كانت التناقضات التي واجهت الشخصية المصرية، في عملية البحث عن الذات، قبل، وإبَّان،
وعقِب ثورة ١٩١٩م. والتي كان باعثُها الأول تناقض المصالح الطبقية، مما أدى إلى مناصرة
كل طبقة لقضاياها، وعبَّرت في أحد أبعادها، بقيام الأحزاب التي دافع كلٌّ منها عن المصلحة
الطبقية لأعضائه … كانت تلك التناقضات قد وجدت بُعدًا آخر، مهمًّا، في التناقضات الفكرية
التي توزعها البحث في الذات المصرية.
ويحدد محمود متولي عوامل خفوت الصوت القومي في مصر، منذ عام الاحتلال ١٨٨٢م، إلى ثورة
١٩١٩. بما يلي:
الاتجاه الفرعوني
أما الاتجاه إلى الفرعونية، فقد كان المصريون — في أعقاب الثورة — يتحدثون كثيرًا
عن أمجادهم التاريخية، وعن آبائهم الفراعنة، ويستمدون من هذا التاريخ القديم قوة
معنوية «تساعدهم على الصمود في وجه أوروبا التي تعتمد على شبابها وحاضرها
الفتيِّ.»
٥٢ وفي ٤ نوفمبر ١٩٢٦م وصل عالِم الآثار الإنجليزي هيوارد كارتر إلى مقبرة
توت عنخ آمون، أو إلى بداية السرداب الذي يفضي إلى المقبرة. كانت أول مقبرة فرعونية
يُعثَر عليها دون أن تتعرض للعبث أو السرقة. وتابع العالم كله، والرأي العام المثقف
المصري أنباء تلك الكشوف الحديثة في حفريات الآثار. سرت حمى توت عنخ آمون في دول
الغرب: الأزياء، التسريحات، اللعب، السلع الغذائية. حتى الحانوتية أعلنوا عن الدفن
بطريقة توت عنخ آمون! وقالت صحيفة «فيلادلفيا لبدجر» الأمريكية: «لقد حقق توت عنخ
آمون لمصر الحديثة ما لم يحقق في حياته وزمانه.» وعكست الضجة العالمية تأثيرًا
مباشرًا على المصريين؛ نبَّهتهم إلى قيمة تراثهم الفرعوني، وحفزتهم لدراسة تاريخهم
القديم؛ وبديهي أن الأدباء كانوا في مقدمة المتأثرين بتلك المكتشفات.
كان رأي دعاة الفرعونية أن الشخصية المصرية تستمد جذورها الأساسية الصحيحة من
الحضارة الفرعونية القديمة. أما الشعوب التي وفدت على مصر، فقد جاءت بهدف الغزو
والاستعمار، بما في ذلك العرب أنفسهم. إن العرب مثل اليونان والرومان والفرس والترك
غزاة ينبغي على مصر أن تتغلب على آثارهم تمامًا، لتعود إلى شخصيتها الأصيلة، وهي
الشخصية الفرعونية. وكان أعلى دعاة الاتجاه إلى الفرعونية صوتًا محمد حسين هيكل وطه
حسين وسلامة موسى ومرقص سميكة وحسن صبحي ومحمد عبد الله عنان وتوفيق الحكيم. وكانت
صحيفة «السياسة» الأسبوعية منبرًا تنطلق منه الأصوات بتلك الدعوة، والتأكيد على أن
«بين مصر الحديثة ومصر القديمة اتصالًا نفسيًّا وثيقًا، وأن ما بين مصر الحاضرة
ومصر الغابرة من صلات، لا يمكن فصله.» يقول هيكل: «لا سبيل إذن إلى إنكار ذلك
الاتصال النفسي الوثيق الذي يربط تاريخ مصر، منذ بدايته إلى عصرنا الحاضر، وإلى آخر
العصور المستقلة التي يمكن أن يعرفها التاريخ. ولئن تبدَّلت أسباب العيش ما تبدَّلت،
ولئن قرَّبت سكك الحديد والبواخر والطيارات، وكل ما يمكن أن يتمخض عنه خيال العالم من
وسائل المواصلات بين أجزاء العالم ما قرَّبت، بل لئن تهدمت الحدود الدولية، وفنيت
العاطفة الوطنية، فسيبقى أبدًا هذا الاتصال النفسي الوثيق، الذي يجعل من مصر وحدة
تاريخية أزلية خالدة؛ فمن حق المصريين، ومن الواجب عليهم، أن يستثيروا دفائن
الفراعنة جميعًا، وأن يربطوا حاضرهم وماضيهم رباطًا ظاهرًا لكل عين.»
٥٣ وفي كتاب عن قصص البردي (١٩٢٦م) ربط هيكل بين مصر الفرعونية ومصر
المعاصرة، ووجد أن بين المرحلتين — على تباعد الزمن — اتصالًا وثيقًا نسيه الكثيرون،
وحسبوا أن ما طرأ على مصر منذ عهود الفراعنة في أبعاد الحياة المختلفة قد فصل بين
ماضي الشعب المصري وحاضره فصلًا حاسمًا، بحيث أصبح أقرب إلى العرب، أو إلى الرومان
منه إلى «أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.» وأكد
سلامة موسى أن السلالة المصرية لم يطرأ عليها تغيُّر حقيقي منذ خمسة آلاف سنة، ولغة
الفراعنة لا تزال حية في الكنائس المصرية، وكل ما طرأ عليها أنها تُكتَب بحروف
لاتينية، مثلما كانت تُكتَب اللغة التركية بحروف عربية قبل ثورة مصطفى كمال. أما
الثقافة — ومرادفها العلمي في بعض التقديرات هو الحضاري — فهي تعود في أصولها إلى
مصر القديمة «لأن الحضارة اختراع مصري قديم.» وأشار سلامة موسى إلى أوجه التشابه
بين عادات الفلاحين وسائر الطبقات المتأخرة. ثمة الكثير مما يربط المصريين
المعاصرين بالمصريين القدماء «سواء كان ذلك في الأساطير التي تُحكى للأطفال أم في
العادات الفاشية بين أفراد الطبقات الوضيعة.»
٥٤ أما طه حسين؛ فعلى الرغم من تأييده لفكرة التضامن بين الدول العربية،
فإنه كان يرفض أن تجاوز الفكرة أسوار «التضامن» بمعناه المحدد. يقول: «فالمصري مصري
قبل كل شيء، وهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلَّبت الظروف. الوحدة العربية كما يفهمها
ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو
السويسري، ونحن لا نرضى بهذا أو ذاك، ولا نصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم
يعملون للعروبة، فالفرعونية متأصلة في نفوسهم، وستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى، وأن
تقوى.»
٥٥ وقد ألَّف محمود مراد في ١٩٢٣م رواية غنائية باسم «مجد رمسيس» تناولت أمجاد
المصريين القدامى، وأمل المعاصرين في مستقبل زاهر، وكانت كلمات تلك الرواية بالذات
هي التي راح يرددها الطالب الشاب أحمد حسين حين سافر مع مدرسته في زيارة إلى مناطق
الآثار بالأقصر.
٥٦ ويتحدث عن الزعيم المرتقب، ذلك الذي لن يكون من دم تركي أو شركسي «بل
من دم فرعوني، تنساب فيه ذكريات رمسيس ومينا».
٥٧ وأنشئ مسرح رمسيس، واستديو الأهرام، وشاعت — في حياة الناس اليومية —
أسماء آمون وإيزيس ورمسيس، وكتب شوقي: تحرك أبا الهول، هذا الزمان … تحرك ما فيه حتى
الحجر.» وعندما كتب توفيق الحكيم «عودة الروح» كانت أصداء النداء قائمة في نفسه:
«انهض، انهض يا أوزوريس، أنا ولدك حورس، جئت أعيد إليك الحياة، لم يزل لك قلبك
الحقيقي، قلبك الماضي.»
وكان بداية اعتناق فوزي السيد (أزهار) لفكرة الفرعونية، عندما زار الأقصر وأسوان،
وشاهد أعمدة الكرنك الرحيبة في ضوء القمر، فقد اندفع قائلًا لزملائه: على أبناء هذا
الجيل — أواخر العشرينيات — أن يكرِّسوا حياتهم لبعث مجد مصر القديم، للعودة بمصر
قائدة وسيدة وزعيمة للعالمين.
٥٨ ولا يخلو من دلالة اختيار فوزي السيد ورفاقه منطقة الأهرام ليحتفلوا
بعيد الجهاد.
٥٩ ولما قدَّم رياض (أزهار) أوراقه للجامعة، حرص على أن يدخل قسم الجيولوجيا
بكلية العلوم؛ ليكون باستطاعته الإسهام في الكشف عن ثروة مصر المعدنية، والتي قامت
عليها حضارة الفراعنة. وفي «عودة الروح» جلست سنية إلى البيانو تعزف عليه. ولاحظ
محسن — لأول مرة — لون شعر الفتاة، وأنه مقصوص على أحدث طراز، وتأملت عيناه نحرها
العاجي، يعلوه رأس جميل مستدير الشعر غاية في السواد، يلمع لمعانًا أخاذًا كأنه قمر
من الأبنوس. وخطرت لمحسن صورة يراها دائمًا في الكتاب المقرر هذا العام للتاريخ
المصري القديم، صورة يحبها كثيرًا. وطالما قضى شطرًا من حصص التاريخ يطيل إليها
النظر وهو سابح في عالم الأحلام، لا ينزله منه إلى الأرض إلا صوت المدرس وقد بدأ
في شرح الدرس. تلك صورة امرأة شعرها مقصوص أيضًا، وأسود لامع كذلك، ومستدير كالقمر
الأبنوس: إيزيس.
٦٠ وبالإضافة إلى رواية الحكيم «عودة الروح» التي تُعَد تأكيدًا على أن الروح
المناضلة قد عادت إلى جسد الأمة المصرية، مستوحية في ذلك أسطورة الرباعي: أوزوريس،
إيزيس، حورس، ست، ومسرحية «أهل الكهف» التي كانت في بعض زواياها تأكيدًا لفكرة البعث،
استلهامًا لتراث مصر القديمة، وكانت تعبيرًا عن الرغبة في كتابة مأساة مصرية على
أساس مصري، فإذا كان أساس المأساة الإغريقية هو النضال بين الإنسان والقدر، فإن
أساس المأساة المصرية هو النضال بين الإنسان والزمن.
٦١ بالإضافة إلى ذلك، فقد كتب توفيق الحكيم في «تحت شمس الفكر» — ١٩٣٨م — يقول: «إني دائمًا
أومن بأن مصر لا يمكن أن تموت؛ لأن مصر منذ الأزل ظلت تعمل وتكد
آلاف السنين، لهدف واحد: مكافحة الموت. ولقد فازت مصر ببغيتها، وكلما ظن الموت أنه
انتصر، قام حورس من أبنائها يصيح: انهض … انهض أيها الوطن! إن لك قلبك، قلبك
الحقيقي دائمًا … قلبك الماضي … وإذا الموت يتراجع أمام صوت مدوٍّ من أعماق الوطن: إني
حي … إني حي!»
٦٢ وإذا كانت كتابات الحكيم تستهدف التأكيد على ما سمَّاه القومية — أو
الوطنية — المصرية، فإنه على مستوى التعبير عن «القومية» المصرية، ذات البُعد
الفرعوني، تقف محاولات نجيب محفوظ الثلاث الأولى «عبث الأقدار» — ١٩٣٩م — و«كفاح طيبة»
— ١٩٤٣م — «ورادوبيس» — ١٩٤٤م — فهي تأثرٌ بالغٌ بحركة إحياء «القومية» المصرية، حتى
إنه خطط
لكتابة تاريخ مصر الفرعونية في أربعين رواية تاريخية، مثلما فعل الكاتب الإنجليزي
وولتر سكوت في تاريخ بلاده، فضلًا عن الروايات الثلاث محاولة مخلصة لإعادة الثقة
بمصر، التي كانت قد فقدت نفسها، أو فقدت الروح — كما تقول رواية الحكيم — ثم أضيف
احتمالًا ثالثًا، بأن الفنان زاوج بين التاريخ، وبتعبيرٍ أدق: ربط بين الماضي
والحاضر بمعانٍ ودلالات ورموز يلتمس فيها منفذًا ليقول بعض ما يريد. لقد أراد الفنان
تسليط ضوء على الحاضر، ومناقشة مشكلاته وأزماته عن طريق رواية أحداث الماضي، بما
يتيح للفنان أن يقول كلماته، ارتكازًا إلى نظرية وحدة التاريخ التي تقول إن التاريخ
يعيد نفسه، فقد كان ثمة تحالف بين السلطات الحاكمة والاستعمار للحيلولة دون أية
نأمة تصل إلى الجماهير. وكما يقول الفنان فقد كانت عصور الفراعنة هي العصور الوحيدة
المضيئة في مقابل عصر الانحطاط والمهانة الذي كانت تحياه مصر في النصف الأول من هذا
القرن، مهانة الاستعمار الإنجليزي وسيطرة الأتراك معًا.
٦٣
في قصة «يقظة المومياء» — مجموعة «همس الجنون» — خرج الأمير الفرعوني من تابوته؛
ليثأر
لحفدته المصريين الذين نال منهم حكامهم. رادوبيس — مثلًا — هي صورة مصر الحديثة في
ثياب فرعونية، وأحمس بطل «كفاح طيبة» الذي قاد المصريين في ثورة هائلة ضد الهكسوس، هو
الزعيم «المرتقَب» ليقود المصريين في ثورتهم. ويتساءل الفرعون في «عبث الأقدار»
مقابلًا لموت عشرات الألوف من أبناء مصر في عملية بناء الهرم: ماذا فعلت من أجل
مصر؟ وماذا صنعت مصر من أجلي؟ ولا أكتمكم الحق أيها الأصدقاء … فقد وجدت ما صنعه
الشعب أضعاف ما صنعته له، فأحسست بشيء من الألم. ثم يخلد الفرعون إلى عزلة في جوف
الهرم، ليضع كتابًا ضخمًا، يضم خلاصة تجاربه في الحياة، كمحاولة لرد الجميل إلى هذا
الشعب المسكين.
٦٤ ونحن نجد ثلاثًا في الأقل من الروايات الفائزة في مسابقة مجمع اللغة
العربية عام ١٩٤٢م، تعتمد على الحدث التاريخي الفرعوني، مثل «ملك من شعاع» لعادل كامل،
و«عبث الأقدار» و«كفاح طيبة» لنجيب محفوظ، بل إن عدد الروايات التاريخية المقدَّمة إلى
تلك المسابقة، بلغ ثماني روايات من مجموع ثماني عشرة رواية، وكان أغلبها يتناول
التاريخ الفرعوني، احتذاء — كما أشرنا — بروايات ولتر سكوت، ومحاولة للتعرف إلى
المجتمع والفرد، وتفسير الحاضر. وكانت «أحمس بطل الاستقلال» هي رواية عبد الحميد
السحار الأولى. وتُعَد عملًا وحيدًا بين عشرات الأعمال التي عرض بها السحار للمجتمع
الإسلامي في عصوره الأولى، أو عالج بعض مشكلات المجتمع المصري منذ بداية القرن
الحالي. ولم تكن «أحمس» إلا معلمًا خاطئًا في طريق أدب السحار، أراد بها أن يواكب
الدعوة إلى القومية الفرعونية. ثم ما لبث أن أخلص لاهتماماته الإسلامية، ولروايات
المسح الاجتماعي التي تقوم على أساس من الإيمان بالروحانيات. ولا يخلو من دلالة أن
ثماني روايات من بين ثمانية عشر رواية تقدَّم بها أصحابها إلى جائزة مجمع فؤاد الأول
للغة العربية في ١٩٤٢م تناولت أحداثًا تاريخية، وكان معظمها في التاريخ
الفرعوني.
ويرجع منصور فهمي اتجاه عدد من الأدباء والمفكرين والفنانين إلى الفرعونية بما
شكَّل معلَمًا يصعب إغفاله، إلى تقلص ظل الخلافة الإسلامية، «فأخذت أقلام الكُتاب
وأقوال القائلين في بلاد الشرق العربي تحوم حول العنصريات، وحول القوميات الضيقة،
وحول ذكريات التاريخ القديم، ومقتضيات الظروف السياسية والتاريخ الحديث، فاكتظت
الصحف السيارة والمجلات والرسائل والنشرات بالكثير من ذكر التكتل العربي ونزعات
العروبة والفرعونية والفينيقية والسامية وما إلى ذلك من بحوث، إما لتحبيذ ذلك
التكتل العربي، وإما لتخذيله والعمل على نكرانه وهجرانه. وكان في مصر مَن ينزع ومَن
يعمل إلى التقليل من شأن هذا التكتل العربي لحساب الفرعونية العنصرية المصرية، كما
كان في شتى بلاد العروبة مَن ينزع إلى تصغير هذا التكتل لحساب عنصرية ضيقة. كذلك
يعتمد على ذكريات الفينيقيين والأشوريين ومن إليهم على أنه ربما كان صوت المدافعين
في البلاد الأخرى عن هذا التكتل أقوى دويًّا من صوت المصريين الذين كانوا في جملتهم
أكثر تخلفًا في التحمس لهذه الدعوة الغريبة.»
٦٥
أما الحكيم فهو يُرجع ظهور الأعمال ذات الأردية الفرعونية، كردٍّ مزدوج على النفوذ
التركي والاحتلال الإنجليزي «فعندما يحدث التخلخل في أرضنا نتيجة هذا الضغط أو ذاك،
يحدث التمزق الداخلي في الشخصية المصرية، وتصبح كأنها شخصية ضائعة باهتة غير
واضحة، وحينئذٍ يبرز دور الأدب والفن في التأكيد على شخصيتنا القومية.» ويضيف الحكيم
أنه «عندما أصبح التأكيد على شخصيتنا — عن طريق ربطها بالماضي — أمرًا لسنا بحاجة
إليه؛ نزعنا الأردية الفرعونية، ولكن هذا لم يخلع عنا لحمنا ودمنا وجلدنا وعظمنا
المصري.»
٦٦ وأما عادل كامل فهو يرى أن نظرته للتاريخ في تلك الفترة كانت «ترتوي من
إحساسي بعدم وجود تراث يرد التاريخ للحياة، وكنت أعتقد أن الرواية، وهي شكل فني
مستورد بالنسبة لنا، لكي تتحقق لها الأصالة، لا بد أن يتكوَّن لها تراث حقيقي وخصب.
وكان لا بد أن تبدأ أي محاولة لبعث هذا التراث من العصر الفرعوني؛ لأن العصر العربي
لم تكن له الشخصية المتميزة آنذاك. وكانت الدعوة للقومية المصرية تلقي ظلالها
علينا، وتؤثر على خطواتنا، وتلحُّ مطالبةً بإحياء هذا التراث المصري
المؤتلق».
٦٧ ومن هنا جاء القول إن «الفرعونية لم تتعد كونها حركة أدبية، لم تمتد
جذورها بعمقٍ في الفكر المصري، وإن تكن قد أتاحت له أن يمارس قسطًا أوفر من الحرية
في حكمه على الحضارة الإسلامية التي لم تشغل سوى بضعة قرون من تاريخ مصر.»
٦٨
علي أحمد باكثير — الحضرمي الأصل، العروبي النزعة — يفسر الأمر تفسيرًا مغايرًا،
فهو يطرح إمكانية الغرابة في اختياره شخصية «إخناتون» للمسرحية التي ألَّفها باسم
«إخناتون ونفرتيتي»: «ذلك لأنني حين قدمت إلى مصر في غضون سنة ١٩٣٤م كانت لا تزال
هناك بقايا من روح الدعوة الإقليمية التي روَّج لها الاستعمار، ليقطع بها أوصال
الأمة العربية، ويفرِّقها شيعًا، وكان بعض الكُتاب المتحمسين للقومية العربية ينعون
على مصر اعتزازها بتاريخها الفرعوني القديم، ويودُّون لو تكفر بتلك الأمجاد
الفرعونية، وتكتفي بأمجادها العربية، ولكن هذه الطريقة لم تعجبني، ولم أقتنع بها
فيما بيني وبين نفسي، فمن الشطط، إن لم يكن، أن تحمل مصر على تناسي أو تجاهل حضارتها
القديمة التي أذهلت العالم، والتي صارت تراثًا إنسانيًّا مشتركًا، يعنى به العلماء
من جميع الشعوب، ويُدرَس في كل جامعات العالم، فلِمَ لا يعترف العرب بهذه الحضارة؟ ولم
لا يعتزون بها، وقد نبتت في قديم هذا الشرق العربي، فهم أولى بذلك من
غيرهم؟»
٦٩
•••
ولم تقتصر الدعوة إلى إحياء الفرعونية على الأدب؛ تجاوزته إلى الفن التشكيلي
المعاصر. فقد زار هيكل في ١٩٢٧م معرض التصوير والحفر الذي أقامته جماعة «الخيال»،
وكتب في «السياسة» يحيي هذه الجماعة التي تهدف إلى «تكوين فن مصري النزعة، صريح في
مصريته، تطمع في أن تقرَّه مذهبًا عالميًّا، تعارض المذاهب الذائعة الآن في أوروبا
وأمريكا، وترجو أن تنتصر به على هذه المذاهب.» ومثَّل تمثال «نهضة مصر» لمختار بدء عودة
الحياة إلى الأزميل الذي هوى من يد آخر فنان فرعوني، وكتب علي فهمي بدوي عن اتجاهات
الفن المختلفة، وقارن — تحديدًا — بين الفن العربي والفن الفرعوني، فأما الفن العربي
فهو يعتمد على الزخرفة التي تعاني التعقيد، فضلًا عن أن العمارة العربية ليس فيها
وسائل الراحة والجمال الحقيقي الفطري. وأما التصوير والحفر العربيان فلا يمكن السير
على نهجهما؛ لأنهما بلا نماذج. ويصل الباحث إلى أن «قوانين الحاضر والمستقبل تدل
على أن الفن المصري سيكون فرعونيًّا أو قريبًا من الفن الفرعوني.»
٧٠ وقد تكوَّنت في العشرينيات جمعية «أبي الهول»، كما أسس سلامة موسى مع عدد
من المثقفين «المجمع المصري للثقافة العلمية» و«جمعية المصري للمصري» ومجلة
«المصري»، التي ركز فيها على الربط بين الأمجاد الفرعونية والتطور الاجتماعي
الحديث. وكتب «مصر أصل الحضارة» وأفرد تحقيقًا عن الوجه البحري، أكد فيه أن ملامحه
وقسماته لم تختلف عما كانت عليه في عهود الفراعنة، وأن العنصر المصري هو — في
مجموعه — كما كان، ليس أيام الفراعنة فقط، بل قبل الفراعنة لم يتغير، وأحسن مثال له
هو القبطي المصري، والفلاح المصري.
٧١
وبعد وفاة سعد زغلول، قامت معركة حامية — في صحف تلك الفترة — حول اختيار الطراز
الذي ينبغي اتباعه في بناء ضريحه. وصمم المهندس عثمان محرم — وزير الأشغال الأسبق —
مشروعين للضريح، أحدهما فرعوني، والآخر عربي، ثم استقر الرأي على المشروع الفرعوني،
فكتبت البلاغ تقول «أحسنت الوزارة في ذلك؛ لأننا — ونحن أبناء الفراعنة — مطلوب منا
أن نحيي فنهم قبل أي فن آخر.»
٧٢ كما بنى عثمان محرم قصره بالقرب من الهرم على الطراز الفرعوني، لكن
«موضة» العمارة الفرعونية لم يُتح لها الاستمرار طويلًا.
•••
وفي كتابه أحلام الفلاسفة
٧٣ تصور سلامة موسى مجتمعًا مثاليًّا يقيمه الشعب المصري في عام ٣١٠٥م،
ويمهد لتلك اليوتوبيا بمقدمة ينال فيها من «العربية» بأقسى الكلمات، وأنها هي السبب
المباشر في التخلف الذي يحيا في إساره المجتمع المصري. إن الأدب المصري ليس — في
حقيقته — أدبًا مصريًّا، بل هو أدب عربي، أبطاله المتنبي وابن الرومي والمعري،
ولجزيرة العرب في نفس المصري أكثر مما لمنفيس، وللنبي موسى تقديس، فهو نبي كريم،
بينما «فرعون» من الظلمة الفاسقين … وذلك كله — في تقدير سلامة موسى — يمنع المصريين
من حب بلادهم، ويقلل من العاطفة الوطنية في نفوسهم، «فمنذ أن خرج البدو — هكذا! — من
جزيرة العرب على حضارة المصريين والرومانيين والإغريق، ووطنية مصر شائعة في العالم
الإسلامي، ومدنيتها مغمورة بالبداوة العربية، فليس لنا الآن آثار نحترمها ولا ظهر
مما أبطال نذكرهم إلا ما كان في العصور القديمة.»
٧٤ وكانت ملامسة الحضارة الأوروبية للمجتمع المصري — في رأي سلامة موسى —
تأثيرها في تولد مشاعر جديدة داخل الإنسان المصري بأنه مصري، ولكن هذا الشعور — كما
يقول سلامة موسى — لا يزال يحتاج إلى تمرين حتى ينزل من العقل الظاهر إلى العقل
الباطن.
٧٥
الاتجاه الإسلامي
كتب محمد حسين هيكل في «حياة محمد»: «أية أمة لا يرتبط حاضرها بماضيها، فهي محكوم
عليها بفقدان طريقها. من هنا تأتي الفجوة المتسعة باستمرار بين جماهير شعوب الشرق،
وبين هؤلاء الذين يطالبوننا بتجاهل ماضينا، وبالاتجاه — بكل قوانا — ناحية الغرب.»
ويضيف هيكل في مقدمة «في منزل الوحي»: «حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب
المعنوية، وحياته الروحية، لنتخذها جميعًا هدى ونبراسًا، ولكني أدركت أنني أضع
البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه، ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه،
وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلًا لوحي هذا العصر، ينشأ فيه
نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي، قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من
سبب، يصلح بذرًا لنهضة جديدة. ثم رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت
ويثمر، ففيه حياة النفوس يجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية،
تنمو فيها الفكرة الصالحة، لتؤتي ثمرها بعد حين.»
٨٥
تراجع هيكل إذن عن دعوته إلى إحياء التراث الفرعوني، وعن الاتجاه ناحية الغرب،
وتحوَّل للمدافعة عن العروبة، ليس بالمعنى القومي، وإنما باعتبارها تعبيرًا عن
الإسلام، وألَّف كتابًا مهمًّا هو «حياة محمد» الذي يُعَد مرجعًا أساسيًّا في حياة
الرسول، ثم كتب في ملحق «السياسة» — ١٩٣٣م — مقالًا بعنوان «الفرعونية والعربية» قال
فيه: «إن دراسة هذه الحضارات الغابرة التي قامت في مصر والشام والعراق، وصور الشبه
وصور الاختلاف بينها، من شأنه أن يلقي كثيرًا من الضياء على ما تطورت إليه الحضارة
الإسلامية خلال هذه الخمسة عشر قرنًا، وجهت أثناء عصور طويلة منها مصير العالم، وهي
تزداد كل يوم انتشارًا، وإن عدت عليها — من حين لحين — عاديات الزمن، فركدت أو جمدت.
فهذه الحضارة الإسلامية لم تنشأ، ولم يكتمل نظامها في حياة النبي عليه السلام، بل
تكوَّنت من بعده شيئًا فشيئًا، باختلاطها بالحضارات المختلفة التي غزاها المسلمون،
والتي تمثلوا بعد أن تأثروا بها، وأثروا فيها، وكلما ازددنا في إدراك هذه الحضارة
دقة، كنا أكثر على بحثها قوة واقتدارًا. ويومئذٍ تبرز الفكرة الإسلامية — أو الفكرة
العربية كما يريد البعض تسميتها — قوية، ممتلئة جدة وحياة ونشاطًا، وثابة إلى ميادين
هذه الحياة التي تحيط بنا قادرة على أن توجهها إلى نواحٍ عديدة، ليست الفرعونية،
وليست العربية، وليست إسلامية العصور الوسطى، ولا هي إسلامية عصور الانحطاط التي
تجاوزناها، وما زالت تغمرنا.»
٨٦ وكان مبعث اتجاه هيكل الإسلامي — كما روى في مذكراته — حركة التبشير
المسيحي التي نشطت في عهد صدقي، وفدت من الولايات المتحدة، وموَّل نشاطها عدد من
الأثرياء الأمريكان.
٨٧ كانت بعثات التبشير الغربية قد أفلحت في إنشاء أول كنيسة كاثوليكية في
الأقاليم الأرمنية من الدولة العثمانية في ٢٤ مايو ١٨٣١م، ثم أنشئت أول كنيسة
بروتستانتية في ٢٧ نوفمبر ١٨٥٠م، وأبيح لمن اعتنق المذهبين أن يواصل تعليمه العالي
في داخل البلاد أو خارجها.
٨٨ اتخذت البعثات التبشيرية من الجامعة الأمريكية منطلقًا لها، وتزايد
نشاطها إلى حد الوقوف على كراسي ومصاطب في شارع الأزهر، وفي شوارع أخرى بالقاهرة
والإسكندرية، وتوزيع المنشورات التي تهاجم الإسلام. ووصلت المنشورات إلى العلماء
والمشايخ — بمن فيهم شيخ الجامع الأزهر — تأخذ على المسلمين مثالب شتى. وكان بعض دعاة
المسيحية يوزعون الحلوى على المارة في الشوارع لاجتذابهم إلى عظاتهم، ودعوتهم إلى
المسيحية.
٨٩ وكانت حالات اعتناق المسيحية تتم سرًّا في معظم الأحيان.
٩٠ وبالإضافة إلى محاولات تحويل المسلمين إلى المسيحية، وتخاطف الأقباط
الأرثوذكس إلى أحد المذهبين — الكاثوليكي والبروتستانتي — فقد كانت هناك محاولات
تحويل تبادلية من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، وبالعكس؛ تحول كلٌّ من المذهبين إلى
خطر ينبغي رده.
٩١ ثم امتد النشاط التبشيري إلى مدن الأقاليم، تغري المسلمين والأقباط
الأرثوذكس في اتجاهين، أولهما تحويل المسلمين عن ديانتهم، والثاني تحويل الأقباط
المصريين عن مذهبهم. وتشير الفنانة (بيت الأقصر الكبير) إلى مقاومة المصريين
الأرثوذكس لتأثير المبشرين البروتستانت؛ اعتبروها نوعًا من الاستعمار
التبشيري.
٩٢ وقد هبط — ذات يوم — بلدة كوم النحل (البوسطجي) مبشر بروتستانتي من
أسيوط، وقف في الشارع يعظ، ثم اتصل بالأقلية ذات المذهب البروتستانتي، ومنها إلى
بقية الأقباط «يعلن بين الجميع: في أسيوط مدرسة للعيال وللبنات مجانية، قراءة
وكتابة، وشغل الإبرة والمطبخ، إنجليزي من الأصل، المستر كارتر الأمريكاني ومدام
أليس، مين يقبل؟ مين عاوز؟ فيها قسم داخلي.»
٩٣ وأثار الأب مكاري (سيرة الشيخ نور الدين) في الأقصر، مجيء بعض الطلبة
التابعين للكنيسة الأرثوذكسية من القاهرة، وتبشيرهم بين الأهالي بمذهبٍ جديد، مصدره
الكنيسة الغربية. وكان من أسباب إقبال الشباب على دخول المذهب الجديد مشكلة الطلاق،
بالإضافة إلى أن المبشِّرين الغربيين كان لهم أتباعهم، وكان معهم القوة والمال وما
يغرون به الشباب.
٩٤ ويصف إدوارد مندوثا إحدى شخصيات روايته «مدينة المعجزات» بأنه تعلَّم على
يد المبشِّرين، فعلَّموه الصبر، بمعنى أنهم يلحُّون على هدفهم، ويعتصمون بالصبر حتى يتحقق
الهدف.
أخفقت البعثات التبشيرية في كلا اتجاهيها: تحويل المسلمين عن ديانتهم، وتحويل
الأقباط عن مذهبهم، إلى حد إعلان هنري فورد أكبر ممولي حركة التبشير أنه قد دفع نصف
مليون دولار، دون أن يسمع بمصري واحد تحوَّل عن الإسلام إلى المسيحية، أو تحوَّل عن
مذهبه المسيحي إلى مذهب مسيحي آخر.
٩٥ ويروي جون أنتيس أنه زار البهنسا في ٢٣ أغسطس ١٧٧٠م لدعوة أبناء الطائفة
القبطية بالمدينة إلى التحوُّل لكنيسته، وظل يدعو لذلك حوالي ستة أسابيع، وظل الأقباط
في البهنسا يستمعون إليه في مجاملة، لكنهم رفضوا التحوُّل عن عقيدتهم.
٩٦ وحين أخفقت الحركة التبشيرية في تحقيق هدفها الأساسي، وهو تنصير
المسلمين من أبناء مصر، حتى إن المقاومة شارك فيها المسلمون والأقباط المصريون، فإن
البعثة الأمريكية حاولت إلحاق أعداد من الأقباط بالكنيسة الإنجيلية، واجتذابهم
للمذهب البروتستانتي، وتوصلًا إلى ذلك الهدف شنَّ أعضاء البعثة هجومًا عنيفًا ضد
الكنيسة القبطية، واتهموها بالجمود والتخلف والخروج عن أصول الدين المسيحي.
والواقع أن الحركة التبشيرية في مصر كانت جزءًا من حركة تبشيرية واسعة على مستوى
الوطن العربي، بدايتها في الشام في القرن السابع عشر، ثم شهد القرن الثامن عشر حركة
تبشيرية واسعة، تمثلت في بناء المدارس، وتأسيس الجمعيات العلمية
والأدبية.
٩٧ فقد أنشئت أقدم مدارس الإرساليات في لبنان عام ١٨٣٤م، بواسطة المبشِّرين،
ثم أنشأ القس وليم طومسون — في العام التالي — مدرسة تبشيرية في بيروت، وأنشأ
المبشِّرون البروتستانت الكلية السورية في ١٨٤٧م. ثم أنشئُوا — في العام نفسه — الجمعية
السورية في بيروت. وبدأت الإرسالية، أو البعثة، الأمريكية نشاطها في القاهرة منذ
١٨٥٤م، وأعلن روجر والسون في كتابه «وادي النيل: مسح للحركة التنصيرية» أن هدف
البعثة الأمريكية من القدوم إلى مصر هو تنصير المسلمين بها. وافتتحت البعثة
الأمريكية أول مدرسة للبنين بحي درب الجنينة في ١٨٥٥م، ثم نُقلَت المدرسة — فيما بعد
—
إلى حارة السقايين، ثم أُغلقَت، لتدعم مدرسة أخرى بحي الأزبكية. وفي ١٨٥٦م افتتحت
الإرسالية الأمريكية أول مدرسة للبنات في مصر،
٩٨ بينما افتتحت أول مدرسة حكومية للبنات في ١٨٧٣م. ويقرر دافيد تومسن —
صراحة — أن الهجمات الاستعمارية على دول العالم الإسلامي إنما كانت «هجومًا مشتركًا
من جانب الشعوب الأوروبية على الإسلام.»
٩٩ وتشير ليلى أحمد إلى ما صرحت به إحدى الجماعات التبشيرية أنها تستهدف
المرأة؛ لأن المرأة تربي الصغار، بحيث يتم — بواسطتها — نقل التقليل من شأن الإسلام
إلى أطفالها.
