في الإسكندرية مع دولة محمد سعيد باشا، فاجتمعنا
بالأمير عمر طوسون، وفكرنا فيما يجب أن نعمل، ورأينا من جهتنا أن نقوم بواجب الجهاد،
فاتصل المرحوم سعد زغلول باشا ما اعتزمناه، فبعث إلينا واجتمعنا به في فندق شبرد
بالقاهرة، وتم الاتفاق على أن نتعاون معًا في الوفد المصري، وأصبحت منذ ذلك الوقت عضوًا
في الوفد.»
٣١٧ ولم يكن اختيار الثلاثة — محمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل — ليرافقوا
سعدًا في منفاه، وكان في وسع السلطات البريطانية اعتقال عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي
عضوَي الوفد الثلاثي في طلب الاستقلال — إلا مراعاة للتقاليد الرسمية في اختيار ذوي
المناصب المهمة. وكان إسماعيل صدقي وزيرًا سابقًا، وحمد الباسل رئيسًا لقبيلة بدوية لها
خطرها، وثلاثتهم يحملون لقب الباشوية. ويمضي عبد العزيز فهمي في روايتيه: «وقد سرنا نحن
مع محمد محمود باشا إلى منزل والده، وأرسلنا إلى علي شعراوي باشا فحضر إلينا، وفي أثناء
وجودنا معًا بسلاملك المنزل استعاد سعد زغلول من محمد محمود باشا ما يريد، فكرر ما سبق
له قوله من ضرورة السعي للحصول على حقوق البلاد بتأليف وفدٍ للعمل لهذه الغاية … فأبى
سعد
زغلول الموافقة على ذلك قائلًا: إن الوقت غير مناسب لأن الإنجليز منتصرون، وعددهم
ومعداتهم كثيرة تملأ البلاد، وهذا وضع لا أمل معه في الحصول على شيء منهم. ثم استطرد
قائلًا: أرى الأولى من ذلك أن تؤلف جمعية يساعد أعضاؤها بعضهم بعضًا. فنزل علينا هذا
الكلام كدُشٍ بارد، فأمسكنا عن الحديث، وانصرف سعد باشا إلى بيته، وانصرفنا نحن، وكان
أكثرنا حنقًا المرحوم علي شعراوي باشا، فإنه لما خرجنا من منزل محمد محمود وقف أمامه
في
الشارع، وقال بلهجة صعيدية عبارة لا محل لذكرها تدل على تغيظه وحنقه. وبعد ذلك انصرف
كلٌّ
منا إلى حاله، وقطعنا النظر عن مسألة تأليف وفد، ولكن لم يمض إلا قليل حتى أرسل لنا
سعد باشا نفسه يدعونا إلى الاجتماع عنده، وفتح لنا بيته واسعًا مرحبًا. وهنا يسأل سائل:
لماذا عاد سعد فدعانا للبحث في تأليف الوفد؟ والجواب عن ذلك أنه عقب اجتماعنا في منزل
محمد محمود باشا، ذهب سعد باشا إلى نادي محمد علي كعادته، فالتقى فيه بحسين رشدي باشا
وعدلي يكن باشا، وروى لهما ما كان من ردِّه علينا، ورفضه موافقتنا على تأليف الوفد، فعقَّب
عليه رشدي باشا وعدلي باشا، وخطَّآه في رأيه، وقالا له: إنك أخطأت، لأننا — نحن والسلطان
— متفقون على السفر لأوروبا للمطالبة بحقوق مصر، ومن المصلحة أن يكون إلى جانبنا فريق
من الأمة يدافع عن حقوقها، نعتمد عليه لأخذ شيء من الإنجليز.» أضاف لطفي السيد: «سمع
سعد باشا هذا الحديث من رشدي باشا وعدلي باشا، فخشي ألا يكون له في الأمر شيء، فأسرع
إلى دعوتنا إلى منزله، وفتحه لنا وسيعًا مملوءًا بالكرم.»
٣١٨ كان رأي سعد زغلول في البداية أن «صفة الاستقلال ضعيفة في المصريين، حتى ولو
كانوا في مراكزهم محاطين بكل أسباب الاستقلال»، وأن «الأمة المصرية لا يمكنها وحدها أن
تحفظ الهيئة النيابية، وأنها لو كانت خالية من الاحتلال الأجنبي، سهل حاكمها أن يستبد
فيها، وأن يشكِّل حكومتها بالشكل الذي يشاء.»
٣١٩ وهنا — أي بعد قيام الثورة — جاء دور سعد زغلول — والكلام لرفعت السعيد —
ليظهر على مسرح السياسة: «فأراد أن يستخدم الوضع الثوري الحاد في البلاد ليفرض على
إنجلترا مطالب الفئات التقدمية من ملَّاك الأرض والزرَّاع والبرجوازية الكبيرة، وهي
الفئات التي كان يمثِّلها، والتي كانت مطالبها تفوق مطالب الإقطاعيين الرجعيين المتحالفين
مع الملكية الفاسدة. لقد تكوَّن الوفد المصري بقصد المساومة مع الاستعمار البريطاني على
استقلال مصر، ولكي يضمن مساندة الشعب الثائر كان على الوفد أن يتبنى المطالب التي تمثِّل
ثورة الشعب، لكن الاتفاق الذي تم بين الوفد المصري بقيادة سعد زغلول، وبين اللورد ملنر
— وهو لا يختلف إلا قليلًا عن التبعية التي قبِلها ائتلاف عدلي-ثروت، يثبت أن الوفد
المصري لم يكن جادًّا في طرح تلك الشعارات، فقد طرح هذه الشعارات فقط ضمانًا للتأييد
الشعبي.»
٣٢٠ بل إن عبد العزيز فهمي يروي أحداث يوم ١٣ نوفمبر بصورة تختلف تمامًا عن
رواية سعد زغلول لها. ورواية عبد العزيز فهمي — لو صحت — فإن احتفال المصريين بيوم
الثالث عشر من نوفمبر كعيدٍ للجهاد كان أشبه بأكذوبة أشعب التي والى ترديدها لنفسه، ثم
كان أول من صدَّقها!
وثمة رواية في مذكرات لطفي السيد نعلم منها أن تلك الزيارة لدار المندوب السامي لم
تكن أول بادرة في طلب الاستقلال، فقد سبق لصاحب المذكرات أن زار دار المندوب السامي،
وحادثه في وجوب استقلال مصر عن الدولة العثمانية واعتراف الإنجليز بهذا الاستقلال.
واعتذر اللورد في أدب «واجتمعنا في بيت سعد زغلول باشا — نحن الثلاثة — لندبِّر الخطة،
وأخذت أنا أنشئ حملة في هذا المعنى تحت عنوان «سياسة المنافع لا سياسة العواطف». وفي
تلك الأثناء، قام الأمير عمر طوسون، وعدد من الكبراء والأعيان، لجمع التبرعات لمساعدة
تركيا في حربها ضد إنجلترا، وطافوا البلاد لهذا الهدف، كما اشتروا مؤنًا وأسلحة،
وأرسلوها للجيش التركي بطرابلس. وكانت الصحف المصرية — عدا «الجريدة» تشجع هذا الاتجاه،
وتنشر الأخبار التي تؤكد وقوف الشعب المصري إلى جانب تركيا «فتداولنا نحن الثلاثة — سعد
وعدلي وأنا — في هذا الموقف العسير، لأن الأمة، وهي بهذه الحال من تأييد تركيا، والإقبال
على مساعدتها، والتبرع لها، لا يمكن أن تريد الانفصال عنها، ولهذا لم ينجح المشروع،
وسقط في الماء.»
٣٢١
وقد أثار سعد زغلول — بعد قيام الثورة — فكرة أن تكون البلاد جمهورية لأنه — على
حد
تعبيره — لا يقبل سلطانًا معيَّنًا بقرارٍ من وزير خارجية إنجلترا، ولكن مصطفى أمين يشير
إلى قصة خلافٍ مبعثه أن سعدًا كان يريد رئيسًا للدولة بالانتخاب، بينما عارض عدد من
أعضاء الوفد في إقالة السلطان. وكان عبد العزيز فهمي يعلن — صراحة — أنه إذا كنا — يعني
رفاق سعد — لا نستطيع أن نتحمله كرئيس وفد، فكيف نحتمله لو أصبح رئيس جمهورية؟! ومن
المهم أن نشير إلى وجهة النظر البريطانية في تطورات الأحداث، ففي البداية — والكلام
لونستون تشرشل وزير مالية بريطانيا في ١٩٢٤م — «ننفي سعد زغلول في مالطة، ونجعل منه
شهيدًا، بينما نعترف بعدالة قضية استقلال مصر، ثم نسمح له بالعودة كبطلٍ قومي، ويدخل
الإسكندرية والقاهرة دخول الظافرين. وبعد ذلك ننفيه مرة أخرى إلى سيشل، ثم نعيده إلى
جبل طارق، ونسمح له بأن يقصد منتجع المياه المعدنية في أوروبا لكي يعود في النهاية إلى
مصر للمرة الثانية، ويدخل للمرة الثانية دخولًا ظافرًا أكثر دويًّا.»
٣٢٢
•••
في محكمة الآخرة (أمام العرش) يُواجَه سعد زغلول بالسؤال من أمحتب: رغم ما يثبت لك
من
زعامة بعد الثورة، فإنك قبِلت العمل في ظل الاحتلال قبل الثورة، ولم تنضم للحزب الوطني؛
ما تفسير ذلك؟ يجيب سعد: «كان الحزب الوطني يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة
إلا بعد الجلاء، مما يعني بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة
الإنجليز عليها. ولا يكفي — في نظري — أن تطالب الناس بسلوكٍ معين، ولكن يجب أن يكون
هذا
السلوك ممكنًا دون تهادن أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام. وقد استطاع مصطفى كامل
مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديو وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه
الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ إن اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا، وإن خالفوها مضطرين
خانوا العهد. فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالي الذي يعز على التطبيق، ويورث
الشعور بالإثم؟ ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب، وقد قبلت الحياة لأمارس من خلالها
ما استطعته من مقاومة، ومن أداء خدمات لوطني كان في أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك
خصومي قبل أصدقائي.»
