كان شبلي شميل أول من شرح — ودافع عن — نظرية داروين. يقول في مقدمة كتابه «فلسفة
النشوء
والارتقاء»: «ولما قمت أبث مبادئ هذا المذهب، لم يكن له أتباع ولا مؤلفات في اللغة
العربية، بل كان أنصاره، حتى في أوروبا نفسها، لا يتجاوزون عدد الأصابع.»
وقد بدأت معركة النشوء والارتقاء بمقالٍ ليعقوب صروف نشره في «المقتطف»، أكد فيه أن
موضوع دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس «صار أشهر من نار على علم، وأوضح من الصبح لذي
عينين، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم.»
وثمة كتب ثلاثة، تُعَد — بصورة أو بأخرى — ثمارًا فكرية لثورة ١٩١٩م في مصر، بحيث
يمكن
إضافتها إلى إيجابيات الثورة، بما أحدثه أولها من ردود أفعال عميقة في الحياة الثقافية
المصرية، وما أثاره الكتابان الآخران في الحياة الثقافية، وامتداد آثارهما إلى جوانب
الحياة المختلفة في المجتمع المصري.
الديوان
كان الديوان الذي أصدره العقاد والمازني في ١٩٢١م معلمًا بارزًا في سبيل حركة
التجديد في الأدب المصري، والتي واكبت ثورة ١٩. فالمقدمة تتحدث عن «المذهب الجديد
في الشعر والنقد والكتابة». وقد سمع الناس كثيرًا عن هذا المذهب في بضع السنوات
الأخيرة، ورأَوا بعض آثاره، وتهيأت الأذهان الفتية المهذبة لفهمه والتسليم بالعيوب
التي تؤخذ على شعراء الجيل الماضي وكُتابه ومن سبقهم من المقلدين.
٤ وترى المقدمة أنه لا بد من «إقامة حدٍّ بين عهدَين، لم يبقَ ما يسوغ
اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي.
إنساني لأنه من ناحية، يترجم عن طبع الإنسان، خالصًا من تقليد الصناعة المشوهة،
ولأنه — من ناحية أخرى — ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة، ومظهر الوجدان المشترك بين
النفوس قاطبة، ومصري لأن دعاته مصريون، تؤثر فيهم الحياة المصرية، وعربي لأن لغته
العربية … فهو — بهذه المثابة — أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت.»
٥ وذهب الكاتبان — العقاد والمازني — إلى أن ترتيب الشعراء كان يتم على حساب
الوظائف والألقاب، فالأول هو البارودي لأنه باشا قديم، والثاني إسماعيل صبري لأنه
أحدث عهدًا بالباشوية والوزارة، والثالث شوقي لأنه بك متمايز، ثم حافظ إبراهيم بك
لأنه أحرز الرتبة أخيرًا، ثم خليل مطران لأنه حامل نيشان، ثم طائفة الأفندية
والمشايخ، كأنما يرتبونهم في ديوان التشريفات لا في ديوان الآداب.
٦ أما شوقي بالذات — أول وآخر أمير للشعراء — فقد أكد الكاتبان أن هدمه من
أهون الهينات!
لقد جمعت زمالة «المعلمين العليا» بين المازني وعبد الرحمن شكري، وشكَّلا مع
العقاد مدرسة شعراء الديوان التي دعت إلى الأصالة، وإلى وحدة القصيدة، وصدق الشاعر
في العاطفة والإحساس والتعبير، وظهور شخصيته الفنية، واستلهام الشاعر للطبيعة،
وتناوله للموضوعات الإنسانية، فضلًا عن محاربة التقليد والافتعال وشعر المناسبات.
وما لبث عبد الرحمن شكري أن انفصل عن زميليه، ونشأت بين شكري من ناحية، وبين
العقاد والمازني من ناحية ثانية، خصومة قاسية، وعاب شكري على المازني انتحاله لبعض
القصائد بالإنجليزية. ثم أصدر المازني والعقاد كتاب «الديوان» انتقدا فيه شوقي وحافظ،
وانتقد المازني أبرز كُتاب الفترة مصطفى لطفي المنفلوطي، كما انتقد شكري بعد أن أسرف
في مديحه في مقدمة كتاب «شعر حافظ».
وقد أحدث «الديوان» صدًى عميقًا، وواسعًا، في الصحف والدوريات، ثمة مَن برَّر نقد
الديوان وبرَّره، باعتباره حملة على كل أتباع المذهب القديم الذين يقلدون العرب
تقليدًا أعمى، فكانوا سببًا في انحطاط الأدب والفنون ووقوفها نحو عشرة قرون في مصر،
وفي سائر البلاد العربية.
٧ وثمة من دافع عن شوقي وشكري بإمضاء «كاتب» بأنه يوافق «على ضرورة
تشييد الأدب الحديث على روح العصر وإحساسه، والتمشي مع تطوراته، وإبرائه من كل آفة
ألمت به دهرًا.»
٨ لكن بلوغ هذه الغاية — في تقدير الكاتب — لا يأتي بمهاجمة فرد واحد بعينه
كشوقي «وهل يكون سقوط شوقي مانعًا من ظهور شعراء يقلدون العرب، ويسيرون على النمط
القديم؟ إن إسقاط شاعر يحتذي العربَ في نَظْمهم ليس تغييرًا للروح الأدبية العامة
التي تسود في البلد، والتي نشأت بعوامل كثيرة على مر الدهور، نذكر منها أن الكتب
المتداولة بيننا، والطرق التي يلقَّن بها الأدب في مدارسنا واقفة عند حد الكتب
القديمة، وبعيدة كل البعد عن أن تكون صورة لما يراه الناشئة حولهم من إحساس وتفكير
وما وصلت إليه الإنسانية من علم وفن … فإذا دافعنا نحن اليوم عن شوقي، فكما ندافع
عن المتنبي أو البحتري، وغيرهما من شعراء العرب، وإذا أعجبنا به فلأنه أجاد مثل
إجادتهم.»