١٠٠ والثابت تاريخيًّا أن نشاط البعثات التبشيرية تركز أساسًا بين الأقباط
لاجتذابهم خارج الكنيسة القبطية المصرية، وضمهم إلى الكنيسة البروتستانتية، وأنشئت
بالفعل مدارس دينية الطابع في القاهرة والإسكندرية وأسيوط وغيرها، وتكوَّنت الجاليات
البروتستانتية في العديد من المدن، وبلغ عدد المتحولين من الأقباط المصريين إلى
البروتستانتية ٩٨٥ شخصًا في ١٨٧٩م. ثم تضاعف هذا العدد — بعد الاحتلال البريطاني
لمصر — فبلغ أكثر من ١٢ ألف شخص قبل الحرب العالمية الأولى. وكانت الخالة سارة
(حجارة بوبيللو) واحدة من القبطيات الأرثوذكس اللائي أغواهن البروتستانت — والتعبير
للفنان — وأدخلوا أولادها مدارسهم، وأحسنوا إليها، فرفضت خدمة الرب كواعظة
بروتستانتية.
١٠١
واجهت البعثة الأمريكية — منذ البداية — رفضًا عنيفًا من المسلمين والأقباط
المصريين، وأعلن البابا كيرلس الخامس بطريرك الأقباط دهشته لقدوم البعثة الأمريكية:
«ولماذا جاءوا إلى مصر؟ إن التوراة لدينا قبل أن توجد أمريكا، إننا لسنا في حاجة
إليهم ليعلمونا، إننا نعرف التوراة أفضل منهم.»
١٠٢ وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، سارت المظاهرات في شوارع القاهرة
وعواصم الأقاليم، تهتف ضد النشاط التبشيري، وتألَّفت جماعة الدفاع عن الإسلام برئاسة
الشيخ مصطفى المراغي، بهدف «مقاومة التنصير بجميع الوسائل المشروعة التي يهدي إليها
الإسلام والعلم، ومساعدة الفقراء واليتامى المسلمين وتنشئتهم تنشئة إسلامية
صحيحة.»
١٠٣ وفي مقابل النشاط الإرسالي المتزايد، أنشأت القيادات المسلمة عددًا
كبيرًا من الجمعيات والمدارس والمؤسسات الإسلامية، مثل جمعية «زهرة الآداب» في
بيروت — ١٨٧٣م — وجمعية المقاصد الخيرية — ١٨٨٠م — والجمعية الخيرية في دمشق — ١٨٧٨م
— والمجمع العلمي الشرقي في بيروت، والجمعية التاريخية — ١٨٧٥م — وجمعية الفنون الطبية
في دمشق — ١٨٨٧م.
١٠٤
مع ذلك، فقد توالى إنشاء المدارس والمعاهد التي جعلت التبشير هدفًا لها.
١٠٥ فمنذ مطالع السبعينيات أنشأت البعثة الأمريكية المزيد من المدارس، مثل
الكلية البروتستانتية في أسيوط، ومدارس في ملوي والباجور وميدوم والبداري وطهطا
والقصير وسنهور والعزيزية وأبنوب والزرابي والمنياوبني عدي والطويلة ونقادة وإسنا
وأرمنت والأقصر.
١٠٦ وكان الملتحقون بتلك المدارس يُعفَون من الجندية، ومن مد الخطوط
الحديدية، وتعبيد الطرق. وفي ١٩٠٧م بلغ عدد المدارس الأمريكية في مصر ٢٧١م مدرسة بين
ابتدائية وتجهيزية وثانوية، وبلغ عدد الطلاب في تلك المدارس ١٢٦٤٠ طالبًا وطالبة،
وكان عدد الطلاب المصريين منهم ١٢٣٥٦ من أقباط ومسلمين.
١٠٧ يقول هيكل: «لقد كنت من أشد الأعضاء تحمسًا لمقاومة هذا التبشير،
اقتناعًا مني بأن هذه الحركة يُقصَد بها إضعاف ما في النفوس من ثقة بدين الدولة،
ولما تنطوي عليه من قصد سياسي، هو إضعاف معنويات الشعب بإضعاف عقيدته، وإن لم يبلغ
هذا الإضعاف حد ارتداده عن دينه إلى دين آخر، هذا إلى أنني رأيت في هذه الحركة
مقاومة لما أومن به من حرية الرأي، فإغراء الناس بالوسائل المادية لحملهم على تغيير
مذهبهم أو رأيهم هو محاربة دنيئة لهذه الحرية، وهو استغلال للضعف الإنساني كاستغلال
المرابي حاجة مدينه ليقرضه بالربا الفاحش. والتبشير، فضلًا عن هذا، منافٍ لقواعد
الخُلق، ما دام يتم في الظلام، ولا يُصارِح القائم به الناس برأيه، ليناقشوا هذا الرأي،
وليبيِّنوا ما فيه من زيف وفساد. وكان من أثر هذه الحركة التبشيرية وموقفي منها، أن
دفعني للتفكير في مقاومتها بالطريقة المثلى التي يجب أن تقاوم بها. ورأيت أن هذه
الطريقة المثلى تُوجِب عليَّ أن أبحث حياة صاحب الرسالة الإسلامية ومبادئه بحثًا
علميًّا، وأن أعرضه على الناس عرضًا يشترك في تقديره المسلم وغير المسلم.»
١٠٨
•••
بدأ هيكل في نشر فصول في «السياسة» الأسبوعية عن حياة محمد، انتهت به إلى تأليف
كتاب كامل عن حياة الرسول «وكان بدوره فاتحة دور في نشاط هيكل الأدبي وآثاره
الفكرية.»
١٠٩ ومع أن فتحي رضوان يعتبر ظهور كتب هيكل — محمد والصديق والفاروق — ظاهرة
قومية أكثر منها ظاهرة دينية؛ لأن الكتب الثلاثة كانت «إيذانًا بعودة المصريين إلى
أصولهم الحضارية، وإلى العدول عن سياسة رفض الماضي بكل ما فيه من خير وشر، وسياسة
الاتجاه إلى الغرب الحديث، واستمداد الوحي منه، واصطناع أساليبه، والاستسلام لروحه.»
١١٠ مع ذلك، فإن فتحي رضوان، يحيل القضية كلها إلى تناقض بين الرفض
العقلاني الذي يصدر عن الرؤى الثابتة آنذاك، وبين مسايرة أصحابها لعواطف الجماهير
وتملقها، إلى حد اقتحام تجارب غير مقنعة — من وجهة نظر أصحابها في أقل تقدير —
وبالتحديد، فإن التفكير العلماني اللاديني هو البداية للعقاد والمازني وهيكل وغيرهم
من شباب الأدباء في مطالع القرن، لكن الموروثات، وسلطة الدين، تدفعهم، ليس إلى مجرد
كبت أفكارهم، بل ومداهنة الجماهير بالتحدث فيما تريد وتحب. يقول فتحي رضوان: «بدأ
هؤلاء الشباب حياتهم الفكرية، وهم يتمنون أن يكونوا طليعة فكر علماني لا ديني،
طليعة حرة، لمدرسة من الأحرار، لا تخيفهم التقاليد الموروثة، ولا القيم التي أسبغ
عليها الخوف والكسل والتراخي العقلي والوجداني هالات قداسة لا تستحقها، بل لعلهم
تاقوا إلى الذهاب إلى أكثر من ذلك، بالدعوة إلى التحرر من الدين كله، أو الإقلال من
شأنه، ولكنهم لم يجرءوا من البداية بشيء من هذا، وتركوا للجمهور أن يستنتج من
مسلكهم أنهم لا دينيون، وأنهم يريدون أن يخلقوا حركة فكرية لا تهاب عمائم الشيوخ،
ولا الخرافات الشائعة بين الناس، وأن يقتحموا قلاع الرجعية الفكرية.»
١١١ أما رفعت السعيد، فهو يفسر توضُّح النزعة الإسلامية، واتجاه كبار
المفكرين إلى الدراسات الإسلامية في فترة الثلاثينيات على ضوء الأزمة الاقتصادية
التي هددت النظام الرأسمالي العالمي، ولأن الاشتراكية كانت مرفوضة أيامها، فقد كان
الاتجاه للدراسات الإسلامية نشدانًا لطريق ثالث.
١١٢
•••
رفض لطفي السيد — كما أشرنا — فكرة الجامعة الإسلامية، لأنها — في تقديره — انتقاص
مباشر لاستقلال مصر، سواء كانت تلك الجامعة تنشد الولاء للآستانة، أو أن مصر تُعِد
نفسها إقليمًا ضمن الأقاليم الإسلامية. إن مصر هي لأبنائها فقط، مسلمين ومسيحيين،
لكن لطفي السيد رفض أيضًا فكرة «الاتحاد العربي»، وذهب إلى أنها محض أوهام وخيالات:
«إن الاتكال على غير المصريين في تحقيق آمال المصريين ضرب من اللعب بالمصالح، وحال
من أحوال العجز والقنوط.»
١١٣
والحق أنه إذا كانت «الجامعة الإسلامية» تسمية أوروبية، أو اختراع أوروبي، على حد
تعبير عبد اللطيف حمزة، تعبيرًا عن تخوفها من روح الاستقلال الحديثة التي ظهرت بين
دول العالم الإسلامي، والدول العربية بنحو خاص،
١١٤ فإن تيار «الجامعة الإسلامية» كان من أهم وأخطر التيارات التي فرضت
نفسها بقوة على المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
لقد نشأت فكرة الجامعة الإسلامية (١٨٧٦–١٩٠٩م) لتحقيق الأهداف التالية:
-
أن تكون أداة لتحقيق التفاف الدول الإسلامية حول دولة الخلافة.
-
تأكيد سيطرة الدولة العثمانية على الولايات العربية التابعة لها.
-
إيجاد البديل لمواجهة المد الديمقراطي الدستوري الذي بدأ يفصح عن نفسه.
-
التهديد بإثارة الشعوب الإسلامية الخاضعة لاحتلال الدول الأوروبية، وبالذات في
مصر، وفي منطقة المغرب العربي، وبلاد التتار في روسيا القيصرية، وفي الهند.
١١٥
كان الانتماء إلى العالم الإسلامي باتساعه، وتعدُّد أقطاره، يلغي الإحساس بأي
انتماء إقليمي أو قطري؛ لا إحساس بالموطن إلا من خلال الإحساس بالوطن، والوطن هو
العالم الإسلامي جميعًا. لم يكن حتى مصطلح القومية العربية قد ظهر بعد في الساحة
الثقافية، أو السياسية. وكان المواطنون — مسلمون ومسيحيون، ويهود كذلك — ولاد إسلام،
وكانت البلاد بلاد إسلام. وحين نشبت حرب البوير بين دولة الخلافة العثمانية
واليونان، وأظهر المصريون فرحًا للهزائم المتتابعة التي لحقت بالإنجليز، وأظهروا —
في المقابل — عطفًا على البوير، وفرضت أنباء القتال نفسها على أحاديث الناس في
الجلسات الخاصة والعامة.
١١٦ وبالطبع، فلم يكن تيار الجامعة الإسلامية يتفق مع النمو الذاتي المستقل
للشعب المصري، ويتناقض — بصورة جذرية — مع اتجاه القومية المصرية، وهو التعبير الذي
متداولًا لعشرات السنين. فهو يذهب — على حد تعبير الإمام محمد عبده — إلى حد أن «من
له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية، ثالثة
العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة
لبقاء حوزته وليس للدين سلطان في سواها، وأنا والحمد لله على هذه العقيدة، عليها
نحيا وعليها نموت.» ولعل هذا هو منطلق الرأي بأن «نظرة المصريين إلى تركيا على أنها
ملاذهم الوحيد لمواجهة الاحتلال هي باعث استجابة المصريين لفكرة الجامعة
الإسلامية.»
١١٧ بل إن محمد فريد في كتابه «الدولة العلية» نظر إلى التاريخ العثماني
باعتباره امتدادًا للتاريخ الإسلامي، واعتبر الولاء للسلطنة العثمانية من الواجبات
الدينية، وأكد أن دولة الخلافة هي الحامية لبيضة الدين الإسلامي، وأن التبعية هي
الرابطة بين مصر وبينها.
١١٨ وفي ١٩٠٦م وقع حادث «طابا» الذي أرادت فيه تركيا أن تنتزع سيناء، أو
بعضًا منها، لتضمها إلى أملاكها في الشام، ووقفت إنجلترا — رعاية لمصالحها — تدافع عن
حق مصر في سيناء، بينما انتصرت الصحافة المصرية لتركيا، وكتب لطفي السيد يقول: «إن
البلاد ثقل عليها الاحتلال، فأصبحت تبغضه وتبغض معه كل ما يأتي به، ولو كان فيه
الخير لمصر.» وكان حسان (الشارع الجديد) واحدًا من ملايين المصريين الذين رحبوا
بنداء الخليفة بالجهاد المقدس في ١٩١٤م. وهو لم يكتفِ بالترحيب العاطفي، وإنما قرن
ترحيبه بالسفر إلى جبهة القتال للانخراط في صفوف القوات العثمانية. وقد تمنَّت كثرة
من المصريين انتصار الأتراك، وعابت على الشريف حسين طعنه لدولة الخلافة في أثناء
انشغالها بالحرب، وتحالفه مع الإنجليز، وأن «أي ضعف لتركيا في مصلحة الاستعمار، وفي
تثبيت وجوده.»
١١٩
•••
وقد تدعم اتجاه الجامعة الإسلامية بجولات الأفغاني في البلاد الإسلامية، كأنه
يطوف أقاليم متعددة لوطن واحد يدعو إلى الوحدة الإسلامية ضد مظاهر السيطرة
الأوروبية الاستعمارية. لذلك فقد أعرض المسلمون — على حد تعبير الإمام — «عن اعتبار
الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات، ما عدا عصبيتهم الإسلامية، فإن المتدين
بالله الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه، ويلتف عن الروابط الخاصة
إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقد.» ثم يدعو الإمام إلى إقامة حكومة إسلامية
تضم إليها أقطار العالم الإسلامي باعتبار «أن العصبية الإسلامية تفوق العصبية
الجنسية.» وقد أدَّت صحيفة «العروة الوثقى» الدور الأهم في تأكيد، وبلورة، فكرة
الجامعة الإسلامية. فالمسلمون «تجمعهم قومية واحدة، مهما اختلفت أوطانهم»، و«لا
جنسية للمسلمين إلا في دينهم»، و«علِمنا وعلِم العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون
لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم.» وأن «يعتصموا بحِبال الرابطة الدينية التي هي
أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي، وقامت
لهم مقام الجنسية.» بل لقد كان يقين الأفغاني أنه لن تقوم للشرق قائمة إلا إذا كان
«الإصلاح يعتمد على أساسٍ ديني.»
ومع أن دعوة الأفغاني والإمام كانت تضغط على وجوب إصلاح حال المسلمين، بمواجهة
فساد الحكام الذي ينخر في داخل الأقطار الإسلامية، والوقوف في وجه الموجة الأوروبية
الاستعمارية الزاحفة، إلا أن هذه الدعوة تحوَّلت فيما بعد — على يد الشيخ رشيد رضا
بالذات — إلى اعتناق صريح لدعوة الجامعة الإسلامية، باعتبار أن «الإسلام دين وجنسية
اجتماعية وسياسية للمسلمين، هذا هو الواقع، وإن كرهه أقوام يودُّون أن يكون دينًا
فقط، لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية والاجتماعية، لما لأولئك الأقوام من
مصلحة في ذلك.» وقد تبدَّت خطورة ذلك الاتجاه في حادثتَين، تعود أولاهما إلى عام ١٩٠٦م،
عندما احتلت تركيا قرية «طابا»، وأدي ذلك إلى وقوع أزمة سياسية بين تركيا وإنجلترا،
انتهت بانسحاب القوات التركية من القرية المصرية. والغريب أن جريدتَي «المؤيد»
و«اللواء» وقفتا إلى جانب الاحتلال التركي للقرية المصرية، وأن «مصر لا تمانع في أن
تكون طابا تركية.» أما الحادثة الثانية فقد وقعت في عام ١٩١١م عندما غزت إيطاليا
برقة وطرابلس الغرب — وكانتا ولايتَين عثمانيتين — ونشبت الحرب بين إيطاليا وتركيا،
فنشطت حركة التبرع لتركيا لمعاونتها في نفقات الحرب بتشجيع من اللورد كتشنر، وكتب
لطفي السيد ثلاث مقالات متوالية بعنوان «سياسة المنافع لا سياسة العواطف» دعا فيها
المصريين إلى التزام الحياد المطلَق في هذه الحرب، وإنفاق الأموال المصرية في الأمور
النافعة للوطن. وأثارت تلك المقالات الثلاث عاصفة من النقد العنيف ضد لطفي السيد،
واتهمه البعض بمناوأة دولة الخلافة الإسلامية، واتهمه البعض الآخر بالإلحاد، مما
اضطره إلى الانسحاب من تحرير الجريدة. ثم كانت ثورة ١٩١٩م، وما تلاها من تطورات،
عاملًا حاسمًا في القضاء على فكرة الجامعة الإسلامية، وفي توحيد عنصرَي الأمة
لمواجهة مشكلات الوطن.
•••
كانت الجامعة الإسلامية — عند دعاتها — سبيلًا لمواجهة الغرب، وكان العالم العربي
—
في هذا الإطار — جزءًا من العالم الإسلامي. وثمة مَن يذهب إلى أن جمال الدين الأفغاني
لم يدعُ إلى توحيد البلاد الإسلامية تحت راية واحدة، لكن ما كان يطلبه لا يتعدى حدود
التضامن لطرد الإنجليز من مصر والهند.
١٢٠ وكان رأي الإمام محمد عبده — وتلاميذه من بعده — إن الإسلام دين، أما
علوم الغرب فهي مكتشفات ومستحدثات واختراعات تعنى بالتطبيق، ولا شأن لها بروحانية
الدين. كما أن روحانية الدين بالتالي لا شأن لها بها. وبهذا، فإنه بوسع العالم
الإسلامي أن يأخذ من المدنية الغربية معطياتها في تكنولوجيا الصناعة والزراعة
والهندسة وعلوم الطب والصيدلة والتجارة وغيرها، دون أن يتأثر بذلك انتماؤه الديني،
أو معتقداته الدينية. ولا يخلو من دلالة قول «العروة الوثقي»، ضمن أهداف إصدارها
«الدعوة إلى التمسك بمبادئ السلف المماثلة — في واقع الحال — لمبادئ الدول الأجنبية
القوية المتقدمة» إذا كان ذلك هو رأي الإمام ومشايعيه، فلعل التحدي الأهم الذي
واجهته فكرة الجامعة الإسلامية، رفض البعض للبُعد السياسي لها. فالجامعة الدينية
موجودة بوجود العقيدة الإسلامية، بينما الجامعة السياسة غير موجودة، ولم توجد، ولن
توجد، لعدم وجود رابطة بين الأمم الإسلامية، وهي المصلحة، ذلك أن المسلمين إذا
أقاموا جامعة سياسية إسلامية، أقام غيرهم جامعة مسيحية، وهكذا ينقلب الهدف ضد
المسلمين، وعلى حد تعبير الشيخ علي يوسف فإنه من الخطأ أن تُقام سياسة شعب على اتفاق
روحي بحت؛ ذلك لأن فترة الحروب الصليبية قد انتهت إلى الأبد.
١٢١ خطأ الحركة الإسلامية القاتل — في تقدير البعض — هو «أنها لم تستطع أن
تفرق بين الإسلام كدينٍ وخُلق وعقيدة تملأ جوانح الروح، ومبادئ إسلامية تصلح الفرد
وتهديه سواء السبيل، والإسلام كسياسة وحكومة ودولة وخلافة.»
١٢٢
كانت حركة الجامعة الإسلامية جزءًا من حركات الجامعات التي ظهرت في أواخر القرن
التاسع عشر، مثل حركة الجامعة الصقلبية، وحركة الجامعة الألمانية، والجامعة
التيوتونية، والجامعة الطورانية.
١٢٣ كانت الإسلامية — وليست الجنسية — هي العنصر الأهم في المواطنة، سواء كان
الشخص حاكمًا أم مواطنًا عاديًّا، وكان شعار الداعين إلى الجامعة الإسلامية هو «لا
وطنية في الإسلام». من حق — وواجب — المصريين أن يتطلعوا إلى الحرية والدستور
والجلاء، ولكن في ظل وحدة العالم الإسلامي ممثَّلة في الدولة العثمانية «التي يتعيَّن
الحفاظ على وحدتها ومقاومة تمزيقها، فإن تمزيقها ضياع للوطن كله.»
١٢٤
أما الدولة العثمانية، دولة الخلافة، فقد كانت — والكلام لحسين مجيب المصري — بلا
مفهوم محدد للقومية «بل كانوا أولئك المؤمنين الموقنين بأن الإسلام زاجر عن
العصبية، غير مفرق بين المسلمين، ولو تحالفت أوطانهم وألوانهم وألسنتهم، وهم بنعمة
الله متحابون متآلفون متآزرون، ودينهم جامعتهم التي تمسكهم أن يتفرقوا، وأوامر
كتابهم ونواهيه، ترأب كل صدع في صفوفهم المتكاتفة في عزم أكيد على أن يكونوا
جميعًا، وألا يتفرقوا أحادًا من خشية أن تذهب ريحهم. فما نضمن من اللغة التركية
كلمة وطن على سبيل المثال في حقبة طويلة من تاريخهم دامت ستة قرون أو يزيد، وما دامت
إلا لأنهم كانوا يعدُّون أنفسهم مسلمين لا نسب لهم إلا فيه، ولا أرض لهم إلا
في قريب أو بعيد من رقعتها.»
١٢٥
وتُعَد رواية «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين» لمحمد كاظم ميلاني، تأثرًا
مباشرًا بكتاب «أم القرى» للكواكبي، والذي تخيل فيه مؤلفه مؤتمرًا عقد في موسم الحج
بمكة لتدارس شئون المسلمين، والأسباب التي تحُول دون وحدتهم وتماسكهم — لاحظ اسم
رواية ميلاني — فإذا كان الكواكبي قد اختار من يمثل أبناء فارس في مؤتمر مكة، فإن
محمد كاظم كانت له وجهة نظره التي احتلت معظم فصول روايته، والتي تتركز أساسًا في
الدفاع عن الشيعة، مقابلًا لإسهامات المذاهب الإسلامية الأخرى. إن ذلك هو السبب
اليقين المانع — في تقديره — لاتحاد المسلمين. أما قصة حبه لوحيدة، وتخليه عنها؛
لأنها رفعت الحجاب، التزامًا بتعاليم قاسم أمين، فلم تكن — في رأينا — سوى حيلة ساذجة
كي يصنع كاتبنا روايته، وإن كان رأي الرجل في الحجاب قد عبَّر عن وجهة نظر كان لها
ثقلها آنذاك.
١٢٦
لكن تطورات الأحداث ما لبثت أن فرضت تطورات جذرية، فقد أصيبت فكرة الجامعة
الإسلامية بضربة قاسية في أعقاب سقوط السيادة العثمانية على مصر، وبدء الثورة
العربية بقيادة الشريف حسين في ٢ يونيو ١٩١٦م، وهجومها على الحاميات التركية في مكة
وجدة والطائف في العاشر من الشهر نفسه. وهزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى،
وبعد انتصار تركيا على اليونان، أعلن مصطفى كمال في أول نوفمبر ١٩٢٢م، إلغاء السلطنة
العثمانية، وعزل آخر سلاطينها محمد وحيد الدين السادس، مع إبقاء الخلافة الإسلامية،
وإسنادها إلى الخليفة عبد المجيد الثاني. ثم ألغى مصطفى كمال الخلافة تمامًا في ٣
مارس ١٩٢٤م، وعزل الخليفة عبد المجيد الثاني، وطرده مع أسرته، ونقل العاصمة من
الآستانة إلى أنقرة.
١٢٧ أنكر مصطفى كمال ما اتسمت به دولة الخلافة عبر مئات الأعوام، وأعلن أنه
قد آن الأوان لكي تنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود وغيرهم، وتنقذ نفسها من
تزعُّم الدول الإسلامية «ليس لنا إلا مبدأ واحد، هو أن ننظر إلى جميع المشكلات
بالعين التركية، ونصون مصالح تركيا.»
١٢٨ كان مصطفى كمال معتدًّا بتركيته إلى حد احتقار ما عداها.
١٢٩ وكان يقينه أن الدين الإسلامي هو سر تأخر بلاده؛ لذلك فقد اتخذ العديد
من الإجراءات التي تزيح الصبغة الإسلامية عن تركيا، مثل إبطال نظام السلطنة، ونظام
الخلافة.
١٣٠ وحذف المادة التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة من الدستور، وكتابة
القرآن باللغة التركية الجديدة، والكتابة بالأحرف اللاتينية، و«تطهير» اللغة
التركية من جميع مفرداتها العربية، وإبطال الحج، واستبدال الأعلام الغربية بالأعلام
التركية، وإبطال المحاكم الشرعية، وإخضاع كل المواطنين لقانون مدني موحد، وإلغاء
وزارة الأوقاف والشئون الدينية، وحظر استخدام الأرقام العربية، والحروف العربية،
واستبدال التقويم الميلادي بالتقويم الهجري، وتحويل المساجد إلى متاحف، والإجازة
الأسبوعية من الجمعة إلى الأحد، وإلغاء ارتداء الطربوش، وتحوُّل البذلة والقبعة إلى
زي للجميع، وإنهاء الامتيازات الأجنبية، وإلغاء المحاكم الأجنبية، وإلغاء نظام
التكايا، وجعل التعليم الابتدائي إلزاميًّا، وإلغاء التعددية الحزبية، ومساواة
المرأة بالرجل في الحقوق السياسية والمدنية، وفي الواجبات الوطنية، وتطبيق الزواج
والطلاق على الطريقة الغربية المسيحية، وإلغاء الرتب والنياشين، وتأميم المرافق
المهمة، وتشجيع زيادة النسل، وجعل الخدمة العسكرية إجبارية على الشبان والفتيات،
وإجراءات أخرى تستهدف «تتريك» البلاد بصورة حقيقية وفعالة. حتى إنه أجبر أئمة
المساجد على خلع العمامة والعباءة إذا خرجوا للطريق، وكتب محرر «السياسة»: «أصبحت
شوارع الآستانة خُلُوًّا من الحجاب الأسود، اللهم إلا قليلًا، كان الحجاب قبلًا يحجب
الوجه كله، فأصبح يحجب بعضه، ثم قسمًا قليلًا، وأخيرًا رفعته المرأة التركية
تمامًا، وعقدته حول شعرها إكليلًا.»
١٣١
ومع أن سقوط دولة الخلافة كان حدثًا يتوقعه الجميع، فإن حدوثه الفعلي قوبِل بردود
أفعال عنيفة على مستوى أقطار العالم العربي جميعًا. تبدَّى ذلك في مقالات وقصائد وخُطب
وتصرفات معلَنة، حتى من هؤلاء الذين شاركوا بالصمت، في محاولات النيْل من دولة
الخلافة، وتقويضها، فضلًا عن الذين أسهموا بشكل مباشر (الشريف حسين مثلًا) في
محاربة القوات العثمانية جنبًا إلى جنب مع قوات الإنجليز، من كانوا يأملون في
مجاوزة دولة الخلافة لظروفها، ووقوفها على قدميها، بداية لعهد جديد تتوحد فيه
أقطارها ضد الخطر المشترك، وتتحقق إنجازات فعلية تجاوز بها الصفة التي جعلها العرب
عنوانًا لها «رجل أوروبا المريض»، هؤلاء أنفسهم اكتفوا بالتمني، ولم يبذلوا محاولةً
ما لمنع الحدث الذي تبدَّت ملامحه في الأفق القريب.
وقد انعكست قوانين أتاتورك الراديكالية على الحياة في مصر، بين مؤيدٍ لتلك
القوانين ورافض لها. أما المؤيدون، وغالبيتهم من الفئات المتعلمة من الشباب المصري،
فقد شحبت صورة الخلافة في أعينهم، وأعلنوا موافقتهم — وإعجابهم — على إلغائها، وإصدار
القوانين التي تسِم المجتمع التركي بطابعٍ أوروبي. وأما الرافضون، فقد أثارهم — من بين
ما أثارهم — ذلك القانون الذي أباح للفتاة المسلمة أن تتزوج من غير المسلم! وفرض
تلاوة القرآن، وأداء الصلاة، والاستماع للأذان، بالتركية بدلًا من
العربية.
١٣٢ وثمة ترجيحات أن مصطفى كمال ليس تركيًّا؛ جمجمته من النوع المُسمَّى
«دوليكو سفال»، وهو نوع سلافي بعيد عن النوع التركي. وقد وُلِد مصطفى كمال في
سالونيك — مدينة يهود الدونمة — في ١٨٨٠م، وأمه اسمها زبيدة هانم، أما والده فغير
معروف. وقد نفى مصطفى كمال نفسه بُنوته لرجل اسمه رضا أفندي، وربما كان والد مصطفى
كمال أحد العاملين في مزرعة قريب لأمه زبيدة، وهو إما أن يكون بلغاريًّا أو
رومانيًّا أو صربيًّا. وفي بحث لزينب الغزالي عن موقف الحركة الإسلامية المعاصرة
تجاه المرأة المسلمة في الوطن العربي وحقوقها «تنديد بيهود الدونمة» بزعامة ربيبهم
مصطفى كمال أتاتورك.
١٣٣ وإذا كانت فكرة الجامعة الإسلامية قد تأثرت بالسلب لسقوط دولة الخلافة،
فإنها قد تأثرت بالإيجاب للسبب نفسه. فرضت قوانين أتاتورك، والخشية من تأثر العالم
الإسلامي بهذه الضربة القاسية، محاولات إحياء الخلافة، ولو من دون الدولة العثمانية،
وهو ما حاول الملك فؤاد أن يفيد منه. بالإضافة إلى الهجمة الشرسة لبعثات التبشير،
والأصوات العلمانية الواضحة — إلى حد التشكيك في مصادر الفكر الإسلامي — في كتابات
كثيرة، مقابلًا لغلبة السلفية — لمئات الأعوام — على المجتمع المصري.
•••
ويؤكد علي المحافظة أنه «مهما قيل في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وفي اختلاف
اتجاهات القائمين عليها، والداعين لها، فقد أحيت الشعور بالوحدة العامة عند
المسلمين، ونمت روح التضامن بينهم، ولم تتجاوز هذا المدى. وكانت بأفكارها مصدرًا
لعددٍ من الحركات الدينية والسياسية التي ظهرت في القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب
العالمية الأولى.»
١٣٤ وقد أعلن كرومر تخوفه من فكرة الجامعة الإسلامية، واعتبر أنها «بوجه
الإجمال اجتماع المسلمين في العالم كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها،
فإذا نظر إليها من هذا الوجه، وجب على كل الأمم الأوروبية التي لها مصالح سياسية في
الشرق أن تراقب هذه الحركة مراقبة دقيقة.» واتهم كرومر الحركة الوطنية المصرية
بأنها «مصبوغة صبغًا شديدًا بصبغة الجامعة الإسلامية.»
١٣٥
واللافت أن الصبغة العثمانية في فكر الحزب الوطني، كانت باعثًا لتردد الأقباط في
الانضمام إلى الحزب الوطني، أو التحمس لتأييده، بالإضافة إلى التأثير النفسي السلبي
الذي أحدثته مقالات عبد العزيز جاويش في «اللواء» ضد الطائفة القبطية.
وكما أشرنا، فإن فكرة الجامعة الإسلامية أصبحت غير مقبولة، بعد أن تنكَّرت جمعية
الاتحاد والترقي للأماني القومية للشعوب العربية، ثم بعد سقوط الخلافة العثمانية —
١٩٢٤م — التي كانت محور الفكرة. كانت القومية التركية، أو القومية الطورانية، التي
دعت إليها جمعية الاتحاد والترقي، سببًا مباشرًا في تعالي الدعوات المؤيِّدة للحفاظ
على كيان العرب من التفتت، وعدم تذويبه في الكيان التركي. ساعد على ذلك أن الدعوة
للطورانية كانت مشوبة بالتعالي على القوميات الأخرى، وتؤكد وجوب الأخذ باللغة
والثقافة التركية.
١٣٦
•••
أصبح أتاتورك — بما أحرزه من انتصارات — بطلًا قوميًّا لشعوب المنطقة، رأت فيه
بطلًا أفلح في كسر الهيمنة الأوروبية، كما قدروا له أنه هو الذي حرر بلادهم بعد
هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وعرضت إيران وأفغانستان عقد معاهدات هجومية مع
تركيا، وطلبت حكومات مصر وسوريا والهند تأييده، وانهالت الدعوات من كل الأقطار،
ليصبح بطلًا للشرق في صراعه ضد الغرب.
١٣٧ لكن أتاتورك خذل الجميع، وتقوقع على نفسه، وحين التمس ممثِّلو دول الشرق
معونة مصطفى كمال، قال: «نحن جميعًا نتمنى أن نرى إخواننا المسلمين يعيشون أحرارًا،
لكننا لا نستطيع أن نمنحهم عونًا غير أمانينا الخالصة.» وقال مخاطبًا الجمعية
الوطنية: «أنا لست مؤمنًا بعصبة من جميع الدول الإسلامية، ولا حتى بعصبة من الشعوب
التركية، ولكل منا أن يعتنق الرأي الذي يراه، أما الحكومة فينبغي أن تلتزم سياسة
ثابتة مرسومة، مبنية على الحقائق، لها هدف واحد، وواحد فقط: أن تحمي حياة الوطن
واستقلاله داخل نطاق حدوده الطبيعية، فلا العاطفة ولا الأوهام ينبغي أن تؤثر في
سياستنا، وسحقًا للأحلام والخيالات؛ لقد كلفتنا غاليًا في الماضي.»
١٣٨ أولى أتاتورك ظهره ﻟ «ريح الصحراء»، وهو التعبير الذي وصف به العرب
والإسلام والثقافية الإسلامية، ودعا إلى صد تلك الريح، وما تحمله من ثقافة ولغة، مع
محاولة الاندماج — كلية — في الحضارة الغربية، بكل ما تشتمل عليه من خصائص ومقومات قد
يرفضها الفكر المسلم، واعتبر أتاتورك كلمتَي: «الإسلام» و«العرب» عنوانين للتخلف،
وعلى العجز عن التقدم.
١٣٩ وكما يقول يحيى حقي فإن مصطفى كمال كان «قد ارتمى في أحضان الغرب
وحضارته وثقافته، وكره العرب وحضارتهم وثقافتهم كرهًا لا أعرف له مثيلًا.»
١٤٠ وفي المقابل، فإن محمد عودة يعتبر ثورة أتاتورك إنقاذًا لبلاده من مصير
آخر الولايات العربية، والتي تقاسمها البريطانيون والفرنسيون والصهاينة. واستطاعت
الثورة أن تهزم الغزاة، وتحرر الوطن، وتلغي نظام الخلافة الذي جر كل الشرور، والتعبير
لمحمد عودة.
