السودان و١٩١٩
في رواية «غرام العذارى» لاحظ لويس ومرجريت أن القوات البريطانية منتشرة في السودان،
بينما عدد القوات المصرية قليل للغاية. أخبره مواطن سوداني أنه منذ نشوب ثورة ١٩١٩م،
أساءت السلطات البريطانية معاملة المصريين المقيمين في السودان، ثم انتهزت فرصة قتل
السردار، فقالت للمصريين: هيا استعدوا للرحيل، وكان لهم ذلك.١ وأعلن لويس دهشته: أيفتدون شخصًا بأمة؟ أيطردون المالكين من أملاكهم؟ أليس
في قانون العدل حق يُعرَف بحق الملك؟ هل تناسوا دماء المصريين التي أهرقت على تلك الأراضي
المقدسة؟٢
ولا شك أنه في مقدمة نتائج فترة حكم اللنبي لمصر، إعداد السودان للانفصال النهائي
عن
مصر، وبالتحديد، فإنه منذ توقيع الاتفاقية الثنائية الخاصة بإدارة السودان في عام ١٨٩٩م،
بدأت الحكومة البريطانية في تنفيذ خطتها لفصل شطرَي الوادي عن بعضهما. فعلى الرغم من
أن
الاتفاقية الثنائية — رغم ما حوته من سلبيات — كانت تفرض على حاكم السودان عرض مشروعات
القوانين، والأوامر الإدارية على الحكومة المصرية، ارتكازًا إلى مسئوليتها كشريكة في
حكم السودان؛ فإن هذا الإجراء ظل — منذ نشوب الحرب العالمية الأولى إلى تأليف وزارة سعد
زغلول — مجرد نص في معاهدة، دون أن يُتاح له سبيل التنفيذ لسببٍ أساسي، هو ضعف الوزارات
المصرية المتعاقبة. ثم كان جعل السودان أحد التحفظات الأربعة معلمًا آخر مهمًّا في ذلك
الاتجاه، ثم تدخل اللورد اللنبي رسميًّا للحصول من الملك فؤاد على تعهُّد مكتوب بقبول
حذف
كل إشارة إلى السودان في الدستور المصري الذي كان يُجرى إعداده. وعمومًا، فقد كان الحجم
الحقيقي للوجود الرسمي المصري في السودان، يتمثَّل في إصدار الأمر الملكي بتعيين سردار
الجيش المصري — وكان إنجليزيًّا — حاكمًا عامًّا للسودان، وفي دفع المعونة السنوية
للسودان، وقدرها ٧٥٠ ألف جنيه، لتغطية العجز الدائم في ميزانية حكومته، وعلى حد تعبير
لويس عوض، فقد كانت إنجلترا تحكم السودان وحدها بأموال مصر.٣ كانت صورة الوضع في السودان، هي انفراد إنجلترا بحكم السودان، وسيطرتها على
القوات السودانية، حتى إن جنوب السودان صار مغلقًا تمامًا في وجوه المصريين.٤ ثم استغلت الحكومة البريطانية حادثة اغتيال السير لي ستاك لحل مشكلة
السودان لصالحها، بصورة نهائية. وكما يقول كمال عبد الجواد، ذلك الرومانسي الحالم (قصر
الشوق) فإن ضياع السودان يساوي موت المنفلوطي وسيد درويش.٥
•••
بصرف النظر عن قول جورج لويد: «إن النشاط المصري قد تسرَّب إلى السودان منذ عام ١٩٢٢م،
وإن المصريين قد أقاموا هناك جمعيات سرية تُدار من القاهرة، وقد تجلَّى تأثيرها بالفعل
فيما بعد.»٦ بصرف النظر عن ذلك القول الذي يصدر عن رؤية استعمارية، فمن المؤكد أن ثورة
١٩١٩م قد أحدثت أصداءً واسعة في السودان. بل إن ثورة ١٩٢٤م في السودان جاءت وليدًا شرعيًّا
لثورة ١٩١٩م في مصر، وظلت العلاقة بين الثورتَين قائمة وممتدة طيلة الأعوام الخمسة التي
تفصل بين عمرَيهما.٧ ومع أن تيار وحدة وادي النيل كان هو أقوى التيارات، فثمة تيارات أخرى كانت
تتراوح في النظرة إلى وحدة البلدَين؛ من كان يرى في مصر خطرًا على السودان لا يقل عن
خطر
إنجلترا، ومن كان يرى في الوحدة المصرية السودانية خطوة تسبق استقلال السودان، ومن يرفض
الإنجليز والمصريين في آن.٨
لقد اقتصرت مشروعات ثورة ١٩١٩م خارج الحدود، على الوحدة مع السودان، ارتكازًا إلى
أن
استقلال السودان وتأمينه، خطوة مكمِّلة لاستقلال مصر وضمان أمنها. ومن هنا ارتفع شعار
وحدة وادي النيل، وإن اختلط الشعار بتعبيراتٍ غريبة وساذجة مثل «حق الفتح» و«صلة نهر
النيل» و«عوامل اللغة والدين والعادات والتقاليد» وغيرها.٩ وبعد انتهاء الثورة، وانتكاسة انتفاضة ١٩٢٤م في السودان، ركز الاستعمار
جهده على ضرب الحركة الوطنية بين مصر والسودان.١٠ لقد ظلت المفاوضات المصرية البريطانية ترتطم — دومًا — بمشكلة السودان.
