مذبحة الإسكندرية

يروي عبد الله النديم في مذكراته أن الأمور سارت بصورة طبيعية في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام ١٨٨١م، وساد الوفاق — إلى حدٍّ ما — بين الجماعات السياسية المصرية، وانصرف الجميع إلى أعمالهم، وعمَّ الهدوء البلاد، لكن إنجلترا وفرنسا ساءهما أن ينتهي الأمر في مصر إلى أيدي المواطنين، «وهم مهما حسُنت نيَّاتهم، وتأكد اعتدالهم، لا بد أن يراعوا مصالحهما المتعدِّدة التي تمثِّلها المراقبة الأوروبية، وسياستها التي جعلت مصر مرعًى يستغله الأوروبيون.»١

كانت مذبحة الإسكندرية هي بداية العاصفة: «… ولم يقنط الخديو، وراح يفكر في دسيسة أخرى. إنه وزير الداخلية، ومحافظ الإسكندرية عمر لطفي يتلقَّى الأوامر منه، فلماذا لا يستغل هذا الجركسي الطامع في الوزارة في تنفيذ مآربه، فإذا كان قد عجز عن إثارة القلاقل في القاهرة، فليجرِّب إثارتها في الإسكندرية، وأرسل إلى عمر لطفي برقية رمزية: «ضمن عرابي الأمن العام، وأعلن ذلك في الصحف، وجعل نفسه مسئولًا أمام القناصل. فإذا نجح في حفظ الأمن، فلا بد أن تضع فيه الدول ثقتها، وعندها يضيع ما لنا من اعتبار. أضف إلى ذلك أن أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، والخواطر متهيجة. فعليك الآن أن تختار لنفسك: إما أن تخدم عرابي في ضمانه للأمن، وإمَّا أن تخدمنا.» واختار عمر لطفي لنفسه أن يخدم الخديو؛ ففي خدمته خدمة لمصالحه، وإن جرَّت على البلاد الذل والهوان، وراحت جريدة «المحروسة» — وهي لسان عمر لطفي، المعبِّرة عن آرائه — تنشر على الملأ أن الأوروبيين في الإسكندرية يقومون باستعداداتٍ حربية، فتبلبلت الأفكار، وساد الإسكندرية توتر وقلق، وأخذ مندوبو عمر لطفي يوزِّعون النبابيت على الرعاع سرًّا، يوهمونهم أنهم ما يفعلون ذلك إلا لمحبتهم لهم، فهم يسلِّحونهم، حتى إذا ما اعتدى عليهم الأجانب كانوا على قدم الاستعداد، وعمل المستر كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية على إثارة الخواطر، فجمع قناصل الدول، وقال لهم: إن المصريين في هياجٍ شديدٍ من وجود الأساطيل الحربية في الثغر، وأخشى من هجوم الرعاع على الأوروبيين، وأخذهم على غِرَّة، وإن الحزم يقضي علينا بالمداولة فيما يجب اتخاذه من التدابير لحفظ أرواحنا وأموالنا. وقرروا — بإجماع الرأي — أن يتسلَّحوا، كأنما كانت مصر هي التي أرسلت إليهم أساطيلها لتهدد سلامتهم. وأخذ الأسطول البريطاني يسرِّب البنادق والمسدسات إلى الإنجليز والمالطيين. وجاء يوم الأحد، واجتمع أوشاب الأجانب وأوشاب الوطنيين في الحانات ودور اللهو، وانطلق أحد المالطيين لزيارة أخيه — وكان في خدمة المستر كوكسن — فلما انتهت الزيارة منحه كوكسن جنيهًا، وركب عربة راح يدور بها على الحانات في الحي الأوروبي، ووصل أخيرًا إلى قهوة الجزار في شارع الأخوات، وأراد أن يصرف السائق، فوضع في يده قرشًا واحدًا، فثار السائق وصاح به يناقشه، وتطورت المناقشة إلى شجار، فأطبق الحوذي على رقبة الرجل، فما كان من المالطي إلا أن طعنه بسكين، وجاء رجل ينصر المظلوم، فهبَّ يوناني وقتله، واندلعت الشرارة التي تعاون الإنجليز والخديو على قدحها. وخف الناس إلى المكان، فإذا برصاصة تنطلق من منزل مالطي، وإذا بالمستر كوكسن يخرج من نفس المنزل، فثار الناس واعتدوا عليه؛ فقد حزروا أنه مشعِل الفتنة، والمحرِّض على إطلاق النار عليهم، وخف إلى المعركة البرابرة والأعراب مدججين بالعِصي التي وزعها أعوان المحافظ عليهم. وجاء عمر لطفي ليزكي نار الثورة، فدنا منه أعرابي، وأشار إلى أحد الأوروبيين المطلِّين من النوافذ، وفي أيديهم مسدساتهم، وقال له: هل أطلق النار على هذا الرجل يا باشا؟ فقال له عمر لطفي: نعم … اضربه. وأطلق الأعرابي رصاصة، فأردى الرجل قتيلًا، وراح أحد خدم المستر كوكسن يطوف على الأوروبيين، ويحرِّضهم على التقدم والمثابرة على القتال. وأراد عمر لطفي أن يزيد النار اندلاعًا، فأمر بعض أعوانه أن يعرضوا القتلى على الجماهير ليؤجج نار الثورة في صدورهم، فتنتشر الفتنة وتنداح حتى تغمر المدينة كلها. أراد عمر لطفي أن تتم حلقات تدبيره، فانطلق إلى تليفون قريب، واتصل بالقناصل، وطلب منهم الذهاب إلى قسم اللبان، وخف القناصل إلى المكان، فلما رآهم الناس ثاروا عليهم، حسبوهم ما جاءوا إلا لشد أزر المعتدين، فهجموا عليهم حانقين يسدِّدون إليهم الضربات، وانسلَّ عمر لطفي بعيدًا بعد أن أشعل نار الفتن، ورآه رجل بالقرب من زيزينيا، فقال له في دهش: كيف تكون هنا والمذابح على بُعد خطوات منك؟

