وقد تألقَّت — في حوالي الثورة — أسماء: محمد تيمور، العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم،
حسين
فوزي، محمود تيمور، أمين الخولي، مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق، أحمد أمين، إبراهيم
عبد القادر المازني، محمود طاهر لاشين، وغيرهم من المبدعين والمفكرين.
لخص سلامة موسى ما أثير من اتجاهات حول تجديد الأدب فيما بين ١٩٢٣م و١٩٣٠م بما
يلي:
المدرسة الحديثة
إذا كان العقاد وطه حسين والزيات وفريد أبو حديد والمازني وهيكل وغيرهم يُنسَبون
إلى الريادة، فإن جيل نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير ومحمود
البدوي وعبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وذهني وعادل كامل وأحمد زكي مخلوف
وسيد قطب وغيرهم، يُطلَق عليهم جيل الوسط.
فماذا عن الجيل الذي يتوسَّط الجيلَين — وأنا أتحدث هنا عن المرحلة السِّنية — جيل
المدرسة الحديثة، ومن ينتمون — سنيًّا كذلك — إلى الفترة نفسها؟
٢١
لقد مارسوا الكثير من الألوان الأدبية، لكنهم أفادوا في محاولاتهم من الأدب
الأوروبي، ومن التقنيات الحديثة — آنذاك — وحاولوا الإضافة عمومًا. إنهم — على أي نحو
— جيل
رائد، أفاد من التلمذة عليه جيل الأربعينيات. ولعله — من هنا — يأتي قول نجيب محفوظ إن
مرحلة اليقظة أتت على أيدي طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازني، وبعد فترة —
والقول له — أسهم فيها تيمور والحكيم وحقي. يقول يحيى حقي: «هذا هو نبأ المدرسة
الحديثة في القصة. كانت تضم أشتاتًا من الخلق، ما بين الموظف والصحفي والطبيب
والمهندس. كان بينهم أيضًا مَن يعمل في محل سمعان يتحفنا بقص القصص، ثم ينصرف إلى
عماله ليشرف على قص القماش. كانوا جميعًا من الهواة لا من المحترفين، مخلصين لفنهم،
مؤرَّقين به، لم يسعوا إلى الشهرة، ولا إلى الكسب المادي. ولا أحسب أن أحدًا منهم قد
دخل جيبه قرش من عرق قلمه. كانوا يعملون وليس بجانبهم نقاد، وإن مثابرتهم على
الإنتاج في هذه العزلة الخانقة عن النقد، وعن المجاوبة بينهم وبين جمهور القراء
لتعد إحدى العجائب.»
٢٢ كانوا يلتقون في الشوارع، وعلى المقاهي، وفي إحدى غرف بيت إبراهيم
المصري، يمضون الساعات الطويلة في القراءة والمناقشة. وكانت جريدة «السفور» الأسبوعية
التي أصدرها عبد الحميد حمدي في ١٩١٧م، هي المجال الذي نشر فيه أدباء المدرسة
الحديثة إبداعاتهم. وربما جاء تاريخ إنشاء المدرسة الحديثة في ١٩١٧م لأنه تاريخ صدور
العدد الأول من «السفور»، فصدور «السفور» — للمرة الأولى — يعني بداية المدرسة الحديثة.
وقد
أحدث صدور «السفور» — على حد تعبير مصطفى عبد الرازق — رجة مذكورة في القطر المصري،
وبخاصة لأن اسمها — السفور — قد صدم الذوق العام «وأثار حفيظة جمع كبير من دعاة
الإصلاح الديني، الصادقين منهم والكاذبين، فحسبوا أن جماعة السفور يدعون إلى
الإلحاد في دين الله، بل لقد زعموا أن من ورائهم يدًا قوية للمبشرين المسيحيين
تحرضهم وتؤيدهم.»
٢٣
أما تسمية «ناظر المدرسة» التي أطلقها يحيى حقي على أحمد خيري سعيد، فهي لم تكن
تعبيرًا عن مجرد إعجاب شخصي، لكن المدرسة — كاتجاه فكري وفني — تَدين لأحمد خيري سعيد
بالريادة والأستاذية، حسين فوزي يعتبر محمد تيمور هو المؤسس الحقيقي للمدرسة
الحديثة وليس أحمد خيري سعيد.
٢٤ يقول حقي: «كان حقًّا يقوم بدور ناظر المدرسة الذي يحب تلاميذه محبَّته
لأبنائه، كان واسطة عقدنا، هو الذي علَّمنا جمال حرية الرأي، وثقل الفقهنة، وسماجة
التعصب، وسخف العداء بين الأشخاص لاختلافهم في المذهب. علَّمنا أن أثقل داء هو
الغرور، وكيف ينبغي أن نقر بجهلنا، ونحترم الأساتذة الكبار، هو الذي كان يردنا من
التطرف إلى الاعتدال، ومن الغلو إلى القصد، ومن البهرج إلى المعدن الأصيل. يحب
المناقشة وإثارتها ودفعها إلى درجة الاشتعال، ولكنه هو وحده القادر على أن يطفئ
نارها بكلمة تستخرج الحق البسيط الواضح من كل هذا العجاج والضجيج.»
٢٥
•••
كان أفراد المدرسة الحديثة يقرءون بلزاك وديكنز وتولستوي وفلوبير، والملحق الأدبي
لجريدة «التايمز»، ومجلة «جو أو لندن» و«الأثينيوم» واﻟ «نيشن».
٢٦ واعتبر أفراد المدرسة أنفسهم أبناء لجي دي موباسان وبلزاك وديستويفسكي
وتورجنيف وتشيخوف وتولستوي. وكما يقول حسين فوزي، فإن أفراد الجماعة لم يخرجوا من
ثوب «زينب»، ولا من «حديث عيسى بن هشام»، وإنما من ترجمات محمد السباعي والمنفلوطي
وأحمد حسن الزيات وأنطون الجميل والمازني، ومن الأصول التي ترجم عنها أولئك،
وغيرها.
٢٧ لم يكن للمدرسة، أو الجماعة، مقر، كانوا يجتمعون في كهف يرقى إليه
المرء بدرجاتٍ خمس أو ست، على ناصية شارعَي قنطرة الدكة وعماد الدين، وفي أماكن أخرى،
منها مندرة محمود طاهر لاشين بحارة حسني. قد يذهبون إلى كازينو «دي باري» بقنطرة
الدكة، يناصرون محمد تيمور وسيد درويش في «العشرة الطيبة»، أو إلى تياترو «برنتانيا»
يصفقون لسيد درويش في «شهرزاد»، أو يستمعون للحفلات السيمفونية، ولعزف
كبار العازفين، من أعلى التياترو بالأوبرا.
٢٨ ويشير حسين فوزي إلى أن الجماعة لم تطلق على نفسها اسم «المدرسة
الحديثة» تزعمًا ولا تحديًا وادعاء، بل تندرًا وسخرية بأنفسهم، وبتعاليمهم
الثائرة.
•••
وكانت القصة هي أبرز معطيات المدرسة الحديثة، وإن صدرت لأبنائها أعمال روائية مثل
«الدسائس والدماء» لأحمد خيري سعيد التي أهداها إلى أصدقائه أدباء المدرسة الحديثة
لأنهم أضافوا إلى الأدب العربي فن القصة، ومثل «حواء بلا آدم» لمحمود طاهر لاشين،
و«الأطلال» لمحمود تيمور وغيرها.
وقد أفلحت المدرسة الحديثة في تخليص فن القصة والرواية — والنثر بعامة — من لغة
المقامة كما في «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، ومن الاتجاهات الوعظية كما في «النظرات»
و«العبرات» للمنفلوطي، ومن التمصير الذي يختلف — في لغته وأحداثه وشخصياته — عن الأعمال
التي نقل عنها كما في «ماجدولين» و«الشاعر» وغيرها. حرصت إبداعات أبناء المدرسة الحديثة
على اللغة البسيطة، السهلة، المطعمة أحيانًا ببعض المفردات أو التعبيرات العامية،
أو بالحوار العامي. وقد أجمع النقاد على أن محمد تيمور هو «منشئ الأقصوصة المصرية،
ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة»، بل إن البعض يعتبر قصة «في
القطار» هي البداية للقصة القصيرة المصرية.
٢٩ ويذكر المستشرق الألماني أ. شادة أن السنوات الثلاث التي أمضاها محمد
تيمور في باريس (من ١١ إلى ١٤) حرضته على «إيجاد أدب مصري حديث، تنعكس فيه صورة
الشعب المصري بجميع مظاهره.»
٣٠ ويقول حسن محمود في تقديمه لرواية «حواء بلا آدم»: «لعل أكبر نِعَم
الأدباء المجددين على الأدب في عصرنا هذا، هو الأسلوب الذي بدأ ينمو على قواعد
جديدة، ويقوم على أسسٍ صحيحة، فقد ذهب الزمن الذي كان الكُتاب فيه لا يطمحون إلى غير
بلوغ مرتبة كاتب من الكُتاب الأقدمين، ويحاولون عبثًا محاكاته بالتقليد، فإذا ما
بلغوا شيئًا من ذلك اعتبروا أنفسهم في مرتبة الأدباء، أو اعتبرهم الناس. أما اليوم
فنحن نفهم غير هذا، أو أن أكثرنا يفهم غير هذا، على الأقل كُتاب الشباب، فالغرض الذي
يقصدونه هو الابتكار لا التقليد، وهم يقرءون الكتب القديمة لا على أن يتخذوها
مثالًا، بل على أن يقفوا منها متفرجين، لأنها تمثِّل عصرًا، ذَهَب وانقضى، وتمثل زمنًا
كانت وسائله محدودة، وحضارته مهما قيل فيها، فهي لم تبلغ قَط مبلغ الحضارة التي نعيش
في كنفها، أعني الحضارة الأوروبية.»
٣١ وقدمت إبداعات المدرسة الحديثة شخصيات منتزعة من قلب البيئة الشعبية
المصرية، تأثرًا بالأدب الروسي الذي لم يخفِ أبناء المدرسة الحديثة إعجابهم به،
وتتلمذهم عليه. ثمة صغار الموظفين ورواد المقاهي والحانات والخاطبات والدلالات
والبلانات والبغايا وماسحو الأحذية وباعة الصحف وباعة اليانصيب وأُجراء الفلاحين
والبوابون والكمسارية والمجاذيب والسعاة وغيرهم. وكما يقول حسن محمود، فقد سرت موجة
الإعجاب بالإبداع الروس من الغرب إلى الشرق «فتلقَّاها في هذه البلاد (مصر) جماعة
من الشبان الناشئين، يؤمنون بالحضارة العربية كل الإيمان، ويعيشون بعقل أوروبي،
فأقبلوا على مؤلفات جوجول وديستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، واستمعوا إلى موسيقى
تشايكوفسكي وسورجسك ورومسكي وكورساكوف، وحضروا مشاهد بافلوفا ورواياتها الراقصة،
فتفتحت أمام أعينهم أجواء جديدة لم يكونوا يعرفونها، وراحوا يستزيدون من وحي روسيا
بكل وسيلة، حتى في الأمور البسيطة، فهم يبحثون في أنحاء القاهرة والإسكندرية،
ليتذوقوا «الكفاس» و«الفودكا»، تلك المشروبات الروسية التي قرءوا اسمها،
ويرتادون المطاعم الروسية ليذوقوا الطعام الذي يأكله أبطال القصص الروسية.»
٣٢ واللافت أنه حين استجاب محمد لطفي جمعة لطلب محرر «البلاغ» بأن ينسب
ما يكتبه من قصص إلى أدباء أوروبيين «لكي تُروَّج وتنجح»، فقد فضَّل أن ينسِب قصصه إلى
أدباء روس، مثل تولستوي وتورجنيف وديستويفسكي وجوركي وغيرهم؛ كان يدرك موقع الأدب
الروسي في وجدان القارئ المصري.
•••
كان تعبير المدرسة الحديثة — والرأي لعباس خضر: «يطلق إطلاقًا عامًّا، وإطلاقًا
خاصًّا، فالعام هو كل الداعين إلى التجديد، أما الخاص، فقد اقتصر على مجموعة
الأصدقاء الذين شكَّلوا جماعة أدبية، هدفها «إيجاد فن قصصي قومي»، وهو هدف يشحب في
ضوء الاهتمامات الفعلية لأدباء المدرسة.» وما عبَّر عنه أحمد خيري سعيد في العدد الأول
من مجلة المدرسة «الفجر: صحيفة الهدم والبناء»، لتعنى بفكر المدرسة وإبداعاتها، في
١٩٢٥م، أي بعد تكوين المدرسة بثمانية أعوام، يكتب أحمد خيري سعيد (٢٠/ ٣/ ١٩٢٥م): «فللآداب
أنصار جدد، انشطروا بحكم نزعات تفكيرهم، وظروف تهذيبهم، وتأثيرات الوسط،
إلى مدارس متحدة الغاية، مختلفة الوسائل. فهناك مدرسة لطفي السيد ومنصور فهمي وهيكل
وطه حسين وعزمي وأحمد ضيف ومصطفى عبد الرازق، وهناك مدرسة المازني وعبد الرحمن شكري
وعباس حافظ ومحمد السباعي وعباس العقاد وعلي أدهم وعبد الرحمن صدقي، وهناك مدرستنا
الحديثة التي اتخذت هذه الجريدة — الفجر — لسان حالها، وأعضاؤها كثيرون، وتمتاز هذه
المدرسة بالعناية بالعلوم الحديثة والفنون الجميلة اهتمامها بالآداب. وجميع هذه
المدارس متحدة ضد القديم، وضد الجديد الفاسد.» ودعا أحمد خيري سعيد إلى «أدب
مصري، وفن مصري، وتفكير مصري؛ ننكر التفكير بعقول الغير، وسواء عندنا الذين يفكرون
بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهليين، فكلهم مقلِّد، وكلهم بوق لا يحس
الحياة.»
٣٣
المدرسة الحديثة جزء من حركة إبداعية مصرية، رفضت التقليد والمحاكاة، وحرصت أن
تكون وليدة البيئة، وتعبيرًا عن المصرية الخالصة «خلق أدب مصري محلي صادق في
تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب.»