٣٢٣
ذهب منصور باهي (ميرامار) إلى أن سعد زغلول هو الذي طعن الثورة الحقيقية، وكانت لا
تزال في مهدها. ويشير وسيم خالد في مذكراته إلى أن سعد زغلول عاد من منفاه «ليوقف الكفاح
المسلح، وليبدأ سلسلة لم تنته من الإذعانات، لم ينتج عنها سوى انقسامات
داخلية.»
٣٢٤ كان رأي سعد أن «الثورة عمل شاق على بلد أعزل، مرهق بالأعباء، مشحون بالجند
والسلاح والأرصاد.»
٣٢٥ وفي ٢٦ مايو ١٩١٩م قال سعد زغلول: «إن مهمة الوفد انتهت، وإنه لم يبقَ أمل في
الحصول على الاستقلال التام، وإن كل قول عما عدا ذلك يُعد مغالطة، وإن عملهم الآن ما
هو
إلا تنظيم للهزيمة.»
٣٢٦ وقد لجأ سعد في خطبه — أحيانًا — إلى بعض الكلمات التي تستثير الجماهير، أو
تستميلها، بصرف النظر عن صواب تلك الكلمات أم لا، فهو يصف الأمة بأنها طبقة واحدة وليست
طبقات.
٣٢٧ وهو قول يجافي الواقع تمامًا، فمن الصعب — بكل المقاييس — أن ننسب حمد
الباسل — مثلًا — وأحد الفلاحين الأُجراء إلى طبقة واحدة! وكان رأي طلبة بك مرزوق
(ميرامار) في سعد زغلول، أنه قد «أفلح في إثارة الإحن بين الناس، والتطاول على الملك،
وتملق الجماهير» فرمى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخم كسرطان لا علاج له حتى
قضى علينا.
٣٢٨ ومما يؤخذ على وزارة سعد أنها استبقت آفة المحسوبية في وظائف الحكومة.
ونشرت جريدة «الليبرتيه» حديثًا لسعد زغلول قال فيه: «إني لآسف كل الأسف لأن أقاربي غير
أكفاء، وإلا لكنت عينت منهم في كل مكان، ولكان عندنا حينئذٍ إدارة زغلولية بكل معنى
الكلمة، اسمًا ومعنى ودمًا.»
٣٢٩
•••
فتحي رضوان يحدد أهم الاتهامات التي واجهها سعد زغلول — قبل قيام الثورة — بأنه لم
يشارك بدورٍ ما، ولو ثانوي، في أحداث الثورة العرابية، بعكس ما ردَّده أنصاره بعد ذلك،
وأن
«التهمة» التي أدخلته السجن — وهي الاشتراك في الثورة — قد ثبت بطلانها، فأُفرج عنه
حالًا. أما سعد المحامي فقد كان مشغولًا بتحصيل رزقه، فلم يشارك في العمل السياسي على
أي نحو، وقد عزف سعد عن الاشتراك في أحزاب فترة ما قبل الحرب، برغم اتفاقه الفكري
والسياسي والاجتماعي مع بعضها، وبالتحديد: حزب الأمة.
٣٣٠ وحين دخل سعد الوزارة، كان في مقدمة إنجازاته (!): إصراره على أن تكون
الإنجليزية هي لغة التعليم في المدارس المصرية. اشتراكه في إصدار قانون المطبوعات الذي
أباح تعطيل الصحف إداريًّا، وفرض عليها الرقابة. دفاعه عن مد امتياز قناة السويس في
مقابل رفض حزبي وشعبي غلَّاب. وعندما ترك سعد الوزارة، فإنه ابتعد عن العمل العام تمامًا،
حتى انتخابات الجمعية التشريعية تحدد فيها برنامجه الانتخابي برصف الشوارع وإنارتها،
فلم يتطرق إلى أية قضايا سياسية، وفي مقدمتها — بالطبع — الوجود الاحتلالي في مصر. ثم
استقبل سعد زغلول أول مندوب للحماية البريطانية — عقب إعلان فرض الحماية في ١٨ ديسمبر
١٩١٤م — وصرَّح بأنه يتوسَّم في تقدُّم ذلك المندوب خيرًا.
وفي ١٨ مارس ١٩٠٩م أصدر سعد قانون المطبوعات، ويقضي بحق الحكومة في إيقاف الصحف
إداريًّا، وإحالة قضاياها إلى محاكم الجنايات. وكان يرأس دوائرها، أو يشارك فيها،
إنجليز وفرنسيون وأرمن. وفي رواية للرافعي أنه طُلِب من سعد أن يمنع اعتداء على جريدة
«الأخبار» التي كان يصدرها أمين الرافعي قال في بساطة: أتريدون مني أن أحمي
خصومي؟!
٣٣١ وقد شعر الشيخ نور الدين (سيرة الشيخ نور الدين) بكره شديد نحو سعد زغلول،
عندما قدَّم مشروع مد امتياز قناة السويس لمجلس شورى القوانين،
٣٣٢ وهو الموقف الذي أخذه الحزب الوطني على سعد زغلول. أخذ الحزب الوطني على
سعد زغلول بعض المواقف التي اعتُبرت مهادنة، أو سلبية، ومنها تهوينه من مشروع مد امتياز
قناة السويس، وأنه مجرد عقد إيجار لمدة أخرى. وقف سعد موقفًا مغايرًا لجميع الوزراء في
رفضهم لمد امتياز شركة قناة السويس، ودافع عن فكرة مد الامتياز ٤٠ عامًا لينتهي في
٢٠٠١، وأن «أربعين عامًا ليست شيئًا كبيرًا في تاريخ الأمم.»
٣٣٣ لكن الجمعية العمومية أصرَّت على رفض الفكرة، فيما عدا صوتًا واحدًا تأثر برأي
سعد زغلول. ويروي سعد في مذكراته أنه ذهب إلى اللورد كرومر — بعد أن علم بخبر إعفائه
من
منصبه في القاهرة — يبدي انزعاجه وقلقه، فقال له كرومر: لا تخف مطلقًا فإن خلفي سيؤيدك
بكل ما في وسعه. ويقول سعد في مذكراته: «وعندما أبدى عبارات التشجيع والتطمين، قلت له
إني لا أفكر في شخصي ولكن في بلدي ومنفعتها التي سوف تخسر بعدك خسارة لا
تُعوَّض.»
٣٣٤ وكان لدفاع سعد عن سياسة السلطات البريطانية في إحلال اللغة الإنجليزية محل
العربية في المدارس، وتخليه عن مشروع الجامعة، وامتداح اللورد كرومر له أسوأ الوقع بين
الجماهير المصرية، وإن برر ذلك بالقول إن مركز الأمة من الأمم الأخرى، واختلاطها
بالأجانب، واشتباك المصالح الأجنبية بالمصالح الوطنية؛ كل ذلك أوجب أن يكون تعليم
العلوم باللغة الأجنبية. لقد دحض المصريون مزاعم زغلول بقصور اللغة العربية عن القيام
بحاجة التعليم، ونددوا بممالأته للاحتلال.
٣٣٥ ويُنسَب إلى سعد تعليقه على التدابير التي اتخذتها حكومة حسين رشدي عقب الحرب
الأولى بأنها «لا تصادف إلا كل استحسان عند زملائي لأنها — والحق يقال — من أفيد
المشروعات التي يمكن أن تأتيها حكومة في أحوال كالأحوال التي تتخبط البلاد فيها في هذه
الأيام.»
٣٣٦ ويروي الرافعي في تأريخه لثورة ١٩١٩م أن سعد زغلول كان في مقدمة المحتفين
بالسير هنري مكماهون أول مندوب سامٍ بريطاني عُيِّن في ظل الحماية؛ إذ استقبله على محطة
العاصمة في ٩ يناير ١٩١٥م، وقال عنه: «إن دلائل الخير بادية على وجهه» وتمنى أن يجزل
الله لمصر الخير على يده. كما يروي اللورد لويد في مذكراته أن سعد زغلول طمع — في أثناء
الحرب — أن يُعيَّن مديرًا لمكتب البعثات في باريس، خلفًا ليعقوب أرتين باشا، وأن لورد
كتشنر المندوب السامي البريطاني آنذاك رفض تعيينه في هذا المنصب لأن سعدًا كان يهاجم
كتشنر ولا يحترمه. وكان سعد — قبل الثورة بشهور — يطمح في أن يكون وزيرًا للأوقاف في
وزارة حسين رشدي باشا، ورُشِّح سعد زغلول لهذا المنصب بالفعل، ووافق السلطان على الترشيح،
ولكن جاء الرد من نائب ملك إنجلترا بالرفض «واعترف أنه تضايق لأنه لم يصبح وزيرًا
للأوقاف.»
٣٣٧ ثم رُشِّح سعد وزيرًا للزراعة، ولكن اللورد كتشنر نائب الملك في ذلك الوقت رفض
تعيينه. ويقول الرافعي إن تعيين سعد زغلول وزيرًا للمعارف جاء بتوصية من اللورد كرومر،
ويضيف أنه «لم يظهر في الحياة السياسية والوطنية إلا بفضل مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم
خذلهما.»
٣٣٨ ويقول تشارلز آدمز: «كان سعد في الجانب الأكبر من حياته العامة صديقًا
للاحتلال، صادق النية، مخلص الرأي … وعاون البريطانيين في خطتهم التي أرادوا بها إصلاح
الإدارة واختياره لوزراء المعارف في الوقت الذي كانت فيه المدارس منبع التهييج
الوطني.»
٣٣٩ ويروي ألكسندر في كتابه «الحقيقة عن مصر» أن «سعد زغلول تقلد في سنة ١٩٠٦م
نظارة المعارف العمومية، واختير لهذا المنصب ليقضي على روح الثورة التي نشرها مصطفى
كامل بتهييجه المتواصل بين تلاميذ المدارس، وكان قد عظم تأثيرها في نفوس الطلاب،
وانتشرت بينهم انتشارًا سريعًا، وأصبح الإخلاد إلى النظام في المدارس من الأمور
المستعصية، وبذل سعد زغلول جهدًا عظيمًا في هذا السبيل.» وفي ١٠ يناير ١٩٠٩م تلقى سعد
زغلول خِطابًا وُقِّع عليه باسم «جمعية الإرهاب» ينذره فيه كاتبه بسوء العاقبة إذا استمر
على تعقب الطلبة ومطاردتهم. ويضيف كاتب الخِطاب قائلًا لسعد «قد خنت أمتك، ولا بد من
قتلك ولو بعد حين»!
