ثمار مجتمعية لثورة ١٩١٩

إذا كانت ثورة ١٩١٩م قد واجهت ختام قدرها المؤسف في ذلك اليوم من نوفمبر ١٩٢٥م، فإن الثورة أثمرت — في الوقت نفسه — نتائجها الإيجابية التي ربما لا تقف أمام التضحيات التي بذلها الشعب، أو لا تقابل الخسارة الفادحة، بداية من خروج الجيش المصري من السودان، وانتهاءً بخصومة الأحزاب. ولعل في مقدمة تلك النتائج أن الثورة مثَّلت حافزًا دافعًا لثورة الأفغان على الإنجليز في ١٩١٩م، وثورة الأتراك على الإنجليز واليونان والفرنسيين في العام نفسه، وأيضًا ثورة الليبيين على الاستعمار الإيطالي في ١٩١٩م، وثورة العراق على بريطانيا في ١٩٢٠م، وثورة تونس على فرنسا في ١٩٢١م، وثورة سوريا على فرنسا في ١٩٢٥م، وثورة المغرب على فرنسا وإسبانيا في ١٩٢٥م، وتلاحقت ثورات الشعب الفلسطيني في أعوام ١٩٢٩م، ١٩٣٦م، ١٩٣٧م، وأعلن غاندي أن ثورة مصر في ١٩١٩م كانت هي التي شجعت الهند على أن تبدأ حركتها التحررية الكبرى.

وقد حاولت السراي أن تستغل المؤتمر الإسلامي العام الذي عُقد بالقدس في ١٩٣١م، للدعوة إلى تنصيب الملك فؤاد خليفة للعالم الإسلامي، فكتبت الصحف المصرية مقالات وتحقيقات حول الخلافة، ووجوب عودتها، واعتبار القاهرة أصلح مدن العالم الإسلامي لذلك، «والذي يقابل بين مصر والآستانة، ويحكم العقل المنزَّه عن الأغراض في هذه المسألة الإسلامية المهمة، يتضح له أن لمصر مزية دينية سياسية لا توجد في دار الخلافة القديمة، ولا في شرقي الأردن، ولا في بغداد، ولا في الحجاز. فالجامع الأزهر — وهو المدرسة الدينية الكبرى التي طبق ذكرها الآفاق، وعصبة البيت العلوي المحمدي — أقوى من جميع بيوتات الملوك الإسلامية في الشرق. وإذا أوجب أن نلقِّب ملكًا بعد ملوك بني عثمان بخادم الحرمَين الشريفَين، فإنه لا يوجد سوى ملك مصر، الذي ورث هذا اللقب عن أجداده الليوث.»١

•••

كان المجتمع المصري — منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين — يحيا مخاض الثورة الوشيكة، وكما أشرنا فقد امتدت السيطرة الأجنبية إلى كل المجالات، حتى إن سلامة موسى يعبِّر عن نظرة السائر في شوارع القاهرة إلى البناء الإنجليزي، والدكان الفرنسي، والأثاث الإيطالي، حتى ألوان الطعام ليست مصرية، سكلانس!

لذلك فقد عني التجار المصريون — للمرة الأولى — بإيجاد تنظيم نقابي لهم في ١٩٢١م، حين عقد عدد من التجار المصريين اجتماعًا، انتهوا فيه إلى تكوين نقابة (غرفة) تحمي مصالحهم، وتيسِّر معاملاتهم الحكومية، ومع النقابات (الغرف) المماثلة في الخارج، واختاروا مكانًا كأول مقر لغرفة القاهرة التجارية.٢
ومن واقع الإحصاءات، فإن التجارة الداخلية قد ازدهرت منذ العشرينيات من القرن العشرين؛ فقد بلغت جملة المتاجر التي تأسست ما بين ١٩٢٨م و١٩٣٨م، ٦٦٪ من جملة المتاجر المصرية، بينما بلغت النسبة ١٦٫٧٥٪ في الفترة من ١٩١٨م إلى ١٩٢٧م، ٤٪ في الفترة من ١٩٠٨م إلى ١٩١٧م، والباقي وقدره ١١٪ تم تأسيسه في أعوام سابقة.٣ وفي ١٩٢٧م، كتب أحد رؤساء الشركات الأجنبية: «إن معنى إلغاء الامتيازات الأجنبية عند المصريين، هو إرهاق الأجانب بالضرائب، وإبعادهم بقدر المستطاع عن النشاط المالي، ومعناه أيضًا تدخل الحكومات المصرية في أعمال الشركات، وإصرارها على خروج الموظفين الأجانب الأكفاء، وإحلال المصريين مكانهم. ومعنى ذلك: البطالة بين الأجانب، وارتباك الشركات الأجنبية.»٤
والملاحَظ أن وزارة الخارجية لم تكن تفتح أبوابها إلا لأولاد الأعيان، وكانت مشهورة بأنها معقل المحسوبية والوسائط، وأن وظائفها مقصورة على أولاد الأعيان المتحمسين بالأعتاب الملكية، يدخلونها بغير امتحان. وكانت الوزارة تشترط على طالب الوظيفة أن يكتب إقرارًا بأن له إيرادًا خاصًّا لا يقل عن عشرة جنيهات.٥

•••

بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت المرأة تعاني الغياب عن المشاركة في الحياة العامة، وعلى حد تعبير محمد أمين حسونة «فالمرأة وهي العامل المحرك والشعلة التي تلهب قلم الكاتب، ليس لها أدنى نصيب ولا اشتراك في الحركة الأدبية أو الوسط العلمي، ولا هي محتلة صدور المحافل والصالونات الاجتماعية، تدير دفة الحديث كأختها الغربية.»٦ وكانت نسبة الأمية عالية بما لا يتيح قراءً حقيقيين، مما أضر بالفعل على حركة القراء، وحركة النشر بالتالي. أما صورة الإبداع فهي حكايات ألف ليلة وليلة، والمقامات، والقصص المترجمة أو المعرَّبة، وغياب المرأة بصورة حقيقية، وتصنيف القصة بعامة في باب الطرائف والنوادر والسَّمر والفكاهات. وكانت لغة القص تعاني — في غالبيتها — آثار الفهم الشكلي للبلاغة، والمحسنات البديعية، والمترادفات اللفظية، وأسلوب السجع، والحفاوة المطلقة بالتراث. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت النظرة إلى القصة تختلف عن النظرة إلى القصيدة والمقال الاجتماعي أو السياسي؛ فهي لا تُعَد من الأدب الرفيع، بل هي لهو وعبث، شيء يتلهى به الإنسان في أوقات فراغه. ولعلنا نذكر ما أقدم عليه محمد حسين هيكل حين نسب زينب إلى مصري فلاح، فلم يضع اسمه عليها إلا بعد أن أحدثت الرواية ردَّ فعل إيجابيًّا عند القراء والنقاد في آن. أما الصحف التي اتجهت إلى الطبقة المثقفة، فقد اكتفت بالروايات والقصص المترجَمة عن الفرنسية والإنجليزية، دون أن تجد المحاولات القصصية المصرية موضعًا. والملاحَظ أن لغة الصحافة ولغة الأدب قد تخلصت من المحسنات البديعية من طباق وجناس وسجع وترديد.
وإذا كان الشيخ يوسف البقال (الأرض) يمثِّل أحد الأبعاد السلبية التي انتهت إليها عناصر ثورة ١٩١٩م، فقد شارك في الثورة، وعاد إلى القرية — فيما بعد — ليحاول الكسب المادي، أو السياسي، بأية وسيلة. وثمة بُعد مقابل — سلبي كذلك — يتمثَّل في هجرة عدد كبير من أبناء الطبقة البرجوازية الزراعية المصرية إلى العاصمة، واحتلال أكبر عدد من الوظائف الكبيرة في الدولة. وكما يقول فتحي غانم، فقد «لجأت الطبقة البرجوازية الزراعية إلى مجال الوظائف؛ لأنها عجزت عن اقتحام مجالات الصناعة والتجارة التي احتكرها الأجانب المستعمرون.»٧ ومن أيامها، أصبح «الأفندي» مطمحًا لغالبية الفتيات المصريات، وفتيات الأسر المتوسطة بخاصة، يحلمْنَ بالزي الإفرنجي والطربوش الأحمر فوق الرأس، والمنشة، والوظيفة المضمونة، والمرتب الثابت، والهيبة التي تلازم صاحبها أينما حل. أصبحت الوظيفة «الميري» هي مطمح كل الفتيات، وغنَّت المطربة سكينة حسن — تعبيرًا عن مطلب الفتاة المصرية آنذاك — «الأفندي يا نينة أنا حبيته، حيَّاني بوردة وحيِّيته.»٨

•••

كان من أبرز النتائج الاقتصادية التي ارتبطت بالثورة، إنشاء مصلحة التجارة والصناعة في أبريل ١٩٢٠م، للإشراف على الصناعة، وتزويدها بالمساعدات الفنية والتكنولوجية المطلوبة. ثم اتسع نشاط المصلحة، وقدمت إسهامات ملموسة في المجالَين التجاري والصناعي، قبل أن تتحوَّل إلى وزارة للتجارة والصناعة في ١٩٣٤م. وفي ١٩٢٢م قررت الحكومة قبول مبدأ تقديم القروض الصناعية، وأصدرت تعليمات بشراء المنتجات المحلية، حتى لو زادت أثمانها بنسبة معينة، إذا ارتقت — في جودتها ومتانتها — إلى مستوى البضائع المستوردة من الخارج. وفي السنة نفسها، أنشئت جمعية الصناعات بالقطر المصري، كأول تنظيم نقابي للدفاع عن الصناعة. ثم تحوَّلت في ١٩٢٥م إلى الاتحاد المصري للصناعات، من بعض الاقتصاديين المصريين مثل طلعت حرب وإسماعيل صدقي، وبذل الاتحاد جهودًا واضحة لتعديل السياسة الجمركية، وإنشاء وزارة خاصة للتجارة والصناعة.

وكان من نتائج الثورة، قيام حركة نشِطة للإنشاء والتعمير، صاحبها توسُّع في الصناعات المرتبطة بذلك، مثل مواد البناء، وازدهار صناعات حلج القطن وغزله ونسجه، والإعداد لإنشاء مصنع الغزل والنسج في المحلة الكبرى. وبدأ كبار الرأسماليين — الذين كانوا يقصرون جهودهم على شراء الأراضي الزراعية — في استثمار مدخراتهم في التنمية الصناعية، نتيجة لهبوط أسعار الحاصلات الذي امتد لفترة طويلة من ناحية، ولازدياد أرباح المشروعات الصناعية من ناحية أخرى. وأصبح حوالي ٤٠٪ من رءوس أموال الشركات في أيدي المصريين، وكانت تلك النسبة تقرب من الصفر قبل قيام الثورة.٩
وكان عدد كبير من الموظفين قد تحوَّلوا إلى التجارة، وإلى تجارة الأقطان بخاصة، بعد أن حققت أرباحًا طائلة منذ بدايات الحرب العالمية الأولى،١٠ لكن أسعار القطن عانت تدنيًا خطيرًا منذ خريف ١٩٢٠م، وانعكس ذلك في ارتفاع إيجارات الأراضي الزراعية.

لقد عانت الرأسمالية المصرية الناشئة من النفوذ الاقتصادي الأجنبي، وكانت دعوة طلعت حرب في نوفمبر ١٩١١م لإنشاء بنك برءوس أموال مصرية، وإدارة مصرية، تعبيرًا عن ذلك المعنى، وهو المعنى الذي عبَّر عنه طلعت حرب في كتابه «علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين» (١٩١٣م).

كان طلعت حرب عضوًا في حزب الأمة، حزب الجريدة، مع ذلك، فلا ينكر أحد أن هذا الرجل كان أول من مصَّر الاقتصاد المصري.١١ لقد ذكر طلعت حرب في كتابه أنه «ما زالت الحاجة إلى إنشاء مصرف مصري حقيقي يعمل بجانب المصارف الموجودة الآن في مصر، يمد يد المساعدة للمصريين، ويحثهم على الدخول في أبواب الصناعة والتجارة، يحرضهم على الاقتصاد والاستفادة من الأعمال المالية يزداد يومًا بعد يوم، ويؤكد أننا لسنا والحمد لله فقراء في المال، فإن للمصريين في البنوك نقودًا وودائع لا غلة فيها، تكفي من اليوم لأن تكون رأس مال لبنك مصري محترم.»١٢ وحتى الآن، فإن السؤال لا يزال قائمًا: هل كان طلعت حرب هو أول من فكر — بالفعل — في إنشاء بنك مصر، أو أنه تلقف فكرة سبقه إليها آخرون؟ لقد نشرت «اللواء» (٣/ ٦/ ١٩١٢م) نص رسالة من أحمد عرابي إلى عبد السلام المويلحي، يتحدث فيها عن وجوب إنشاء «شركة مالية أهلية، تنقذ أهل الفلاحة من ظلم المرابين، وتجعل الحاصلات في أمن من الضياع وكثرة المصاريف، وترد أرباح البلاد لأهلها، وما برحنا نحدِّث النفس بهذه الأمنية، حتى وقفنا على مشروع بنك وطني مصري، قدَّمه إلينا بعض وجهاء التجارة، فوجدناه وافيًا بالمقصود.»١٣ وثمة رأي أن يوسف نحاس هو الذي دعا إلى إنشاء بنك مصر وليس طلعت حرب، ضمن ٢١ من الأعيان والتجار وذوي المهن الحرة والموظفين، لكن الفكرة تحققت على يدي طلعت حرب، بعد أن عهد إليه المؤتمر المصري الأول عام ١٩١١م بالسفر إلى أوروبا لدراسة أبعاد المشروع، وإمكانيات تنفيذه. وكان محصلة تلك الرحلة تأليف طلعت حرب لكتابه «علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين، أو بنك الأمة».١٤ وفي ٧ مايو ١٩٢٠م أنشأ طلعت حرب، مع زميلَيه أحمد مدحت يكن وفؤاد سلطان، بنك مصر برءوس أموال مصرية. وقال طلعت حرب في حفل تأسيسه إن الهدف هو «أن يكون لنا بجانب البنك الأهلي بنك مصر، نتدارك فيه ما فات لدى تأسيس البنك الأول.»١٥ فقد كان يجب أن يكون البنك الأهلي «أهليًّا بكل معاني الكلمة، أهليًّا في رأسماله، أهليًّا في إدارته، أما في مصر، فإن الأسهم جُعلت لحاملها، وأصبحنا لا ندري في يد مَن هي الآن، أو بعد ساعة.»١٦ وكان أول ما واجهه المشروع الوليد من عقبات، أن أصحاب رءوس الأموال خشوا من فقد أموالهم، واستقبلوا المشروع بمؤامرة صمتٍ غريبة، لكن سواد المواطنين — والشباب بخاصة — قد تحمَّسوا لهذا البنك، وعلت الدعوات للمساهمة في بنك مصر، وكتب مزارع من كفر الزيات اسمه جاد الله القيعي، يعيب على الأغنياء أنهم يفضِّلون وضع أموالهم في بيوتهم، أو في البنوك الأجنبية، بدلًا من أن يضعوها في بنك مصر «فاصحوا أيها الأغنياء، وساعدوا بنك مصر ينفعكم، والسلام على من اتَّبع الهدى.»١٧ وجمع طلعت حرب ٨٠ ألف جنيه كأول رأسمال للبنك، فتمَّت تغطية رأس المال المطلوب في أيام قليلة، وهو ٨٠ ألف جنيه.١٨ وتسابق المصريون بعامة إلى التعامل مع البنك، بل إن اللورد كيلرن يعترف بأن «الإنصاف يقتضينا أن نضيف أن الاحترام الذي يلقاه طلعت حرب، قد قطع مدًى بعيدًا في تعزيز الثقة بين المصريين في هذه المخاطرة.»١٩ أي مخاطرة إنشاء بنك وطني، كان هو المنطلق لنهضة صناعية وطنية، برأسمالٍ وطني، بعد أن كانت غالبية نشاط الممولين المصريين تتجه إلى الزراعة، في مقابل اعتماد النشاط الصناعي — بصورة شبه مطلقة — على رأس المال الأجنبي. ولما كانت الفكرة السائدة أن الشبان المصريين لا يصلحون إلا للوظيفة الحكومية «إن فاتك الميري اتمرَّغ في ترابه» فقد أصر طلعت حرب على ألا يعيِّن في بنك مصر وشركاته إلا المصريين.٢٠ يقول الدكتور إبراهيم عقل (المرايا): «إن رئيس الوزراء يزعم أنه يسعى للحصول على الاستقلال، فلندعه يسع! — وإن فرض علينا معاهدة مثل تصريح ٢٨ فبراير؟ — الاستقلال الحقيقي في المُثل العليا وبنك مصر.»٢١ وكانت الشركات التي أنشأها بنك مصر هي: مطبعة مصر (١٩٢٢م)، شركة مصر لحليج الأقطان (١٩٢٤م)، شركة مصر للنقل والملاحة (١٩٢٥م)، شركة مصر للتمثيل والسينما (١٩٢٥م)، شركة مصر للغزل والنسيج (١٩٢٧م)، شركة مصر لمصايد الأسماك (١٩٢٧م)، شركة مصر لنسج الحرير (١٩٢٧م)، شركة مصر لتصدير القطن (١٩٣٠م)، شركة مصر للطيران (١٩٣٢م)، شركة بيع المصنوعات المصرية (١٩٣٢م)، شركة مصر للتأمين (١٩٣٤م)، شركة مصر للملاحة (١٩٣٤م)، شركة مصر للسياحة (١٩٣٤م)، شركة مصر للغزل والنسج الرفيع (١٩٣٨م)، شركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح (١٩٣٨م)، شركة مصر لصباغي البيضا (١٩٣٨م)، شركة مصر للمناجم والمحاجر (١٩٣٨م)، شركة مصر لصناعة وتجارة الزيوت (١٩٣٨م)، شركة مصر للمستحضرات الطبية (١٩٤٠م)، شركة مصر للحرير الصناعي (١٩٤٦م).
من هنا يمكن تحديد بداية التاريخ الاقتصادي للرأسمالية المصرية بإنشاء بنك مصر،٢٢ فقد كانت مهمته هي أن «يقوم بكل عمليات البنوك، وتشجيع المشروعات الاقتصادية التي تعود بالنفع على البلاد، وإسداء المعونة لها، حتى تقوى على أداء شئونها بنفسها.» مع ذلك، فإلى أوائل الثلاثينيات «كان المنتِج والبائع أجنبيًّا، وكان المستهلك مصريًّا.»٢٣ بالإضافة إلى ذلك، فقد مثَّل بنك مصر معلمًا مهمًّا في مجال استثمارات كبار الملاك، بعيدًا عن مجال تملُّك العقارات، وإن تحدد غالبية تلك الاستثمارات في شراء الأسهم المالية في العديد من الشركات، والتمتع بعضوية مجالس إدارة تلك الشركات.٢٤ واستطاع البنك بعامة أن يلغي أسطورة أن مصر بلد زراعي، من خلال المشروعات الصناعية العديدة التي بدأت في تحقيق نتائجها.٢٥ يقول الدكتور إبراهيم عقل في المرايا: «الاستقلال الحقيقي في المُثُل العليا وبنك مصر.»٢٦ والملاحَظ أن عددًا كبيرًا من المصريين الذين اكتتبوا في البنك، أحجموا عن الحصول على الفائدة، خوفًا من أن يكون لها صفة الربا.٢٧ وفي ١٩٢٧م قُدِّر عدد المشتغلين في الصناعات من الأحداث ﺑ ١٥٪ من مجموع المشتغلين.
وأعدَّت حكومة الوفد قانون بنك التسليف، وأصدرته بالفعل، وهو ما يناقض روايات أخرى، نسبت فكرة إنشاء البنك إلى حكومة إسماعيل صدقي. أعدت حكومة الوفد الدراسات الخاصة بإنشاء البنك في ١٩٣٠م، ثم أصدرت القانون الخاص به، ولما افتُتح البنك في ١٩٣١م، كانت وزارة صدقي في الحكم، فنُسب إليها فضل إنشاء البنك.٢٨
وكان قدوم أول طيار مصري من برلين إلى القاهرة في يناير ١٩٣٠م، مثار اهتمام شديد في الحياة المصرية، وكان مصطفى النحاس باشا في مقدمة مستقبليه. ولعله كان الحافز لتفكير طلعت حرب في تأسيس شركة للنقل الجوي، بل إن فكرة إنشاء شركة مصر للطيران جاءت ثمرة لهذه المناسبة. وكلَّف مدرس اللغة العربية تلاميذه بكتابة موضوع عنوانه «الطيار محمد صدقي، أول طيار مصري سيصل إلى الفيوم بطائرته في الشهر القادم»، وناظر المدرسة يطلب نتائج الامتحان الشهري ليكافئ المتفوقين باصطحابهم لمشاهدة الطائرة، وجريدة «الفيوم» تصف الطائرة بأن لها ذيلًا وأجنحة، واقتصرت كل الأحاديث في الطائرة: هل أجنحتها من الريش؟ بل هي من الحديد! فهل ترفرف؟ وهل تُعَد — كما زعم البعض — من علامات الساعة؟٢٩