٣٤ تضافرت في تلك الحركة — مع المدرسة الحديثة — موسيقى سيد درويش، وتشكيليات
جيل الرواد، والمسرحيات التي ناقشت همومًا مصرية حقيقية، رغم اعترافنا بسذاجة معظم
تلك المسرحيات، إن لم يكن تفاهتها. بالإضافة إلى ذلك، فقد تنوَّعت اهتمامات أعضاء
المدرسة الحديثة. ثمة مَن كتب المسرحية، ومَن كتب الرواية، والقصة القصيرة، ومن عني
بالباليه والفنون التشكيلية والموسيقى السيمفونية والأوبرا والرقص الشعبي والرقص
الحديث والعمارة. ومن أخلص — مثل حسين فوزي — لرحلات الزمان والمكان … لكن الهدف الذي
كان يجمع جماعة المدرسة الحديثة هو الهدم والبناء، هدم كل ما هو قديم ومتخلف، وبناء
الجديد والمتقدم. كان الهدف شروعًا في نهضة، وأسس النهضة هي تلاقي الروافد، واكتمال
الخطة. حتى الرقص كان له — والتعبير لخيري سعيد — من بين أعضاء المدرسة الحديثة أنصارٌ
جدد، يعملون على النهوض به من شهوانيته وفحشه. أما الصحيفة التي أصدروها، فقد جعلوا
شعارًا لها: الهدم والبناء. شعار مرادف للشعار الذي رفعته المدرسة: لا للتقليد
والمحاكاة! نعم للأبقى والأرفع! وتحددت اهتمامات المدرسة في العناية بالعلوم
الحديثة والفنون الجميلة والآداب، والنهوض بالفن القصصي. وكتب أحمد خيري سعيد: «فلتحيا
الأصالة، فليحيا الإبداع، فليحيا التجديد والإصلاح.»
٣٥ وكتب: «حي على الابتكار! حي على الخلق! حي على التجديد والإصلاح!»
٣٦ «مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء ولا على
المحدثين. فسيَّان أن تضيف نفسك إلى القدماء من أجدادك، أو تلصقها بالمعاصرين من
الغرباء. مثلنا الأعلى أن نطرح التقليد إلى الأبد، فإن شعورًا بالكرامة والقوة،
وطموحًا إلى التقدم السريع الثابت … كل هذه تأبى علينا أن نهوي إلى درك القدرة، إلى
درك أنصاف الأناس.»
٣٧
•••
وفي تقدير يحيى حقي أن أعضاء المدرسة الحديثة مرُّوا في مرحلتين: الأولى مرحلة
اتصالهم بالأدبَين الفرنسي والإنجليزي. قرءوا لشكسبير وثاكري وموريسون وكارليل وسكوت
وستيفنسون وديكنز وكورني وراسين وموليير ولافونتين وبلزاك وهوجو ودوماس الأب والابن
وفلوبير وموباسان. ثم قرءوا لأسماء أخرى: جوته وأوسكار وايلد وإدجار ألان بو وبول
فيرلين ورامبو وبودلير وبيرانديللو ودانتي ومارك توين. وكان من النادر — على حد تعبير
يحيى حقي — أن تسمع باسم الجاحظ أو المتنبي. ثم انتقل أعضاء المدرسة الحديثة إلى
المرحلة الثانية — يسميها حقي مرحلة الغذاء الروحي — قرءوا الأدب الروسي، وبهرهم جوجول
وبوشكين وتولستوي وديستويفسكي وتورجنيف وأرتوباتشيف وجوركي. «فهذا الأدب يتحدث
بحرارة وانفعال شديد عن الاعتراف والنزعة إلى التطهر والفداء، والبكاء على مآسي
الحياة، والإيمان بالقدر والثورة عليه في وقت واحد.» وقد حركت تلك المرحلة نفوس
أعضاء المدرسة، وألهبت عواطفهم، ودفعتهم للكتابة بحرارة الشباب. لذلك — والكلام
لحقي: «لا أكون بعيدًا عن الحق، إذا أرجعت إلى الأدب الروسي الفضل الأكبر في إنتاج
أعضاء المدرسة الحديثة، وتكون القصة بذلك قد مرَّت من التأثر بالأدب الفرنسي على يد
هيكل، إلى التأثر بالأدب الروسي على يد هذه المدرسة الحديثة.» يقول حسين فوزي: «كنا أبناء
جي دي موباسان وبلزاك وديستويفسكي وتورجنيف وتشيخوف وتولستوي. ربما حقت
علينا كلمات واحد من الروس العظماء، وأظنه ديستويفسكي، حينما قال: كلنا خرجنا من
معطف جوجول. هذه حقيقة أحب أن أذكرها. لم نخرج من ثوب «زينب»، ولا من «حديث عيسى بن
هشام»، إنما من ترجمات محمد السباعي والمنفلوطي وأحمد حسن الزيات وأنطون الجميل
والمازني، من الأصول التي ترجم عنها أولئك وغيرها.»
٣٨ ويضيف حقي أن أعضاء المدرسة الحديثة كانوا — في أغلبهم — «يعتنقون حرية
الفكر، المقدسات لا ترهبهم، وأحيانًا لا تقنعهم. وكانوا أيضًا من المؤمنين بالأدب
الروسي، وهو يعج بالمشكلات الروحية. مع ذلك، فقد اقتصر اهتمامهم على الهموم
المعيشية الأرضية، وتصوير العلاقات الاجتماعية بين الناس، أو وصف أنماط شاذة مضحكة
من البشر، فلا تجد في إنتاجهم آثار القلق إزاء لغز الوجود، وقدر الإنسان، والصراع
بين الخير والشر، وحاجة النفس إلى الوصول للطهر في محراب الجمال.» وقد وجدت
المدرسة الحديثة مجالًا في صحيفة «السفور» التي أصدرها عبد الحميد حمدي في ١٩١٧م،
وكانت تدعو — بسفور — على حد تعبير حقي — إلى اعتناق المذاهب الأوروبية في الأدب
والتاريخ، وإلى التحرر من التقليد، ومحاولة البحث عن أدب مصري صميم، وتطوير الأسلوب
إلى ما يوافق مقتضيات العصر، وتوجيه الأنظار إلى دراسة أدباء مصر وشعرائها، مثل
البهاء زهير. كانت رسالتها استيراد الفكر الأوروبي إلى مصر، كما فعلته — فيما
بعد — مجلة «الكاتب المصري» تحت قيادة طه حسين، ثم تفرقت الجماعة بمشاغل الحياة.
•••
ولعله من الصعب الموافقة على أن المدرسة الحديثة أضافت — فحسب — إلى الأدب العربي
فن
القصة كما قال أحمد خيري سعيد في تقديمه لرواية «الدسائس والدماء»، وكما قال محمود
تيمور الذي ينسب إلى المدرسة الحديثة ريادة القصة القصيرة في الأدب الحديث: «تلاقت
ندوة من شباب العصر، في طليعتهم أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين وحسين فوزي
وإبراهيم المصري وزكي طليمات وحسن محمود ويحيى حقي ومحمد تيمور وكامل حجاج، زكريا
مهران، سيد درويش، أحمد علام، محمد رشيد، فائق رياض، محمود عزي، ذلك الذي قصر معظم
الكتابات التي تضيف حرف الميم إلى اسمه، فهو محمود عزمي، تصورًا — ربما — أنه هو الكاتب
السياسي المصري محمود عزمي. وقد ترجم محمود عزي مسرحية «غادة الكاميليا» التي
مثَّلتها فرقة رمسيس، وقامت روز اليوسف ببطولتها. كان الشغل الشاغل لهذه الندوة أن
توجد القصة المصرية في الأدب الحديث. ذلك هو ما كانت تلهج به، وتدعو إليه، وتعمل
عليه. فأصدر أحمد خيري سعيد مجلة «الفجر»، لسان حال لتلك الدعوة الأدبية، التي
كانت وقتئذٍ شعاعة تائهة في أفقٍ يكسوه الضباب. وما هي إلا سنوات قصار، حتى صحا
الأفق، وسطعت الفكرة، وتجلى طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني والعقاد وشوقي، يدعمون
الفن القصصي، ويقيمون صرحه، بما أولوه من عناية وتقدير، فاتسقت للقصة المصرية مكانة
مرموقة، جذبت إليها ذلك السيل الدافق من الأدباء القصصيين، وأصبح القراء يتفقدونها
في كل صحيفة — يقصد جريدة — ومجلة وكتاب، حتى لقد صارت كلمة «القصة» عنوانًا جذابًا
للكتب، وإن لم يكن لها صلة بالفن القصصي، فرأينا كتاب «قصة الأدب في العالم»، بل
«قصة الفلسفة الحديثة»، بل «قصة الميكروب كيف اكتشفه رجاله». إن يحيى حقي يجد
في معطيات المدرسة الحديثة تعبيرًا عن ثورة ١٩١٩م. في أحضان الثورة نشأت موسيقى سيد
درويش، ونشأ أدب المدرسة الحديثة، وكلاهما منبعث عن حاجة ملحة لإيجاد فن شعبي صادق
الإحساس، لأدبٍ واقعي، متحرر من التقليد، واقتباس الأخيلة من الغير. صدرت «الفجر»
للمناداة بالاستقلال في الأدب والفن والتفكير.»
٣٩ وكان هدف المدرسة هو الشروع في نهضة، ليس في المجال الأدبي فحسب، وإنما
في مجالات الفنون المختلفة، مثل الموسيقى والفن التشكيلي وفن الرقص الذي كان من بين
أعضاء المدرسة من عنوا بدراسته. وكما يقول حسين فوزي، فقد كانت جماعة المدرسة
الحديثة تتابع خُطى سيد درويش خطوة خطوة في أدواره وطقاطيقه. حتى أحمد خيري سعيد ما
يلبث أن يصف المدرسة الحديثة بأنها أكاديمية حديثة «أنشأها جماعة من الفنانين
والأدباء على أساس ديمقراطي حر.»
٤٠ وزاد فطالب بمدرسة عليا للفنون، ومعهد للموسيقى، ومجمع لغوي، ومعجم.
فالمدرسة الحديثة إذن لم تكن مقصورة على الأدباء، وإنما ضمَّت إليها عددًا من
الفنانين ومنهم — كما أشرنا — زكي طليمات وسيد درويش وحسين فوزي الذي تفوق اهتماماته
الفنية ما عداها من اهتمامات، وكان قد سبق محاولات أبناء المدرسة الحديثة إرهاصات
ومحاولات تقترب من النضج، بحيث يبدو ما ذهب إليه كل من أحمد خيري سعيد ومحمود تيمور
وليد حماسة وتأكيد للذات، فإن المدرسة الحديثة لم تقتصر على هذه الأسماء التي ذكرها
تيمور.
ثمة مريدون تساقطت أوراقهم الإبداعية — لأسباب شخصية وموضوعية — مثل أحمد نظمي، فرج
جبران، محمد عبد القدوس، محمود عطية يوسف، أحمد حلمي سلام، مصطفى فهمي، عبد العزيز
الخانجي، نور الدين طراف، محمد أحمد غنيم، أمينة أحمد طه، حسن عارف وغيرهم. ويقول
محمد أمين حسونة إن لواء المدرسة الحديثة خفق فوق «الفجر»، وتمكَّنت من أن «تؤدي
الرسالة كاملة غير منقوصة، واستطاعت — كما استطاع غيري من الشباب — أن يظهر أول
ابتكاراته القصصية على صفحاتها، ولو عاشت «الفجر» لكوَّنت طبقة من صفوة الكُتاب
المستنيرين، والذين تقوم على جهودهم دعائم القصة المصرية.»
٤١
•••
كان ناظر المدرسة «الأول والأخير» — على حد تعبير حسين فوزي — أحمد خيري سعيد. عاد
من فلسطين، بعد أن انتهت مهمته كطبيب عسكري لفرق العمال المصريين المصاحبين للجيش
الإنجليزي. كان قد عايش أحوال العمال القاسية في الطريق إلى بئر السبع وبيت المقدس.
هجر دراسة الطب، وانشغل بالكتابة في صحف الحزب الوطني، أما أغزر أفراد المدرسة
إبداعًا، وأوفرهم موهبة، فهو محمود طاهر لاشين، المهندس بمصلحة التنظيم.
وعلى الرغم من الإبداعات المتميزة لأدباء المدرسة الحديثة، فقد أعلن محمود تيمور
استغرابه من «الكثيرين من أذكياء العلماء والأدباء المصريين — أصحاب المدرسة القديمة
— ينظرون إلى القصة أو الأقصوصة بعين الاحتقار، زاعمين أنه ليست ثمة فائدة منها،
اللهم إلا فائدة الفكاهة، والقليل من اللذة الفكرية في أوقات الفراغ، وهذا خطأ،
فالقصة الراقية لم توضع لغرض الفكاهة واللذة الفكرية فحسب، وإن كانت تضمها عناصرها.
ولا يخفى ما في الفكاهة واللذة الفكرية من الأثر الفعال في تنشيط الذهن، وإكساب
النفس بهجة وانشراحًا.»
٤٢
•••
وثمة ملمح مهم يجدر بنا أن نتوقف أمامه، فإذا كان البعض من أدباء المدرسة الحديثة
قد أسرف في نقد التراث العربي، والتأكيد على غثاثته، حتى لقد دعا إبراهيم المصري
الأدباء الجدد لأن «ينبذوا ظهريًّا ثقتهم العمياء بصلاحية الأدب العربي البالي، وأن
يقبلوا على ينابيع المعرفة الحقة، فلا يكتبوا إلا بعد ثقافة أوروبية
طويلة.»
٤٣ إذا كان هذا هو رأي البعض من أدباء المدرسة الحديثة، فإن العديد من
الآراء، بل والأعمال التي صدرت لخيري سعيد وطاهر لاشين ومحمد تيمور ومحمود تيمور
وغيرهم من أدباء الجماعة تشي بأن النظرة إلى التراث العربي — في تقدير ناظر المدرسة
وأعمدة رئيسة فيها — لم تكن رفضًا مطلقًا، وإن بدت حداثة الآداب الغربية — بما يختلف
عن
المعنى الذي نتداوله هذه الأيام — هي الأقرب إلى الذوق والمعايشة والتأثر، ثم التعبير
عن الإبداعات المصرية الخالصة. ثمة ترجمات للأدب الروسي لأننا — كما قيل — «بالروس
أشبه الأمم» ثم نشرت ترجمات للأدبَين الفرنسي والإنجليزي.
رفض التقليد والمحاكاة الذي حرصت عليه المدرسة الحديثة، لم يقتصر على رفض التراث
العربي مقابلًا للحفاوة بالإبداعات الغربية، وإنما كان الهدف «خلق أدب مصري محلي
صادق في تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب.»
٤٤ يقول أحمد خيري سعيد: «كانت نظراتنا الأولى موجهة إلى ذاتنا، إلى
عالمنا الداخلي، إلى استكناه الفطرية النفسية؛ فالجامعة التي كانت بيننا جامعة
إصلاح وحركة تطور وانقلاب، مدفوعين باختلاجاتٍ قوية، وثورات باطنية، للخروج على
القديم، وها هي عملية الهدم تطرد، والثغرة في أسوار القديم تتسع وتنفرج، وسندخل
المدينة ظافرين.»
٤٥ أما الهدف فهو «أن يكون لمصر أدب مصري، وفن مصري، وتفكير مصري، ننكر
التفكير بعقول الغير. وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون
بعقول الجاهليين أو العابثين، فكلهم مقلِّد، وكلهم بوق لا يحس الحياة.»