فقال له عمر لطفي في استخفافٍ: لست بقائدٍ … وهذا لا يعنيني.

– لِمَ لمْ تحضر بلباسك الرسمي على حصانك، شاهرًا سيفك في خمسين من عساكر المحافظة، وبذلك كان الأمر ينتهي؟

فقال له عمر لطفي في غلظة: انصرف، ليس هذا من شأنك، وهل أنت محافظ البلد؟ وأسرع عمر لطفي يتصل بالخديو، فأرسل إليه برقية يخبره فيها أن الأمر أضحى خطيرًا، وأن النهب يجري في المدينة، وأن زمام الأمر أفلت من يده، فأبرق إليه الخديو: «اطلب المعونة العسكرية من الأميرال سيمور، ولا تطلب جنودًا مصرية.» ولم يستطع أحد الأميرالايات بالإسكندرية أن يبرق لعرابي بما يحدث في المدينة، فقد كان التلغراف مشغولًا بالبرقيات المتبادلة بين عمر لطفي والخديو. وهرع عمر لطفي إلى الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطاني، يلتمس منه العون. ولم يطلب معاونة السلطات المصرية، على الرغم من أن معسكر الجنود النظاميين كان على مقربة من الحادث. كان كل همِّه أن يقيم الحجة أمام القناصل أن عرابي عجز عن حفظ الأمن، حتى يتمكَّن الخديو من عزله، ورفض الأميرال سيمور التدخُّل؛ فقد كان ينتظر حتى تندلع نار الثورة، وتعمَّ الفوضى، فيجد في ذلك مبررًا قويًّا لضرب المدينة. وأبرق عمر لطفي إلى الخديو: «الأميرال غير موافق خشية أن يحدث شيء آخر من الجنود في المدينة، مما يكون من الصعب تلافيه.» وأرسل عمر لطفي إلى الأميرالاي سليمان سامي رسالة شفوية يطلب منه فيها أن يحضر هو وفرقته إلى المدينة بدون سلاح، فخف الأميرالاي إلى حيث استُدعي، فلما رأى الثورة الهوجاء، ثار في وجه عمر لطفي، وقال له: أنت خائن لوطنك ودينك. وحقد عمر لطفي عليه، وأبى سليمان سامي أن يطيع أوامره، وبلَغ خبر تلك الفتنة إسماعيل باشا كامل قائد آلايات الإسكندرية، فأسرع بإرسال الآلاي الخامس والسادس إلى ساحة المنشية، وانطلق على رأس قواته، وعند غروب الشمس نامت الفتنة.٢
لقد آثرت نقل هذا النص المطول؛ لأن مذبحة الإسكندرية كانت منعطفًا مهمًّا في مجرى الأحداث التي مهدت لدخول قوات الاحتلال؛ فعلى أثرها تبدَّت النيَّات الاستعمارية في مظاهر عديدة، من بينها: وجوب الحفاظ على عرش الخديو، وحماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم. وبعد دخول قوات الاحتلال، إن تطورات المذبحة تنفي ما ذهب إليه إ. م. فورستر بأنه إذا كان عرابي لم يخطط للمذبحة، فإنه استغلها بشكلٍ طبيعي لتزداد هيبته.٣ وإذا كان الثوار قد أُدينوا — عبر مئات الصفحات من التحقيق المتعسف — بأنهم كانوا الرءوس المدبِّرة لكل ما شهدته الإسكندرية في ذلك اليوم الحزين من يونيو ١٨٨٢م، فثمة تأييد تاريخي لأحداث ذلك اليوم — كما رواها الفنان — في رواية المؤرخ روذنستين: «ابتدأت الفتنة حوالي الساعة الأولى بعد الظهر، واستمرت إلى حوالي الساعة الخامسة … حدث ذلك كله، ورجال البوليس كانوا لا يفعلون شيئًا تارة، وتارة يشتركون في الفتك والتدمير، أما عمر لطفي محافظ المدينة، فكان — في أثناء ذلك كله — قد استحوذ على محل التلغراف ليكون على اتصالٍ بالخديو، ولم يخبر سليمان سامي قائد الحامية بشيء من الفتنة إلا بعد مُضي الساعة الرابعة، وحتى في هذه اللحظة أمره بأن يقود الجنود عزلًا من السلاح، على أن الرجل تولى الأمر بنفسه، فبرز في الساعة الخامسة وأخمد ثورة المذبحة.»