البلد

تدور أحداث رواية «البلد» لعباس أحمد، في الأعوام التي أعقبت ثورة ١٩١٩م، وشهدت دخول الآلة في صناعة الغزل والنسج، لتحل محل الأنوال اليدوية. تبين لنا الرواية عن الأثر الذي أحدثته حركة التصنيع الناشئة في واحدة من أهم المدن التي اقتحمتها تلك الحركة بصورة واضحة، وهي المحلة الكبرى. أنشئت شركة المحلة في ١٩٢٧م (العام الذي تُوفي فيه سعد زغلول)، ولاقى طلعت حرب من الصعوبات في استيراد آلات المصانع ما دفعه إلى شراء آلات غزل من إنجلترا باسم خردة!٣٠ وفي المقابل، فقد تعطَّل معظم الأنوال اليدوية، وأقفل الكثير من المصانع الصغيرة، وتكونت طبقة عاملة كان لها تأثيرها في تطورات الأحداث. أصبحت صفارات المصانع هي النبضات التي يتحرك بها قلب البلد، هي التي تحدد حركة البشر والحيوان والأشياء. حتى القطارات واللوريات وعربات الكارو، كلها ترتبط بحركة المصنع. دخلت البلد دنيا الآلة لتحيا — بالتالي — مشكلاتها، وهي مشكلات شملت الجميع، لم تفرِّق بين العمال وأصحاب الشركات، وأصحاب الأنوال اليدوية، بل ولا أسر الموظفين.
لقد عرض البرنس الكبير على واحد من أصحاب الأنوال اليدوية، وهو أبو إسماعيل — قبل أن ينشأ المصنع الكبير بأربع سنوات — أن يعرض أنواله للبيع، ويشتري أرضًا، لكن الرجل رفض: كيف أهجر مهنتي ومهنة آبائي وأجدادي يا برنس؟ خليها على الله!٣١ ثم شيد المصنع الكبير في شرق البلد، فتوقفت الأنوال الواحد بعد الآخر؛ أصبحت مجرد أخشاب، «البدرومات والطوابق الأرضية شاع فيها العطن، والأنوال أصبحت أخشابًا.»٣٢ وبعد أن كان الحاج مسعود يملك في سوق اللبن وحدها أكثر من خمسين نولًا، وكان يحمل في يده عصًا من الأبنوس، رأسها العاجي موشًّى بالذهب، أصبح الرجل يتوكأ على عكاز من فروع الشجر، ويرتدي ثيابًا مهلهلة! لقد توقفت الأنوال، وأصبحت — على حد تعبير أم فكرات — مجرد أخشاب. ويقول الرجل لنفسه: «إن الشيطان نفسه هو الذي جاء إلى شرق البلد. إن أذرع الأنوال هناك تضرب بشدة، وبسرعة، والمكوك لا يتوقف، والأنوال تنسج وحدها، وخيط واحد ينقطع. نور أحمر، تقف الماكينة، العمال يراقبون، يلضمون الخيط المقطوع. يقفون في عنابر من الزجاج. فقط يلضمون الخيط المقطوع. النور الأحمر ينطفئ، الماكينة تدور، المكوك يضرب بشدة، لا أحد يضربه، ضجيج الماكينات أعلى من أي صوت.»٣٣ ويحدِّث الحاج مسعود نفسه في ألمٍ قائلًا: «خلاص! أصبحت كل شيء، كأنني لم أكن على الإطلاق، كأن كل الدنيا كانت سرابًا، كأن سوق اللبن والرجال والأنوال والحج الكبير والطبول والأفراح والمجد والأكل العظمة … كأن كل ذلك أصبح هباء تذروه الرياح.»٣٤ ولم يكن الحاج مسعود — في الحقيقة — سوى واحد من بضع عشرات، ربما وجدوا فرصة العمل في المصنع الكبير، وربما وجدوا الفرصة في أعمال أخرى عديدة (الصداقة بين محمد البرنس، الشاب الثري الذي تخلَّى عن دراسته بمدرسة الحقوق وهو في السنة الثالثة، وإسماعيل مسعود، العامل بمصنع الغزل والنسج بالمحلة، تذكِّرنا بصداقة مماثلة بين حامد الشاب الثري وإبراهيم خولي العزبة في «زينب»).

وإذا كان الإشفاق على عشرات الأيدي التي فقدت الحيلة أمام الأنوال اليدوية، هو ما يملأ النفس في البداية، فإن هذا الشعور ما يلبث أن يذوي حتى يتبدد تمامًا، ليحل — بدلًا منه — شعور آخر مؤكد بأن ضياع الفرصة من بضع عشرات ممن يعتمدون على صناعة النسيج اليدوي، يقابلها إتاحة الفرصة للآلاف من العمال الذين استوعبهم المصنع الكبير، فضلًا عما أحدثه المصنع في البلد من أثرٍ يصعب إغفاله، أو التهوين من قيمته.

أصبح المصنع هو القلب الذي تحركت به البلد، وأصبحت صفاراته هي النبضات التي يتحرك بها قلب البلد، هي التي تحدد حركات الأشياء. حتى القطارات التي تفِد إلى المحلة وتخرج منها، حتى الأشياء عندما تتكدس على العربات الكارو، أو اللوريات، حتى علاقة هذه الأشياء بالناس، وعلاقة الناس بعضهم ببعض.٣٥ واللافت أن غالبية عمال المصنع هم من الفلاحين الذين هجروا حقولهم، وقدِموا إلى المحلة ليديروا آلات النسيج. ولعل الحاج مسعود بالذات كان أقرب — على مستوى الرمز — إلى الماضي الذي يصر على إلغاء الحاضر والمستقبل، حتى يخفق نفسه بيده. فهو يرفض أن تنجب نبوية — زوجة ابنه — الأطفال، ويقسو في معاملة الجميع، وينظر إلى كل النساء — حتى الفتيات الصغيرات — بعينَي الشهوة السلبية، ثم يدفعه اليأس إلى الزواج من امرأة كانت تنشد ظل الرجل، أي رجل، ليسقط — في النهاية — صريعًا بالشلل. لكن الحاضر المتمثل في المصنع كان هو الملاذ الذي لجأت إليه أم فكرات بعد أن غدر بها الرجل العجوز، وكتب البيت لزوجته الجديدة، ولم يكن أمامها إلا عناق اليأس، لولا تلك الفرصة التي أتاحها لها المصنع بالعمل في قسم «الشرابات» بمرتب أربعة جنيهات، فحملت متاعها، وصحبت الأطفال إلى بيت جديد، بعيدًا عن جنون الشيخ وقسوته. وقالت لنفسها إنها يجب ألا تخشى الشركة، يجب ألا تخشى الحاج مسعود، يجب ألا تخشى المكن؛ تخرج من ربقة الحاج مسعود.٣٦ وقد تكشفت لنبوية — في اليوم الأول لعملها — الحياة الجديدة التي تعنيها الشركة؛ تكشَّفت أشياء واضحة، عالم جديد يتناقض تمامًا مع الواقع الذي كانت تحياه صناعة الغزل اليدوي، فأذرع الأنوال تضرب بشدة هائلة، كأنها أذرع مردة مجنونة. لكن العمال يضغطون على أزرار بسيطة فتقف، ويصلحونها، ويعيدون إدارتها من جديد، بلا خوف، وبعضهم يربِّت على القماش الذي يسري بين براثن المكن، كأنه يبثُّه الحب، والنور الكهربائي يشمل المكان، والأصوات المتحدثة تعلو وتهمس وتناقش وتصيح لكي تعلو على أصوات الآلات. وتتذكر أم فكرات الأنوال في البدرومات، في الأركان المظلمة الرطبة، ظهور الناس وقد احدودبت، عيونهم التي ذبلت فيها النظرات، أفواههم التي تلوك كلمات سئمت الإعادة والتكرار والملل. وأحسَّت — أمام ذلك كله — أنها ستتحرر من الحاج مسعود، ستخرج من الوسعاية والصهريج، ستغادر الحاج مسعود إلى الأبد. كل شيء مفتوح أمامها، ويفضي إلى الحركة والعمل،٣٧ وقررت أم فكرات أن تغادر بيت الحاج مسعود إلى الأبد، تأخذ أولادها وتخرج، تذهب إلى الشركة، وفي صدرها بطاقة حمراء، تدل على أنها تعمل في قسم الشرابات.٣٨ تحوَّلت نبوية من زوجة مسالمة إلى عاملة مناضلة، تسعى إلى تأمين حق أبنائها في الحياة المستقرة. طردها الحاج مسعود هي وأبناءها عقب وفاة إسماعيل — ابنه وزوجها — إلى عشة صغيرة فوق سطح البيت. حرصت على عملها في المصنع، ونقلت أبناءها وأثاثها إلى بيت خالتها، وتتصل بالنقابي المنصوري وزملائه من العمال الهاربين.
مع ذلك، فقد حمل المصنع معه ظواهر عديدة، أخطرها — بلا جدال — ذلك الصراع بين الإدارة والعمال، سعيًا وراء تأكيد الحقوق أو استلابها «إننا الذين نصنع كل شيء، نصنع الغزل، ونصنع النسيج، ونصنع في آخر الأمر القماش … ماذا هم يصنعون؟»٣٩ لقد تهرأت الحياة في المصنع بتأثير الصراع، «سأل الباشا برهان بك: كيف تتصرف معهم؟ فقال برهان: كل واحد له سكة يا باشا … واحد ترقِّيه وتعزله، وواحد تعنِّفه، وواحد تجادله وتحبه، وواحد تتخلص منه.»٤٠ ولعلنا نتبين — فيما بعد — وبالذات في رواية إحسان عبد القدوس «شيء في صدري» أن ذلك الأسلوب الذي كانت تمارسه الإدارة في بداية انتشار حركة التصنيع في العشرينيات، كان هو الأسلوب نفسه الذي تمارسه، ربما حتى صدور القوانين الاشتراكية في أول الستينيات. حاولت الإدارة أن تشتري العمال «فيه شلة في قسم الغزل اللي كان بيشتغل فيه إسماعيل مسعود، وأنت تعرف منهم عبد الرزاق المنصوري … عاوزك تصاحبه، وتجيب لي أخباره … تعرف؟»٤١ وتهيَّأت النفوس لأن تقوم — في كل لحظة — مذبحة بين الشركاوية وأهل البلد.٤٢ ثم أقدمت الإدارة على قتل الأصوات المعارضة، ودخلت في معركة صريحة، ضارية، قابلها العمال بتحدٍّ مماثل، فوزَّعوا المنشورات التي تؤكد الحقوق، وتدعو إلى انتزاعها، وأعدُّوا لإضراب قابلته الإدارة بالتضحية المادية، وتعطيل الآلات، بل وحرقها، ثم إلصاق التهمة بالقيادات الثائرة ليتمرد عليها الباقون خوفًا على أرزاقهم، وذلك ما كاد يتحقق فعلًا، وعبَّرت عنه نبوية في صرختها الهامسة: «حرام عليك يا عبد الرازق — زعيم حركة العمال — م تقطعش عيش العيال.»٤٣ لكن عبد الرازق المنصوري تنبَّه — ورفاقه — إلى الخطة المدبَّرة «قد تستطيع إدارة الشركة أن تستمر في ذلك يومًا آخر أو يومين، ويسقط البلد تحت وطأة الجوع، ويستجدي، ويكون البلد قد أصبح على استعداد لأن يفتك بنا … ماذا نفعل؟»٤٤ وأصروا على تشغيل الآلات، وكشف محاولة الإدارة لحرقها، وضرب العمال في أرزاقهم. ويتصدى البوليس لهجوم العمال، وهو هجوم كان يستهدف تشغيل الآلات وليس تدميرها، وتهتف نبوية مع الجموع الصاخبة، الهادرة: «نريد العمل … نريد العمل.»٤٥

•••

بدأت القضايا الاجتماعية تفرض نفسها، إلى جانب قضية الاستقلال وقضايا السياسة بعامة، فعزت (صباح الورد) يقول: «أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضًا الجهل والخرافات.»٤٦ وفي ١٩٢٧م زاد عدد مَن لهم معرفة بالقراءة والكتابة إلى ضعف ما كان عليه في ١٩١٧م؛ بلغت نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة ١٩٧ في الألف بين الرجال، و٤٠ في الألف بين النساء من مجموع السكان. وتسأل السيدة (العم أبو حسن يستقيل) العم أبا حسن: وهل حسن وحسين يصطادان السمك معك؟ يجيب بسرعة: لا والله. عايزين نعلمهم يقروا ويتعلموا، عشان يتعلموا صنعة كويسة!٤٧ وأصبحت عادة كبار الموظفين أن يرسلوا أبناءهم إلى المدارس الأجنبية.
كان من بين جيل أصحاب الابتدائية — آنذاك — رجالٌ مفتولو الشوارب.٤٨ ثم تجاوز الزمن الابتدائية، وأصبحت البكالوريا هي المناسبة.٤٩ يقول إبراهيم شوكت (قصر الشوق): «كانت الابتدائية على أيامنا — ١٨٩٥–١٩١١م — شيئًا عظيمًا، على خلاف الحاصل الآن حيث لا يكاد يقنع بها أحد.»٥٠
لكن بصمات السيطرة الاستعمارية ظلت واضحة في المناهج الوزارية الدراسية، لأعوام عديدة، بعد انتهاء الثورة؛ فقد كان من بين الكتب المقررة لتدريس التاريخ بالمدارس الثانوية كتابٌ يقول إن مصر — منذ ١٨٨٢م — قد دخلت في طورٍ جديد، وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظمى في السير في سبيل تهدئة أحوالها، وتنظيم إدارتها،٥١ وأن «إنجلترا لم تقصد بقاءها بمصر أمدًا طويلًا، بل كانت — على العكس من ذلك — عازمة على الجلاء عنها، بعد أن ترسَّخت قدم الإصلاح فيها، وتخرج من الأزمة التي كانت سببًا في نزول الجيش البريطاني الديار المصرية، غير أنه حدثت أمور ومشاكل عاقت تقدم مصر على الوجه الذي تريده إنجلترا، فاضطرت للبقاء فيها إلى اليوم.»٥٢

وقد ظلت بعض المهن التي كانت تعتمد على تفشي الجهل قائمة، لم تتأثر بالزيادة النسبية في أعداد متعلمي القراءة والكتابة، مثل مهنة الكاتب العمومي — العرضحالجي — الذي كان يحرر شكاوى الناس ورسائلهم، حتى الخاص منها، مثل الأستاذ حسبو (آثار على الشفاه)، والعرضحالجي الذي لجأت إليه ذنوبة ليكتب لها رسائلها الكيدية (عودة الروح). وثمة مهن العرافين والمنجمين والسحرة وغيرها من التي تفيد من تفشي الأمية، كما شحبت مهنة عم رشوان العجوز الذي كان يستخرج الجرادل الغائرة في آبار المياه، يطوف الشوارع والدروب والأزقة وهو يهتف: «نطلع الدلو م البير»، ويناديه كل من قُطِع حبل دلوه فسقط الدلو في البئر الذي يستخرج منه مياه الشرب لبيته.