١٤١ ويضيف عبد الحميد الكاتب أن حركة أتاتورك لم تكن حركة عداء للدين
الإسلامي، ولا حركة انفصال اجتماعي أو فكري عن العالم الإسلامي، بل كانت حركة قومية
بحتة، ترمي إلى النهوض بتركيا بتخليصها من القيود التي تكبل أيديها، وتقيد خطاها
باسم الخلافة الإسلامية وطقوسها ومراسمها، وما يتستر وراءها من عوامل الفساد
الداخلي، ومن أساليب الأطماع الأجنبية والنفوذ الدخيل.
١٤٢ وفي ١١ مارس ١٩٢٣م بويع الشريف حسين خليفة للمسلمين، بايعه نجله الأمير
عبد الله والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، والعديد من الشخصيات السورية واللبنانية
والفلسطينية، لكن معظم القيادات العربية والإسلامية امتنعت عن إعلان
المبايعة.
وقد حاول بعض علماء الأزهر والساسة المصريون نقل الخلافة من الآستانة إلى
القاهرة، وشجع الملك على قيام ما سُمِّي «لجان الخلافة» في المدن والقرى، وعلى تأييد
الناس لها. وأصدر وزير داخلية الحكومة السعدية — في المقابل — منشورًا للموظفين، يحظر
عليهم فيه الاتصال بتلك اللجان، فنشأ خلاف حاد وأزمة ثقة بين الملك فؤاد وسعد
زغلول، وكان رأي سعد زغلول في مسألة الخلافة بعامة أنها أمر محفوف بالمخاطر، وهو ما
كان يتعارض تمامًا مع مطامع الملك.
١٤٣
واجهت الفكرة حملة ضارية، أشعل بدايتها، وراح ضحيتها — كما أشرنا — الشيخ علي عبد
الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم». ومن هنا، تطورت فكرة الجامعة الإسلامية إلى
فكرة الجامعة الشرقية؛ أي جامعة شعوب الشرق التي تدافع عن كياناتها ضد الغرب
الأوروبي.
•••
ثمة العديد من المؤسسات التي أسهمت في تعميق الاتجاه الإسلامي لمصر، كانتماء
عقائدي وليس كانتماء لدولة الخلافة، أو فلنقل سواء بتبعيتها لدولة الخلافة، أو
باستقلالها كدولة إسلامية.
-
أول هذه المؤسسات هو الأزهر الذي تربى في أروقته، وبين أعمدته، معظم القيادات
الوطنية المصرية في توالي العصور. كانت ثقافة الجامعة الأزهرية — كما يقول كرومر —
تقف على قمة نظام التعليم الديني الخالص في مصر، وكانت مدارس القرى — الكتاتيب
الملحقة بمعظم المساجد — تسير على النمط نفسه.
١٤٤ كان الأزهر — عبر تاريخه الطويل — واجهة الحياة الدينية في المجتمع
المصري، وكان علماؤه يمثِّلون الزعامة الشعبية، وإن عبَّروا — أحيانًا — عن السلفية
والنقلية، حتى إن الأفغاني حرص — طوال الأعوام الثمانية التي قضاها في القاهرة — على
أن يلتقي بمريديه وتلاميذه في بيته بخان الخليلي، أو في قهوة متاتيا، ولم يدخل
الأزهر زائرًا ومصليًا، دون أن يسند ظهره إلى أحد أعمدته ليلقي دروسه. مع ذلك، فإن
جمود الأزهر لم يصل إلى الحد الذي أصبح فيه أهم ما يعوق التفكير الحر — الرأي لسلامة
موسى — فلا شك أنه كان للأزهر دوره الإيجابي في الحياة المصرية. وكان الأزهر — في
الوقت نفسه — أكبر مؤسسات مصر العلمية الداعية إلى إنشاء الجامعة الأهلية في مطالع القرن
العشرين. وحتى أواخر الثلاثينيات، كان زكي مبارك يضغط على التباين الحاد بين
القوتين: الجامعة المصرية والأزهر الشريف «فالجامعة المصرية لن تسكت أبدًا عن
الدعوة إلى المدنية الغربية؛ لأنها أنشئت لذلك، ولأن فيها قوى أدبية من الأساتذة
الأجانب، وهم ينقلون إليها تقاليد الغرب بلا انقطاع، ويزيد في خطر الجامعة المصرية
أنها أمنية قومية، وأن مصر تحتاج بالفعل إلى مدد من الحيوية الغربية … والأزهر لن
يسكت أبدًا عن الدعوة إلى المدنية الشرقية، ولن يكف أهله عن التذكير بمجد الإسلام،
ويزيد في خطر الأزهر قرب أهله من قلوب الجماهير الشعبية، وقدرته على بث الحبائل
والأشراك للمدنية الغربية.»
١٤٥
-
ثاني المؤسسات عشرات الطرق الصوفية التي مثَّلت بُعدًا مهمًّا وأساسيًّا في بِنية
المجتمع المصري.
-
أما ثالث تلك المؤسسات فهي الجمعيات الإسلامية، كالشبان المسلمين والإخوان
المسلمين، فضلًا عن العديد من المجلات والدوريات التي صرفت جهودها لنشر الدعوة
الإسلامية.
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد ركزت على الدعوة الإسلامية، دون المناداة
بالقومية العربية أو الشرقية وغيرها، فإنها كانت — بالتأكيد — ضد القومية المصرية بما
تحمله من دلالات بعيدة عن الإسلام والعروبة في آنٍ. ويروي حسن البنا أنه بعد أن
ألغت تركيا الخلافة، وفصلت الدين عن الدولة، وتحولت الجامعة الأهلية إلى حكومية،
وسيطرت عليها أفكار وافدة مضمونها أن الجامعة لن تكون جامعة علمانية إلا إذا ثارت
على الدين، وحاربت التقاليد الاجتماعية المستمدة منه، واندفعت وراء التفكير المادي
المنقول عن الغرب بحذافيره، وغرق أساتذتها وطلابها بالتحلل والانطلاق من كل القيود.
وامتدت تلك التأثيرات إلى الحياة العامة، فاشتد تيار موجة التحلل في النفوس، وفي
الآراء والأفكار باسم التحرر العقلي، ثم في المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر
الشخصي، فكانت موجة إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية لا يثبت أمامها شيء.
١٤٦ ويقول حسن البنا إن تلك الأفكار كانت تجد سبيلها بين شباب مثقف معجب
بما يسمع، وعامة انصرفوا عن التفكير في تلك الأمور. ويضيف البنا: «كنت متألمًا لهذا
أشد الألم، فها أنا ذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين
إسلامها الغالي العزيز الذي ورثته وحمته، وألِفته وعاشت به، واعتز بها أربعة عشر
قرنًا كاملة، وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية
للتأكد من المال والجاه والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية.»
١٤٧
كانت حركة الإخوان ضد مظاهر الحياة الأوروبية التي تفشَّت في المجتمع المصري، مثل
الأزياء وغيرها. وإلى حدٍّ ما، فلعله يمكن اعتبار نشوء جماعة الإخوان المسلمين رد فعل
لما أطلق عليه السلفيون في أواسط العشرينيات «الموجة الإلحادية»، فقد ألغيت الخلافة
في تركيا، وفصل الدين عن الدولة، وبدأ الفكر العقلاني يجد لنفسه مكانًا في جامعة
القاهرة. وصدر كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي أكد فيه انفصال فكرة الخلافة عن
الأسس الصحيحة للإسلام، كذلك شهدت الفترة نفسها نشاطًا مكثفًا للبعثات التبشيرية
المسيحية — كما سبق أن أشرنا — وكان من الطبيعي أن يتولد — في المقابل — تنظيم مناهض
لتلك «الموجة الإلحادية». وكانت الحكومة الإسلامية هي المطلب الأساس للجماعة، وكان
يسبق في أهميته مطلب الاستقلال، وكانت استعادة الخلافة الضائعة — أيضًا — من بين
أهداف الجماعة. فقد دعت إلى «تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعًا، وبخاصة
العربية منها، تمهيدًا للتفكير الجدي العملي في شأن الخلافة الضائعة.» وكان رأي حسن
البنا أن فكرة «القومية» وفدت من الغرب، وأكد بالتالي على وجوب قيام الجامعة
الإسلامية والخلافة، وأن دولة القرآن والسنة تستطيع أن تضع حدًّا لكل أمراض
المجتمع. وأعلن البنا في العيد العاشر للجماعة أن الإخوان يعطون الأولوية لاسترداد
الخلافة، وإن أعدوا لتحقيق ذلك في خطوات. وعادت الدماء إلى الشرايين النابضة، لتصبح
— الشرايين الإسلامية — مصدر الحياة الأهم في الجسد المصري، ومن هنا، ذهبت بعض
الاجتهادات إلى أن حركة الإخوان قد أيقظت — على نحو ما — روح الطائفية التي كانت قد
استترت في ثورة ١٩١٩م.
•••
ساعدت الأحداث — وبالذات أحداث ثورة ١٩١٩م — على ذوي الاتجاه الإسلامي، كانت الدعوة
إلى الجامعة الإسلامية صعبة، أو غير مقبولة، في توالي أحداث الثورة، فمن خلال شعار
وحدة عنصرَي الأمة، توضحت الوطنية الليبرالية، وذوت — في المقابل — الفكرة
الإسلامية.
١٤٨ ثم كان الاتجاه للشرق مدخلًا طبيعيًّا لتأكد الاتجاه القومي العربي
الذي كان يصخب بالحياة في الأقطار العربية، ويعاني خفوت الصوت داخل مصر، فقد انفصلت
ولايتا طرابلس الغرب وجزائر البحر الأبيض، في الحرب الطرابلسية الإيطالية — ١٩١١م —
ثم انفصلت ست ولايات أخرى في الحرب البلقانية (١٩١٢-١٩١٣م) هي: يانية، أشقودرة،
قوصوه، مناستر، سالونيك، كريد، ثم انفصلت ثماني ولايات أخرى في الحرب العالمية
الأولى (١٩١٤– ١٩١٨م) هي: الموصل، حلب، سورية، بيروت، بغداد، البصرة، الحجاز، اليمن …
فلم يعُد ثمة ولايات غير تركية، وأصبحت الدولة تركية بالفعل.
١٤٩ من هنا، تطورت فكرة الجامعة الإسلامية إلى فكرة الجامعة الشرقية؛ أي
جامعة شعوب الشرق التي تدافع عن كياناتها ضد الغرب الأوروبي. وبالإضافة إلى دعوته
«مصر للمصريين» فقد كانت فكرة الجامعة الشرقية — في تقديره — هي تلك «التي تحفظ
الوحدة الشرقية من عرب وعجم وترك وجركس وكرد وأرمن وغيرهم على اختلاف
الدين.»
١٥٠ كانت الرابطة تدعو إلى تكاتف الشرق لمواجهة الغرب الاستعماري، وكان رأي
النديم أن الوحدة يجب أن تقوم بين شعوب الشرق، وليس بين مسلمي الشرق، باعتبار أن
الخطر الاستعماري الأوروبي لا يهدد المسلمين في الشرق وحدهم، بل يهدد الشرقيين
جميعًا، مهما اختلفت أديانهم.
١٥١ ولعله يمكن القول إن الرابطة الشرقية كانت هي التعبير المبدئي عن
«القومية العربية».
لقد أفرز تفكك الدولة العثمانية، ثم اضمحلالها، فتلاشيها، نتائج سلبية، لا يزال
يعاني منها — حتى الآن — عالمنا العربي، وهو موضوع يستحق تناولًا مستقلًّا. لكن
الحقيقة الموضوعية تؤكد على الاستاتيكية التي كانت سِمة للحياة المصرية خلال القرون
التالية للغزو العثماني. فقد انغلقت مصر — والعالم العربي كله — على نفسها في ظل حكم
العثمانيين. تقتصر علومها على المتوارَث من أصول الدين والفقه والنحو والصرف وبعض الحساب
البسيط والفلك القديم لمعرفة أوقات الصلاة، وعدم الاجتراء على إضافة الجديد، أو
تلمسه بالاجتهاد. وعانت الحِرف والصناعات من الجمود الذي ران على الحياة بعامة، في
الوقت الذي كانت القارة الأوروبية تحيا نهضة علمية وثقافية واسعة، تمثَّلت في
اكتشافات جغرافية، وحركة استعمارية بسطت سيطرتها على معظم أقطار العالم القديم في
آسيا وأفريقيا. ثم كان للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر تأثيرها البالغ، بحيث
تأكدت السيطرة الأوروبية على العالم بأسره. وحين دعا عزيز المصري إلى تأليف سلطنة
أو خلافة عربية، فلأن العنصر التركي — في تقديره — كان قد فقد كل صفاته الحربية
والسياسية.
١٥٢
وعلى الرغم مما ذهب إليه ماك كون من أن «الولاء السياسي نحو الباب العالي قد
تلاشى بسبب إحساس المصريين بفداحة الجزية التي تؤدَّى لتركيا دون مقابل، وأصبح شعار
الأمة المصرية: مصر للمصريين، ولا يشك في ذلك أحد ممن عرفوا حقائق الأمور في مصر،
ولو أن الخديو إسماعيل أراد أن يعلن الاستقلال التام للَقِي التعضيد والتأييد من
جميع طبقات الأمة.»
١٥٣ فضلًا عن تأثر الفكرة الإسلامية بالقضايا التي أثارها كتاب علي عبد
الرازق «الإسلام وأصول الحكم» … على الرغم من ذلك، فإن انتماء مصر إلى المنطقة ظل
إسلاميًّا وليس عربيًّا، دينيًّا وليس قوميًّا. وقد تبدى ذلك الانتماء في موقف
أعداد كبيرة من المصريين من الصراعات التركية — دولة الخلافة! — مع القوى العالمية
المختلفة. وظلت أعداد كبيرة من المصريين — إلى ما بعد قيام ثورة ١٩١٩م — منحازة إلى
تركيا، حتى لقد رفعت بعض القرى العلم التركي في أحداث الثورة.
١٥٤ وحدثت مصادمات أثناء عرض أوبريت «العِشرة الطيبة» في عام ١٩٢٠م، واتُّهم
الريحاني بالعِمالة لسلطات الاحتلال البريطاني، وكان الأوبريت يسخر من الشخصية
التركية. ويرجع لطفي السيد بوادر الدعوة إلى «البنارابيزم» — أو الجامعة العربية —
إلى عام ١٩١١م حين قدم إلى القاهرة سياسيان من سورية ولبنان، وعرضا فكرة ضم سورية
إلى مصر.
١٥٥ وقد رفض لطفي السيد الفكرة «لا لتعذُّر هذا الطلب فحسب، بل لأني لم أره
في مصلحة مصر.»
١٥٦ وحتى أوائل الأربعينيات، كان بعض المفكرين يجد في فكرة الجامعة العربية
الناشئة مقدمة للجامعة الإسلامية، انطلاقًا من الرأي بأن تلك الوحدة الجزئية يسهل
تحقيقها، ثم تتحقق من بعد الوحدة الكبرى، وحدة الأمة الإسلامية.
١٥٧ ويروي فتحي رضوان إن المثقفين — خذ بالك! — كانوا لا يعرفون شيئًا اسمه
«العروبة» حتى صار شابًّا؛ ذلك لأن ثقافتهم الإسلامية التي تحددت أبعادها في الرسول
والخلفاء والصحابة والدولة الإسلامية والأندلس والأئمة الأربعة والشمال الأفريقي،
تلك الثقافة جعلت الهوية في أذهانهم للإسلام، وليس للعروبة.
١٥٨ وكانت سطوة الاحتلال الإنجليزي باعثًا لتعاظم الشعور الديني، برغم
إنهاء دولة الخلافة. ساعد على ذلك ما أسهم به الأزهر في الحياة السياسية، ومشاركة
الأزهريين الفعالة في الثورة ضد الوجود الاحتلالي. وأثَّر على فكرة العروبة — لسنوات
طويلة — إنها بدت لبعض المفكرين الإسلاميين مناقضة لروح الإسلام، إلى حد مساواتها
بالفرعونية. كانت الوحدة الإسلامية — لا غير — هي هدفهم الذي عملوا لأجله، وقد ندد
شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، ومفتي الديار المصرية الشيخ عبد الرحمن قرة،
بالعروبة رسميًّا في ١٩٢٨م، وأعلنا أن «القومية» لا سند لها إلا الدين، وأن
الإسلام جعل المؤمنين إخوة، «يستوي في ذلك العربي وغير العربي.»
١٥٩ وأكد الشيخ محمد الغنيمي التفتازاني — ١٩٣٢م — أن الإسلام لا يأخذ
بالشعوبية أو بالإقليمية، كما أعلن محمد مصطفى المراغي، شيخ الجامع الأزهر — ١٩٣٨م —
معارضة الدين للرابطة الجنسية، ودعا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، والانصراف عن
الدعوة إلى الوحدة العربية، غير الموثوق بها.
١٦٠ وثمة رأي أن ذلك الاتجاه انطلق من عوامل سياسية وعقائدية، فقد كان
الملك فاروق يطمح — مثل والده الراحل — إلى لقب الخلافة.
١٦١ ثم وجد بعض المحافظين الإسلاميين في حركة الجامعة العربية بداية مهمة
لتحقيق نهضة الإسلام.
١٦٢ وحتى الآن، فثمة من «يرفض الشعارات القومية جميعها؛ لأن أعداءنا قد
درسوا الخطط الاستعمارية لتمزيق وحدة الأمة الإسلامية، والتفرقة بين شعوبها،
واستغلوا في ذلك شعار القومية، سواء عرف ذلك ممن نادوا به، ودعوا إليه، أو لم
يعلموا، وسواء في ذلك قومية العرب، أو قومية غيرهم من الشعوب.»
١٦٣
الاتجاه إلى الغرب
إن التحوُّل عن «العثمانية»، أو الاتجاه إلى الغرب الأوروبي، يجد إرهاصاته في
الحملة الفرنسية، بحيث يمكن اعتبار الحملة البونابرتية في ١٧٩٨م، وما تلاها من اتصال
مستمر بين مصر وأوروبا، عاملًا فاصلًا في تكوُّن الأفكار السياسية والاجتماعية
بالمعنى الحديث في مصر خاصة، وفي العالم العربي بوجه عام.
١٦٤ ولعل بداية ذلك التحوُّل في عهد محمد علي، الذي أعلن نياته اقتطاع
الأجزاء العربية من دولة الخلافة، وضمها في دولة واحدة، واختط سبيلًا مماثلًا لما
كان يسير عليه الغرب الأوروبي «حيث إن الأوروباويين هم رجال قد دبَّروا أشغالهم،
ووجدوا السهولة لكل مصلحة، ونحن مجبورون على الاقتداء بهم.»
١٦٥ وكان محمد علي يبرر معظم قوانين دولته بأنها «حكم الجاري بممالك
أوروبا.»
١٦٦ أما لماذا اتجه محمد علي إلى فرنسا وحدها، فاستجلب المدرسين الفرنسيين،
وأوفد البعثات المصرية إلى فرنسا، فلأنه كان يخشى الأطماع الإنجليزية في مصر، ومن
ثَم جاء حرصه على زيادة تأثير فرنسا في مصر ليصنع تيارًا أوروبيًّا مقاومًا ضد
التغلغل البريطاني، فلما تولى عباس الحكم، منع كل محاولات الاتجاه إلى الغرب
والإفادة منه.
١٦٧ ثم ما لبثت الصورة أن تبدَّلت تمامًا، حين خلف سعيد عباسًا، فقد أحاط
نفسه بمجموعة من الأجانب، ومنح لديلسبس في ١٨٥٤م امتياز قناة السويس. ولعل أكثر
المعالم وضوحًا لذلك التحوُّل في عهد إسماعيل، الذي كان يسعى إلى توسيع نطاق استقلال
مصر عن الباب العالي، حتى يصل بالبلاد إلى الاستقلال التام، ويسعى — في الوقت ذاته —
إلى توثيق علاقات مصر بالغرب، وجعلها قطعة من أوروبا. وكما قلنا، فثلما كان لدول
أوروبا مستعمراتها الأفريقية، فإن إسماعيل عني بالاتجاه جنوبًا، ولم يكن الاتجاه
شرقًا، أو غربًا (بمعنى الاتجاه ناحية الشمال الأفريقي) مما يعنيه على الإطلاق. حتى
المثقفون الشوام الذين استعان بهم في نظاراته ومؤسساته، كانوا بعض وسائله لإتقانهم
اللغات الأوروبية، وتمرسهم بالأسلوب الغربي للحياة، لتحقيق الإمبراطورية الأفريقية،
ذات الانتماء الأوروبي. وبصرف النظر عن الأسلوب الخاطئ الذي انتهجه إسماعيل في
تطبيق سياسته، وأخطر ما فيه: الوقوع في براثن المرابين الأوروبيين، ثم الوقوع — من
بعد — في قبضة الاحتلال العسكري الأوروبي، فقد كان عهد إسماعيل معلَمًا واضحًا في
تحول المجتمع المصري عن «العثمانية»، واقترابه من «الأوروبية»، ثم تكرس الأمر بعد
احتلال إنجلترا لمصر، فقد أصبحت واحدة من المستعمرات البريطانية.
وكانت الحرب العالمية الأولى زلزالًا عنيفًا، مركزه العالم الغربي؛ أصبح نموذج
المدنية الأوروبية هو الوسيلة والهدف. وكانت اليابان مثلًا واضحًا لذلك، بعد أن
أولت الماضي ظهرها، وأقبلت على المدنية الغربية تفيد منها، وتتحول من دولة إقطاعية
متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة. وكتب سامي الجرويني يؤكد أنه «لا مفر أمامنا للوصول
إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية إلا بأخذنا بأسباب هذه الحضارة الغربية في
مادتها وروحها، أما أن نتخذ من الحضارة الغربية عدوًّا لدودًا، فإننا نسير إلى
الاضمحلال لا محالة، فقد كان في الشرق حضارة عمته، وامتد سلطانها إلى الغرب، فوقفت
الحضارتان وجهًا لوجه، ودام النزاع بينهما قرونًا. وها نحن أولاء نرى الغلبة للحضارة
الغربية.»
١٦٨ وقد أزمع الشيخ حسان الفزاري أن يسافر إلى أوروبا، ثقة منه بأن «الغرب
خطا بالعلم خطوة كبيرة، وأننا أصبحنا عيالًا عليه في نهضتنا، فلا غنى لنا عما عند
القوم من مدنية وعرفان.»
١٦٩
والواقع أن الدعوة إلى «التغريب» أو «الأوروبية» لم تكن مقصورة على النواحي
الثقافية وحدها، وإنما كانت امتدادًا غير مباشر لحرص الخديو إسماعيل على أن تكون
مصر قطعة من أوروبا، لا أن تكون قطعة من أفريقيا. كانت أقرب إلى دعوة مصطفى كمال في
تركيا. فعبد العزيز فهمي وسلامة موسى يذهبان إلى وجوب استبدال الحروف اللاتينية
بالحروف العربية، استمرارًا لدعوة استخدام العامية التي ظهرت — للمرة الأولى — في
١٨٨١م، وهي السنة نفسها التي دخل فيها الاحتلال البريطاني مصر، حين اقترحت «المقتطف»
كتابة العلوم باللغة العامية، لغة الحديث اليومية، واستمرارًا كذلك لما دعا إليه
القاضي الإنجليزي دلمور (١٩٠٢م) بمحكمة الاستئناف بالقاهرة في كتابه «لغة القاهرة»
من اتخاذ العامية لغة للعلم والأدب، وكتابتها بالحروف اللاتينية. تساءل وليم
ولكوكس: لِمَ لمْ توجد قوة الاختراع عند المصريين الآن؟ وأجاب: «إن أهم عائق يمنع
المصريين من الاختراع، هو أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحي، وأنهم لو
ألَّفوا وكتبوا بالعامية، لأعان ذلك على إيجاد مَلَكة الابتكار، وتنميتها.» وأضاف إن
اللغة العربية الفصحى «هي عقبة في سبيل تقدم المصريين، دراستها نوع من السخرة
العقلية حالت بين المصريين وبين الابتكار، وقضت على الطلبة النابهين من المصريين
الذين يُرجى منهم نفع كثير، وأدت صعوبة فهمها إلى حدوث بعض الكوارث، دراستها مضيعة
للوقت، وموتها محقق، كما ماتت اللاتينية.» ودعم ولكوكس دعوته بترجمة الإنجيل
باللهجة العامية، بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى. وكان سلامة موسى من مؤيدي دعوة
ولكوكس، فقد رأى أن «نهجر اللغة الفصحى ونعود إلى لغتنا العامية فنؤلف بها آدابنا
وعلومنا.»
١٧٠ وقد تعدَّدت الأقلام التي تدعو للكتابة بالعامية المصرية، ومنها المستشرق
Spita والمستشرق
Willmore وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وسلامة
موسى؛ حفزهم ما فعله مصطفى كمال في تركيا … حتى طه حسين كتب في «الهلال» (يناير
١٩٣٤م) يؤكد أن الفصحى لم تعد اللغة التي تناسب العصر. وأضاف سلامة موسى أن الفصحى
لغة بدوية رجعية، والعامية لغة حضارة، والثقافة بنت الحضارة، وليست بنت البداوة. ثم
قدم عبد العزيز فهمي تقريرًا إلى المجمع اللغوي (١٩٤٢م) اقترح فيه كتابة العربية
بأحرف لاتينية، ارتكازًا لصعوبة التعلم باللغة العربية كتابة وقراءة، على حد
تعبيره. واستُشهد عبد العزيز فهمي بما أقدمت عليه تركيا من استخدام الأحرف اللاتينية
بدلًا من الأحرف العربية التي كانت تُستخدَم في كتابة اللغة التركية. وقد لقي هذا
الاقتراح — بالطبع — رفضًا من أعداد كبيرة من مثقفي مصر والوطن العربي، فاضطر عبد
العزيز فهمي إلى السكوت عنه!
وفي كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» أشار طه حسين إلى أن مصر لا تنتمي إلى الشرق
بمعناه الذي يشمل الهند والصين، لكنها تنتمي إلى حوض البحر المتوسط، وطالب بأن يكون
هذا رداءها الوحيد. كان رأي طه حسين أنه ثمة علاقة بين الثقافة والعلم والأدب في
مصر وبين ثقافة حوض البحر المتوسط، وهذه الثقافة البحر متوسطية ذات منابع فرعونية
وإغريقية وعربية وإسلامية، أسهمت جميعها في ثقافة البحر المتوسط التي تَدين بها مصر.
وقد تواصلت دعوة طه حسين — بعد مستقبل الثقافة في مصر — في العديد من المقالات التي
كتبها في مجلة «الكاتب المصري» (١٩٤٦–١٩٤٨م) في أثناء توليه رئاسة تحريرها. ورادف
طه حسين دعوته بإنشاء قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الآداب، تأكيدًا
لدور تلك الثقافة في العقل المصري. وقد أكد ذلك الرأي — فيما بعد — العربي رينيه حبشي
(كتاب «حضارتنا على المفترق») الذي وجد الانتماء الحقيقي لمصر في ألا تكون شرقية أو
غربية، وإنما متوسطية، باعتبار أن الحضارة المتوسطية تعني التطور العلمي، وقبول
العقل والديمقراطية والتعايش التاريخي للأديان، مما يتفق مع التركيبة النفسية
للإنسان المصري، ويوائم أوضاعه الاجتماعية، ويكرس عزوفه عن الصراع الطائفي.
ومع أن عدد أبناء الجالية اليونانية كان يفوق عدد أبناء الجالية الفرنسية، فإن
الكثير من الأسر المصرية حرصت على إدخال أبنائها مدارس فرنسية، في مقابل عزوف شبه
تام عن التحاق أبناء المصريين بالمدارس اليونانية، أو تعلم اللغة اليونانية، وذلك
رغم العلاقة التاريخية الجيدة التي ربطت — منذ عصر البطالمة — بين مصر واليونان؛ ربما
تعجز التحليلات الموضوعية عن فهم السبب، لكن كان ذلك كذلك، بلا تفسيرات محددة، وليس
من السهل أن نخضع كل وقائع التاريخ وملابساته للموضوعية المجردة.
والحق أن الذات المصرية في بحثها عن شخصيتها في الأبعاد الثلاثة: الإسلامية،
العربية، الإقليمية/الشوفينية، كانت حقيقة مفروضة، لكن القضية المطروحة كانت:
إلى ماذا، وإلى مَن تنتهي الذات المصرية؟ هل إلى الفرعونية؟ أم القبطية؟ أم الاتجاه
نيليًّا؟ أم الإسلامية؟ أم الشرقية، أم إلى الغرب؟ وإذا كان سلامة موسى قد دعا —
أحيانًا — إلى العودة للفرعونية، ثم دعا — في أحيان أخرى — إلى المدنية الأوروبية، فإن
ذلك — في الحقيقة — كان جزءًا من مناخ التحيُّر العام الذي عاشه المثقفون المصريون؛
فهيكل الذي نادى بالفرعونية، ما لبث أن راجع نفسه ونادى بالإسلامية، وهكذا. وثمة
رأي أن المدرسة التي رأت أن مصر يجب أن تكون قطعة من أوروبا، لم تكن تعرف الفارق
بين نقل التكنولوجيا وغرسها، وبين اكتشاف الثقافة القومية وتطويرها.
١٧١
•••
كانت الدعوة إلى التغريب — في بعض أبعادها — محاولة لمواجهة المد الديني المتعاظم.
ثمة الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وإلى إحياء دولة الخلافة، والعودة إلى «الأصول»
والتعامل مع التراث. وكان مواجهة كل تلك الدعوات بالرفض الصريح — وبالذات من مثقفين
يعتنقون ديانة مغايرة — طريقًا يصعب تبيُّن نهاياتها، وإن انطوت — في كل الأحوال — على
مخاطر أكيدة؛ لذلك فإننا نجد في مقدمة الداعين إلى التغريب، ونبذ السلفية والتراث،
أسماء سلامة موسى ونقولا حداد ويعقوب صروف وشبلي شميل وغيرهم.
الفنان في «الخيط الأبيض» يُرجِع بداية تطلع المصريين — بشدة — إلى الحضارة الأوروبية،
١٧٢ لكن الاتجاه إلى المدنية الأوروبية توضح عقب تلاشي الخلافة الإسلامية
في تركيا، بطرد عبد المجيد خان، آخر الخلفاء العثمانيين، وإعلان الجمهورية، وفصل
الدين عن الدولة، وإسقاط مشيخة العلماء في إسطنبول، وإلغاء التعليم الديني من
المدارس، وإلغاء التقويم الهجري، وتصفية الأوقاف، وحل طوائف الدراويش، وإغلاق
تكاياهم، ومصادرة ثرواتهم، وتشريدهم، ومنع تعدد الزوجات، ونظام الحريم، والدعوة إلى
التغريب، وإدخال القوانين السويسرية، واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية،
والقبعة بالطربوش. قال أتاتورك: «إذا أردنا أن نكون شعبًا متمدينًا، فينبغي أن
نرتدي ثياب المتمدينين الدولية، أما الطربوش فهو رمز الجهل»
١٧٣ وترجمة القرآن والإنجيل والأذان إلى اللغة التركية المكتوبة
باللاتينية، وطبع طوابع بريد جديدة تحمل صورة الذئب الأغبر — رمز تركيا القديمة —
وتعلُّم الموسيقى الغربية بدلًا من الموسيقى الشرقية.
١٧٤ كان لذلك كله أثره الهائل في العالم العربي، لصلته الوثيقة بتركيا منذ
بداية الغزو العثماني، وعلت دعوات التغريب، وإهمال اللغة العربية، والطربوش، وغيرها
من مظاهر الحياة العربية، إلى حد أن مجلة ثقافية أجرت استفتاء موضوعه: «هل نقتدي
بتركيا، وإلى أي حد؟»
١٧٥ وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان التغريب إحدى النتائج التي فرضها وجود
الاحتلال، بحكم اتجاه المهزوم إلى ثقافة المنتصِر، ومحاولة تقليده. وهو ما تعبِّر عنه
نظرية علم النفس: التوحد بالمعتدي، فضلًا عن المصارحة بغثاثة التراث العربي (لهذا،
كان رسل هذا الاتجاه هم المثقفين العائدين من أوروبا، بعد أن درسوا في جامعاتها)
حتى إن حسين فوزي يكتب في مقدمة كتابه «سندباد عصري»: «درجت على حب الغرب، والإعجاب
بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوروبا، فلما ذهبت إلى الشرق،
عدت إلى بلادي، وقد استحال الحب والإعجاب، إيمانًا بكل ما هو غربي.» الكلمات نفسها —
أو تكاد — يكتبها سلامة موسى في «اليوم والغد»: «يجب علينا أن نخرج من آسيا، ونلتحق
بأوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني،
وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها، وتعلُّقي بها، وزاد شعوري بأنها مني، وأنا
منها» … «أنا كافر بالشرق، ومؤمن بالغرب، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن
القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوروبا في العصر الحديث، وأجمل قِراني يولون
وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق؛ لأني أعتقد أن لا رجاء لنا في النجاح في
العالم إلا إذا تملصنا مما اكتسبناه من العادات الشرقية في نظام العائلة، ونظام
الحكومة، والنظر للأدب، حتى في النظر للصناعات والمعايش.»
١٧٦ أما محمود عزمي، فقد أعلن أنه من الذين ينادون بملء فِيهم بضرورة الأخذ
من المدنية العصرية، وهي الحضارة الغالية، و«بأن الخير في شخوص الكتلة الشرقية
المتكلمة لغة عربية إلى شواطئ البحر المتوسط الشمالية الغربية، وبأن كل نظرة إلى
رمال التيه والبادية إنما تكون نكوصًا على الأعقاب في ميدان الجهاد الذي يسير فيه
العالم سيرًا هائل السرعة إلى الأمام.»
١٧٧ وكتب الحكيم إلى طه حسين يقول «إن كل تفكير العرب، كانوا جزءًا من
الرابطة الشرقية، وكل فن العرب، في لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مختطفة
اختطافًا؛ لأن كل شيء عند العرب سرعة ونهب واختطاف. عند الإغريق الحركة؛ أي الحياة،
وعند العرب السرعة؛ أي اللذة … كل شيء يحسونه إلا عاطفة الاستقرار، وكيف يعرفون
الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماضٍ ولا عمران؟ دولة أنشأتها الظروف، ولم تنشئها الأرض،
وحيث لا أرض فلا استقرار، وحيث لا استقرار فلا تأمل، وحيث لا تأمل فلا ميثولوجيا
ولا خيال واسع، ولا تفكير عميق ولا إحساس بالبناء.»
١٧٨ أما زكي نجيب محمود، فقد حدد المشكلة، قبل أن يحاول المزاوجة بين تراث
العرب ومدنية الغرب بأنها: كيف نتحول من ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلم والتكنية
(التقنية) والصناعة؟ وأجاب: واضح أن ذلك لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، وأن مصدره
الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا.