٤ ويقول برودلي في رسالة خاصة لبلنت: «وأنا شخصيًّا ليس عندي شك في أن الخديو وعمر لطفي هما اللذان دبَّرا مذبحة الإسكندرية؛ وذلك لكي يقضيا على نفوذ عرابي ومكانته.» ثم يحدد بلنت طبيعة الدور الذي قام به عمر لطفي لصالح الخديو، عندما يقول في كتابه: «وقد حاول اثنان أو ثلاثة من المديرين الشراكسة أن يقلِّدوا عمر لطفي محافظ الإسكندرية في إحداث القلاقل في المديريات خدمةً لتوفيق، فقبض عليهم، واعتقلوا إلى نهاية الحرب.» وكتب محمد عبده في مذكرات منفاه: «أما عن الشغب في الإسكندرية، فإن عرابي صادقٌ في روايته عن عمر لطفي والخديو، فهما اللذان دبَّرا الشغب قبل حدوثه ببضعة أسابيع، وإن أكثر من قبض عليهم بعد الحادث بيومٍ كانوا يقولون: لا لوم علينا، فإن سعادة المحافظ نفسه هو الذي كان يأمرنا بأن نضرب، وأن نسرق.»٥ كما أشار محمد فريد إلى الحادثة بأنها ليست أكثر من مؤامرة دُبِّرت للنيل من الوطن، ويقول عبد الله النديم في مذكراته: «… فلم يأتِ يوم الأحد المنحوس، إلا والمذبحة في الإسكندرية تعدم النفوس، وكانوا يظنون أن العساكر تتداخل في المذبحة، وترتكب تلك المقبحة، فلما لزمت العساكر السكون، ولم يشاركوا أهل الجنون، خاب سعي درويش، وضاع البرطيل والبخشيش، وظهر الأمر للأجانب، وتحقق لهم أصل المصائب، وقد أراد أن يظهر ضعف عرابي باشا عن حفظ الراحة، ليسهل خروجه من هذه الساحة.»٦ أما عرابي، فإنه ينفي ما أثير من اشتراك درويش باشا — مندوب السلطان — في مؤامرة المذبحة، لكنه لا يبرِّئه من أنه أخذ رشوة من الخديو «فإن هذه عادة الأتراك.» ووجَّه عرابي اتهامه إلى الشراكسة والأتراك لأنهم أحسوا بضياع نفوذهم بين المصريين، فدبَّروا حادثة الإسكندرية «ليشوِّهوا بذلك وجه أعمالنا الوطنية في أعين أوروبا، ويتخذوا ذلك ذريعة لاستعباد المصريين.»٧ وهذا الاتهام صحيح إلى حدٍّ بعيد؛ فقد كان عمر لطفي — الشركسي — هو الأداة المنفِّذة لأحداث المذبحة؛ ذلك لأنه كان مسئولًا أمام الخديو مباشرة، بينما يتولى عرابي قيادة الجيش الذي أفلح عمر لطفي في منعه من تأدية واجبه، وقد وزَّع رجال البوليس — الذين يتبعون المحافظ — قبل الحادثة بأيام، كمياتٍ من النبابيت على أعوانهم، وظهرت تلك النبابيت دفعة واحدة، في اللحظة التي قُتِل فيها المكاري، بل لقد شارك رجال البوليس أنفسهم في عمليات التقتيل. لقي عددٌ كبير من القتلى مصرعهم بطعنات المِدى وحِراب البنادق، والمدى والبنادق هي أسلحة رجال البوليس.٨ «أكثر من ألف وسبعمائة وثلاثة وستين ضابطًا بين عسكر وأنفار، سقطوا شهداء في هذه المدينة — الإسكندرية — في الحادي عشر من شهر يوليو.»