وفي ١٨٧٣م افتُتحت المدرسة الثانوية كأول مدرسة ابتدائية للبنات، ثم افتتحت مدرسة ثانية في ١٨٩٥م، ولم تُفتَتح مدارس للبنات أخرى بعد ذلك إلا عقب ثورة ١٩١٩م،٥٣ عندما افتُتحت في ١٩٢٠م أول مدرسة ثانوية للبنات، وبلغ عدد التلميذات في السنة الأولى ١٩٢٠م: ٢٨ تلميذة، ١٩٢١م: ٤٤ تلميذة، ١٩٢٢م: ١٢١ تلميذة. وظل الناس — كما يقول الفنان — يتحدثون عن نبوية موسى — أول فتاة مصرية حصلت على الثانوية العامة — «لا لأنها كانت جميلة فاتنة، ولا لأنها كانت جذابة خلابة، ولكن لأنها كانت طامحة مُلحَّة في الطموح.»٥٤ وأصبحت غالبية الأسر المصرية توافق، بل تلح أحيانًا، على تعليم الفتاة، وإن ترددت في مسألة توظيفها.٥٥ وبدأت المرأة في التخلي عن النقاب، ثم عن الحجاب، انطلاقًا من تخلي المجتمع عن الكثير من القيود التي تكبل انطلاقه.
وفتحت الجامعة الأهلية المصرية أبوابها عام ١٩٠٨م، وهو العام التالي لرحيل اللورد كرومر عن مصر، والذي طالما عارض قيام الجامعة بحجج شتى، منها نقص الاعتمادات المالية، وإن كان السبب الذي أخفاه وعرفه الجميع، أنه لم يكن يرحب بتوسيع قاعدة التعليم رأسيًّا، أي يشتمل على المراحل من الأولى إلى الجامعة، والاكتفاء بالتوسع الأفقي المحدود بالمرحلة الأولية. يقول طه حسين: «ذكر اسم الجامعة، فوقع من نفسه أول الأمر موقع الغرابة الغريبة، لأنه لم يسمع هذه الكلمة من قبل، ولم يعرف إلا الجامع الذي كان ينفق فيه بياض النهار وشطرًا من سواد الليل، فما عسى أن تكون الجامعة؟ وما عسى أن يكون الفرق بينها وبين جامعه ذاك، أو جوامعه تلك الكثيرة التي كان يختلف فيها إلى شيوخه؟ فما أكثر ما كان بعض الشيوخ ينأَون بدروسهم وطلابهم عن الأزهر، ويؤثِرون أنفسهم بمسجدٍ من هذه المساجد الكثيرة في الحي، على أنه لم يلبث أن فهم كلمة الجامعة هذه فهمًا مقاربًا، وعرف أنها مدرسة لا كالمدارس، وأحس أن مزيتها الكبرى عنده أن الدروس التي ستُلقى فيها لن تشبه دروس الأزهر من قريب أو بعيد، وأن الطلاب الذين سيختلفون إليها لن يكونوا من المعمَّمين وحدهم، بل سيكون فيهم المطربشون، وعسى أن يكونوا أكثر عددًا من أصحاب العمائم.»٥٦ وكانت جامعة القاهرة تتألف — عند افتتاحها — من مبنيَين اثنين؛ مبنى كلية الآداب — الكلية الأم — ومبنى كلية الحقوق، ثم لحقت بعدهما كلية الطب، فالكليات الأخرى.٥٧ وفي ١٩٢٥م، ضمَّت الحكومة الجامعة المصرية إليها، وأضافت إليها الكليات القائمة من قبل، فضلًا عن إنشاء كلية للعلوم. وفي ٧ فبراير ١٩٢٨م افتُتحت الجامعة المصرية كجامعة رسمية نظامية. وعلى الرغم من أن الجامعة كانت هي أشد الأماكن صلاحية للأفكار الجديدة، بل إنها أصبحت — حقيقة — بؤرة النشاط السياسي والفكري بعد الثورة، فقد كان مجرد ظهور طالب ومعه راديو — ١٩٢٣م — مثار إزعاج وخوف لطلبة دار العلوم؛ فلم يكن الجهاز قد عُرف بعد، وبالمناسبة، فقد أعلن الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية (١٩٢٥م) استنكاره لتلاوة القرآن في الراديو: «وأي استهانة بكلام الله القويم واستخفاف بشأنه، أشنع من نقل ألفاظه الشريفة وآياته المقدسة، بآلات لا تُدار إلا للطرب بالأناشيد الغرامية والمداعبات الفكاهية واللهو بالهُجْر من القول.»٥٨
وبعد أن صدر قانون ١٩٢٣م لتطوير الأزهر، تألَّفت في عام ١٩٢٥م لجنة لإصلاح الأزهر، وحققت اللجنة — بالفعل — خطوات مهمة في هذا السبيل. ولعله يكفي للتدليل على قتامة صورة الحياة في داخل الجامعة الأزهرية، تلك الثورة التي واجهها الشيخ مصطفى عبد الرازق لما بدأ عمله — عقب تعيينه في مشيخة الأزهر عام ١٩٢٧م — بإدخال الكهرباء في الأزهر، وتحريم النوم والطبخ فيه، كان الأزهر — على حد تعبير السيد أبي النجا — معهدًا ومسجدًا ومسكنًا، يتعلم فيه الأزهري، ويصلي، ويعيش (ذكريات عارية). وفصل الأروقة عن المسجد بسد أبوابها من الداخل، وفتحها من الشارع، وتنظيم مواعيد الحصص، بحيث يتأخر الفقه في بعض الأيام عن النحو والحساب، وأبدى أحد مشايخ الأزهر ذعره لأنه رأى بعينيه اللتين سيأكلهما الدود الشيخ المراغي يمشط شعره، فتصور!٥٩

نساء الثورة

على الرغم من سلفية الشيخ محمود أبو العيون، فإنه أشار إلى ظهور المرأة المصرية فجأة في أحداث الثورة «عالية الرأس، بارزة الصدر، واسعة الخُطى، خفاقة الفؤاد، ملوِّحة بيدها في الهواء، منذِرة بالوعيد إن لم يحترم القوم إرادتها. وزجَّت بنفسها بين شباب مصر الناهض، تهتف في الشوارع للحرية الغالية، واقتحمت الأجناد تحت أشعة الشمس المحرقة، وبين صليل السيوف، وقعقعة الحديد، وتلقَّت بصدرها المتفزع سونكي البنادق، مما أدهش العالم جميعًا، وبذلك ارتفعت إلى سماء المجد والشهرة، وسجلت لنفسها صحيفة في سجل الخلود.»٦٠
ولا شك أن سعد زغلول قد قام بدورٍ إيجابي في قضية تحرير المرأة، كان رفع الحجاب أهم النتائج التي حصلت عليها المرأة المصرية على الإطلاق، باعتباره الحلم الذي ناضلت لتحقيقه منذ أقام الحكم العثماني سوره العظيم. فبعد عودة الوفد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي من المؤتمر النسائي الدولي في روما عام ١٩٢٣م، خلعت هدى شعراوي حجابها — للمرة الأولى — أمام الجموع المحتشدة لاستقبال الوفد في الميناء. وحذا أعضاء الوفد الأخريات — سيزا نبراوي ونبوية موسى وغيرهما — والنساء الواقفات في الميناء، حذو هدى شعراوي، لتبدأ أولى الخطوات الإيجابية في تحرير المرأة المصرية لنفسها.٦١
وقد بدأ سعد زغلول خُطبته في فندق سميراميس، في حفل عودته من المنفى بقوله: «سادتي، وأرجو أن أبدأ خِطابي في محفلٍ قريبٍ بقولي سيداتي وسادتي، لأن للمرأة المصرية قسطًا من الفخر في جهاد الأمة.» ثم قرن سعد زغلول الرجاء بالفعل، لما رفض البقاء في سرادق السيدات، في احتفالات العودة من المنفى، إلا إذا أسفرت السيدات المجتمعات لاستقباله. ومد يده ضاحكًا، ورفع الحجاب عن وجه أقرب السيدات إليه، وتبعتها بقية السيدات. وقالت نعمات (صباح الورد) «زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن.»٦٢ وكان ذلك — كما تقول مي زيادة — يوم تحرير المرأة.٦٣

تقول فتحية (فتحية فوق السحاب) لزميلاتها من المتظاهرات في ثورة ١٩١٩: نحن نهتف بالوطن، ونحن نخرج في المظاهرات، والبوليس يقبض علينا ويضربنا … فعلام هذا البرقع؟

ترد عليها إحدى المتظاهرات: نحن الآن نحتفظ بكرامتنا، فإذا خلعنا البراقع هزَّأنا الرجال!

تقول فتحية: لا يمكن لرجلٍ أن يهزئنا ونحن نضحي بأمننا وحياتنا، ونخرج نتحدَّى الاستعمار، ولو فعل، لوجد التعيير من الجميع. وعلينا أن نجعل هذه المعركة مزدوجة، غايتها حرية الوطن وحرية المرأة.٦٤

وحين افتتح أول برلمان مصري في ١٩٢٤م — عقب إعلان الاستقلال — تجمَّع آلاف النسوة، وقد نزعن الحجاب، عند مدخل المجلس، وهن يحملن لافتات كُتِب عليها: نطالب بالمساواة بين الجنسين في التعليم. علِّموا بناتكم، واحترموا حقوق نسائكم. المرأة مقياس رقي الأمم. نطلب منح النساء حق الانتخاب، لا لتعدد الزوجات بلا قيود، نطلب استعادة قناة السويس، ونطلب إلغاء التحفظات على الاستقلال … إلخ.

وكانت حرم جمال بك إسماعيل (صباح الورد) أول امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرة بموافقة زوجها. قالت: «زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن.»٦٥ كذلك كانت الست ميمي (بيت سيئ السمعة) أول امرأة في منشية البكري تُرى سافرة، فلا برقع أبيض ولا أسود.٦٦
وما لبث «الفعل» أن امتد إلى نساء كثيرات، ينتمين إلى طبقات وفئات مختلفة، حتى أصبحت حركة السفور عامة وشاملة.٦٧ وتحققت — في أوائل العشرينيات — مخاوف الحاج أسعد (في قافلة الزمان) من أن يأتي أوان تخرج النساء فيه عرايا، سافرات الوجوه، كاشفات الصدور. وقالت زكية متحسرة: «الله يرحمك يا جدي، تعال وانظر!»٦٨ وكتب محمد توفيق دياب يندد بالحجاب، وأنه أسخف السخف، واحتباسهن المؤبد في طوايا البيوت كبرى الجرائم.٦٩
وطبيعي أن تغيِّر أحداث الثورة من طبيعة المرأة، ومن وضعها، ذلك ما كانت تؤمن به في الأقل حرم اللواء نظيم باشا في رواية محمود طاهر لاشين «حواء بلا آدم»: «فقد تغيَّر الزمن، ودارت الأيام بغير ما يدور في خَلَد الرجال، ولم تعُد المرأة تلك المخلوقةَ الخاضعة الخانعة الناصرة زوجها مخطئًا ومصيبًا. ألم تحمل المرأة علم الثورة إلى جانب الرجل؟ ألم تعرِّض النساء صدورهن بشجاعة لحراب الغاصب؟ ألم يحملن شطرًا باهظًا من مسئوليات النهضة؟ ألم يكن لهن رأي له خطره في المواقف السياسية المختلفة؟»٧٠
وفي مقدمة الظواهر الإيجابية في واقع المرأة، ما جاء تعبيرًا عن رأي لطفي السيد بأنه من الصعب تدارك إحجام الشبان عن الزواج إلا بتعليم البنات، بحيث يقترب مستواهن العقلي والعلمي من مستوى الشبان «حتى يكون الزواج مرجحًا فيه جانب السعادة على جانب الشقاء.»٧١ القول انعكاس لتناول جون ستيوارت من قضية تعليم المرأة من زاوية النتائج الضارة التي يمكن أن تحدثها الصحبة المثمرة لزوجة غير متعلمة، طائشة، وتافهة، على الرجل، حتى لو كانت له في السابق اهتمامات عقلية جادة.٧٢ وكان رأي علي طه أن وظيفة المرأة أخطر شأنًا من عمل الجارية «محال أن أخون مبادئي، أو أن أرضى بحرمان المجتمع عضوًا جميلًا نافعًا مثلك [يقصد إحسان شحاتة].»٧٣ والحق أن الكثير من الآباء لم يكونوا يرفضون تعليم الفتيات بقدر ما غابت في أذهانهم العبرة من هذا التعليم وجدواه. ظل الهدف من التعليم — لفترة طويلة — محدودًا للغاية؛ إنه التمكن من تربية أولاد صالحين. وعندما بلغت حنان مصطفى (المرايا) الثانية عشرة من عمرها، منعها أهلها عن الطريق والمدرسة معًا.٧٤ وفي ١٩٣٨م يقول إبراهيم شوكت (السكرية): أنا أشفق على البنات من جهد الدراسة، ثم إن البنت في النهاية لبيتها.٧٥ وتقول له زنوبة: هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي، أما اليوم فالبنات كلهن يذهبن إلى المدارس.٧٦ وتقول نعيمة (السكرية): وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلَّمن اليوم كالصبيان!٧٧ وتقول نعيمة (السكرية) لأمها: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي في الابتدائية، وستقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا. تقول الأم في امتعاض: لو سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت عليها، ولكنه لم يسمح. وفطنت أمينة لما أوحت به جملة «ولكنه لم يسمح» من الاحتجاج، فقال: جدها له آراؤه التي لا ينزل عنها. ترى أكنت ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من تعب وهي العزيزة الرقيقة التي لا تحتمل التعب. قالت نعيمة: وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلمن اليوم كالصبيان.٧٨ حتى ياسين (السكرية) الذي نال قسطًا من التعليم، لم يتحمس لمواصلة المرأة تعليمها، وكان رأيه — في العام نفسه — أن الفتاة يجب ألا تتعلم أكثر من الابتدائية.٧٩ وكان تعليم الفتيات في المدرسة السَّنية بالمجان، لمواجهة عدم إقبال الأهالي خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والأولى من القرن العشرين على تعليم البنات.٨٠ مع ذلك فقد بلغت نسبة ميزانية تعليم البنات في عام ١٩١٢م، ١٪ من نسبة التعليم العام.٨١
ولا شك أنه من أهم نتائج تعليم المرأة، تخرُّج أول طبيبة مصرية في جامعة لندن، ١٩٢٦م، هي خديجة حفني ناصف، شقيقة باحثة البادية.٨٢ وسفر سعاد فريد وفردوس حلباوي إلى لندن — على نفقة الدولة — (١٩٢٥م) لمتابعة تحصيلهما العلمي هناك. وفي ١٩٢٩م اتخذت الفتاة المصرية مكانها — للمرة الأولى — في كليات الجامعة. كان حدثًا فريدًا عندما دخلت الفتاة — لأول مرة — كلية الآداب «حدث من أكبر الأحداث الاجتماعية في مصر، كان زحفًا في دنيا النهوض والتقدم وتحرير المرأة من الهول الذي عاشت فيه قرونًا وأجيالًا.٨٣ وطبيعي أن ذلك الحدث الكبير لم يتم ببساطة. يقول فكري لآمال (أزهار): «تصوري يا آمال أن طالبات كلية الآداب العشر قد خَلقن جو الحريم الذي تتحدثين عنه، فأصبحن يجلسن بمعزلٍ عنا في قاعة المحاضرات، ومحال علينا أن نقترب من الصف الأول المخصص لهن، ولا تكاد المحاضرة تنتهي حتى يسرعن إلى حجرتهن الخاصة التي لا يجوز الاقتراب منها.»٨٤ وفي أعوام ما حول الحرب العالمية الثانية، حصلت المرأة في عائلة أحمد عبد الجواد (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) على الابتدائية، ونالت أخريات شهادة التوجيهية، بينما استمرت أخريات إلى الجامعة.