٤٦ يضيف أحمد خيري سعيد: «غير منصف هذا الذي يرفض القديم كله، وغير منصف
ذلك من يرفض الجديد كله. ولا نكران في أن القديم به الكثير مما يجب رفضه، لكن أكثره
صالح، والجديد خاضع للناموس الذي خضع له القديم.» وقد شددت المدرسة الحديثة على
ضرورة استيحاء التراث أعمالًا قصصية عصرية، بداية من قصص القرآن، مرورًا بحكايات
الأغاني التي تضم «ثروة خصبة يمكن استخدامها في تأليف الروايات بأنواعها، من
مسرحية وغير مسرحية.»
٤٧ ونحن نجد مثلًا لتوظيف التاريخ في رواية أحمد خيري سعيد «الدسائس
والدماء» عن علي بك الكبير. بل إن حسين فوزي — أشد أعضاء الجماعة رفضًا لكل ما شرقي،
وإقبالًا على كل ما هو غربي، كما أكد ذلك في كتابه سندباد عصري — أضاف إلى ثقافتنا
العربية حديث السندباد القديم الذي يعتمد على كتب التراث العربي بصورة
أساسية.
لم يكن خيري سعيد إذن، ولا المدرسة الحديثة، ضد الأدب العربي، لكنه كان ضد ما لا
يلائم العصر منه، ضد النقلية واعتبار كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من
خلف «مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء، ولا على المحدثين،
مثلنا الأعلى أن نطرح التقليد إلى الأبد.»
•••
جاوزت إسهامات المدرسة الحديثة الإبداع الأدبي، كما أشرنا، شملت جوانب ثقافية
وفنية مختلفة، فثمة المهتمون بالموسيقى الحديثة، وبفن العمارة الحديثة، والفن
التشكيلي، حتى فن الرقص، كان له من بينهم أنصار جدد يعملون على النهوض به من
شهوانيته وفحشه.
٤٨ ويعيب يحيى حقي على الجيل التالي لمحمود طاهر لاشين أنه لم يعن بها،
حتى إذا ما نضج أدرك أنه كان يستطيع أن يبدأ من حيث انتهت هذه المدرسة.
٤٩
وسواء عندنا
الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهلين أو العابثين، فكلهم
مقلِّد، وكلهم بوق لا يحس الحياة.
٥٠ وكانت «عودة الروح» — كما يقول الفنان — محاولة لتأكيد الشخصية المصرية، في
الوقت الذي كانت فيه تلك الشخصية تحاول أن تجد ذاتها، وأن تؤكدها. يقول: «كانت
القضية الفكرية الشاغلة للعقول بعد ثورة ١٩١٩م، هي الشعور بالشخصية القومية، وبعث
الروح المصرية، بعد تسلُّط أجنبي دام فترة طويلة من الزمن، استكانت فيها الأمة، حتى
زعم الأجانب المتسلطون أنها جنس دون جنسهم، وليس من شأنها، ولا من طبيعتها، أن ترقى
رقيهم، ففكرت في أن أدحض هذا الزعم، وأثبت أن الروح كامنة، وهي روح عظيمة، ولا بد أن
تعود، وأن الشعب الذي صنع الحضارة القديمة، والتفتَ العالم الغربي نفسه إلى ما كان
لهذه الحضارة من شأن عظيم بعد كشف حجر رشيد، وفك رموزه ودلالاته، على ما كان من
حضارة ليست أقل من حضارة الإغريق، وحرتُ في وسيلة التعبير، ثم اهتديت إلى أن الأليق
بي أن أعبِّر عن ذلك في رواية، برغم ميلي واتجاه نفسي إلى كتابة المسرحية، لأني وجدت
أن المجال الروائي الرحب هو الملائم للموضوع، فكانت رواية «عودة الروح».
٥١
•••
لم يكن أدباء المدرسة الحديثة — كما يقول يحيى حقي — يكتبون ابتغاء لأجر، بل إرضاء
لمنزع قوي في نفوسهم، وتحقيقًا لدراسة في الآداب العربية في سبيل الوصول إلى أدب
مصري صميم، ولا تدخل الشهرة في حساب المؤلف المصري، لأن الشهرة عن طريق الأدب تُعتبر
شيئًا من الترف لا يقبلها الشعب المصري على مائدته.»
٥٢ بل إنهم كانوا يعانون مشكلة ظلَّت — حتى زمننا الحالي — بعض سمات حياتنا
الإبداعية، وهي — كما سماها أحمد خيري سعيد — «كساد صناعة الأدب». وكان لتلك السِّمة
السلبية أوثق علاقة بتأخر القصة المصرية، وعدم ظهور الرواية، وهي عدم وجود ناشرين
للقصص والروايات والأعمال الفنية، «وأظن أنه لو وُجد هذا الناشر على نحو ما هو
قائم في البلاد الغربية، لوَثَبت القصة والرواية إلى السماء فجأة، أو بعد مدة قصيرة.»
ودلَّل خيري سعيد على معاناته مع تجارب النشر برواية علي بك الكبير التي لم تجد من
يطبعها.
٥٣
•••
ومنذ أواخر الثلاثينيات، كانت رسالة المدرسة الحديثة قد اكتملت، ولم «يبق منها
في أواخر الأربعينيات إلا ذيول.» ولعلي أذكِّر بكلمات يحيى حقي عن محمود طاهر
لاشين: «نحن مدينون للمدرسة الحديثة بالشيء الكثير، هي التي جاهدت من أجل أن يكون
لدينا أدب أصيل، نابع عن كياننا، وأسلوب متحرر من التكلف والميوعة، هي التي ثبَّتت
لفن القصة قدمه، ووطدت سمعته، وبشرت بالمذهب الواقعي، فخلَّصتنا من نهنهة الرومانسية،
وهي التي حاربت الظلم والفقر والجهل والتخلف والنفاق — أكبر أعدائها — ورفعت مقام
الفلاح ورجل الشارع، ونادت بالتكافل الاجتماعي، فمهَّدت — ولا ريب — لثورة ١٩٥٢م، ثم
إقامتنا لاشتراكية عربية مستقلة، لا تتنكر لعقائدنا ومُثُلنا الأخلاقية.»
٥٤
وإذا كان ميلاد المدرسة الحديثة قد بدأ قبل نشوب الثورة بعامين، فإنها كانت
إرهاصًا قويًّا بعملية البحث في الذات المصرية، تلك التي يُعَد شعار «مصر للمصريين»
مقدمتها الرئيسة. وتأكد ميلاد المدرسة الحديثة بظهور مجلة «السفور» الأدبية في
عام ١٩١٧م، بالإضافة إلى أن تلك المجلة نشرت أوائل إنتاج طه حسين وهيكل وأحمد ضيف
ومنصور فهمي والشيخ مصطفى عبد الرازق. ويقول حسين فوزي: «تربيت مع جدتي تربية
إسبرطية حازمة، ولكن تربيتي الحقيقية كانت في المدارس، مدرسة محمد علي الابتدائية
والسعيدية الثانوية، وكان معظم زملائي في هاتين المدرستين من الطبقة الأرستقراطية
أبناء الوزراء والحكام وكبار أثرياء مصر، وجعلني ذلك أميل إلى اتخاذ الموقف
الأرستقراطي المتعالي، ولم ينقذني من ذلك سوى شيء واحد، فبمجرد أن تركت المدرسة
الثانوية إلى المدارس العالية، أو الجامعة، تعرفت على أعضاء المدرسة الحديثة، ودعك
من كل التفاصيل عن هذه المدرسة، فهي — في نظري — شخصان اثنان، أو في الأقل من ناحية
تأثيرها عليَّ، هذان الشخصان هما أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين.»
٥٥ وإذا كان أحمد خيري سعيد هو ناظر المدرسة الحديثة — كما اصطلح أعضاؤها
على تسميته — ففي تقديري أن محمود طاهر لاشين كان هو أنشط أعضاء المدرسة، وقد عبَّر
بأعماله عن الاتجاه الذي تدعو إليه، وتتبنَّاه، وإن عني بهموم اجتماعية خالصة، ولم
تشغله السياسة. إن أعمال محمود طاهر لاشين هي المعلَم البارز في بدايات مسار القصة
المصرية القصيرة. يقول أحمد زكي أبو شادي: «والمتأمل في قصصه الصغيرة، الجميلة، لا
يفوته أن يدرك مبلغ تأثره الكبير بأمثال ديكنز وتورجنيف وديستويفسكي من أعلام
القصصين في الغرب، أولئك الذين مزجوا الفن القصصي برسالة الإصلاح الاجتماعي، تلك
رسالته يحن دائمًا إلى بثِّها متمذهبًا بالمذهب الواقعي، ويلوح أنه يشعر بعبء
مسئوليته الأدبية الإصلاحية، فهو يتريث في استجماع ملاحظاته من صور الحياة، حياة
الطبقتين الوسطى والسفلى على الأخص بحسناتها وعيوبها، ثم يبذل مجهوده الفني في حبْك
قصته مازجًا المزاح بالجد، متوخيًا الدقة في التعبير الفكهي، وهي طريقة كاد يتفرد
بها بين كُتابنا القصصين، ولا يحاكيه فيها غير القصصي المجيد يحيى حقي الذي ابتدأ
يؤلف بعده بقليل.»
٥٦ واللافت أن أحمد خيري سعيد — في تقديمه لمجموعة «سخرية الناي» (١٩٢٦م) أشار
إلى أنه كان سيشعر بشيء من الوجل لو أن الأدب العربي كان في غير حالته الحاضرة «أما والفن
القصصي الذي أصبح في بلاد الغرب هو الأدب بعينه، ما برح في آدابنا ضئيلًا
إلى حد الانعدام، فهو إذن يتقدم بمجموعته في سرور من يترك في وضع أساس يشاد عليه
هذا النوع الجديد من الأدب.» والكلمات — كما ترى — لا تخلو من دلالة عميقة؛ لقد تناول
لاشين في قصصه هموم الطبقة الوسطى — تلك التي كانت أشد الطبقات اقترابًا من ثورة
١٩١٩م، وإفادة من نتائجها، بالإضافة إلى أن الموظفين — في تلك الفترة — كانوا يشكِّلون
الغالبية العظمى من قراء الأدب. ومع أن قصص لاشين حفلت بالعديد من الشخصيات
الهامشية، فإن أحدها لم يصبح — بمفرده — محورًا لقصة. ثمة بائع الصحف وماسح الأحذية
وجرسون المقهى وخادم المنزل والخاطبة والبلانة والقوادة وبائع اليانصيب والبواب
والكمساري والدرويش والساعي والحلاق والبغي … إلخ، ما الجديد إذن من الشخصيات التي
أضافها كُتاب القصة بعد طاهر لاشين؟! وبلغ حرص محمود طاهر لاشين على إضفاء
الواقعية على قصصه أنه كان يتردد على الأماكن التي تدور فيها الأحداث مثلما فعل في
قصة «بيت الطاعة» التي تردد بضع مرات على المحكمة الشرعية للتعرف على الحياة فيها،
قبل أن يكتب قصته.
٥٧ القصة إدانة مباشرة لبيت الطاعة، فالزوج التركي تصور أنه قد نجح في
إخضاع زوجه، وفي إذلالها، عندما حبسها في بيت الطاعة، لكن الزوجة تتصل بشاب من
الجيران، وتنجب منه طفلًا يتصور الزوج أنه ابنه، فيقيم له ليلة ساهرة احتفالًا
بقدومه!
وفي الحقيقة أن عمل محمود طاهر لاشين في مصلحة التنظيم أتاح له إمكانية الاختلاط
بكل فئات الشعب وطبقاته، والاحتكاك بميادين ومجالات متباينة، والتعرف على أدق
مكونات الحياة المصرية. كان مهندسًا، تنقَّل — حسب طبيعة عمله — من حي إلى حي، جاس خلال
الأحياء الشعبية، وخالط أولاد البلد وصغار التجار وأصحاب القهاوي، واطلع على
أحوالهم ومشكلاتهم ونوازعهم ومآتمهم وأفراحهم.
٥٨ فانكشف له — على حد تعبيره — «المستور وراء الجدران ووراء الأبدان، وعرفت
من الحقائق ما يزيف الظاهر، ويهتك الطلاء عن المرئي لنا نحن المبصرين العميان.»
٥٩ وبلغ اهتمام محمود طاهر لاشين بالمشكلات الاجتماعية حد اتهام يحيى حقي
له بأنه «وقع فريسة سهلة لإرهاب الفكرة القائلة بأن الأدب مرآة للمجتمع ورسالة،
فكلَّف نفسه — عمدًا — أن يفرد قصة لعلاج كل عيب من عيوبنا الاجتماعية، فهذه قصة عن بيت
الطاعة، وقصة عن تعدد الزوجات، وقصة عن الزواج بالأجنبيات وجنايته على الأولاد،
وقصة عن البخل، وأخرى عن أولياء الله الزائفين وخطرهم. لذلك لم تسلم هذه القصص من
الخُطب المنبرية واللهجات الخطابية ونغمة الوعظ والإرشاد، كما لم تسلم من الاستطراد
والزيادات التي لا طائل تحتها، فأصابها هذا القصد إلى العظة بشيء من
التكلف.»
٦٠ ورغم هذا فإن حقي يشير إلى قصص طاهر لاشين بأنها ستكون «ككتب جوجول في
الأدب الروسي من حيث إنها أصدق تمثيل للخطوات الأولى، وللأساس كيف بُني وعلا.»
٦١
•••
ولعل زكريا الحجاوي هو الوحيد الذي يرى في المخرج السينمائي أحمد جلال «واضع
نقطة البدء في الأقصوصة المصرية الخالصة.»
٦٢ فقد ذهب معظم النقاد إلى أن محمد تيمور هو «منشئ الأقصوصة الحديثة،
ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة.»
٦٣ كان محمد تيمور — كما وصفه شقيقه محمود تيمور بحق — هو أحد الأصوات
الأولى — ولعله الصوت الأول — في القصة القصيرة المصرية، مجموعته «ما تراه العيون» هي
أول
ما أبدعه أديب مصري حين نُشرَت في جريدة «السفور» سنة ١٩١٧م.
٦٤ وكما يقول محمود تيمور، فإنه «مهما تبلغ القصة المصرية على مر العصور
من الجودة، ومهما ترقى في سُلَّم الآداب العالمية، فلن ينسى تاريخ الأدب المصري أن
صاحب «ما تراه العيون» كان الطليعة الناجحة الموفقة لإنشاء قصة مصرية الموضوع، مصرية
الشخصيات، مصرية أصيلة في تعبيرها عن الروح والجو والمعالم الخاصة المميزة.»
٦٥ فلا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب.