وكما يقول يونان لبيب رزق، فما إن تولَّى سعد زغلول رئاسة الوزارة في يناير ١٩٢٤م، حتى
أخذت المسألة السودانية طابعًا مختلفًا عن الأعوام السابقة «وبدأت الأوضاع غير الشرعية
التي استنَّها الحكم البريطاني تتكشَّف فيه.»١١ وبلغ الأمر حد قيام الموظفين الإنجليز في السودان بتشجيع حركة انفصالية
مصطنَعة، تهدف إلى فصل السودان عن مصر، وتعتمد على أسلوب جمع التوقيعات ضد الإدارة
المصرية.١٢ والملاحَظ بعامة أن فترة الحكم الثنائي — المصري الإنجليزي — للسودان، قد
تميزت بالمحاولات الدائبة — من قِبَل سلطات الاحتلال، صاحبة النفوذ الفعلي — لعزل الجنوب
عن الشمال، وبلغت تلك المحاولات إحدى ذراها في منشور السياسة العامة للجنوب الذي صدر
في
٦ نوفمبر ١٩٢١م، ويقضي بوضع التعليم والصحة تحت إشراف الكنائس التبشيرية، مع منع انتشار
الإسلام واللغة العربية، وتوجيه الجنوب جنوبًا، بحيث يرتبط — مستقبلًا — بأوغندا،
وتواصلت محاولات فصل الجنوب على أسس أفريقية مسيحية — ووثنية أحيانًا — في مقابل عروبة
وإسلام الشمال.١٣
انقسمت مطالب الإنجليز بالنسبة للجيش المصري في السودان، إلى قسمَين؛ أولهما: إعادة
جميع الضباط المصريين، ووحدات الجيش المصري البحتة. وثانيهما: تحويل الوحدات السودانية
التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية، تكون خاضعة وموالية للحكومة السودانية
وحدها، وتحت قيادة الحاكم العام العليا، وباسمه تصدر القرارات والأوامر. كان الحاكم
العام الإنجليزي في السودان هو القائد الأعلى للجيش هناك، بما في ذلك الجيش
المصري.١٤ وكان الجيش المصري في السودان — حتى ١٩ نوفمبر ١٩٢٤م — مكونًا من جيشَين:
الجيش المكوَّن من جنود وضباط مصريين، والجيش المصري السوداني، وكانت أعداد السودانيين
—
في مجموع الجيشَين — تفوق أعداد المصريين، وقوامها عناصر من الجنوب — القبائل الزنجية
—
والشمال — القبائل العربية. إلى جانب أن أغلب رجال الجيش المصري كانوا يقضون وقتًا في
السودان، وهو ما حدث مع والد سنية في «عودة الروح».١٥ فقد أمضى أعوامًا من حياته في السودان، عاد بعدها ليقضي بقية أيامه يتحدث
عن ذكرياته في السودان، في جلسته أمام الصيدلية القريبة من البيت، «وإذا جاءت كلمة
السودان على لسانه، لفظها في شبه تنهد عميق، أو شبه أسف، صادر من كل نفسه، أو شبه حنين
يهز كل شخصه، حتى ليخيل للسامع أن السودان كل شيء عند هذا الرجل، وهي كل حياة هذا
الطبيب العسكري الذي عاش ردحًا من الزمن فيها.»١٦ وقد تزوج رجال مصريون من فتيات سودانيات، وتزوجت فتيات سودانيات من رجال
مصريين، واحتل الطعام السوداني مكانًا في المائدة المصرية، مثل الويكة،
وغيرها.١٧ وكان الضابط المصري في السودان يحصل على إجازة سنوية في القاهرة قدرها
ثلاثة أشهر ونصف الشهر.١٨ كما كانت الخدمة الطويلة في السودان شفيعًا للموظف عند الترقي.١٩ وفي قصة «الورد الأبيض» يصف الفنان عربات القطار المتجه إلى السودان، والغاص
بالضباط والموظفين المدنيين، العائدين من إجازاتهم إلى مقار أعمالهم بالسودان، فضلًا