•••

في ١٥ مارس ١٩٢٣م أُعلن عن إنشاء الاتحاد النسائي المصري برئاسة هدى شعراوي، بعد أن تركت لجنة الوفد المركزية للسيدات تحت رئاسة وكيلتها السابقة شريفة رياض، وأصبح الاتحاد — عقب تكوينه — فرعًا من الاتحاد النسائي الدولي. وحددت رئيسة الاتحاد هويته بالنأي عن السياسة، لأن اشتغال المرأة بهذه الشئون يجب أن يكون بعد أن تظهر من شأنها في العائلة، ومركزها في المجتمع.٨٥
أما الاتحاد نفسه فقد حدد خمسة مطالب هي: منع تعدد الزوجات دون مبرر، وضع حدٍّ للطلاق دون سبب، حماية المرأة من بيت الطاعة، إطالة مدة حضانة الأبناء بالنسبة للأمهات، ثم: مراعاة الالتزام بالسادسة عشرة، سنًّا أدنى لزواج الفتاة.٨٦ وفي ١٩٢٤م أصدر الاتحاد النسائي، واللجنة التنفيذية للسيدات الوفديات بيانًا مشتركًا، يتضمن بعض المطالب النسائية، ومن بينها تحقيق المساواة بين الجنسين في فرص التعليم، وتعديل القانون لتحصل المرأة على حق الانتخاب، وإصلاح قوانين الزواج لمنع تعدد الزوجات، وعدم التطليق إلا أمام القاضي الشرعي، ومنع زواج الفتاة قبل سن السادسة عشرة، والولد قبل الثامنة عشرة.٨٧ وقد صدر — بالفعل — مرسوم ملكي في ١٩٢٣م برفع سن الزوجة ست عشرة سنة، وسن الزواج إلى ثماني عشرة سنة وقت العقد. وعلى الرغم من الأغنية التي عارضت القانون: أبوها راضي وأنا راضي … ما لك أنت بقى وما لنا يا قاضي، فقد اعتُبر القانون مكسبًا للمرأة المصرية. وللأسف، فقد تحوَّل الاتحاد النسائي المصري إلى نشاط صالونات وبعض الأعمال الخيرية، ثم ما لبث أن خمد تمامًا بعد وفاة مؤسِّسة الاتحاد هدى شعراوي.٨٨
وإذا كان مما يُؤخَذ على طلعت حرب أنه قد عارض «تحرير المرأة»، وردَّ عليه بكتابه «الرد على تحرير المرأة»، فإن الشركات التي أنشأها بنك مصر شهدت المرأة المصرية سافرة، وعاملة، وشهدت المرأة المصرية ممثلة أيضًا في شركة مصر للتمثيل والسينما. كما أن شركة مصر للغزل والنسيج تولت إنتاج ثياب المصريات «ولكنها لا تنتج أحجبة لوجوههن» … والتعبير لمحمود كامل.٨٩ وفي ١٩٢٧م بلغ عدد النسوة اللائي يشتغلن بالصناعة ٤٨٧٦٧ امرأة، منهن ٢١٩٣١ امرأة يشتغلن بصنع ملابس السيدات، ونسبة النساء إلى مجموع المشتغلين بالصناعة ٨٪، وإلى مجموع المشتغلين بالتجارة ٩٫٦٪.

•••

والحق أن الحجاب كان هو عنوان قضية المرأة آنذاك، أما تفصيلات القضية، فتشمل حق المرأة في التعليم، وحقها في العمل، وحقها في مشاركة الرجل في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة. أن تقف في صف الرجل، وموازية له تمامًا! الآية الكريمة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة (البقرة: ٢٢٨) لا تعني عدم تماثل حقوق الزوجين؛ فالدرجة التي يندب الرجال إليها — في اجتهاد الإمام الطبري — هي «الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب له عليها، وأداء كل الواجب لها عليه.» ومن حقوق كلا الزوجين على الآخر: «اللطف، والثقة، وحسن الظن، والتجمُّل، والمشاركة في الهموم، وفي الترويح.»

ومن المؤكد أن شعور الفتاة، وخروجها إلى العمل والمجتمعات، قد أثر في حياتها إلى حدٍّ كبير، إن لم يكن بدَّلها تمامًا. وكان من بواعث التغير أن المرأة كانت لا ترى إلا رجلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته، فإذا رأى غيرها، فإنه لم يكن يرى — في الحقيقة — سوى الثياب التي تتخفَّى فيها. وبعد أن كان الرجل — في نظر المرأة — مثلًا كاملًا، لأنها لا تعرف سواه، أصبحت تطلع على حياة غيره وتفاضِل. لكن الحجاب كان يحُول بين المرأة وفهم الرجل الذي تهم بأن تعاشره. فلما أصبح الحجاب أثرًا ماضيًا، صارت الفرصة متاحة أمام الفتاة لكي تختبر هذا الذي سيقاسمها السنوات الأعظم من حياتها.٩٠ اختفى الحجاب شيئًا فشيئًا؛ حل محله رباط للرأس ملفوف في شبه عمامة سوداء مزركشة، ثم ما لبث هذا الغطاء أن اختفى، وتهدل الشعر على الكتفَين مثلما تفعل الأوروبيات. ويقول الفنان: «والحق أنه لم تمضِ شهور من قيام ثورة ١٩١٩م حتى تحقق الحلم؛ فكانت الفتيات يخرجن سافرات، ولكن مع انحناءة الاعتذار باتخاذ الحَبَرة. وكانت هذه الحَبَرة شيئًا عجيبًا، ملاءة سوداء، لامعة، ينفخها الهواء من أعلى فتنسخ القامة. على أن الحَبَرة لم تعِش طويلًا، لأنها بعد زوال البرقع فقدت تناسقها، وشرعت السيدات منذ ١٩٢٠م يتخذن المعاطف بدلًا منها.»٩١ وفي أواخر الثلاثينيات، أصبحت الموضة هي عدم ارتداء السيدات للجوارب.٩٢ ويتذكر الفنان (من النافذة) أيام كانت الفتاة تُجبَر على ارتداء الحَبَرة القديمة اللماعة، والنقاب الأبيض «كأن الثياب لم تكن سترًا كافيًا.»٩٣ وثمة رأي — أوائل الثلاثينيات — للشيخ محمود أبو العيون — وقد عُرف بسلفية اجتهاداته — أشار فيه إلى أنه لم يعترض على سفور المرأة، بمعنى سفور الوجه «تغشى دُور العلم، وتشارك الرجل في خدمة الإنسانية.» ويقول «فاحتملنا ذلك، ووجدنا له في الدين والواقع تخريجًا.»
كلمات مهمة جدًّا، حتى الشيخ أبو العيون، الذي نال شهرته من معاداته لقضايا المرأة، وجد في الدين والواقع تخريجًا لكي تصبح المرأة سافرة الوجه، وتشارك في الحياة العامة.٩٤
وفي تقدير الحكيم أن سفور المرأة في مصر قد سبق سفور الأديب؛ ثمة الكثير من الأعمال الأدبية الحديثة حبيسة، تفوح منها رائحة الحجرات المغلقة، فهو أدب صناعة، وأدب علب محفوظة، بينما الأدب الحقيقي هو أدب الهواء الطلق، أدب التعبير عما في أعماق النفس.٩٥ وبصرف النظر عن القول بأن شامية عيسى عبيد هي التي أتاحت له الحديث عن المرأة، أو أن المرأة في قصص عبيد تأثَّرت مباشرة بثقافته الغربية، واطلاعه على الأدب الغربي الذي تدور القصص فيه حول المرأة.٩٦ بصرف النظر عن هذين الرأيين، فإننا نجد في قصص عيسى عبيد تعبيرًا عن تغيُّر النظرة إلى وضع المرأة؛ فهو لم يجعل من المرأة محورًا لقصصه فحسب، وإنما اقتحم عالمها بما لم يقدِم عليه كاتب من قبل، فأبطال قصصه جميعًا من الفتيات، وعناوين غالبية قصصه اتخذت أسماء نسائية كإحسان هانم وثريا، وهو يؤكد أنه استمد موضوعات قصصه من عالم المرأة، ويشكر «حضرات الأوانس والسيدات الفاضلات اللواتي شجعننا برقيق عباراتهن وعذوبة وسائلهن.»٩٧ ولا يخلو من دلالة، وصف الفنان لثريا بأنها «ككل الفتيات العصريات، مالكة زمام عواطفها، تسيِّرها كما تشاء أغراضها. وطالما كانت تتباهى بأن الفتاة العصرية هي التي تخدع الشاب بتظاهرها له بالحب الكاذب، قبل أن تتركه يخدعها بتكلفة الغرام والهيام.»٩٨ بل إن الفنان يتحدث عن الشبان والفتيات في «دور التمثيل ومعاهد السينما»: شاب يجالس فتاة، ويسر في أذنيها أنشودة الشباب الخالدة!٩٩ ويضيف الفنان أن «التخالط الجنسي على ما فيه من العيوب، يساعد المرأة على فهم الحياة، وحقيقة الرجل وأمياله — ميوله — الغامضة الخفية، ويقضي عادة على سذاجتها وملكة خيالها التي تزين للفتاة الحب، وتطليه لها بالألوان الزاهية الخلابة.»١٠٠ أتى اليوم الذي تعشق فيه الفتاة موظفًا بسيطًا، وتصر على الزواج منه، رغم معارضة أسرتها، وتحقق إصرارها بالفعل.١٠١ وتقول الأم لابنتها في أسًى (الشيخ جمعة): «سنك اليوم بلغ السادسة والعشرين ولم تتزوجي بعد، يا لَلمصيبة، سوف تمضين حياتك وأنت عذراء!» الفنان نفسه يصف تلك السن بأنها «سن اليأس للفتيات المتطلعات للزواج والمستقبل السعيد.»١٠٢ ويصف الفنان هدى — عند بلوغها الثانية والثلاثين — بأنها بلغت «سن اليأس القاتل للفتيات المتطلعات للزواج.»١٠٣ لكن ثريا تقول: «الفتاة في عصرنا لا تتزوج قبل الخامسة والعشرين أو الثلاثين، لما تدرك جيدًا مصلحتها؛ الدنيا تغيرت وتمدنت.»١٠٤ ويصف الفنان عايدة (قصر الشوق) بأنها «لم تتلقَّ تربية شرقية خالصة، حتى تُطالَب بالمحافظة على التقاليد، أو تُؤاخَذ على الخروج عليها.»١٠٥ بل إنه لم يعُد من العيب أن يعلم الآباء أبناءهم أن الرجل والمرأة — ما لم يتحابا — لا يجوز أن يتعايشا.١٠٦ وفي المقابل من الثنائي أحمد عبد الجواد وأمينة، كان عبد الحميد بك شداد وحرمه لا سيد ولا مسود، وإنما صديقان متساويان، يتحدثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، فإذا بلغا السيارة تنحَّى الرجل حتى تركب المرأة أولًا.١٠٧ وتمتعت كريمة هانم (صباح الورد) بقدرٍ لا يُستهان به من الحرية، فكانت تصحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وإن عاب البعض ذلك، فهو يقول: جمال بك — الزوج — أسد علينا، ولكنه نعامة أمام زوجته، فيرافقها إلى السينما والمسرح.١٠٨ ويتحدث الراوي عن ظاهرة جديدة، لم تكن موجودة في الحياة المصرية من قبل، وهي خروج نساء مصريات في المتنزهات والضواحي، بل وفي شوارع القاهرة، «يصاحبن رجالًا من الفرنجة.»١٠٩ ويخاطب الراوي هؤلاء النسوة بقوله: إننا نضن بما أودع فؤاد المرأة المصرية من الرقة والعطف أن يدخر لغير أبناء مصر. وإذا كان نساؤنا يشعرن بالحاجة إلى العشق، فإن رجالنا إليه أحوج، وهم به أجدر. وإنَّا لنكره أن يحق على أولئك الراغبات من بنات جنسهن المثل العامي: فلان زي النخلة العرجة ترمي برة.١١٠ ومع أن جبر بك السيد (السراب) كان يتمتع بوظيفة محترمة، فإنه كان من الأزواج المطيعين، وكانت زوجته هي الآمرة الناهية في البيت.١١١ وقد رفضت عواطف (الباب الذهبي) في الثلاثينيات أن «تليِّف» لزوجها ظهره عند دخوله الحمام، وأن تغسل قدميه عند عودته من الديوان، وأرغمته على ارتداء البيجاما بدلًا من الجلباب، وتفصيل بدل ذات بنطلونات فضفاضة على أحدث طراز.١١٢ أما الفنان (من النافذة) فهو يذهب إلى أن المرأة الأجنبية وحدها هي التي تجاسر، فتنزل إلى الطريق. ويتساءل الفنان: «ومن أين تجيء المصرية، وهي لا تخرج إلا لقضاء حاجة، أو زيارة سينما، أو نحو ذلك، ولا تحسن أن تقضي ساعات الراحة، أو يومها، أو أيامها إلا في بيتها، وفي مباذلها؟ ومن المصريات من لسن كذلك، ولكن هؤلاء نادرات، والنادر لا حكم له، ولا قياس عليه.»١١٣ لكن أفراد أسرة شداد كانوا يشربون البيرة، ويأكلون لحم الخنزير. ويقول حسين شداد ضاحكًا: «أليس غريبًا ألا نعرف عن ديننا شيئًا ذا بال؟ لم يكن عند بابا أو ماما معلومات تستحق الذكر، وكانت مربيتنا يونانية، وعايدة تعرف عن المسيحية وطقوسها أكثر مما تعرف عن الإسلام.»١١٤

•••

إذا كانت الفتاة المصرية قد أسفرت، فإنها كانت لا تزال محجبة نفسيًّا واجتماعيًّا. فعلى الرغم من الخطوات التي قطعتها المرأة المصرية في درب تحريرها — عقب الثورة — فإن بعض الأصوات ارتفعت تنعى تلك الحرية التي أسفرت عن نقيض النتائج المتوخاة، «فلا معنى لأن نكذب نفوسنا، أو نخدع أبصارنا، وفي كل يوم نرى أثر الإفلاس الخُلقي يظهر كالقرحة الدامية في وجه هدوئنا وسكينتنا، ويمرح بيننا في ثوب كان لا يضم غير الطهارة والصون، فإذا به لا يتسع لغير الرذيلة.»١١٥ بل إنه عندما نزعت هدى شعراوي الحجاب، قامت ضدها حملة عنيفة، اتهمتها في عِرضها.١١٦ لقد تربَّت المرأة ونشأت على عشرات القيم والعادات والتقاليد، قابلها سماع وقراءة ومشاهدة في وسائل الإعلام والثقافة المختلفة، عن العلاقات العاطفية والجنسية التي تتم بين أطراف متكافئة. وكان ذلك التناقض بين الموروث والواقع مبعثًا لحيرة دارت في دوامتها غالبية فتيات الطبقة الوسطى اللائي أتيحت لهن فرص الدراسة والعمل. فالزوج — في الأحلام — فارس يمتطي جوادًا، والزوج — في الواقع — موظف مستور، يسبق طلبه يد فتاته مساعي الخاطبة، أو مجيء أفراد أسرته للمعاينة وإبداء الرأي. والواقع أن الشاب المصري كان يساعد على استمرارية تلك الحيرة، بسعيه إلى إقامة علاقة، فإذا أراد الزواج تزوج من فتاة أخرى، لأنه — في أعماقه — يرفض التحرر إلا فيما يتصل بالعلاقة العابرة، وإن طالت. أما العلاقة الأسرية فإنه يلجأ — لإقامتها — إلى كل القيم والتقاليد والعادات الموروثة! كان رأي نظيم باشا (حواء بلا آدم) أن المرأة — أيًّا يكن مستواها، ومهما يكن علمها — ناقصة عقلًا وحنكة وتجربة، والواجب عليها شرعًا ولياقة، أن تنصاع إلى الرجل لا أن تجري في رعونة وراء عواطفها.»١١٧ ومع أن علوية (السكرية) أظهرت التحرر بالاختلاط مع الطلاب والأساتذة، فإن تحررها لم يجاوز الظاهر؛ أصرت كعايدة (قصر الشوق) التي تنتمي إلى جيل سابق، على الزواج من شخص ثري!
لقد ظهرت المرأة على المسرح الإيطالي — للمرة الأولى — في القرن السادس عشر، وعلى المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر، وعلى المسرح الإنجليزي في عهد الملك شارل الثاني.١١٨ لكن الرجل كان يؤدي دور المرأة — على المسرح المصري — لندرة العنصر النسائي، أو لانعدامه، إلى ما بعد ثورة ١٩١٩م. كان رأي فكري أباظة — ممثلًا لكُتاب كثيرين — أن فكرة تمثيل النساء سابقة جدًّا لأوانها، وربما لا يحل لها أوان، في هذا الزمان. وجدير بالسيدات أن يتشاغلن بالموضات عن الانتخابات، وبالتفصيل عن التمثيل.١١٩ ومن رائدات التمثيل في المسرح: روز اليوسف، دولت أبيض، فردوس حسن، زينب صدقي، فيكتوريا موسى، أمينة رزق. ولأن روز اليوسف كانت ممثلة، قبل أن تنتقل إلى الصحافة، فقد أبيح لها — كما يقول إحسان عبد القدوس — أن تزور ابنها في البيت لتراه، لكن سيدات الأسرة لا يزرنها، ولا تُدعى في يوم المقابلة الذي تتزاور فيه سيدات الأسرة.١٢٠
ثمة الكثير من الأسر كانت لا تجد في تعليم البنات فائدة تُذكَر؛ فالفتاة موضعها البيت، تلم بشئونه، وتعلم جانبًا من أمر دينها، بعيدًا عن حشو الذهن بالأفكار المقلقة للإيمان.١٢١ ولعل النظرة إلى المرأة تبلغ ذروة قتامتها في ذلك الخاطب الذي تقدم يطلب فتاة من ذويها. وكان رأيه الذي أعلنه — في صراحة وقحة — أن النساء لم يخلقن إلا ليطبخن ويلدن، وأن المرأة عنده لا تساوي شيئًا، وأنها آلة لإخراج أشياء حية! وطبيعي أن طلب الشاب قوبل بالرفض!١٢٢
والمفروض أن الحب هو النافذة التي يطل منها الحبيبان على حياتهما الجديدة، لكن الحب — في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات — كان هو الباب الأهم المغلق الذي يحول بين العاشقين، حتى وإن كانا يمتَّان لبعضهما من قبل بصلة قرابة أو صداقة، ذلك ما أحسَّت به شوشو.١٢٣ وكان الحب بعيدًا — بدرجة كبيرة «عن التهتك والابتذال اللذين صرعاه أخيرًا، وأورداه الإباحية والجنون.»١٢٤ أما لقاءات الشابين وصفي وسهير في قصر على النيل، فقد كانت هي السبب المباشر لأن يتخلى عن التفكير في التقدم لخطبتها.