٩ وأكد معظم المصابين من الأوروبيين بأن رجال الجندرمة شاركوا في المذبحة، وفي النهب والسرقة، وأنهم لم يفعلوا شيئًا ليدافعوا عنهم، وإنما كانوا يصيحون في الأعراب: تشجعوا، اضربوهم! فلم ينقذ الموقف إلا وصول قوات الجيش. كذلك، فقد احتجَّ غالبية من ألقي القبض عليهم من المتهمين بأنهم ليسوا مسئولين عما ارتكبوه؛ فقد أمرهم «سعادة المحافظ» بالنهب والاعتداء.١٠ وقد حرص عمر لطفي على ألَّا يعطي لعرابي — المسئول رسميًّا عن ضمان الأمن في البلاد — أية معلومات عن تطورات الأحداث، بل إنه لم يدع الفرصة لسواه من المسئولين لتبليغ عرابي، بعد أن شغل مكتب التلغراف ببرقياته المتوالية، الغامضة، إلى الخديو توفيق.١١ ولما سُئل عمر لطفي عن الاتهام بأنه كان يحرض الناس على النهب، أجاب ببساطة: نعم، فعلت ذلك لكي أحوِّل أنظار الجماهير عن القتل.١٢ وبدلًا من أن يُقدَّم عمر لطفي إلى المحاكمة، عُيِّن رئيسًا للجنة التحقيق في أسباب المذبحة، ثم حصل على إجازة، انتهت — بعد اندحار الثورة — بتعيينه ناظرًا للحربية بدلًا من عرابي؛ لذلك فقد اعتبر الإمام محمد عبده سلطان باشا أكبر المصريين خيانة لوطنهم، «يليه في الخيانة عمر لطفي باشا محافظ الإسكندرية.»١٣ وثمة أسماء اقترنت بظروف المذبحة وملابساتها، مثل طلعت باشا الرومي، وخيري باشا الشركسي، وقائد الجندرمة إسماعيل كامل باشا الشركسي.١٤ أما رواية الرافعي لأحداث ذلك اليوم، فهي تناقض روايات السحار وروذنستين وبرودلي والإمام وفريد وعرابي والأجانب الذين أصيبوا في المذبحة، يقول في كتابه «الزعيم أحمد عرابي»: «وكان عمر لطفي باشا محافظ الإسكندرية حين بدأت الحادثة، يتولى رياسة قومسيون تحقيق الجمرك بدار المحافظة، فأبلغه أحد موظفي الضبطية نبأ الشجار الذي وقع بين الوطني والمالطي، فأوفد حسين بك فهمي وكيل المحافظة إلى مكان الواقعة لفض الخلاف، ثم جاء بعد ربع ساعة نبأ استفحال الفتنة وتجسُّمها، وأن السيد بك قنديل مأمور الضبطية مريض في منزله، فذهب بنفسه إلى جهة الواقعة بشارع السبع بنات، وهناك رأى خطورة الفتنة، ورأى ازدحام الشوارع بالمتجمهرين، فطلب من إسماعيل باشا كامل قائد الجنود بالإسكندرية إرسال المدد من الجنود لوقف الهياج، فتباطأ الأميرالاي مصطفى عبد الرحيم بك قائد الآلاي الخامس الذي كان مرابطًا برأس التين، والقائمقام سليمان سامي قائد الآلاي السادس الذي كان بباب شرقي، في إرسال الجند، ولم يحضروا إلا في الساعة الخامسة مساءً، قبل المغرب بساعة. وحين جاء الجنود، فرَّقوا المتجمهرين بغير صعوبة، وانتهت الفتنة في مغرب الشمس، فسادَ المدينة سكون رهيب.»١٥ ومن الغريب أن الرافعي الذي قضى أشهرًا يفتش في سجلات المحاكم، بحثًا عن أسماء شهداء مظاهرة السلام في عام ١٩١٩م، مثلًا … يعرض للمذبحة دون أي جهدٍ حقيقي في البحث والتقصي، هل يمكن نسبة ذلك أيضًا إلى الأسباب «الوطنية»؟! … إنه لم يناقش استحالة تدبير عرابي للمذبحة بعد إعلانه، قبل أربعة عشر عامًا من وقوعها. إنه يضع تحت مسئوليته استتباب الأمن والنظام، وأن سلامة مصر تتوقف على سيادة النظام فيها، كيف يمكن لعرابي، في لحظات هو أعلم الناس بخطورتها، أن ينقض ما وعد، ويظهر عجزه بنفسه؟