كان علي مبارك من أوائل الدعاة لفهم الحياة الأوروبية، والأخذ بالمدنية
الأوروبية، وهو ما كان يتبدى واضحًا في محاولته الروائية «علم الدين»، برغم تحفظه
من أن البلاد الحارة يصعب أن تحقق التقدم نفسه الذي تحققه البلاد ذات المناخ
البارد. ولما أعلن محيي (أزهار) في مناظرة جامعية، أنه لا سبيل لنهضة الشرق إلا
بأن يأخذ بالحضارة الأوروبية، وما تقوم عليه من علوم وفنون ومصانع، وما يترتب على
ذلك كله من أنظمة في السياسة والاجتماع، قال فوزي إنه لا ينازع في وجوب الأخذ
بالعلوم والصناعات الأوروبية، فالعلوم والصنائع كلها قد نشأت في الشرق، وعنه تلقاها
الغرب، فإذا عاد الشرق يقتبس من الغرب فإنما هي بضاعتنا رُدَّت إلينا.
١٧٩ ولعله من المهم أن نشير إلى دلالات رواية محمد مفيد الشوباشي «الخيط
الأبيض» التي عرضنا لها في الجزء الأول.
•••
كان «التغريب» يتمثل — في أخطر أبعاده — في الصراع بين جذور المعتقدات القديمة،
وبين ثمار الفلسفة العالمية الحديثة، وامتد ذلك الصراع إلى دعاة التغريب أنفسهم،
فقد كانت مشكلة كمال عبد الجواد، بطل ثلاثية نجيب محفوظ — على سبيل المثال — هي مشكلة
الكثير من المثقفين المصريين، الذين استقبلوا شبابهم حول عام ١٩٢٥م. ألم يكن يحمل في
أعماقه تناقضات عصره؟ كانوا يبحثون عن المثل الأعلى الذي يخلف ما تهدم من مُثُل
أسلافهم العليا. وكان حب كمال لعايدة عبد الجواد، الأوروبية النشأة والمعيشة
والثقافة، وهو الجانب العاطفي من انبهاره بالحضارة الغربية، إلى جانب انبهاره
الفكري، متمثلًا في انكبابه على قراءة داروين وماركس وفرويد. وقد شهدت خاتمة «قصر
الشوق» تحديدًا، انهيار جميع معتقدات كمال الدينية والأخلاقية؛ وكان بهذا الضياع
يمثِّل، في الواقع، خطوة تقدمية بالنسبة للجيل السابق، الذي يمثِّله الأب بتناقضاته
الدينية والأخلاقية، فهو قد تحرر من العقلية الغيبية، وإن وقع في أسر نزعة رومانسية
متطرفة على مستوى الحب، وعلى مستوى الفكر معًا. وكانت النهاية الحزينة لعلاقته
بعايدة، هي السبب المباشر لذلك الضياع. وقد وصل «تغريب» كمال إلى منعطفه المهم،
والحاسم، في وقفته أمام أبيه، ومحاولته إقناعه بنظرية النشوء والارتقاء، تلك التي
كان شبلي شميل — ١٨٥٠–١٩١٧م — أول ناقل لها إلى اللغة العربية، في كتابه «فلسفة
النشوء والارتقاء»، وتُعد أهم ما أثمره العلم الأوروبي في القرن التاسع عشر.
١٨٠ وثمة حقيقة يجدر بنا أن نؤكدها — بصرف النظر عن خطورة نظرية النشوء
والارتقاء، وأهميتها في مسار الحياة الفكرية المصرية — وهي أن ترجمة شميل للنظرية،
وتبني «المقتطف» — فيما بعد — لها، صدرت عن مفهوم سياسي، أكثر من كونها تعبيرًا عن
رسالة علمية؛ فالنشوء والارتقاء هو مذهب تنازع البقاء — كما سماه أصحاب «المقتطف» —
ويضغط على معنى أن «العيش» في هذه الدنيا لا يصلح إلا للقوي، وأن الضعيف لا بد أن
يضمحل، وهو مذهب حيواني صرف. وحيث إن الإنجليز أقوى الأمم، فقد احتلوا مصر الضعيفة،
فعليهم أن يتمتعوا بخيراتها، وعلى الشعب المصري الضعيف أن يشكر لهم صنيعهم، ويباشر
زرع أراضيه بكل اطمئنان؛ لأن طريق المستعمرات من قناة السويس، أصبح مضمونًا من
الطامعين بمصر، والهند أضحت بمأمن من عقاب الجو.
١٨١ وكانت وقفة كمال في محاولة إقناع والده بالنظرية الوافدة، تشبه — إلى حد
كبير — موقف شقيقه فهمي في محاولة إقناع والده، بضرورة إسهامه — أي فهمي — في الثورة،
تدليلًا على أن إيمانه بنظرية داروين وصل إلى مستوى إيمان شقيقه بالثورة. ثم كان
إصراره على المضي في سبيله، برغم اعتراض والده، تعبيرًا عن الشجب الحاسم لإرادة
الأب، لإرادة الجيل الماضي. ومن المفيد هنا أن نعرض لتلك اللحظات التي تحتَّمت فيها
المواجهة بين العقلية الحديثة التي أخذت تفرض سيطرتها وتأثيرها، وبين العقلية
السلفية التي ترفض الجديد — دومًا — وتخشاه: «وتربع أحمد عبد الجواد على الكنبة، وفتح
المجلة باهتمام، وراح يقرأ بصوت مرتفع ليمتلئ بمعانيها، لكن ماذا وجد فيها؟ إنه
يقرأ المقالات السياسية فيفهمها دون عناء، أما هذه المقالة فإنها دارت برأسه وأفزعت
قلبه، وأعاد تلاوتها بعناية، فطالع كلامًا عن عالِم يُدعى دارون ومجهوده في جزر
نائية، ومقارنات ثقيلة بين شتى الحيوانات، حتى وقف مبهوتًا عند تقرير غريب يزعم أن
الإنسان سلالة حيوانية، بل إنه متطور عن نوع من القردة! وكرر تلاوة الفقرات
الخطيرة منزعجًا، ثم لبث ذاهلًا أمام هذه الحقيقة الأسيفة، وهي أن ابنًا من صلبه
يقرر. دون اعتراض أو مناقشة. أن الإنسان سلالة حيوانية! انزعج الرجل انزعاجًا
شديدًا، وتساءل في حيرة: هل حقًّا يعلِّمون الأولاد هذه المعلومات الخطيرة في مدارس
الحكومة؟! ثم أرسل في طلب كمال.»
١٨٢ قال أحمد عبد الجواد: «ماذا أردت بهذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي،
فقد غمض عليَّ مرماك. قال كمال: إني أشرح فيه نظرية علمية. قال الأب: ماذا تقول هذه
النظرية؟ لقد لفتت نظري عبارات غريبة تقول إن الإنسان سلالة حيوانية، أو شيئًا من
هذا القبيل، أحق هذا؟
– هذا ما تقرره هذه النظرية!
– وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه
النظرية العلمية؟
– دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن سيدنا آدم.
– لقد كفر دارون ووقع في حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قردًا أو أي حيوان
آخر، فلم يكن آدم أبًا للبشر … هذا هو الكفر عينه، هذا هو الاجتراء الوقح على مقام
الله وجلاله!»
١٨٣
كمال عبد الجواد، الذي كان يهيم بحب الحسين، انتهى به الأمر إلى اعتناق نظرية
النشوء والارتقاء، التي قوَّضت فكرة الدين من الأساس. والموقف — في مجمله — يذكِّرنا
بتلك
اللحظات القلقة من أيام ثورة ١٩١٩م: فهمي يحاول إقناع والده بأن الإسهام في العمل
الثوري حتم على كل المصريين، ويصر الأب على أن يقطع ابنه كل صلة بينه وبين التنظيم
السياسي، ويعد فهمي والده — كذبًا — بأن يحقق له أمنيته، ثم يرفض أن يقسِم بذلك على
المصحف حين يقدمه له والده، بالإضافة إلى أن ذلك النقاش المثير بين كمال ووالده
يذكِّرنا بالنقاش المثير الذي تنبض به فصول مسرحية «ميراث الريح» التي تعرض لرفض
أبناء مدينة أمريكية تلك النظرية التي تزلزل المعتقدات الدينية، إن لم تقوِّضها
تمامًا.
أحدثَ ظهور نظرية «النشوء والارتقاء» في المجال الثقافي المصري، رد فعل عنيفًا بين
المثقفين، بل لعله يمكن اعتبارها مدخلًا لاعتناق الكثيرين النزعة الماركسية فيما
بعد. وألَّف الأفغاني رسالته «الرد على الدهريين» التي يؤكد فيها أن الإيمان بنظرية
داروين خطر على العقيدة الدينية، وعلى الحضارة الإنسانية كلها، مما يوجِب على الفكر
المسلم — والديني عامة — أن يتصدى لها. ولكن رياح التطور لم تصمت؛ ففي مطالع
الثلاثينيات راح أحد القضاة الشرعيين يتحدث عن مدرس الجغرافيا في المدرسة الثانوية،
والذي ألقى محاضرة عن عالم نصراني اسمه «شنتون» — أينشتين — قال إنه عرف بالضبط وزن
الأرض والسماء. وأضاف المدرس أن هذا العالِم قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل. لقد قال
الله في كتابه العزيز:
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ (الأنعام: ٣٨) ولكن المدرس استمر في حديثه قائلًا إن العالِم
النصراني قد استطاع بمعادلات جبرية أن يزن الأرض والسماء، فما تمالك القاضي نفسه،
نهض وصاح به: مهلًا يا حضرة الأفندي مهلًا، أخبرنا قبل كل شيء: هل هذا العالِم
«شنتون» وزن السموات والأرض بالكرسي أم بدون الكرسي؟ سأل المدرس: كرسي إيه؟ رد
الشيخ بالآية القرآنية:
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ (البقرة: ٢٥٥)، ورمق المدرس متحديًا: أجِب أيها المدرس
الأفاك، ها هنا الحاصل والجوهر، الوزن بالكرسي أو بغير الكرسي؟
١٨٤
أما من حيث التأثير الفعلي لدعوة التغريب في الحياة اليومية المصرية، فقد ظل
«التغريب» — لبضعة أجيال — وقفًا على فئة صغيرة من المثقفين، ونتج عنه هوة عميقة بين
المتأثرين بالحضارة الغربية وبين غالبية جماهير الشعب من الفلاحين والعمال والطبقة
الوسطى الصغيرة، ولم يُحدِث أثرًا ذا بال. ظلت الفوارق الحادة بين الريف والحضر على
ما هي عليه، وبقيت المرأة أسيرة التقاليد، ولم تحدث الثورة الشكلية والمضمونية
المطلوبة في الأعمال الأدبية والفنية. ولعلنا نذكر تلك المناقشات المثيرة التي كانت
تشهدها قهوة خان الخليلي — في رواية نجيب محفوظ — إبان الحرب العالمية الثانية؛ أي
بعد ظهور نظرية أصل الأنواع بعشرات الأعوام، بين أحمد أفندي عاكف والأستاذ أحمد
راشد المحامي. ولعل قيمة الآراء — التي قالها أحمد راشد دحضًا لأفكار أحمد عاكف التي
لم تجاوز تخلف الأدب القديم، ولا غيبوبة السحر والتنجيم والمعتقدات البالية
والأساطير — أنها ترددت على مقربةٍ من الحسين، وبين جنبات الحي الذي يزخر بعشرات
الجوامع والمساجد والزوايا، ومئات العلماء والمشايخ والمتصوفة والمتفقهين.
١٨٥
وعلى الرغم من ضرورة الاتصال بثقافة الغرب — والثقافة الإنسانية عامة — إلا أن
الإيمان بكل ما هو غربي — على حد تعبير حسين فوزي — ثم اقتران ذلك بإحياء القومية
المصرية، قد أوجد الفرصة لبعض الدعوات الخاطئة — في مفهوماتنا الحالية — أن تحدث
تشويهًا في وجه التيار التقدمي، لعل أبرزه — كما قلت — رفض التراث العربي كله … بل إن
بعض الذين أحبوا الغرب، وقرروا الإقامة فيه أبدًا، مثل شقيق مصطفى (عودة الروح)
الذي بعث إلى شقيقه من فرنسا، بعد وفاة والدهما، يقول: «افعل ما شئت على شرط ألا
تطلب إليَّ الحضور إلى مصر، وألا تمس مصروفي الشهري بنقص ما.»
١٨٦ ويقول عبد الرحمن شعبان (المرايا): «أوروبا روح الدنيا، وأهلها ملائكة
الخلق، أما من عداهم فهم حيوانات أو حشرات.»
١٨٧ والغريب أنه لم يكن يصدر في رأيه عن الرغبة في الإفادة من المدنية
الأوروبية، بل إنه كان يرفض الواقع المصري على إطلاقه؛ فهو يقول: «أصاب أحيانًا
بذهول مَرضي عندما لا أنظر حولي فأجد نفسي غريبًا وسط نفر من الموظفين التعساء
الجهلاء الخانعين المطيعين المتملقين المنافقين، الله يرحمك يا أبي، لمِ بددت مالك
في القمار؟!»
١٨٨ وكان ينتقد كل ما تقع عليه عيناه، ويقارنه بنظيره في فرنسا
وإنجلترا:
«أتعجبك هذه المحال والدكاكين؟ إنها زنزانات سوقية … انظر إلى قذارة الشوارع في
قلب المدينة، سيأتي يوم يُطالِب فيه الذباب بحقوق المواطن … ما رأيك في هؤلاء الغلمان
الحفاة في شارع سليمان باشا؟! انظر إلى هذا المنظر الفريد، الكارو والجمل والسيارة
في قافلة واحدة وتقولون الاستقلال التام أو الموت الزؤام … وملايين الفلاحين
القذرين، بأي منطق يستحقون الحياة؟ لماذا لا تستغنون عنهم بالآلات الزراعية
الحديثة؟ إن خير ما تمخضت عنه الحضارة المصرية هو الحشيش، ومع ذلك فما أقبحه
بالمقارنة بالويسكي! … إلخ.»
١٨٩
وبصرف النظر عن رواية الفنان (المرايا) أن عبد الرحمن شعبان لم يكن يقرر ذلك عن
حقد، ولا عن رأي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، وإنما عن انفعال، ووسط ضحكات بريئة،
ولو صادف بعد ذلك شخصًا يتعصب لأوروبا، لانقلب بنفس الحماس مدافعًا عن الشرق، فهو
معارض بطبيعته،
١٩٠ أقول: بصرف النظر عن طبيعة عبد الرحمن شعبان، ففي الحقيقة أن الإعجاب
المطلَق بكل ما هو غربي، والرفض المطلَق لكل ما هو وطني، كان موقف العشرات — إن لم يكن
المئات — من المثقفين. وثمة صورة بالغة الدلالة للانبهار الغريب الذي طاف به فوزي
بطل «أزهار» في أرجاء العاصمة الفرنسية: «على أنه لا المباني على روعتها، أو القصور
والمتاحف على فخامتها، بالتي أثرت في نفس فوزي بمثل ما أثر فيه حتى الأعماق شعوره
بالحرية والإخاء والمساواة التي تسود الناس جميعًا، لا فرق بين غني أو فقير، أو
صغير أو كبير.»
١٩١ وقد طرح طه حسين السؤال: هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم
والحكم على الأشياء، أو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ وأجاب
على السؤال بأن العقل المصري قد تأثر — منذ عصوره الأولى — بالبحر المتوسط، وتبادُل
المنافع مع شعوب المنطقة. وحتى أيام الإسكندر المقدوني كان العقل المصري مؤثرًا في
العقل اليوناني، متأثرًا به، وظل ذلك التأثر والتأثير إلى ما بعد خضوع مصر لسلطان
الرومان. ومن هنا، فليس ثمة فوارق حقيقية بين العقل المصري والعقل الأوروبي. أضاف
إلى ذلك اشتداد الاتصال — في العصور الحديثة — بين مصر وأوروبا، بحيث أصبحت كل النظم
في مصر أوروبية خالصة، ومن بينها — بالطبع — نظام الحكم، ونظم التعليم. وأوضح طه حسين
أنه «لا ينبغي أن يفهم المصري من الكلمة التي قالها إسماعيل، وجعل بها مصر جزءًا من
أوروبا، أنها كانت فنًّا من فنون التمدح، أو لونًا من ألوان المفاخرة، وإنما كانت
مصر جزءًا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافة على اختلاف فروعها
وألوانها.»
١٩٢ كان رأي طه حسين أن مصر بدأت عهدًا جديدًا بتوقيع معاهدة ١٩٣٦م، وأن
عليها أن تتجه إلى الغرب، وهو الاتجاه نفسه الذي سعى إليه محمد علي وخلفاؤه، وبهذا
تستطيع مصر أن تتخلص من الأزمة الثقافية التي تحياها، وأن تسير في طريق التقدم الذي
حققته المجتمعات الأوروبية؛ فأما تبادل المنافع والتآصر، فلقد كان مع شعوب البحر
الأبيض، وأما وحدة الدين ووحدة اللغة، فلا يشكِّلان أساسًا للوحدة السياسية وتكوين
الدول، وإن كان هذا لا يمنع إيجاد نوع من التعاون الثقافي بين مصر والأقطار
العربية، فضلًا عن التعاون مع الغرب، أو مع الشرق الإسلامي. إن المشروع الثقافي
للمستقبل يجب أن يكون متلاحمًا بالثقافة الغربية بمعناها الأشمل، فقد كانت مصر
دائمًا جزءًا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية وكل شيء.
١٩٣ والروابط بيننا وبين أوروبا «أوليات لا معنًى لإضاعة الوقت في إثباتها.»
١٩٤ وضغط طه حسين على أن مصر كانت دائمًا متوسطية العقل والثقافة، وأن
البحر الأبيض — تسمية البحر الأبيض خاطئة، والأصوب البحر المتوسط — شدَّها على الدوام
إلى أوروبا، وأسوأ ما فعله الاحتلال العثماني أنه قطع مصر ثلاثة قرون عن ذاتها
الأوروبية، بحيث لم تشارك في النهضة العصرية التي عرفتها أوروبا «…» نحن إذن
مدفوعون إلى الحياة الحديثة دفعًا عنيفًا، تدفعنا إليها عقولنا وطبائعنا وأمزجتنا
التي لا تختلف في جوهرها قليلًا ولا كثيرًا، منذ العهود القديمة جدًّا عن عقول
الأوروبيين وطبائعهم وأمزجتهم «…» إن سبيل النهضة واضحة بيِّنة مستقيمة، ليس فيها
عوج ولا التواء، وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا،
ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحَب منها وما يُكره،
وما يُحمَد منها وما يُعاب. والواقع أن إيمان طه حسين بالمدنية الغربية لم يكن في
مستوى إيمان حسين فوزي لم يكن مطلقًا، وإن غلبته الحماسة في تأكيد وجوب الارتباط
بالحضارة الغربية؛ فقد كان له رأيه في التعليم الأجنبي، وخطورة ابتعاده عن مراقبة
الدولة «مراقبة دقيقة تكفل محافظتها على مقدار من التعليم يلائم حقوق الوطنية
المصرية وواجباتها.»
١٩٥ ودعا إلى الحدِّ من نقل مظاهر الحياة الأوروبية — إعلاميًّا — إلى
المواطن المصري؛ نظرًا لاختلاف ظروف الحياة بين مصر وأوروبا.
١٩٦ كما طالب بالتوسع في إدخال مناهج اللغة العربية والتاريخ والدين في
المدارس الأجنبية، وباختصار، فقد كان الهدف الحقيقي هو «أن نسير سيرة الأوروبيين
ونسلك طريقهم؛ لنكون أندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة.»
١٩٧
ومع أن سلامة موسى قد حرص في «المجلة الجديدة» على تأكيد التواصل العرقي للمصريين
منذ الفراعنة، فإنه أنكر الفرعونية وقارنها بالعربية، وذهب إلى أن مصر جزء من
أوروبا ومن الغرب في كل شيء.
١٩٨
أما سلامة موسى، فقد طرح السؤال: «نحن الآن في فترة تردد وشك: هل نبقى شرقيين مثل
الهند أو الصين أو جاوة، أو ننزع نحو الغرب لكي نصير مثل ألمانيا أو إنجلترا أو
الدنمارك؟»
١٩٩ وقال إن اليابان لم تنهض إلا عندما تملصت من تاريخها وعاداتها، وأن على
المصريين — إن أرادوا النهضة حقًّا — أن ينضموا — قلبًا وقالبًا — إلى أوروبا، ويحاكوا
مدنيتها في كل شيء. وأشار سلامة موسى في كتابه «اليوم والغد» إلى أنه «يجب أن نخرج
من آسيا، وأن نلتحق بأوروبا، وأنه كلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبها، وتعلقي بها،
وزاد شعوري بأنها مني، وأني منها، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب.» كلمات تذكِّرنا
بالكلمات التي صدَّر بها حسين فوزي كتابه «سندباد مصري»، وأجرى سلامة موسى مقارنة
بين الخلافة والقبَّعة، بين أوروبا وآسيا، وصل فيها إلى أن آسيا هي «مجموعة من
الأمم قد ذلَّلها الأوروبيون، وبسطوا عليها نيرهم، ولم ينجُ من هذا النير سوى اليابان،
وهي إنما نجت لأنها اصطنعت حضارة الأوروبيين، واعتنقتها بلا قيد ولا شرط، وحملت
القبعة شارة الأوروبي على رأسها.» وأن المصريين أولى بتقليد الأوروبيين؛ «لأننا من
الجيل الآري، أما الأتراك فمغول آسيويون، ولكن هناك فئة لا تزال تحنُّ إلى آسيا
والشرق، وتعتبر أننا شرقيون، وهذه الفئة قليلة بالطبع، وحجتها تاريخية لا أكثر ولا
أقل.»
٢٠٠ وألقى سلامة موسى محاضرة عن الهند، بدأها بالقول إنه لا يقصد الهند
بالذات، ولكنه يريد أن يجعل منها «تكأة يتكئ عليها في وجوب انضمامنا للغرب، ونزوعنا
عن الشرق.»
٢٠١ وقال سلامة موسى إن «الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض، ولهذا
المرض مضاعفات. فنحن لا نكره الغربيين فقط، ولا نتأفف من حضارتهم فقط، بل يقوم
بذهننا أن نكون على ولاء للثقافة العربية، فندرس كتب العرب، ونحفظ عباراتهم عن ظهر
قلب كما يفعل أدباؤنا المساكين من أمثال المازني والرافعي، وندرس ابن الرومي، ونبحث
عن أصل المتنبي، ونبحث في علي ومعاوية، ونتعصب للجاحظ، وليس علينا للعرب أي ولاء،
وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم، فيجب أن نعوِّدهم الكتابة
بالأسلوب العصري الحديث، لا بأسلوب العرب القديم.» ولم يقصر سلامة موسى اجتهاداته
على وجوب أخذ مصر بأسباب المدنية الأوروبية، وإنما حاول أن يثبت أصل مصر الأوروبي،
فالمصريون من السلالة الأوروبية، تربطهم رابطة دم واحدة، وقد انتهى العلماء إلى أن
شعوب البحر المتوسط من جهاته الأربع، تنتمي إلى أصل واحد. «والخلاصة أنه ليس بين
المصريين وبين أوروبا خصومة، فهم والأوروبيون ينتمون إلى أصل واحد.»
٢٠٢ لقد أنكر سلامة موسى صلة المجتمع المصري بالشرق، وذهب إلى أن مصر جزء
من الغرب — هي دعوة موازية لدعوة الفرعونية — باعتبارها جزءًا من حوض البحر المتوسط.
وهي قد أقدمت بصفتها المتوسطية، في صنع الحضارة الغربية، وهي مدعوة لمشاركة الغرب
حضارته الحالية، دون أن يتناقض ذلك مع طبيعتها، وسيادتها على نفسها. ثم تساءل سلامة
موسى في كتابه «اليوم والغد»: «هل الأمة المصرية أمة أوروبية، يجب أن تسير مع
الملامح الأوروبية، وتتثقف بثقافتها، أو أمة شرقية يجب أن تحتفظ بما ورثته عن
الشرق؟ وأجاب على تساؤله، بالدعوة إلى تأريب المجتمع؛ أي جعله أوروبيًّا، في لغته
وسماته وصفاته وملامحه! والمثل تركيا وبروسيا اللتان اتجهتا إلى الحضارة الغربية،
وانسلختا من الشرق، فحققتا نهضة واسعة. واعتبر مصطفى كمال أعظم رجل في القرن
العشرين، لأنه نقل تركيا من العصور الوسطى إلى القرن العشرين، وجعلها أمة غربية
متمدنة بعد أن كانت أمة شرقية منحطة.»
٢٠٣ وقال سلامة موسى: «إن العلماء يتجهون اليوم إلى القول بأن مصر هي التي
أفشت الحضارة في العالم، وإن المصريين القدماء لم يكونوا أمة شرقية، بل كانوا أمة
غربية الدم والمزاج، وإن غربتها هذه هي التي يسَّرت على أوروبا اصطناع حضارة
المصريين؛ لأن الأوروبيين وجدوا أن القائمين بهذه الحضارة يمتُّون إليهم بنسب الدم
وقرابة العصب، فلم يتوجسوا شرًّا من بدع المصريين، بل نقلوها واصطنعوها، وارتقوا
بها. فإذا كانت الأقدار قد قيضت لآبائنا أن يخترعوا الحضارة، ويثبوا بالإنسان إلى
نورها، فهل يليق بنا نحن أبناءهم الذين يجري دم الفراعنة في عروقنا أن نركد، فلا
نبتدع ولا نثب؟ كلا، إننا لن نكون حفدة أولئك الجدود العظام، ما لم نقف في مقدمة
الأمم، نعمل لخير العالم كما عملوا، وننطوي على النية الحسنة التي انطووا عليها،
ونبشِّر بحضارة جديدة، ونغامر من أجل رقي الإنسان؛ نركب الطائرات، ونخترع فيها،
ونلتحق بتلك الشعوب التي خرج منها هؤلاء الجدود، فنلبس لباسهم، ونسير سيرهم، ونتثقف
بثقافتهم.»
٢٠٤«هذه الروح؛ أي روح الانسلاخ من الشرق، أو من الطرق البيزنطية
القديمة، نرى أثرها حتى في بلادنا، وفي فارس حيث الرغبة شديدة جدًّا بين الشباب في
تقييد الحكم المطلق بالدستور، وفي مساواة المرأة بالرجل، وفي نشر الصناعة، وفصل
الدين عن الدولة.»
٢٠٥ والسؤال هو: هل كان الفنان يعني سلامة موسى في شخصية سالم جبر الذي كان
داعية متحمسًا للحضارة والاستقلال الاقتصادي وتحرير المرأة، وداعية إلى اتخاذ
القبعة غطاء للرأس بدلًا من الطربوش.
٢٠٦
وقد يبدو التناقض في موقف سلامة موسى في الدعوة إلى الفرعونية والاتجاه إلى الغرب
في آن، إنه كان يريد وصل ما انقطع — بتأثير الغزوات المتعاقبة — ويعتبر الفتح العربي
بعض تلك الغزوات، ومن ثَم يريد وصل ما انقطع بالحضارة المصرية القديمة، ويجد في
«المدنية» الغربية — ذروة التطور الإنساني في العصر الحديث — امتدادًا مناسبًا
للحضارة المصرية، ذروة التطور الإنساني في العصر القديم، فهو إذن لم يكن يضغط على
أوروبية المصريين بقدر ما كان يهدف إلى عناق الحضارة المصرية القديمة، والأخذ
بأساليب المدنية الأوروبية الحديثة في الوقت نفسه. كان انتماؤه — تاريخيًّا
وحضاريًّا — إلى الفرعونية، لكنه كان يلح في أن يكون الانتماء الثقافي المعاصر
لأوروبا، مقابلًا لرفض التراث العربي جميعًا. يقول في كتابه «اليوم والغد»: «إن
وجهتنا الصحيحة هي أوروبا.» نظرة سلفية في التفاتها إلى الماضي، مستقبلية في
استشرافاتها. وقد زاوج سلامة موسى بين دعوته إلى الفرعونية، ودعوته إلى الاتجاه نحو
المدنية الغربية بقوله: «نحن نريد أن نماشي القرن العشرين في مبادئه وأفكاره
وآرائه، ولكننا نريد أن نؤكد وجودنا على هذه الكرة الأرضية، ونطبع بلادنا بطبعها
المصري في السياسة والأدب والفنون والصناعة.»
٢٠٧ وبالطبع، فإن سلامة موسى قد اعتبر الخديو إسماعيل أكبر ثائر في مصر
الحديثة؛ ذلك لأنه حاول أن يجعل مصر الشرقية الآسيوية المستكينة القائمة، أمة غربية
حديثة.
٢٠٨ وحتى لا يتصور القارئ أن اتصال مصر بأوروبا وليد الحملة الفرنسية،
وأعوام الاستقلال التي تلت انسحابها، فإن «المجلة الجديدة» تناولت حقيقة أن مصر لم
تكن في عزلة عن العالم الأوروبي إبان عهود الماليك، وأنها لعبت دورًا مهمًّا في
السياسة العالمية في القرون الوسطى، وكان لنفوذها وسلطانها — في البحر المتوسط
بخاصة — هيئة عظيمة، وكانت كل الدول الأوروبية تطلب ودَّها، وتبعث الرسل طلبًا لذلك،
فقد كان حفظ التوازن الدولي في حوض البحر المتوسط متوقفًا على السياسة
المصرية.
٢٠٩
ثم أنكر سلامة موسى — فيما بعد — الجانب الاستعماري في الحضارة الغربية، وكم بدا
أن سلامة موسى قد غيَّر آراءه ومواقفه، برغم أن ذلك التغيُّر الظاهري كان — في حقيقته
—
توضيحًا لتلك الآراء والمواقف، ومنها ذلك الإنكار لصلة المجتمع المصري بالشرق،
والذي يمكن الادعاء أنه قد فقد مغزاه وسط حماسة غالبة! وأعلن سلامة موسى — في حماسة
غالبة أيضًا: «لست من عشاق هذه الحضارة الغربية، بدليل أنني اشتراكي؛ فهي حضارة
المباراة، والاشتراكية حضارة التعاون، ولكن لأن هذه الحضارة الغربية عدوانية
استعمارية، يجب علينا أن نقاومها بأسلحتها، وأعظم هذه الأسلحة هو العلم والصناعة،
مع اتجاهنا نحو الاشتراكية.»
٢١٠
•••
والواقع أن الاتجاه إلى الغرب لم يتمثَّل في اتجاه واحد، بل تفرَّع منه عدة روافد،
أهمها المدرسة الفكرية التي يغلب عليها الطابع الفرنسي، وكان يمثِّلها هيكل وطه حسين
وعلي عبد الرازق وغيرهم … ثم المدرسة الفكرية التي يغلب عليها الطابع الإنجليزي،
وكان يمثِّلها المازني والعقاد وشكري وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وغيرهم. كان احتلال
إنجلترا لمصر دافعًا بديهيًّا لأن يتجه الوطنيون المصريون نحو فرنسا، باعتبارها
المنافس التقليدي للمحتل كي يناصرهم في طلب الاستقلال؛ أذكِّرك بسياسة مصطفى كامل.
وثمة من عاد بتاريخ مصر الحديثة إلى ٢ يوليو ١٧٩٨م، وهو اليوم الذي أعلن نابليون
فيه — من فوق سفينته الشرق — أنه سيهبط إلى أرض مصر. يقول أندريه ريمون: إن الاحتلال
لم يخلف سوى القليل من الآثار الملموسة، ولم يمارس سوى القليل من التأثير المباشر
على المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية للمصريين، وعلى عدد قليل جدًّا من
المصريين، ويشكِّل الشيخ حسن العطار استثناء واضحًا، وإن لم تُتَح له الفرصة كي يطبق
المؤثرات التي تعرَّض لها إلا بعد ربع قرن من رحيل الفرنسيين.
٢١١ لكن الملاحَظ أن محمد علي — بعد أن رحلت الحملة الفرنسية — لجأ إلى
الفرنسيين ليؤسسوا له دولته الحديثة. وكان الفرنسي شامبليون هو الذي حلَّ رموز اللغة
الهيروغليفية، كما قام الفرنسي مابيت بتأسيس مصلحة الآثار المصرية.، ثم قام الفرنسي
فرديناند ديلسبس بوضع وتنفيذ مشروع قناة السويس.
٢١٢ وقد أثمر توجُّه محمد علي إلى فرنسا، من خلال إيفاد البعثات التعليمية
إليها، واستقدام خبراء فرنسيين لتأسيس المعاهد العلمية، وتدريب الجيش المصري،
وإيجاد الإدارة الحديثة … أثمر ذلك كله طبقة من المتعلمين المصريين، يميلون إلى
الثقافة الفرنسية، وهو الميل الذي وجد امتداده — فيما بعد — في ثقافة البحر المتوسط
التي دعا إليها طه حسين وحسين فوزي وآخرون.
بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر في ١٨٨٢م، كانت سلطات الاحتلال الإنجليزي تسيطر على
إدارات الحكومة والبوليس والجيش، بينما ظلت هيمنة الثقافة الفرنسية على الطبقة
الوسطى الكبيرة، بأنشطتها المختلفة من صحافة وصالونات أدبية.
٢١٣ وأكدت جريدة بلجيكية أن «جميع أفراد الطبقة المتنورة في مصر يتكلمون
اللغة الفرنسية الصحيحة» وأن تسعة أعشار أشرطة السينما الناطقة هي
بالفرنسية.
٢١٤ كانت الفرنسية هي لغة الصالونات والأعمال الأدبية، وفي بورصتَي القاهرة
والإسكندرية، وكانت تذاكر السكك الحديدية وطوابع البريد بالعربية والفرنسية. وفي
عام ١٩٠٨م كانت المدارس الفرنسية تضم ٢٥ ألف تلميذ، يشكِّلون سدس مجموع عدد تلاميذ
المدارس في مصر، بالإضافة إلى حوالي ٢٥٠٠ تلميذ في مدارس غير فرنسية، لكنها تقدم
تعليمًا فرنسيًّا.
٢١٥ وكانت أحاديث الكثير من الأسر المصرية، «الكبيرة» بخاصة، والمتمصرة،
بالفرنسية، تعبيرًا عن المركز الاجتماعي المتقدم … حتى الإنجليز الذين يعملون في
مصر، كانوا يتبادلون مراسلاتهم بالفرنسية رغم ركاكتها. ويشير سعد زغلول في مذكراته
إلى أن أعضاء الوفد المصري في باريس، كانوا ذوي ثقافة فرنسية، بحيث «اضطروا لاستدعاء
مكرم عبيد لمساعدة الوفد في الأعمال التي تحتاج إلى الإنجليزية.»
٢١٦ وينقل روبير سوليه ملاحظة لأحد الزائرين لمصر: «النفوذ الفرنسي في كل
مكان، إنه في الهواء الذي تتنفسه، إنه مثل العطر الذي نستنشقه عند عبور سيدة جميلة.»
٢١٧ وقد أسهمت المحاكم المختلطة في تأكيد النفوذ الفرنسي، فالقوانين
والمرافعات والعقود، كلها بالفرنسية. وكما يقول جاك دومال الذي كان ممثلًا لفرنسا
في القاهرة فترة ما بين الحربين العالميتين، فإن المحامي الحريص على كسب قضية، لم
يكن يستطيع الترافع بلغة أخرى غير الفرنسية.
٢١٨ بل إن جريدة «الإجبشيان جازيت» التي تصدر بالإنجليزية، كانت تطبع نصف
صفحاتها بالفرنسية لتجتذب عددًا أكبر من القراء. أما الصحف الفرنسية، فقد كان عددها
في تزايد: لاريفورم، ليكو دوريان، لوكوييه ديجيبت، لوجورنال دي كير، لا بورس
إجيبسيان، ليه بيراميد، لو بروجريه إجيبسيان … إلخ.