ويبين وضع المرأة عن بُعدٍ سلبي في مفاجأة الحوذي الأسطى محمود (مذكرات عربجي) — ذات يوم — بمطالبة سيدة أن يذهب بها إلى «تيرو» روض الفرج: «التيرو؟ أقسم لك — أيها القارئ — أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية قائلًا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟

– شيء غريب، على التيرو، أنت مبتسمعش؟!

والله ما كان يخطر لي على بال أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم. إنه يقصد سيداتنا عمدًا، مع توفر سوء القصد والنية، وفي عصرية من رمضان، هذه البؤر التي أولها «أونطة»، وآخرها «موت وخراب ديار»، مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار يسدل الستار — أخيرًا — على بيع و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.١٢٥
وفي مؤتمر عن حقوق المرأة السياسية في الإسلام (١٩٥٢م) أكد محمد يوسف موسى أن الديمقراطية والمساواة لا تعني أن يحصل الجميع على ما يريدون، على حساب العقيدة أو المصلحة العامة. فإذا كانت المساواة مطلَقة فستتحوَّل إلى اضطهاد، وإلى معارك كلامية، حيث لم يُخلَق البشر متساوين في بِنيتهم ومواهبهم وقدراتهم وكفاءاتهم.١٢٦
ونحن نلحظ أن نسبة المتعلمين — في أواسط الأربعينيات — كانت ٢٠٪ من مجموع المواطنين، نسبة المرأة فيها ٢٪ فقط، أي أن نسبة الأمية بين النساء ٩٦٪، وبين الرجال ٦٤٪.١٢٧ كانت المقولة المفضَّلة لأسر الطبقة الوسطى هي «علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط.» حتى لطفي السيد الذي كان يؤمن بأن تعليم الفتاة هو الجسر الصلب الذي تعبره إلى بيت الزوجية،١٢٨ فإن مساواة المرأة والرجل كان ينبغي ألا تجاوز — في تقديره — المساواة في حق التعليم. «أما مساواة الرجل والمرأة في حقوق الانتخاب والتوظف، فإن نساءنا — بارك الله لهن — لم يطلبن بعدُ مثل هذه المطالب المقلقة للراحة العمومية!»١٢٩

•••

لم تحدث «الرجة» التي أحدثتها صفعة نورا للباب في مسرحية «بيت الدمية»، بالإضافة إلى أن كل الأعمال الإبداعية العربية — منذ نشأة الرواية والقصة بمفهومهما الحديث — خلت من تلك الصفعة التي نبهت بها مسرحية إبسن مجتمعات الغرب إلى وضع المرأة آنذاك.١٣٠ يشير الفنان (حمار الحكيم) إلى نجاح دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، فقد كسرت المرأة قيودها المادية، لكنها ظلت ترزح في قيد آخر هو السجن الروحي «إنها في شبه حريم معنوي لا تكاد تحسُّه، لأن مداركها المعنوية ما زالت قاصرة. إن الحب الرفيع مجهول، لا عند نساء الريف وحدهن، بل عند نساء المدن المتعلمات أيضًا، لأن روح الجواري البيض كاملًا ما زال في هؤلاء وأولئك على السواء.»١٣١ ويقول الراوي (في الطريق): «المجتمع المصري عرف السفور، ولكنه لا يزال بعيدًا عن الحياة الاجتماعية التي تجعل السفور ذا معنًى وفائدة.»١٣٢
وحتى العام ١٩٣٠م فإن الفنان (العاطفة) يطرح قضية عدم اختيار أحد الزوجين للآخر. حسن وحسين «يؤمنان بالسفور والحياة العصرية، لكن ليس في تبذل وإسفاف كما يفعل الأوروبيون.» وقالا: إلى الزواج. وقال حسن: نعم، فلنتزوج، فسوف نحب زوجتينا، وسوف نخرجهما سافرتين. وقال حسين: نعم، وسوف تمتزج أنت وأنا، وسوف يخرج كلانا مع زوجته إلى المنتزهات والسينما ونحيا حياة عصرية. وأصرَّا — في البداية — على رؤية الفتاة التي ينوي كلٌّ منهما أن يتقدم لخطبتها، لكن الأهل رفضوا بإصرار، وقالت كل العائلات: نحن أرفع من هذا. ورضخ الشابان — أخيرًا — وتزوجا فتاتين لم يتعرفا إليهما إلا ليلة الزفاف، ليبينا — بمرور الوقت — أن زوجة الآخر كانت هي الأصلح له، وهي الأقرب لوجدانه وعقله وميوله، ويقرران — نكتة ساذجة! — عقد مبادلة، فيزوج كل منهما زوجه إلى الآخر. ويدافع الفنان — مسبقًا — ضد الاتهام الذي يمكن أن يواجهه، بقصور النظر إلى المرأة، فكل زوجة أحبَّت صديق زوجها بالفعل، وأصبح التبادل أمرًا ملحًّا.١٣٣
وعندما طلب الأب (أمواج ولا شاطئ) أن يسأل ابنته عن موافقتها على الزواج، قال طالب الزواج: لطيفة هذه النكتة، لم يبقَ إلا أن نسأل البنات!١٣٤ ويضيف الراوي: «ومتى استطاعت الفتيات أن يخالفن عن أمر الإخوة والأمهات.»١٣٥
وكان رأي زكريا (الشارع الجديد) أن «زواج الحب لا يدوم.» وحتى عام ١٩٣٠م، كان يحيى حقي يدعو إلى تناول تأثير اختفاء المرأة على المجتمع وأخلاقه «وهذه مهمة ليست قليلة الخطر.»١٣٦ كانت الفتاة المصرية قد أسفرت، لكنها كانت لا تزال محجبة نفسيًّا واجتماعيًّا؛ فالشاب — على سبيل المثال — يقبِل على ممارسة حرياته على نحوٍ مطلق، ولا يتصور أن أخته يمكن أن تمارس حريتها بالقدر نفسه، أو بالقليل منه. كان الوقوف في الشرفات حينذاك محرمًا على البنات إلا إذا وقفن يشيعن ميتًا من أهل البيت، أو يستقبلن عروسًا وافدة، أو إذا كان في الطريق حادث، أو مناسبة تستحق المشاهدة.١٣٧ وعلى الرغم من الخطوات التي قطعتها المرأة المصرية في درب تحريرها — عقب الثورة — فإن بعض الأصوات ارتفعت تنعى تلك الحرية التي أسفرت عن نقيض النتائج المتوخاة، «فلا معنًى لأن نكذب نفوسنا، أو نخدع أبصارنا. وفي كل يوم نرى أثر الإفلاس الخلقي يظهر كالقرحة الدامية في وجه هدوئنا وسكينتنا، ويمرح بيننا في ثوب كان لا يضم غير الطهارة والصون، فإذا به لا يتسع لغير الرذيلة.»١٣٨ وعندما بعث الدكتور الكرماني (أزهار) بابنته إلى إنجلترا، هاجت الدنيا لأنه بعث بالفتاة إلى بلاد الكفار!١٣٩ وفي ١٩٣٢م، قدَّم المعارضون استجوابًا في مجلس النواب، بدأ بشكر وزير المعارف على «موقفه في رعاية العلم والدين وتقاليد البلاد. وقد بدأ ذلك فعلًا، فأغلق معهد التمثيل والرقص التوقيعي الذي كان لوجوده مساس بآدابنا العامة وتقاليد الدين.»١٤٠ ويقول الفنان (حمار الحكيم) لصاحبه: «أرأيت حرم الباشا وحرم البك؟ تركن عملهن هنا، عمل السيدات، وأقمن في القاهرة ليذهبن كل ليلة إلى السينما، هذا ما عملته نساؤنا اليوم بعد أن خرجن من قفص الجواري البيض!»١٤١ لقد «أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور.»١٤٢ ويتحدث الفنان (السكرية) عن بنات اليوم (١٩٣٥م) اللائي زحمن الشوارع، فضعفت الثقة بهن. ويقول: ألم تسمعوا الشيخ حسنين وهو يغني «يا ما نشوف حاجات تجنن، البيه والهانم عند مزين؟»١٤٣ يضيف الفنان (الرباط المقدس) أن الكثير من البنات عُرف عنهن ما يُعد فضيحة في نظر الأمهات والعمات، مثل الخفة في السلوك، والمغالاة في الملبس والمظهر والتحرر، إلى حد قبول مغازلة الشبان في الطريق، أو في التليفون.١٤٤ وفي مسرحية «المرأة الجديدة» يقول سليمان: «وهو الرجل يقدر يلاقي صديق بالمعنى الصحيح غير المرأة؟ أنهي صاحب ولا صديق بس إن قلت هات، يكبش ويديني إلا إذا كان امرأة. إن احتجت أو اتزنقت تعطيني في الحال إسورة، كردان، ولا جوز حلقان؟ هي المرأة ما فيش غيرها! فتش عن المرأة!»١٤٥

المجتمع في مرآة الثورة

تواصلت احتفالات أبناء مدن القناة ضد اللنبي، منذ تلك الأيام المفعمة بالثورة والعنف؛ فهم يصنعون — ليلة شم النسيم — دمية يرمزون بها لكل شيء يكرهونه، مثلما كرهوا اللنبي من قبل، ويشعلون النار فيها.١٤٦ واحتفل بتأسيس مدينة بور فؤاد في ديسمبر ١٩٢٦م، وانتشرت بين الشباب موضة رباط الرقبة الأخضر المزدان بالهلال والنجوم. ووقِّعت في ١٩٢٥م اتفاقية، سلمت مصر واحة جغبوب لليبيا — أو لوبيا كما كانت تُسمَّى آنذاك — مما كان محلًّا لعدم رضاء عموم المصريين.١٤٧ في يوم السبت ٢٦ يونيو ١٩٢٦م حدث زلزال هائل «لم يشهد له المصريون مثيلًا.»١٤٨ ترك الناس بيوتهم قاصدين الخلاء والميادين الفسيحة.١٤٩
وقد دفعت رغبة عدد كبير من شباب الثورة للتعبير عن آرائهم في الصحف، إلى العمل كمحررين بالشهادة الجامعية، وكانت تلك ظاهرة جديدة، بعد أن كان رؤساء التحرير وحدهم من حملة الشهادات العليا.١٥٠ وكان سالم جبر الكاتب بجريدة «كوكب الشرق» (المرايا) من غلاة المتحمسين للحضارة والاستقلال الاقتصادي وتحرير المرأة، ودعا إلى اتخاذ القبعة غطاء للرأس بدلًا من الطربوش.١٥١ وعندما أخبر يوسف السويفي (الرجل الذي فقد ظله) والده بنبأ تعيينه محررًا في «الأيام»، قال الرجل في حسرة: بقى تاخد الليسانس علشان تشتغل جرنالجي؟! ولم يتخلَّ عن تحسره إلا بعد أن قال له يوسف: ح يدوني تلاتين جنيه!١٥٢ والصحافة — في نظر غالبية المصريين — هي — بأبسط عبارة — شكوى يوضع تحتها اسم صاحبها وصورته، ويجري وراءها عند الحكومة!١٥٣ ويقول محمد ناجي (الرجل الذي فقد ظله) لسامية في بساطة: «الصحفيين نصابين! حتى أنا … أيوه. … أنا نصاب … أنتِ عارفة يعني إيه نصب؟ دي موهبة … حاجة مش سهلة إنك تلغي مشاعرك الحقيقية … تلغي أفكارك الحقيقية … وتظهري للناس بالمظهر اللي هم عايزينه … تخليهم يعيطوا وأنتِ في قلبك بتضحكي … تخليهم يثوروا من غير ما يعرفوا هم ثايرين ليه!»١٥٤ ولما قدِم سيد زهير (أنا الشعب) إلى القاهرة للعمل في صحيفة يومية، قال له الشيخ مصطفى، أول مَن التقى به من أبناء القاهرة: «اسمع نصيحتي ولا تشتغل في الجرائد، كلام فارغ، كل جريدة تشتم الأخرى، وكل كاتب يقول للآخرين: أيها اللصوص … أيها الخونة … يعني أن الجميع لصوص وخونة!»١٥٥ ولعلنا نستطيع تبين الأسلوب الذي كانت تصدر به تلك المجلات التي تُحرَّر وتُطبَع في الشوارع الخلفية، من خلال الأسئلة التي كان يوجهها الأستاذ التهامي صاحب المجلة إلى البدوي السيد المحرر الوحيد في المجلة: هل ترجمت كذا؟ هل صححت التجربة؟ هل قابلت فلانًا؟ هل ذهبت إلى البنك؟ هل أعطيت فكري الصغير دروسه؟ هل النظافة في المجلة على ما يرام؟١٥٦ لم يكن الأستاذ التهامي ينتمي إلى حزب، كان ينتمي إلى مصالحه وحدها.١٥٧ وعندما اشترى صلاح النجومي «المجلة الجديدة»، وقرر أن يصدرها، حذَّره البدوي السيد: «ما دمت قد رفضت مقدمًا أن يتبنى مجلتك أمير أو نبيل أو حزب، فعليك أن تقدِّر وزن المخاطر!»١٥٨ لكن بعض الآراء — طه النجومي مثلًا — كانت تتساءل: «ماذا تفعل كلمات كُتبَت في جرائد يُلمَّع بها زجاج النوافذ في المدن ومصابيح الجاز في الريف؟!»١٥٩
وبعد أن كان الطب مقصورًا — أو يكاد — على الأسماء الأجنبية، ظهرت أسماء: علي إبراهيم، سليمان عزمي، محمد صبحي، علي رامز، إبراهيم فهمي المنياوي، جورجي صبحي، نجيب محفوظ، وغيرهم … وكان موقف أعداد من المصريين إزاء الأطباء هو الرفض «حكيم؟! هم يا ختي الحكما بيعرفوا حاجة؟ دانا ما خليت شيء إلا ما جربته، يا ما وصفوا لي يا ختي! ربنا هو العالم.»١٦٠ ولأن الطب النفسي كان جديدًا على الحياة المصرية، فقد ارتاب الأب حين عرض عليه أحد الأصدقاء أن يعرض ابنه المريض بمرضٍ غامضٍ على طبيب نفسي.١٦١ وكان الرجل الذي زلزل حياة كامل رؤبة لاظ (السراب) طبيبًا نفسيًّا، افتتح عيادة حديثة، كان كامل من أوائل المترددين عليها. كما ظهر — في العلوم والإنسانيات المختلفة — علي مصطفى مشرفة، أحمد رياض ترك، محمد عوض محمد، شفيق غربال، وغيرهم.

وقد غابت — أو كادت — بعض الصور من التي تعرفنا إليها — قبل خمسة أعوام — في «بين القصرين»، مثل الحنطور الذي كان يقل أحمد عبد الجواد إلى البيت؛ بدأ في التراجع أمام لجوء أبناء القاهرة، وبالذات أمام أبناء الطبقة الوسطى فما فوقها، إلى استخدام السيارة، استُبدلَت بمركبة الخيل. كما دخلت الكهرباء البيت، فاستغنت الأسرة عن الفانوس الكبير المتدلي في صالة البيت الرئيسة، يشغله مصباح غازي في مثل حجمه. حتى مواكب الزفاف التي كانت تضيئها الشموع، ويكتنفها الفتوات، فينجلي أكثرها عن معارك، تشاجر فيها النبابيت، وتسيل الدماء؛ هذه المواكب، لم تعد ظاهرة في أعوام «قصر الشوق».