٦٦ وقد مات محمد تيمور في ٢٤ فبراير ١٩٢١م ولما يبلغ الثلاثين. ومما يحسب
للمازني، ذلك السبيل المتغير لما كان عليه أدباء جيله؛ أنشأ أسلوبًا أقرب إلى
العامية، لكنه يحرص على أصالة اللغة وثرائها. وقد حاول بعض الأدباء السير في الدرب
الذي ارتاده المازني، فتكوَّنت مدرسة صغيرة تحرص على أسلوب «السهل الممتنع»، أبرز
تلاميذها — فيما بعد — حسين فوزي ويحيى حقي.
وظني أنه من المهم أن نشير إلى تقديم المستر باكستون الأستاذ بالجامعة المصرية
لمجموعة محمد أمين حسونة «الورد الأبيض» بأن القصة المصرية القصيرة لا تزال في
مهدها، وأن الكثير من مؤلفي هذه القصص يُلبِسون أفكار الأدباء الأوروبيين لباسًا
مصريًّا، بحيث يتركون «ما يخص مصر في حياتها التقليدية وجاذبيتها.»
٦٧
•••
يربط يحيى حقي بين ظواهر عدة في مجال الثقافة: مختار في النحت، وبيرم التونسي في
الأدب الشعبي، والمدرسة الحديثة في القصة … وجميعها نابعة من ثورة ١٩١٩م «التي فجَّرت
مطلب الكشف عن وجه مصر، عن وجه الشعب، مطلب البحث عن أدب وفن يختص بهما هذا الشعب،
ويعبِّران عنه.»
٦٨ وثمة صورة فوتوغرافية، اقترح يحيى حقي أن تؤخذ لمصر وهي جالسة، عن
يمينها المثَّال مختار، وعن يسارها الموسيقار سيد درويش، بينما يركع محمود طاهر لاشين
— لعله أراد أن يجعل منه ممثلًا للمدرسة الحديثة! — ويضع رأسه على صدرها، وبين ساقيها
جلس بيرم التونسي.
٦٩
كان النحت كان هو الفن الأقوى في مصر الفرعونية، لكنه توقف — أو كاد — منذ بداية
الغزو الأفريقي إلى بدايات القرن الحالي. قرون متصلة ألقى فيها الفنان المصري
أزميله، فلم يعُد إليه إلا في بدايات هذا القرن، بدءًا بالعظيم مختار، وانتهاءً
بالأجيال التالية. يتحدث يحيى حقي عن أذنَي محمود مختار اللتين تلقَّفتا مع همسات
النيل رنين كل دقة نزلت على إزميله منذ أن نبض الفن في بلده، وكل خشخشة لصفحات
كتاب — من بردي أو جلد غزال أو ورق — قلبتها يد «في معبد فرعوني أو في كنيسة أو في
مسجد.» ومن هنا فإن أعماله لم يسبقها أو يلحقها غيره، ليعبِّر عن أصالتها وعظمتها
وجمالها وعبقريتها.
٧٠ وعندما ظهرت الدعوة لإقامة تمثال مصطفى كامل نشر مقال — غفل من الإمضاء —
يدعو كاتبه إلى العدول عن إقامة التمثال لأنه «إحياء للوثنية»! بل إن البعض كان
لا يزال يرى أن التصوير الفوتوغرافي حرام، ورفض أحد موظفي الدولة حمل بطاقة عضوية
مجلس إدارة نقابة الموظفين لأنها تشترط وجود صورته، وكان يقينه أن التصوير حرام!
٧١ ثم تبنَّى الوفد فكرة إنشاء تمثال مختار «نهضة مصر» باعتباره عملًا
سياسيًّا وطنيًّا، وكان مختار قد عرض نموذجًا لتمثاله في صالون باريس عام ١٩٢٠م، ونال
عنه تقديرًا خاصًّا، مثَّل دافعًا للفنان كي يقيم التمثال بالحجم الذي صار عليه — رمزًا
لصحوة مصر — في أحد ميادين القاهرة، ووجدت الفكرة استجابة من كل فئات الشعب.
٧٢ ثم بدأت حملة تبرعات من المواطنين لتنفيذ المشروع، وأزاح الملك فؤاد
الستار عن التمثال في موضعه الأول وسط ميدان العاصمة، في ٢٠ مايو ١٩٢٨م في ميدان باب
الحديد بالقاهرة. ورأى النقاد في تمثال نهضة مصر «أول شعاع تنبثق منه نهضة الفن
المصري وحياته حياة جديدة.» ويقول طه حسين إن حديث الفن كان غريبًا على الشباب
المصري غرابة السيريانية. وكان مختار كشفًا جديدًا وظاهرة فذة نعجب بها دون أن نقوى
على فهمها من تلقاء أنفسنا، ولذلك أجمعنا على تسميته «النابغة». ويضيف محمد حسين
هيكل إنه لو أن تمثال نهضة مصر كان قبل الحرب لوجد من يقوم في وجهه باسم الدين، أو
باسم آخر.
٧٣ ومما يُنسَب لهدى شعراوي أنها أنقذت محمود مختار من ظروف نفسية ومادية
قاسية، فحين أزمع أن يغرق تمثال له في النيل (كرر جمال السجيني الفعل نفسه بعد
عشرات الأعوام!) اشترت منه التمثال بثلاثمائة جنيه، وحرصت على رعايته في مرضه. وبعد
وفاته، سعت إلى جميع أعماله الموزعة بين باريس والقاهرة، وألَّفت جماعة باسم «أصدقاء
مختار»، ودعت إلى إنشاء متحف لأعماله. ونشأ أول جيل من المصورين المصريين الذين
أفادوا من خبرات الأساتذة الأجانب: بويري، جاك هاردي، روجيه بريفال، بوريس فرودمان
كلوزيل، هوتكور، شارل تيراس، بيير أولمار، وغيرهم. كان الفن التشكيلي متأثرًا — إلى
حد كبير — بالفن التشكيلي في الغرب. وكما قال رأي نقدي فإن «استشفاف الشخصية
المصرية من بين اللوحات، أو التنقيب عن المنظر المصري، قد يبدو صعبًا»، ولكن «المناظر
المصرية التي نشتم منها عبير النيل، ونشعر فيها باهتزاز النخيل، ونعجب
بزرقة سمائها، قد كثرت الآن، وتبشِّر بإحياء الفن المصري.»
٧٤ وانطلاقًا من تلك الصورة السلبية، فقد دعا إلى القومية في الفن عدد
كبير من الفنانين التشكيليين، ممن اصطلح على تسميتهم بجيل الرواد. خالف التلاميذ
أساتذتهم في النظرة إلى بلادهم. كان حبهم لها فطريًّا، أملاه المولد والنشأة
والقرابة والبيئة ومعنى الوطن، وعبَّروا عن ذلك كله فيما قدَّموه من معطيات. وفرض جيل
الرواد المصريين نفسه: محمد ناجي (١٨٨٨–١٩٥٦م) ومحمود مختار (١٨٩١–١٩٣٤م) ومحمود سعيد
(١٨٩٧–١٩٦٤م) ويوسف كامل (١٨٩١–١٩٧٢م) وراغب عياد (١٨٩٢–١٩٨٢م) وحبيب جورجي (١٨٩٢–١٩٦٥م)
وأحمد عتمان ومحمد حسن وغيرهم. ويقول العقاد في يومياته: «كنا نكتب المقالات
الافتتاحية عن الفنون الجميلة، فيعجب الكثيرون من القراء، بل يدهشون لهذه المكانة
التي نزج فيها الفن وخدامه بين كبار الأقطاب في إبان النهضة القومية، لأنهم كانوا
يحسبون الفنون الجميلة جميعًا من قبيل اللعب الذي يُقبَل في ساعات اللهو، ولا يجوز أن
يقتحم مكان الصدارة في نهضات الأمم.» وقد أنشأت الدولة في عام ١٩٠٨م مدرسة الفنون
الجميلة، بمبادرة من الأمير يوسف كمال، أقيمت في منزل للأمير بحي درب الجماميز،
وتولى التدريس فيها مجموعة من كبار الفنانين الأجانب.
٧٥ ولم يكن مسموحًا للفتيات بالالتحاق بالكلية.
٧٦ كما أنشئت جمعية محبي الفنون الجميلة في ١٩٢٣م.
ونشط الفن الغنائي كله في موازاة الثورة: بيرم التونسي وبديع خيري ونجيب الريحاني
وسيد درويش وزكريا أحمد وصالح عبد الحي وحسن فايق ومنيرة المهدية ومحمد القصبجي
وداود حسني وكامل الخلعي وحامد مرسي وعبد اللطيف البنا وغيرهم … اشتركوا — بدرجات
متفاوتة — في مؤازرة الثورة، وإلهاب الشعور الوطني بما أبدعوه من معطيات موسيقية.
ولعلنا نلحظ أنه بعد أن كانت ماري (أنا لك) تعزف على البيانو ألحانًا غربية تعلَّمتها
في مدرسة الراهبات، فإنها — بعد الثورة — استبدلت بها الألحان الكشكشية والألحان
الشائعة الأخرى مثل: زوروني كل سنة مرة، أنا لك وأنت ليه، عرفت آخرتها ويا حبي … إلخ،
تحول ذوق ماري الموسيقي الأجنبي، إلى ذوق وطني، شعبي «وجدت فيها طلاوة عصرية.»
٧٧ ذهب جيل من المطربين، وجاء جيل آخر، أعمدته منيرة المهدية وسيد درويش
وصالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا. حتى عايدة الباريسية النشأة، تعلن: سنذهب هذا
المساء لمشاهدة الغندورة. ولأن مجرد اسم التدليل يكفي، فإن إسماعيل لطيف يسألها:
أتحبين منيرة المهدية؟ تجيب: ماما تحبها. ثم توجه كلماتها إلى كمال عبد الجواد:
وأنت يا كمال … ألا تحب منيرة؟
٧٨ وبعد وفاة الشيخ سلامة حجازي (١٩١٧م) اضطلعت منيرة المهدية بأدوار الشيخ
التمثيلية الغنائية، وكانت تؤديها أمام جمهور كبير في مسرح الكورسال. وظل لواء
الطرب معقودًا — أعوامًا طويلة — للبنا وداود حسني والقباني والمنيلاوي والحامولي وزكي
مراد وسيد شطا والمهدية، و«ربما أحضرت الأسر المحافظة الشيخ علي محمود، فما أحلى
صوته وهو يقرأ المولد.»
٧٩ وكانت بصمات طريقة الهنك والرنك لا تزال واضحة على أداء غالبية
المطربين آنذاك، وهي الطريقة التي ابتدعها محمد عثمان في عهد الخديو إسماعيل، عندما
كان المغني يغني عشر ساعات متواصلة وهو يتلاعب بصوته، مرددًا جملة، أو شطرًا من
قصيدة. وكان قوام صوت المهدية هو تلك البحَّة ذات الطابع الحسِّي التي تثير المتلقين.
وبلغت المهدية مكانة غير مسبوقة، حتى إن محمد حسين يكتب في «السياسة» يقول: إذا
كان لعامة الناس من أهل هذه البلاد زعيم محبوب يسيرون وراءه، فقد كانت منيرة لهذا
الجمهور الذي احتشد لسماعها في الأوبرا، زعيمة محبوبة! هيكل إذن ينتصر لزعامة
المهدية الشعبية على زعامة سعد زغلول! ولعلنا نتذكر قول محمد عبد الوهاب «كان
العظماء يغسلون قدمَيها بالشامبانيا.»
٨٠ من هنا كان استقبال النقاد لأم كلثوم أقرب إلى الرفض؛ لأنهم كانوا
يعبِّرون عن المجتمع الذي كان أسير ألفته لطريقة الهنك والرنك. ثمة من ذهب إلى أنها
«ترسل الغناء إرسالًا بغير قطعة من قطع الطرب تمهد لها سبيل الأنغام» وثمة من
أشار إلى أن «زيادة عن حسن الصوت ورخامته، يوجد شيء اسمه الفن، وأم كلثوم تسير مع
طبيعتها فقط، وهذا لا يكفي في الواقع وليس فنًّا» وثمة من أكد أن «في صوتها
جفافًا، ولا يمر صوتها بالآذان، فما تكاد تنفرج شفتاها، وما يكاد الإنسان يحس أن
النغمة تتكوَّن في مرورها بالأوتار حتى تنفلت من الأذن، ولكن يخفق بها القلب.»
٨١
•••
تجرَّد الغناء المصري — بعد الثورة — من التطريب والترديد والليالي وتطويل الحروف
المتحركة والليالي الموسيقية. وانتقل داود حسني من التواشيح والأدوار إلى تلحين
الأوبرا الكاملة «شمشون ودليلة»؛ كان طفرة غير معتادة ولا متوقعة من رجل قضى
الشطر الأول من حياته في «العذاب» و«الشكوى لمين» و«العواذل» ليعبِّر عن
مشاعر كالتشفي والانتقام من شمشون والدعوة «عليَّ وعلى أعدائي يا رب» عندما يهدم
شمشون معبد «داحون» على أهله، وحماس الجند يهبُّون للدفاع عن الحمى، والترتيل
الديني بمعبد إيزيس، وتصوير فزع كليوباترة ووصيفاتها عندما يسقط بينهم سهم مريس،
حمله عاشق الملكة رسالة الهوى.
٨٢وكما يقول الفنان (قصر على النيل) ففي ١٩٢٧م كان خير
المغنين بمبة كشَّر عند الحريم، وعبد اللطيف البنا عند الرجال.
٨٣
•••
إذا كان عبده الحامولي قد استطاع أن يخلص الأغنية العربية من البشارف والمؤثرات
التركية والعبارات الغريبة عنها، ومن ثَم أصبحت الأغنية عربية تمامًا، فإن قيمة دور
سيد درويش الأهم أنه جعل واقع الأغنية عربيًا كذلك. عبَّر باللحن، وبالكلمات، عن
الأفراد والطوائف والحياة اليومية للناس. عمَّق من تجربته أنه كان ينتمي إلى أبناء
الطبقة الأدنى، فقد نشأ في حي كوم الدكة الشعبي، وعمل نقاشًا، قبل أن يتجه إلى
هواية — وحرفة — التلحين. ثمة ألحان الشيَّالين، والبرابرة، والسياسي، وتجار العجم،
والقلل … إلخ. وكما يقول الموسيقي اللبناني وليد غلمية فإن سيد درويش «استطاع — ببضع
أغنيات — أن يجمع التراث المصري كله، وهو الشيء الذي لم يحصل إلا معه.»
٨٤
في ١٩١٧م انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ليبدأ السنوات الست الأخيرة، والأكثر خصوبة
في حياته، وإن واجهت ألحانه — في أعقاب الحرب العالمية الأولى — رفضًا من موسيقيي عصره،
فقد أكدوا على خلوها من الطرب، وأن الأصوب وضعها في إطار «البدع»!