عن
قوات إنجليزية تتجه إلى مديريات الصعيد.٢٠ وظل الضابط المصري الكبير معتزًّا بالنياشين والميداليات التي أحرزها في
مواقع دارفور وكردفان وأم درمان.٢١
كان رأي سعد زغلول أن السودان ومصر قطر واحد، كلاهما مكمل للآخر، والنيل واحد، ولا
يمكن الفصل بينهما، بل لا غنى لأحدهما عن الآخر، باعتراف كبار الساسة
الإنجليز.٢٢ وشدَّد سعد على أن «كل ما نقوله عن مصر ينسحب على السودان؛ لأن مصر والسودان
كلٌّ غير قابل للتجزئة، بل إن السودان ألزم لمصر من الإسكندرية.»٢٣ وكان يردد «السودان لنا، وهذا حقنا.»٢٤ من تصريحاته «إن السودان لنا، ويجب أن نحوزه، ويجب أن نتصرف فيه كما يتصرف
المالك في ملكه.»٢٥
ويذهب محمد أنيس إلى أن تمسُّك الجانب المصري بنقطة «السيادة» و«حق الفتح» ورفض تقرير
المصير للسودان، من أضعف نقاط المنطق المصري.٢٦ كان السؤال الذي يواجهه المفاوض المصري دومًا هو: كيف تريدون الاستقلال
لبلادكم، ولا تريدون للسودان الأمر نفسه؟ لماذا الإصرار على السيادة والتبعية حتى لو
كانت تحت شعار وحدة وادي النيل؟
وقد استغلت إنجلترا دعوة القيادات المصرية إلى وحدة مصر والسودان، للزعم بأن مصر
تهدف
إلى فرض احتلالها على السودان باسم الوحدة.٢٧ وأفلحت الدعاية البريطانية، ساعدها على ذلك سوء تصرفات وأقوال بعض
الساسة المصريين، في إظهار نفسها على أنها تدافع عن حقوق السودانيين من رغبة مصر في حكم
السودان بالقوة.٢٨ استغلت تلك الدعاية ما طرحته السياسة المصرية من شعارات مثل: «نيل واحد،
تاج واحد، وطن واحد» … «مصر والسودان لنا، وإنجلترا إن أمكن» وغيرها، لتبذر الحساسيات
بين شعبَي الوادي، واستطاعت بالفعل أن تفيد من تلك الشعارات في تدعيم سياستها
الاستعمارية في السودان.٢٩ وللأسف، فقد كان السودان — في نظر بعض الساسة المصريين — موارد مالية ينبغي
أن تستمر «إن لمصر مصلحة حيوية في إيراد الماء الذي يصل إليها مارًّا في السودان، ونحن
عازمون أن نقترح اقتراحات من شأنها أن تزيل هم مصر وقلقها من جهة كفاية ذلك الإيراد
لحاجاتها الحالية والمستقبلة.»٣٠ لم تخجل السلطات الحاكمة المصرية من التأكيد على أن المصلحة المادية في
مياه النيل كانت هي شاغلها في قضية السودان، دون تنبُّه إلى أن السودان هو — في الدرجة
الأولى — شعب له إرادة ورأي. كانت القضية المصرية بالنسبة لهؤلاء الساسة هي سيادة مصر
على السودان، وليس وحدة مصر والسودان، ارتكازًا إلى حق الفتح (!) والفرمانات العثمانية،
والاتفاقات الدولية التي تعهدت بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية. وكان المفاوض
المصري ينظر إلى قضية السودان — تبعًا لذلك — من زاوية المصالح المصرية، مثل تبعية
الجيش السوداني للجيش المصري، وهجرة المصريين إلى السودان، وتمتعهم بكل التسهيلات
الممكنة، وتيسير ورود المواد التموينية لمصر، فضلًا عن اشتراط ألَّا يقيم السودان مشروعات
من أي نوع تقلل من كميات مياه النيل التي تصل إلى مصر. وكان الرافعي يتحدث عن أقصى