•••

وأيًّا يكن الرأي في حقيقة البواعث وراء مذبحة الإسكندرية، والأشخاص الذين وقفوا وراءها، فإن المذبحة — رغم بشاعتها — كان ينبغي ألَّا تجاوِز ما حدث، وألَّا تترتب عليها التطورات التالية. فقد وصف دي فريسينيه رئيس وزراء فرنسا آنذاك، وصف المذبحة بأنها من الحوادث العارضة التي تقع أحيانًا في الثغور التي يسكنها عدة أجناس. وقال إنها أقرب إلى الفتنة التي جرت قبل عام في مرسيليا بين العمال الإيطاليين والفرنسيين. وأصدر القناصل الأجانب — عقب اجتماعهم في بيت المحافظ — في اليوم التالي مباشرة، بيانًا قالوا فيه: «حدثت اضطرابات خطيرة في يوم الثلاثاء بالإسكندرية، لكن الجيش المصري أعاد النظام، وتعهد رئيسه بالمحافظة عليه، ونحن نثق في الجيش المصري.»١٦ وكانت الحادثة سببًا في نزول الخديو على رغبة القناصل، واعترافه بمسئولية عرابي في حفظ النظام، وتحمَّل عرابي المسئولية فعلًا، ونشر بيانًا يطلب فيه من الناس التزام السكون وطاعة القانون. وأصدر أوامره إلى قادة الجيش بأن يحافظوا على الأمن، كلٌّ في إقليمه الخاص، كما أوعز إلى شيخ جامع الأزهر، فأصدر بيانًا وقَّع عليه كبار العلماء، أوكلوا فيه لعرابي المسئولية في حفظ الأمن.١٧ واستطاعت الوزارة فعلًا، أن تفرض الأمن في الإسكندرية، منذ مغرب اليوم الدامي، وقضت على محاولات مماثلة في بعض عواصم الأقاليم، تزعَّمها أعوان الخديو، وتحددت صورة مذبحة الإسكندرية نتوءًا في جدار الأمن، استطاعت قيادة الثورة — رغم كل الملابسات والمعوقات — أن تسدَّه.

كان من المفروض إذن ألَّا تجاوز المذبحة نتائجها التي غربت بعدها شمس ذلك النهار، دون أن تتولَّد عنها أية نتائج أخرى مقبلة … لكن الخطة المحددة كانت تنشد المبرر، لبدء التنفيذ.