وثمة ملاحظة ذكية، هي أن المسارح الغنائية ذات الوزن الفني توقفت مباشرة بعد وفاة
سيد درويش في عام ١٩٢٢م «صحيح أنه ظهرت بعض أوبريتات متناثرة بعد ذلك، ولكنها لم
تكوِّن تيارًا فنيًّا، ولا تُعتبَر امتدادًا للتيارات الفنية التي حفرها هؤلاء الأعلام،
لأن موت سيد درويش أوقف الثورة الموسيقية التي قادها ذلك الموسيقي الدينامو الذي
كان يعطي الحياة للمسرح الغنائي.»
٨٥
قبل سيد درويش، كان المطربون وحدهم هم الذين يُتاح لهم أداء الأغنيات، أما بعد سيد
درويش، فقد أصبح سيد درويش ظاهرة شعبية، وأصبح الشعب كله يغني؛ انتقلت الأغنية من
الحفلات الخاصة والعامة والمسارح والكازينوهات إلى الشارع والحقل والمصنع، وكل
الأماكن التي تضم مجموعات وظيفية أو عمالية. وللتدليل على ريادة سيد درويش، وعمق
الدور الذي أدَّاه في الموسيقى المصرية، والعربية بالتالي، فإن الملاحظ أن مجموعة
الشعراء والزجالين والكُتاب والمخرجين والمترجمين الذين عاونوا سيد درويش في تقديم
أعماله، أشبه بورشة عمل، مجموعة متكاملة، ما لبثوا أن انفضوا، واتجهوا إلى مسارب
ودروب بعد وفاته في ١٩٢٣م، وإن ظل العدد الأقل مخلصًا لرسالة الفن كما ارتداها سيد
درويش. ويقول حسين فوزي: «قد يسألني شباب الجيل الحاضر عن مدى التجريد الذي أحدثه
سيد درويش في الموسيقى، فلا أعرف أين أبدأ، وإلى أين أنتهي، لأن كافة ما نسمعه
اليوم من الموسيقى المصرية هو أثر من آثار سيد درويش في التجديد، والموسيقى المصرية
ما زالت في الطريق الذي رسمه.» ولا يخلو من دلالة قول الرجل (نفوس مضطربة) في أواخر
العشرينيات إن المدرسة القديمة في الغناء هي البشارف وعبده والمنيلاوي ومحمد
عثمان.
٨٦
والحق أن سيد درويش لم يكن شيخًا بالمعنى العلمي للكلمة، فهو لم يدخل الأزهر
الشريف، وإن تعلم في كُتاب كان يُعِد تلاميذه للالتحاق بالأزهر، فضلًا عن أنه حرص على
ارتداء العمامة والقفطان إلى الأعوام الأخيرة من حياته، حيث استبدل بهما الزي
الإفرنجي والطربوش.
وعلى الرغم من الموت المباغت الذي اختطف سيد درويش وهو لم يجاوز مطالع عقده
الرابع — في الخامس عشر من سبتمبر ١٩٢٢م، وهو اليوم الذي عاد فيه سعد زغلول من
المنفى — فإن ألحانه التي تعبِّر عن الوجدان المصري، ظلَّت باقية في هذا الوجدان:
«– سيد درويش كان يغني لطوائف الشعب الفقيرة، ماذا كان مصيره؟ مات معدمًا!
– ولكن أغانيه ما زالت تعيش بين الناس!»
٨٧
في أحضان ثورة ١٩١٩م نشأ أدب المدرسة الحديثة، ونشأت موسيقى سيد درويش، وكلاهما
تعبير عن حاجة ملحة إلى إيجاد إبداعات متحررة من التقليد والمحاكاة.
٨٨ يقول كمال عبد الجواد لنفسه: «موت المنفلوطي وسيد درويش وضياع
السودان، أحداث كللت زماننا بالسواد.»
٨٩ كان دور عبده الحامولي هو التوفيق بين المزاجَين التركي والمصري،
فالطبقة الحكيمة من الأتراك الذين لا يعدلون الأنغام التركية شيئًا، والشعب
المصري — في المقابل — لا يطرب من الأغنيات التركية. جدَّد الحامولي وطوَّر، وزاوج بين
الأنغام التركية والمصرية، حتى سمَّاه جرجي زيدان «معدل المزاجين بين الأمتين.»
٩٠ ثم أحدث سيد درويش ثورة حقيقية. فهو — في تقدير كامل الخلعي وداود حسني
— ملحن خارج على القواعد والأصول، والمعقول والمنقول.
٩١ كانت الأغنية — قبل سيد درويش — مقصورة على الأصوات القوية، الجميلة، أما
بعد سيد درويش، فقد أصبح كل الشعب يغني، والتعبير لعاشق سيد درويش المحامي يوسف
حلمي. ويتحدث العقاد عن سيد درويش بأنه «كان يرسل اللحن في الرواية أو القصيدة أو
الأغنية الصغيرة، فما هي إلا أيام حتى تتجاوب الأصداء في أنحاء البلاد، فيهتف بها
المنشدون على الملاعب، وتترنم بها العازفات في أندية الأسرة ومجالس البيوت، وينطلق
بها الصبية في السُّبل والأسواق، وتغدو مصر السامعة كلها كأنها فرقة واحدة وقف منها «السيد»
في منصة الأستاذ، فهو يملي عليها «وهو يبدأ لها وتتبع».» قدم سيد درويش
أغنيات مثل: دقت طبول الحرب يا خيَّالة … أحسن جيوش في الأمم جيوشنا … الجيش رجع م
الحرب بالنصر المبين.
٩٢ ويقول الحكيم: «كانت أغاني سيد درويش وألحانه الشعبية تسري في الناس
كالنار في الهشيم.» وبعد أن كانت الأغنية فردية تتوخى التطريب، أصبحت جماعية للشعب
كله، تعِّبر عن همومه ومشكلاته وتطلعاته. وقد بلغ من تأثير سيد درويش في إلهاب حماسة
الجماهير، وصف البعض له بأنه كان للثورة زعيمان: أحدهما سعد زغلول، والثاني سيد
درويش.
٩٣ وبوفاة سيد درويش، عادت الأغنية شيئًا فشيئًا إلى الصالون، وإلى
الفردية التي تتوخى التطريب وحده، وربما الدغدغة الحسية، وإن تبدَّل المصدر الذي كان
ينهل منه الملحنون المصريون قبل ظهور سيد درويش، فأصبح الأغنيات الأوروبية بدلًا من
الألحان التركية. ولعله يجدر بنا أن نشير إلى قول حسين فوزي: «قد يسألني شباب
الجيل الحاضر عن مدى التجديد الذي أحدثه سيد درويش في الموسيقى، فلا أعرف أين أبدأ،
وإلى أين أنتهي، لأن كافة ما نسمعه اليوم من الموسيقى المصرية هو أثر من آثار سيد
درويش في التجديد، والموسيقى المصرية ما زالت في الطريق الذي رسمه.» كانت
الأغنيات — قبل سيد درويش — من نوع: يا مالك قلبي بالمعروف … أو: أنا أعمل إيه في سي
الحبيب … أو: اقعد على حجري وشخلعني يا روحي — هل يعرفها الآن أحد؟! — أما أغنيات سيد
درويش فإن الناس ما زالوا يرددونها — حتى الآن — في كل المناسبات. أذكِّرك بأغنياته:
طلعت
يا محلا نورها … زوروني كل سنة مرة … سالمة يا سلامة … الحلوة دي قامت تعجن في
البدرية … قوم يا مصري مصر دايمًا بتناديك … بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، والأخيرة هي
نشيدنا القومي الحالي! وكانت أغنيات سيد درويش التي عبَّر بها عن مأساة الفلاح
المصري، في سني الحرب العالمية الأولى، هي التعبير أيضًا عن مأساة الفلاح المصري في
أعوام تولي إسماعيل صدقي الحكم. يقول عبد الرحمن الشرقاوي: «في ١٩٤٦م، عندما بطشت
حكومة إسماعيل صدقي بالذين يعارضون مشروع صدقي-بيفن، واصطنعت قضية الشيوعية الكبرى،
وسجنت عشرات المثقفين والعمال والطلاب، وحيث كل شيء في الأغلال حتى النسمات، في تلك
الأيام من يوليو سنة ١٩٤٦م، لم أجد في وحشة الزنزانة ما يغمر القلب، ويملأ النفس
إحساسًا بوحدة الكون، وبأني لست وحيدًا وإن كنت في زنزانة، غير أنغام سيد درويش في
الوحدة، وفي السكون، في الصمت، وعندما يحتدم الألم، في وطني وخارج الحدود، لا شيء
مثل سيد درويش يمكن أن يبدد الإحساس بالوحدة والوحشة، ويلقي في النفس شعورًا قويًّا
بأن الحياة جميلة بالرغم من كل شيء.»
٩٤
•••
ويضغط حسين فوزي على حقيقة أن هواة الموسيقى الأوروبية الرفيعة هم الذين أحبوا،
وآزروا، وأخلصوا لذكرى الرواد الأوائل في تطوير الفن الموسيقي: كامل الخلعي وداود
حسني وسيد درويش.
٩٥
ووصلت إلى القاهرة في عام ١٩٢٣م — لأول مرة — من السنبلاوين قروية شابة اسمها أم
كلثوم، وكان يصحبها شيخ معمَّم هو أبو فريد. كانت قد بدأت حياتها الفنية بالغناء في
الأفراح، في مدن وقرى الريف، وإنشاد الابتهالات والتواشيح في المناسبات الدينية
المختلفة. واتفق متعهد الحفلات الشيخ محمد أبو زيد مع «مطربة السيرة النبوية
الآنسة أم كلثوم إبراهيم وبطانتها» على إحياء حفل بمسرح تياترو بايلوت
باسك — برنتانيا سابقًا — وكانت تلك أول مرة تظهر فيها المطربة الجديدة بالقاهرة. وفي
العام التالي مباشرة، عادت أم كلثوم من قريتها لتقيم في القاهرة بصفة نهائية،
واختارت لها مسكنًا في شارع قولة بعابدين.
٩٦ والتقت القروية الشابة بالملحن محمد القصبجي الذي كانت تغني ألحانه دون
أن تعرفه، ولحَّن لها القصبجي: «آل إيه حلف ما يكلمنيش». وأقنعها زكريا أحمد
بالاستقرار في القاهرة (لا يخلو قول يحيى حقي من دلالة: «عشنا بعد احتجاب سيد
درويش ومُضي عصره، مع ثالوث عظيم يحتكر الميدان، ولا يرقى إلى مستواه أحد: زكريا،
السنباطي، القصبجي» المساء، ١٧/ ٤/ ١٩٦٧م)، وكان رأيه أنها تمتاز على غيرها من
المغنيات بثلاثة أشياء: أولًا، أن الله وهبها صوتًا لا مثيل له قوة وجمالًا.
ثانيًا: أنها — بحكم حفظها وتجويدها للقرآن الكريم — قد اكتسبت خبرة تجعلها قديرة على
إعطاء كل كلمة، وكل حرف، ما ينبغي للنطق الصحيح، وبحكم العادة، وبتوالي الأيام،
أصبح ذلك في طبيعتها، وسلامة مخارج الحروف عندها تبيِّن للسامع كل كلمة تغنيها بوضوح
تام. ثالثًا: أنها دقيقة الحس، عظيمة الذكاء، كثيرة الاطلاع، «فهي تجيد فهم كل
أغنية، وتحس كل المعاني التي تتضمنها، أو تشير إليها كل كلمة من كلمات الأغنية.»
٩٧ وبدأت ذات أم كلثوم الفنية في التحقق، في موازاة الذات الوطنية
للمصريين، فقد كان الشعب المصري يخوض معركة الاستقلال ضد الاحتلال البريطاني.
تتابعت الألحان، تؤكد — على حد تعبير محرر مجلة «المسرح» أنها «بدأت حياتها
الغنائية في مصر منذ أربع سنين، فكان بدؤها من حيث انتهى الآخرون.»
٩٨ كان غالبية جمهور أم كلثوم — في حفلاتها الأولى — من السوريين وأفراد
الجاليات الأجنبية، وعدد من المثقفين المصريين. كانت تغني لهم وهي ترتدي البالطو
والكوفية والعقال، فتبدو كصبي عربي. يقول فتحي غانم: «لو قُدِّر لي أن أكون ناقدًا
فنيًّا شهد ظهور أم كلثوم لأول مرة في حفلة غنائية عامة في مدينة القاهرة، لكتبت في
ذلك الوقت النقد التالي لأم كلثوم: ظهرت بالأمس مغنية جديدة تُدعى أم كلثوم، أقبل
على سماعها جمهور كبير أغلبه من السوريين والإفرنج وبعض الشبان من أهل العلم
والثقافة. وقد وقفت أم كلثوم على خشبة المسرح في ملابس صبي عربي، البالطو والكوفية
والعقال، ومن حولها بطانة من المشايخ، وصفهم أحد الأفندية بجواري بأنهم كالأصنام
الجامدة. وقد علمت أن هؤلاء المشايخ هم والد الفتاة الشيخ إبراهيم، وأخوها الشيخ
خالد، وقريب لها اسمه الشيخ صابر، ويدور الهمس بأن هذا الشيخ الأخير خطيب أم كلثوم،
ولكن أحدًا لم يؤيد هذه الإشاعة بعد.»
٩٩ ويقول فتحي غانم إنه لم يكن غريبًا أن تتطور حياة أم كلثوم وطه حسين
ومختار بالطريقة نفسها التي تظهر وتتطور بها الطبقة المتوسطة. كلهم خرجوا من الريف
ومجتمع الفلاحين، ونزحوا إلى المدينة، وكلهم ثاروا على تقاليد الريف والفلاحين،
وشاركوا بفنونهم في إرساء قواعد جديدة لتقاليد جديدة في المدينة.
١٠٠ وهو اجتهاد تنقصه الدقة، بدليل أن محمود سعيد وبيرم التونسي ويوسف وهبي
وغيرهم ممن تناولهم فتحي غانم في دراسته، من أبناء المدينة. وقد أشار إسماعيل
لطيف إلى المطربة الجديدة أم كلثوم التي تغني «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا».
١٠١ وحين قال سرور عبد الباقي — يومًا — إنه سمع أم كلثوم في حفل، «وأعتقد أن
صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية.» كبر ذلك على جميع أصدقائه، وقال جعفر خليل:
صوت منيرة يعلو ولا يُعلى عليه.
١٠٢ وكان ذلك — في الحقيقة — هو رأي غالبية النقاد. كان من ألقاب المهدية:
مطربة الشرق، بلبل النيل، ذات الصوت الملائكي.
١٠٣ وفي ميرامار: «ألم تسمع بالخبر العجيب؟ لقد اجتمع مجلس النظار أمس
لعوامة منيرة المهدية!»