الجنوب في السودان، على أنه حدود مصر الطبيعية.٣١ بل إن عادة ولاة مصر — إذا غضبوا على أحد — كانت نقله إلى السودان باعتباره
منفًى! ولا يخلو من دلالة المثل السائر الذي يتداوله المصريون: أوَديك طوكر! أو: ويعني
انا رايح طوكر، وغنَّت عائشة (بين القصرين): «الحب كلبش في قلبي، قرَّبت أروح منه طوكر.»
كانت طوكر — المدينة السودانية، في تلك الأيام — منفًى، يعاقَب المذنبون بإرسالهم
إليه!٣٢ وطبيعي أن تلك النظرة الأحادية، المتعسفة، قد تركت تأثيرًا سلبيًّا في نفوس
أعداد من السودانيين. وكان الاستعمار البريطاني ودعاة الانفصال يجدونها فرصة مناسبة
لتخويف الشعب السوداني من الوحدة مع مصر، باعتبارها دليلًا على النيَّات العدوانية
والاستعمارية للمصريين في السودان: «إن شعارات البرجوازية لم يكن من الممكن أن تجد قوة
في السودان، وفشلت في أن تحقق ارتباطًا حقيقيًّا بين نضال الشعبَين، بل إنها خدمت — إلى
حد — السياسة الاستعمارية في السودان.»٣٣ حرص الإنجليز — في الوقت نفسه — على تشويه صورة المصري في أعين
السودانيين؛ فهم — على سبيل المثال — يشدِّدون الأوامر على الموظف المصري، فيحاول
تنفيذها، ويشكو الموظفون السودانيون من قسوة الأوامر، فيأمر الرئيس الإنجليزي بإهمال
تنفيذها.٣٤ مع ذلك، فقد كانت عوامل الوحدة تميل بالرأي العام السوداني إلى جانب
مصر.
وفي أكتوبر ١٩٢٤م أُعلن رسميًّا فشل محادثات سعد-ماكدونالد لتمسُّك الطرفَين بموقفهما
من
السودان، وصرح سعد «لقد دعونا لننتحر، لكننا رفضنا.»٣٥ وأعلن الأمير عمر طوسون إن مصر لو تركت السودان؛ فإن السودان لن يترك
مصر.٣٦
قصرت الحركة الوطنية مطلبها — في البداية — على استقلال مصر؛ لأنها كانت تعُدُّ السودان
قسمًا من الأراضي المصرية، يمتد إليه — بالتبعية — مطلب الجلاء. ولعله من هنا كان
الشعار المحموم الذي رفعه المتظاهرون، لما تبدَّت النيَّات البريطانية من السودان: «مصر
والسودان لنا، وإنجلترا إن أمكن!» وفي المقابل، فقد وجد البعض من الساسة المصريين في
وحدة وادي النيل تطلعًا برجوازيًّا بأكثر من أن تكون إيمانًا بوحدة وادي النيل. وكما
يقول علي الراعي، فلعل القيمة الفنية الوحيدة لما رواه والد سنية (عودة الروح)
الأميرالاي السابق، عن مغامراته في السودان، أن الفنان أراد أن يرسم «لوحة فنية كبرى
للطبقة الوسطى في مصر، تضم آلامها وآمالها وتطلعاتها إلى المستقبل، ومما لا ريب فيه أن
هذه الطبقة كانت إذ ذاك تحلم بأن تمد نفوذها إلى خارج الحدود.»٣٧ والملاحَظ أنه عندما أصرَّ عبد الرحمن الرافعي أن تضاف كلمة «السودان» إلى لقب
«ملك مصر»؛ فإن سعد زغلول لم يعترض على مبدأ الإضافة، وإنما كان اعتراضه، أو تحفظه، على
أن مصر ليس لديها من القوة ما يتيح لها ضم السودان: «هل عندنا تجريدة»؟!٣٨
وعلى الرغم من دعوة كل الأحزاب السياسية بوحدة مصر والسودان، فإن حزبًا واحدًا منها
لم يضم إلى عضويته عددًا من السودانيين لتأكيد هذا الهدف، أو لإظهاره في أقل تقدير.