٩
ومع أن عبد الرحمن شكري كان ثالث الأصدقاء الثلاثة، بل لقد اعترف المازني بفضل
شكري في توجيهه ثقافيًّا، وإفادته من قراءاته الموسَّعة، فإن المازني — كما أشرنا — هاجم
عبد الرحمن شكري في «الديوان»، وأخذ عليه انتقادات شتى، ودارت في الصحف والكتب
مساجلات قيل إنها كانت سببًا في توقف عبد الرحمن شكري عن الكتابة، وإن برر تلميذ
شكري — الكاتب نقولا يوسف — أنه لم يكن إلا تريثًا وصمتًا فترة من الزمن، لكنه واصل
الكتابة فيما بعد في «الهلال» و«أبوللو» و«الرسالة» و«المقتطف» و«المجلة الجديدة» … وغيرها.
والحق أنه من الصعب تسمية «مدرسة الديوان» على الشعراء الثلاثة، ذلك لأن كاتبَيه
هما العقاد والمازني، في حين أن شكري كان منقودًا في الكتاب وليس ناقدًا.
وفي تقدير سهير القلماوي أن الدعوة إلى التجديد سبقت مدرسة الديوان، بفضل اتصال
المؤلفين بالثقافة الغربية، فضلًا عن أهمية دور الترجمات. تضيف القلماوي أن العقاد
والمازني لم يطمحا إلى تقديم نظرية نقدية متكاملة في ديوانهما، وإنما كان هدفهما هو
إقامة حد فاصل بين عهدَين: شوقي وحافظ من ناحية، وشعراء مدرسة الديوان من ناحية
ثانية.
١٠
الإسلام وأصول الحكم
التوقيت الذي صدر فيه كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» — تعمُّد أم
مصادفة؟! — تزامن مع إلغاء أتاتورك دولة الخلافة العثمانية في ١٩٢٤م، وتطلع حكام
العديد من الأقطار الإسلامية لإحياء الخلافة بتوليهم المنصب الرفيع. وكان الملك
فؤاد واحدًا من هؤلاء الحكام، بتأييد من مشيخة الأزهر. ففي ١٩٢٢م أُعلِن إلغاء السلطنة
العثمانية، تمهيدًا لهدم الخلافة الإسلامية. وفي الأول من نوفمبر ١٩٢٢م، أعلن قيام
الجمهورية التركية على أنقاض دولة الخلافة. وفي ليلة ٣ مارس ١٩٢٤م أصدر المجلس
الوطني الكبير في تركيا — برلمان الثورة — قرارًا بإلغاء منصب الخلافة نهائيًّا، وفصل
الدين عن الدولة، وطرد السلطان عبد المجيد من تركيا مع كل أسرته قبل الخامسة
صباحًا، وأسقط مشيخة العلماء في إسطنبول، وألغى مخصصاتها وامتيازات رجالها، وأغلق
أجنحة الحريم، وتكايا الدراويش، وأزال البيوت الخشبية، وأشياء أخرى كانت — على حد
تعبير أورهان باموق — تجتذب السائحين.
١١ وبيَّن أسباب ذلك في رسالة عنوانها «الإسلام وسلطة الأمة»، وقد تُرجمَت
الرسالة إلى العربية، وطبعتها مطبعة «الهلال» في العام نفسه، وأصبح العالم
الإسلامي — لأول مرة منذ ألف سنة — بلا خليفة. وكان لذلك كله تأثيره المباشر والهائل
في الأقطار العربية، وفي العالم الإسلامي عمومًا، وحتى بين المواطنين العاديين في
المجتمعات العربية، هؤلاء الذين كانوا يؤمنون بنسبة بلادهم — على نحو ما — إلى دولة
الخلافة، ولعلنا نتذكر قول الرجل لمن حوله في قطار «عودة الروح»: كلنا ولا
إسلام!
وبدأت أطماع الخلافة تراود الكثيرين من حكام الدول، وكان الملك فؤاد واحدًا من
هؤلاء الحكام، لقد أصبحت الخلافة همَّه الأول، جنَّد لها الكثيرين من موظفيه، وتكوَّنت
في
القاهرة والإسكندرية وطنطا ودسوق، لجان من بعض المشايخ، باسم لجان الخلافة، تدارست
إمكانية اجتماع أفرادها في يوم واحد مع علماء الأزهر للمناداة بالملك فؤاد خليفة
للمسلمين.
١٢ وعلى الرغم من أن مصر لم تكن قد استكملت استقلالها بصورة حقيقية، فإنه
أوحى بفكرة عقد مؤتمر للخلافة في القاهرة، بحيث يوصي بإسناد الخلافة إليه. واستقر
الرأي على أن يقوم الأزهر بالدعوة إلى مؤتمر إسلامي في القاهرة، هدفه الظاهري بحث
موضوع الخلافة بعد سقوطها في تركيا، والهدف الحقيقي إقناع ممثلي الأقطار الإسلامية
بمبايعة الملك فؤاد خليفةً للمسلمين.
وبصرف النظر عن أن البُعد الديني في منصب الخلافة لم يكن هو الذي أملى على الملك
فؤاد سعيه لمنصب الخلافة، فإنه كان أبعد ما يكون عن الانشغال بقضايا الدين، فضلًا
عن قضية التدين. وكان آخر عروضه على الإنجليز — قبل أن يتولى عرش مصر — تنصيبه ملكًا
على ألبانيا، والتغلب على عقبة أن يكون الملك نصرانيًّا، أو قليل الغيرة الدينية
الإسلامية في أقل تقدير، بحيث يسكت عن محاولات إضعاف الإسلام في ألبانيا، التغلب
على تلك العقبة باتخاذه — فؤاد — اسمًا نصرانيًّا يصبح به ملكًا على ألبانيا.
١٣ بصرف النظر عن ذلك، فلا شك أن وراثة الملك فؤاد للخلافة، بعد زوالها عن
الأتراك، كانت تعني رئاسته للدين ورئاسته للدولة في آن، وفي هذا الجمع خطورة كبرى
على حركة التقدم التي كانت مصر قد أخذت بأسبابه، لأن تستُّر الحاكم وراء قناع من
الدين، من شأنه أن يطلق يده في فرض ما شاء من قيود بحجة أنها قيود تفرضها مبادئ
الإسلام. وفي تلك الفترة — في ١٩٢٤م بالتحديد — ظهر كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام
وأصول الحكم» (لاحظ التشابه بين العنوان وعنوان رسالة المجلس الوطني الكبير في
تركيا)، وكانت فكرته الأساسية أن القرآن الكريم والسنة النبوية يشيران إلى الخلافة
بمعنى «الشورى»، فليس ثمة نظام ثابت وملزم للمسلمين في الحكم، وإنما السلطة تنبع
من مجموع الأمة لا من الدين، الإسلام دين لا دولة، ورسالة لا حكومة. و«لا يحتم أن
يكون للدولة خليفة»، فالخلافة نظام سياسي، وليست أصلًا من أصول الإسلام، وذكرها لم
يرد في القرآن الكريم لا تصريحًا ولا تلميحًا، بمعنى أنه من حق الشعب محاسبة حكامه.