١٠٤ أما أحمد عبد الجواد، فلم يعُد من عالم الغناء عنده إلا ذكريات، ذهب
الحامولي وعثمان والمنيلاوي وعبد الحي، ودعاه حبه للغناء وغرامه بالطرب إلى ارتياد
مسرح منيرة المهدية، غير أنه لم يهوى الغناء التمثيلي، فضلًا عن أنه ضاق بجلسة
المسرح الذي شبَّهه بالمدرسة. كما استمع في بيت محمد عفت إلى أسطوانات المطربة
الجديدة أم كلثوم، لكنه ظل على حبه لصوت منيرة المهدية، وأعار صوت أم كلثوم أذنًا
حذِرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها.
١٠٥ سأل محمد عفت العالمة جليلة (قصر الشوق): ما رأيك في أم كلثوم؟ قالت
جليلة: صوتها — والشهادة لله — جميل. غير أنها كثيرًا ما تصرصع كالأطفال. قال محمد عفت:
البعض يقول: إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت
منيرة نفسها. قالت جليلة: كلام فارغ … أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟! أضافت
زبيدة: وفي صوتها شيء يذكِّرنا بالمقرئين كأنها مطربة بعمامة! قال أحمد عبد الجواد:
لم أستطعمها، ولكن ما أكثر الذين يهيمون بها. والحق أن دولة الصوت زالت بموت سي
عبده.
١٠٦ كانت الساحة الغنائية تعتمد — آنذاك — «على جهارة الصوت وشدة أسره». ثمة
سلامة حجازي ومنيرة المهدية وصالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا وفتحية أحمد،
والقراء: محمد رفعت ومحمود صبح وعلي محمود؛ كلها أصوات تتميز بالنبرات المديدة،
واتساع المساحة، وكثرة المقامات، وجهارة الصوت.
ولا شك أن الطريق لم تكن ممهدة أمام أم كلثوم، فهي تنتمي إلى الطبقة الأدنى في
مجتمع القرية، وحصلت على حظ قليل من التعليم، وكانت تعاني غربة عن المدينة. ويقول
العقاد: «سمعت أم كلثوم منذ نشأتها الأولى، وهداني إليها — فيما أذكر — فقيد الفن
والنبل محمد تيمور بك رحمه الله. لقيته بجوار دار البريد، فقال لي: هل سمعت الفتاة
البدوية؟ قلت: من هذه الفتاة البدوية؟ قال: إنها تُسمَّى أم كلثوم. قلت: وهل هي
بدوية حقًّا؟ قال: ستعرف إذا رأيتها وسمعتها. وأحسب أنني سمعتها — لأول مرة — في حديقة
الأزبكية، ورأيتها في الكوفية والعقال، فما شككت — منذ اللحظة الأولى — أنها ستنفرد
بعرش الغناء في هذا الزمان.»
١٠٧ وكتب أحد النقاد (١٩٢٦م) «إذا كان لمصر أن تفخر في يوم من الأيام
بإنجازاتها الغنائية، فلن تفخر إلا بصالح عبد الحي وأم كلثوم.»
١٠٨
النظرة المتأملة إلى ما كان مطربو تلك الفترة يقدمونه في ليالي القاهرة، يوضح
طبيعة «الثورة» التي أحدثتها أم كلثوم في دنيا الغناء. كان أهل الغناء — قبل الثورة —
ينشدون أغنيات تشي بالفجور والسقوط والانحلال، ثم قدموا — في أثناء الثورة — أغنيات
تجاهر بحب مصر، وتمجِّد الثورة ورجالها. حتى المسارح الصغيرة في روض الفرج والأحياء
الوطنية، كانت ترفع ستارها عن فتيات يتوشحن بعلم مصر، ويلوِّحن بأعلام مصرية، وينشدن
أناشيد مصرية. ثم أقدم أهل الغناء على محاولة منافسة ظاهرة أم كلثوم بألحان مغايرة،
فالشيخ زكريا أحمد يلحن من كلمات يونس القاضي: ارخي الستارة اللي ف ريحنا، أحسن
جيرانا تجرحنا. ومنيرة المهدية تغني من لحن للقصبجي: بعد العشا يحلى الهزار
والفرفشة. ومن لحن آخر لزكريا أحمد: والنبي توبة مانا شاربة معاك، دي كانت توبة
وعرفت هواك. كذلك فقد غنت: الأفندي يا نينة مسك نهدي. وغنت سميحة البغدادية: فين
حزامي يا نينة. حتى سيد درويش خالف مألوف أغنياته فلحَّن: شفِّتي بتاكلني أنا ف عرضك،
خلِّيها تسلِّم على خدَّك!
ونحن نتعرَّف في ثلاثية نجيب محفوظ إلى معالم الرحلة الكلثومية، من خلال أحاديث
أحمد عبد الجواد وأصدقائه، منذ أن تلقى الأسئلة حول الصوت الجديد وإمكاناته.
١٠٩
لم تقف أم كلثوم إلى جانب منيرة المهدية إلا بعد معاناة شاقة، نتيجة تفضيل
الكثيرين صوت المهدية الذي كان يمثِّل الجنس الصارخ في الصوت، وفي معاني الأغنيات،
بينما كان صوت أم كلثوم يعتمد على الأداء الطبيعي الذي يحرص على نطق الكلمات سليمة
دون «هنك ورنك»، ودون لجوء إلى بحَّة أو التواء. وكانت قد تعلمت فن الإلقاء وقراءة
القرآن، وهما من الأمور المقتصرة على الرجال. وفي إحدى المقالات الصحفية نقرأ «كنا
جلوسًا، فطلع علينا نذير يهتف: لقد ماتت منيرة المهدية! بوغتنا جديًّا، وكان أحدنا
يشرب السحلب فاندلق عليه، ومرَّت برهة قصيرة، ترحَّمنا فيها على السيدة منيرة، وذكرنا
صوتها الجميل، وجهادها في المسرح، ثم انتقلنا فجأة إلى الحديث عمن يخلفها … فتحية
أحمد … فاطمة قدري … أم كلثوم … نعيمة المصرية … وقام جدال عنيف، ونسي الجميع
منيرة، ثم — بعد ساعات — علمنا أن منيرة المهدية لا تزال على قيد الحياة، وفي الحال
نسينا فتحية وفاطمة وأم كلثوم، وعدنا نتحدث عن منيرة المهدية.»
١١٠
الراوي (نفوس مضطربة) يتحدث عن اصطحاب والده له إلى مسرح تلك السيدة السمينة —
منيرة المهدية — التي تغني في أثناء القصة بصوتٍ حنون. يقول: «كنا لا نطرب جدًّا من هذا
الغناء، ولا أي غناء آخر. كنا نشتاق إلى العفاريت والغابات، فلم يكن هذا المسرح
بالذات يستهوينا نحن، ولكنه أبي الذي كان يبدو عليه التأثر العميق عندما تغني
السيدة البدينة بصوت حنون، ويحدِّثنا في أوبتنا أن هذه السيدة خير من غنى، وأن لها
لأجمل صوت حنون، ولكنها الآن مقبلة على الشيخوخة المخيفة. كنا لا نحفل بها كثيرًا.»
١١١
كانت المنافسة — في بداية عصر أم كلثوم — بين أم كلثوم ومنيرة المهدية وفتحية أحمد،
وانتهت المنافسة بتفرد أم كلثوم بالمقدمة. أصبحت — كما يصفها «مجنون سعاد» — في
الثلاثينيات «أميرة الطرب بلا جدال».
١١٢ ابتلع صوتها كلَّ الأصوات المنافسة، سواء تلك التي تنتمي إلى جيل سابق أم
مطربات جيلها، وظل لأم كلثوم تفردها المؤكد في الأجيال التالية، حتى إن جليلة
العالمة (السكرية) تدلل على صيتها في العشرينيات بأنها كانت «كأم كلثوم في أيامك
الكالحة.»
١١٣ أما المهدية، فقد آثرت الابتعاد، وظلت فتحية أحمد ثانية الترتيب، حتى
ظهرت أسمهان فاحتلت مكانتها، وتأخرت فتحية أحمد إلى الترتيب الثالث، وظل نجمها
يخبو، حتى اعتزلت الغناء نهائيًّا، ولزمت حياتها الخاصة، وماتت في ١٩٧٦م.
•••
ولعل ما سبق من مناقشات، يجد امتدادته في الأربعينيات من القرن العشرين بواسطة
شخصيات أخرى في قهوة «الزهرة» بخان الخليلي، حين فوجئ أحمد أفندي عاكف بالسؤال:
أيفضل القديم أم الحديث في الفن؟ قال الرجل الذي ظل يفضِّل القديم، وما يتبع طريقته
من الحديث بحكم العادة، وبوحي النشأة الأولى. فقد سمع أول ما سمع أغنيات القيان،
وأسطوانات منيرة وعبد الحي والمنيلاوي. قال: الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر
نفوسنا بغير عناء. وتساءل سيد عارف: وأم كلثوم وعبد الوهاب؟ فقال أحمد عاكف:
عظيمان فيما يرددان من وحي القديم، تافهان فيما عداه.
– أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل.
– أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية.
وتدخَّل المعلم زفتة قائلًا: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل، وعلي محمود
إذا أذَّن الفجر، وأم كلثوم في امتى الهوى … وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!
١١٤ وبالإضافة إلى أن الآراء تعكس — إلى حد كبير — طبيعة الأصوات المطربة في
مطالع الأربعينيات، فهي تضغط على حقيقة أن الصوت الجديد أم كلثوم قد أصبح صوتًا
قديمًا لا يناقشه «المتذوقون» من منطلق التوجس الذي يريد الإنصات، والتعرف على «قرارات»
الصوت أولًا، بل تناقش الأغنيات نفسها، وأيها تجيد أم كلثوم أداءه، بل لقد
أصبح في أغنيات أم كلثوم قديم وجديد، يعجب البعض بالقديم ويرفض الجديد، ويرفض البعض
الآخر القديم، ويعجب بالجديد.
•••
كان محمد أفندي (نحن لا نزرع الشوك) معجبًا بعبد الحميد القضابي وسامي الشوا
وسهلون والبزري وزكي مراد وعبد الحي حلمي وعلي محمود ومنيرة المهدية … وأحيانًا
بالولد «اللي باين عليه حاجة» واسمه عبد الوهاب.
١١٥
كان من فرسان الساحة الغنائية صالح عبد الحي وحامد مرسي وأمين حسنين وعبد اللطيف
البنا وزكي مراد وغيرهم، ممن كانوا يقتفون آثار سلامة حجازي. أما محمد عبد الوهاب
فقد اختار أن يقتفي آثار سيد درويش. الإضافة التي حققها عبد الوهاب هي انقلابه على
اتجاه الفن المحافظ، ومحاولة تقديم فن الممكنات العصرية، والتطوير اللحني في
المقامات العربية. الميزة الأهم لعبد الوهاب أن موسيقاه تحررت من قوالب الموسيقى
العربية، وتحررت — في الوقت نفسه — من قوالب الموسيقى الأوروبية «فجاءت موسيقاه كلها
مفتوحة الصيغة.»
١١٦
بدأ عبد الوهاب الغناء — وهو صبي — في ١٩٠٩م بتياترو فوزي الجزايرلي، ثم انتقل إلى
تياترو عبد الرحمن رشدي قبل نشوب الحرب العالمية الأولى. ثم أصدر حكمدار القاهرة
الإنجليزي أمرًا بمنعه من الغناء، امتثالًا لطلب الشاعر أحمد شوقي الذي أشفق على
عبد الوهاب احترافه للغناء في هذه السن الباكرة.
١١٧ ثم عاد عبد الوهاب إلى الغناء، بعد نشوب الحرب ونفي شوقي، وكان صوته قد
نضج عن ذي قبل. ثم بدأ في الحصول على فرصة حقيقية بوفاة الشيخ سلامة حجازي (١٩١٧م)
وخلو الساحة الفنية من صوت تلتقي حوله الأذواق.
١١٨
كان ظهور أم كلثوم وعبد الوهاب إيذانًا بمرحلة جديدة في فن الغناء، أكدها إخفاق
صوت منيرة المهدية في أداء أغنيات مسرحية «أنطونيو وكليوباترة»، في حين أجاد عبد
الوهاب أداء أغنياته في المسرحية نفسها. لقد تكشَّف للمستمعين ما تعبِّر عنه مرحلة
منيرة المهدية، والمرحلة التالية، الجديدة، التي يمثلها عبد الوهاب. وما من شك أن
رفقة عبد الوهاب لأحمد شوقي في رحلاته خارج البلاد — إلى فرنسا بالتحديد — كان لها
تأثيرها البالغ في حرصه على الخروج بالغناء الشرقي — والموسيقى الشرقية بعامة — من
الحدود الضيقة التي كانت تتحرك داخلها، إلى آفاق جديدة أرحب وأوسع. وفي عام ١٩٢٧م
استطاع محمد عبد الوهاب أن يكمل ألحان أوبريت كليوباترة ومارك أنطونيو، التي بدأها
سيد درويش، ومات في ١٩٢٣م بعد أن وضع ألحان الفصل الأول وبعض ألحان الفصل الثاني.
وأكمل عبد الوهاب ألحان الفصل الثاني، وكل ألحان الفصل الثالث. وأكد العقاد أن عبد
الوهاب أتم عمل سيد درويش على خير وجه. ولجأ عبد الوهاب — منذ العشرينيات — إلى استخدام
آلات موسيقية جديدة، مثل الأكورديون والجيتار والتشيلو والكونترباص والكلارينيت
والساكسفون وغيرها.
ومن الغريب أن يكون لقب محمد عبد الوهاب الذي يُعَد تلميذًا لسيد درويش بكل ما يعبر
عنه، هو «مطرب الملوك والأمراء».
١١٩
ظلَّت أم كلثوم وعبد الوهاب قمة الغناء منذ بداية الثلاثينيات، ربما منذ أواخر
العشرينيات. وقد استوحى أحد كُتاب القصة حينذاك — سمى نفسه «أديب مفهوم» — سيرة أم
كلثوم — أو صوتها — في قصة قصيرة سماها «أم كلثوم وأنشودة الموت»، وكانت أمنية المغني
المجهول علي صبري (بداية ونهاية) في منتصف الثلاثينيات، أن يكون المطرب الأول في
محطة الإذاعة الحكومية، ولكن «بعد أم كلثوم وعبد الوهاب.»
١٢٠ وإن كان للرجل رأي في عبد الوهاب، يتمثَّل في خوفه من أن تخونه حنجرته،
ومن ثَم فهو يتحامى النفس الطويل، ويشطره أجزاء قصيرة، متواريًا وراء ما يسميه
بالتجديد، ثم يغطي ضعفه بتجديد الآلات.