٣٤٠ ويروي عبد العزيز فهمي في مذكراته أنه حينما عرض على محمود باشا فكرة سفر
وفد مصري إلى الخارج للدفاع عن استقلال مصر، سخف سعد الفكرة، ودعا إلى تأليف جمعية
تعاونية للنهوض بمصالح أعضائها ورعايتها. بل إن العقاد — الذي وضع عن سعد زغلول كتابًا
كبيرًا — أشار إلى تكهن سعد — دون بقية زملائه الذين نُفوا معه إلى مالطة في ٩ مارس ١٩١٩م
— بأن نتائج النفي لن تسفر عن عمليات احتجاج، فضلًا عن نشوب ثورة.
٣٤١ ويلاحظ فتحي رضوان أن العامين اللذين قضاهما سعد في الخارج «هما فترة الثورة
الخصبة التي كانت فيها البلاد وحدة متماسكة، اختفت بفضلها المنازعات، وتلاقت المعسكرات،
وضمت الصفوف، وتعانق الصليب مع الهلال، واحتشدت الأمة تحت لواء واحد، وهو لواء
الوطنية.»
٣٤٢
ورأيي أنه يمكننا إزالة العديد من علامات الاستفهام في حياة سعد زغلول لو أننا قسَّمنا
حياته إلى مرحلتين: مرحلة الاعتدال، وهي تمتد إلى ما قبل قيام الثورة — وكانت الثورة
مفاجأة له — ثم مرحلة الإقناع بالثورة منذ نشوبها إلى وفاته. وكما يقول اللورد اللنبي
فإن: «الشيء الوحيد الذي لن يستطيع سعد زغلول عمله في ذلك الحين، هو أن يفقد ذلك النوع
من الشهرة الذي كان في السنوات الأخيرة نسمة حياته، والذي لم يعُد في إمكانه أن يحتفظ
به
إلا بالتطرف.»
٣٤٣
•••
يقول الراوي في الأيام أن عبد العزيز فهمي كان ينكر كل ما يصدر عن سعد زغلول من قول
أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر عن سعد.
٣٤٤ وبالإضافة إلى أنه من الصعب أن نتقبَّل كلمات عبد العزيز فهمي — والمنتقدين
لسعد بعامة — على إطلاقها، ذلك لأن الرجل — على حد تعبير طه حسين — كان يسخط على سعد
بقلبه وعقله ولسانه، وينكر كل ما كان يصدر عنه من قول أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر
عن سعد.
٣٤٥ بالإضافة إلى ذلك؛ فإن التقليل من قيمة سعد زغلول كزعيم وطني، أو التهوين
من شأنه، هدف يجدر بنا — في كل الأحوال — تجنُّبه،
٣٤٦ فما من شك أن سعد زغلول كان أخطر الزعامات المصرية في النصف الأول من القرن
العشرين، وله على الأمة المصرية — كما يقول المنفلوطي — ثلاث أيادٍ لا تستطيع أن تنساها
مدى الدهر: أنه أسس الوحدة المصرية التي عجزت عنها القرون الثلاثة عشر السابقة … أنه
نقل
الفكرة الوطنية من دور الأماني والأحلام إلى دور التجسيد والأم … أنه نشر الدعوة
الوطنية في أنحاء العالم كله حتى وُجدَت فيه مسألة تُسمى «المسألة المصرية».
٣٤٧ وكان رأي حسين رشدي في سعد زغلول أنه «لم يولد مجازفًا، ولكن حب الوطن جعل
من هذا الرجل الحريص بفطرته، ليثًا كاسرًا، فصار في أتم استعداد لتضحية ماله وحريته،
بل
لتضحية حياته في سبيل وطنه.»
٣٤٨
ولعله يجب تكرار القول إن التهوين من شأن سعد زغلول ليس هدف هذه الكلمات، لكنها
محاولة لعرض كل الاتجاهات والآراء حتى تكتمل أبعاد الصورة تمامًا.
•••
اللافت أن الجماهير العادية تحدثت — غداة لقاء الوفد المصري والمعتمد البريطاني —
عن
سعد زغلول الذي طالب للأمة بالاستقلال، واكتفت الأحاديث بالإشارة إلى رفيقيه، فهو إذن
قد نال زعامة الجماهير المصرية — بإرادتها — من قبل أن تنشب أحداث الثورة. وكما يقول
مكرم عبيد، فقد تقدم إلى ميدان الجهاد الوطني ثلاثة رجال معروفون: سعد زغلول وعبد
العزيز فهمي وعلي شعراوي. وكان كلٌّ من الثلاثة محل عطف الجمهور على التساوي، بل إن مجرى
الحديث دفع شعراوي إلى التفوُّه بألفاظ بليغة، تناقلها الناس وأعجبوا بها. تساوت إذن
شهرة
الثلاثة، وتساوى الاحتمال في أن واحدًا منهم سيتولى قيادة الحركة الوطنية، فما السبب
في
أن سعدًا تولى زعامة الأمة، وأصبحت الحركة الوطنية مقترنة باسمه؟
٣٤٩ لعله من الصعب تجاهل «مبلغ ثقافة سعد زغلول العامة واستنارته وفكره الديني
الإصلاحي، ورؤيته، وخبرته السياسية. كل ذلك أهَّله لتولي رئاسة الوفد من غير أن ينازعه
عليها شخص آخر.»
٣٥٠ وكان سعد — كما يقول العقاد — هو الأساس الأول الذي قام عليه الوفد، ولوحظ
من البداية إلى النهاية دوره في اختيار أعضائه، وأنه كان يعمل بالوفد وبغير الوفد في
توجيه الثورة إلى وجهتها من حيث الرأي، ومن حيث العمل والتنفيذ. فلم يكن الوفد بهيئته
الكاملة يعرف شيئًا عن الجهاز السري، أو يترك في تدبيراته، أو يحيط علمًا برسائله
ومصطلحات الرموز بين أعضائه.
٣٥١ وقد لخص محمد كامل سليم ما سمَّاه رسالة سعد زغلول في أثناء قيادته للثورة
بأنها ذات شعبتين: الأولى ذات طابع سياسي تستهدف إلغاء الحماية البريطانية، الاعتراف
لمصر بالاستقلال التام، إنهاء الاحتلال وتحقيق الجلاء، إقامة نظام ديمقراطي برلماني
يضمن حرية الفرد، ويحدد سلطة الحاكم. أما الشعبة الثانية فهي ذات طابع اجتماعي تستهدف
توحيد صفوف الأمة، وتأكيد الاتحاد بين المسلمين والأقباط، والسعي لتحرير المرأة في ضوء
دعوة قاسم أمين.
٣٥٢
والثابت تاريخيًّا أن سعد زغلول قد فُصِل من وظيفته في الثاني من أكتوبر ١٨٨٢ عقابًا
له
على اشتراكه في الثورة العرابية. وفي أكتوبر من العام التالي قبض عليه بتهمة الاشتراك
في جمعية سرية، وظل في السجن مائة يوم وخمسة أيام، ومن ثَم فَقَدَ — لفترة طويلة — أهليته
للوظائف الحكومية. ومع أن الجمعية التشريعية عاشت خمسة أشهر فقط، فقد كانت تلك المدة
القصيرة كافية لأن تأخذ بيد سعد من زعامة المعارضة في المجلس إلى زعامة الحركة الوطنية
في الأمة بأسرها، نتيجة لمواقفه في وجه الحكومة والسلطة العسكرية.
٣٥٣ وكان من أهم الإنجازات التي حققها سعد في فترة وزارته — في تقدير رفعت
السعيد — نقل التعليم من الإنجليزية إلى العربية، وإنشاء مدرسة للقضاء الشرعي.
٣٥٤ وكان سعد أول وزير مصري يدلي بتصريحات للصحف، وأول وزير مصري خرج — كما
يقول العقاد — من ديوان الوزارة للطواف في الأقاليم، وأول وزير أبطل التحية العسكرية
التي كانت تُؤدَّى للوزراء في مرورهم بالدواوين، وأول وزير جعل يوم الهجرة عيدًا تأخذ
فيه
المدارس إجازة رسمية. إلى جانب ذلك، فقد كان سعد في مقدمة القيادات السياسية التي دعت
إلى وجوب إنهاء الاحتلال، فقد ألقى خِطابًا في جمعية الاقتصاد السياسي — عقب انتهاء
الحرب — أعلن فيه — لأول مرة — أن «الحماية المعلَنة على مصر باطلة شرعًا، وأنها لم تكن
أكثر من ضرورة حربية زالت بزوال الحرب.»
٣٥٥ وقد وصفه السير شيتهام — قبل الثورة — بأنه «أشد خطرًا من أولئك المحتجزين
في مالطة منذ بداية الحرب.»
٣٥٦ كما وصفه المارشال ويفل بأنه «بطل الاستقلال
ومعبود الشعب، وعناده ينمو مع الهتاف باسمه حتى ليجعله ذلك أقل إصغاء لداعي
العقل.»
٣٥٧ وبعد وفاة سعد زغلول كتبت «التايمز» اللندنية: «لما خطب اللورد كرومر خطبة
الوداع في القاهرة في ١٩٠٧م قال إن زغلول باشا رجل نزيه مقتدر شجاع، وإن مجال التقدم
أيامه متسع، وقد تقدم زغلول باشا، ولكن في غير الجهة التي توقعها اللورد
كرومر.»
٣٥٨
وقد جاء في «الميثاق الوطني» أن سعد زغلول «ركب قمة الموجة الثورية الجديدة، ليقود
النضال العنيد الذي وُجهت إليه الضربات المتلاحقة أكثر من مائة عام متواصلة دون أن
يستسلم أو يهزم.» ويعترف الرافعي — صراحة — أن أقطاب الحزب الوطني لم ينجحوا في
الانتخابات لأن الرأي العام كان في غالبيته متجهًا إلى الوفد.»