وقال علي عبد الرازق «إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيديك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر
فيما بين فاتحته وسورة «الناس» فترى فيه تصرف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا
الدين» ما فرطنا في الكتاب من شيء «ثم لا تجد فيه ذكرًا لتلك الإمامة العامة أو
الخلافة.» وذهب علي عبد الرازق إلى أن «زعامة النبي كانت زعامة دينية جاءت عن طريق
الرسالة لا غير، وقد انتهت الرسالة بموته، فانتهت الزعامة أيضًا، وما كان لأحد أن
يخلفه في زعامته، كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته.» وقال: «إن الرسول
عليه السلام، ما كان إلا رسولًا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا
دعوة لدولة.» وقال: «إن الرسالة لذاتها تستلزم للرسول نوعًا من الزعامة في قومه،
والسلطان عليهم، ولكن ذلك ليس في شيء من زعامة الملوك وسلطانهم على رعيتهم، فلا
تخلط بين زعامة الرسالة وزعامة الملك، فالأولى زعامة دينية، والثانية زعامة سياسية.»
وقال: «إن الإسلام لم يقرر نظامًا معينًا للحكومة، ولم يفرض نظامًا خاصًّا على
المسلمين، يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لهم مطلق الحرية في أن ينظِّموا دولتهم طبقًا
للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها، مع مراعاة التطور
الاجتماعي ومقتضيات الزمن. أما الخلافة، فإنها ليست نظامًا دينيًّا، والقرآن لم يأمر
بها، ولم يشر إليها.» وقال: «والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي
يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة،
والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية. كلا، ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم
ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها،
ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل،
وتجارب الأمم وقواعد السياسة.» وأكد الرجل أنه «ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة
لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة، ولم
تزل، نكبة على الإسلام وعلى المسلمين.» وذهب الكاتب إلى أن سلاطين المسلمين قد
استغلوا لقب الخلافة للترويج بين المسلمين أن «طاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من
عصيان الله.» وقال: «لقد شلَّت الخلافة كل تطور في شكل الحكومة عند المسلمين نحو
النظم الحرة، خصوصًا بسبب العسف الذي أنزله بعض الخلفاء بتقدم العلوم السياسية
والاجتماعية، فإنهم قد صاغوها في خير قالب يتفق مع مصالحهم.» وينتهي علي عبد
الرازق إلى القول بأن الخلافة لا تشكِّل جزءًا من العقيدة الإسلامية، لكنها كانت، ولم
تزل «نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد.» وينتهي الكاتب إلى القول إن
الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، فالخلافة ليست في شيء
من الخطوط الدينية، والنظم المستحدثة كانت ترجع إلى العقل والتجريب.
ويلخص مصطفى عبد الرازق كتاب شقيقه بأبيات من الشعر كتبها علي عبد الرازق لتجمع
معاني «الإسلام وأصول الحكم» جميعًا:
يا عليًّا كن عليًّا
وتجنب كل خنف
وامحون ما في كتابك
فكتاب الله يكفي
هل أراد علي عبد الرازق بكتابه أن يهدم فكرة الدعوة للخلافة الإسلامية، لأنها
كانت تستحق الهدم فعلًا، أم أنه كان يهدف إلى منع الملك فؤاد من تحقيق حلمه في تولي
منصب خليفة المسلمين؟
ثمة رأي أن «الكتاب لم يكن كتابًا دينيًّا، ولم يؤلفه صاحبه لخدمة فكرة دينية، أو
الدعوة لعمل إسلامي، بل ألفه أساسًا ليحارب الملك فؤاد، فلم يكن علي عبد الرازق
يكره وحدة المسلمين، ولا يرفض أن يراهم في قوة ومنعة، بل كره فقط أن يكون فؤاد
سلطان المسلمين، وأن تكون الخلافة الإسلامية هي الطريق لإخضاع الشعوب الإسلامية
لنفوذ بريطانيا.»
١٥
وفي تقدير الرافعي أن «الإسلام وأصول الحكم» يعارض في ظاهره الخلافة الإسلامية،
لكنه — في الواقع — يعارض النظام الملكي. ويضيف الرافعي: «ولكن الرأي العام كان أنضج
من أن يتأثر بالدعاية الدينية التي كثيرًا ما يستخدمها دعاة الحكم المطلق وسيلة
للتضليل بالشعب، فلم يكترث لهذه الدعاية التي ليست من الدين في شيء، وذلك على تقدمه
في الوعي السياسي والديني معًا، وظل منكرًا مناوئًا لهذا النظام الذي أهدر حقوقه
السياسية.» والحقيقة أن كراهية علي عبد الرازق للنظام الملكي كانت أمرًا معلنًا.
ففي حفل تأبين محمد تيمور الذي حضره عدد كبير من مسئولي الدولة، قال علي عبد
الرازق: «لقد استقال — تيمور — من خدمة القصر، ليخدم الشعب، شعورًا منه بأن الشعب
الأولى أن يُخدَم. لقد خرج من دار الملك ليشتغل في دار التمثيل مؤلف روايات، وممثلًا
أحيانًا، ذلك بأنه شعر بحاجة الأمة إلى تربية ذوقها وتهذيب عواطفها، ورأى التمثيل
أحسن مدرسة للعواطف والأذواق.»
١٦
لم تكد تنقضي أيام على صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم» حتى تبدَّت ردود الفعل،
حادة، وعنيفة، وقاسية. وكان أغلبها بتحريك من الملك فؤاد نفسه، لما أحدثه الكتاب من
شروخ عميقة في خطط استيلائه على منصب الخلافة. وكان أول المقالات التي تصدَّت للرد
على الكتاب بعنوان «فيا أيها النوام ويحكم هبُّوا» للشيخ محمد شاكر.