١٢١
وإذا كانت أحداث الثورة الجماعية في الأغنية، مثل «بلادي بلادي» و«يا عزيز
عيني أنا بدي أروَّح بلدي» و«يا عم حمزة» وغيرها … فإن الأغنية الفردية بدأت في
الزوال والتلاشي. لكن تقلص مد الثورة أحدث تأثيره المباشر في تقلُّص الأغنية
الجماعية، وبدأت أغنيات فردية من نوعٍ مبتذل ورخيص تتسلل إلى الأسماع، مثل تعالَ يا
شاطر … نروح القناطر، وارخِ الستارة اللي في ريحنا … لاحسن جيرانَّا تجرحنا، وأنا واحدة
سيجوريا … في العشق يا انته واخده البكالوريا.
١٢٢
ومن أغنيات العشرينيات، مع تباين ما تعبِّر عنه: أنا كنت في الجيش لسلامة حجازي،
و: بكره السفر يا حبايب لمحمد العربي.
١٢٣ و: ارخِ الستارة اللي في ريحنا … لحسن جيرانا تجرحنا … يا مبسوطين
بالقوي يا احنا.
١٢٤ و: أضحك من الفم، وأبكي من صميم قلبي.
١٢٥ وحمامة بيضة ومنين أجيبها … طارت يا نينة عند صاحبها.
١٢٦ و: أنت المدام يا روحي انت آنستنا.
١٢٧ و: وعدي عليك ياللي بحبك.
١٢٨ و: يوم ما عضتني العضة … وجابولي طاسة الخضة.
١٢٩ و: خدني في جيبك بقى … بين الحزام والمنطقة.
١٣٠ و: حوِّد من هنا … وتعال عندنا، يا اللا أنا وأنت … نحب بعضنا.
١٣١ و: يا ما شاء الله ع التحفجية.
١٣٢ و: أفوتك ليه تشاغلني … أفوتك ليه تلاوعني.
١٣٣ و: إن كنت أسامح وأنسى الأسية، و: أمانة يا رايح يمِّة … تبوس لي الحلو
من فمه، و: قل له عبدك المغرم ذليل.
١٣٤ و: حقك أنت المُنى والطرب، والأغنية لأم كلثوم.
١٣٥ و: أنا أنطونيو، و: على غصون البان، والأغنيتان لعبد الوهاب.
١٣٦ و: سباني سهام العين … شوف قلبي بحبك هام.
١٣٧ و: ليه بقى تلاويعك وهجرك، و: ياما بكره نعرف … وبعده نشوف، و: اسمح لي
بقى وتعال أما أقول لك.
١٣٨
وقد تكونت في ١٩٢٠م لجنة ترقية الأغاني القومية. كما صدر — في العام نفسه — العدد
الأول من مجلة «روضة البلابل» الموسيقية التي أفردت صفحاتها للموسيقى العربية،
وتألَّفت في ١٩٢٢م جمعية «مارش سعد زغلول»، وتألفت في العام التالي جمعية ترقية
الموسيقى المصرية، وأنشئ في ١٩٢٩م معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية.
كما ظهرت — في الفترة نفسها — المجلات الفنية المتخصصة، مثل «صوت البلابل»، وهي
مجلة موسيقية، و«المسرح» و«التياترو» و«خيال الظل» و«الكواكب» و«الصباح» و«روز اليوسف».
وتعدَّدت المؤلفات التي تتناول الموضوعات الموسيقية
والغنائية، فأصدر إبراهيم زيدان كتاب «الأغاني الشرقية»، وأصدر كامل الخلعي
كتابَيه «الموسيقى الشرقية»، و«الأغاني المصرية»، بالإضافة إلى ذلك، فقد صدرت
في ١٩٢٣م أول مجلة سينمائية عربية، هي «الصور المتحركة».
•••
عرف الأدب المصري المسرحية بوحداتها الكلاسيكية، في مسرحيات إبراهيم رمزي ومحمد
لطفي جمعة وغيرهما، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى تشكلت — في واقعيتها
المصرية — في مسرحيات محمد تيمور عام ١٩٢١م، وكانت أول صلة للمسرح الأوروبي البحت
بالمشاهد المصري عن طريق فرقة جورج أبيض.
١٣٩
وفي أعقاب الحرب أيضًا، اتسمت الحركة المسرحية بالاستعراضات ذات الأغنيات الخفيفة
والقصاصات المسلية، وأصبح شارع عماد الدين — على حد تعبير جورج أبيض — عبارة عن كباريه،
وكانت أعصاب الناس المشدودة والمتوترة خلال سني الحرب، تبحث عن متنفَّس لها، فوجدته في
هذا اللون الخفيف المرح من الاستعراضات المسرحية.
١٤٠ نحن لا نعلم من كلمات أحمد عبد الجواد (بين القصرين) عن فرقة كشكش بيه،
إلا بأنها ملهى داعر ترقص فيه النساء نصف عرايا،
١٤١ وإلا ما يعرفه كمال عن صاحب التمثال الصغير الذي يباع في الأسواق بجسم
متوثب في دعابة ووجه ضاحك، ذي لحية عريضة وجبة فضفاضة وعمامة مقلوظة.
١٤٢ وكان خروج ياسين (بين القصرين) مع زوجه لقضاء سهرة عند كشكش بيه، حدثًا
اهتزت له جدران بيت بين القصرين، وهتف أحمد عبد الجواد من أعماق غضبه متوعدًا
ياسين: لهذا البيت قانون أنت تعرفه، فوطِّن نفسك على احترامه ما رغبت في البقاء فيه.
١٤٣ ويقول محمد تيمور: «والآن نريد أن نبحث عن أسباب تدهور التمثيل الفني،
وأول هذه الأسباب هو تهافت أجواقنا الفنية على تمثيل الروايات المترجَمة التي لا
يفهمها المصري، ولا يرى فيها شيئًا من أخلاقه وعاداته، ليس التمثيل هو أن تقدم
للجمهور روايات إفرنكية قيِّمة ومحبوكة الصنع، ولكن التمثيل هو أن تقدم للجمهور
روايات تبحث في شئونه العصرية، ليأخذ منها درسًا يستفيد منه.»
١٤٤ وربما لهذا السبب يأتي اعتراف طه حسين «بأن الثورة المصرية ضد
الاحتلال الإنجليزي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قد فتحت للغة العامية — لغة أم
لهجة؟ — أبوابًا واسعة، فاندفعت منها، وكادت تغلِّب بعض الأدباء من الشباب على
أدبهم … فهذا التمثيل المضحك الذي راج واشتدت العناية به، وعظم الإقبال عليه، وكثر
الحديث عنه، والتفكه بما يجري فيه من النوادر والمضحكات قد كان يؤثر باللغة
العامية، وينفذ بها إلى قلوب الكثرة الكثيرة من النظارة. وقد كانت الثورة شعبية،
وكان من الطبيعي أن تكون لها أصداء شعبية أيضًا.»
١٤٥ ويشير عيسى عبيد في تقديم مجموعة «ثريا» إلى رواية — يقصد مسرحية — «زواج
مصلحة» للأستاذ المفكر المداعب فكري أباظة المحامي، ورواية — مسرحية — «الرقطاء»
لعيسى عبيد وشحاتة عبيد، ويؤكد الفنان أن شركة ترقية التمثيل العربي اشترت
المسرحيتين لأنهما من الأدب الراقي، وتصوران قطعة من الحياة المصرية الصميمة،
لكنها — الشركة — فضَّلت تقديم روايات كشكشية غنائية، بحجة ميل الجمهور إلى هذا النوع
السخيف.
١٤٦ وكتب عيسى عبيد في مقدمة مجموعته «إحسان هانم» «إن الثورة قد انتابت
التمثيل، فإن النوع المجوني المرضي الإباحي ليس هو بالحقيقة إلا مظاهرة أو شبه ثورة
ضد القديم المبتذل ضد الأنواع الغربية التي مجَّها واستغاث منها الجمهور المصري، وقد
حمل هذا النوع أصحاب الفرق على تغيير منهجهم التمثيلي، فأخذوا يكثرون من تمثيل
الروايات العصرية المصرية بعد أن اتضح لهم وجوب وسم مرسحنا بطابع شخصيتنا، لأن
المناظر القومية والألوان المصرية الصميمة، تثير فينا عادة حاسة اللذة والإعجاب.»
١٤٧ ظلت فرقة رشدي — والكلام لمحمود تيمور — تمثل رواية «العصفور في القفص»
لمحمد تيمور، لكن تدهور التمثيل الجدي وقتئذٍ، وعدم عناية الأجواق الجدية برواياتها
حطَّت من قيمة الرواية، كما حطَّت من قيمة كل الروايات الجدية الأخرى. ولم يستطع تيمور
ولا غيره ممن اهتموا بإصلاح التمثيل وتهذيبه من مد يد المساعدة لتلك الأجواق الجدية
الهابطة بفنها إلى الحضيض، لأن مرضًا قاسيًا تفشى فيها، وأصبح شفاؤها موكولًا للزمن.
١٤٨ لم تصمد مسرحية محمد تيمور «العصفور في القفص» أمام مسرحيات الفارس التي
كانت تتسم بها عروض الفرق المصرية آنذاك، فاتجه إلى النقد «وكانت الأجواق الهزلية
في إبان مجدها» — والتعبير لمحمد تيمور — فبدأ تيمور بنقد نجيب الريحاني في دور كشكش
بيه، وأكد تفاهة أوبريتات الريحاني، وبُعدها عن فن الكوميديا، فضلًا عن فن المسرح
بعامة. ثم تبع مقالته بمقالات أخرى عن سلامة حجازي وجورج أبيض وعبد الرحمن رشدي
وعزيز عيد وغيرهم. ويبدو أن مقالات محمد تيمور لم تحدِث الأثر الذي كان يرجوه، ذلك
لأنه ألَّف رواية كوميدية «خالية من الخلاعة» على حد تعبير شقيقه محمود، وهي مسرحية
«عبد الستار أفندي»، عرض فيها لبعض جوانب حياة الطبقة الوسطى. ورغم النجاح النسبي
الذي صادفته المسرحية، إلا أنه لم يستمر طويلًا «لخلوها من الألحان والخلاعة،
ولإقبال الجمهور عامة على المسارح الهزلية بشغف زائد، فلما رأى تيمور حظ روايتَيه من
الإهمال، امتنع عن التأليف المسرحي خوفًا على عمله من المهانة، وجهده من الضياع.»
١٤٩ ثم أراد تيمور «أن يأتي بآخر مجهود لإحياء الفن»، فاشترك مع نجيب
الريحاني في فرقته الجديدة بكازينو دي باريس «وسار معه إلى ذلك الجمهور الطفل الذي
لم يكن يرضى إلا بالهزل والمجون، فاضطر تيمور أن يرضيه وهو يسعى رويدًا لتهذيبه
وتحويله، لأنه إنما كان غرضه الأساسي وضع روايات هزلية راقية يتوخى فيها بعض أصول
الفن مفعمة بالألحان، ثم يتدرج بالجمهور رويدًا إلى الكوميدي الفني الراقي، ثم إلى
الدرامي الكوميدي، وهلمَّ جرًّا.»
١٥٠ لكن «العشرة الطيبة» — أوبريت تيمور التي عاد بها إلى عالم المسرح —
وهي مأخوذة عن المسرحية الفرنسية «ذو اللحية الزرقاء» — لم تحقق ما كان كاتبها
يأمله لها من نجاح. فضلًا عن تعرضها لحملة نقدية قاسية بحجة أنها تتهكم على حكم
الجماهير في مصر. وركن تيمور إلى اليأس زمنًا، ثم كتب «الهاوية» دون أن يعنيه
إلا أن يكتبها. لم يعُد مما يشغله أن تُعرَض مسرحياته بعد أن أجهض المسرح المصري كل
محاولاته، لكن المسرح الهزلي كان قد بدأ يعاني حالة انحسار، بعد أن ملَّ الجمهور «الهزل
والخلاعة، وكل شيء إذا تكرر وزاد عن حدِّه، مجَّته النفوس وكرهته»، والكلمات
لمحمد تيمور أيضًا.
١٥١ وقد اختطف الموت محمد تيمور قبل أن يشهد عرض «الهاوية».
وعقب الثورة، أُنشئت شركة ترقية التمثيل التابعة لبنك مصر، وعاد يوسف وهبي من
إيطاليا ليكوِّن فرقة رمسيس المسرحية، واتخذ مقرًّا لها سينما راديو بشارع عماد
الدين. وفي ١٠ مارس ١٩٢٣م رفع الستار عن رواية «المجنون» في مسرح رمسيس، بداية لعهد
جديد في المسرح المصري، وكتب عباس علام مسرحية «باسم القانون» التي كانت أحد
العوامل التي مهدت لتعديل قانون الأحوال الشخصية، بإعطاء المرأة الحق في طلب الطلاق
للضرر. ويثير الفنان — إلى جانب هذه القضية الاجتماعية — قضية من نوع آخر، لا تزال تجر
ذيولًا حتى الآن، إنها قضية الحوار بين الفصحى والعامية. كما ظهرت «الأوبرا»
الكاملة لأول مرة على المسرح المصري، وأقدم أحمد شوقي على التأليف للمسرح، ونزع
الريحاني ثوب كشكش بيه، واستبدل به مسرحياته التي عاشت إلى ما بعد وفاته: حكم
قراقوش، الدلوعة، لو كنت حليوة، وغيرها. لقد بدأت صورة جمهور المسرح — في أعقاب
الثورة — في التغيُّر. فبعد أن كان القسم الأكبر من هذا الجمهور من الأوروبيين وأثرياء
الحرب وملاك الأراضي من المصريين، زاد إقبال فئات أخرى على المسرح، مثل الموظفين
والطلبة والمهنيين، وتغيرت بالتالي نوعية ما كان الجمهور ينشده من عروض. وكان لا بد
لكشكش بك أن يمضي، لتحل — بدلًا منه — شخصيات أخرى أكثر تعبيرًا عن الحياة المصرية.
أنتج «العشرة الطيبة» (١٩٢٠م) من كلمات محمد تيمور وألحان سيد درويش، ثم مثَّل في
المسرحيات الغنائية «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن» و«أيام العز» و«نجمة
الصبح» وغيرها، وقد تخلص الريحاني وبديع خيري — مؤلف تلك المسرحيات — من «المشهيات
والتوابل الموسيقية والاستعراضية.»
١٥٢ ومع أن البعض يرجع الفضل في نشأة الكوميديا في مصر إلى شخص واحد هو «الممثل والمدير
والكاتب نجيب الريحاني»، فإن يحيى حقي يلخص دور الريحاني في حياة
المجتمع المصري بأنه «لم يكن للريحاني أي دور اجتماعي، لقد كانت فرقة تمثل في
القصر الملكي، وكان زبائنه من أثرياء البورصة.»