فإذا تعللنا بالقول إن قوانين الأحزاب لم تكن تسمح بانضمام غير المصريين إليها، فإنه
كان من السهل تعديل القوانين، خاصة أن كل الأحزاب، وكل الحكومات، كانت تحرص على وحدة
وادي النيل. حتى الملك كانت تسميته «ملك مصر والسودان وبلاد النوبة وكردفان»، ولسعد
زغلول مقولة شهيرة «تُقطَع يدي ولا يُقطَع السودان عن مصر.» والمظاهرات طالما هتفت: مصر
والسودان، وإنجلترا إن أمكن! وبينما كان أحمد حسين يدعو إلى ضم السودان إلى مصر «لأن
سكان مصر الذين يتضاعف عددهم في نمو مطرد، إما أن يموتوا جوعًا، وإما أن يستثمروا
بلادهم الواسعة في السودان!»٣٩ وكان الزعماء المصريون يتحدثون عن السودان الذي هو ألزم لمصر من
الإسكندرية، وهو ما ينطوي على نظرة توسُّعية وليست قومية، ولعلها كانت أحد العوامل فيما
حدث بعد ذلك من اختيار السودان للاستقلال، على الرغم من شعار الطلبة والعمال في ١٩٤٦م
«شعب واحد، ومصير واحد.» بينما كان ذلك هو بعض الحديث السياسي المصري، فإن السودانيين
كانوا يتحدثون عن «وادي النيل حرًّا من الإسكندرية شمالًا، إلى ما بعد بحيرة ألبرت
جنوبًا، وليحيَ الإخلاص.»٤٠ وكان المناضل «قيوم» أحد هؤلاء الذين قدِموا من السودان إلى مصر ليسهموا في
نسج الأمل المشترك مع المناضلين في مصر، وليعانوا عذابات الاعتقال والسجن والمعاناة
نفسها التي يعانيها رفاقه من المصريين، بل هو يزيد، فيحاول أن يفيد رفاقه من دراساته
في
الاقتصاد، ويحاضرهم في ظهور الآلة البخارية ودورها في تطوير المجتمع.٤١
لذلك فإنه بدلًا من شعارات «وحدة وادي النيل»، و«نيل واحد»، و«شعب واحد»، و«ملك
واحد»، وغيرها فقد رفع اليسار المصري شعار «الاستقلال السياسي والاقتصادي والكفاح
المشترك مع الشعب السوداني، وحقه في تقرير مصيره.»٤٢ ويروي محجوب ثابت، أنه خرج — يومًا — إلى مظاهرات تهتف: السودان لمصر، وقال
للمتظاهرين: لا يكن هذا هو النداء، بل قولوا: السودان لمصر، ومصر للسودان.٤٣ بل إن الشيخ محمد حسنين مخلوف — وكان أميل إلى السلفية والرجعية السياسية —
أضاف وجهة نظر موضوعية ومستنيرة في قوله «إن مصر — حكومة وشعبًا — لا ترى في علاقتها
بالسودان أكثر مما تراه الطبيعة نفسها، ولا أكثر مما هو قائم فعلًا، وهو أن المصري
والسوداني أخوان شقيقان، لا سيد ولا مسود، ولا حاكم ولا محكوم، فالوطن واحد، والنشأة
واحدة، والأمل واحد، والألم واحد، يظللنا جميعًا وصف مشترك، هو أننا أبناء
النيل.»٤٤
ولا شك أن عام ١٩٤٦م شكَّل انعطافة حادة في النظرة المصرية إلى السودان، نظرة جديدة
تأخرت طويلًا. فبعد كل تلك الشعارات السخيفة، أفرزت التنظيمات السياسية الوليدة شعارات
جديدة، مثل الكفاح المشترك، وحق تقرير المصير. وأصبحت الندية هي صورة العلاقة بين
الشعبين، وأسهم طلاب السودان وعماله في الحياة السياسية المصرية بنصيبٍ وافر، وتعرَّض