٢١٩ ويرى يحيى حقي أن المزاج المصري لم يكن يحس بالغربة عند اتصاله بفرنسا،
بعكس الحال إذا اتصل بإنجلترا، نتيجة لتقارب التيارات الثقافية بين شعوب البحر
المتوسط. فضلًا عن الأدوار السياسية المهمة التي قام بها بعض كُتاب فرنسا في حياة
بلادهم، وهو ما انعكس في ترجمات الأدباء المصريين عن الإبداع الفرنسي مثل «البؤساء»
التي ترجمها حافظ إبراهيم عن الفرنسية، و«آلام فرتر» التي ترجمها الزيات عن الفرنسية
أيضًا، و«سيرانو دي براجراك»، و«ماجدولين»، وغيرها، مما ترجم المنفلوطي عن الفرنسية،
فعرَّبه. ويذهب الراوي (مذكرات منسية) إلى إن المدرسة الفكرية الفرنسية كان لها
الغلبة في الجو الفكري بكليتنا — الآداب — في البداية. ثم بدأت تظهر مع الوقت ملامح
المدرسة الفكرية الإنجليزية، وكان بين المدرستين صراع خفي مهذب، دفع ثمنه الطلاب
كثيرًا.
٢٢٠
وهنا يفرض السؤال نفسه: إذا كان سلامة موسى قد اختار — من قبل — الدعوة إلى مصر
الفرعونية، فلماذا اختار — من بعد — الدعوة إلى تأريب المجتمع؛ أي جعله أوروبيًّا، ثم
فضَّل — في الخمسينيات — أن تُهمل اللغة العامية، حتى تتأكد فكرة القومية العربية من
خلال اللغة الموحدة؟ وإذا كان هيكل وطه حسين قد ناديا أيضًا — ولفترة — بمصر
الفرعونية … فلماذا أصبحا يمثلان تيارًا يتجه إلى الثقافة الغربية؟ ولماذا ضغط هيكل
على الفرعونية، وهو الذي تبنَّى — فيما بعد — الدعوة إلى مصر الإسلامية، وكتب آلاف
الصفحات تأكيدًا لدعوته؟ ولماذا كتب طه حسين في منتصف الثلاثينيات «مستقبل الثقافة
في مصر» الذي يدعو فيه إلى ثقافة البحر المتوسط؟ والحكيم الذي دعا في «عودة الروح»
إلى لم أشلاء أوزوريس — أسطورة المصريين القدامى — لتعود الروح إلى جسد الأمة
المصرية … ما بواعث تأليفه «عصفور من الشرق» التي تجد في روحانيات الشرق ملاذًا
للإنسانية من الدمار؟ ولماذا كتب «زهرة العمر» تعبيرًا عن رفضه لما يرين على الشرق من
خمود واستكانة واتِّكالية؟ وقد بدأ أحمد زكي باشا — أخلص دعاة القومية العربية — حياته
السياسية بالدعوة إلى القومية المصرية، و«إننا مصريون قبل كل شيء» (١٩٠٨م).
ثم ائتلفت دعوته إلى العروبة، وإلى الرابطة الشرقية، وكان عضوًا في المحفل
الماسوني، ثم أخلص لدعوة القومية العربية، بل لقد خرجت المظاهرات — يومًا — إلى بيت
الأمة، تهتف باستبدال القبعة بالطربوش، وقيام الوحدة العربية في الوقت نفسه. وخرج
سعد إلى المتظاهرين، فطالبهم بالتمسك بالطربوش، ورفض — في الوقت ذاته — فكرة الوحدة
العربية؛ لأن الصفر زائد الصفر يساوي صفرًا.
٢٢١ ونشر سكرتير سعد زغلول صورة خِطاب يرد به على بعض الطلبة: «أتشرف بإبلاغ
حضراتكم أن دولته يعتبر الشعائر والعادات التي عمَّت بين قوم، ورسخت فيهم، وتلقاها
الأبناء عن الآباء، من مقومات القومية وشخصياتها ومنابع نمائها. وما مثل الذين
شعارهم بشعار غيرهم إلا كمثل الذين يتبرءون من أنسابهم، وينتسبون إلى غيرهم، واهمين
أنهم يكسبون شرفًا بهذا الانتساب، ولكنهم لا يكسبون إلا غضب الآباء، وألا ينزلوا
فيكم منزلة الأدعياء.»
٢٢٢
الأسئلة كثيرة، تصدمنا إذا نظرنا إليها من زاوية التضاد، لكنها تبدو أمرًا
منطقيًّا ومقبولًا من زاوية التناقض. كانت القضية هي نشدان تحقيق الذات المصرية،
وتعدَّدت الاتجاهات في كل السبل، وربما كان الفكر الإنجليزي، أو الفرنسي، هو الدافع
لمحاولة إحياء الفرعونية، وربما كانت محاولة الخلاص من الاحتلال عاملًا في التمسك
بالثقافة العربية.
أيًّا كان الأمر، فإن توزع الاتجاهات — حتى للمفكر أو الفنان الواحد — كانت في
حقيقتها تعبيرًا عن أزمة البحث عن الذات.
ونتجاوز هذه الفقرات الاستطرادية.
•••
كانت مصر واقعة تحت الاحتلال البريطاني، لكنها كانت متأثرة بالثقافة الفرنسية منذ
حملة نابليون.
٢٢٣ كان النفوذ الثقافي الفرنسي متغلبًا على النفوذ الثقافي الإنجليزي، رغم
مرور أعوام طويلة على الاحتلال البريطاني، وكان ذلك النفوذ ممثلًا — بصورته الرسمية —
في مصلحة الآثار، والمدارس الفرنسية المتعددة، حتى لقد اعترف اللورد اللنبي في
تقرير له (١٩٢٥م) بغلبة الثقافة الفرنسية على الإنجليزية. وعلى الرغم من محاولات
سلطات الاحتلال إنشاء ركائز تعليمية وثقافية تعتمد على الثقافة الإنجليزية، فإن
الثقافة الفرنسية ظلت — لفترة طويلة — هي الثقافة الأجنبية السائدة. والملاحَظ — كما
أشرنا — أن معظم الأعمال الأدبية التي تُرجِمت في أواخر القرن التاسع عشر، ومطالع
القرن العشرين، كانت لأدباء فرنسيين. ليس السبب — كما يقول يحيى حقي — تقارب التيارات
الثقافية بين الشعوب في حوض البحر المتوسط، ولا لأن بعض كُتاب فرنسا لعبوا أدوارًا
سياسية في حياة بلادهم، وأصبحوا روادًا للحركات التحريرية، لكن السبب — في تقديري —
هو أن فرنسا ذاتها كانت رمزًا للحركات التحررية، ومن ثم أصبح كُتابها قبلة هذا
الرمز. ألم تكن فرنسا — في نظر مصطفى كامل — هي منارة الحرية في العالم؟ وألم يكن
زعماء الحركة الوطنية عمومًا — حتى الأزهري سعد زغلول — أشد تأثرًا بالثقافة
الفرنسية؟
وكما قلنا، فقد كانت الغلبة للمدرسة الفكرية الفرنسية لفترة طويلة، برغم ما يذهب
إليه فتحي رضوان من أن فترة الاحتلال الفرنسي قد انقضت سريعًا، ونُسيَت أحداثها،
وطُمست آثارها، ولم يعُد يتذكرها أحد، ولم تُخرِج أحدًا عن فهمه القديم، أو أسلوب معاشه
المألوف، أو نطاق تفكيره الموروث.
٢٢٤ وهو رأي يحتاج إلى مراجعة شديدة، فضلًا عن غلبة التعميم عليه. فتحي
رضوان ينسب الاتجاه إلى الغرب للاحتلال البريطاني، الذي لم يكن — في تقديره — «مجرد
غاز اقتحم على المصريين دارهم، بل كان نقلة هائلة من مجتمع شرقي كل موارده الثقافية
عربي إسلامي، إلى مجتمع غربي حديث، اقتصر احتكاكه على أبناء الشرق القريب، وأبناء
الغرب القريب: أهل الشام، وأهل المغرب.»
٢٢٥ لقد بدأ تلامس الحضارتين المصرية والغربية بقدوم الحملة الفرنسية، ومع
إنها انقضت سريعًا — على حد تعبير فتحي رضوان — إلا أنها تركت في الحياة الثقافية
والاجتماعية والسياسية المصرية، تأثيرات يصعب التقليل منها، أو إغفالها. ثم امتد
التلامس بالبعثات المصرية التي أوفدها محمد علي وخلفاؤه إلى فرنسا. ونتذكر رفاعة
الطهطاوي، ثم القيادات السياسية والفكرية المصرية، مصطفى كامل، مثلًا، التي أثمرت
رحلاتها إلى فرنسا وعيًا، ما لبث أن انعكست آثاره في الحياة المصرية. وفي أوائل
الخمسينيات، قال ناجي (رجل يشتري الحب) لصاحبه: «تذكر جيدًا أنه مضى ثمانون سنة منذ
قال إسماعيل إن مصر قطعة من أوروبا.»
٢٢٦
•••
صدر في ١٨٩٥م قرار بإلغاء البعثات العلمية إلى فرنسا، وفي ١٨٩٧م أصبحت جميع المواد
في المدارس تدرَّس باللغة الإنجليزية، ثم أنشئ في ١٨٩٩م قسم إنجليزي بمدرسة الحقوق،
وكانت الفرنسية لغة التعليم حتى ذلك الوقت. وظل القسم الإنجليزي ينمو على حساب
القسم الفرنسي، حتى بُدئ في إلغاء القسم الأخير منذ ١٩١٥م. واستطاع الإنجليز أيضًا
أن يفرضوا الإنجليزية لغة رسمية في المحاكم المختلطة في ١٧ أبريل ١٩٠٥م، لكن
الفرنسية ظلت هي اللغة المسيطرة على أعمال المحاكم المختلطة حتى إلغاء تلك
المحاكم.
٢٢٧ كما ظلَّت اللغة الفرنسية بين الكثير من العائلات والأسر أشبه بلغة قومية
ثانية.
٢٢٨ وقد لاحظ محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) في الحفل الخيري الذي
أقامته السيدة نيروز أن غالبية الحاضرات يتكلمن الفرنسية «كأن الفرنسية لغة الدار
الرسمية.»
٢٢٩
وحين بدأت ملامح المدرسة الفكرية الإنجليزية تتضح شيئًا فشيئًا، تمايز الصراع
بالتالي، وإن اتخذ في البداية أسلوبًا هادئًا، يعتمد على المقارنة العلمية
والإقناع، ثم تجاوز الصراع نفسه — فيما بعد — إلى معارك ومساجلات حادة، وصاخبة. يقول
محمد عبد الله عنان: «كان تيار الثقافة الفرنسية هو الظافر في أواخر القرن الماضي،
وكان يغمر المجتمع المصري المثقف، فلما رسمت سياسة الاحتلال الإنجليزي خطط الغزو
المعنوي، اهتمت بنظم التربية والتعليم، بما يوطد نفوذ الثقافة الإنجليزية، ويطبع
الجيل الجديد بها، فقلبت نظم التعليم، وحلَّت الإنجليزية محل الفرنسية في معظم
المواد، وتولى الأساتذة الإنجليز مقاليد الإدارة والتعليم في بعض المعاهد، وتحوَّل
سبيل البعثات الحكومية من فرنسا إلى إنجلترا، ولم يمض ربع قرن، حتى خرج الجيل
الجديد يحمل تيار الثقافة الإنجليزية، وتضاءل نفوذ الثقافة الفرنسية، وكان هذا
الصراع بين الثقافتين الأجنبيتين، على حساب لغتنا العربية وثقافتنا القومية.»
أما من حيث المستويات الثقافية القيادية، فقد واجهت الدعوة إلى «التغريب» هجومًا
ضاريًا، ورافضًا، من خلال بعض الأنشطة الاجتماعية والإعلامية، بدءًا بتكوين
الجمعيات والهيئات التي تنادي بمضامين قومية، وشارك فيها قيادات من كل أقطار الوطن
العربي، إلى إصدار الصحف التي تُعنى — أساسًا — بالقضايا العربية، والكشف عن الضياع
الذي يحياه الفرد الأوروبي في فترة ما بين الحربين. وعلى سبيل المثال، كتب
المنفلوطي في «النظرات» يهاجم الدعوة إلى «التغريب»؛ ذلك لأننا «إن دعوناهم إلى
الحضارة، فلنضرب لهم مثلًا بحضارة بغداد وقرطبة وطيبة وفينيقية، لا باريس وروما
ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة، فلنتلُ عليهم آيات الكتب المنزلة، وأقوال أنبياء
الشرق وحكمائه، لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب، ففي تاريخ
خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ
نابليون وولندتون ونلسون وبلوخر … إلخ.» وأدان المنفلوطي أوروبا بأنها «تقف وراء ضياع
الشباب المصري إذا ما حاكاها في تقاليدها وأنماط الحياة في مجتمعها.» وقد عبَّر عن
ذلك في وصفه لبطل قصته «الحجاب» بأنه ذهب إلى أوروبا «بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها،
وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت ليلة ماطرة.» وقد ربط البعض بين كتابَي طه حسين
«في الشعر الجاهلي» وعلي عبد الرازق «الخلافة في الإسلام»، وبين المؤثرات الغربية
التي تبدَّت في التكوين الثقافي للمجتمع المصري. لذلك كانت ضراوة الهجوم الذي نال به
«التقليديون» من الكاتبين والكتابين، إلى حد اتهام طه حسين بالزندقة، وعلي عبد
الرازق باقتباس آراء المسيحيين لطعن الإسلام. أما سيد قطب، فقد عارض تقسيم العالم
إلى شرق وغرب، شرق تمثله الصين واليابان والهند وإندونيسيا وغيرها من أقطار الشرق
البعيد، وغرب تمثله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إنه تقسيم يبين عن ضعفه
إذا كان الشرق غير الشرق الذي عناه طه حسين، وهو الشرق العربي والمغرب العربي، ومصر
التي تمثل بينهما حلقة اتصال.
٢٣٠
الرابطة الشرقية
يتحدث الفنان (ستعيش مائة عام) عن المترددين على بيت الساحر الشيخ في الجمالية،
أنهم «عصبة أمم شرقية»؛ ثمة الشامي والمكاوي — نسبة إلى مكة — والجاوي، أي من
إندونيسيا.
٢٣١ وبعد أن تكوَّنت — في مارس ١٩٢٢م — جمعية الرابطة الشرقية، التي حددت
أهدافها في توثيق روابط التعارف والتضامن بين أمم الشرق على اختلاف أجناسها
وأديانها.
٢٣٢ ويروي محمد حسين هيكل في مذكراته أنه رفض عرضًا من منصور فهمي بأن ينضم
إلى جماعة اتخذت لنفسها اسم «الرابطة الشرقية»، واعتذر هيكل عن عدم الموافقة بأنه يرى
من التفاوت بين مصر وغيرها من بلدان الشرق في الثقافة واللغة والمقومات الوطنية، ما
قد يصرف المصريين عن تركيز الجهود في قضية وطنهم «وبذلك يضيع جهد ما أحوج مصر إليه.»
٢٣٣ فلما اتجهت تركيا إلى المدنية الأوروبية، مقابلًا لانعزالها عن العالم
العربي، توضَّحت المصالح والمصائر المشتركة لأقطار العالم العربي، أثناء الحرب
العالمية الأولى، وبعدها. ثم أخذت المشكلة الفلسطينية ملامحها الخطيرة، وإن حملت
إيجابية وحيدة هي إدراك الأقطار العربية للخطر الاستعماري الذي يتهدد شعبًا واحدًا،
يحيا في منطقة واحدة، وأصبحت الرابطة العربية، أو القومية العربية، هي الحقيقة
الوحيدة، المحددة، وبتعبيرٍ أكثر دقة، فقد تحدد انتماء مصر — قوميًّا — إلى المنطقة
العربية، والتي تنتمي — بدورها — إلى الشرق من حيث التاريخ والامتداد الحضاري.
وارتكازًا إلى ذلك الانتماء، تحددت عملية «تأكيد» الذات المصرية، في استرداد
الأصالة، واكتساب المعاصرة.
•••
كانت الدعوة إلى ضرورة الاتصال بثقافة الغرب، ورفض التراث العربي، سبيلًا لمحاولة
تأكيد الشخصية المصرية، التي وجدت إرهاصاتها في الثورة العرابية، وما تلا ذلك من
تطورات اجتماعية وسياسية، ثم في كتابات لطفي السيد، ودعوة مصر للمصريين، وثورة ١٩.
ثم كانت حتمية الصراع بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، توصلًا لجذور الثقافة
المصرية، التي تنبت أدبًا مصريًّا، يكشف الشخصية المصرية، ويعبِّر عنها. بل إن إيمان
الدكتور حسين فوزي «بكل ما هو غربي» لم يكن على إطلاقه، بقدر ما كان مشروطًا بأن
نأخذ أفضل ما في الغرب، ونترك أسوأه «إذا أريد لتلك الحضارة الأجنبية أن تؤتي
ثمارها الثقافية، ولكننا أُلبسنا الحضارة الغربية كما يُلبَس قميص المجانين، أُقحمت
علينا من علٍ في شكلها المادي، وفي جبروت أهلها، وشهوة أطمعتهم البشعة.» الرأي نفسه
يذهب إليه محمد مندور؛ في أن ما قُدِّم إلينا — في أوائل القرن — من الحضارة الغربية،
لم
يكن إلا قشورًا مزيفة، بدءًا بموضات الأزياء، إلى تعاطي المشروبات الروحية،
مرورًا بألعاب القمار والتفسخ الأسري والإلحاد والخروج — بلا سبب — عن التقاليد
والعادات الموروثة. وكان ذلك كله — كما يقول مندور — سببًا «في محاربة المحافظين
للحضارة الغربية، دون تمييز بين النافع والضار.» وزاد الحكيم، فأكد انه إذا كان من
الخير لمحسن — بطل «عودة الروح» و«عصفور من الشرق» — أن ينقب، كما نقب عن منبع ميراثه
الثقافي والروحي في رواسب الآلاف من السنين الكامنة في ضمير مصر، ريفها وأهلها
الصادقين، ولكن دون أن يذهب إلى ذلك التقديس للماضي، إلى الحد الذي يجعله يعرض روحه
دون تلقي كل جديد ينفعه، من كل منبع، ومن كل ميراث؛ ليثري نفسه، ويوسع أفقه،
٢٣٤ إذا كان ذلك هو الدرب الصحيح الذي تحدد لمحسن أن يلتزم بالسير فيه،
فثمة نور في الشرق يجدر بالغرب — في المقابل — أن يهتدي به «نحن نعرف أنه الآن في
شبابه المضطرب، ونشاطه المتقد، لا يمكن أن يتريث ليبحث عندنا عن معونة … ولكن غدًا،
عندما يقعده الكِبر، وتذله الهزيمة، ويذهب عنه الغرور، ربما وقف لحظة وتلفَّت حوله
يلتمس الهداية، فلن يجد له عندئذٍ من هادٍ غير الشرق، مهبط الحكمة، ومنبع
النور.»
٢٣٥
واللافت أن المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جابريللي قد وجد في هذه الالتفاتة
المفاجئة نحو الغرب — والتعبير للكاتب — مقبولة، إذا كنا نتحدث عن العصر الهيليني، أما
إذا كان الحديث عن مصر الفرعونية، أو مصر الفاطمية، أو مصر المملوكية، فإننا لا
نستطيع أن نغمض أعيننا عن جميع جوانب الارتباط بينها وبين الشرق الأوسط، بينها وبين
بلاد ما بين النهرين على عهد البابليين، وبينها وبين بلاد العرب على عهد النبي
محمد، وبينها وبين فارس على عهد العباسيين.
٢٣٦
والحق أن «التغريب» ظل — لفترة طويلة — وقفًا على فئة صغيرة من المثقفين، ونتج عنه
هُوة عميقة بين المتأثرين بالحضارة الغربية، وبين غالبية جماهير الشعب من الفلاحين
والعمال والطبقة الوسطى الصغيرة، ولم يُحدث أثرًا ذا بال. ظلت الفوارق الحادة بين
الريف والحضر على ما هي عليه، وبقيت المرأة أسيرة التقاليد، ولم تحدث الثورة
الشكلية أو المضمونية المطلوبة في الأعمال الأدبية والفنية. ولعلنا نذكر تلك
المناقشات المثيرة، التي كانت تشهدها قهوة خان الخليلي إبان الحرب العالمية
الثانية، أي بعد ظهور نظرية أصل الأنواع بعشرات الأعوام، بين أحمد أفندي عاكف
والأستاذ أحمد راشد المحامي.
٢٣٧ ولعل قيمة الآراء التي قال بها أحمد راشد — دحضًا لأفكار أحمد عاكف،
التي تحيا في متحف الأدب القديم، وغيبوبة السحر والتنجيم والأساطير — أنها ترددت على
مقربة من الحسين، وبين جنبات الحي الذي يزخر بعشرات المساجد، وآلاف العلماء
والمشايخ والمتصوفة والمتفقهين.
•••
الحقيقة التاريخية تذهب إلى أن دول الاستعمار الأوروبي حالت دون بعث دولة شرقية
قوية بقيادة محمد علي، على أنقاض الإمبراطورية العثمانية الغاربة، حتى لا تقف تلك
الدولة سدًّا ضد الأطماع الأوروبية في أقاليم دولة الخلافة. ويقول عثمان أمين: «لم
تكن الجامعة التي كانت تنشدها العروة الوثقي في أواخر القرن الماضي، هي الجامعة
الإسلامية، كما توهم بعض الكتاب الغربيين، إنما هي «الجامعة الشرقية»، وهي — في
نظرنا — جامعة المستقبل، ونحسب أننا سائرون اليوم في طريقها سيرًا حثيثًا، والفضل في
ذلك ليقظة أهل الوعي من أحرارنا الثائرين.»
٢٣٨
كان رأي عبد الله النديم أن الجامعة الشرقية هي المخرج الحاسم للصراع بين أنصار
الجامعة الإسلامية وأعدائها. الجامعة الشرقية — في تقدير النديم — هي التي تحفظ
الوحدة الشرقية من عرب وعجم وترك وجركس وكرد وأرمن وقوميات وديانات أخرى. من هنا
جاءت دعوة النديم بأن تقوم الوحدة بين شعوب الشرق جميعًا، وليس بين مسلمي الشرق فقط،
انطلاقًا من أن الخطر الاستعماري الأوروبي لا يهدد المسلمين في الشرق وحدهم، وإنما
يهدد شعوب الشرق كلها، بصرف النظر عن اختلاف الديانات.
وكانت «الشرقية» هي التعبير عن «العروبة» في العشرينيات، وكانت الصحف المصرية
تخصص إحدى صفحاتها للقضايا العربية باسم «الصفحة الشرقية». وقد أنشئت جمعية الرابطة
الشرقية في ١٩٢٢م برئاسة السيد عبد الحميد البكري شيخ الطرق الصوفية وسكرتارية أحمد
زكي باشا وعضوية شخصيات من جنسيات مختلفة، وإن انتمت جميعها إلى منطقة الشرق، فثمة
المصري والسوري والعراقي والتركي والفارسي … إلخ.
٢٣٩ ووضعت الجمعية لنفسها قانونًا ولائحة، حددت فيهما أهدافها بأنها «نشر
المعارف والآداب والفنون الشرقية وتعميمها، وتوسيع نطاق، وتوثيق روابط التعارف
والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها.» وتتوسل الجمعية إلى تحقيق
أهدافها بالوسائل العلمية والاقتصادية، وتبثُّ دعوتها بالقلم واللسان، وتنشر ما ترى
فيه المصلحة بأية لغة تراها. ونفت الرابطة صلتها بالسياسة، فلا شأن لها بها «من أي
النواحي أتيتها»، وليس من أغراض الرابطة تكوين وحدة سياسية في الشرق من نوع ما سعى
له السيد جمال الدين الأفغاني، وقضى شهيدًا معذبًا في سبيله، ولا تريد الرابطة أن
تكون لها صلة بالحركات السياسية التي تهب أعاصيرها في أقطار الشرق.
٢٤٠
وقد أصدرت الرابطة مجلة بالاسم نفسه، لتكون — كما قال سلامة موسى — «لسانًا
للشرقيين جميعًا، لا تفرق بين أديانهم.» ومع أن نشاط الجمعية اقتصر على الجوانب
العلمية والأدبية والاجتماعية، فإن المعارك السياسية التي تدخلت الجمعية لإنهائها،
وجدت نهاية طيبة بالفعل.
وقد أنشأت الرابطة مركز دراسة ونشر كل ما يخدم الثقافة الشرقية، ويحقق بين أمم
الشرق معنى التعارف الفكري، والتعاون على وجوه الإصلاح الاجتماعي.
٢٤١ لكن الرابطة لم تقدِّم نشاطًا فعليًّا حوالي ثلاث سنوات «نزولًا على حكم
الظروف التي اجتازتها البلاد المصرية، وهي ظروف عصفت فيها الفتن، فثبطت جهود الخير،
بل كادت تنسفها نسفًا.»
٢٤٢ ثم بدأت الرابطة نشاطًا ملموسًا منذ الجمعة ٩ يناير ١٩٢٥م، حين افتتحت
مقرًّا جديدًا لها في «دار السادة البكرية». وأعلن أعضاؤها أنه قد آن لجمعيتهم أن
تبرز في ميدان العمل الجدي.
٢٤٣ واستطاعت الجمعية أن تمد نشاطها إلى كل الأقطار الشرقية، وإلى
الأمريكتين، وانضم إلى عضويتها شخصيات مهمة مثل الندوي وطاغور وأمير علي ونهرو
والملك فيصل والأمير سعود — الملك فيما بعد — وأمين الحسيني وإسعاف النشاشيبي وغيرهم.
وقد انتاب الجمعية — بتوالي الأعوام — ضعف تدريجي، نتيجة لابتعاد تركيا عنها، ولتوضح
الفوارق بين الشخصيات الوطنية، والإقليمية، لكل بلد، ولخروج عدد كبير من شخصياتها
القيادية، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بعد أن أضافت فصلًا مهمًّا في رحلة بحث الشخصية
المصرية عن الذات.
•••
وتُعد «قنديل أم هاشم» تعبيرًا صادقًا عن تلك المرحلة التي تحتمت فيها المواجهة —
في
الحياة الثقافية المصرية — بين مادية الغرب وروحانية الشرق. ولعل قيمتها الأولى أنها
تأخذ موقفًا وسطًا بين كل التيارات التي كانت تموج آنذاك، بل إنها تزيد، فتأخذ
موقفًا مناقضًا للأعمال الأدبية التي صدرت تعبيرًا عن تلك المواجهة. فالآراء التي
تنبض بها «عصفور من الشرق» — على سبيل المثال — تحمل الكثير من الحماسة أكثر مما تحمل
من الإقناع، والقضايا البالغة الخطورة يناقشها الفنان بأسلوبٍ تغلب عليه الوجدانية،
والصراع بين مادية الغرب وروحانية الشرق لا يعدو خطرات ذهنية، ونظريات مجردة. أما
«القنديل» فهو يعبِّر عن هذا الصراع في حياة كاملة من اللحم والدم والخلجات النفسية
والإيماءات والانفعالات. لقد التقط يحيى حقي طرف الخيط الذي أورده المويلحي على
لسان الحكيم الفرنسي في «حديث عيسى بن هشام» عندما قال — موجهًا كلامه إلى الباشا،
وإلى عيسى، وإلى مصر، والشرق كله: «لهذه المدنية الكثير من المساوئ، فلا تغمطوها
حقها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم، واتركوا ما يضركم، واعملوا على
الاستفادة من جليل صناعتها وعظيم آلاتها، واتخذوا منها قوة تصد عنكم أذى الطامعين
وشره المستعمرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسَّكوا بفضائل
أخلاقكم.»
٢٤٤
والحق أن عودة إسماعيل إلى مصر، متشوقًا إلى المعركة الأولى «فإذا هو كاتب في
الصحف، أو خطيب في أحد المجتمعات، يشرح للجمهور آراءه ومعتقداته.»
٢٤٥ هي أقرب إلى عودة رفاعة الطهطاوي وحسين فوزي والسوربوني وطه حسين
والحكيم ويحيى حقي نفسه، وكل الرجال المشاعل الذين بصَّرتهم الحياة في أوروبا على
الواقع المؤلم الذي يحياه المصريون، ومن ثَم فقد عاهدوا أنفسهم على أن يمارسوا
نضالًا طويلًا للقضاء على البالي من الخرافات والأوهام والعادات. لكن الاختلاف في
النفسية كان هو الباعث لأن يجد الطهطاوي أرضًا رخوة لأفكاره، بينما رفضت التربة
نفسها أن تستجيب إلى محاولات إسماعيل؛ ذلك لأن رفاعة كان يحاول بذر كلماته بتعاطف
وحب وتفهم للظروف المحيطة. أما إسماعيل فإنه لم يحاول حتى أن يبحث لوالديه عن هدية
مناسبة في أوروبا، وقال لنفسه: ماذا في أوروبا كلها يصلح لأبي وأمي؟ وأضمر
الاعتذار عن خطبة قريبته فاطمة النبوية «وأطل من النافذة، فرأى أمامه ريفًا يجري
كأنما اكتسحته عاصفة من الرمل، فهو مهدَّم معفر متخرب، الباعة على المحطات في ثياب
ممزقة، تلهث كالحيوان المطارَد، وتتصبب عرقًا.»
٢٤٦ بل إنه في اللحظة التي كان يجب على إسماعيل أن ينشغل بسعادة العودة إلى
أحضان والديه، عن القياس والمقارنة والنقد، لم يملك نفسه عن التساؤل: كيف يستطيع
الحياة والراحة في هذه الدار؟!
٢٤٧ ولا يخلو من دلالة قول إسماعيل لفاطمة: «وفوق ذلك، سأعلِّمك كيف تأكلين
وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، وسأجعلك من بني آدم.» فهو قد ثار على بيئته، وحتى
على أقرب المقربين إليه، بحيث لم يعُد يرى في أفكارهم ولا تصرفاتهم ما يدل على
الآدمية. وبالطبع، فإن اختلاف شخصية كل من المصلح الاجتماعي والرافض، كان هو الباعث
في اختلاف التصرفات والنتائج.
وربما تُعَد «قنديل أم هاشم» — في القراءة الأولى — حضًّا على هجر الحضارة الغربية،
والردة على الغيبيات … لكن المغزى الشمولي الذي تهدف إليه، هو نبذ الغرب بعد معرفته،
ومن ثَم بعث الثقة المتزايدة في النفس المصرية. لقد غشي الانبهار عينَي إسماعيل
تمامًا، ثم بدأ رحاب السيدة زينب — وطنه وناسه — يعيده إليه شيئًا فشيئًا. وأدرك
إسماعيل — متأخرًا — أنه لا يستطيع قبول الحضارة الغربية على علاتها، كما لا يستطيع
رفض واقع بلاده على إطلاقه، وإنما التوافق بين ما يرغب في تحقيقه، وبين الواقع، هو
أفضل السُّبل جميعًا، وفتح قلبه من جديد للناس والأشياء، ووقف في الميدان الفسيح،
يخاطب المارة بنظراته الحانية المشفقة: تعالوا جميعًا إليَّ! فيكم من آذاني ومن
كذب عليَّ، ومن غشَّني … ولكن رغم هذا، لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم
وانحطاطكم، فأنتم مني وأنا منكم، أنا ابن هذا الحي، أنا ابن هذا الميدان. لقد جار
عليكم الزمان، وكلما جار واستبد، كان إعزازي لكم أقوى وأشد. وأدرك إسماعيل — في
الوقت نفسه — أن فشله في علاج فاطمة النبوية، مرده إيمانها المؤكد بأن شفاء عينيها
لن يحققه سوى زيت القنديل، فأتى بالزيت، ووضعه إلى جانبه، دون أن يفكر في الاستعانة
به، إنما هو وسيلة للتعبير عن إيمانه بما يؤمن الناس به؛ ثم مارس علاجه الطبي
العلمي، بعد ضمانه لاطمئنان المريض، وقبوله لعلاجه. وربما يبدو هذا الأسلوب — كما
فسَّره بعض النقاد — إعلانًا من إسماعيل بعجزه واستسلامه التام للخرافة. لكن ما فعله
إسماعيل يدحض هذا التفسير؛ فهو قد أعد لفاطمة النبوية برنامجًا كاملًا، تصبح في
نهايته «من بني آدم» كما قال بالحرف الواحد. ثم أنه افتتح عيادة في البغالة، يعالج
فيها مرضى العيون من الفقراء لقاء قرش واحد، دون أن يلجأ إلى غير العلم وسيلة يعالج
بها مرضاه. أدرك أن الانفصال الذي يسعى إليه، ليس سوى اتصال عميق بناسه ومجتمعه،
ويأتيه الجواب حاسمًا ومحددًا: لقد حاولت أن تبقى أنت، وتلغي من الوجود سائر الناس،
حاولت أن تنفصل، وأنت لا تملك إلا الاتصال! وباختصار، فإن ما أقدم عليه الدكتور
إسماعيل هو تأكيد لدور العلم، مع الاحتفاء بكل ما تنبض به قلوب الناس من مشاعر
مؤمنة.
ولعلنا نجد في «قنديل أم هاشم» — المكان والشخصيات، والأحداث أيضًا — ما يذكِّرنا
برواية «غادة حمانا» لمحمود طاهر حقي (عم يحيى حقي) ففي أحد بيوت السيدة زينب، كان
حمدي يسأل فاطمة: كيف صحة نينتك؟ قالت: الحمد لله من يوم أن استشفت بدواء الشيخ
محمد. قال في تهكم: وماذا ترى أعطاها سيدنا الشيخ محمد حتى شفيت من مرضها؟ فطنت
فاطمة إلى ما في سؤاله، فقالت بحدَّة: أهو أنتم كده يا أفندية يا أولاد المدارس، لا
تصدقون غير الحكماء (الأطباء)، والله العظيم ده سره باتع ويعرف كل شيء.
٢٤٨
•••
والسؤال هو: كيف عبَّر يحيى حقي عن ذلك التحول الثلاثي، ما بين قبول حياة الأهل،
والرضاء بها، ثم السفر إلى الغرب والانبهار بحضارته، ثم اللواذ بحياة الأهل للمرة
الثانية؟
في الصفحات الأولى من القصة — ليست رواية! — يقف بنا الفنان عند مظاهر الحياة في
ميدان السيدة زينب: «أشباح الميدان الحزينة المتعبة، يحركها الآن نوع من البهجة
والمرح، ليس في الدنيا هَمٌّ، والمستقبل بيد الله، تتقارب الوجوه بودٍّ، وينسى الوجيع
شكايته، ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكوتشينة، وليكن ما يكون: تقل أصوات
اصطدام كفف الموازين، وتختفي عربات اليد، وتطفأ الشموع داخل المشنات، عندئذٍ تنتهي
جولة إسماعيل في الميدان. هو خبير بكل ركن وشبر وحجر، لا يفاجئه نداء بائع، ولا
ينبههم عليه مكانه، تلفُّه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط، صور متكررة
متشابهة اعتادها فلا تجد في روحه أقل مجاوبة، لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا
الغضب، إنه ليس منفصلًا عن الجمع حتى تتبيَّنه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا
يفطن له من الأصوات، وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح، لها كلها مقدرة
عجيبة على التسلل إلى القلب، والنفوذ إليه خفية، والاستقرار فيه، والرسوب في
أعماقه، فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأية حياة، نظرة سليمة،
كل عملها أن تبصر.»