١٥٣ لذلك فإن جميع روايات الريحاني كانت تُعرَض على أحمد حسنين كبير ياوران
الملك فؤاد، فكرة، ثم موضوعات، ثم قصة، ثم يذهب إلى البروفة ليحضرها. وكان حسنين
يصف مشهدًا، أو يقترح نكتة، لأنه كان يرى في الريحاني فيلسوفًا «يستطيع أن يؤثر
بهذه الروايات في آراء الشعب وأفكاره.»
١٥٤ وقد دافع أنصار الريحاني عنه، أنه يكشف أمام جمهور المشاهدين موقف ذلك
العمدة الذي يسافر من قريته، بعد أن يبيع محصول القطن، ويحتفل بعودته إلى القاهرة،
فينفق أمواله بطريقة تضحك الجمهور، لكن — كما يتساءل يحيى حقي بحق — أليس هذا الجمهور
الذي يضحك على القهوة مستغلين — بصورة أو بأخرى — من أصحاب البنوك والمصدرين؟ والحق
أنه — رغم سوء تلك الشخصية التي أراد بها الريحاني أن يعبِّر عن واقع الفلاح المصري —
إلا
أن مسرحيات كشكش بيه بعامة، لم تخلُ من إدانة للنفوذ الأجنبي، مثل مسرحية «إش»
التي فقد فيها كشكش بيه كل ماله في الخمر.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أوفدت البعثات الفنية إلى الخارج، وأقيم أول معهد للتمثيل
في نوفمبر ١٩٣٠م، وأقيمت المسابقات المسرحية، وتكوَّنت — فيما بعد الفرقة القومية.
١٥٥ وكما يقول طه حسين، فقد «كانت الثورة شعبية. وكان من الطبيعي أن تكون
لها أصداء شعبية أيضًا، وكان التمثيل من أقوى هذه الأصداء، إن لم يكن أقواها.»
١٥٦ ولعله ليس مصادفة أن تصدر ثلاث مجلات متخصصة في المسرح في عامَي ١٩٢٤م و١٩٢٥م، وهي:
التياترو، التمثيل، المسرح. وكانت السمة الغالبة على ما تتناوله تلك
المجلات من موضوعات، هي المطالبة بمسرح مصري، ينأى — ما أمكن — عن الاقتباس والترجمة
والتمصير، ويعبِّر عن الواقع القومي في مضمون أخلاقي واضح. ويروي الفنان عن الفنانة
معبودة الطلبة — فاطمة رشدي — حين فكوا لجامَي جواديها من عربتها الحنطور، وجروا العربة
بأذرعتهم، ثم أقدموا على حمل العربة من بيتها في شارع فؤاد إلى المسرح في عماد
الدين.
١٥٧ ويدعو الراوي لأن تقيم كل قرية ساحة للذكر، ومسرحًا للتمثيل «حتى
يعرف الناس ساعة لقلبهم، وساعة لربهم.»
١٥٨
•••
الراوي (نفوس مضطربة) يتحدث عن البربري الساذج القلب الذي تتآمر عليه الأقدار،
وتنهال عليه المحن، لكنه ينجو في النهاية، ونحمد الله على نجاته «إذا سكنت
الموسيقى، وأطفئت الأنوار، وابتدأت التمثيلية، علقت أنفاسنا، نضحك من كل إشارة
يأتيها هذا البربري الساذج، قلبانا معه إذا طوحت به طوائح الأقدار إلى الأحراش، أو
إلى بلاد فيها العفاريت والعمالقة، ونكاد نبكي هلعًا وفزعًا إذا ظهر له مارد أو
مخلوق شرير، ولكن نضحك أخيرًا عندما يهزأ البربري بالصعاب والمردة والوحوش
والأدغال، نتنفس الصعداء عندما يلاقي الرجل الأسمر نهاية سعيدة.»
١٥٩ لكن النظرة إلى الكسار كانت — فيما يبدو — مثلًا لنظرة إلى الريحاني،
نظرة ازدراء من المثقفين. وحين تعلن رجاء صدقي (الشوارع الخلفية) أنها قد التحقت
بفرقة الكسار، لم يملك سعد إلا أن يبدى دهشته: الكسار؟! ويرتفع صوتها متحديًا: «أيوه
الكسار … وما له؟ أنا برضه ممثلة يا أخي … مش عاجبك؟! ما بقى لي خمسة أيام
باشتغل عند الكسار … جرى إيه يعني؟ اسمع يا سعد لما أقول لك، ما كلهم طلعوا من تحت
إيد الكسار والريحاني.»
١٦٠
•••
كانت المسارح — رغم ازدهارها — تعاني عزوفَ أعداد كبيرة من العائلات المحافظة عن
ارتيادها، وكان الفونوغراف أداة الطرب الوحيدة، ولم يكن الراديو قد عُرِف بعد. وظل
ليل القاهرة — لفترة طويلة — ملكًا — أرجو أن يكون هذا هو التعبير الدقيق — لفئة العوالِم،
بدءاً بالطرب، وانتهاءً باللذة الحسية.
وعلى الرغم من الصحوة الهائلة التي عاشها المسرح المصري في منتصف العشرينيات،
فإنه قد بدأ يشهد انحسارًا مفاجئًا في أواخر العشرينيات — أي في أقل من خمس سنوات — حتى
أن جريدة «السياسة» (١٧ مارس ١٩٢٨م) أفردت تحقيقًا عن المسرح المصري في طريق
الانحلال وما يجب عمله. وكان من أسباب فقدان الجمهور اهتمامه بالمسرح، الزيارات
المتتابعة التي قامت بها الفرق الأجنبية مثل الكوميدي فرانسيز، وانتظام إنتاج أفلام
السينما الصامتة، واجتذاب عروض «الميوزيك هول»، التي بدأت بديعة مصابني في تقديمها
منذ ١٩٢٦م، لأعداد كبيرة من المواطنين. وفي ١٩٣٠م كان يوجد في القاهرة وحدها عشر فرق
للميوزيك هول، تديرها بعض الراقصات والمطربات مثل بديعة مصابني وملك وماري منصور
وسعاد ورتيبة وأنصاف رشدي.
١٦١ وفي ١٩٣٢م تحوَّل الفيلم الصامت إلى ناطق، الأمر الذي دفع الكثير من نجوم
المسرح المصري إلى بطولة أفلام سينمائية، والأفلام الغنائية بخاصة، مثل الوردة
البيضاء ويوم سعيد ودموع الحب ويحيا الحب، وجميعها بطولة محمد عبد الوهاب، ونشيد
الأمل بطولة أم كلثوم. وقد زاد عدد الأفلام من ثلاثة إلى ١٧ فيلمًا عام ١٩٣٧م، وأنشئت
استديوهات جديدة مثل ناصيبيان ولاما. وفي ١٩٣٣م أرسل طلعت حرب أول بعثة لتعلُّم فنون
السينما في أوروبا، وتبع البعثة أفراد سافروا إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا، لدراسة
الفنون عامة، وفنون السينما على وجه الخصوص. ويتحدث الراوي (نفوس مضطربة) عن ذلك
الممثل الشاب — يقصد يوسف وهبي — الذي احتكرته الشاشة الفضية في الأربعينيات «وكان
يحتكر في أيامنا الخوالي نوعًا من التمثيل صاخبًا، باكيًا، مؤثرًا، مملوءًا
بالمواعظ والصراخ والدماء، وأي شيء أحب إلى الأطفال من هذا النوع من القصص، أي شيء
أحب إلى قلوبهم من الفواجع تهز الأبدان، وتخرب البيوت، والنيران تندلع في المساكن.»
١٦٢ ففي منتصف العشرينيات، فاقت الميلودراما في استجابة الجماهير لها من
العروض الاستعراضية والكوميدية. وكان يوسف وهبي هو النجم المبرز آنذاك بميلودراماته
العنيفة التي تزخر بحوادث القتل — الجماعي! — والمصادفات الخارقة، والخُطب الوعظية. وكان
يوسف وهبي يخاطب مشاعر الجمهور المتحمس، بإعلانات تشير إلى أنه سيقدم رواية «تتجلى
فيها شهامة الشرقي وكرمه وفضائله، ذكرى الوطنية تتجلى بأجلى معانيها، وقائع مدهشة،
مسابقات في الفروسية، حوادث غرامية، معارك دموية، ثورات شعبية.»
١٦٣ وتحوَّل المد الريحاني — أمام وميض نجومية يوسف وهبي — إلى انحسار، وتمنى
رياض (أزهار) لو يصفع أو يركل صاحب مجلة «المسرح» الذي كان يهاجم يوسف وهبي بلا
هوادة!
١٦٤ وقد شيد طلعت حرب مسرح الأزبكية، من ماله الخاص، في ١٩٢٠م، وأهداه إلى
الدولة في ١٩٣٥م.
•••
بدأت صناعة السينما في مصر عام ١٩١٧م، فلم تنتظم خطواتها إلا في ١٩٢٥م عندما أنشأ
طلعت حرب شركة مصر للتمثيل والسينما، بهدف كسر احتكار الأجانب لهذه الصناعة
الحديثة. وقد وظَّف فيها أعدادًا من الفنيين، أرسل بعضهم في بعثات إلى أوروبا لدراسة
التخصصات المختلفة، ومنهم نيازي مصطفى وولي الدين سامح ومصطفى والي وأحمد بدرخان
وحسن مراد والمصور عبد العظيم وموريس كساب.
١٦٥ تعرف ليل القاهرة إلى السينما الصامتة، ثم السينما الناطقة. وكان من
النتائج المباشرة لدخول الصوت في الأفلام المصرية، تحوُّل الكثير من رجال المسرح إلى
السينما، وتقديم الأفلام للأغنيات، وزيادة إنتاج الأفلام بصورة ملحوظة، وكذلك زيادة
الإيرادات، وانتقال النشاط السينمائي من الإسكندرية إلى القاهرة، وظهور شركات توزيع
الأفلام، وتحوُّل العديد من المسارح إلى دور عرض سينمائي … إلخ.
١٦٦
صدرت في ١٩٢٣م أول مجلة سينمائية عربية أسبوعية باسم «الصور المتحركة».
١٦٧ وفي ١٩٢٦م بدأت الصحف اليومية في تخصيص باب أسبوعي ثابت للسينما.
١٦٨ وفي ١٩٢٦م ظهر أول فيلم مصري، وفي ١٩٢٩م بلغ عدد دور العرض السينمائي في
القاهرة وعواصم الأقاليم حوالي خمسين دار عرض.
ولعلنا نجد تفسيرًا لعدم إقبال ياسين، أو أي من أبطال «بين القصرين» الذين كانوا
يقضون إجازاتهم — أحيانًا — في المسارح، على الأفلام السينمائية التي كانت — آنذاك —
حدثًا
وليدًا طريقًا، فيما يذهب إليه الناقد السينمائي سعد الدين توفيق من أن جمهور
السينما — آنذاك — تحدد في الأجانب وبعض طلبة المدارس العليا وعدد من المتعلمين. ذلك
لأن لغة الأفلام الأجنبية كانت تقف حائلًا دون أن يستمتع بها ما دون تلك الفئات ممن
لا يجيدون قراءة اللغة الأجنبية، وكانت الأفلام صامتة.
١٦٩ فلما ظهرت الأفلام الناطقة، تغيَّرت نوعية جمهور الفيلم الأجنبي والمصري
في آن معًا، فقد بدأ يُقبِل على الأفلام الأجنبية من يتقن «سماع» هذه اللغة لا
قراءتها، وبدأ يُقبِل على الأفلام المصرية جماهير غفيرة تعاني الأمية، لم يكن في
مقدورها — قبلًا — أن تقرأ اللوحات التي تظهر في الفيلم الصامت بدلًا من الحوار.
وفي ١٩٢٦م أسست السيدة عزيزة أمير (اسمها الأصلي: مفيدة محمد، وكانت زوجة لأحمد بك
الشريعي نجل محمد باشا الشريعي) أول شركة مصرية للإنتاج السينمائي باسم «إيزيس
فيلم»، وأنتجت — في العام التالي لإنشائها أول الأفلام المصرية. ففي مساء الأربعاء
١٦ نوفمبر ١٩٢٧م — وبعد سلسلة من المحاولات المجهضة — عُرض أول فيلم مصري كامل بدار
سينما متروبول بالقاهرة: ليلى، بطولة عزيزة أمير — وكانت منتجة الفيلم أيضًا — وماري
كويني وأحمد جلال وماري منصور وبمبة كشر، وإخراج أحمد جلال. ويعتبر معظم النقاد
فيلم «ليلى» أول إنتاج حقيقي للسينما المصرية، وأن كل ما سبقه من أفلام لم يزِد عن
إرهاصات، أو تجارب ينقصها النضج، كما تُعَد عزيزة أمير «مؤسسة فن السينما في مصر».
١٧٠ وأعقب «ليلى» فيلم «زينب» الذي قامت ببطولته سيدة أخرى، تنتمي إلى
عائلة موسرة، هي بهيجة حافظ، كريمة حسن حافظ باشا محافظ الإسكندرية الأسبق، وكانت
ذات هوايات موسيقية متعددة. وفي ديسمبر ١٩٣٣م عُرض «الوردة البيضاء»، أول أفلام
محمد عبد الوهاب. وكان إنشاء استديو مصر، بداية تأسيس استديوهات أخرى مثل «لاما»
(١٩٣٦م) و«الأهرام» (١٩٤٤م) و«شبرا» (١٩٤٥م) و«جلال» (١٩٤٦م) و«نحاس» (١٩٤٨م) و«رامي
بالإسكندرية» (١٩٤٨م).
١٧١
واللافت أنه حين بدأ محمد كريم في البحث عن منتج يمول «زينب» رفض كل من تقدم
إليهم بحجة «أن السينما ألعاب صبيانية، وأن من الواجب على شاب متعلم مثل كريم أن
يقوم بعمل نافع، ويبتعد عن هذا التفكير السقيم.»
١٧٢ ورغم تقضي الأعوام، فقد ظلت بعض الآراء على يقينها أن السينما حرام،
لأنها تعرض الصور الخليعة، وتُري من أعضاء الجسد ما حرم الله أن يُرى!
١٧٣
ومن الظواهر المجتمعية الجديدة، تخلي جلسات السمر المسائي في بيوت الأعيان، عن
دورها أمام المسرح الغنائي ودور السينما — أذكِّرك بسهرات ياسين في قصر الشوق — واحترف
بعض شباب الطبقة الثرية والمتوسطة — يوسف وهبي وزكي طليمات مثلًا — مهنة التمثيل،
متحدِّين إرادة عائلاتهم. ويرجع الرجل في «الوارث» رفض الفتيات المصريات للعمل في
المسرح بأن «البنات الوطنيات في هذا الشرق لا ينصرفن إلى مثل هذه الفنون، لأن
تربيتهن تختلف عن تربية أمثالهن في الغرب.»
١٧٤