٣٥٩ وقد وصفت وثائق الخارجية البريطانية — منذ البداية — أنصار سعد زغلول بأنهم
حزب المتطرفين. أما حزب المعتدلين فكان يتزعمه الأمير عمر طوسون ورئيس الوزراء السابق
محمد سعيد باشا الذي كان يحاول — كما تقول الوثائق — أن «يفعل ما في وسعه للحيلولة دون
انضمام المعتدلين إلى المتطرفين.» والواقع أن سعد زغلول كان يرأس — بالإضافة إلى رئاسته
للوفد — جناحًا أكثر تقدمية وثورية من الجناح الذي كانت تمثِّله الأرستقراطية الزراعية،
وربط نفسه بالرأسمالية التجارية والصناعية والمثقفين، وإن كان قد ظل على ولائه للمعسكر
البرجوازي. وفي المقابل، فقد كان خروج الأرستقراطية الزراعية من قيادة الوفد في مقدمة
العوامل التي ربطت به الطبقات الشعبية. وبتعبير آخر، كان تعبيرًا تلقائيًّا عن خصومتها
مع الوفد، وهي — في الأصل — خصم للطبقات الأدنى، ومن ثَم فقد وجدت الطبقات الشعبية في
الوفد حليفًا طبيعيًّا، على الرغم من أنه أصبح ممثلًا للرأسمالية المصرية — أو
البرجوازية الصغيرة في أقل تقدير — بأكثر من أن يكون ممثلًا للطبقات العاملة.
ثم كان انشقاق الوفد بعد تصريح ٢٨ فبراير، وتكوين حزب الأحرار الدستوريين من بقايا
حزب الأمة تأكيدًا لذلك الصراع بين طبقة السراة والطبقات الشعبية. فالوفد هو حزب الشعب،
والأحرار الدستوريون هم بقايا حزب الأمة، أو ممثلو كبار الملاك. وقد حدد أحمد المراكيبي
(حديث الصباح والمساء) موقف طبقة السراة من الأحداث بقوله: «أصحاب المصالح لا يحبون
الثورات.»
٣٦٠ ويقول أستاذنا الصحفي الكبير محمد نجيب: «كان أخشى ما يخشاه عدلي ورشدي
وثروت، ومن إليهم من الساسة المعتدلين، أن تمتد يد العبث إلى الدستور ويصبح قصاصة ورق.
وكانوا يخشون أن تكون هذه اليد من جانب القصر لأنهم يعلمون ما تنطوي عليه نفس الملك
فؤاد من نزعة غير دستورية. ومن أجل ذلك عملوا على تأليف حزب الأحرار الدستوريين ليكون
حصنًا من حصون الدستور، وسدًّا منيعًا يحُول دون أي معتد، ودون المساس به، أو الاعتداء
عليه.»
٣٦١ ولكن الأحرار الدستوريين — رغم
تلك الشعارات المبهرة — كانوا أول من انقلب على الدستور. ولعله من هنا كان الرفض التام
القائم على سوء الظن، والذي وصل — أحيانًا — إلى حد الاتهام بالخيانة، هو رد فعل تأليف
الحزب الجديد بين طوائف الشعب، ومما زاد في سوء استقبال الناس للحزب الجديد أن تأليفه
تم قبل أن يبدأ سعد زغلول ورفاقه رحلة العودة إلى مصر.
•••
تذهب بعض الاجتهادات إلى أن الباعث للحملة التي شنَّها سعد على عدلي، تخوُّف سعد
من أن
يبرم عدلي اتفاقًا مع إنجلترا يقيِّد خطوات مصر، ويجعل استقلالها صوريًّا. وقد وصف كتاب
«ثورة ١٩١٩» عدلي يكن بأنه «رجل خبيث في أخلاقه وتصرفاته، ولا يفهم الوطنية كما نفهمها،
وهو عملي واقعي، يرى الممكن فيسعى إليه، والصعب فينصرف عنه. لا يفهم المُثُل العليا،
ولا
يعرف التضحية كيف تكون، وهو أعجز عن أن يؤدي للحركة الوطنية خدمة قلمية أو لسانية،
وبُعده عنا خير من قربه.»
٣٦٢ ويصارح سعد سكرتيره محمد كامل سليم بأنه لا يثق في عدلي مطلقًا، فهو مثل
توفيق نسيم وغيره من خدام السلطان وأعوان الإنجليز، «ولعل هؤلاء خير من عدلي، لأنهم
معروفون في الأمة بعداوتهم لها والعمل على كيدها، والأمة لهم متربصة يقِظة. وأما عدلي
فيُعتبَر صديقًا للأمة، ولا يكون عليه من العيون الساهرة والنفوس الساخطة المراقبة كالتي
تكون لغيره.»
٣٦٣ وكان رأي محمد كامل سليم أن «عدلي مجرد سمسار في قضية مصر،
٣٦٤ لم يكن له رسالة في الحياة إلا أن يصل إلى كرسي الوزارة، ثم يصبح رئيسًا
للوزراء، وهو تحقق له، أما سعد فكان وكيل الأمة، هو صاحب قضية مصر، يحيا ويموت من
أجلها، ويحتمل الأهوال في سبيل تحقيقها.» وكان عدلي يكن عضوًا بارزًا في وزارة الحماية
عام ١٩١٤م، وكان أول من «ثغر في جنح الظلام — على حد تعبير المنفلوطي — ذلك السد المتين
الذي أقامته الأمة المصرية في وجه لجنة ملنر، وكان أول رئيس وزارة أقدمت على مفاوضة
الإنجليز برغم رفض الأغلبية الكاسحة للشعب المصري.»
٣٦٥
أما عبد العزيز فهمي فقد كان رأيه أن عدلي خير مصري يمكن أن يتولى الوزارة في هذه
المرحلة التي تجتازها البلاد وقضية الاستقلال، وذلك للاعتبارات التالية:
-
أن عدلي رجل شريف ونظيف، ولن يحكم البلاد بالظلم والإعنات والجبروت، ولن يخضع
للإنجليز في سياستهم القائمة على السلب، وإذلال أهل البلاد، وشر الرعب والإرهاب في كل
مكان.
-
أن عدلي — بشخصيته وأعماله وتعاونه مع الوفد هذه المدة الطويلة — قد أصبح موضع
احترام وثقة من المصريين والإنجليز على السواء.
-
أن عدلي أكثر فهمًا لقضية البلاد من كثيرين، بل من جميع المصريين الذين يصلحون
لرياسة الوزارة في الوقت الحاضر، ولا أعرف أحدًا في مصر الآن مثله أو يدانيه في حسن
السياسة وحسن الأسلوب، وفهم ظروف المفاوضات كلها.
-
أن عدلي لن يقبل مشروع ملنر الآن بعد أن علِم عِلم اليقين أن الوفد بالإجماع لا
يقبله إلا بالتحقيقات، ومحال على مثل عدلي باشا أن يتحدى الوفد ورئيس الوفد والأمة
المصرية، فيقبل ما دون الاستقلال كما يفعل غيره لو كان رئيسًا للوزارة في الظروف
الحاضرة.
-
أن عدلي أقدر من غيره على إغراء الإنجليز على التساهل، والإنجليز أميل إلى التساهل
معه، لإعجابهم به، وتقديرهم له.
-
أن ما بيننا وبين عدلي من صداقات وصلات كفيلٌ باستمرار التعاون بيننا
وبينه.
٣٦٦
يصف محمود حسين قيادات الوفد بأنها «مجموعة صغيرة من الوجهاء البرجوازيين المحافظين
الذين كانوا يطالبون، بوصفهم وفد الأمة، بنظامٍ مستقل لمصر.»
٣٦٧ وحين عمدت السلطات البريطانية إلى نفي القيادات الرئيسية للوفد — وفي
مقدمتهم سعد زغلول — كانت قيادة الوفد — كما ذكر اللورد ملنر في تقريره — مكونة من
أعضاء أكثرهم ليسوا من الغلاة المتطرفين، بل هم من حزب الأمة القديم الذي كان يسعى إلى
التقدم الدستوري تدريجيًّا. لكن حركة الجماهير استقطبت عددًا من تلك القيادات، وفي
مقدمتهم — بالطبع — زعيم الثورة سعد زغلول، تكوَّنت حولهم حركة إجماع وطني معادية
لبريطانيا، امتدت من أقصى الشمال المصري إلى أقصى الجنوب، «ومن الجماهير المعدمة إلى
الملَّاك المصريين الكبار، باستثناء الأرستقراطية ذات الأصل التركي.»
٣٦٨
ولعلنا نلاحظ أن صورة الصراع الطبقي في تلك الفترة لم تخرج عن الصورة نفسها في أوائل
القرن، فقد كان حزب الوفد الذي يرأسه سعد زغلول يتمتع بنفس التأييد الشعبي الذي كان
يتمتع به الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، بينما كان حزب الأحرار الدستوريين منغلقًا
على أعضائه وعلى أقلية قليلة من المثقفين بنفس الصورة التي كان يحيا بها حزب الأمة. بل
إن تناقض المصلحة يتبدَّى في نظرة كل من الوفد والأحرار الدستوريين إلى الدستور. فالوفد
يضغط على وجوب أن يكون الدستور معبِّرًا عن الإرادة الشعبية، وأن يكون نابعًا من سلطة
تلك
الإرادة دون اشتراط المال أو الثقافة أو الطبقية سبيلًا لذلك، بينما حرص الأحرار
الدستوريون على التأكيد بأن الاشتراك في الانتخابات وظيفة وليس حقًّا، ومن ثَم فلا بد
من
أن يوضع في الاعتبار المركز الاجتماعي وتمثيل المصالح. وكانت نظرة الوفد تصدر عن إيمان
بأن كل سلطة للشعب سترتد إليه، بينما «الأحرار الدستوريون» يعاني ذلك الحاجز الذي كان
يفصل بينه وبين الجماهير، سواء كان طبقيًّا أم ذهنيًّا. لذلك أعلن قادة حزب الأحرار
الدستوريين ترحيبهم بتصريح ٢٨ فبراير، واعتبروه خطوة كبرى في سبيل إعداد الشعب
للاستقلال وتدرُّجه في طريق النضج الدستوري، بينما كان هدف الوفد — المعلَن في الأقل
— هو
الاستقلال التام، والقضاء على كل أثرٍ أو مظهرٍ للنفوذ البريطاني.