١٧
ولعل الصحوة الفكرية التي بدأت تفرض نفسها بعد ثورة ١٩١٩م، والتي أشار إليها طه
حسين في الجزء الثالث من «الأيام» كانت هي الباعث لمذكرة عدد من المثقفين المصريين
إلى الملك فؤاد، ينتصرون فيها لحرية الشيخ علي عبد الرازق في إبداء رأيه، بصرف
النظر عن مخالفة ذلك الرأي لما يؤمن به الملك: «إن مؤاخذة مؤلف عالم، وفوق ذلك
قاضٍ، لنشره بحثًا علميًّا حوى آراءه الخاصة في مسائل دينية أو اجتماعية حسبما وصل
إليها بحثه في تأويل مصادرها ومراجعها، لهي مصادرة لحرية الفكر المكفولة بدستورنا
المصري، والمقدسة لدى جميع الأمم المتمدينة، والرجوع بمصر إلى عهد الظلمة.» ورفض
الملك فؤاد — بالطبع — هذه المذكرة! وكان منصور فهمي في مقدمة المدافعين عن الشيخ علي
عبد الرازق، ودعا أنصار الحق إلى المطالبة بحرية الإنسان حين يشعرون بخطر يهدد حق
الإنسان، و«يا أشياع الحرية، أنشدوا الحرية ما شعرتم أن الحرية الصالحة الصحيحة في
خطر.»
١٨
وفي المقابل، كانت غالبية الآراء المناهضة لأفكار علي عبد الرازق عنيفة وضارية،
حتى لقد بدا التطبيق الإسلامي في بعض الاجتهادات «حكومية دينية» أشبه بحكومات
الحق الإلهي في أوروبا التي أفرزت محاكم التفتيش وغيرها. وبلغت معارضة البعض حد
اتهام الرجل بأنه اقتبس آراء المسيحيين ليطعن بها الإسلام، ومنها آراء سير توماس
أرنولد عن الخلافة، وهي آراء تستند — بصورة كلية — إلى الفكر المسيحي. أما المعارضون
الذين حرصوا على الموضوعية، فقد كان ملخص رأيهم أن «الخلافة الإسلامية هي الشبح
المخيف الذي لو رآه أشجع رجل في أوروبا، ولو في منامه، لقام فزعًا يرتجف قلبه،
وتعلوه رعدة، كما ارتعد العصفور بلله القطر، أو كما ارتعد المحموم خالطته البراءة»، وأن
«للمسلمين حاجة شديدة — لدينهم ودنياهم — إلى الخلافة.»
١٩ وكتب الشيخ الخضر حسين يقول إن الدولة الإسلامية هدف ينبغي السعي إليه،
لكنها — في الوقت نفسه — ليست ركنًا من أركان الدين «فالقرآن لم يصرِّح بحكم الإمارة
العامة، اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبيِّنها السنة، ويرجع إليها
الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن في الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة
لأولي الألباب.»
٢٠ فالخلافة إذن بضرورتها، لأن «ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع،
ولا يزِعهم عن الباطل وازع، يفضي إلى تبدد الجماعة، وإضاعة الدين، وانتهاك حرمة
الأموال والنفوس والأعراض.»
٢١ وأكد الشيخ الخضر أن الأمة — في الإسلام — هي مصدر السلطات، وقد تفوض بعضًا
من تلك السلطات للخليفة والإمام، بحيث يبدو مجافيًا للحقيقة قول علي عبد الرازق عن
الخليفة إن «ولايته عامة ومطلقة، كولاية الله تعالى ورسوله الكريم.» ولكن عبد
العزيز فهمي يشير في مذكراته إلى أن القضية الأساسية في كتاب علي عبد الرازق هي ما
يبدو من رأي الكاتب أن الإسلام دين نظري، وأن تكذيب ذلك الاتهام كان هو دفاع عبد
العزيز فهمي عن علي عبد الرازق.
٢٢
أما الأقلام التي غلبت عليها الحماسة، فقد واجهت علي عبد الرازق بكلمات من نوع:
أبله … يعبث بالأمن العام … يسعى في الأرض فسادًا … يطعن الملوك … يعتدي على
الأمة … ظالم … معاند … كاذب … ملحد … كافر … فاسق … ووصف الشيخ محمد شاكر، الشيخ
علي عبد الرازق في «البلاغ» بأنه «أفجر ملحد في تاريخ الإسلام، وما حدثنا التاريخ
الإسلامي العام، ولا التاريخ المصري الخاص، بإلحاد في الدين أفجر من هذا الإلحاد
الذي نزع إليه في كتابه هذا الشيخ وهو يحمل من الجامع الأزهر المعمور شهادة
عالمية، ويتقلد من الوظائف الدينية وظيفة القضاء في المحاكم الشرعية. وأضاف: «ما
كنت أحسب في المسلمين رجلًا يجترئ على عيب الرسول
ﷺ، وعلى التحقير
من رسالته وشريعته، وعلى إلصاق التهم الكافرية به في أقواله وأفعاله وتصرفاته
المالية وغير المالية.»
•••
في العاشرة من صباح الأربعاء ١٢ أغسطس عقدت هيئة كبار العلماء جلسة برئاسة شيخ
الجامع الأزهر لمناقشة الشيخ علي عبد الرازق — محاكمته! — في مواد كتابه. واستندت
الهيئة إلى ورود عرائض موقَّع عليها من «جمع غفير من العلماء» تؤكد أن الكتاب يحوي
أمورًا مخالفة للدين، ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة،
ومنها:
-
(١)
قوله إن جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم
والتنفيذ في أمور الدنيا.
-
(٢)
قوله إن الدين لا يمنع أن يكون جهاد النبي
ﷺ في
سبيل الملك، لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
-
(٣)
قوله إن نظام الحكم في عهد النبي
ﷺ كان موضع غموض
أو إبهام أو اضطراب أو نقص أو موجبًا للحيرة.
-
(٤)
قوله إن مهمة النبي
ﷺ كانت بلاغًا للشريعة مجردًا
عن الحكم والتنفيذ.