٢٤٩
نبض هذه الكلمات تعاطف وحب، يذكِّرنا بما قاله يحيى حقي، تعبيرًا عن حنينه الجارف،
أثناء إقامته الطويلة في أوروبا، لأحيائنا الشعبية «لهذه الجموع الغفيرة من
المساكين والغلابة الذين يعيشون رزق يوم بيوم.»
٢٥٠ ويتغير نبض الكلمات، بعد عودة الدكتور إسماعيل من أوروبا، فهو قد عاد
بعد أن تعلَّم أشياء عديدة إلى جانب طب العيون. لم يكن الحس وحده سُدى العلاقة بين
ماري وإسماعيل؛ فحين وهبته نفسها، كانت هي التي — على حد تعبير الراوي — فضَّت براءته
العذراء، لكنها — في الوقت نفسه — أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق، وفتحت
آفاقًا لا تُحد، وعوالم لا حصر لها، في الفن، وفي الطبيعة، وفي الروح الإنسانية
أيضًا، بل لقد ساعدته على اكتمال شخصيته إلى حد التخلص من سيطرتها هي عليه، والجلوس
إليها جلسة الزميل إلى زميله. لكن إسماعيل تعلَّم من ماري كذلك أن العطف ضعف، والحب
قيد، والحياة محاولة. وهو قد نال منها كل ما يبتغيه رجل في بساطة ويسر، كأنه تصفح
أحد الكتب. وهو قد أخضع فكره لتأثيراتها، فاستحالت كل إفاداته الوجدانية والروحية
إبان جواره للمقام إلى عبثٍ وقبض ريح. تهدمت كل قِيَمه ومُثُله ومعتقداته وأصبحت
أطلالًا. وباختصار، فهو قد عاد إنسانًا جديدًا يرفض كل قِيَم الشرق وتقاليده، ويعتز
بالعلم والتمدن، وينفر من الخرافة والجهل والرضا بالواقع: «أشرف على الميدان، فإذا
به يموج — كدأبه — بخلقٍ غفيرٍ ضُربَت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست
هذه
كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد، هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب
الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب
الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى
إلا آثار استغراق في النوم، كأنهم جميعًا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى
إنساني. هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عارٍ حافٍ، بوله دم، وبرازه ديدان.
يتلقَّى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر؟ قطعة مبرطشة
من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى
قوائمه قطيع من الجاموس نحيل. يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول وحَب العزيز ونبوت
الغفير والهريسة والسمبوسكة، بمليم الواحدة. في جنباته مقاهٍ كثيرة على الرصيف بجوار
الجدران، قوامها موقد وإبريق وجوزة. أجساد لم تعرف الماء سنين، الصابون عندها
والعنقاء سواء. تمر أمامه فتاة مزجَّجة الحواجب، مكحلة العينين، شدت ملاءتها لتبرز
عجيزتها وطرف ثوبها، وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها، وما معنى هذه القصبة التي تضعها
على أنفها؟ أف! ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه! سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها
كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثى! هنا جمود يقتل كل تقدُّم، وعدم لا معنى فيه
للزمن، وخيالات المخدر، وأحلام النائم والشمس طالعة.»
٢٥١
ومثلما تغيَّرت عقلية إسماعيل في أثناء بعثته الدراسية، فقد تغيَّرت عقلية الصحفي
ضياء (رأس الشيطان) في أثناء دراسته للقانون في العاصمة الفرنسية. وعاد إسماعيل إلى
السيدة زينب ليحاول القضاء على الموروثات البالية، وعاد ضياء ليندد بالخونة وأذناب
الاستعمار، ويطالب بالتغيير.
٢٥٢ وفي الحقيقة أن ذلك الشعور بالانفصال الذي عمَّقته ماري في نفس إسماعيل،
لم يكن — كما يقول علي الراعي بحق — سوى شعور بالاتصال «الاتصال بأهله وبني وطنه
وبلاده. كان وهو في مصر يشعر بأنه ذرة اندمجت وسط الرمال. أما الآن، فهو حلقة في
سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطًا إلى وطنه. وقال لنفسه: قد علَّمتني ماري أن أستقل
بنفسي، ولكنها في الحق لم تزد على أن بصَّرته بنفسه، وأثارت وعيه بمكانه من وطنه،
ومكان وطنه منه، ومكانهما معًا من العالم. غيَّرت ماري من طبيعة حبه لبلاده؛ فجعلت
هذا الحب واعيًا عالمًا، بعد أن كان غريرًا.»
٢٥٣
لقد فكر بالفعل في أن يفر من واقع مجتمعه المتخلف بالعودة إلى أوروبا، لكنه أشفق
على وطنه أن يتركه وهو غارق في الجهالة والتخلف. ثم قرر أن يظل في مصر، على أن يؤثِر
الابتعاد عن أهله ومجتمعه، ويكتفي بالعيش مع الجاليات الأجنبية، ثم اتضح له زيف هذه
الجاليات، وأنها «من طينة أخرى غير التي رآها في أوروبا.» ولم يعُد الانبهار هو
التعبير الوحيد عن موقف إسماعيل؛ فقد بدأ يعقد مقارنات بين تلك الحضارة التي أسرت
عقله لفترة طويلة، وبين واقع بلاده. في أوروبا «أبنية ضخمة جميلة، وفن راقٍ، وأناس
وحيدون فرادى، وقتال بالأظافر والأنياب، وطعن من الخلف، واستغلال بكل الوسائل، مكان
الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل. وفي مصر — على كثرة ما بها من شرور — ميزات متعددة،
شعب عريق متماسك، وأرض صلبة، ووصول فيه طمأنينة وسكينة، والسلاح مُغمد.»
٢٥٤ حتى مدام أفتاليا، صاحبة البنسيون اليونانية، كانت صورة للحضارة
الأوروبية خارج ديارها، فهي تستغله منذ اليوم الأول لإقامته عندها، وتحاسبه على كل
شيء، وتطالبه بأن يقتصد في كل شيء. إنها الاستعمار والامتيازات الأجنبية واستلاب
ثروات الشعوب. وقال إسماعيل لنفسه: إن الإفرنج في مصر من طينة أخرى غير التي رآها
في أوروبا.
وفي الصفحات الأخيرة، يتغيَّر نبض الكلمات للمرة الثالثة، فلم تكن روح الشرق ضعيفة
—
كما تصور إسماعيل. — لقد ردَّته إليها، واستنقذته من الجفاف الروحي. حاول أن يشفي فاطمة
بالعلم، فأصيبت بالعمى، وحطم قنديل أم هاشم، فانهالت عليه الجماهير بضرباتها
ولكماتها حتى أفقدته النطق، وكادت تقضي عليه تمامًا، لولا أن أنقذه الشيخ درديري
خادم الضريح، وخرج شريدًا من الحي كله إلى بنسيون امرأة يونانية، تبدَّى فيه وجه
أوروبا المادي الطامع الشَّره الناضب العطف والضمير. ثم عاد — بعد فترة قصيرة تمزقت
فيها روحه تمامًا — إلى ميدان أم هاشم. عاد بعد المعركة العنيفة التي قاساها في
عودته، كالمعركة التي قاساها في ذهابه، عاد في ليلة القدر: «ابتدأ يطيل وقفته»
وتريَّثت نظرته على الجموع فاحتملتها، وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل
إلى سمعه، فتذكِّره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه. ما يظن أن هناك شعبًا
كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلُّب الحوادث وتغيُّر الحاكمين. اطمأنت نفس
إسماعيل وهو يشعر أن تحت أقدامه أرضًا صلبة. ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى، بل شعب
يربطه رباطٌ واحد: هو نوع من الإيمان، ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره،
وعندئذٍ بدأت تنطق له الوجوه من جديدٍ بمعانٍ لم يكن يراها من قبل. هنا وصول فيه
طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد، وهناك نشاط في قلق وحيرة، وجلاد لا يزال على أشده
والسلاح مسنون، ولم المقارنة؟ إن المحب لا يقيس ولا يقارن، وإذا دخلت المقارنة من
الباب، ولَّى الحب من النافذة.
٢٥٥
وضح كل شيء إذن، ولم تعُد الثورة التي واجه بها مجتمع السيدة زينب بعد عودته، سوى
تعبير عن إيمان متبصِّر بذلك المجتمع، بدلًا من الإيمان الأعمى الذي كان ينبض به
وجدانه. إنه يهمس لنفسه وهو يتهيأ لاستقبال الوطن: «مصر عروس الغابة، لمستها يد
ساحرة خبيثة بعصاها، فنامت. عليها الحُلي وزواق ليلة الدخلة. لا رعى الله عينًا لم
ترَ جمالها، ولا أنفًا لا يشم عطرها. متى تستيقظ؟ متى؟ فهو إذن ليس كارهًا لبني
وطنه بقدر ما هو مشفق عليهم من تلك الجهالة التي يحيون أسارى لها. واتخذ ذلك
الإشفاق صورة الثورة، وكان التعبير عن الثورة خاطئًا. قذف بزجاجة زيت القنديل إلى
الشارع، وزاد فحطم القنديل بعصا أبيه، فجعل نفسه — دون أن يدري — عدوًّا لأقرب الناس
إليه، والدته التي تؤثِر الابتعاد عن الوحيد العائد، وأبيه الذي أعلن سخطه واحتجاجه
على زندقة الطبيب الكافر، ثم فاطمة النبوية التي تفاقمت حالة عينيها؛ لأنها تؤمن
بزيت القنديل، ولا تؤمن بذلك العلم الحديث الذي أتى به قريبها من أوروبا، ثم
الجماهير التي أنقذه من بين أيديها الشيخ درديري خادم الضريح. لقد حرَّم الله الخمر
على دفعات، أما الدكتور إسماعيل فإنه لم يشغله إيمان الناس الجارف ببركات الست أم
هاشم، وأصر على أن يحطم كل شيء في ليلة قدومه الأولى؛ قذف بزجاجة القنديل من
النافذة، وحاول تحطيم القنديل، فبادل الأهالي رفضه برفضٍ مقابل، واعتدوا عليه بالضرب
حتى أنقذه الشيخ درديري من أيديهم: «لعن الله اليوم الذي سافرت فيه يا إسماعيل،
ليتك ظللت بيننا ولم تُفسِدك أوروبا، فتفقد صوابك، وتهين أهلك ووطنك ودينك.»
٢٥٦ ثم أدرك — ختامًا — أن
الانفصال الذي يسعى إليه، ليس سوى اتصال عميق بناسه ومجتمعه، ويأتيه الجواب حاسمًا
ومحددًا: لقد حاولت أن تبقى أنت، وتلغي من الوجود سائر الناس، حاولت أن تنفصل، وأنت
لا تملك إلا الاتصال! بدأت صورة الشعب المصري تتغير في نظرة الدكتور
إسماعيل، من خلال حرصه هو على تغيُّر تلك النظرة. إن الناس من حوله ليسوا أشخاصًا
فرادى، بل شعب يربطه رباط واحد، هو نوع من الإيمان ثمرة مصاحبة الزمان والنضج
الطويل على ناره «وعندئذٍ بدأت تنطق له الوجوه من جديدٍ بمعانٍ لم يكن يراها من قبل.
إن المحب لا يقيس ولا يقارن، وإذا دخلت المقارنة من الباب، ولَّى الحب من النافذة.
زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني، وفهمت الآن ما كان خافيًا عليَّ. لا
علم بلا إيمان. إنها لم تكن تؤمن بي، إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومنك، ببركتك
أنت يا أم هاشم.»
٢٥٧ وكما يقول شكري عياد، «فإن الدكتور إسماعيل يعود إلى عمله وطبِّه يسنده
الإيمان. ليس ثمة معجزة يصنعها زيت القنديل، ولكن الإيمان به يصنع الإصرار والأمل
في الشفاء، وبهذين يثمر العلاج.»
٢٥٨
ولعل الدكتور إسماعيل هو الراوي في قصة إدريس علي «هل أنا السبب؟» حدَّثه صديق عن
إصابة قريب له برمدٍ ذهب بنور عينيه. نصحه أحد الصالحين بزيارة ضريح السيدة زينب،
وشفي الرجل كما روى الصديق بالفعل، ولأن الراوي كان يرفض الخرافة والشعوذة والجهل،
فقد اتهم رواية صديقه بالكذب، وواجه — في المقابل — اتهامًا بأن إيمانه ضعيف.
٢٥٩
•••
إن الهدف من «القنديل» — كما يقول حقي — هو «تصوير الصدام بين الشرق والغرب، بين
المادة والروح، بين الثورة على خمول الشعب، والرغبة المتأججة في تحريكه.»
٢٦٠ وإذا كان الفنان قد وهبنا في النهاية حلًّا سلبيًّا، يتقي فيه العلم
سطوة الخرافة، بالامتثال المظهري لشعائرها، فإنه — فيما بعد «القنديل» — يرفض العقد
العرفي المؤقت، فيطرح الأسئلة، ويعقد المقارنات، ويثير القضايا، توصلًا إلى تحقيق
المعادلة: أن تحتفظ الشخصية المصرية، العربية، بروحها الشرقي، بقيمها ومُثلها
وموروثها بعامة، مع الحرص على الإفادة مما حققته المدنية الغربية في تطورها المذهل:
أي شيء هو هذا الجنس الأبيض؟ أي شيء هي حضارته؟ على أي شيء أسسها وأعلى من بنائها؟
لماذا يحتكرها الآن؟ ما سر تفوقه علينا؟ أين يكمن فيه الفضل؟ وأين يكمن فينا العيب؟
هل نستطيع أن نلحقه، ثم نماشيه؟ وكيف؟
٢٦١
والواقع أن ذلك ما انتهى إليه توفيق الحكيم — في بعض فترات تحيُّره التي لم تصل إلى
مرفأ نهائي أبدًا — قد ذهب إلى أنه في إمكان الشرق الأخذ بعلم أوروبا دون أن يعارض
ذلك دينها؛ لأن العلم يتصل بالعقل، وهي مَلَكة مستقلة عن القلب، منبع الدين.
٢٦٢
•••
ومن زاوية الانتماء إلى الشرق — مقابلًا للمدنية الغربية — كتب طه حسين «أديب»،
والحكيم «عصفور من الشرق» و«زهرة العمر» ويحيى حقي «قنديل أم هاشم» وعبد الحميد جودة
السحار
«جسر الشيطان» … إلخ. ويقول فوزي السيد (واحترقت القاهرة): «إن أوروبا التي غرقت حتى
الأذقان في هاتين الحربين المدمرتين، إنما تدفع نتيجة كفرها بالمُثُل العليا،
وإيمانها بالمادة. المادة المطلقة التي لا تعرف رحمة أو إنسانية، وإنما هي قوة
عمياء صماء بكماء، تدور وتدور، وتطحن، في غير وعي أو هدف.»
٢٦٣ وإذا كان مفتش الآثار الفرنسي (عودة الروح) هو الذي عرض لروح الشعب
المصري، الذي رفض كل محاولات الغزو تمثلًا بتاريخه الطويل، فإن العامل الروسي
إيفانوفيتش (عصفور من الشرق) هو الذي عرض لحضارة الشرق، وقابل بينها وبين الحضارة
الغربية، لينتهي إلى نداء منفعل يصارح به صديقه المصري محسن: أيها الصديق … إلى
الشرق! فلنرحل معًا إلى الشرق! إن أجمل ما بقي لأوروبا إنما أخذته عن
الشرق!
٢٦٤ إن بطل الرواية يقع في هوًى عاملة شباك تذاكر بمسرح الأوديون بباريس.
وحتى يثير انتباهها، فإنه يستأجر غرفة تعلو غرفتها بالفندق، وينجح في استمالتها
فعلًا، وتنشأ قصة حب دافئة، ما تلبث أن تصطدم بصخرة الحبيب الفرنسي هنري الذي ما إن
رأته في مطعم كانت ترتاده مع صديقها المصري، حتى قطعت — بلا مبرر معلن — كل علاقة لها
بالشاب المصري. والرواية — إذا أهملنا الرمز — لا تعدو خطرات سياحية، وأحداثًا تنشأ
وتنتهي بلا مبرر … لكننا إذا لجأنا إلى الرمز، وما أوضحه في هذه الرواية، بعكس «عودة
الروح» التي يُعَد الرمز فيها مطلبًا صعب المنال، وإن احتاجت إليه لكي تنهض على قدميها
كعملٍ فني ذي قيمة. فإن الزاوية التي كانت تنظر منها سوزان إلى محسن، وعلاقتها به،
هي الزاوية نفسها التي ينظر منها المجتمع الغربي إلى الإنسان الشرقي، والحضارة
الشرقية عمومًا. ونتذكر هنا الرفض المقابل في «الخيط الأبيض» لمفيد الشوباشي و«أشبال
الثورة» لمحمد أمين حسونة، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تقف على أرضية الرفض
للحضارة الغربية. ويكاد إيفانوفيتش يتحدث عن سوزان — بل إنه يتحدث عنها فعلًا — حين
يشير إلى أزمة الحضارة الأوروبية «هذه الفتاة الشقراء التي تُسمَّى أوروبا، جميلة،
رشيقة، ذكية، لكنها خفيفة أنانية … إلخ.»
٢٦٥ لقد نظر محسن إلى سوزي نظرة أقرب إلى الصوفية، وإحاطتها بهالة مضيئة من
القداسة، لكن أندريه نصحه — في بساطة — أن يشتري لها زجاجة بارفان «هاجوبيان» باعتبار
أن ذلك أيسر الطرق إلى قلبها. واستطاع محسن — بنصيحة أندريه — أن يستميل قلب سوزي،
وأن يقيم معها علاقة وثيقة، لكن سوزي الأوروبية، المتقلبة الأهواء، تعود إلى عشيقها
هنري الذي كان قد هجرها بالفعل، وتنصرف عن محسن الذي لم يكن سوى محطة قصيرة في
رحلتها العاطفية ما لبثت أن غادرتها، دون أن تشغلها الصدمة التي أصابت محسن.
والحق أن محسن كان يعانق — منذ البداية — واقعه المصري، أو الشرقي، بمُثُله وقيمه
وطبائعه وعاداته،
٢٦٦ ويتخذ — في الوقت نفسه — موقف المستنكر، ولعله الرافض للكثير من مظاهر
الحياة الأوروبية … فالإهداء إلى حاميته الطاهرة، السيدة زينب، تلك التي حطم الدكتور
إسماعيل قنديل مسجدها في رواية يحيى حقي، والأمريكان — في رأيه — قوم خُلِقوا من
الأسمنت المسلح؛ لا روح فيهم ولا ذوق ولا ماضٍ، إذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت موضع
القلب دولارًا.
٢٦٧ والاشتراكية فشا أمرها في باريس، وأمست بدعة يتبعها الناس مقلدين، ليس
للتقليد في ذاته، ولكن نشدانًا للتخلص من الضغوط الاقتصادية العنيفة التي كان يعاني
منها الشعب الفرنسي، ما عدا قلة من الرأسماليين. حتى أسلوب تعبير الباريسيين عن
عواطفهم، لم يكن يرضيه «ولم يقطع عليه تأمله غير حركة فتى وفتاة من أهل باريس،
يتعانقان خلفه، ويقبِّل أحدهما الآخر علانية، كما اعتاد الباريسيون أن يفعلوا غير
حافلين بعاذل أو رقيب.»
٢٦٨ بل إنه لا يُخفي انزعاجه لتعامل أهل الغرب مع الدين ببساطة، مقابلًا
لقدسيته في نظر أبناء الشرق: «أيها العصفور الشرقي، تعد نفسك لدخول الكنيسة! ما
معنى هذا؟ إننا ندخلها كما ندخل القهوة، أي فرق؟ هناك محل عام، وهنا محل عام،
هناك الأورغن، وهنا الأوركسترا.»
٢٦٩ ولعل في هذا الحوار الذي جرى بين محسن وصديقه الفرنسي ما يدل على العناق
الحار من الشاب المصري لكل مظاهر الحياة في بلده، حتى ما ينتسب إلى السلبيات بصلة
حميمة، فالفرنسي يقول: إني لا أستطيع أن أنفق عمري جالسًا هكذا، إن الزمن شيء لا تعرفونه
أنتم معشر
الشرقيين، ولا يعنيكم أمره.
– لقد تحرَّرنا منه!
– آه، أيها الشرقيون! أأنتم بلهاء أم أنتم حكماء؟ هذا ما يحير.
وحين بدأت صداقة محسن والعامل الروسي إيفانوفيتش، فقد كان مبعث الصداقة من جانب
محسن «حب وتقدير لأولئك الذين لا تطيب لهم السكنى إلا داخل أنفسهم؛ ذلك أن قليلًا
من الناس من يملك نفسًا رحبة غنية، يستطيع أن يعيش فيها، وأن يستغني بها عن العالم
الخارجي. إنه يعتقد دائمًا أن الزاهدين الحقيقيين ليسوا إلا أناسًا لهم نفوس
كالفراديس، تشقها الأنهار، وتنيرها الشموس، وتتلألأ فيها الكنوز؛ فهي عالم من
الفتنة والسحر، لا نهاية لبدائعه وأسراره.»
٢٧١ وكان إيفانوفيتش — في رأي محسن — واحدًا من هؤلاء؛ وكان ذلك هو الباعث
لأن يُقبِل محسن عليه بأكثر مما أثار فضوله غلاف الكتاب الذي كان مجرد الإشارة إليه
في بلادنا جريمة، رغم أنه أصبح إنجيل الآلاف من المثقفين، وأبناء الطبقة العاملة
الأوروبية، أعني كتاب «رأس المال». وكان إيفانوفيتش هو الملاذ الذي التجأ إليه محسن،
يسلم نفسه إلى غيبوبة الكلمات الطيبة التي تعيب على الحضارة الغربية «المادية
والبغضاء واللهفة والعجلة،
٢٧٢ وتجد في أبناء الشرق عباقرة حقًّا.»
٢٧٣
– نعم، أنا من العمال، ومن الفقراء … لكنْ لي من سوء الحظ رأس يفكر، إني أعرف أن
وعود أديان الغرب الجديد كلها، إن هي إلا تغرير بالعمال والفقراء.
٢٧٤
– آه … الخيال … هو ليل الحياة الجميل! هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل.
إن عالم الواقع لا يكفي وحده لحياة البشر، إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية
كاملة!
٢٧٥
– أريد أن أعرف كيف استطاعت هذه الكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، أن
تعطي البشرية راحة النفس، وأن تغمرها في ذلك الاطمئنان؟!
٢٧٦
والواقع أن كلمات إيفانوفيتش جاءت أقرب إلى البرولوج الذي لا يجد ما يقابله من
كلمات للشاب المصدوم محسن، بحيث تصبح حوارًا متناميًا، يناقش القضايا ولا يكتفي
بعرضها. حتى المواقف التي كان محسن يعلن فيها إيمانه بكلمات إيفانوفيتش، فإنه كان
يعلن ذلك لنفسه — أو يسره لها — أقرب إلى التعقيب، وإن لم يعلنه. وعلى سبيل المثال،
فإنه يتأمل مليًّا قول الروسي وهو مطرق، ويقول لنفسه: نعم، إنه ليشعر دائمًا أنه لا
يسكن الأرض وحدها، إن حياته ممتدة أيضًا إلى السماء، وإن له أصدقاء وأحباء وحماة من
القديسين أهل السماء، إنه لن ينسى السيدة زينب الطاهرة، وفضلها عليه في الملمَّات،
إن لها وجودًا حقيقيًّا في حياته، ما من مرة وقع في شدة إلا وجد العزاء عند باب
ضريحها ذي القضبان الذهبية، كل نجاح ظفر به في الحياة هو دفعة من يدها …
إلخ.»
٢٧٧ والظاهرة الأساسية التي تطالعنا في سطور «عصفور من الشرق» أنها تنبض
بآراء ألدوس هكسلي وبرناردشو وﻫ. ﺟ. ويلز وجورج ديهاميل وغيرهم في المدنية
الأوروبية، لكننا نفتقد آراء ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم من قادة الفكر الاشتراكي،
مع أن الطرف المقابل في الحوار عامل روسي أبيض. وكان تجاهل الفنان، أو إغفاله
للجانب الاجتماعي في القضية التي عرض لها، هو الهُوة التي سقطت فيها أفكار الفنان،
فاستبدلها بأخرى مغايرة في «زهرة العمر».
٢٧٨ ولكني عدت بعد ذلك إلى الشرق، عدت إلى مصر يا أندريه، فأصابني بادئ
الأمر ذهول، ذهول عنك وعن كل شيء، كمن وقع من السحاب حقيقة. ثم أخذت أتصفَّح الوجوه
والأشياء حولي، يا لها من حقيقة مؤلمة! رأيت نفسي في شبه عالم نائم. لقد شعرت بما قد
يشعر به من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم. أنت نقلت إليَّ داءك يا أندريه، فجعلتني
أبصر الواقع المؤلم بعين الواقع. لقد عشت بضعة شهور بغير نفس ولا إدراك، أحاول فهم
السخفاء والجهلاء، وأتمنى لو أستطيع أن أُسَر بعشرتهم، وأن أصغي إلى أحاديثهم. لقد
قطعت عهدًا على نفسي هو ذاك ألَّا أتحدث في غير التافه من الأمور إلى أن وصلني منك
خِطاب ذات يوم، تؤنبني فيه على هذا الخمول، وهذا الجمود، فكان أثره في نفسي عميقًا.
لقد عاد إليَّ الذكاء والإدراك، وإذا عقلي الذي كان يخبو بأفيون الشرق يضيء من جديد.
صحوت لحظة أفكر وأتأمل، وانتهى بي الأمر إلى أن النور يأتيني من الشاطئ الآخر، وأن
الأمل معلق على شخص مثلك يهز لي المصباح من الجهة الأخرى.
٢٧٩ «إني أعيش في الظاهر كما يعيش الناس في هذه البلاد، أما في الباطن فما
زالت لي آلهتي وعقائدي ومُثُلي العليا. كل آلامي مرجعها هذا التناقض بين حياتي
الظاهرة وحياتي الباطنة. إني أصر على مراسلتك هذا الإصرار لأنك الوحيد الذي يعمر
هذه الحياة الثانية. إنها صحراء أصيح في أرجائها وأنت وحدك الذي يسمع رجع الصدى.
آه، إنك لن تقدِّر آلام من يعيش في غير عصره؛ فأنت أوروبي يعيش في أوروبا. إنك لم
ترزأ بعد بالحياة بين ناس لا يتصل إحساسهم الفني بإحساسك.»
٢٨٠ «أندريه: يجب أن تعلم أن نافذة حجرتي تشرف على ميدان الساعة، ولكي تعرف
أهمية هذا الميدان يكفي أن أخبرك أنه في طنطا بمثابة ميدان «الكونكورد» في باريس،
مع ذلك فإنه ليخجلني أن أصف لك ما تقع عليه عيني وسط هذا الميدان. لست أعني البشاعة
الفنية التي تقوم عليها تلك الساعة الكبيرة، فمما لا ريب فيه أنه لم يرد في خاطر
أحد أن يقيم في ذلك المكان شيئًا فنيًّا على الإطلاق، بشعًا كان أو غير بشع، إنما
الذي أعنيه هو انعدام كل ذوق، وزوال كل لياقة. أتدري ما هذا البناء؟ انه ليس أثرًا
تاريخيًّا، ولا نصبًا تذكاريًّا، ولا معبدًا فنيًّا، إنه مرحاض عمومي! ومع ذلك فلا
تنسَ أننا نحن الذين أهدينا إليكم تلك المسلة الرائعة التي عرفتم قدرها، فاخترتم لها
أرحب مكان في صدر باريس، وهو ميدان الكونكورد … إلخ.»
٢٨١ «فلا أبالغ إذا قلت لك أن ليس في مصر عدد أصابع اليدَين من المثقفين.»
٢٨٢«تعبت من كل شيء، ومن كل إنسان، ويئست من أن بلدًا كمصر يصبح في يوم
قريب ذا حياة فكرية، لا حياة في مصر لمن يعيش للفكر. لا يشغل عقلي الساعة غير شيء
واحد، ولا يلذ لي إلا أمر واحد: تحطيم كل شيء … تحطيم كل شيء هام … وأبدأ بمستقبلي
الذي يلوح لي أنه بدأ يتفتح عن وظيفة في القضاء، حبذا لو استطعت تحطيمه لأهيم على
وجهي في بلاد الأرض، لا تحدني غاية، ولا يوقفني غرض.»
٢٨٣ «فلأوثر الصمت، ولأطلب إليك أنت الكلام، حدِّثني أنت عما عندك في الشاطئ
الآخر. آه، الشاطئ الآخر، المائج بأضواء الحياة الفكرية.»
٢٨٤ «اكتب إليَّ كتابًا مطولًا إذا كنت تعتقد أن أسمى واجباتك نحوي هو
التفضُّل على ساكن الصحراء ببعض نفحات أوروبا العاطرة.»
٢٨٥ وارتكازًا إلى هذه الكلمات الساخطة، جاء وصف فتحي غانم لشعور الحكيم،
وهو عائد إلى مصر، بأنه «شعور أهل الكهف وهم عائدون إلى كهفهم.»
٢٨٦ وقد دام الخصام بين حب الحكيم للشرق، ولمصر، في «عصفور من الشرق»، وكره
الحكيم للشرق، ولمصر، في «زهرة العمر»، بضع سنوات، انتهت — كما كان الحال منذ «عودة
الروح» إلى صلح وتوازن، داخل وجدان الفنان وعقله. وكتب الحكيم «كل ما في الأمر أني
شرقي عربي، لم أزل محتفظًا بقدرٍ من إحساسي الديني الأول.»
٢٨٧
إن إطالة الكلام في روح مصر وتراث مصر، لا يعني حبس التفكير في الحدود القومية
الضيقة، ولكن الهدف دعم الثقافة الشرقية كلها والعمل على إنهاضها لتقف إلى جانب
الحضارة الغربية قوية، غنية، وهذا الغنى لن يأتي إلا إذا عكف كل بلد من بلاد الشرق
في أول الأمر على نفسه، ليستخرج من بطن الأرض التي يحيا عليها كل كنوز ماضيها، حتى
إذا اجتمع لدى تلك البلاد قدر عظيم من تلك اللآلئ القديمة مجلوة منزوعًا عنها
التراب، صب ذلك الثراء كله في معين واحد مشترك، وقُدِّم إلى الإنسانية باسم «الثقافة
الشرقية.
٢٨٨ لكن الثقافة الشرقية لا يمكن أن تكون بمعزلٍ عن ثقافة أوروبا، ولا أن
تغمض عينيها عن هذه الثروة الهائلة، «فلنمد أيدينا إذن غير مقيَّدين بسلاسل التقاليد
أو العادات أو العقائد، فنأخذ كل شيء، ونهضم كل شيء، ثم نعرج على روحنا القديم، كلٌّ
في بلده، فنستخلص الأفكار الثابتة المدفونة؛ إذ لا ريب أن كل بلد من بلاد الشرق فيه
مناجم الفكر مفعمة متألقة لم تُستخرَج بعد، فالغرب على نشاطه الفكري، ونهمه الذهني،
لا يستطيع أن يستخرج كل كنوز الشرق مثل الشرقي؛ إذ لا بد أن تكون معاوله قد ارتطمت
بحواجز منيعة من أسرار طبيعة لا تكشفها غير طبيعة الشرقي وغرائزه، وتجاري حكمته
المتراكمة في أعماق نفسه، على مدى آلاف السنين.»
٢٨٩ رفض الحكيم الفلسفة الماركسية؛ لأنها — في تقديره — توزع على الناس مملكة
الأرض، لكنها تنسى مملكة السماء، ورفضه لا يأتي من خلال نقاش لأفكار دعاة الفكر
الماركسي مثلما كانت ملاحظاته السلبية على الحضارة الغربية، لكن الرفض يحرض عليه
عامل روسي يؤمن بالشرق.
•••
يقول الحكيم: «وإذ تقول أوروبا: الإسلام، فإنما تعني — في غالب الأحيان — الشرق،
والدفاع عن الإسلام لم يكن — في كل الأحيان — دفاعًا عن عقيدة وديانة، إنما هو دفاع
عن حياة تلك الكتلة التي يسميها الغربيون: الشرق. إن الحروب الصليبية في حقيقتها،
لم تكن إلا حرب الغرب على الشرق، وإن الفتح الإسلامي عندما بلغ فرنسا، وهدد
أوروبا، لم يكن في الواقع إلا حرب الشرق على الغرب.»
٢٩٠ ومعنى الشرق هنا: الشرق المسلم. فالهند دولة بها أعداد كبيرة من
المسلمين، وإيران دولة مسلمة، وإندونيسيا كذلك، وربما الصين واليابان. وقد تحدث
عرابي عن الثورة التي قادها بأنها فتحت باب الحرية في الشرق «ليقتدي بها من يطلبها
من إخواننا الشرقيين، على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة.» وكان أحمد زكي باشا — الذي
سُمي شيخ العروبة — لفترة طويلة من حياته، ينادي بارتباط الأمم الثلاث: الفرس والترك
والعرب، وكان مؤمنًا بالثقافة المثلثة: العربية، الفارسية، التركية.
٢٩١
وطرح بعض المثقفين — في أواخر العشرينيات — مشروعًا باتحاد البلدان الشرقية من
اليابان إلى المحيط الأطلنطي. وزاد الحكيم، فضغط على حقيقة أنه في الشرق نور يجدر
بالغرب أن يهتدي به، إن الفرعونية هي الروح التي عادت إلى الشعب المصري بقيام ثورة
١٩١٩م، لكن الشرق هو القيمة الفعلية في «عصفور من الشرق». «من الخير لمحسن — عودة الروح
—
أن ينقب، كما نقب عن نبع ميراثه الثقافي والروحي في رواسب الآلاف من السنين الكامنة
في ضمير مصر، ولكن دون أن يذهب في ذلك التقديس للماضي إلى الحد الذي يجعله يعرض
روحه دون تلقي كل جديد ينفعه، من كل منبع، ومن كل ميراث ليثري نفسه ويوسع
أفقه.»
٢٩٢ إذن ذلك هو الدرب الصحيح الذي كان على محسن أن يلتزم بالسير فيه، فثمة
نور في الشرق يجدر بالغرب — في المقابل — أن يهتدي به: «ونحن نعرف أنه الآن في شبابه
المضطرب، ونشاطه المتقد، لا يمكن أن يتريث ليبحث عندنا عن معونة، ولكن: غدًا عندما
يقعده الكبر، وتذله الهزيمة، ويذهب عنه الغرور، ربما وقف لحظة وتلفَّت حوله يلتمس
الهداية؛ فلن يجد له عندئذٍ من هادٍ غير الشرق، مهبط الحكمة ومنبع النور.»