والحق أن سعد زغلول حرص — منذ اليوم الأول لتوليه الوزارة — على تثبيت ما ورد في
الدستور من أن «الأمة مصدر السلطات». حتى أعضاء وزارته كان غالبيتهم من أبناء الشعب
العاديين، ومن أبناء الفلاحين بالذات، مثل مرقص حنا ونجيب الغرابلي ومصطفى النحاس وفتح
الله بركات، فضلًا عن سعد زغلول، ذلك الفلاح من أعماق الريف. واكتسب الحكم في مصر —
لأول مرة منذ بداية عهد الاحتلال — المظهر البرلماني، وتمتعت الصحافة بحريتها، فكان
فيها صحف معارضة وصحف مؤيدة. ويتحدث الضاحك الباكي عن استعداد زغلول الطيب لممارسة
الديمقراطية إبان الفترة القصيرة لتوليه رئاسة الوزارة. تلك الديمقراطية التي «أثارت
العجب، وأحدثت في تقاليد البلد الوزارية حدثًا جديدًا، محاولة جريئة تعمَّد فيها سعد
زغلول أن يهشِّم التقاليد القديمة فنجح، وأن يذيق الشعب طعم الحكم فنجح، وأن يبرهن على
أن
الأمة مصدر السلطات فنجح.»
٣٦٩ ويعدد سعد زغلول إنجازات الوفد — في محكمة الآخرة — بقوله: «بالرغم من أن
الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عامًا، استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية
بالسلطة. وبالرغم مما تعرضت له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتي، فقد
وفَّقني الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة، منها — على سبيل المثال — إلغاء الامتيازات
الأجنبية، إلغاء صندوق الدَّين، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال
الجامعة، قانون التوظف، منع الأجانب من تملُّك الأراضي الزراعية، التعويض عن إصابات العمل
والتأمين الإجباري ضدها، الاعتراف بنقابات العمل، فرض استعمال اللغة العربية في الشركات
الأجنبية، الضمان الاجتماعي، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائي والثانوي
والمتوسط.»
٣٧٠
•••
كان سعد زغلول في تقدير البعض «مهرجًا كبيرًا»، بينما كان — في يقين البعض الآخر
— «زعيم
الأمة وأملها.»
٣٧١ ويقول إبنوم (وراء العرش) لسعد زغلول في محكمة أوزوريس: «لقد قمت أنا بأول
ثورة شعبية في نهاية الدولة القديمة، وقمت أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف
السنين، فأنت أخي وخليفتي وحبيبي.»
٣٧٢ وحين عاد سعد زغلول من منفاه، وصفت الصحف البريطانية استقبال الشعب له بأنه
«أشبه باستقبال روما ليوليوس قيصر بعد عودته منتصرًا من حرب المغول.» وقد بلغ نفوذ
الوفد، وزعيمه بالتالي، أنه عندما يقدم الدكتور إبراهيم عقل (المرايا) زوجته إلى الراوي
بقوله: والدتها — حماتي — عضو في اللجنة الوفدية للسيدات، فيرمق الراوي السيدة بامتنان
«إكرامًا لوالدتها.»
٣٧٣ ووافق عمدة إحدى القرى (الضاحك الباكي) — باسم أبناء قريته — على تزكية
شكري المحامي في انتخابات البرلمان الأول، ولكن العمدة اشترط «حاجة بسيطة خالص،
بيقولوا: بس يجيب لنا كارت من سعد باشا زغلول.»
٣٧٤ وبلغ من حب المصريين لسعد زغلول أن أعضاء الجمعية الخيرية رأوا صورته داخل
إحدى الغرف، فثارت حماستهم، ووقفوا للصورة وقفة الإجلال، وهتفوا بصوتٍ واحد: فليحيا سعد
باشا زغلول! فليحيا الاستقلال التام! وبيعت الصورة في مزادٍ للجمعية لقاء ٧٢٠ جنيهًا
مصريًّا، وهو مبلغ باهظ للغاية بمقاييس تلك الأيام.
٣٧٥ وكان الشيخ حسونة (الأرض) يتذكر أيامًا كان فيها سعد زغلول محبوسًا، وعدلي
قاعدًا في سرايته يسهر مع الإنجليز.
٣٧٦ ويتساءل كمال عبد الجواد (السكرية) فيما يشبه تقرير الحقيقة البديهية «كل
وطني فهو وفدي … أليس كذلك؟»
٣٧٧ أما الشيخ هجار المنياوي (المرايا) فكان يفتح باب الحديث الوطني في أية
مناسبة، ويتحدث عن سعد زغلول كأنه ولي من أولياء الله أو صاحب معجزات، معتبرًا زعامته
«رسالة سماوية ومعجزة تاريخية.»
٣٧٨ وقال عالم أزهري (الأرض): الشرك بالله، ولا الشرك بسعد. وفي القرى كان
الصغار يتصايحون على أنغام راقصة: الله حي، سعد جاي … نخ يا عدلي، اركب يا سعد.
٣٧٩ ورسم البعض وشمًا على ذراعه لوجه سعد زغلول.
٣٨٠ وتناقل الناس حكايات بأن الأجنَّة في البطون تهتف لسعد، وأن اسم سعد وُجِد
منقوشًا على بطيخة، وعلى أورق الشجر.
٣٨١ وأكد أهالي سرس الليان أنهم رأوا اسم سعد زغلول منقوشًا على أوراق
القطن.
٣٨٢ وقيل إن اسم سعد شُوهد منقوشًا على البيض بعد خروجه من الدجاج، وقيل إن
أعداءه كانوا يتجنَّبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديًا للشعاع الحاد الذي ينطلق
منهما.
٣٨٣ وثمة فرقة صوفية أطلقت على نفسها اسم «الطريقة السعدية
الزغلولية».
٣٨٤ ومرَّ قطار سعد — يومًا — بجوار جنازة، فأوقف أهل الميت النعش، واستبدلوا
بالبكاء على فقيدهم زغاريد وهتافات بحياة سعد زغلول.
٣٨٥ وقد استيقظ الراوي (الأبواب المغلقة) في صباح يوم من نوفمبر عام ١٩٢٤م، وجد
البلدة هائجة، والشوارع ممتلئة بالمظاهرات؛ قيل إن سعد باشا ضُرِب بالرصاص.
٣٨٦ من هنا جاء قول أحمد باشا شكري (قصر على النيل)، أحد خصوم سعد السياسيين: «الواقع أن
العيب الأساسي في سعد أنه استغل الديكتاتورية الشعبية، وهي ديكتاتورية تعطي
لصاحبها سلطات واسعة، وتجعله يعمل كأنما هو وحده صاحب البلد.»
٣٨٧
ولعل ذروة الحب الجارف الذي كانت توليه فئات الشعب لسعد زغلول تتبدَّى في سحابة الأسى
العميق التي خيَّمت على البلاد كلها غداة وفاته في ٢٣ أغسطس ١٩٢٧م. وثب الراوي من فراشه
مندفعًا نحو الباب المغلق، تناهت إليه في مكانه أصوات بكاء، فخرج يتبيَّن ما حدث. رأى
أباه جالسًا، وأمه مستندة إلى الكونصول، والخادمة واقفة عند الباب، والجميع يبكون، وسأل
في قلق: ماذا حدث؟ همست الأم بنبرة مختنقة: سعد زغلول، البقية في حياتك!
٣٨٨ وكان ياسين وكمال في بيت بين القصرين حين ترامى إلى أسماعهما صوت يصيح
بقوة: ملحق المقطم! فتمتم كمال متسائلًا: ملحق المقطم؟! فقال ياسين: أوه … إني أعرف عما
ينادي، فقد سمعت الناس يتناقلونه وأنا قادم إليك، سعد زغلول مات.
هتف كمال: سعد؟!
– مات مستوفيًا حظه من العمر والعظمة، فماذا تريد له أكثر من ذلك؟ ليرحمه الله!
«فتبعه صامتًا ولما يفُق من ذهوله. لو في غير هذا الظرف الحزين ما درى كيف يتحمل النبأ،
لكن المصائب إذا تلاقت تحدى بعضها بعضًا. هكذا ماتت جدته في أعقاب مصرع فهمي فلم تجد
لها باكيًا. إذن مات سعد؛ النفي والثورة والحرية والدستور مات صاحبها، كيف لا يحزن وخير
ما في روحه من وحيه وتربيته؟!»
٣٨٩ وفي رواية «في قافلة الزمان» كان سليم يصحح تجارب المجلة، عندما شاع نبأ
وفاة سعد زغلول، فترك ما كان يفعله، وتناول ورقة وقلمًا، وأخذ يكتب رثاء للزعيم الراحل
«فهو رئيس التحرير، وحق عليه أن يكتب ذلك الرثاء من ذوب القلوب.»
٣٩٠ وفي المحلة سارت جنازة رمزية «كل البلد خرج في جنازة.»
٣٩١ وظلت المدارس تهتف: إلى جنة الخلد يا سعد. وفي مدرسة النسيج خطب المدير،
وسار الندابون في الحواري والأزقة ينشرون النبأ، وينعون سعد زغلول.
٣٩٢ مع ذلك؛ فإن الفنان يرى أن موت سعد زغلول بدا للجميع ما هو إلا مقدمة
للاستقلال التام.
٣٩٣
•••
إذا كان سعد زغلول قد أصبح هو الزعيم المقدس لفهمي عبد الجواد (بين القصرين) ثم من
بعده شقيقه الأصغر كمال الذي كان ولاؤه للرجل قائمًا على دعامتَين: حبه لذكرى الشقيق
الراحل، وإيمان بالشيخ العجوز نفسه، فذلك لأن عواطفه المكبوتة وحبه وحماسه وطموحه
وتطلعه إلى المثل الأعلى وأحلامه، كانت تائهة مبعثرة حتى هتف طلبة الحقوق غداة تمثال
الزعماء: يحيا سعد … فانجذبت كل تلك المشاعر والأماني والأحلام إلى الاسم الحبيب طائرة
إليه «كما ينجذب الحمام السابح في الفضاء إلى صفير صاحبه.»