-
(٥)
إنكاره إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة ممن
يقوم بأمرها في أمور الدين والدنيا.
-
(٦)
إنكاره أن القضاء وظيفة رعية.
-
(٧)
قوله إن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا
دينية.
وجرت محاكمة الشيخ علي عبد الرازق يومَي ٥، و١٢ أغسطس برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل
شيخ الجامع الأزهر، وحضور ٢٤ شيخًا من هيئة كبار العلماء. ثم أصدرت هيئة كبار
العلماء قرارًا بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، ومحو اسمه من سجلات
الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت،
وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية. لأنه «أتى
بأمور تخالف الدين، والقرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة.» وغادر الشيخ
علي عبد الرازق قاعة جلسة المحاكمة إلى بيته، فنزع العمامة والجبة والقفطان، وارتدى
البدلة والطربوش، ولم يعُد إلى زي الشيوخ أبدًا. وكتب الشيخ غداة صدور الحكم: «لا
جرم أننا تقبَّلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا
خلصوا من الأذى قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا.»
كانت الخطوة التالية لقرار هيئة كبار العلماء، توقيع وزير الحقانية عليه، ليبدأ
تنفيذه، لكن وزير الحقانية — وقتذاك — عبد العزيز فهمي، أحال القرار إلى لجنة قانونية
للنظر في مدى قانونيته. ولأن الملك فؤاد كان يصر على تنفيذ القرار دون إحالته إلى
لجنة من أي نوع، فقد حاول رئيس الوزراء بالإنابة — يحيى إبراهيم — أن يحمل عبد العزيز
فهمي على توقيع القرار، لكن الأخير أصر على موقفه، فصدر مرسوم ملكي بتكليف علي ماهر
وزير المعارف العمومية القيام بأعباء وزارة الحقانية، إلى أن يُعيَّن لها وزير بدلًا
من عبد العزيز فهمي. وتضامن ثلاثة من الوزراء مع عبد العزيز فهمي، فقدموا
استقالاتهم، وانهار الائتلاف الوزاري القائم، وتهددت البلاد أزمة سياسية خطيرة،
وجدت — فيما بعد — سبيلها إلى الحل، ولكن الشيخ علي عبد الرازق ظل بلا وظيفة ولا مرتب
ولا رد اعتبار، لقاء رأي أبداه، ودافع عنه، وأصر على موقفه منه، حتى مات في عام
١٩٦٦.
•••
تبقى حقيقة ينبغي التأكيد عليها: إن النظر «إلى الإسلام وأصول الحكم» بعيدًا عن
المواقف الأخرى المعلَنة، وغير المعلَنة، للشيخ علي عبد الرازق، هو نظر إلى الأمور من
زاويتها غير الصحيحة، فلم يكن من المعروف عن الرجل سوى أنه ابن حسين عبد الرازق
باشا أحد مؤسسي حزب الأمة، وأنه — شخصيًّا — كان من غلاة المتعصبين لمبادئ الحزب،
وكانت له مواقفه وآراءه في السياسة المصرية، ففي رأيه أن ثورة عرابي بدأت فاشلة،
وانتهت بفشل أشد، وأن كلًّا من الإنجليز والخديو كانوا شرًّا على مصر والمصريين، لكن
الواقع أن الإنجليز كانوا أرحم بالبلد وأدنى إلى رعاية مصلحته من الخديو الذي شوَّهت
المطامع والشهوات عقله وخُلُقه، وباعدت بينه وبين قلوب العارفين من المصريين، ربما
كانوا أرحم بالبلد، وأدنى إلى رعاية مصلحته من سلاطين آل عثمان، وإن مبادئ حزب
الأمة كانت تستهدف الإصلاح الحق الذي يسير سيرًا وئيدًا لا يفزع الإنجليز ولا يفزع
الخديو، ولا يتملَّقهما، ذلك لأنه لم يكن شيء من ظروف الثورة مواتيًا في مصر آنذاك،
وإن خصوم حزب الأمة — يقصد مصطفى كامل والحزب الوطني — هم، فقط، دعاة الاحتماء بالخلافة
الإسلامية.
٢٣ ومن محصلة هذه الآراء وغيرها، أثير الاجتهاد بأن محاولة علي عبد الرازق
في «الإسلام وأصول الحكم» لم تكن تستهدف الملك فؤاد، لكنها استغلت جو الحرية
النسبي الذي أفرزته ثورة ١٩١٩م في التعبير عن وجهة نظر حزبية، انتسبت — بملابساتها —
إلى
قضايا التحرر الفكري.
ولعله ينبغي ملاحظة أن حزب الأحرار الدستوريين — بعد أن أخذ موقفًا مناصرًا للشيخ
علي عبد الرازق، باعتباره من أهم قياداته — ما لبث أن اتخذ موقف الرفض، لأن
الوفد — الحزب المنافس — قد اتخذ من الكتاب موقف التأييد، فضلًا عن عضوية الحزب آنذاك،
في ائتلاف يحكم البلاد، مؤلف من حزبَي الأحرار الدستوريين والاتحاد.
•••
واللافت للنظر أن إسماعيل مظهر قد أصدر في عام ١٩٢٢م كتابًا بعنوان «وثبة الشرق»
جاوز فيه اجتهادات الشيخ علي عبد الرازق، ومع ذلك فلم يُحدِث كتابه الأثر نفسه الذي
أحدثه كتاب الشيخ علي عبد الرازق، بل إنه لم يحدِث أثرًا حقيقيًّا من أي نوع. إسماعيل
مظهر يُدين نظام الملكية ذاته وإنه «نظام مستمد من أصول وحشية أولى ونظامات بدائية،
قيامها في العصر الحاضر بمثابة الأحافير تقوم في باطن الأرض برهانًا على أن صورًا
من أمثالها عاشت على الأرض في عصر من العصور.» ثم يُدين الكاتب — بالتالي — نظام
الخلافة وأنه «نظام فاسد، كما كان نظام البابوية في روما، ولكنه مع ذلك يحاول أن
يستمد من التاريخ مبررًا له، أو يعمد إلى القول بأنه نظام ليس من روح الإسلام في شيء.»