٢٩٣ لقد كان للعرب فضل على أوروبا في القرون الوسطى، والأوروبيون يعترفون
بذلك الفضل، ويشِيدون به، ويقولون عن أولئك الفلاسفة العرب إنهم كانوا بمثابة الجسر
الذي نقل إليهم آراء أفلاطون وأرسطو.
٢٩٤
مع ذلك، فقد كان رأي الحكيم ألا نهمل الثقافة الغربية «فكل ثقافة لها مزاياها،
وما دمنا الآن في مجال الاختيار والحضارة، فيحسن بنا أن نرسل أبصارنا إلى كل جهة،
ولا نحبس أنفسنا في سجن ثقافة واحدة بعينها، أو أن نتجه إلى ثقافة شعب واحد من شعوب
العرب. الحذر — كل الحذر — من إهمال ثقافة، أو مقاطعتها.»
٢٩٥ ولعله من هنا، دفاع مفتش الآثار الفرنسي عن حضارة الشعب المصري، ودفاع
العامل الروسي عن حضارة الشرق. جاء قول فتحي غانم: إن الحكيم كان في باريس وليس معه
سلاح فكري، ولا إيمان حقيقي بتقاليد بلاده.
٢٩٦
وهذا الرأي يحتاج إلى مراجعة شديدة؛ فالسلاح الفكري كان موجودًا، وربما كان
سلاحًا ساذجًا، لكن المهم أن الحكيم كان يراه سلاحًا ممتازًا، والسلاح الفكري سلاح
معنوي. أما الإيمان الحقيقي بتقاليد بلاده، فهو أيضًا قد استند إلى مبررات، قد تقرب
من السذاجة، لكن المهم هنا مدى اعتناق الفنان لها، ومدى إيمانه بها. والغريب،
فعلًا، أن الحكيم الذي يقارن في «عودة الروح» بين الفلاح والبدوي بما ينصف الفلاح،
وينسبه إلى أعرق الحضارات، بينما ينتسب الآخر إلى بداوة هي — في الحقيقة — «بدائية».
سأل محسن الشيخ حسن: البدوي أحسن ولا الفلاح؟ قال الشيخ: البدو دول يا جناب البيه
خطافة جرابيع! لا لهم دين ولا ملة، ولا يعرفوا رحمة ولا إسلام! أضاف: الفلاح منا
يبقى خيره عليهم، يكرمهم ويساعدهم ويخاويهم، وهم يتكبروا عليه، كأن دمهم دم وإحنا
ميه! روح الفلاح عندهم ما تسوى أكتر من حق عيار رش بقرش صاغ … البدو لا تعرف تزرع
ولا تقلع، ناس لا مؤاخذة ما يفلحوا إلا في الضرب والخطف … هم البدو لهم أمان؟ دول
وحوش يا جناب البيه، لو تشوف بس أكلهم في العصيدة وهي تلهلب نار، تقول دول مش بني
آدم!»
٢٩٧
نسي الفنان — أو تناسى — أن الفلاح والبدوي كلاهما من الشرق الذي آمن الفنان
بروحانيته وحضاراته، مقابلًا لمادية وحضارة الغرب.
•••
كان الحنين هو الذي دفع هيكل إلى كتابة «زينب»، وكان الحنين — أيضًا — هو الذي دفع
الحكيم إلى كتابة «عصفور من الشرق»، ثم اضمحلت الصور المضيئة، وذوت، وتلاشت. وحلت
بدلًا منها صور، تضغط على السلبية والقصور والتخلف، أشبه برد الفعل الذي يدفع —
أحيانًا — إلى الوقوف في الناحية المقابلة، الإيمان بروحانية الشرق وأديانه وحضاراته
وعظمة تاريخه، والنعي على مادية الغرب، وآليته التي تكاد تكتم أنفاس الإنسان الفرد،
وتسحقه تمامًا. ذلك نبض «عصفور من الشرق»، أما «زهرة العمر» فإنها تحمل صدى المفاجأة،
بعد التخلص من مشاعر الحنين. ولنقرأ الرسائل التي بعث بها الحكيم — الاسم الصريح
هنا، وليس الاسم المستعار «محسن» كما في «عصفور من الشرق».
آب العصفور الشرقي من رحلته، لتبين له الحقيقة عن وجهها الكالح؛ فالمادية
الأوروبية بُعد سلبي في عالم يشغى بآلاف الإيجابيات؛ العلم والثقافة والتطور والوصول
بالإنسان إلى ما هو حق وخير وجمال. أما الروحانية الشرقية، التي غلَّفها الحنين — من
بعيد — بضبابٍ أسطوري حالم، أكدته أحاديث العامل الروسي «إيفانوفيتش»، فإنها ما لبثت
أن تكشفت — بعد العودة — عن تخلف حضاري مقيت.
العروبة
ثمة تقسيم تاريخي للمراحل التي تدرجت فيها الفكرة العروبية:
-
كانت المشاعر إسلامية مصرية، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
-
مثَّل سقوط الدولة العثمانية عاملًا في بروز الشعور القومي المصري، كما حدث في
ثورة ١٩١٩م.
-
في العشرينيات، اختلطت فكرة الرابطة العربية بفكرة الرابطة الشرقية التي تعني
ارتباط مصر بالأمة الشرقية.
-
تقلصت الفكرة الشرقية — فيما بعد — لتحل بدلًا منها الفكرة العربية.
لقد ظهرت فكرة «العروبة» — في البداية — كبديل لفكرة الجامعة الإسلامية، ثم أسهم
في
تعميق صوت الفكرة، وفي تأكيد بعض ملامحها وقسماتها، ظهور فكرة القومية التركية على
يد مصطفى كمال؛ لتختفي فكرة الجامعة الإسلامية شيئًا فشيئًا، من مصر، ومن كل البلاد
التي كانت تتبع الآستانة، لتحل محلها اتجاهات قومية، شوفينية. وقد قامت حركة بين
بعض الشباب ضد الطربوش الأحمر بدعوى أنه يمثِّل السيادة التركية، وطالبت بارتداء
طرابيش ملونة بأية ألوان عدا الون الأحمر والزر الأسود. وكتب محمود عزمي عن الرابطة
التي يجدر بنا أن نتمسك بها: الرابطة الشرقية، أم الإسلامية، أم العربية؟ وقال
محمود عزمي: «الشرقية — في نظري — إيهام لا يمكن الاستناد في تحديده إلى قاعدة علمية،
وخيال لا يتكئ على واقع، ومحاولة لن يكون نصيبها غير الفشل بما يقتضيه النظر إلى
القضية من تشتت للجهود، وقسر للعقول على ما لا قبل لها بفهمه … والرابطة العربية — في
نظري — أمتن الروابط التي يصح أن تقوم مساعينا في سبيل التكيف الجديد المتمشي مع روح
العصر، بل إنها الرابطة الوحيدة التي يجب أن يستند إليها تطورنا المحتوم … ومعنى
الرابطة العربية أنها تلك التي تستند إلى حوادث التاريخ التي وحَّدت بين نوع التفكير
ونوع الحياة وأساليب الحكم وقواعد الاقتصاد، في تلك الكتلة المتصلة من المحيط
الأطلنطي إلى الخليج الفارسي» (العربي).
٢٩٨
كانت الرابطة الشرقية — كما ذكرنا — هي التعبير المبدئي عن العروبة، أو القومية
العربية. وكما يقول ساطع الحصري، فإن فكرة الرابطة الشرقية عندما تتجرد من عناصرها،
وتنصهر بالتعارف الحقيقي، ستتحوَّل بالتدريج إلى رابطة عربية بحتة.
٢٩٩
والواقع أن التيار الذي سعى إلى تأكيد الهوية العربية للشخصية المصرية، ظل ضعيفًا
إلى حدٍّ كبير، بالقياس إلى التيارات الأخرى، وأهمها تيار عُني باستقلال مصر داخل
حدودها الجغرافية، مع انتمائها إلى دولة الخلافة العثمانية. وكما يقول منصور فهمي:
فمنذ «أشرفت الخلافة العثمانية الإسلامية على نهايتها، وبدت إمارات سقوطها منذ زمن
السلطان عبد الحميد، أخذ المثقفون من العرب في مختلف الأقطار التي كان يسيطر عليها
حكم الأتراك ينسجون الأماني، ويعقدون الآمال على مصر، لكي تقود حركة عربية
وتتزعمها، ويصبح لها هيمنة وضرب من التوجيه والقيادة على الأقطار العربية التي كان
يتقلص عنها ظل الهيمنة العثمانية شيئًا فشيئًا، ويغادرها إلى الزوال.»
٣٠٠ وقد رفض لطفي السيد — صراحة — فكرة العروبة، وانتماء مصر بالتالي إلى
الأمة العربية، وذهب إلى أن العروبة لا تجاوز حدود جزيرة العرب. يقول: «في نحو سنة
١٩١١م ظهرت — لأول مرة — بوادر ما يسمونه «البنارابيزم»، أو الجامعة العربية، وفي هذا
الحين وفد على مصر رجلان من أعيان الشام ولبنان هما السيد شكري العسلي من دمشق
والسيد ثابت من أعيان بيروت، وكانا نائبَين في مجلس «المبعوثان» بإستانبول، وكان
الغرض الذي جاءا من أجله، السعي لضم سوريا إلى مصر. وقد لقياني مرارًا فيمن لقيا؛
لقياس المشتغلين بالسياسة وأهل الرأي. ولم أكن متفقًا معهما في هذا الرأي، لا لتعذر
هذا الطلب فحسب، بل لأني لم أره في مصلحة مصر. وأذكر أن السيد شكري العسلي كان
متحمسًا لفكرته إلى حد أنه كان يدافع عنها بصراحة غلبته على كل اعتبار، حتى قال لنا
أنا وعبد العزيز فهمي باشا ومحمود بك أبو النصر في مأدبة بمنزلي: مصر فيها رجال،
وسورية فيها رجال، وذلك في مقام التدليل على فائدة وحدة سوريا ومصر، وقد انتهى
الأمر بأنهما لم ينجحا في هذا المسعى.»
٣٠١
•••
كان رأي «العروبيين» أن العروبة ليست عرقًا ولا نسبًا، إنما هي لغة وثقافة وتكوين
نفسي وحضاري، وجميعها مكتسَبة وليست مقصورة على عوامل الوراثة بما تفرضه من تواصل
النقاء من الأصول إلى الفروع، وهو ما سُمِّي باﻟ «تعرُّب». وكما أشرنا، فقد كان ثمة
مجلات تتبنَّى القضية العربية، مثل «المنار» و«الزهراء» و«الفتح» و«الرابطة الشرقية».
ويشير
حافظ محمود إلى أن كلمة «الشرقية» كانت هي المفهوم العربي في العشرينيات،
٣٠٢ بمعنى الاتجاه الشرقي الإسلامي، إلى حد طرح إمكانية اتحاد كل البلدان
الشرقية من اليابان إلى المحيط الأطلنطي، لكن هذا الاتجاه ظل غامضًا ومشوشًا لفترة
طويلة، حتى تتبلور في اتجاه آخر محدد يهدف إلى إقامة اتحاد يضم المسلمين العرب
وحدهم، وهو ما تحدد — فيما بعد — في العروبة، أو القومية العربية. والحق أنه يصعب
تقبُّل هذا الرأي في إطلاقه؛ ذلك لأنه كان من بين الدول التي ضمَّها إطار الشرقية
الحبشة والهند وإندونيسيا وغيرها من الدول التي تدين غالبية شعوبها بالإسلام. ومن
هنا يأتي قولنا إن تعبير «الشرقية» كان هو الجسر بين الإسلامية والقومية العربية.
وقد تساءل مصطفى النحاس يومًا في دهشة: إحنا ما لنا ومال الوحدة العربية؟ وأضاف: نحن
شرقيون. فقال عبد الله المشنوق: الشرق كلمة جغرافية يا باشا، ولا تحتوي على أي معنى
قومي، نحن نبحث في القومية الواحدة.
٣٠٣ وعندما قال شوقي «كلنا في الهم شرق» فإنه كان يعني العرب، بعد أن ظلت
كلمة «الشرق» التي طالما تغنَّى بها في قصائده، متصلة بتعبير الرابطة الشرقية التي
تعني بلادًا في المنطقة عربية، وغير عربية، بل لقد اعتبر الحكيم المناداة بالوحدة
العربية، تدعيمًا لكتلة الروح الشرقي أمام كتلة الروح الغربي.
٣٠٤
كانت الرابطة الشرقية قائمة بقيام الخلافة العثمانية، وظل الخلط موجودًا بين
«الشرقية» و«العروبة»، بل لم يكن ثمة فارق بين العروبة والشرقية، ولا بين العرب
والشرقيين. ثم كان سقوط الخلافة في تركيا منعطفًا حاسمًا في إبراز الشخصية العربية.
أعلنت الجمهورية، واتجهت البلاد إلى المدنية الأوروبية، مقابلًا لانعزالها عن
العالم العربي، فأصبحت الرابطة العربية — أو القومية العربية — هي الإطار الذي يجمع
الأقطار العربية، وحتى العشرينيات من القرن العشرين كانت فكرة «العروبة» أو
«القومية العربية» — كما يقول محمود تيمور — «غير مستبينة المعالم فيما تجري به
الأقلام، كنا مضطربين في شأنها أشد اضطراب، مختلفين فيها كل اختلاف، يتعصب لها منَّا
فريق، ويثور عليها فريق آخرون، وكان المتعصبون لها والثائرون عليها سواء في التطرف
أو في الشطط والاعتساف.»
٣٠٥ وكان مبعث رفض «العروبة»، ضعف الأقطار العربية بعامة، وخضوعها جميعًا
للاستعمار الإنجليزي والفرنسي. بل لقد ساوى طه حسين — في العديد من مقالاته — بين
العرب والترك والفرس واليونان وغيرهم. جعل الكل متساوين في إخضاع مصر لاستعمارهم
فترات طالت أو قصرت. ويروي طلال (سوق الجواري) أن الملك فؤاد اعتذر عن مقابلة وفد
عربي «بحجة انشغاله مع شخصيات أهم.» وافق على منح المعونة التي قدِموا لطلبها دون
مقابلتهم، وترك سكرتيره ليستضيفهم، ويقيم لهم حفلًا في منزله.
٣٠٦ وقد حدد سعد زغلول هوية ثورة ١٩١٩م عندما اتصل به بعض الساسة العرب في
باريس، وعرضوا عليه توحيد جهودهم، والقيام بعملٍ مشترك ضد الاستعمار، فقال لهم سعد:
«إن قضيتنا مصرية، وليست عربية.»
٣٠٧ وحين عرض عبد الرحمن عزام على سعد زغلول فكرة الوحدة العربية، قال سعد:
إذا جمعت صفرًا إلى صفر … فماذا تكون النتيجة يا أبا عوف؟! وفي عام ١٩٤٠م كتب محمد
علي علوبة يخطِّئ فكرة الوحدة العربية، ويؤكد أنها غير قابلة للتنفيذ، وغير مجدية،
ولا يصح إضاعة الوقت في مناقشتها، أو مجرد التفكير فيها، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه
إقامة وحدة ثقافية بين أقطار العرب.
٣٠٨
وفي المقابل، فقد كان أحمد زكي وعبد الرحمن عزام وعزيز المصري وعشرات غيرهم من
الساسة والمفكرين المصريين، من أخلص الدعاة إلى «العروبة»، حتى من قبل أن تصبح
تيارًا واضحًا في بحث الذات المصرية عن ذاتها. وقد عاب أحمد زكي على إسماعيل
محاولته لأوربة مصر: «لأنه إذا كان هناك من يدعو الشرق إلى أن يتفرنج، فأنا أدعو
الغرب إلى أن يتعرب، فإن لنا تقاليدنا وكبرياءنا، ولست في ذلك أعارض في أن نأخذ من
أوروبا كل ما تتقوى به.»
٣٠٩ وكان رأيه أن «اللغة العربية رابطة بين الأقطار العربية، وأنا مصري،
ولكن أيضًا عربي، وأحب ألَّا تنفصم هذه الرابطة، وإني أقول بجامعة عربية.»
٣١٠ وفي مطالع الثلاثينيات، كان رأي مأمون رضوان (القاهرة الجديدة) أنه لا
توجد قضية مصرية، وإنما هناك قضية واحدة، هي الإسلام عامة، والعروبة خاصة.
٣١١
وعلى الرغم من أن مصر كانت قد حددت هويتها إبان الثورة، وفي أعقابها، بأنها مصرية
صميمة، تنتمي إلى تاريخها القديم وليس إلى واقعها الجغرافي المعاصر، بل لقد حدد سعد
زغلول هوية الثورة حين اتصل به بعض الساسة العرب في باريس، وعرضوا عليه توحيد
جهودهم، والقيام بعملٍ مشترك ضد الاستعمار، فقال لهم سعد: إن قضيتنا مصرية وليست
عربية.
٣١٢ وقال — في صراحة قاسية — لعدد من الزعامات العربية عرضوا عليه الجلوس
معًا لتدارس خطوات المستقبل: «صفر + صفر = صفر».
٣١٣ على الرغم من ذلك، فإن الشعوب العربية ظلت تنظر إلى مصر كقطعة منها،
تتابع أنباءها، وتعكس أصداءها، وتُطلِق على زعيم الثورة المصرية اسم «سعد العرب».
ونحن نلحظ أن أحد قادة العمل السري المصري في رواية «رأس الشيطان» كان سوريًّا — اسمه
عدنان الأسطواني — عندما قُبِض عليه وهو يوزِّع منشورات تهاجم حكومة صدقي والدستور
الجديد، قال: إن هذه المنشورات من صنعه هو، وأنه قام بطبعها بدافعٍ من غيرته
العربية.
٣١٤ أما مبعث الإحساس بالعزلة بين الشعب المصري والجاليات العربية من
سوريين ولبنانيين ومغاربة وتونسيين وغيرهم، أنهم كانوا يتمتعون بالامتيازات نفسها
التي كانت تتمتع بها الجاليات الأجنبية الأخرى، وأن تلك الامتيازات كانت هي الجرح
الأكبر في جسد الشعب المصري. تزايدت كراهية المصريين للشوام نتيجة للأرباح الطائلة
التي حققها التجار الشوام والمرابون من ارتفاع أسعار القطن، وزاد من تلك الكراهية
أن الشوام — والشباب بخاصة — كانوا يحصلون على فرص أفضل في الوظائف الإدارية، وبلغ
الأمر حد مهاجمة مصطفى كامل للشوام، ونعتهم بالدخلاء في مصر، وإن أعلن — فيما بعد —
أنه كان يعني الشوام الموالين للاحتلال البريطاني.
٣١٥
ولفترة طويلة كانت الجاليات العربية في نفس الكفة المصلحية المقابلة لكفة المصالح
الوطنية، وتحوَّلت «المقطم»، الجريدة التي كان يصدرها ثلاثة من الشوام، إلى وسيلة
إعلامية مفضوحة لصالح الاستعمار، وتعامل الفلاح مع تجار ومرابين يتحدثون العربية،
لكنهم يستلبونه حقوقه وأرضه وماله، ويستندون إلى جدار الامتيازات الأجنبية. وقد عبَّر
حافظ إبراهيم في «ليالي سطيح» عن النظرة التي كان ينظر بها المواطن المصري إلى أبناء
الأقطار العربية في بلاده: «إنني لا أكذب الله، لقد أكثرتم من التداخل في شئونهم
فعزَّ عليهم ذلك من أقرب الناس إليهم، نزلتم بلادهم فنزلتم رحبًا، وتفيأتم ظلالها
فأصبتم خطبًا، ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهلًا، وحللتم معهم في دور
التجارة فقالوا سهلًا، ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد لرأيتم منهم ودًّا صحيحًا،
وإخلاصًا صريحًا، ولكنكم تخطيتم ذلك إلى المناصب، فسددتم طريق الناشئين، وضيَّقتم
نطاق الاستخدام على الطالبين.»
٣١٦ وقد دخل النديم معارك ضارية ضد أصحاب «المقطم» لسياستهم الداعية — علنًا —
لبقاء الاحتلال واستمراريته. الأمر نفسه بالنسبة لسلامة موسى الذي ظلَّت حملاته في
المجلات المصرية ضد «النفوذ العربي في مصر» حتى الثلاثينيات من القرن العشرين. لقد
دعا إلى أدب مصري، يخاطب المصريين بلغتهم، ويحرك في نفوسهم الأماني المصرية «ولن
ننتظر من الصحفي السوري أن يؤدي لنا هذا الواجب، بل هو لا يستطيعه لو أراده؛ لأن
نفسه غير أنفسنا. فلسنا ننتظر من الجرائد والمجلات السورية أن تطالبنا بدرس الحضارة
الفرعونية كما فعل الدكتور هيكل، وأن يثبت على هذه الدعوة، بينما المجلات السورية
تتهمه بالإلحاد من أجلها، ولسنا ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنية مصرية مقصورة على
حدود مصر الجغرافية كما فعل الأستاذ لطفي السيد في «الجريدة» مع الإهانات المتكررة
التي لقيها من العامة على ذلك. والخلاصة أن «الصحيفة التي يقرؤها المصري يجب أن تكون
مصرية بالدم والروح والمزاج؛ لأنها مرآة نفسه في اليوم والغد، تمثِّل رجاءه في
الاستقلال والحرية، وتنشد له أدبًا مصريًّا يتفق ومزاجه ولغته وبيئته
ومصريته.»
٣١٧ وكتب سلامة موسى: «إن الميزة الوحيدة للسوريين علينا، أن لهم ضميرًا
سوريًّا يتسع لكل شيء، ولنا ضمير مصري يضيق عن أشياء كثيرة» … «لقد مات مصطفى كامل،
فكان شبابنا يبكونه في الشوارع، ومات بعد ذلك سعد زغلول، فكانت نساؤنا قبل رجالنا
يبكينه في البيوت، فهل بكى سوري من أجل مصطفى أو سعد؟»
٣١٨ وتحدث سلامة موسى عن الشيخ رشيد رضا «السوري القح الذي ليس في دمه قطرة
واحدة من دماء المصريين» وتساءل: «لماذا لا تكون بلاده الأصلية أولى منا بخدمته
وحماسته؟ إن وطنه الأصلي قد يحترق بالاستعمار، وقد يعيش في فوضى وشقاق، لكنه لا
يغار عليه، بل يغار على المصريين وهو ليس منهم.»
٣١٩ وبالأسلوب نفسه، تحدَّث سلامة موسى عن محب الدين الخطيب، ووجه إليه
القول: «انزح إلى بلادك وهلمَّ بغيرتك هذه للدفاع عن وطنك الأصلي.» بل إنه تحدث أيضًا
عن مصطفى صادق الرافعي، فأكد خُلو دمه من المصرية، فهو مصري الرعوية، لكنه سوري
الأصل، ونصحه بالرحيل إلى وطن آبائه. إن هؤلاء — وغيرهم — من ذوي الأصل العربي، هم في
نظر الفلاحين المصريين، أجانب بسحنتهم ولون بشرتهم ولهجتهم «ولو وقف الشيخ رشيد
رضا، أو محب الدين الخطيب، بين جماعة من الفلاحين لما استطاع أحدهما أن يتفاهم
وإياهم بكلام مفهوم» ثم قال سلامة موسى صراحة: «وبعد، فنحن نقول لهؤلاء السوريين،
سواء تمصَّروا أم لم يتمصَّروا، إنه لا يليق بهم أن يدخلوا بلادنا، ويعيشوا
بالإفساد والوقيعة بين أبنائها المسلمين والنصارى والشبان والشيوخ، وشبابنا لا يرغب
في الفساد أو الكفر أو الشيوعية، وإنما يرغب في أن يرى مصر مثل الأمم الأوروبية
الراقية، مثل ألمانيا أو إنجلترا، ولا يحب أن يراها مثل الأمم الشرقية المنحطة، مثل
الهند أو جاوة.» وفي «تحت شمس الفكر» يطرح الحكيم قضية أن نعرف: مَن المصري ومَن
العربي؟ ذلك لأن اختلاطنا بالروح العربية، على حد تعبيره «كاد ينسينا أن لنا روحًا
خاصة، تنبض نبضات ضعيفة تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة، وأن أول واجب لنا هو
استخراج أحد العنصرين من الآخر».
٣٢٠ أضاف الحكيم: «لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض. مصر هي الروح، هي
السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي
الزخرف.»
٣٢١ وكتب الحكيم في مجلة الرسالة مقالًا بعنوان «إلى الدكتور طه حسين» ناصر
فيه هجوم طه حسين ضد الاتجاه العربي: «كل تفكير العرب، وكل لذة العرب، في لذة الحس
والمادة، لذة سريعة منهومة، مختطفة اختطافًا؛ لأن كل شيء عند العرب سرعة ونهب
واختطاف. عند الإغريق الحركة أي الحياة، وعند العرب السرعة أي اللذة. كل شيء يحسونه
— يقصد العرب — إلا عاطفة الاستقرار، وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماضٍ ولا
عمران؟ دولة أنشأتها الظروف ولم تنشئها الأرض، وحيث لا أرض فلا استقرار، وحيث لا
استقرار فلا تأمل، وحيث لا تأمل فلا ميثولوجيا، ولا خيال واسع، ولا إحساس
بالبناء.»
٣٢٢ كما رفض طه حسين أيضًا أن يؤمن المرء بمصريته، ثم يؤمن بانتمائه إلى
الوطن العربي. كتب تحت عنوان «المصرية والمجادلون»: «زعموا أنهم قادرون على أن
يكونوا مصريين محتفظين بمصريتهم، حريصين على شخصيتهم، وأن يكونوا عربًا ينتمون إلى
عدنان وقحطان، ويلجون في الفن بهذا النسب والحرص عليه، والرغبة في مواطنه القديمة؛
أي أنهم قادرون على أن يكونوا مصريين وحجازيين أو يمنيين في وقت واحد، كأن الوطنية
لعبة في أيديهم شديدة المرونة، يعطونها ما أحبوا من الصور، وما شاءوا من الأشكال.
ولم أرَ عقولًا بلغت من القدرة على التوفيق بين هذه النقائص كعقول أصحابنا هؤلاء
الذين يريدون أن يحتفظوا بشخصية مصر والحجاز واليمن؛ أي يجعلوا الوطنية أمرًا
شائعًا، ثم يزعمون بعد ذلك أنهم وطنيون، ولو أنهم عقلوا ما يقولون، وفهموا ما
يذهبون إليه، لقالوا غير خائفين ولا وجلين إنهم لا يزالون يعتبرون أنفسهم في مصر
فاتحين، يؤيدهم السيف، وتبصرهم السنان؛ جناية ليس أكبر منها، وذنب ليس أعظم منه
خطرًا على مصر، فإنهم يريدون بعد ثلاثة عشر قرنًا مضت على الفتح أن يقسموا المصريين
بعروبتهم الكاذبة إلى غالب ومغلوب، مع أنهم يعلمون أن مزية الفتح والتغلب قد ذهبت
من أيديهم منذ زمن بعيد إن صح أنهم من نسل الفاتحين حقًّا. وقد أصبحوا الآن مغلوبين
قد فتحت عليهم بلادهم، وأصبحت حقوقهم السياسية العامة في أيدي غيرهم بحكم القوة
والقانون والتاريخ معًا … إن الويل لمصر إذا لم تكن قد استطاعت أن تصبغ هؤلاء
الفاتحين بصبغتها الخاصة في ثلاثة عشر قرنًا من الزمان.»
٣٢٣ ويعلق الباحث محمد سيد كيلاني على هذه الكلمات بالقول: «وهذا خطأ
تاريخي انساق إليه طه حسين متأثرًا بأستاذه لطفي السيد الذي كان ينكر على
المصريين انتسابهم إلى العرب الأوَّلين.»
٣٢٤ وثمة من يرى أن الإله «حورس» الذي قدَّسه المصريون القدماء، كان موطنه
الأصلي بلاد الجنوب العربي، وقد خرج أتباع هذا الإله من الجزيرة العربية إلى الشاطئ
الأفريقي في أريتريا، ثم عبروا الصحراء الشرقية، ودخلوا مصر عن طريق وادي الحمامات،
واسم حورس دخيل على اللغة المصرية القديمة، وهو شائع في اللغة العربية.
٣٢٥ ونحن نلحظ أن المصري يعجب بملاحم الهلالية وسيف بن ذي يزن وعنترة
وغيرها، لكنه لا يأتي بسيرة لإيزادورا — فتاة طه حسين الشهيرة — ولا إيزيس وأوزوريس
وحورس وغيرهم من أبطال الحكايات والأساطير المصرية القديمة؛ إن وجدانهم أقرب إلى
التراث العربي منه إلى التراث الفرعوني. لقد تعرب كل المصريين في أعقاب فتح مصر
أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وإن لم يدخل الإسلام كل المصريين. ويقول بيير
روسِّي إن نابليون بونابرت كان يرى العالم العربي كلًّا واحدًا، وإن القاهرة هي
عاصمته الاتحادية.
٣٢٦ وكانت النعرة التركية هي التي أملت على محمد علي قوله لأحد أصدقائه من
الأوروبيين، كان يهنئه على انتصار المصريين في معاركهم ضد الأتراك: «لا تنسَ يا
صديقي أن الذين يفوزون في المعارك إنما هم الضباط لا الجنود، وأن ضباط الجيش المصري
كلهم أتراك.» ورغم ما في ذلك القول من مغالطة واضحة، فقد اعترف ابنه إبراهيم — الذي
تعرَّف إلى الجندي المصري عن قرب بقيادته له في المعارك — بأنه «ليس في العالم جنود
يفوقون أجنادي في حماستهم وشجاعتهم في القتال … ولئن بدا من بعضهم — أحيانًا — تردد أو
جبن، فإنما بدا ذلك من جانب الضباط الأتراك، ولست أذكر أن شيئًا من ذلك بدا من
أولاد العرب.»
٣٢٧ مع ذلك، فإن تسمية العرب كانت — ربما حتى نهاية العشرينيات — عند غالبية
المثقفين تُطلَق على بدو الصحراء، وكانت تلك تسمية العرب في «عودة الروح»، ولا يخلو من
دلالة أن مصر لم تعترف بالسعودية «دولة حرة ذات سيادة» إلا في مايو ١٩٣٦م.
٣٢٨
واللافت أن التأكيد على تيار «العروبة» مقابلًا لتيار الجامعة الإسلامية، كان من
جانب الكُتاب الشوام الذين أقاموا في مصر. بدأ وفود نصارى الشام إلى مصر منذ الحملة
الفرنسية، فاستعان بهم الفرنسيون في إدارة المرافق العامة ذات الاتصال المباشر
بالشعب المصري، وعُيِّن منهم في الديوان الخصوصي عضوان: يوسف فرحات وميخائيل كحيل،
وكان الأب أنطون روفائيل زخورة، الحلبي الأصل، العضو الشرقي الوحيد في المجمع
العلمي المصري، ثم احتفى بهم محمد علي في عهده، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة
المهمة.
٣٢٩ وقد اعتبر بعض المؤرخين محمد علي هو واضع البذرة الأولى لفكرة الوحدة
العربية، والتي عبَّر عنها ابنه إبراهيم حين سأله صحفي فرنسي عن المدى الذي ينوي أن
يتوقف عنده في زحفه بالجيش المصري على تركيا، قال: «حتى أقابل آخر رجل يتحدث باللغة
العربية.»
٣٣٠ وفي ١٦/ ٦/ ١٨٣٣م كتب مبعوث مترنيخ لدى عودته من مهمة في مصر: «إني أرى
إلى جانب اضمحلال إمكانيات الباب العالي، وهيبته المتداعية يومًا بعد يوم، جيشًا
عربيًّا مدربًا أحسن تدريب، مزهوًّا بالنصر، وإدارة في غنًى شبه تام عن الإدراك،
وانبعاث الروح القومية عند العرب، وتقديرًا متصاعدًا وواسعًا يتمتع به محمد علي،
على امتداد البلاد الناطقة بالعربية.»
٣٣١ ولعله من هنا جاء الرأي أن انسحاب مصر من الساحة العربية نتيجة لإخفاق
مصر في توحيد العالم العربي، بعد فشل محاولة محمد علي وابنه إبراهيم في بناء دولة
عربية كبرى.
٣٣٢
ولعلنا نجد تعبيرًا عن تفوق الحس العربي في الأقطار العربية المشرقية والمغاربية
بما يفوق الحس العربي في مصر بما روته التايمز البريطانية، عندما قرر السلطان
التركي — تحت الضغط الإنجليزي الفرنسي — أن يتدخل ضد الثورة العرابية «عسكرة الجنود
التركية في اللاذقية انتظارًا لأوامر الإبحار إلى الإسكندرية حتى توقف الهيجان
والإخلال بالأمن، وقاطعهم السوريون، وامتنعوا عن التعامل معهم، وأظهروا لهم الجفاء
والامتهان، ونعوا عليهم خروجهم لحرب إخوانهم المسلمين، وكان أولى لهم أن يحاربوا
أعداءهم الثائرين عليهم، وخرج على المقاطعة أحد كبار التجار، فباع الجنود الأتراك
لحومًا وطعامًا، فلم ينته اليوم حتى أُحرقَت متاجره كلها في المدينة، وكان الرجل يطلب
النجدة كالمجنون من الأهالي، فيبصقون في وجهه، ولا يتحركون لمساعدته، بل يطلبون أن
يسأل سادته الأتراك النجدة.»
٣٣٣ كان ذلك في ١٨٨١م، ولم تكن نهاية الرجل المريض قد دنت بعد، ومع ذلك فإن
«الإحساس بالعروبة» هو الذي أملى على السوريين موقفهم من أنباء الاستعداد التركي
للتدخل، بعكس المواقف السلبية، أو الإيجابية، في صالح الاستعمار التركي، لبعض
الاحتجاجات: طابا وطرابلس وغيرها. مع ذلك، فإن احتجاجات الزعماء السوريين في
القاهرة، ضد إعلان وعد بلفور، ركزت على الجانب الإقليمي دون الجانب القومي، باعتبار
فلسطين جزءًا من الشام، وأكدت برقيتهم إلى وزير الخارجية البريطانية «إن فلسطين
تكون جزءًا حيويًّا من الشام بمثابة القلب من الجسم، ولا تقبل فصلها سياسيًّا أو
اجتماعيًّا، كما تعتبر فلسطين قبلة الإسلام والمسيحية ومهد الديانتين مثلما يعتبرها
اليهود.»
٣٣٤
والملاحَظ أن إسهام المثقفين المسيحيين في تأكيد فكرة العروبة، جاء مقابلًا للحركة
الإسلامية التي تستبعد العناصر غير الإسلامية. روَّج هؤلاء لفكرة حضارة العرب قبل
الإسلام، ثم ازدهارها على يد الإسلام، وقيام المسيحيين بدورٍ خلاقٍ في بناء الحضارة
العربية مثل المسلمين.
٣٣٥ وفي ١٩٠٥م تأسست عصبة الوطن العربي (العمل القومي) واتخذت شعارًا لها
«البلاد العربية للعرب»، ثم أنشئت في ١٩٠٨م جمعية الإخاء العربية، ثم جمعية الجامعة
العربية … إلخ. وفي يونيو ١٩١٣م، عقد — لأول مرة في التاريخ الحديث — مؤتمر بالعاصمة
الفرنسية، دعا إلى مطالبة الدولة العثمانية بالإصلاح، وبحقوق العرب السياسية،
والاشتراك الفعلي في ادارة المملكة على أساس اللامركزية، وجعل اللغة العربية رسمية
في الولايات العربية.»