٣٩٤ ولعله من المهم أن نشير إلى خطبة سعد زغلول في ١٩ سبتمبر ١٩٢٣م، التي قال
فيها: «لست خالق هذه النهضة كما قال بعض خطبائكم، لا أقول ذلك ولا أدعيه، بل لا أتصوره،
إنما نهضتكم قديمة تبتدئ من عهد مؤسس الأسرة المالكة محمد علي، وللحركة العرابية فضل
عظيم فيها، وكذلك للسيد جمال الدين الأفغاني وأتباعه وتلاميذه أثرٌ كبير، وللمرحوم مصطفى
كامل باشا فضلٌ عزيز فيها أيضًا، وكذلك للمرحوم محمد فريد بك.» ولعله من المهم أيضًا
أن
نشير أيضًا إلى قول سعد زغلول وهو على فراش الموت «إن البلد هو الذي قادني.»
٣٩٥
وثمة وصفٌ لشخصية سعد زغلول في كتاب المنفلوطي «القضية المصرية»: «إن الرجل لم يكن
جبانًا ولا رعديدًا، ولا من المُغرَقين في حب حياتهم أو الضَّانين بها على مواقف المجد
والشرف، ولو شاء أن يشعل نار الثورة في كل مكان، وأن يقود الرجال إلى مواطن الموت لفعل،
ولكنه لم يفعل، ولا فكر في شيء من ذلك، لأنه من فريق الدعاة لا من فريق الثوار (!)
ولأنه رجل عاقل حكيم، لا يخطو الخطوة الواحدة حتى يقدِّر لها موضعها، وكانت لهجته الدائمة
التي لا تفارقه في جميع مواقفه ومشاهده «الدعوة إلى السكون والهدوء، والعمل في دائرة
القانون والنظام، والمطالبة بالحقوق الوطنية المشروعة السائغة»، أي إنه كان رجل حجة
وبرهان، لا رجل نِزال وطعان، فلماذا لم تعرفوا له هذا الشعور الطيب الشريف الذي كانت
تشتمل عليه سريرة نفسه، ولِمَ لم تحترموا فيه تلك العاطفة الطاهرة الكريمة التي كانت
تتدفق من بين جنبَيه شرفًا ونبلًا، وتسيل رحمة وإحسانًا؟»
٣٩٦ لقد أدرك سعد — بعكس معظم رفاقه من القيادات السياسية — حقيقة مشاعر
الجماهير ومطالبها، فلجأ إلى الراديكالية بديلًا للاعتدال، والعنف والتشدد في طلب
الاستقلال بدلًا من الملاينة والرجاء، وعُني بالتعبير عن طموحات الشعب، فأولاه الشعب
ثقتَه وحبَّه، وحمله إلى موقع الزعامة، وبايعته بهتاف «يحيا سعد»، مرادفًا للهتاف «تحيا
مصر».
٣٩٧
سعد زغلول إصلاحي قاد ثورة، لكن الجماهير التي اختارته لها، حوَّلته إلى ثائر حقيقي.
كان تلميذًا للإمام محمد عبده الذي كان يميل إلى الإصلاح بعكس الثوري الذي يرفض النظام
القائم في عمومه، يأخذ موقف الرفض ضد السلطة القائمة، ويسعى إلى تغيير كل شيء. أما
الإصلاحي فهو ينتسب إلى المؤسسة القائمة، ويسعى إلى التغيير والتطوير من داخلها. وكما
يقول محمود كامل، فقد أثبتت التجربة في مصر أن الشعب المصري هو الذي «اكتشف» سعد زغلول،
فانتخبه وكيلًا للجمعية التشريعية في وقتٍ لم يكن يملك فيه أن ينتخبه «رئيسًا»، والشعب
المصري — بقوته الجارفة — هو الذي جعل سعد زغلول زعيمًا وطنيًّا أثناء الثورة، فحمله
على أن يسخِّر مواهبه لمهاجمة أوضاع يشهد ماضيه بأنه كان يقرُّها في وقتٍ لم يكن الشعب
قد
جرفه فيه إلى اتجاهه الجديد.
٣٩٨ وفي بدايات تكوين الوفد دخل سعد مع بعض رفاقه دار الأوبرا لحضور حفل خيري،
واستقبله الجمهور بالهتاف والتصفيق بصورة دهش منها سعد نفسه، وقال لمن كان معه في
المقصورة: بارك الله في هذه الأمة … لا بد من قارعة!
ويقول إسماعيل صدقي: «ومن هذه الليلة بدأت الثورة الوطنية.»
٣٩٩
وفي كتابه الذي يدافع فيه المنفلوطي عن سعد زغلول، يقول الكاتب موجِّهًا كلماته إلى
سلطات الاحتلال: «نؤكد لكم يا قوم أن الأمة المصرية لم تكن آلة في يد سعد باشا يصرفها
كيف شاء كما توهمتم، أو كما أوهمكم ذلك الضعفاء منا، وأن روح الوطنية المنتشرة فيها
ليست روحًا صناعية كاذبة يحيِّيها وجوده، ويميتها نفيه، وأن نفيه إلى أقصى بقعة من بقاع
الأرض، بل الذهاب به إلى مصير أعظم ويلًا وهولًا من هذا المصير، لا يحل عقدة واحدة من
عُقد المسألة المصرية.»
٤٠٠ ولم يكن الفنان في «عودة الروح» يتنبَّأ بالزعيم المنقذ، ذلك لأن الزعيم الذي
كان يعنيه الحكيم — وهو سعد زغلول — أمنية تحققت بالفعل، قبل أن يبدأ في كتابة روايته.
كان الشعب قد قرر القيام بثورته، واختار سعد زغلول لأنه كان يحب أن يختار أحدًا. وقد
بدأ الشعب يحدد ملامح زعيمه، ثم صنعه فعلًا حتى من قبل أن تتحدد صورة الثورة في ذهن
الزعيم، وربما من قبل أن تطوف فكرة الثورة بذهن الزعيم على الإطلاق. وكانت المظاهرات
تهتف: لو رشَّح سعد حجرًا لانتخبناه … الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي.
والدلالة واضحة في قول مكرم عبيد إنه قد أصبح لمصر — بعد الثورة — برلمان من جمهور
الشعب، قبل أن ينشأ البرلمان النظامي «مصر منذ خمسة أعوام — يعني منذ قيام الثورة —
يحكمها في الواقع الرأي العام المصري، فهو الذي أسقط الوزارات وأقامها.»
٤٠١
•••
أيًّا يكن الأمر، فإنه إذا كان الائتلاف الطائفي هو أهم نجاحات ثورة ١٩١٩م؛ فإن
الخصومة الحزبية — كما أشرنا — هي أردأ ثمار الثورة على الإطلاق — يقول الراوي في مرايا
نجيب محفوظ: احتلت الحزبية المكان الأول في الصراع — المرايا، ٣٩٩ — كان سرطان الخصومة
الحزبية هو أخطر الأمراض التي خلَّفتها النتائج السلبية لثورة ١٩١٩م في جسد الشعب المصري،
وقد ظل ذلك المرض على تمكُّنه واستفحاله لسنوات طويلة تمتد منذ ١٩٢٢م، إلى ما بعد قيام
ثورة
يوليو ١٩٥٢م، حين أُلغيَت الأحزاب.
تركزت الخصومة — بداية — في محورين: أغلبية سعدية، وأقلية عدلية، أما بقية التيارات
والأحزاب السياسية فلم تكن ذات وجودٍ حقيقي. وقد وقف مرشح الحزب الوطني يخطب في أهل
البلد الذين تقدَّم للنيابة عنهم، ويتحدث عن جهاد الحزب الوطني وزعيمَيه مصطفى كامل ومحمد
فريد، وصفق له الحاضرون طويلًا، حتى إذا انتهى مال عليه زعيم القرية متسائلًا: والحزب
الوطني ده يبقى إيه؟
– يبقى الحزب الوطني.
– إيوه … لكن يعني يبقى سعدي ولَّا عدلي؟!
٤٠٢ بل إنه حين تُجرى الانتخابات في فترة الحرب العالمية الثانية، يهز عم كامل
(زقاق المدق) رأسه ويغمغم: سعد وعدلي مرة أخرى؟!
٤٠٣ ذلك لأن اتجاهات الغالبية العظمى من أبناء الشعب كانت مرتبطة بإحدى
الشخصيتين: سعد أو عدلي أكثر مما هي مرتبطة بانتماء مذهبي أو سياسي. وبتعبيرٍ آخر، فقد
كان الانتماء لأحد الرجلين، وليس لوجهة النظر التي يحملها. ومن هنا جاءت تلك الصيحة
المخلصة لفكري أباظة: وا أسفاه! في الوقت الذي نبكي فيه سوء حال الميزانية المصرية، في
الوقت الذي نبكي فيه من الخراب الاقتصادي الضارب أطنابه في طول البلاد وعرضها، في هذا
الوقت البائس نرى أموال الأمة تُبعثَر من الجانبين لتأييد شخصين.
٤٠٤ «آه لو ملَّكتموني زمامكم أيها المصريون! جرِّبوني ولو يومًا واحدًا، ربع يوم
واحدًا، ساعة واحدة. ارفعوني فوق عرش الرياسة والزعامة، إذن — والله — لقبضت بكل احترام
على سعد وعدلي، ووضعت يدي على أموال الوفد الأصلي والرسمي فكوَّنت من الأمة المتناثرة
الأجزاء كتلة واحدة أقذف بها في وجه أصدقائنا الإنجليز!»
٤٠٥ فهل كان عدلي — كما يقول عبد العظيم رمضان — يقف مع الاستقلال الشكلي،
بينما يقف سعد زغلول مع الاستقلال الحقيقي؟
٤٠٦
الغريب من أمر ذلك الخلاف — كما يقول طه حسين — «أنه كان يتصل بالمظاهر والصور، لا
بالوقائع وحقائق الأمر.» كان أعضاء الوزارة وأعضاء الوفد يؤمنون جميعًا بحق مصر في
الاستقلال، وبأن هذا الاستقلال يجب أن يستخلص من الإنجليز بالمفاوضة الحرة، إيثارًا
للسلم، ورغبة في العافية، وبخلًا بالدماء على أن تُراق، وبالنفوس على أن تُزهق قبل أن
تستنفد وسائل السلم، ولكنهم — على هذا الاتفاق والإجماع — كانوا يختلفون في مظاهر هذه
المفاوضة، لأن من يجريها سيتاح له تحقيق الاستقلال إن قُدِّر له النجاح.