٢٤ ويصل الكاتب إلى أن «الخلافة نظام ورث عن الإسلام، لأنها — من ناحية —
جزء من نشأته الأولى، ومن ناحية أخرى، أساس قامت عليه الفتوحات، وتكوَّنت من فوقه
دعائم الإمبراطورية الدينية. وهذه الحقيقة التي حاول مؤلف كتاب «الإسلام وأصول
الحكم» إخفاءها، نقررها هنا على الضد مما ذهب إليه، ثم نحكم من بعد ذلك بأن نظام
الخلافة نظام فاسد لا يتفق وروح هذا العصر.»
٢٥
إن علي عبد الرازق ينفي أن الخلافة من الإسلام، لكن إسماعيل مظهر يدلل على أن
الخلافة بُعد أساسي في النظام الإسلامي، ثم يزيد بأن الخلافة نظام فاسد، وأن الملكية
— مثلها — نظام فاسد، ومن هنا تتبدى خطورة اجتهاده بالقياس إلى ما ذهب إليه علي عبد
الرازق. وظلَّت القضية التي أثارها كتاب الشيخ علي عبد الرازق قائمة في كتابات خالد
محمد خالد وفتحي رضوان وفهمي الشناوي وضياء الريس وعشرات
غيرهم.
٢٦
في الشعر الجاهلي
في ١٢ سبتمبر ١٩٢٦م — أي بعد عام بالتحديد من صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»،
تقدَّم النائب عبد الحميد البنان ببلاغ إلى النيابة ضد طه حسين، للتحقيق فيما ورد
بكتاب «في الشعر الجاهلي». كما قدَّم بلاغَين آخرَين، أحدهما لشيخ الأزهر «عن كتاب
ألَّفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية، أسماه «في الشعر الجاهلي» كذَّب فيه القرآن
صراحة، وطعن فيه على النبي
ﷺ وعلى نسبه الشريف، مما أثار
المتدينين، كما أتى فيه بما يخل بالنظم العامة، ودعا الناس للفوضى.» وطلب البلاغ
اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي،
وتقديم الكاتب للمحاكمة.
٢٧ واقترح النائب البنان مصادرة كتاب طه حسين، واتخاذ الخطوات اللازمة
لاسترداد المبلغ المدفوع إليه من الجامعة ثمنًا للكتاب، وتكليف النيابة العمومية
برفع الدعوى على طه حسين لطعنه في الدين، وإلغاء وظيفة طه حسين في الجامعة. ومع أن
طه حسين كتب إلى مدير الجامعة، يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر، فإن الصحف الحزبية والسلفية ظلت تهاجمه بعنف، مما كاد يؤثر على هيكل
الجامعة نفسه، وكانت آنذاك في بداية عهدها.
•••
بدأ التحقيق في ١٩ أكتوبر ١٩٢٦م بواسطة محمد نور رئيس نيابة مصر آنذاك. كان رأي طه
حسين أن الغالبية مما يُسمَّى أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، «إنما هي منتحَلة
مختلَقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر
مما تمثل حياة الجاهليين، وما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًّا، لا يمثِّل
شيئًا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية
الصحيحة لهذا العصر الجاهلي.»
٢٨ وكان رأيه أن قصة إبراهيم وإسماعيل تعاني التكلُّف والصنعة، وقد دعت
إليها حاجة في عصور متأخرة، وورودها في الكتب الدينية يعني تأكيد صحتها التاريخية.
وكانت الأرضية التي وقف عليها طه حسين في مقولته هي «أن نستقبل هذا الأدب وتاريخه،
وقد برَّأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة
الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا، فتحُول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة
أيضًا.» وقال طه حسين: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن
يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات
وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم
إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا
من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة
أخرى.»
٢٩
•••
لم يثِر كتاب من الجدل والنقاش حوله — والتعبير لرابح لطفي جمعة،
٣٠ كما أثار كتاب طه حسين. صدرت ضد الكتاب بضعة كتب تناقشه، وتهاجمه،
وتقذف بمؤلفه بتهم عدة، أقلها الزندقة. فثمة «تحت راية القرآن» لمصطفى صادق
الرافعي، و«الشهاب الراصد» لمحمد لطفي جمعة، و«نقد الشعر الجاهلي» لمحمد فريد
وجدي، و«نقض الشعر الجاهلي» لمحمد الخضر حسين، و«النقد التحليلي لكتاب في
الأدب الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوي، و«نقض ومطاعن في القرآن الكريم» لمحمد
أحمد عرفة، بالإضافة إلى عشرات المقالات والدراسات في نقد الكتاب، نُشرَت في صحف
الفترة ﮐ «الأهرام» و«السياسة» و«كوكب الشرق» و«المكشوف» و«المشرق» و«العرفان» و«الصراط
المستقيم»
و«المقطم» وغيرها. وقد تركز الهجوم على طه حسين في أربع نقاط هي:
-
تكذيبه للقرآن الكريم فيما رواه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
-
إنكاره للقراءات السبع المجمع عليها، وزعمه أنها ليست منزَّلة من الله
تعالى.
-
طعنه في نسب النبي محمد
ﷺ.
-
إنكاره لأولوية الإسلام في بلاد العرب، وإنه دين إبراهيم عليه السلام.
وقد عني محمد لطفي جمعة في كتابه «الشهاب الراصد» (١٩٢٦م) بأن يستخدم منهج النقد
التاريخي نفسه الذي استخدمه طه حسين في كتابه، واقتصر نقاشه على الجوانب العلمية
والأدبية، دون أن يتعرض للمسائل الدينية، باعتبار أن علماء الدين هم الأجدر بأن
يناقشوا تلك المسائل. وكما يقول عبد الرحيم الكردي، فقد كان نقد لطفي جمعة لكتاب «في
الشعر الجاهلي» نقدًا لمنهج البحث، وأصوله، وليس مصادرة للحرية الفكرية. وفند
جمعة مقولة طه حسين بأن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب في
الجاهلية. قال الكاتب إن جميع الأمم القديمة والحديثة، إنما تلتمس صورة حياتها في
آدابها، انطلاقًا من أن الأدب مرآة لحياة الأمة التي أبدعته، بحيث يبدو من المستغرب
ألا يكون للعرب أدب أو شعر يمثل حياتهم.