بعضهم للسجن والاعتقال والتشريد، وفرضت الشعارات الجديدة ذاتها على الأحزاب التقليدية،
فغيَّرت مواقفها — المعلَنة في الأقل — وتقدَّم محمد صلاح الدين باسم الوفد إلى الجمعية
العامة للأمم المتحدة في ١٩٥١م، باقتراحٍ جديد هو الاستفتاء.٤٥
•••
في أعقاب قيام ثورة ١٩١٩م، تعدَّدت الجمعيات السودانية التي تدعو إلى الاستقلال التام
لمصر والسودان، مثل جمعية «الاتحاد» التي تألَّفت في الخرطوم عام ١٩٢٠م، ثم جاهر علي
عبد
اللطيف بعداوته للاحتلال البريطاني، وضغط على حتمية الوحدة بين شطرَي الوادي، وكوَّن
في ٢٠
أبريل ١٩٢٣م جمعية اللواء الأبيض من مواطنين مدنيين وضباط يعملون في السودان، من بينهم
محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر. ووضعت الجمعية في مقدمة برنامجها وحدة وادي النيل.
وكان علم الجمعية من لون أبيض، عليه خريطة لوادي النيل، وفي الجانب الأعلى — إلى اليسار
— هلال صغير. بدأت الجمعية نشاطها في مدني أولًا، ثم نقلت نشاطها إلى الخرطوم. وكانت
تتكوَّن من خلايا، في كل خلية عشرة، لا يعرف أعضاؤها أعضاء الخلايا الأخرى، وانتشرت
فروعها إلى مكوار والأبيض والفاشر وشندي.٤٦
وقد بدأت جمعية اللواء الأبيض نشاطها بإرسال برقيات إلى الحاكم العام
بالسودان، تستنكر الدور العميل لجريدة «الحضارة» السودانية التي كانت تدعو لصالح
الاستعمار البريطاني بالسودان. وثمة جمعيات أخرى أنشئت لممارسة العمل الوطني، مثل جمعية
«قبيلة الجعليين»، وجمعية «العمال»، وجمعية «وحدة السودان»، وغيرها … وكانت جميعها تهدف
إلى
استقلال السودان، وتحقيق الوحدة الاندماجية مع مصر. وفي يوم الجمعة ١٥ أغسطس ١٩٢٤م أصدرت
حكومة سعد زغلول بلاغًا قالت فيه: «في يوم ١١ أغسطس والأيام التالية، أبلغت الحكومة أنه
في صباح يوم السبت ٩ الجاري، خرج تلاميذ المدرسة الحربية في الخرطوم من المدرسة، حاملين
البنادق والحراب والعلم الأخضر، واخترقوا المدينة بنظام، ووقفوا أمام السجن هاتفين
للضابط علي عبد اللطيف. وفي أثناء ذلك، أخذت الذخائر من المدرسة، فلما عاد التلاميذ
إليها، امتنعوا عن تسليم أسلحتهم ما لم تُرَد إليهم الذخائر، وهددوا باستعمال هذه الأسلحة
إذا استُعملَت معهم القوة، وأن قوة بريطانية أحاطت بالمدرسة، وانتهى الأمر بانتهاء
المقاومة، وتسليم الأسلحة في المساء، وأنه ألقي القبض على رؤساء الحركة. وقيل إن هذه
المظاهرة وقعت احتجاجًا على طريقة إعطاء الشهادات النهائية، وعلى مشروع الجزيرة، وأبلغت
الحكومة أيضًا أن أورطة السكة الحديدية بالعطبرة خرجت في اليوم نفسه بمظاهرة غير منظمة،
وأحدثت إتلافًا، وأن فصيلتَين من الجيش البريطاني قامتا لقمع هذه المظاهرة، وأن المظاهرة
استؤنفت في اليوم التالي. ولما حاصرتها الجنود استعمل رجال الأورطة الحجارة، واخترقوا