٤٠٧ كان الخلاف بين سعد وعدلي عاملًا أساسيًّا في إفساد الحياة السياسية
المصرية بعد ثورة ١٩١٩م، وتشويه ملامحها، بل وكان بداية التصدُّع في البناء الدستوري
المصري، قبل أن يتقوض البناء تمامًا بتعطيل الملك فؤاد دستور ١٩٢٣م، ثم إلغائه، وتحويله
— في بقية الأحيان — إلى بنود جامدة تستعصي على الحياة. ولعله يمكن القول إن ذلك الخلاف
كان بداية نمو المأساة التي عاشتها الحياة السياسية في مصر حتى قيام ثورة يوليو، فقد
أثرت الزعامات الوفدية المناوئة لسعد زغلول على عدلي حتى من قبل رئاسته للأحرار
الدستوريين الذي أكد طابع العداء لسعد وللوفد — استقال عدلي فيما بعد من رئاسة الحزب،
وخلفه عبد العزيز فهمي — وظل الحزب منذ تكوينه حزبًا حكوميًّا يعتمد على قوة الحكم.
وكان تكوين الأحرار الدستوريين منطلقًا لتنظيمات حزبية أخرى مثل الاتحاد والشعب
والسعديين وغيرها من الأحزاب التي وضعت نفسها في كفة القوى المناوئة للشعب، سواء لأن
قادتها من المنشقين على الوفد، أو لأن هؤلاء القادة من القوى العميلة للسراي أو لسلطات
الاحتلال. وكان يكفي للحياة السياسية المصرية — في تقديري — أن يجاوز الحزب الوطني دوره
برفع الشعارات التي لا يشغله تحقيقها، ولا وسائل تحقيقها، وأن يمثِّل التنظيم السياسي
الأكثر تطرفًا في تصديه للقضايا السياسية الخارجية والداخلية، استمرارًا لمبادئ العظيم
محمد فريد، على أن يمثِّل الوفد — كما كان في كل عهوده — التنظيم السياسي الأقل تطرُّفًا،
أو أن يكون ليبرالي الاتجاه باحتوائه لنوعيات متباينة الفكر والمصالح بدءًا بالإقطاعيين
وأصحاب رءوس الأموال، وانتهاء بالطبقات الكادحة. لقد انشغل حزب بتوجيه الاتهامات إلى
الأحزاب المناوئة، في الوقت الذي لم يكن الاستقلال سوى شعار زائف، حتى إن سلامة موسى
يكتب مخاطبًا الشباب المصري: أنتم الآن لا تملكون مصر. ويذهب مريت بطرس غالي إلى أن
نشاط الأحزاب في السياسة الداخلية، منذ نيل الاستقلال الجزئي سنة ١٩٢٢م متجهًا — في
الأغلب — نحو المناقشات العقيمة والمجادلات الضارة بتقدم الأمة. اللهم إذا استثنينا
الجبهة الوطنية في سنتَي ١٩٣٦م، ١٩٣٧م التي بدأت علامات الانشقاق تظهر فيها بين مرحلتَي
لندن ومونترو، لم نلحظ إلا في القليل النادر سعيًا خالصًا من جانب الأحزاب للتعاون على
المشاكل الداخلية، ومجهودًا واضحًا في الإصلاح والإنشاء. وليست بعقائد سياسية تلك
العقائد المرتكنة على الانتماء لرجل بدلًا من آخر، سواء أكان الانتماء ناشئًا عن
الاحترام أو الصداقة أو المنفعة. والسياسة المبنية على التعصب الشخصي لا ترجع بفائدة
على الأمة، لأنها — في الغالب — تضع الصالح العام في المكان الثاني، إن لم تغفله كل
الإغفال.
٤٠٨ وعلى سبيل المثال، فقد أيَّد مجلس نقابة المحامين حكومة عدلي، ثم أُجريت
الانتخابات لمجلسٍ جديد «فلم يفز بالانتخاب إلا الزغلوليون» — والتعبير للورد اللنبي
—
وكان أول قرارات المجلس الجديد — بالطبع — شجب قرارات المجلس السابق، وأعلن الإضراب
لمدة خمسة أيام.
٤٠٩
لذلك كان ميل لطفي السيد إلى اعتزال السياسة، منذ بدأ الخلاف بين سعد وعدلي على رئاسة
وفد المفاوضات، وانتقل الأمر — على حد تعبيره — إلى خصومة، ثم قبِل عرضًا بالعودة إلى
دار الكتب المصرية، وانشغل بترجمة مؤلفات أرسطو، وبالجامعة المصرية القديمة التي كان
حسين رشدي رئيسًا لها، وكان لطفي السيد وكيلًا لها.
٤١٠
نفوس مضطربة
إذا كانت الأعمال الأدبية التي عرضت للخلافات الحزبية قد اقتصرت — أو كادت — على
أبعاد
الصراع بين الزعامات المختلفة، وتأثيرات ذلك على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية
ككل؛ فإن أحمد زكي مخلوف في رواية «نفوس مضطربة» يتناول شخصية من قاع الحياة الحزبية،
أسهمت في نشاط حزب الأغلبية، ونالت بعض الغنم الذي حصل عليه مناصروه في السنوات القليلة
التي تولى فيها الحكم، بينما تعرضت في السنوات التي غاب فيها الحزب عن الحكم — وهي
كثيرة — لألوان من الاضطهاد والمصادرة والاعتقال والسجن والتعذيب، وكانت النهاية
القاسية هي محصلة تلك الحياة العجيبة. ولعل التعبير الأدق لشخصية الشيخ حسن ما يصفه
الراوي: «إنه مخلوق ومركب لا ليكون زعيمًا أو رئيسًا، وإنما ليساعد الرؤساء والزعماء
حتى ينالوا مآربهم، فإذا نالوها بعثوا إليه بخِطاب شكر رقيق، ويكون هذا الخِطاب موضوع
حديثه وامتنانه وفخره، وسينسونه حتى تأتي شدة أخرى فيهبُّون إليه قائلين: إن الوطن في
خطر
والبلاد تحترق إذا لم تمتد إليها يده وأمثاله من المجاهدين ينقذونها مما يهددها، ولا
يتردد الرجل ولا يحجم؛ إنه لها.»
٤١١
بدأ الرجل مؤمنًا غاية الإيمان بشخصية سعد زغلول، كأنه صحابي يؤمن بالرسول، ومن ثَم
فقد مضى يبشِّر له وبه في كل قرى ومدن أسوان.
٤١٢ وكان يدعو إلى العنف والتخريب حتى يضطر الإنجليز إلى الرضوخ لمطالب الزعيم
التي هي — في واقعها — تعبير عن مطالب الشعب.
٤١٣ أسرت شخصية الزعيم الشيخ حسن تمامًا، فهو لا يؤمن بغير زعامته، وإذا قال —
الزعيم — إن الشمس تشرق من المغرب، وتغرب في المشرق، فما على الشمس إلا أن تطيع،
وإلا فلتفصل من الحزب!
٤١٤ ولعل المرة الأولى التي واجه فيها الشيخ حسن مغبة الاشتغال بالعمل السياسي
لما أقيلت وزارة مصطفى النحاس، وتولى محمد محمود الحكم بدلًا منه. إن المأمور تعبير عن
إرادة الحاكم في الإقليم، ومن هنا تأتي دلالة الاسم، فهو يأتمر بأوامر الحكومة القائمة
دون أن يكون لمشاعره أو نوازعه السياسية أو الاجتماعية دخل في ذلك. وكان أول ما فعله
مأمور أسوان — ذلك الذي كان لا يمل الانحناء أمام ممثلي حزب الوفد — أن دفع بهؤلاء
الممثلين — والشيخ حسن من بينهم — إلى السجن، ثم أفرج عنهم ليعيدهم إلى السجن مرة
ثانية. ثم وُلِّي المديرية مأمور جديد ما لبث أن استدعى الشيخ حسن، وعزم عليه بسيجارة
وفنجان من القهوة، وحدَّثه بصراحة عن رغبة الحكومة القائمة في الإفادة من جماهيريته بين
أبناء أسوان، وقال له: «ماذا أفدت من جهادك القديم؟ إن لك عشرين عامًا تناضل فيها
وتكافح، فماذا كان نصيبك؟ إني أعلم أن أباك ترك لك مائة فدان، فأين هي الآن هذه المائة؟
وأين الحديقتان الكبيرتان؟ وأين الماشية والجياد؟ ماذا بقي لك من كل هذا؟ عشرة أفدنة
أو
أقل. ثم الديون التي عليك للأفراد والحكومة، وهي مؤجَّلة ولكنها تتضاعف وتتراكم. إني
أفهم
أن يضحي ويكافح الإنسان لينال ما يريد، ولكن جاء الدستور، وجاءت الحياة النيابية،
فلماذا لم يعطوك كرسيًّا تحت قبة البرلمان؟ لماذا أعطوا الشيخ حبيب الغنم، وتركوا لك
الغرم؟ لماذا لم يعطوك وظيفة حكومية إن استعصى كرسي البرلمان؟ … إلخ.»
٤١٥ وعلى الرغم من الأيام القاسية التي عانى الشيخ حسن ويلاتها، فإنه ظل حريصًا
على موقفه، ولم يجد غضاضة في أن يضحي بكل ما يملك من صحة ووقت ومال في سبيل الفكرة التي
يؤمن بها. أهمل الرجل أولاده تمامًا مع أنه كان يُعِد نفسه في مقدمة المصلحين
الاجتماعيين، فآثر ثلاثتهم طريق الانحراف والجريمة. وكان الرجل يتألم من افتقاده من
يفهم جهاده ويدفعه إلى مواصلة النضال، حتى بين أفراد أسرته: زوجه وأمه وأولاده. وعاد
الرجل — ذات مساء — بعد جولة مضنية، أدرك فيها بشاعة المأزق الذي يتعرض له حزبه، ويتعرض
له هو شخصيًّا، فأمسك ورقة وقلمًا، وكتب رسالة إلى رئيس حزبه يجدد الثقة به. ويؤكد أن
الشعب لن يتخلى عن إيمانه بزعامته «وأن ذلك الطاغية لا يستطيع أن يفعل شيئًا يحُول دون
إحساس الجماهير. إنهم لن يعبئوا باضطهادٍ ما، إنهم يضعون بين يدَي ذلك الزعيم المخلص
الأمين أرواحهم وأموالهم وأولادهم. فليفعل بها ما يريد، لا اضطهاد ولا ظلم ولا مصادرة
أطيان ولا إغراق أرض ولا إحراق محصولات سيمنع الشيخ من أن يصيح بأعلى صوته إنه لن ينضم
إلى الحكومة المزيفة وأعوانها المأجورين الخونة؛ إلى الجهاد إذن، إلى الجهاد.»