بدأت المواصلات في القاهرة بالدواب وسيلة نقل أساسية داخل المدينة، والمركب الشراعي وسيلة نقل أساسية خارجها، ثم حلَّت إلى جانب الدواب عربات الخيل، ثم خطوط سوارس، فالترام، فالسيارة الخاصة والعامة التي حلَّت — شيئًا فشيئًا — محل العربة والحصان.١٦٢ وكان أحد شباب الطبقة الأرستقراطية يتباهى — ١٩٢١م — بأن سرعة عربته تصل إلى ٤٠ ميلًا في الشوارع الخالية، مثل شارع الأهرام، ومصر الجديدة.١٦٣ وظلَّت السيارة إلى أواخر الثلاثينيات، شاهدًا على الترف.١٦٤
ولعلنا نجد في وصف الفنان لإرهاصات الزوال في العربات التي يجرُّها الخيل، وتكاثر السيارات في شوارع القاهرة، ما يُعَد تعبيرًا عن إرهاصات الزوال التي كانت تواجهها الأرستقراطية المصرية بعد قيام الثورة، وهو ما كان باعثًا أساسيًّا في كتابته لروايتَيه «قصر على النيل» و«ثم تشرق الشمس». الشارع وقد ماجت فيه الحياة، وتسارعت الخطوات، وجرت به العربات تجرها الجياد، مطهمة حينًا، أو كسيرة وآنية الخطو حينًا آخر. وقد ترى من حين إلى حين سيارة تخترق الطريق في زهوٍ، مدلهة بسرعتها وأناقتها، فتلقَّاها الخيل وسائقوها بكبرٍ، كبر صاحب الأصل الدارس صار إلى الفقر، ولا يزال متشبثًا بأصله العريض، وإن يكن قد تهدى إلى فقر، وإرهاص بزوال.»١٦٥ وبعد أن كان الحنطور هو وسيلة المواصلات الوحيدة لأحمد عبد الجواد استبدل به التاكسي، يعود به إلى البيت بعد قضاء السهرة.١٦٦ يقول الحاج حنفي: «وعدتك أيها الزبون الفاضل بحوادث الاضطرابات والاعتصامات، وبالاختصار أيام العز والمكسب والنغنغة، أيام أقفرت الطرقات من «التراموايات»، وأخذ عزرائيل إجازة غير اعتيادية من الشركة، وتهيأت لنا الفرصة، وامتلكنا نواصي الشوارع. وبعد أن كنا نرجو الزبون، ونتمسَّح، وننادي بأعلى صوت: آجي يا بيه؟ أصبحنا محط الرجاء، وفي بعض الأحايين، كنا نرفض بشدة ما دامت الخيل تعبانة، والجيوب مليانة، والزباين كفرانة. كانت اضطرابات الترام ربيع أيامنا، فيها كان محسوبك الأسطى حنفي زايط، لأن الشغل ماشي والحالة فل، ولم نكن بعد قد فوجئنا بمصائب الأوتوموبيل التاكسي و«تزانيقه اللي زي الهباب»، وثانيًا لأني بصفتي صاحب «عجل» في البلد، كنت أفتخر إذا ركب معي بعض كبار رجالاتنا إلى بيت الأمة، أو إلى كلوب محمد علي، فحفظت في هذه الأوقات أسماء معظمهم على حسب الجودة في التوصيلة، أو على حسب الخلقة والسحنة.»١٦٧ ثم تبدَّل الحال ثانية، وكما يقول المعلم محمود: «الحال أصبحت لا تُحتمَل، وابتدأت أكع من اللحم الحي، بعد أن انتشرت في شوارع القاهرة هذه السيارات من كبيرٍ كالبيوت المتحركة، إلى صغير كعربات اليد.»١٦٨
مع ذلك، فقد ظل عدد كبير من السراة يستعملون في تنقلاتهم العربات ذات الجياد المطهمة.١٦٩ كما ظل للحنطور استخداماته التي تفرضها العلاقات العاطفية الناشئة. وكما يقول الأسطى حنفي العربجي (مذكرات عربجي) ﻓ «بعد الظهر، وفي العصاري، إذا كان الواحد منا سعيد الحظ، وصادفته توصيلة مجوز إلى الجزيرة وحدائق القبة، يسمع فيها المبدع المطرب، ويتعلم من الحديث فن السبك كيف يكون، بل كيف يضطر الواحد من — بحكم الصنعة والوظيفة، ورقبته تحت رجليه — أن يترك لهما حرية الحديث والتنهد والتقبيل والبكاء والهمس والعتاب، واسمع ما شئت من أقسام الحب الطاهر، وأنه يقاسي الموت في البعد عنها، ويسهر ليله وينام نهاره. أما هي فإنها أصبحت — بالرغم من ٩٥ كيلو وزن — مريضة بسببه، وانسأمت، وربما ماتت ضحية لهذا الغرام الشريف.»١٧٠
وسوارس هو اسم المليونير اليهودي الذي أسس في القاهرة مصرفًا باسمه. ثم فاضت أرباحه، فأسس شركة أوتوبيس تسمَّت بالاسم نفسه، وكان أوتوبيسًا بدائيًّا تجرُّه البغال.١٧١ أما الترام الأبيض فقد كان يصل بين العباسية ومصر الجديدة، وكان بداية موقفه عند نهاية خط ترام العباسية، واستُبدلَت به — فيما بعد — خطوط الأوتوبيس والمترو.
ظل الجواد وسيلة مواصلات رئيسة بين المدن المصرية،١٧٢ واستغنت أعداد من الأسر الريفية عن الجواد أو الحمار، بعد أن استخدمت السيارة. ولما عاد الراوي إلى قريته السلامية بعد غيبة سنوات طويلة، بحث عن مربط الحمير، فأخبره الناس أنه لم يعُد له مبرر، ذلك لأن الحمير لم تعد تتخذ وسيلة للانتقال، فقد حلَّت محلها السيارات.١٧٣
وكانت السيارة مبعث شجار بالهراوات بين عائلتين في الريف، فبعد أن تم عقد القران، بعث «العريس» أهله ومعهم جمل لإحضار العروس من بيت أبيها، ورفض الأب — في إصرار — أن تخرج ابنته على جمل «لا بد من كومبيل»! ووافق أهل الزوج، لكن الطرفين اختلفا فيمن يدفع ثمن أجرة السيارة، وعلت الأصوات، وتُبُودلت الشتائم، ثم ارتفعت الهراوات لتسيل الدماء، وتتحوَّل المناسبة السعيدة إلى قضية في المحكمة.١٧٤
وفي قصة محمود تيمور «الشيخ جمعة»، أشار الراوي إلى المصباح الكهربائي، وقال: «انظر يا عم جمعة إلى هذا المصباح الجميل، وكيف يشتعل وينطق بهذه السرعة الغريبة، ألا ترى ذلك دليلًا ساطعًا على تقدُّم الإفرنج ومهارتهم؟» وظل الرجل ينظر إلى المصباح طويلًا قبل أن يقول: «اعلم يا بني أن هذه أسرار يعلمها الشياطين، ولا يعلمها المؤمنون. والشياطين توحي بأسرارها للكفرة؛ إن لهم الدنيا، ولنا الآخرة.»١٧٥ ويكسر مصطفى (في قافلة الزمان) زجاجة المصباح، قبل أن تنتقل الأسرة إلى البيت الجديد، فلن تكون في حاجة إليه هناك بعد أن يضاء بالكهرباء.١٧٦ أما الست نجية (إبراهيم الكاتب) فلأنها كانت تعتبر كل جديدة بدعة يجب أن تستغفر الله منها، وتعوذ به من شرها، فقد اعترضت على مد أسلاك الكهرباء في بيت زوجها برمل الإسكندرية، فلما أعياها الأمر، أبت أن تدخل الكهرباء غرفة نومها، وبالفعل، أضاءت الكهرباء البيت كله، فيما عدا تلك الغرفة!١٧٧ وإلى أواخر العشرينيات، لم تكن ثلاثة أرباع المدن المصرية — والقرى بالتالي! — قد عرفت النور الكهربائي بعد، ولا دخلت المياه الصحية البيوت.١٧٨ وقد ظل الحاج إمام (حواء بلا آدم) حتى نهاية العشرينيات، يحرص على أن يطرق باب البيت بعصاه، لأنها أقرب للتقوى، أما الجرس الكهربائي، فلم يكن يؤمن به!١٧٩ لم تكن المروحة الكهربائية قد اختُرعَت بعد، وكان الشاب ينادي الدادة — وقت الظهيرة — ويطلب منها أن تروِّح له بالمروحة الخوص الكبيرة، لتحرك هواء الغرفة الساكن.١٨٠ وبعد أن كان أحمد عبد الجواد يقطع مسافة بعيدة إلى أطراف القاهرة ليسمع الحامولي أو عثمان أو المنيلاوي، صار الفونوغراف رفيق الخلوة، والحنطور هو المتعة.١٨١ وكانت مفاجأة حسين شداد (قصر الشوق) لكمال عبد الجواد عندما خرج الأصدقاء في رحلة خلوية فونوغراف وبعض الأسطوانات.١٨٢ وحين اشترى محمود أفندي عزب (قلوب خالية) فونوغرافًا في بيته بالقرية، راح أطفال القرية يتجمعون عند شباك البيت ليسمعوا الفونوغراف، ويختلسوا النظر إلى هذا الحديد الذي يتكلم!١٨٣ ثم دخل الراديو حياة الناس،١٨٤ وأزاح الراوي الشعبي — فيما بعد — وحلَّ موضعه.١٨٥ وما من شك أن المصير الذي واجهه شاعر زقاق المدق — بتأثير انتشار الراديو — هو المصير نفسه الذي واجهته فئات أخرى بتأثير المخترعات الحديثة عمومًا. كانت السينما التي أقامها عبد الكريم (صندوق الدنيا) دافعًا لأن يهجر الأطفال صندوق عم عتريس الذي تروي أشرطته وقائع الأبطال والفرسان ومغامرات العشاق والمحبِّين وكرامات الأولياء والصالحين … إلخ، واستحال صندوق الدنيا — على حد تعبير عم عتريس — إلى صندوق للآخرة أقبلت عليه العناكب تنسج حوله خيوطها الرقيقة، فغدا كأنه جثمان ميت ملتف بأكفانه.١٨٦

ليس السقا وحده

«تقدم شوشة إلى الباب الخشبي المغلق، فوق سقاطته الجديدة، بضع دقات متوالية، وبعد برهة سمع صوتًا نسائيًّا من وراء الشبكة الخشبية لنافذة سفلية تجاور الباب، وهو يصيح بلهجة ممدودة منغَّمة: مين؟ وأجاب شوشة بصوته الأجش: السقا، وعاد الصوت يصيح: يا واد يا عبد الله، افتح لعمك شوشة.»١٨٧

كانت تلك بدايات النهاية لمهنة السقا، بعد أن دخلت المياه النقية إلى معظم بيوت القاهرة. كان سيد واحدًا من أبناء مهنة تعود إلى القرن الثاني عشر، حتى لقد أطلق على المكان الذي كانوا يقطنونه — كفر الشيخ ريحان «حارة السقايين»، وظلت جماعات السقايين — إلى أوائل القرن العشرين — ظاهرة اجتماعية مهمة، بحكم تنقلهم من بيت إلى آخر، والنفاذ إلى أسرار البيوت وتناقلها، وأسهموا بالتالي في الحياة اليومية لسكان القاهرة. وكان السقاءون يُستخدَمون — في بعض الأحيان — كوسطاء في المغامرات العاطفية في أجنحة الحريم، وكانوا — في أحيان أخرى — يقيمون علاقات جنسية مع بعض القابعات وراء الخدور!

وتُعَد رواية يوسف السباعي «السقا مات» — تبدأ أحداثها في أوائل سبتمبر ١٩٢١م — لوحة نابضة بتفصيلات الحياة المصرية في العشرينيات، وهي تفصيلات أدركها الذبول شيئًا فشيئًا، حتى تلاشت أو كادت، مثل السقا، وكشك المياه، والمسمط، والكُتاب، وقهوة الأفندية، وطقوس الجنازات والأفراح، والعوالم، وألعاب الأطفال المختلفة. الرواية تعرض لموقف الإنسان إزاء ظاهرة الموت. فإذا أهملنا المقولة التي يحاول الفنان التعبير عنها من خلال تنامي الأحداث دراميًّا، فلعلنا نبدأ بخروج سيد الصغير من الكُتاب، ليبدأ والده في تعليمه صناعة السقا. السقا صنعة لها أصولها وقواعدها، حتى إن أشد ما كان يحنق شوشة على «علي دنجل» الذي كان يجلس وراء كشك المياه أنه لا يعرف عن صنعة السقايين أكثر مما يعرف هو عن القراءة والكتابة، ولم يحمل في حياته قربة، ولم يملأ زيرًا، لكنها حظوظ وقِسَم. لقد أمضى حياته كلها «مطيباتي» يصفق بيديه، ويهلل بحنجرته. إن ماضيه يعتد به في حفلات الزفاف والأفراح، فهو يجيد برم الشوارب، وعوج اللاسة، والرقص على الواحدة إذا ما استدعى الأمر ذلك. مع ذلك، فما يكاد مقعد الحنفية يخلو من صاحبه المعلم برعي بعد موته، حتى عيَّنت الشركة دنجل مكانه، وهو لا يعرف السطيح من القربة، لكنها الوسطة التي تذلل كل صعب، والتي تجعل المطيباتي يستوي على عرش السقايين، وتترك الوريث الشرعي — شوشة — يتجول بالقرب في الحواري والأزقة والدروب.١٨٨
بدأ شوشة تعليم سيد صنعة السقا منذ أخرجه من الكُتاب، وبدأ تدريبه العملي باصطحابه معه في جولاته، التي يوزع خلالها الماء على درب السماكين ومنعطفاته. ثم بدأ يعهد إليه ببعض الأعمال المستقلة، أولها — وأهمها — سقيا شجرة التمر حنة في السراية الكبيرة.١٨٩ كان برنامج التدريب يبدأ باصطحابه جالسًا على العربة بجوار القِرب، وبعد بضعة أيام، أمره بالسير بجواره، ثم أمره بدفع العربة معه، ثم بدأ يحمِّله القِربة الصغيرة فارغة. ثم ملأها له بعد أيام، وتركه يفرغها في أول بيت. ثم اصطحبه إلى السراية الكبيرة، وأمره بإرواء التمر حنة، كواجبٍ يومي مستمر. أضاف إليه — بعد بضعة أيام — دورًا ثانيًا في بيت أم عبد الله، وهكذا كان يتدرج به في التدريب.١٩٠ كان يواليه بالنصائح: «السقا الأصيل لا يخلع السطيح والقِربة، ويحملهما هكذا في يديه. السقا لا يخلع حلته أبدًا، ولو سار بدونهما، فإنه يصبح كالعسكري الذي يحمل بذلته على كتفه، هل رأيت عسكريًّا يفعل هكذا؟»١٩١ وارتدى سيد السطيح، وجاكتة جلدية بلا أكمام، أو صديريًّا جلديًّا يرتديه السقا فوق جلبابه ليقيه البلل، وتُشَد عليه القِربة بسيور جلدية تُسمَّى الحمَّالات. وبدأ سيد — بعد التعلم — واجبه اليومي المستقل: يحمل القِربة الصغيرة إلى حديقة السراي الكبيرة ليسقي شجرة التمر حنة التي كانت مغروسة في ربوة مرتفعة، لا تبلغها مياه القنوات المتسربة من الحوض.١٩٢ ثم أصبح سيد يدلف إلى الحمام، ليملأ الأزيار والصفائح والطشت، وغيرها من أوعية المياه الفارغة.١٩٣
تلك هي الصورة التي استهوت المستشرق الفرنسي أندريه ريمون، وكانت بعض سِمات الحياة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، حتى إن السقا يصف ثديي المرأة التي يحبها بأنهما كالقِربتَين!١٩٤ ثم بدأت تشهد ذبولها في إدخال المياه النقية إلى أحياء القاهرة المختلفة.
بعد أن هجر شوشة مهنته — في مواجهة التحولات التي شهدها المجتمع — تحوَّل إلى «مطيباتي» في الجنازات — وهي مهنة اندثرت هي الأخرى — «أفندي»، والجمع «أفندية»، يرتدي بذلة سوداء، ويحيط وسطه بفوطة حمراء، وبيده المنقد أو القمقم.١٩٥ لذلك فإن الحانوتي يكتب على واجهة محله: «الحاج سرور أبو الفرح، مقاول عموم أشغال الجنازات، مستعد لتوريد ما يلزم من جميع مستلزمات الجنازات من أفندية وفراشة ومزيكة وخلافه.»١٩٦
وكان عم مسعود الملا يدير آلة لرفع الماء — طلمبة — في مسجد الكردي، فلما أُدخلت المياه إلى المسجد، ترك هذه الوظيفة، وظل اسمه عم مسعود الملا!١٩٧
ومن المهن التي بدأت تعاني غروبها، منادي النيل الذي كان يبدأ منذ السابع والعشرين من بئُونة — أي الثالث من يوليو — في الطواف بأحد أحياء العاصمة، يدعو الله لزيادة مياه النيل، أو يعلن الزيادة نفسها. وكان ظهور فئة المعلمين الإلزاميين، وقيامهم بكتابة العرائض للفلاحين والعمال الأميين، سببًا في كساد صناعة العرضحالجية — ونتذكر أن العرضحالجي الذي كتب الخِطاب لزنوبة في «عودة الروح»، غير محمد أفندي مدرس الإلزامي في «الأرض». وكان الأدباتي يطوف على المقاهي، يلبس طرطورًا طويلًا فوق رأسه، ويصبغ وجهه بالألوان الفاقعة، ويوقع على طبلة صغيرة تحت إبطه، ويردد أزجاله في مدح من يمر به من الزبائن، أزجالًا تختلف من زبون إلى آخر، فتصف كل واحد بما يناسب شكله وثيابه ومكانته، وكلها تصر على طلب الإحسان الذي يؤكد الأدباتي للجميع أنه في حاجة إليه بقدر ما هم في غنًى عنه.١٩٨ وثمة المسلكاتي، وهو يقوم بتنظيف النارجيلة والجوزة والغليون والشيشة، فيطوف على البيوت وهو يحمل معه عددًا من الأسلاك الطويلة التي يستخدمها في مهنته، ويتقاضى مقابلًا بسيطًا في كل عملية تنظيف. ومن المهن التي شهدت غروبها: خفير الشارع أو الحارة، وضارب الرمل في الأحياء الشعبية. واختفى الخَصْي. حتى صناعة الطرابيش، عانت أزمة — رغم دعوة أحمد حسين فيما بعد — إلى إنشاء مصنع لها؛ فقد اختفى ذلك الرجل الذي يصنع أزرار الطرابيش، يبرم خيوط الحرير المصبوغة، ويفتلها، ويعقد أطرافها، ويجمع كل بضعة خيوط معًا، ثم يثنيها، ويربطها، ويصمغها، ويدقها على قالب من القوالب التي تُتخذ لكي الطرابيش.١٩٩ أما صبي الحريم، فقد أصبح فرَّاشًا للقصر.٢٠٠ بينما رُقي سايس الطاولة إلى حوذي، وكان عمله كنس القاذورات في الإسطبلات وغسل العربات والخيول.٢٠١

•••

في ١٢ أبريل ١٩٢٦م، دعت الرابطة الشرقية إلى مناقشة بضعة موضوعات:

  • هل يجب أن نستمر نحن الشرقيين على تقاليدنا ومظاهرنا كما هي، أو أننا نندمج في العوائد والأخلاق الغربية، أو أننا نحتفظ بتقاليدنا وعوائدنا الحسنة، ونستبدل بعض الظواهر والتقاليد القديمة بأخرى غربية مما يفيدنا، ولا يتنافى مع العادات القومية الصحيحة؟

  • وإذا قررنا التجديد، فما هي المظاهر التي يلزم تغييرها بمظاهر جديدة تنطبق على قواعد الصحة والاقتصاد؟

  • وهل ينبغي — إذا تقرر تجديد الزي — أن تُميَّز كل فئة في الشعب بزي مخصوص يناسب حالتها وطقوسها الذاتية؟٢٠٢ ويطالعنا ياسين — منذ أيام ما قبل الثورة إلى ما بعدها — بزي يتغير في ألوانه وأشكاله، وإن لم يتغير في مضمونه، فهو يرتدي — ١٩٢٤م — بدلة كحلية، وقميصًا ذا بنيقة منشاة، وبابيونًا أزرق، ومنشة عاجية، وحذاء أسود لامعًا، ومنديلًا حريريًّا يطل من جيب جاكتته الأعلى، وطربوشًا يعوجه — عادة — إلى اليمين.٢٠٣ وأهمل ياسين المنشة العاجية — فيما بعد — اتساقًا مع إهمال الكثيرين لها، وبخاصة من كانوا في مثل سنِّه.
كان هم طلعت (الوهم) أن يتخلى عمال المصنع الذي عمل مستشارًا له، عن الجلباب، لأنه يعوق العمل، وهو أيضًا سر تأخر الشرق!٢٠٤ وبدأت الأغنيات تهاجم الملاءة اللف؛ تقول فتحية أحمد في أغنية لها: شوف البني آدمايه … في برقع وملايه … تلقاها منفوشه … ما تقولش كرمبايه.٢٠٥ واختفت الملاية اللف فعلًا بالنسبة لكثير من النساء، ولم يبقَ أثر — في معظم الأحياء — للبرقع الأسود والقصبة المذهبة، وظهرت الحَبَرة والبرقع الأبيض و«في يمينها جرنال المقطم ملفوف فيه رداء التنكر الذي خلعته.»٢٠٦ وتغني المطربة: آدي وقت البرنيطة … بلا دوشه بلا زيطه … الغشم يسبوا لك … اعمل نفسك حيطه … دي فلقه، دي حرقه … دا فلفل وشطيطه.٢٠٧ وبالفعل، فقد ارتدى أعداد كبيرة من الرجال — لأول مرة — الملابس الإفرنجية، بدلًا من الملابس البلدية، وخلعت أعداد من النساء الملاءة اللف، وارتدين بدلًا منها «التزييرة» والبرقع الأبيض — تخلين عنه شيئًا فشيئًا — أو البالطو والبيجة، أو البالطو والقبعة. وأرجع ياسين حرص النساء على موضات الأزياء إلى أنه «ليس كاللحم البشري مسجَّل لآثار العمر الحزينة.» وقال لنفسه — بعد أن تعرت أم مريم للقائهما الجنسي: «الآن أدرك لماذا تعبد النساء الملابس!»٢٠٨
وكان الطربوش يخضع للموضة، فهو قصير أحيانًا، وطويل أحيانًا أخرى، وربما انزلق إلى الخلف، والزر قد يكون في الخلف، وقد يكون متدليًا في الجانب.٢٠٩ ويسأل حسين شداد كمال عبد الجواد في رحلة إلى الأهرام (١٩٢٥م): لماذا تلبس الطربوش في هذه الرحلة؟ يجيب كمال: ليس من المألوف عندي أن أسير بدونه. فضحك حسين قائلًا: إنك مثال طيب للرجل المحافظ!٢١٠ ثم لم يعُد الكثير من الأفندية يضعون الطربوش على رءوسهم حتى يبدوا أكثر تحررًا من مصريتهم.٢١١ وعمومًا، فقد كانت ظاهرة الخروج على القديم تمتد وتنتشر في جميع فروع الحياة.٢١٢ وتساءل أحد الكُتاب (١٩٢٨م): هل يأتي ذلك اليوم الذي يوحِّد الملبس بين جميع طبقاتنا، ويؤلِّف بين صفوفنا، ويكوِّن منا هيئة موحدة متجانسة؟٢١٣
ولا شك أنه كان لأوامر مصطفى كمال في تركيا، بتعميم الزي الأوروبي، وقصر العمامة والجبة والقفطان على رجال الدين، أثرها المباشر في الحياة المصرية. وبلغت الدعوة إلى إهمال العمامة — والزي البلدي بعامة — وارتداء الطربوش والزي الإفرنجي، ذروتها في ١٩٢٦م، عندما هاج الأزهريون ضد لابسي الطربوش من الطلاب، بحجة أنه غطاء رأس أجنبي. أقبل طلبة دار العلوم على نزع العمامة والقفطان، وارتداء القبعة والبدلة … وذهب الطلبة في ثيابهم الجديدة، وعلى رءوسهم الطرابيش، وكان في انتظارهم أعداد كبيرة من الضباط والجنود، مهمتهم منع ارتداء الطلبة للطرابيش، فضلًا عن الأساتذة والطلبة الذين يرون أن العمامة جزء من التراث الديني. كما قابل شيخ الجامع الأزهر ذلك التصرف بغضب هائل، وهددت وزارة المعارف الطلبة الذين يخلعون القفاطين والعمائم بالفصل من دار العلوم. وكتب أحمد الصاوي محمد يدافع عن وجهة نظر الطلبة: «إن لهم الحق في أن يتخذوا لأنفسهم الزي الذي يرضيهم؛ فالعمامة في الواقع لا تنفعهم بشيء، وتؤذيهم في كثير. ألم ترَ كيف تصرف عنهم في الطريق عيون المها؟ فإذا جد الجد، فالعمامة تحُول أيضًا بينه وبين الاندماج في سلك الوظائف العامة غير التعليم، أما بعد، فإننا — على كل حال — نفرح بهذا التمرد، ونراه بشيرًا للمستقبل.»٢١٤ وطرحت «روز اليوسف» السؤال: هل الدين ضد لبس الطربوش؟ وكتبت: «أحس ميلًا إجراميًّا إلى صفع أقفية حضرات المحترمين الذين يجرجرون الدين في كل شيء … ما دخل الدين في القبعة والطربوش؟»٢١٥ وقالت روز اليوسف: «أليست مصر الآن على أبواب ثورة في كل شيء؟ السيدات يطلبن السفور والخروج عن دائرة الحريم، ويطالبن بحق الانتخاب. وأخيرًا، أعلن طلبة كلية دار العلوم الحرب على العمائم، ولا ندري إن كان ذلك من تأثير قانون تركيا الجديد، والطلبة المعممون يقولون إن العِمَّة وما يتبعها من جبة وقفطان تعوقهم عن الاشتراك مع الطربوش، وما يتمتع به صاحبه، أما وزارة المعارف فإنها تتشدد في وجوب بقاء العمة … والمعركة ما زالت مستمرة!»٢١٦ وكتب عصام الدين حفني ناصف يعيب على الطربوش أنه «مصنوع من الصوف السميك، وهو ما لا يوافق جو بلادنا.»٢١٧ أما عبد العزيز البشري، فقد كتب في يومياته: «في مصر الآن حركة عنيفة موجهة على العمامة، وبوجه عام على الزي البلدي، والصراع اليوم مستمر بين حافظ بك السيد والسيد أحمد الحمصاني وأنجال السيد عبد السلام الحمصاني والسيد أبي السعود من جهة، وبين تيرنج وتستا وديليا وسيفاد من جهة أخرى. ولا أكتمك أن الجيوش الوطنية منهزمة على طول الخط، ولعلها — بعد وفاتي ووفاة أربعة أو خمسة من أصدقائي — ترفع الراية البيضاء، إيذانًا بالتسليم من غير قيدٍ ولا شرط.»٢١٨
ولعله ينبغي الإشارة إلى أن السِّمنة لم تعُد — كما كانت — موضة العصر، أصبحت النحافة هي الموضة عند الكثيرات، وخاصة أبناء البرجوازية الصغرى والكبرى، فضلًا عن طبقة الأرستقراطيين. ولم تعُد تلك القضية بالذات مما يشغل عائشة (قصر الشوق) التي قالت في بساطة: لم تعد السمانة موضة العصر، أو على الأقل، فالنحافة موضة كذلك عند كثيرات!٢١٩ لكن السمانة لم تفقد — بالطبع — محبِّيها؛ تقول زنوبة لياسين — ١٩٢٥م: «إني أنصح من يروم لقاك أن ينقب في التربيعة عن أضخم امرأة، وأنا كفيلة بأنه سيجدك وراءها لابدًا كما تلبد القرضة في الكلب.»٢٢٠ كان جسد المرأة يلتف بملاءة من الحرير الأسود، وعلى الوجه وشاح من الحرير الأبيض الخفيف يخفي ثلثَي الوجه، لكنه من الرقة بحيث يكشف عن ملامح الوجه.

•••

وفقًا لأسعار الصرف في ١٩٢٨م، كانت الخمسون جنيهًا مصريًّا، تعادل ٢٥٠ دولارًا أمريكيًّا.٢٢١ وقد رفض الرجل (الأسرة المنكودة) أن يدفع ثمنًا لبيت أكثر من خمسمائة جنيه، لأنه — في تقديره — لا يساوي أكثر من ذلك.٢٢٢ وتبين الظروف الاقتصادية عن تأثيراتها في قول الرجل لنفسه: «سأذهب الآن توًّا إلى صاحب المنزل لأدفع له الأجرة، ثم أقصد سوق الخضار لأشتري بعض المأكولات لزوجتي وأولادي، وعلبة سجاير ماتوسيان لي، ثم إلى الموسكي حيث أشتري بعض الملابس الضرورية للمولودة الصغيرة.» وكان كل ما يضعه الرجل في جيبه جنيهين فقط!٢٢٣
على الرغم من ذلك، فإن الشكوى من ارتفاع الأسعار آنذاك، كانت بعض سِمة الحياة المصرية، رغم أنه يصعب مقارنة ارتفاع الأسعار — نسبيًّا — بارتفاع الأسعار في أثناء، وعقب، الحرب العالمية الثانية. وعلى سبيل المثال، فقد كان إيجار عوامة على النيل ما بين أربعة جنيهات وخمسة جنيهات شهريًّا.٢٢٤ ولعله يمكن تبين الرخص النسبي للأسعار، فيما كان ينوي نصري (الجنون فنون) أن يفعله بجنيهين اقترضهما من صديقه لطفي بك؛ كان سيدفع أجرة بيته، ثم يشتري طعامًا من سوق الخضار، وعلبة سجاير ماتوسيان. ثم يشتري بعض الملابس الضرورية للمولود الصغير.٢٢٥ وكان القرش الواحد يهب سيدةً نزهةً كاملة في المولد؛ فهي تدخل السيرك، وتركب المراجيح، وتأكل الكبدة والشطيطة وعلي لوز وغيرها.٢٢٦ وبأربعة قروش كان شوشة السقا يتناول في المسمط «مخ بتلاتة أبيض، وجوهرة بساغ، ولسان بساغ، ورغيف بعشرين تعريفة، وبعشرين تعريفة طرشي وسلاطة، تبقى الحسبة كلها أربعة ساغ.»٢٢٧ وكان سيد السقا يشتري من عم شيحة البقال «بتلاتة مليم زيتون، وبمليم كرملة، وبمليم لب.»٢٢٨ ويشتري عود القصب بمليم، أو نكلة.٢٢٩ ويقول سيد لجدته: «حاخليكي تاكلي وتمصي وتقزقزي وتندغي وتلحسي … كل ده بقرش أبيض!»٢٣٠ ويدور حوار:

«– معايا ساغ أهوه.

– يا بختك … وحتاكل إيه؟

– حاخد دلوقتي طبق بليلة من عند أبو دومة.

– آدي نكلة.

– وبتلاتة مليم شقة وطعمية سخنة من عم سلامة.

– يا بختك … آدي تعريفة … وإيه كمان؟

– واتغدى بالتعريفة التانية من عند عم جرادة.»٢٣١
وكان فنجان القهوة بقرش تعريفة، والشيشة بنكلة.٢٣٢
من هنا يأتي قول وكيل السكرتارية للراوي (المرايا) — وهو يهنئه على وظيفة حكومية صافي مرتبها ثمانية جنيهات — إن الوظيفة تكفي للزواج من اثنتين!٢٣٣

•••

صار لكرة القدم نفوذها المؤكد. يتحدث الراوي (نفوس مضطربة) عن أصدقائه الذين كانوا لا يجدون لذة إلا في كرة القدم، يلعبونها في جنون وحماس «حتى يغسل العرق أبدانهم.»٢٣٤ وفي حوار (قصر الشوق):

– موسم الكرة سيبدأ عما قريب.

– كان الموسم الماضي موسم الأهلي دون شريك.

– هزم المختلط بالرغم من أن فريقه يضم أبطالًا أفذاذًا.٢٣٥
كان ناديا الأهلي والمختلط — الزمالك فيما بعد — هما ناديا القمة في كرة القدم.٢٣٦ وكان يستهوي محمود (نفوس مضطربة) أحاديث كرة القدم، وأسماء: حسين حجازي وسيد أباظة ومحمود حودة، والمباريات الشهيرة مثل مباريات منتخب القاهرة مع الفرق الأجنبية.٢٣٧ كان محمود يأكل ويمشي ويفكر وينام وهو يلعب الكرة، يستعد للغد الذي يلعب فيه، أحلام يقظته مباريات عنيفة هو بطلها. يستقبله الجمهور إذا نزل الملعب بعاصفة تصم الآذان من التصفيق والترحيب، وقد خففت هوايته تلك من أزمة حبه. وكانت الاختلافات — أحيانًا — في حسين حجازي والتتش: أيهما أمهر في اللعب؟٢٣٨ وكان من نجوم الفترة لاعب الكرة حسين حجازي، والمصارع عبد الحليم المصري.٢٣٩

•••

وبعد أن كان خطر المخدرات — والكوكايين تحديدًا — موضة الحرب الأولى — أو كاد — فقد ظل الخطر قائمًا، تجسده لنا شخصية أمين بك (مسرحية «وميض الروح» لمحمد تيمور، ١٩٢١م) الذي ضيَّع العمر في الخمر والكوكايين والجري وراء النساء. وكان الكوكايين قد انتشر في أعقاب الحرب العالمية الأولى انتشارًا ذريعًا في كل الطبقات، حتى أصبح وباء اجتاح مصر، ريفها وصعيدها!٢٤٠
ومن نتائج الثورة أيضًا اشتداد الحملة ضد علنية البغاء.٢٤١ وإن ترامت أنباء كالأساطير إلى أحمد عبد الجواد عن شباب ما بعد الثورة، منهم تلاميذ قد اعتادوا التدخين، وآخرون يعبثون بكرامات المدرسين، وغير هؤلاء وأولئك قد تمردوا على آبائهم. أجل لم تهن هيبته، ولكن عم أسفر ذلك التاريخ الطويل من الحزم والصرامة؟ ها هو ياسين يتدهور ويضمحل، وها هو كمال يناقش ويجادل ويحاول التملص من قبضته.٢٤٢ وحين أراد نعوم (ثريا) أن يتظاهر بالثراء والأبهة الكاذبة وكثرة الإنفاق، قرر دعوة فتاته وعمتها الست لبيبة إلى روض الفرج، فيطلب لها كبابًا وعدة أدوار من البيرة، ثم يأخذهما في قارب إلى قصر النيل، ثم يستأجر عربة تنطلق بهم في شوارع الجزيرة الجميلة.٢٤٣ ويقول سامح شكري (صباح الورد) «نحن نعيش في نسيج عنكبوتي من التقاليد السخيفة، وأضاف لنظرات الدهشة في أعين دعاة الحفاظ على التقاليد: الفارق بيننا حيال بعض التقاليد السخيفة، هو أنكم تمارسونها رغم عجزكم عن الدفاع عنها، أما نحن فنرميها — بكل شجاعة — في صندوق القمامة.»٢٤٤ وكان المهر بالنسبة لأسرة متوسطة في حدود خمسين جنيهًا.٢٤٥
ومن نداءات باعة الكتب — لاحظ: باعة الكتب في الشوارع ينادون! — على مذكرات هندنبرج … كتاب فتحي زغلول … مذكرات بغي … الشيخ محمد عبده والإسلام … شرح المعلقات العشر … ديوان الجعبري … راسبوتين الراهب المحتال … ماجدولين … العبرات … النظرات … ديوان عمر بن أبي ربيعة … مذكرات الأميرة قدرية … مقالات خليل مطران.٢٤٦
وإلى تلك الفترة، لم تكن القاهرة قد عرفت عساكر الشرطة في الليل.٢٤٧