•••

كان إعداد الطوابي والحصون حجة الذئب في افتراس الحمل، وكان تدبير مذبحة الإسكندرية للهدف ذاته، لكن الفوضى الشاملة لم تحدث، وأمكن احتواء ما حدث قبل غروب المساء؛ ومن ثَم، فقد بدأ البحث عن حجة أخرى. وحين لجأ الخديو إلى آخر ما في جعبته، فطاف على آلايات الجيش ليكسب تأييدها ضد العرابيين «لاقى ذلك الطواف ما تنخلع منه أفئدة أقوى من فؤاده.»١٨ وفي الرابع من يوليو ١٨٨٢م بعث الأميرال سيمور رسالة إلى عرابي، قال فيها: «وصل إلى علمي من مصادر أثق في أخبارها، أن هناك إجراءات تُتخذ لسد مدخل بوغاز الإسكندرية، وإنني أعتبر هذا العمل معاديًا، وسوف أتصرف على هذا الأساس.» ثم بعث إنذارًا ثانيًا في ٦ يوليو، قال فيه: «… إنه وصل إلى علمي عن طريق رسمي أنه قد تم أمس تركيب أكثر من مدفعَين في خطوط الدفاع القائمة على البحر، وأن هناك تجهيزات عسكرية أخرى تمت في مواجهة الإسكندرية الشمالية. ولما كان هذا يُعَد تحديًا وتهديدًا للأسطول الذي أتشرف بقيادته، فإنني أجد نفسي مضطرًّا أن أطلب إليكم وقف هذه الأعمال فورًا، وإذا لم تقف، أو إذا تجددت، فسوف أجد من واجبي أن أتولى إزالتها بالقوة.» ردَّ وزير الحربية بأن «كلَّ ما ورد في إنذار الأميرال لا أساس له من الصحة؛ ونعتمد على عواطفكم المشبَّعة بالإنسانية في إثبات الحقيقة.» لكن الأميرال بعث بإنذاره الأخير: «… إنه نظرًا لاستمرار الاستعدادات العسكرية الموجَّهة ضد الأسطول الذي أتولى قيادته، وخاصة في طوابي السلسلة وقايتباي وطابية صالح، فإنني أطالب بتسليم هذه القواعد قبل شروق الشمس غدًا ١١ يوليو؛ وذلك لاحتلالها وتجريدها من السلاح، تأمينًا لسلامة الأسطول، وإذا لم يتم هذا، فسأقوم بتنفيذ الإجراء بالقوة في هذا الموعد.» ولم يعُد في مصر — والقول لأحمد رفعت — من يختلف حول الأمر. انتهى تمامًا كل جدل أو حوار، ولم تشهد مصر قطُّ مثل الإجماع والحماس الذي كانت عليه البلاد، وأصبح عرابي أمام الجميع بلا استثناء هو حامي حمى البلاد، ورجلها، وخادمها الوحيد والأمين.١٩

هوامش

(١) محمد أحمد خلف الله، عبد الله النديم ومذكراته السياسية، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٥٦م، ١٦٨.
(٢) قلعة الأبطال، ١٥٤–١٥٧.
(٣) إ. م. فورستر، الإسكندرية تاريخ ودليل، ت. حسن بيومي، المجلس الأعلى للثقافة، ١٣٨.
(٤) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ١: ٣١٢، ويشير عبد اللطيف حمزة إلى أن تيودور روذنستين فرنسي وليس روسيًّا، أدب المقالة الصحفية، ٤: ٣٥.
(٥) مذكرات الإمام محمد عبده، ت. طاهر الطناحي، كتاب الهلال، ١٨٩.
(٦) عبد الله النديم ومذكراته السياسية، ٦٨.
(٧) الهلال، مارس ١٩٧١م.
(٨) التاريخ السري، ٦٨٩–٧٠٨.
(٩) محمد الصاوي، قهقهات محمد علي باشا، دار الوفاء، ١٢٠.
(١٠) التاريخ السري، ٦٨٧.
(١١) المرجع السابق، ٦٨٣.
(١٢) المرجع السابق، ٦٧٧.
(١٣) تاريخ الأستاذ الإمام، ٢٣٣.
(١٤) مع أن أحمد عبد الرحيم مصطفى يتهم الخديو ودرويش باشا وعمر لطفي بأنهم وراء تدبير المذبحة، فإنه يلقي على اتهامه ظلالًا كثيفة بقول: «إن كانت قد دُبِّرت على الإطلاق.» (مصر والمسألة المصرية، ٢٢٧)، فهل يتشكك في أن المذبحة لم تكن وليدة ذاتها، وأنها كانت مدبَّرة؟!
(١٥) عبد الرحمن الرافعي، الزعيم أحمد عرابي، كتاب الهلال، ١٩٥٢م، ١١٨.
(١٦) التاريخ السري، ٧١٥.
(١٧) فصول من المسألة المصرية، ١١٠-١١١.
(١٨) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ١١٠.
(١٩) روز اليوسف، ١١ / ١٠ / ١٩٨٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