خط الحصار دفعتين، وكانوا مسلحين بالنبابيت وقضبان الحديد، وأشعلوا النار في مكاتب
السكة الحديدية، فأطلق الجنود النار لقمع المظاهرة، وأسفر ذلك عن قتل اثنين وإصابة
اثنين ماتا متأثرَين بجراحهما، وإصابة أحد عشر بإصابات خطِرة، وخمسة بجراحٍ خفيفة، وإصابة
غلامين كانا بالثكنة بإصابات خفيفة.»٤٧
شهدت المدن السودانية مظاهرات صاخبة، أقرب إلى ما شهدته مصر في عام ١٩١٩م، شارك في
بعضها طلبة الكلية الحربية، وشرطة السكك الحديدية بعطبرة … إلخ، بالإضافة إلى أعضاء
الجمعيات السياسية المختلفة. وشملت المظاهرات مناطق: عطبرة، بور سودان، شندي، كردفان،
النيل الأزرق، وبقية المديريات. وعندما افتُتح البرلمان المصري في ١٥ مارس ١٩٢٤م، اعتبر
الوطنيون السودانيون ذلك اليوم إجازة عامة، وأُلقيَت الخطب في الأندية المصرية بالخرطوم،
تهتف بحياة «ملك مصر والسودان»، وتندد بالخونة الذين باعوا بلادهم.٤٨ وكان الصبية يرددون في الشوارع «السجن ما يهمنا … سعد باشا عمنا.»٤٩ ويشير محمد نجيب إلى أن الحركة الوطنية داخل الجيش لم تكن مقتصرة على
الخرطوم، لكنها كانت أيضًا في بور سودان التي قامت فيها عدة مظاهرات اشترك فيها الشعب
والجيش. وثارت الكتيبة ١١ السودانية، وحاولت الاتحاد مع الجيش المصري في الخرطوم بحري،
فتعرضت لها قوة بريطانية، ونشب قتال استُشهد فيه قائد الكتيبة الشهيد عبد الفضيل ألمظ،
كما أعدم ثلاثة شهداء، وفُصِل ١٧ ضابطًا سودانيًّا.٥٠ وقد بلغت الأحداث ذروتها في أغسطس ١٩٢٤م، وواجهت السلطات البريطانية الثورة
— أصبحت ثورة بكل المقاييس، بل إنها امتدادٌ فعلي لثورة ١٩١٩م في مصر — بحملة ضارية من
العنف والاعتقالات وأحكام السجن والجلد والفصل. وأدى ذلك العنف إلى نقيض نتائجه؛ فقد
بدأت الحركة الوطنية في السودان أسلوبًا جديدًا من العمل السري، وتكونت الجمعيات السرية
والمعلنة التي تستهدف إزالة الوجود الإنجليزي الاحتلالي في بُعدٍ، وتأكيد وحدة وادي النيل
في بُعدٍ آخر.
وقد حاولت السلطات البريطانية أن تواجه مظاهر العداء لها، فأوعزت إلى بعض عملائها،
فعقدوا اجتماعًا بمنزل عبد الرحمن المهدي في أم درمان، أصدروا — في نهايته — قرارًا جاء
فيه «إن الرأي العام في البلاد مجمع على اختيار الإنجليز ليكونوا أوصياء على الأمة
السودانية، ليعلِّموها كيف تحكم نفسها بنفسها.»٥١ وقد يبدو غريبًا — في ضوء اجتهاداتنا التاريخية المعاصرة — ما أكده صلاح
الشاهد من أن عبد الرحمن المهدي كان من أشد الناس عداوة للإنجليز، وانتصارًا لوحدة وادي
النيل. ولأن علي الميرغني كان خصمًا للمهدي، فقد اعتبر المهدي نصيرًا للإنجليز. وحين
حاول المهدي أن يمدَّ جسورًا بينه وبين فؤاد، وفاروق من بعده؛ فإن الإنجليز أوهموهما
أن
الرجل يطمع في أن يكون ملكًا على السودان!٥٢
هوامش
(١) نقولا ميخائيل التاجي، غرام العذارى، المطبعة الملوكية، ٤٠.