هوامش

(١) المقطم، ١٨/ ١٠/ ١٩٣١م.
(٢) الأصول التاريخية، ١١٥.
(٣) جمال الدين محمد سعيد، التطور الاقتصادي في مصر منذ الكساد العالمي الكبير، الطبعة الأولى، ٢٤.
(٤) الطليعة، يوليو ١٩٧٣م.
(٥) يحيى حقي، يا جحا ودنك فين؟ كناسة الدكان، هيئة الكتاب.
(٦) مجلة «الحدث»، يوليو ١٩٣١م.
(٧) فتحي غانم، الفن في حياتنا، الكتاب الذهبي، يونيو ١٩٦٦م، ٧.
(٨) كمال النجمي: مطربون ومستمعون، كتاب الهلال، ١٣٢.
(٩) راشد البراوي، حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ٦٦.
(١٠) مقالات فكري أباظة، ١: ٥٦.
(١١) أسرار الماضي، ٣٢.
(١٢) الطليعة، يونيو ١٩٧٠م.
(١٣) الأخبار، ٢٧/ ١٠/ ١٩٨٦م، نقلًا عن «اللواء».
(١٤) عبد العظيم رمضان، الكاتب، أبريل ١٩٧١م.
(١٥) الطليعة، مايو ١٩٦٦م.
(١٦) المرجع السابق.
(١٧) الأهرام، ٢٩/ ٧/ ١٩٩٩م.
(١٨) الأصول التاريخية، ١٣٤.
(١٩) الأهرام، ١٣/ ٢/ ١٩٨٠م.
(٢٠) حافظ محمود، ذكريات، ٤١.
(٢١) المرايا، ٨-٩.
(٢٢) الأصول التاريخية، ١٨٣.
(٢٣) لويس عوض، الأهرام، ١٩/ ٧/ ١٩٦٨م.
(٢٤) عاصم الدسوقي، كبار ملاك الأراضي الزراعية، ٨٩-٩٠.
(٢٥) الأصول التاريخية، ١٨٣.
(٢٦) المرايا، ٩.
(٢٧) الأصول التاريخية، ١٨٦.
(٢٨) أحمد أبو الغار، صوت التعاون، العدد الرابع، السنة الثامنة عشرة.
(٢٩) صلاح حافظ، الحجر، الولد الذي جعلنا لا ندفع نقودًا، روز اليوسف.
(٣٠) تاريخ الحركة النقابية المصرية، ٢٢٥.
(٣١) عباس أحمد، البلد، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩.
(٣٢) المصدر السابق، ٢٤.
(٣٣) المصدر السابق، ٤-٥.
(٣٤) المصدر السابق، ٧.
(٣٥) المصدر السابق، ٨٥.
(٣٦) المصدر السابق، ١١٣.
(٣٧) المصدر السابق، ١١٧.
(٣٨) المصدر السابق، ١١٨.
(٣٩) المصدر السابق، ٨٨.
(٤٠) المصدر السابق، ٨٠.
(٤١) المصدر السابق، ٧٠.
(٤٢) المصدر السابق، ٩٥.
(٤٣) المصدر السابق، ١٤٣.
(٤٤) المصدر السابق، ١٤٠.
(٤٥) المصدر السابق، ١٤٦.
(٤٦) نجيب محفوظ، صباح الورد، مكتبة مصر.
(٤٧) مي زيادة، العم أبو حسن يستقيل، السياسة الأسبوعية، ٢٢/ ١/ ١٩٢٧م.
(٤٨) يوسف السباعي، صينية قرع، الوسواس الخناس، الكتاب الذهبي.
(٤٩) حديث الصباح والمساء، ٨٥.
(٥٠) قصر الشوق، ٤٧.
(٥١) تاريخ مصر من الفتح العثماني، ٢٨٤.
(٥٢) المرجع السابق، ٢٨٧.
(٥٣) إنجي أفلاطون، نحن النساء المصريات، ٣٠.
(٥٤) الأيام، ٣: ٢٩.
(٥٥) حي محرم بك، ١٢٦.
(٥٦) الأيام، ٣: ٤.
(٥٧) حافظ محمود، مذكرات منسية، ٣٧.
(٥٨) الدوحة، يونيو ١٩٨٦م.
(٥٩) السيد أبو النجا، ذكريات عارية، دار المعارف.
(٦٠) الأهرام، ٥/ ١٢/ ١٩٣٣م.
(٦١) تقول نبوية موسى في مذكراتها إنها كانت المصرية الوحيدة التي أسفرت (نبوية موسى، تاريخي بقلمي، ٧٨)، والرواية التاريخية تؤكد أن هدى شعراوي هي التي بادرت إلى رفع الحجاب، فبعد عودة الوفد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي من المؤتمر النسائي الدولي في روما عام ١٩٢٢م، خلعت هدى شعراوي حجابها — للمرة الأولى — أمام الجموع المحتشدة لاستقبال الوفد في الميناء. وحذا أعضاء الوفد الأخريات — سيزا نبراوي ونبوية موسى وغيرهما — والنساء الواقفات في الميناء، حذو هدى شعراوي، لتبدأ أولى الخطوات الإيجابية في تحرير المرأة المصرية لنفسها.
(٦٢) صباح الورد، ٥٨.
(٦٣) ذكرى سعد، ٤٢.
(٦٤) سلامة موسى، فتحية فوق السحاب، القصة، ٥/ ٥/ ١٩٥٠م.
(٦٥) صباح الورد.
(٦٦) نجيب محفوظ، بيت سيئ السمعة، مكتبة مصر.
(٦٧) نحن النساء المصريات، ١٠٦-١٠٧.
(٦٨) في قافلة الزمان، ٢٠١.
(٦٩) السياسة الأسبوعية، ١٩/ ٣/ ١٩٢٧م.
(٧٠) محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم، مطبعة الاعتماد،١٠٠.
(٧١) سامية الساعاتي، علم اجتماع المرأة، مكتبة الأسرة، ١٧٨.
(٧٢) النساء في الفكر السياسي الغربي، ٢٣٩.
(٧٣) القاهرة الجديدة، ١٩.
(٧٤) المرايا، ٨٨.
(٧٥) السكرية، ٢١١.
(٧٦) المصدر السابق، ٢١٢.
(٧٧) المصدر السابق،١٠.
(٧٨) المصدر السابق، ٩-١٠.
(٧٩) المصدر السابق، ١٩٧.
(٨٠) نبوية موسى، تاريخي بقلمي، هيئة الكتاب، ٣٣.
(٨١) عوض توفيق عوض، من رائدات القرن العشرين، تحرير هدى الصدة، ٢٠٦.
(٨٢) الحركة النسائية في مصر، ١٢٨.
(٨٣) أزهار، ٦٩.
(٨٤) المصدر السابق، ١١٦.
(٨٥) الأهرام، ٢٦/ ٧/ ٢٠٠١م.
(٨٦) الأهرام، ١١/ ٧/ ٢٠٠١م.
(٨٧) نحن النساء المصريات، ١٠٨.
(٨٨) مذكرات إنجي أفلاطون، دار سعاد الصباح، ٤٤.
(٨٩) يوميات محام مصري، ٨١.
(٩٠) إبراهيم عبد القادر المازني، من النافذة، الطبعة الثالثة، ٨١.
(٩١) المصدر السابق.
(٩٢) أزهار، ٤٢٣.
(٩٣) من النافذة، ٨.
(٩٤) الأهرام، ٢٥/ ١٢/ ٢٠٠٣م.
(٩٥) توفيق الحكيم، تحت المصباح الأخضر، ٧٣.
(٩٦) سيد النساج، تطور القصة القصيرة في مصر، ١٣١.
(٩٧) عيسى عبيد، مقدمة مجموعة «ثريا»، مكتبة الوفد.
(٩٨) ثريا.
(٩٩) المصدر السابق.
(١٠٠) المصدر السابق.
(١٠١) نجيب محفوظ، أم أحمد، صباح الورد.
(١٠٢) محمود تيمور، المنافسة، الشيخ جمعة، المطبعة السلفية، ١٩٢٥م.
(١٠٣) محمود تيمور، خطاب من منير بك، الشيخ جمعة.
(١٠٤) ثريا، ٤٥.
(١٠٥) قصر الشوق، ٢٣٤.
(١٠٦) إبراهيم عبد القادر المازني، قصة حياة، ١٠٢.
(١٠٧) قصر الشوق، ١٨٤.
(١٠٨) أم أحمد، صباح الورد.
(١٠٩) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٩٧-١٩٨.
(١١٠) المصدر السابق، ١٩٧-١٩٨.
(١١١) نجيب محفوظ، السراب، مكتبة مصر، ١٨٨.
(١١٢) إبراهيم المصري، الباب الذهبي، نفوس عارية، كتاب اليوم.
(١١٣) من النافذة، ٦٠.
(١١٤) قصر الشوق، ٢١٦.
(١١٥) محمود خيرت، المرأة بين الماضي والحاضر، ٣.
(١١٦) إحسان عبد القدوس، أنا لا أكذب ولكني أتجمل، الهزيمة كان اسمها فاطمة، مكتبة مصر.
(١١٧) حواء بلا آدم، مكتبة الاعتماد، ٩٩.
(١١٨) نجيب الريحاني وتطور الكوميديا في مصر، ١٣.
(١١٩) مقالات فكري أباظة، ١: ١٤٢.
(١٢٠) إحسان عبد القدوس، أين صديقتي اليهودية؟، الهزيمة كان اسمها فاطمة، مكتبة مصر.
(١٢١) يوسف المعناوي، نور، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٦م.
(١٢٢) نفوس مضطربة، ٢٨.
(١٢٣) إبراهيم الكاتب، ٧٤.
(١٢٤) نجيب محفوظ، الشريدة، همس الجنون، مكتبة مصر.
(١٢٥) مذكرات عربجي، ١٦.
(١٢٦) أميرة الأزهري سنبل، النساء والأسرة وقوانين الطلاق في التاريخ الإسلامي، المجلس الأعلى للثقافة، ٤٥.
(١٢٧) نحن النساء المصريات، ٣٥.
(١٢٨) مبادئ في السياسة، ١٧١.
(١٢٩) المرجع السابق، ١٦٢.
(١٣٠) راجع كتابنا: سقوط دولة الرجل، دار البستاني للطبع والنشر، ٢٠٠٨م.
(١٣١) توفيق الحكيم، حمار الحكيم، ٩٩.
(١٣٢) إبراهيم عبد القادر المازني، في الطريق، ١٩٥.
(١٣٣) محمود إسماعيل مكي، العاصفة، المجلة الجديدة، يوليو ١٩٣١م.
(١٣٤) ثروت أباظة، أمواج ولا شاطئ، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٣٥) طه حسين، صفاء، الكاتب المصري، فبراير ١٩٤٨م.
(١٣٦) جريدة البلاغ اليومية، ١٥/ ٤/ ١٩٣٠م.
(١٣٧) إحسان عبد القدوس، أنا حرة، مكتبة مصر، ٣٢.
(١٣٨) المرأة بين الماضي والحاضر، ٣.
(١٣٩) أزهار، ١٨.
(١٤٠) محمود عوض، أفكار ضد الرصاص، ١٧٣.
(١٤١) حمار الحكيم، ٩٠.
(١٤٢) من النافذة.
(١٤٣) السكرية، ٥٤.
(١٤٤) توفيق الحكيم، الرباط المقدس، ١٦١.
(١٤٥) توفيق الحكيم، المسرح المنوع، مكتبة الآداب،٨٥٠-٨٥١.
(١٤٦) محمد عبد الله عيسى، الدم وشجرة التوت الأحمر، هيئة الكتاب، ٧٥.
(١٤٧) الأهرام، ٤/ ١/ ١٩٣٨م.
(١٤٨) نقولا ميخائيل التاجي، غرام العذارى، المكتبة الملوكية، ٣.
(١٤٩) المصدر السابق، ٣.
(١٥٠) حافظ محمود، المعارك في الصحافة والسياسة والفكر: ١٩١٩–١٩٥٢م، ١٢.
(١٥١) المرايا، ١٤٢.
(١٥٢) فتحي غانم، الرجل الذي فقد ظله، روز اليوسف، ٢: ١٢٥.
(١٥٣) محمد عبد الحليم عبد الله، للزمن بقية، مكتبة مصر، ٦٧-٦٨.
(١٥٤) الرجل الذي فقد ظله، ٢: ١٢٥.
(١٥٥) أنا الشعب، ١٨٢.
(١٥٦) للزمن بقية، ٤٨.
(١٥٧) المصدر السابق، ٥٥.
(١٥٨) المصدر السابق، ١٤٥.
(١٥٩) المصدر السابق، ١٢١.
(١٦٠) عودة الروح، ٦٧.
(١٦١) نجيب محفوظ، الشفق، الشيطان يعظ، مكتبة مصر.
(١٦٢) جمال حمدان، مقدمة كتاب «القاهرة»، كتاب الهلال.
(١٦٣) محمود تيمور، يحفظ في البوستة، الشيخ جمعة.
(١٦٤) محمد حسين هيكل، هكذا خلقت، الطبعة الأولى، مكتبة النهضة المصرية.
(١٦٥) قصر على النيل، ٧٨.
(١٦٦) قصر الشوق، الرواية.
(١٦٧) مذكرات عربجي، ١٠.
(١٦٨) المصدر السابق، ٢٧.
(١٦٩) قصر الشوق، ٤٤٤.
(١٧٠) مذكرات عربجي، ٨-٩.
(١٧١) حافظ محمود، مذكرات منسية، ٦٧.
(١٧٢) عبد الرحمن الغمراوي، الضحية، المكتبة التجارية، ١٩٢١م، ٢٥.
(١٧٣) محمود تيمور، الطاقية، البارونة أم أحمد، دار المعارف.
(١٧٤) يوميات نائب في الأرياف، ٣٧.
(١٧٥) الشيخ جمعة.
(١٧٦) في قافلة الزمان، ١٩٠.
(١٧٧) إبراهيم الكاتب، ١٧.
(١٧٨) يوميات محام، ٢٧.
(١٧٩) حواء بلا آدم، كتاب اليوم، ٣٥.
(١٨٠) يحفظ في البوستة.
(١٨١) حديث الصباح والمساء، ١٣.
(١٨٢) قصر الشوق، ٢١٨.
(١٨٣) قلوب خالية، ١٦.
(١٨٤) السكرية، ٧.
(١٨٥) زقاق المدق، الرواية.
(١٨٦) محمود تيمور، أنا القاتل، دار القلم.
(١٨٧) يوسف السباعي، السقا مات، مكتبة مصر، ٣١.
(١٨٨) المصدر السابق، ٢٨-٢٩.
(١٨٩) المصدر السابق، ٢٧.
(١٩٠) المصدر السابق، ٤٢-٤٣.
(١٩١) المصدر السابق، ٢٣.
(١٩٢) المصدر السابق، ٢٠.
(١٩٣) المصدر السابق، ٣٢.
(١٩٤) في الطريق، ١٢١.
(١٩٥) السقا مات، ١٢١.
(١٩٦) المصدر السابق، ٢٨٥.
(١٩٧) خادمك المليونير، ١٠٠.
(١٩٨) العودة إلى المنفى، ١: ١٢.
(١٩٩) في الطريق، ٧٥.
(٢٠٠) سيدنا، الشيخ جمعة.
(٢٠١) الشيخ جمعة.
(٢٠٢) مذكراتي في نصف قرن، ٣: ٣٢٥.
(٢٠٣) قصر الشوق، ١٢١.
(٢٠٤) محمد جلال، الوهم، ١١٢.
(٢٠٥) محمد دوارة، سيد درويش، ٥٩.
(٢٠٦) مذكرات عربجي، ١٧.
(٢٠٧) سيد درويش، ٥٩.
(٢٠٨) قصر الشوق، ١٤٤.
(٢٠٩) أزهار، ٧.
(٢١٠) قصر الشوق، ٢٠٢.
(٢١١) شيء في صدري، ٩٦.
(٢١٢) الفن في حياتنا، ١٣٣.
(٢١٣) الجديد، ٣/ ٥/ ١٩٢٨م.
(٢١٤) الأهرام، ١١/ ٢/ ١٩٢٦م.
(٢١٥) روز اليوسف، العدد ٢٩٩٩.
(٢١٦) المرجع السابق.
(٢١٧) من أوراق لعصام الدين حفني ناصف، في حوزة المؤلف، لا ندري إن كان قد أتيح لها النشر.
(٢١٨) عبد العزيز البشري، ١٨٢.
(٢١٩) قصر الشوق، ٣٩.
(٢٢٠) المصدر السابق، ٢٩٨.
(٢٢١) فرجينيا دانيلسون، صوت أم كلثوم، ت. عادل هلال عناني، المجلس الأعلى للثقافة، ١٣.
(٢٢٢) الأسرة المنكودة، ٦٢.
(٢٢٣) الجنون فنون، الشيخ جمعة.
(٢٢٤) قصر الشوق، ١١٩.
(٢٢٥) الجنون فنون.
(٢٢٦) نحن لا نزرع الشوك، ١: ٣٦.
(٢٢٧) السقا مات، ٧٧.
(٢٢٨) المصدر السابق، ١٣٩.
(٢٢٩) المصدر السابق، ١٤٠.
(٢٣٠) المصدر السابق، ١٤١.
(٢٣١) المصدر السابق، ١٧٨.
(٢٣٢) عودة الروح، ١: ٤٠.
(٢٣٣) المرايا،٦٠.
(٢٣٤) نفوس مضطربة، ٢٠.
(٢٣٥) قصر الشوق، ١٧٧.
(٢٣٦) المصدر السابق، ١٧٧.
(٢٣٧) نفوس مضطربة، ٣٠.
(٢٣٨) المرايا، ٩٣.
(٢٣٩) المصدر السابق، ١٠٨.
(٢٤٠) محمود طاهر حقي، حمدان بك، بسمات ساخرة، كتب للجميع.
(٢٤١) محمود تيمور، الشخصيات العشرون، ١٠٢.
(٢٤٢) قصر الشوق، ٣٧٤.
(٢٤٣) عيسى عبيد، ثريا، مكتبة الوفد.
(٢٤٤) صباح الورد.
(٢٤٥) نفوس مضطربة، ٤٣.
(٢٤٦) هي الحياة، الشيخ جمعة.
(٢٤٧) عبد المنعم شميس، الرعاع، عتريس الأكبر، مطبوعات الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