ومما جاء في كتاب أحمد محمد الغمراوي قوله إنه إذا كان في كتاب طه حسين جديد، «فهو
تلك الفوضى التي حاول أن يلقي فيها كل ما تركت الأجيال السابقة من علماء اللغة
والأدب والدين والتاريخ، والتي نرجو ألا يُخدع بما أحيطت به من زخرف القول أحدٌ،
فيظنها تجديدًا، أو تحريرًا للعقل من ربقة التقليد.»
٣١ وذهب شكيب أرسلان — في تقديمه لكتاب الغمراوي — إلى أن طه حسين «في هذا
الرأي القائل والمنطق المقلوب إلا مقلد لمرجليوث، أو لغيره من الأوروبيين، بسائق
عقيدة سخيفة فاشية — ويا للأسف — في الشرق، وهي أن الأوروبي لا يخطئ أبدًا، وأنه من حيث
اخترع الأوروبي سكة الحديد والغواصة والطيارة والسيارة والتلغراف اللاسلكي وما أشبه
ذلك، فلا شك أنه صار يفهم جيمية الشماخ، ولامية الشنفري، أحسن مما يفهمها سيبويه
والخليل بن أحمد، وأنه لما كان قوله هو الفصل في الكيمياء والطبيعيات والطب
والهندسة … إلخ، لزم أن يكون قوله الفصل أيضًا في المفاضلة بين الفرزدق وجرير والأخطل.»
٣٢
وثمة تقرير مرفوع إلى الملك فؤاد من القسم المخصوص بتاريخ ١/ ١١/ ١٩٢٦م، يقول «في
الساعة الحادية عشرة بعد انتهاء الحصة الثانية، وقف المدعو الشيخ محمد الأسمر،
ومعه الشيخ الفقي، والشيخ والي، وهم من طلبة السنة الرابعة، وقال أولهم: سيروا بنا
أيها الطلبة نحو المشهد الحسيني، لنُعلِم الرأي العام هناك غضبتنا على الملحدين، ولأن
المولد يجمع كثيرًا من طبقات المصريين، فصفق له الحاضرون، وحبَّذوا فكرته، وخرجوا
جميعًا قاصدين هذه الجهة. وعند خروجهم من باب الأزهر هتفوا قائلين: ليسقط طه حسين …
ليسقط عبد العزيز فهمي … ليسقط البنداري … وما زالوا كذلك حتى وصلوا إلى سيدنا
الحسين، وهناك اشترى بعضهم أعدادًا من جريدة «السياسة»، وهتفوا وهي في أيديهم
بسقوط الجريدة، ثم مزَّق كلٌّ منهم جريدته، وداسها بقدمه. وقد قبض عليهم مأمور قسم
الجمالية.» وقد اضطر سعد زغلول إلى مسايرة غضبة الجماهير، وألقى في الحشود التي
قدمت إلى بيته تطالب برأس طه حسين خُطبة طويلة، أنهاها بقوله: «إن مسألة كهذه لا
يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلًا مجنونًا يهذي في الطريق،
فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيمًا ولا
إمامًا حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ما شاء، وما علينا إن لم تفهم البقر؟!»
ولم يكن ذلك — في الحقيقة — رأي سعد زغلول، بل إنه كان يجد في الكتاب أمرًا يصعب على
المجتمع تقبُّله ببساطة، ولما تجدد عرض الأمر في عام ١٩٢٧م، رفض سعد زغلول مناقشته،
وقال للنواب: هذا الموضوع انتهى، ولا نريد أن نعود إليه من جديد!
وفي تقدير تشارلز آدمز أن طه حسين لم تشغله النواحي الدينية في كتابه، لكنه
استهدف تطبيق منهج البحث العقلاني على الشعر الجاهلي، لقد وضع في كتابه أسس
المناقشة الحرة للتاريخ الأدبي في العصرَين الجاهلي والإسلامي، فلم يعُد ذلك التاريخ
يرتفع فوق النقد والتحليل بدعوى انتسابه إلى السلف الصالح. وكتب طه حسين مقالًا
بالفرنسية، نشره في باريس، أكد فيه أن كتابه وكتاب علي عبد الرازق «قد نجحا في
إرساء دعائم الفكر الحر في الإسلام بصورة حاسمة.» ومع أن النيابة أصدرت قرارًا في
صالح طه حسين «فلكل إنسان إذن حرية الاعتقاد بغير قيدٍ ولا شرط، وحرية الرأي في
حدود القانون، فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو بالكتابة، بشرط ألا يتجاوز
حدود القانون.» فإنه اضطر — خوفًا من غضبة الجماهير — التي أثرت فيها صرخات القوى
الرجعية — إلى إرسال كتاب لمدير الجامعة، أذيع في الصحف، يؤكد فيه أنه لم يرِد إهانة
الدين، ولم يخرج عليه، وما كان له أن يفعل ذلك وهو مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله
وكتبه واليوم الآخر. وهدأت حدة الأزمة شيئًا، ثم بدأت تجد سبيلها إلى الحل. ومع
ذلك فإن الحل كان مؤقتًا عندما اشترت الجامعة كل نسخ الكتاب لمنع تداوله في
الأسواق، ثم حذف طه حسين من الكتاب فصلًا، وأضاف فصولًا، وأعاد كتابته بعنوان جديد
هو «في الأدب الجاهلي» — ١٩٢٧م — وإن لم يتحوَّل طه حسين عن رأيه، حتى إنه كتب في أواسط
الأربعينيات أن المعركة التي خاضها انتهت إلى أن «صحة الشعر الجاهلي في عداد
الأساطير»، وأن الآراء التي وردت فيه أصبحت أمورًا مقررة.