(٢) المصدر السابق.
(٣) لويس عوض، أوراق العمر، مكتبة مدبولي، ٢٣.
(٤) المصدر السابق، ٢٣.
(٥) قصر الشوق، ٣٩٤.
(٦) ثورة مصر ١٩١٩، ١٤٥.
(٧) يونان لبيب رزق، أثر ثورة ١٩١٩ في الحركة الوطنية السودانية، الهلال، نوفمبر
١٩٦١م.
(٨) أوراق العمر، ٢٢٩.
(٩) طارق البشري، المسيحيون العرب والقومية العربية، المستقبل العربي،
٨/ ١٩٨١م.
(١٠) مذكرات محمد نجيب، ١٦١.
(١١) يونان لبيب رزق، الهلال، يناير ١٩٦٨م.
(١٢) المرجع السابق.
(١٣) الشاهد، يناير ١٩٨٨م.
(١٤) أنور السادات، أسرار الثورة المصرية، ١٥٦.
(١٥) عودة الروح، ١: ٧٩.
(١٦) صلاح ذهني، فن القصة في الأدب المصري الحديث، ١٥٠-١٥١.
(١٧) محمود تيمور، فاته القطار، زامر الحي، دار المعارف، ١٩٥٣م.
(١٨) أحمد خيري سعيد، في اللحظة الأخيرة، الفكاهة، ٢٠/ ٢/ ١٩٣٤م.
(١٩) عبد الحميد جودة السحار، نخوة، في الوظيفة، مكتبة مصر.
(٢٠) محمد أمين حسونة، الورد الأبيض، ١٩٣٣م.
(٢١) المصدر السابق.
(٢٢) صراع سعد في أوروبا، ٤٢.
(٢٣) أوراق العمر، ٢٣٢.
(٢٤) آثار الزعيم سعد زغلول، ١٥١.
(٢٥) المرجع السابق، ١٦٣.
(٢٦) المصور، ١/ ٨/ ١٩٨٦م.
(٢٧) تطور فكرة القومية العربية، ٣٧.
(٢٨) أحمد حسين، الحركات الجديدة، ١٠٧.
(٢٩) الطبقة العاملة، ٥.
(٣٠) المسألة المصرية والوفد، ٢٧٥.
(٣١) عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ١٠٤.
(٣٢) الأهرام، ١٩/ ٢/ ١٨٩٢م.
(٣٣) الطبقة العاملة والكفاح المصري السوداني المشترك، ٥.
(٣٤) أوراق العمر، ٢٢٩.
(٣٥) محكمة جنايات مصر، ٥٢.
(٣٦) اليسار المصري، ٢٣.
(٣٧) علي الراعي، دراسات في الرواية المصرية، ١٢٣.
(٣٨) المحاكمة الكبرى، ٢٨٩.
(٣٩) اليسار المصري، ٦٨.
(٤٠) مجلة «الحياة» السودانية، ٢٨/ ٤/ ١٩٥٧م.
(٤١) محمد صدقي، قصة «قيوم»، نسخة خطية تدور أحداثها في ١٩٥١م، وكتبت في
١٩٥٢م.
(٤٢) رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية: ١٩٤٠–١٩٥٠، ٩٥.
(٤٣) الأسرار السياسية، ٨٤.
(٤٤) أسبوعان مع علي ماهر في السودان، ٧٣-٧٤.
(٤٥) الطبقة العاملة، ٦.
(٤٦) الهلال، يناير ١٩٦٨م.
(٤٧) آثار الزعيم سعد زغلول، ٣٢٢-٣٢٣.
(٤٨) يونان لبيب رزق، الهلال، يناير ١٩٦٨م.
(٤٩) «الأيام» السودانية، ١٣/ ١/ ١٩٥٧م.
(٥٠) مذكرات محمد نجيب، ١٤-١٥.
(٥١) الشعر الحديث في السودان، ٣٨٣.
(٥٢) صلاح الشاهد، ذكرياتي في عهدين، ١٩٧.