٤١٦ ثم ابتسمت الأيام من جديد للشيخ حسن، فبعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وتولي الوفد
الحكم لتنفيذ بنود المعاهدة «جاء الأنصار والذين ضحوا إلى رئيس الحزب يطلبون الإنصاف
والعطف.»
٤١٧ وكانت الظروف المادية الطيبة التي بدأ الشيخ حسن يحياها، هي الدافع لأن
يتقدم بطلب يد ليلى التي كانت في سن ابنته. وحاول الرجل أن يعوض فارق السن بالمقابل
المادي والعاطفي، فلم يبخل عليها بشيء، وحاول أن يستعيد — بالمقويات — بعض سنوات عمره،
بل إنه لجأ إلى الخمر لتفيده في ذلك. لكن أيام الرخاء ما تلبث أن تذوى وتتلاشى، فقد ذهب
حزب الشيخ حسن، وحل محله حزب جديد جعل مهمته الأولى تطهير الأداة الحكومية من أنصار
الحزب الأول، واضطر الشيخ حسن — حتى لا يتعرى وضعه المادي — إلى العودة مع أسرته إلى
قريته الصغيرة. وكانت تلك العودة بداية تردي حياة الرجل إلى مصير مؤلم، فقد ماتت الزوجة
بتأثير مرض غريب، ورغم شدة الصدمة فإن الرجل لم يخف سعادته حين زاره رئيس الحزب معزيًا،
وحاول — من بعد — أن يعلِّم منير — ثمرة زواجه القصير — تاريخ الحزب وأفكار ومبادئ زعيمه،
وألقى الرجل بنفسه — شيئًا فشيئًا — في دوامة الشيخوخة واليأس والاكتفاء من الماضي
بذكرياته الجميلة: ألم يكن الزعيم الراحل يجد لذة كبرى في اللعب معه في أوقات فراغه،
في
عزبته؟ ولما عرضت عليه وظيفة تحفظ له تماسك أيامه المقبلة، عاودته عنجهيته القديمة،
ورفض الوظيفة لأنها في دائرة أحد باشوات الأحزاب المناوئة! وأعلن في ثقة إنه سيصبر حتى
يعود حزبه إلى الحكم في القريب العاجل. ثم أصيب الرجل بما يشبه الجنون — أو بلوثة جنون
حقيقية — فهو يؤكد أن الحالة السياسية الداخلية قد تحسَّنت تمامًا، وأن حزبه سيعود إلى
الحكم، وستُسنَد إليه وزارة الأوقاف، وأدمن الشراب فلا يكاد يفيق، حتى مات.
ولعل شخصية الشيخ حسن تذكِّرنا بشيخ آخر، هو محروس في قصة «حادثة الوابور»، كان الرجل
قد
نال قدرًا يسيرًا من التعليم، يتيح له كتابة خِطاب للبنك، وكانت خبراته السياسية تقتصر
على تجميع الأصوات للحزب أيام الانتخابات، لكنه عانى المشكلات نفسها التي كان يعانيها
المشتغلون بالحياة السياسية؛ فهو يستقبل قادة الحزب، ويقيم الولائم لهم، ويحقق من
المكاسب العامة والشخصية ما يسعده، فلما يبتعد الحزب عن الحكم، تتوالى الخسائر على
الرجل، فيتقبَّلها بثباتٍ كأي رجل ريفي شجاع.
٤١٨
•••
يقول سعد الدين (مليم الأكبر) «إن ثورة ١٩١٩م لم تنجح — يقر بنجاحها — إلا لأنه كان
من
ورائها وعي اجتماعي متيقظ، سرت بفضله الحماسة الوطنية في كل طبقات الشعب، حتى بين
الموظفين الذين هم دائمًا آخر من يثور من الأهلين.»
٤١٩
في المقابل، فثمة مَن يشير إلى القول إن ثورة ١٩ فشلت.
– صحيح.
– ليه؟
– كانت طالعة لفوق.
– هي إيه؟
– الثورة.
– يعني إيه؟
– طالعة لفوق وخلاص بقى.
– يعني لازم تكون الثورة نازلة لتحت؟
المعنى — كما ترى — واضح؛ فالثورة لم تتجه إلى الجماهير، لكنها اتجهت إلى الطبقات
الأعلى، أما الذين قُتِلوا في المظاهرات فقد ذهبوا، وأما الذين دخلوا السجون، فقد عُلِّق
بعضهم على بال المشانق، وخرج بعضهم ليتولى الوزارة.
٤٢١ والملاحَظ أنه لم يكن قد مضى على قيام ثورة ١٩١٩م اثنا عشر عامًا، عندما قال
الدكتور إبراهيم عقل في حسم: لا بد من ثورة.
٤٢٢ وكان ذلك اعترافًا ضمنيًّا بأن ثورة ١٩١٩م قد أصبحت ماضيًا، وأن مصر تحتاج
إلى ثورة جديدة.
وإذا لم تكن ثورة ١٩١٩م قد استطاعت أن تقضي على السيطرة الاستعمارية، فإنها لم تستطع
كذلك أن تقضي على سيطرة الإقطاع، وعلى رأسه الملك فؤاد. فقد زاد عدد الأراضي التي
يملكها الملك والأمراء والنبلاء حتى قاربت نصف مليون من الأفدنة. واستمر ١٢٤٢٠ مالكًا
في عام ١٩٣٦م يملكون قرابة مليونين ونصف مليون فدان من مجموع الأراضي المصرية التي تبلغ
مساحتها — آنذاك — حوالي خمسة ملايين ونصف مليون فدان.
٤٢٣ يقول الضاحك الباكي: «أما الاستقلال، وأما الاحتلال، وأما القضية المصرية،
فسلوا عنها ضحايا سنة ١٩١٩م، وسلوا عنها الخيال.»
٤٢٤ ويتحدث الفنان (المرايا) عن النشاط السياسي الذي خفَّت حدَّته، وتغيَّر لونه، بعد
انحسار موجة الثورة العارمة، «فقد بلغنا أولى درجات الوعي بعد أن انقلبت الثورة الدامية
أسطورة مقدسة من أساطير الغيب، وكان كلٌّ منا يحتفظ بمشهدٍ عابرٍ عجيب، أو ذكرى شهيد،
أو
هتاف مثير، ولا شيء أكثر من ذلك.»
٤٢٥ ويعقب إبراهيم عقل (المرايا) على نتائج الثورة، بأن الجهاد الوطني قد انحرف
عن غايته الأولى «غرقنا في معاركنا الحزبية، ولدى كل انقلاب يحدث رد فعل فظيع في
العلاقات والأخلاق، ويومًا بعد يوم يتفتَّت البناء الشامخ الذي ورثناه عن ثورة
١٩١٩م.»
٤٢٦ ويرى فتحي رضوان أن الزعامة — وحدها — هي التي قضت على الثورة، فقد عادت
الزعامة الرسمية من أوروبا بعد سنتين كاملتين، فلم «تقو على رفع لواء الثورة، وغلبت
عليها طبيعتها ونظرتها إلى الأمور، وصلاتها بالقصر الملكي وبالإنجليز، وضعف إيمانها
بالشعب، وكراهيتها للنشاط الثوري الذي لا يسمح لمواهبها في المناقشات اللفظية، أو
المفاوضات السياسية، بالظهور والتألق.»
٤٢٧
مع ذلك؛ فإن حسين فوزي يذهب إلى أن ثورة ١٩١٩م لم تمت، وأن نشاط الحركة الوطنية في
الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، إنما هو دليل حياتها، وأن وزارة الوفد في
أوائل الخمسينيات، كانت هي التي ستعلن — بتطرفها في خطب ود الملك — وفاة ثورة ١٩١٩م،
لولا قيام ثورة يوليو.
٤٢٨ وكان تقدير منصور باهي (ميرامار) أن الثورة الجذرية الشاملة كادت تتحقق في
١٩١٩م لولا خيانة البرجوازية. وكان رأيه أن سعد زغلول مسئول — بصورة مباشرة — عن فشل
الثورة. «لقد طعن الرجل الثورة الحقيقية وهي في مهدها.»
٤٢٩ أما محتشمي زايد (يوم قتل الزعيم) فقد كان رأيه أن السؤال الذي تفرضه مناهج
التعليم على المدرسين ليوجهوه إلى تلاميذهم: لماذا فشلت ثورة ١٩١٩م؟ ذلك السؤال سؤال
خائن، لأن الثورة — في تقديره — لم تفشل. فمن إيجابياتها — في تقدير العديد من
المؤرخين — إلغاء الحماية، وهو وإن لم يؤدِّ إلى الاستقلال، فقد أتاح للرأسمالية المصرية
بعض الحرية في الحركة، مثل إنشاء بنك مصر وشركاته، فضلًا عن تمصير وظائف الدولة. يقول
أحمد عاكف (خان الخليلي): «فاتتنا أخصب فترة في تاريخ مصر، تلك الفترة التي تستهين
باعتبارات السن والجاه الموروث، ويقفز فيها الشبان إلى كراسي الوزارة.»
٤٣٠ ومن تلك الإيجابيات أيضًا: إلغاء الامتيازات الأجنبية، إعادة النظام
الدستوري، اشتراك المرأة في الحياة السياسية بصورة واضحة. وكانت ثورة ١٩١٩م — كما قال
توفيق الحكيم في «سجن العمر» — هي المصدر الأول الذي استلهم منه الفنان فكرة روايته «عودة
الروح».
هوامش