٣٣ ولكن المشكلة أثيرت — للمرة الثانية — في مجلس الشيوخ، في العام التالي،
وكوَّنت وزارة المعارف لجنة جديدة لفحص النسخة المعدَّلة، وإبداء الرأي فيها، وانتهت
اللجنة في تقريرها إلى تحديد اثني عشر اتهامًا ضد الكتاب ومؤلفه، يكفي أحدها ليضعه
في موقف المارق من الدين. ولجا البوليس إلى وضع حراسة دائمة على بيت طه حسين لمدة
شهرين كاملين، خوفًا على حياته. ثم تجدد طرح القضية — للمرة الثالثة — داخل البرلمان
في
٢٩ يوليو ١٩٢٧م، ثم في ٥ مايو ١٩٣٠م، ثم في عهد وزارة صدقي عام ١٩٣٢م، حين أراد
إسماعيل صدقي أن يستخدم طه حسين لدعم سياسة الحكومة، وأغراه براتب ضخم مقابلًا
للمقال الرئيس في جريدة «الاتحاد» الحكومية، لكنه رفض احترامًا لموقفه السياسي،
فدفعت الحكومة نوابها إلى إثارة القضية مرة ثانية في البرلمان. لكن توالي الأعوام
كان قد أحدث تغيرًا، لا شك فيه، في نظرة الرأي العام إلى تطورات الأحداث، وإلى
السلطة الحاكمة، وإلى بواعث توجيه الاتهامات واتخاذ القرارات، وإلى حقيقة الرجل طه
حسين، الذي كان قد أصبح آنذاك عميدًا لكلية الآداب. ونُقِل طه حسين إلى وزارة المعارف،
ثم صدر قرار تالٍ في ٢٠ مارس ١٩٣٢م بفصله من وزارة المعارف، لكن القرار كان له رد
فعله: قدَّم مدير الجامعة — لطفي السيد — استقالته، وأكد في خِطاب الاستقالة أن فصل طه
حسين هو أمر يمس كرامة البحث العلمي وكرامة الجامعة، يمس حرية التفكير وحرية الرأي.
وعبَّر أحمد أمين ومحمد عوض محمد وعبد الرزاق السنهوري عن غضبتهم لمصادرة حرية
الفكر، ووقف الرأي العام آنذاك — وهو ما قد يبدو غريبًا — مع طه حسين. أدرك الناس أن
الحكومة تريد أن تستخدمه كأداة لها، أو تفصله، فوقف بإيجابية، وأطلقت صحف المعارضة
على طه حسين لقب «عميد الأدب العربي»، وليس عميد كلية الآداب وحدها.
•••
كانت القضية التي طرحها «الديوان» مما يعني المشتغلين بالحياة الثقافية على وجه
الخصوص، ومن ثم فإنه لم يجاوز الهدف منه كقضية أدبية، بعكس القضايا التي طرحها
كتابا «الإسلام وأصول الحكم» و«في الشعر الجاهلي». وعلى الرغم من أن كلا
الكتابين ناقش قضية دينية غاية في الحساسية، فإن استقبال الرأي العام لهما تباين
بصورة حادة. ومبعث ذلك — في تقديري — أن كتاب علي عبد الرازق انطلق من القضية الدينية
إلى مناقشة القضية السياسية، بينما جاء كتاب طه حسين ليناقش موضوعات دينية خالصة،
وقوفًا على أرضية الشك الديكارتي.
وإذا صرفنا النظر عن القلة المثقفة التي حاولت الدفاع عن الكتابين، تقديرًا — في
الدرجة الأولى — لحرية الفكر وقدسيته، فإن الأغلبية من المتتبعين لقضية «الإسلام
وأصول الحكم» عنوا بالجانب السياسي، وأثرت في موقفهم نظرة المصريين إلى الملك
فؤاد، وعمالته المؤكدة للاحتلال البريطاني، بينما اتخذت تلك الأغلبية موقفًا
مناقضًا في قضية الشعر الجاهلي، بالرغم من موقف سعد زغلول تأييدًا لطه حسين في حرية
إبداء رأيه، ذلك لأن الأشخاص — مهما تبلغ قيمتهم — والقضايا — مهما تبلغ خطورتها — لا
شيء
أمام آراء تناقش الدين الإسلامي في أهم مقدساته. ومن هنا، جاءت مطالبة المتظاهرين
برأس طه حسين أمام سعد زغلول، وفي بيته، وتقديم نائب وفدي استجوابًا لوزير المعارف
في البرلمان. وإذا كان الشيخ علي عبد الرازق قد مال إلى عزلة طالت حتى أنقذه الله
منها بالموت، دون أن يجد في نفسه حاجة لتبريرات من أي نوع، فإن طه حسين كان أحوج
ما يكون إلى تقديم مثل تلك التبريرات، وقدمها بالفعل، وأعلن إسلامه في كتاب بعث به
إلى مدير الجامعة «أومن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر»، لأن الغالبية
كانت هي الخصم. وقد أحسن شيوخ الأزهر والساسة استغلال ذلك في البداية، وتشويه كتاب
طه حسين. وانقضت أعوام على قرار النيابة بحفظ البلاغات المقدمة ضد طه حسين إداريًّا،
قبل أن تثير حكومة صدقي القضية من جديد. ولم يكن غريبًا — أمام الاعتبارات
السياسية — أن إسماعيل صدقي — الذي تضامن مع عبد العزيز فهمي في قضية كتاب «الإسلام
وأصول الحكم» هو رئيس مجلس الوزراء الذي أصدر قرارًا في الأربعاء ٢ مارس ١٩٣٢م بفصل
«الأستاذ طه حسين الموظف بوزارة المعارف العمومية من خدمة الحكومة.»
٣٤
المهم أن الرأي العام أدرك — خلال تلك الأعوام — أن المساس بالإسلام ورسوله لم يكن
هدف طه حسين بقدر ما كان الهدف تعبيرًا عن وجهات نظر فكرية ونقدية وتاريخية من
المؤلف. وكما قلت، فإن علي عبد الرازق التزم عزلة طويلة في بلدته، لا يشارك فيها
بعملٍ ولا برأي. أما طه حسين فقد حرص على تأكيد إيمانه الديني. ثم جاءت مؤلفاته
الدينية تكريسًا لذلك الإيمان، فلم يعُد الشعر الجاهلي — وإن لم ينكره المؤلف! — يشكِّل
بقعًا في حياة طه حسين. بالإضافة إلى ذلك كله، فقد ساعد في قضية طه حسين أن مجلس
الجامعة المصرية اتخذ موقفًا متعاطفًا مع عضو هيئة التدريس، بعكس ما أقدم عليه
علماء الأزهر من محاكمة صورية للشيخ علي عبد الرازق، كان الحكم فيها قد أُعِد من قبل
أن تبدأ!