٣٣٦ وفي العام نفسه، ألقى السياسي السوري شكري العسلي خِطابًا في ميدان
إبراهيم باشا، وأشار الرجل إلى التمثال المقام بالميدان، وقال: إلى أين يشير هذا
التمثال؟ وأضاف: إن مصر والشام أختان بينهما رباطة الدين واللسان والعنصرية، وهذا
التمثال يشير بيده إلى البلاد الشاكية.
٣٣٧ واقترحت مجلة «السيدات والرجال» على الجمعيات النسائية في مصر وسوريا
الكبرى، وقد أقدمت عصبة العمل القومي على إحراق كتب طه حسين في ميدان عام بالعاصمة
السورية (سبتمبر ١٩٣٣م) لأنه «واحد من الذين يهونون أمر العرب، ويصغِّرون من شأنهم،
ويرفعون الصوت بالدعوة التي يكرهونها مر الكراهية، ألا وهي الفرعونية.»
والحق أن احتلال العناصر الشامية مناصب الدولة شكَّل جزءًا من الدافع الثوري عند
المثقفين المصريين، ومع ذلك، فإن الخلافات ثارت بين المثقفين المصريين، والمثقفين
من الشوام؛ لأن المصريين كانوا يستندون إلى عدالة قضيتهم الوطنية، وحق مصر في
الاستقلال، بينما لاذ غالبية الشوام بسلطات الاحتلال، كحليفٍ في الصراع ضد الوطنيين.
حتى ولي الدين يكن الذي عُرِف بمناصرته لقضايا الحرية، ونضاله ضد العسف العثماني،
دافع عن الوجود الاحتلالي في مصر. ولعلنا نذكر الدور الذي أدَّاه أصحاب «المقطم»، وهو
دور لم يكن هينًا على الإطلاق، وكانوا سببًا في نفي النديم للمرة الثانية. وللأسف،
فإن الدول الغربية كانت أكثر إدراكًا لخطورة «التوحُّد» العربي، وكانت مشروعاتها
لتفتيت المنطقة منذ بدايات العصر الحديث، محاولات دائبة لتحقيق السيطرة عليها، وعدم
إتاحة الفرصة لها للظهور كقوة دولية لها تأثيرها.
•••
إذا كان محمد عمر قد وصف مصر في ١٩٠٢م بأنها عاصمة البلاد العربية،
٣٣٨ فإن اللبناني نجيب عازوري كان أول من استخدم تعبير القومية العربية؛
ففي ١٩٠٥م أصدر كتابًا بعنوان «صحوة القومية العربية في آسيا التركية» لاحظ فيه نشوء
حركتين في الولايات العثمانية، أولاهما: القومية العربية، والثانية محاولات اليهود
لإقامة دولة إسرائيل. وأكد الرجل في حسمٍ أنه «مكتوب على هاتين الحركتين أن تظلا في
صراع حتى تتغلب إحداهما على الأخرى.»
٣٣٩ لكن إبراهيم عبد القادر المازني اعتبر نفسه أول من استخدم تعبير
«القومية العربية» (١٩٣٥م) عندما أرجع فشل ثورة ١٩١٩م إلى أن المصريين قد أحاطوا
قوميتهم بمثل سور الصين، ذلك «لأني أومن بما أسميه القومية العربية، وأعتقد أن من
خطل السياسة وضلال الرأي، أن تنفرد كل واحدة من الأمم العربية بسعيها، غير عابئة
بشقيقاتها، أو ناظرة إليها، ويحنقني ويستفزني أن أرى أحدًا ينظر إلى مصر، كأنها من
أوروبا وليست من المشرق … ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهمًا لا سند له
من حقائق الحياة والتاريخ، لوجب أن نخلقها خلقًا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة
مأمونة، وما خير مليون من الناس مثلًا؟ ماذا يسعهم في دنيا تموج بالخلق، وكيف يدخل
في طوقهم أن يحموا حقيقتهم، ويذودوا عن حوضهم؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة،
تستطيع أن تثِب عليهم وتأكلهم أكلًا بلحمهم وعظمهم.»
٣٤٠ ولعل قيمة هذه الكلمات تتوضح إذا علمنا أن البدو الذين يشير إليهم
الحكيم في «عودة الروح» ليسوا سوى العرب. وقد أعاد المازني الفلاحين والبدو إلى
النبتة الواحدة التي لم تكن قد طرحت كل ثمارها بعد: القومية العربية. ولعل قيمة
الكلمات تتوضح أيضًا فيما يرويه خليل سعادة (١٩٢٣م): «كنا نجتمع من حين إلى آخر مع
فريق من المفكرين السوريين والمصريين، وكثيرًا ما كان يدور حديثنا على شقاء الشرق
وخموله وعلله وعلاجها. كنا نتمنى في هذه الاجتماعات اتحاد الشعوب الشرقية، وتضامنها
لنزع نير الغرب عن أعناقها. كنا نرجو التعويض عن الجامعة الإسلامية بجامعة شرقية
عامة، تزول فيها النعرة الدينية، حتى يتسنى لكل الشعوب الشرقية — على اختلاف أديانها
ونِحلها — الانخراط فيها.»
٣٤١ وقد عبَّر عن إيمانه بفكرة «القومية العربية» حين التزم بالحوار الفصيح
في روايته «إبراهيم الثاني» التي يمكن اعتبارها جزءًا ثانيًا لرواية «إبراهيم الكاتب»،
بينما تداخلت الفصحى والعامية في الجزء الأول، فهو لم يشأ أن يطلق دعوته الباكرة
دون تطبيق، ولكننا نتعرف إلى المعنى — بتصرفات وكلمات مغايرة — قبل أن يعلن المازني،
ومن قبله نجيب عازوري، دعوته بعشرات الأعوام.
وابتداءً، فقد كان المماليك أبعد ما يكونون في مشاعرهم، أو اتجاهاتهم، عن
«العروبة» ذلك لأن انتماءاتهم العرقية والجنسية، والتعالي الذي كان يستمد ذاته من
تسلُّطهم على مقدرات الشعب المصري، وعن انتماءاته. وكانوا يحرصون في سياستهم على
إبعاد العنصر العربي عن مجال الزعامة السياسية والعسكرية. وعندما حاول علي بك
الكبير أن يقتطع مصر من جسد الخلافة العثمانية، ويستقل بحكمها، فقد كان ذلك — في
الحقيقة — لتحقيق مطامع شخصية.
٣٤٢ مع ذلك، فإن نابليون يشير في مذكراته إلى أن المخاض قديم، والأمل أقدم؛
فهو يتوقع إذا ما استقلت مصر أن تستقل المملكة العربية التي تتألف من أمة تخالف
الأمم غيرها مخالفة كلية بعقليتها وأوهامها ولغتها وتاريخها، وشملت مصر وبلاد
العرب، وشطرًا من بلاد أفريقيا.
٣٤٣ وتُعَد محاولة محمد علي وابنه إبراهيم لإقامة دولة عربية كبرى، مقابلًا
لدولة الخلافة العثمانية، أول محاولة — في تقدير المؤرخين — لبناء الوحدة العربية
الشاملة. ففي ٢١ مارس ١٨٣٣م كتب بالمرستون وزير الخارجية الإنجليزي إلى وزيره في
نابولي قائلًا: «إن هدف محمد علي الحقيقي هو إقامة مملكة عربية تضم جميع البلاد
التي تتكلم اللغة العربية، ونحن لا نرى سببًا يبرر إحلال ملك عربي محل تركي في
السيطرة على طريق الهند.» وكتب بروكسين، رئيس البعثة النمساوية التي أرسلها مترنيخ
لتقصِّي حقائق مشروع محمد علي: «يبدو أن الاتجاه الأكيد نحو تكوين إمبراطورية عربية
يشمل مصر والنوبة وسنار ودارفور وكردفان في أفريقيا، وشبه الجزيرة العربية في آسيا
حتى الخليج، وتمتد على الشاطئ الأيمن للفرات لتشمل سوريا بأسرها.» والواقع أن محمد
علي كان ينطلق في فتوحاته من منطلق استعماري توسعي، وليس من منطلق وحدوي، تبدى ذلك
في ثورات الأقاليم العربية التي فتحها محمد علي ضد التنكيل الذي حل بها تحت يديه.
ومن هنا يَعتبر أنيس صايغ حملات محمد علي في المنطقة العربية من العوامل التي أعاقت
الفكرة العربية عن اكتساب ملامحها. مع ذلك، فإننا نجد إرهاصات الابتعاد المصري عن
دولة الخلافة في عهد محمد علي الذي كاد — لولا المؤامرات الدولية — يقتطع الأقاليم
العربية من الجسد العثماني، بل وكاد يقتحم القسطنطينية. وكان بالمرستون رئيس وزراء
بريطانيا في عهد محمد علي هو واضع أسس استراتيجية القضاء على حكم محمد علي، وبرر
ذلك بأن الهدف الحقيقي لمحمد علي هو «إقامة مملكة عربية تضم كل البلاد التي تتكلم
العربية. وربما لا يكون هناك أي ضرر في هذا الهدف في حد ذاته، لولا أنه يعني تمزيق
الإمبراطورية العثمانية، وهو أمر لا يمكن بحال أن نوافق عليه. وعلى طريق الهند،
فإننا نفضِّل أن تبقى تركيا، على أن يقوم حاكم عربي شديد الطموح والإيجابية.» وقد
عبَّر عن المعنى نفسه الكولونيل تايلور ممثِّل شركة الهند «في ظل الشقاء والبؤس الذي
يعانيه الأهالي، فإنهم يتطلعون جميعًا إلى إبراهيم باشا. أما التجار والأعيان فإنهم
يتطلعون جميعًا إلى قيام الخلافة العربية بزعامة مصر، والتي سوف تنقذهم من الربقة
العثمانية.» ويقول مختار بك ياور إبراهيم: «قدِمنا إلى مصر، ولم نكن نتجاوز سن
الطفولة، ولذلك لم نعد أتراكًا قَط، ولم تبق رابطة تربطنا بذلك الشعب، وإننا الآن
ننتسب إلى شعب أنبل وأكثر تنوُّرًا، وسبق أوروبا في مضمار الحضارة، ننتمي إلى الشعب
العربي.»
٣٤٤ وعندما سئل إبراهيم باشا، أثناء حصاره لعكا، إلى أي مدى ستصل فتوحاته،
أجاب: إلى حدود البلاد التي لا يتكلم فيها الناس ويتفاهمون باللسان
العربي.
٣٤٥ وفسر بعض المؤرخين ذلك القول بأنه كان بداية التفكير في مبدأ القومية
العربية بزعامة مصر. لقد جاهر إبراهيم بأنه ينوي إحياء الاتجاه العروبي، وحرص على
أن يذكِّر جنوده بمفاخر الأمة العربية ومجدها، وحدد الملامح المستقبلية للإمبراطورية
التي أسَّسها أبوه بأنها «دولة عربية بحتة؛ أي أن يكون حكامها ورعيتها وجنودها
وضباطها من جنس واحد وأمة واحدة.» ورغم هزيمة «نافارين»، فإن محمد علي لم يركن إلى
اليأس، إنما حاول أن ينسج — من جديد — خيوط الدولة العربية التي تحل الشام ضمن
حدودها. لذلك فإن الكثير من الآراء يعود بالحلم العربي إلى الأعوام بين ١٨٣٠–١٨٤٠م،
في أثناء الحكم المصري للشام، حين أعلن إبراهيم بن محمد علي، فاتح الشام وحاكمه في
تلك الفترة، أنه قد أصبح مصريًّا، وأن المصريين ينبغي أن يحلوا محل الأتراك في
قيادة الدولة المصرية الناشئة، وأن الدولة العربية ينبغي أن تحل محل الدولة
العثمانية.
٣٤٦
وكانت البعثات المصرية إلى أوروبا، تأكيدًا للتلامس الحضاري بين مصر التي عزلتها
أسوار الحكم العثماني حتى عن تاريخها القديم، فضلًا عن العالم المحيط بها … كانت تلك
البعثات معلمًا مهمًّا في سبيل مناقشة المثقفين المصريين لحقيقة انتماء بلادهم
لدولة الخلافة، ووجد رفاعة الطهطاوي في نفسه الجرأة (!) لأن يكتب: «إن الفرنساوية
أقرب إلى العرب من الترك — ثمة إذن عرب وأتراك؟! — فهم يحرصون على الشرط والحرية،
ويحبون الافتخار، ويوفون بعهودهم.» وكانت مصر أسبق من غيرها من الولايات العثمانية
في الثورة على الاستعمار التركي، ولهذا فقد اتسم دورها بالريادة في سبيل الاستقلال
الذي كانت قد أفلحت في تحقيقه فعلًا، برغم تبعيتها الرسمية للباب العالي. وفي النصف
الأول من القرن التاسع عشر، قادت مصر ما أطلق عليه المؤرخون الغربيون «حركة الإحياء
العربي الجديد»، أو «الإمبراطورية العربية»، لما هاجمت الجيوش العثمانية المتمركزة
في بلاد المشرق العربي من الخليج إلى الصومال، وألفت بين هذه الأقاليم العربية في
نظام متحرر من السلطان العثماني الجائر، وطوَّرت اللغة والعلوم والصناعة العربية،
وترجمت إلى العربية أهم مصادر العلوم والمعرفة لذلك العصر، كي تساير اللغة والأمة
حركة التقدم العالمي بعد طول تخلف.
ومثَّل عهد عباس الأول انتكاسة حقيقية في تأكيد الشخصية المصرية، فقد كان الوالي
يدين بالعصبية التركية، مقابلًا لمحو كل مظاهر الوطنية — أو القومية — التي بدأت تتضح
في الحياة المصرية، إلى حدِّ فصل الطلبة المصريين عن بيئاتهم، واختيار أسماء تركية
لهم بدلًا من أسمائهم الأصلية، والتزام موظفي الحكومة بمحاكاة موظفي الباب العالي
في الزي، وإبدال الطربوش بالعمامة، وإرسال لحاهم مثلما يفعل الموظفون
الأتراك.
٣٤٧ وإذا كانت الشخصية المصرية قد بدأت تسترد بعض ملامحها التي حاول عباس
الأول طمسها تمامًا، وبالتحديد في عهد محمد سعيد الذي كان — في تقدير عرابي — باعث
الوطنية المصرية، فإنه — سعيد — كان يقدم على تصرفات تبدو مناقِضة لسياسته المعلَنة،
فهو يتحدث — على سبيل المثال — في خُطبة له عن ضرورة تربية أبناء هذا الشعب، وتهذيبه
تهذيبًا صالحًا، حتى تجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه
عن الأجانب «وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.»
٣٤٨ ويقرر أن تكون العربية هي لغة القضاء الرسمية، وهيَّأ للغة العربية أن
تسود في دواوين الحكومة. لكن سعيدًا — هو الخديو نفسه — يقول لسكرتيره السويسري كونج
بك، الذي يقترح عليه أن يعيد فتح المدارس التي أغلقها سلفه: لم نعلِّم الشعب؟ لكي
يصبح الحكم عليه والتصرف فيه أعسر مما هما عليه؟ دعهم في جهلهم؛ فالأمة الجاهلة
أسلس قيادًا في يدي حكامها. وقد أدت ثقته في العناصر الأجنبية إلى عمليات السخرة
في فتح القناة، ثم تزايد الأطماع في مصر، والتي انتهت بالاحتلال البريطاني. وعاون
سعيد نابليون الثالث في حربه بالمكسيك بكتيبة من الجنود السودانيين، وفرضت اللغة
الفرنسية — في عهده — نفسها كلغة رسمية ثالثة، إلى جانب التركية والعربية، وبدأت
المدن المستحدَثة تحمل أسماء فرنسية لأول مرة، مثل بورسعيد، وتلتها بور إبراهيم في
عصر إسماعيل، ثم بور توفيق، وبور فؤاد.
٣٤٩ وعلى الرغم من خطة جعل مصر قطعة من أوروبا التي عمل إسماعيل لتنفيذها
طيلة فترة حكمه، وتسرُّب النفوذ الأوروبي إلى كل مجالات الحياة المصرية، فإن أحمد
عرابي الذي حرص على مصرية الثورة، حرص على عروبتها أيضًا، وكان يقدم نفسه بأنه
«عربي شريف ومصري». ويتحدث عن الثورة بأنها فتحت باب الحرية في الشرق «ليقتدي بها
من يطلبها من إخواننا الشرقيين — يقصد العرب — شرط أن يلزم الهدوء والسكينة.» وقد
اعتبر البعض الحركة العرابية — بالفعل — أول حركة قومية عربية في مصر «ولعلها كانت
الأولى في العالم العربي، ولاتجاهها القومي العربي تكون بالفعل قد انحرفت عن
المفهوم السائد في القرن التاسع عشر الميلادي في منطقة البلدان الإسلامية، وهو
مفهوم الولاء للسلطة الدينية.»
٣٥٠ ودعا أديب إسحق — آنذاك — إلى التمسك ﺑ «صلات الجامعة اللغوية؛ فلا وجود
لأمة إلا بهذه الجامعة.» وأكد أننا نحن العرب «مهما اختلفت أدياننا، أبناء أمة
واحدة ووطن واحد، ولن نقوى على حفظ وطننا ما دامت مذاهبنا مغرقة لوحدتنا.» وتحدث
بلنت عن لقائه — أيام الثورة العرابية — بالشيخ محمد خليل — من علماء الأزهر — حيث ذكر
له الشيخ أنه عضو في جمعية المصلحين الأحرار، ومركزها الرئيس مكة، أما هدفها المعلَن
فهو معارضة السلطان عبد الحميد وإقامة خلافة عربية.
٣٥١ وكان من بين الأسماء التي أطلقت على عرابي «خليفة العرب» — تسمية لها
دلالة! — وذكر محمود سامي البارودي للويس صابونجي أن «فكرة إعلان الجمهورية في مصر
كانت تتضمن انضمام سوريا إليها، ثم الحجاز.»
٣٥٢ مع ذلك، فإنه إذا كانت مصر قد انشغلت — في أعقاب الحرب العالمية الأولى —
بأحداث سوريا وفلسطين والريف وبرقة، فقد كان ذلك من قبيل التضامن الديني. وفي أواخر
القرن الماضي، قال الشاب (حديث عيسى بن هشام) وهو يتأمل الآثار الفرعونية: «وأما
قولك إن آباءنا وأجدادنا هم من نسل هذه الرمم الفرعونية، فإنه إثم ونكر، أستعيذ
بالله منه. ما كان أجدادنا وآباؤنا إلا أولئك العرب الكرام، أهل الدين والإسلام،
لا نفاخر إلا بمفاخرهم، ولا ننتسب لغير أصلهم.»
٣٥٣ وبدلًا من الآثار الفرعونية، فإن الفنان يستنطق إحدى الشخصيات بالسؤال:
أي شيء يكون اليوم أجمل في العين نظرًا، وأجل في القلب وقعًا، لو حفظنا ما ضيعه
التفريط مثلًا من درة عمر، وصمصامة معد يكرب، وقميص عثمان، ودرع علي، وتاج الرشيد،
وراية المعز.
٣٥٤ وقد تواصل الاتجاه الذي يربط بين العروبة والإسلام، بل لعل صوته أصبح
أشد عمقًا في حركات أصولية تالية، وهو ما عبَّر عنه إسماعيل مظهر في قوله (١٩٤٥م):
«إذا قال أحدنا الجامعة العربية فإنما يعني جامعة إسلامية، روحها العروبة، وكل قول
ينابذ هذا القول خطأ، وكل نزعة تخالف هذه النزعة شعوبية خسيسة.»
٣٥٥
وفي العشرينيات، كتب مكرم عبيد — هذا القبطي المصري العظيم — يقول: «قبل بضعة
أعوام، سافرت في رحلة صيفية إلى سوريا، وتفضَّل إخواني السوريون في الشام ولبنان
وفلسطين، فشملوني بترحيبهم وتكريمهم، فوقفت يومئذٍ وتحدثت عن الوحدة، وقلت «المصريون
عرب»، وأبديت رأيًا في هذه النظرية التي يؤيدها التاريخ، فنحن معشر المصريين جئنا
من آسيا، ونحن أدنى إلى العرب منذ القدم من حيث اللون واللغة والخصائص السمية
والقومية.»
٣٥٦ ويضيف مكرم عبيد: «إن المقصود بقولي «المصريون عرب» هو هذه الوشائج،
وتلك الصلات التي لم تفصمها الحدود الجغرافية، ولم تنل منها الأطماع السياسية
منالًا، على الرغم من وسائلها التي تتذرع بها إلى قطع العلاقات بين الأقطار
العربية، والعمل لقتل الروح العربية بين أبنائها، والسعي للتفرقة واضطهاد العاملين
لتحقيق الوحدة العربية التي لا ريب في أنها من أعظم الأركان التي يجب أن تقوم عليها
النهضة الحديثة في الشرق العربي.»
٣٥٧
وتعد رواية «غادة حمانا» لمحمود طاهر حقي إرهاصًا بدعوة القومية العربية كما سماها
المازني في مقالته، فثمة أحمد حمدي الذي لم تستهوه مناظر جبل لبنان فحسب، بل سحرته
رقة اللبنانيين ودماثة أخلاقهم، وما بينهم وبين المصريين من لحمة وتشابه.
٣٥٨ وعقب وفاة سعد زغلول — ١٩٢٧م — أقيم في العاصمة الفرنسية حفل تأبين حضره
ممثلون لمصر وسوريا ولبنان وفلسطين، وطرح المجتمعون فكرة تأليف جمعية لتوثيق
الروابط بين الأقطار العربية. ورأى البعض تسميتها «الجمعية الشرقية» بينما رأى
البعض الآخر تسميتها «الجمعية العربية». وحسم الزعيم اللبناني رياض الصلح الأمر
بقوله: «أنتم الآن مثال حي، فقد تُوفي سعد، ولم تسمعوا أن بلدًا من البلاد الشرقية
قد بكاه، على حين أن الأقطار العربية كلها بكته كما بكته مصر، هل تظنون أننا أقرب
إلى التيبت منا إلى برنديزي؟!» ورجحت — بالفعل — كلمة «العربية»، وتألفت «جمعية
الثقافة العربية» بباريس، وانتُخب الدكتور محمد صلاح الدين — وزير خارجية مصر، فيما
بعد — رئيسًا لها، وحيدر مردم نائبًا للرئيس.
٣٥٩
•••
في ديسمبر ١٩٣٨م أجرت مجلة «الهلال» استفتاء بين عدد من رجال الفكر والسياسة حول
سؤال هو: جبهة مِن الشعوب العربية: هل هي ضرورة؟ وماذا يجب لتأليفها؟ قسَّم بهي الدين
بركات الجبهة العربية المقترحة إلى مجموعتين: شعوب ناطقة بالعربية كمصر وسوريا
ولبنان والعراق والحجاز — السعودية — واليمن وطرابلس — ليبيا — والجزائر والمغرب الأقصى
— المغرب — وشعوب تجمع البلاد الإسلامية بصرف النظر عن اللغة التي تتكلم بها مثل تركيا
وإيران وأفغانستان وبعض مقاطعات الهند والصين وغيرها. ومع أن بركات أكد أن المعنى
الأول هو الأدق والأكثر تحديدًا في مدلول اللفظ، فإن مجرد طرح صورة الجهة على هذا
النحو يشي بصعوبة التحديد، وغموض المعنى العربي عمومًا، بل إن الكاتب يتحفظ بالقول:
«غير أننا نرى الشعوب العربية قد خضعت في الوقت الحاضر لظروف سياسية ليس من السهل أن
تتحقق معها تلك الرغبة. وليس من اليسير أن تعقد بينها في هذه الآونة أحلاف سياسية
تكوِّن منها وحدة أو جبهة تدافع عن مصالح العرب، وتناضل عن حقوقهم، ويكون لها من
الأثر العملي ما يجعل الحكومات العربية تعترف بها، وتتعاون معها، وتعتبرها معبِّرة
عن آمال الأمة العربية وآرائها السياسية.» أما رأي لطفي السيد فقد كان متسقًا مع
أفكاره السياسية بعامة؛ كان رأيه أن السعي لتأليف تحالف من هذا النوع وهمٌ من
الأوهام. أما خليل مطران فقد ذهب إلى أنه «يمكن التفكير الجدي في تأليف جبهة عربية،
تقوم أولًا وقبل أي شيء، على التعاون الثقافي، والتضامن الاقتصادي، وتوحيد الاتجاه
الفكري بتقريب نظم التعليم.»
٣٦٠ لكن فوزي السيد — أزهار — على خلاف ما كان يتوقع الجميع — ألقى محاضرة —
بعد عودته من باريس، دعا فيها إلى العروبة في مواجهة الدعوة إلى الفرعونية التي كان
من غلاة المتحمسين لها. فبعد أن أطلق على نفسه — ذات يوم — اسمًا فرعونيًّا، ودعا
المصريين إلى التسمي بالأسماء الفرعونية، انتصر لدواعي الوحدة العربية، إلى الأخذ
بالحضارة العربية؛ أصبحت الوحدة العربية — في تقديره — ضرورة ملحة لا تستطيع مصر
الحياة بدونها.
٣٦١ لكن إيمان فوزي السيد بالعروبة كان متأثرًا — إلى حد بعيد — بالخُطب
والأشعار والمقالات، وبالنظريات التي كان ينقصها التطبيق، حتى أتيح له أن يستمتع
بثمار هذه الوحدة القائمة فعلًا، دون حاجة إلى خُطب أو محاورات، لما ركب القطار من
محطة العاصمة إلى مدن فلسطين؛ نفس اللغة، نفس العادات والتقاليد، نفس النقود، نفس
الأطعمة، نفس القلوب المقبِلة الطيبة. وفي بيروت ودمشق شاهد السيارات تنتقل بين
المدن العربية، وحدة قائمة بالفعل، دون إعلان.
٣٦٢ وزار فؤاد (أزهار الشوك) بعلبك، فلاحظ تشابه الإقليم بما ألف من مناظر
مصر، وكان «يحدِّث نفسه في مدة رحلته عن هذه البلاد التي تمزقت قطفًا، كما يتمزق
البدن في أشلاء صغيرة، وكل قطعة تعيش وحدها في رقعة صغيرة لا تكاد تغني شيئًا في
حياتها، وقد قنع أهل كل قطعة منها بما هم فيه، واغتروا بأسماء ينخدعون بها، أو
يخدعون أنفسهم بسحرها، فما ذلك الاستقلال الذي يتلقفه الناس خرافة عن القدماء؟ ما
معنى ذلك الاستقلال الممزق إذا كانت الأمم لا تجد في أرضها ما يدعم وجودها؟ إنها
خرافة خلفها القدماء، يوم كانوا في أيام فطرتهم الأولى، ثم تلقفها أهل الجدل وسخفاء
الرأي الذين أوغلوا في طلب الحرية حتى مرقوا منها.»
٣٦٣ وفي «الحصاد» يتحدث سليم باشا شلبي عن رفعة الباشا الذي هدد إنجلترا
وفرنسا بالاستيلاء على قناة السويس إذا لم يفرج عن الشيخ بشارة الخوري، وتنال سوريا
ولبنان استقلالهما.
٣٦٤
والحق أن تطورات القضية الفلسطينية، منذ أحداث حائط البراق في فلسطين (١٩٢٩م)
تأكيدًا ملحًّا للمصريين على أن الخطر الاستعماري لا يقتصر على احتلال الإنجليز
لمصر، لكنه يتمثَّل كذلك في استيلاء اليهود على الأماكن المقدسة في فلسطين، وطرد
العرب والمسلمين منها، وما يعنيه ذلك من تهديد مباشر ودائم للحدود المصرية،
وللاستقلال المصري جميعًا. وكانت ثورة الشعب الفلسطيني في ١٩٣٦م، ردًّا على اقتراح
لجنة «بيل» المَلَكية بتقسيم فلسطين، قد أسهمت — بصورة مؤكدة — في اكتشاف مصر لهويتها
العربية. هددت الصهيونية سيناء مثلما هددت فلسطين، ورفض العمال المصريون — الذين
طلبتهم حكومة الانتداب البريطاني — أن يحلوا محل العمال الفلسطينيين المضربين عن
العمل، وأعلن العديد من الهيئات والأحزاب عن وجوب الاتجاه عربيًّا، وشاركت في
المؤتمرات العربية التي عقدت لمناقشة التطورات في فلسطين، وطالبت مجلسَي النواب
والشيوخ باتخاذ قرار حازم حيال ما يجري في فلسطين. وتكونت لجنة للدفاع عن حقوق
الشعب الفلسطيني، عقدت أول اجتماعاتها في ١٠ يوليو ١٩٣٧م بمقر المركز العام لجمعية
الشبان المسلمين. وبعد عودة محمد علي علوبة من لجنة التحقيق الدولية في قضية «جدار
البراق الشريف» هاجم الفرعونية، وانتصر لفكرة العروبة.
٣٦٥ وهو ما أسفر عنه مؤتمر بلودان الذي عُقد في سبتمبر ١٩٣٧م، لبحث الإجراءات
التي ينبغي اتخاذها لدرء الخطر الصهيوني عن أرض فلسطين. تمخض المؤتمر عن توصيات،
لخصها جبران التويني بأن «هذه الروح القومية التي رفرفت في جو المؤتمر، وهزت نفوس
المؤتمرين، دلَّت أوضح دلالة على أن الفكرة العربية التي كانت خيالًا يضحك منه بعض
المتشائمين والشعوريين والاستعماريين، أصبحت حقيقة ملموسة، فليعتبر الذين لا يزالون
متمسكين بالفينيقية والفرعونية والإقليمية والشعورية، وليعلموا أن الأقطار العربية
التي بدأ كل منها حريته، بعد أن استعاد العرب وعيهم القومي، ستحمل نصيبها في خدمة
الإنسانية والحضارة كما حملته من قبل.»
٣٦٦ وأدرك الوعي المصري عن أن الحفاظ على المصرية لا يكفله إلا الانتماء
إلى جامعة سياسية أعم.
٣٦٧ ويُرجِع بعض المؤرخين غياب مصر عن حركة «القومية» العربية حتى عام ١٩٣٦م،
إلى خوفها من «إغضاب الدول الغربية التي كانت بحاجة إلى تعضيدها للحصول على
الاستقلال، وموازنة النفوذ البريطاني.»
٣٦٨ وعلى الرغم من كل السلبيات التي أحاطت بمعاهدة ١٩٣٦م، فإنها أتاحت لمصر
حرية الحركة في سياستها الخارجية، وانطلقت لأداء دورها العربي بصورة جديدة. وفي
١٩٤٣م كتب عبد الرحمن عزام ومحمد علي علوبة «ميثاق الأمة العربية» الذي تؤكد مادته
الأولى أن العرب يؤلفون «أمة واحدة تعيش في بقعة تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط
الهندي، توحِّدها الأصول الواحدة، والتاريخ المشترك، والإرادة الواحدة.»
٣٦٩ وفي ٢٢ مارس ١٩٤٥م وُقِّع ميثاق جامعة الدول العربية، وكانت الدول المشتركة
في التوقيع هي: مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق والمملكة العربية السعودية
واليمن. وتجد بعض الاجتهادات الأيدي البريطانية واضحة في إنشاء جامعة الدول
العربية، وقد يكون هذا صحيحًا؛ لأن بريطانيا وجدت مصلحتها في مساندة زعامات الشرق
العربي لطموحاتها الاستعمارية — بشكل تكاملي — لكن الصحيح أيضًا أن القومية هي
الإمكانية الحقيقية أمام الأقطار التي تحيا في هذه المنطقة، وليست إسرائيل — بالطبع —
من بينها. ويقول أكرم زعيتر: «إن العقد الثالث من هذا القرن قد شهد من تحديات
النزعة الفرعونية وإشراقات الفكرة العربية ما يمكن أن تعد إرهاصات للعقد الرابع
الذي تأسست فيه جامعة الدول العربية، وكان لمصر النصيب الأوفر من الجهود لقيامها،
وللخمسينيات التي انتقلت العروبة فيها من فكرة واتجاهات وتعاطف ومواقف إلى «قومية»
صارت طابع الدولة، والمؤثر الأول في سياستها.»
٣٧٠ لقد عادى مصطفى كامل — في مطالع القرن العشرين — فكرة قيام خلافة عربية،
اعتقادًا منه بأن الخلافة العربية — والعروبة بعامة — هي اختراع بريطاني لإضعاف
الدولة العثمانية، مما يسهل التهام الولايات العربية المنضوية تحت لواء تلك الدولة،
ووصف دعاة العروبة في مصر بأنهم دخلاء، وعملاء للاستعمار الأوروبي. ووجد محمد عبد
الله عنان في فكرة الجامعة العربية «أمنية خيالية، لا تقوم على أسس. ومن الخطأ
البيِّن أن تنتظم مصر في سلك البلاد العربية إذا تعلق الأمر بالناحية القومية،
فالقومية المصرية قومية أصيلة.» ويشير أكرم زعيتر إلى الإجراءات التي اتخذها
إسماعيل صدقي، عند توليه رئاسة الوزارة، حين أخرج من مصر الأمير الثائر عادل
أرسلان، وطارد الكاتب السياسي سامي السراج، وحظر على محمد الطاهر صاحب جريدة
«الشورى» الاشتغال بالقضية الفلسطينية، ومنع الاحتفال بإحياء ذكرى عمر المختار،
وأمر بإخراج عبد القادر الحسيني من مصر، ورفض السماح للمناضل الشيخ أحمد السنوسي
بأن يُعالَج في مصر، فمات في الحجاز. وشنَّت الصحف العربية على صدقي حملة تفوق ما كانت
تشنه عليه صحف المعارضة المصرية، نتيجة للحرية النسبية التي كانت تتمتع بها قياسًا
للأوضاع الرقابية القاسية التي كانت مفروضة على الصحف المصرية.
٣٧١ واللافت أن عددًا كبيرًا من المثقفين المصريين ظلوا يسيئون الظن
بالاتجاه العروبي، لشبهة تخفِّي الاستعمار الإنجليزي وراءه. وإذا كان الاستعمار
البريطاني قد حاول إغراء بعض القيادات العربية بفكرة العروبة، فليس معنى ذلك أن
العروبة كفر. لقد حاول الاستعمار أن يفيد من الحلم العربي الذي غيَّبته بواعث سياسية
مختلفة في صنع مستقبل سرابي لأقطار الوطن العربي. لكن ذلك الواقع كان حقيقة وليس
سرابًا منذ صدر الإسلام حتى بدأت الأمراض تجد سبيلها إلى الجسد العفي. وبالتحديد،
فإن الانتماء إلى العروبة هو الأرض الصلبة التي وقف الشعب العربي، أكرر: الشعب
العربي، عليها. أما التشرذم، والانكفاء على الذات، والتعامل بمنطق الدويلات التي
تغيب عن غالبيتها أبسط مقومات الدولة، فإن الخسارة المؤكدة تلحق الجميع.
وبعد اندحار قوات المحور في الصحراء الغربية، أثناء الحرب العالمية الثانية، طُرحَت
فكرة إنشاء جامعة للدول العربية، وفي ١٩٤٤م وجهت الدعوة إلى الحكومات العربية لإرسال
مندوبين عنها لعقد المؤتمر التحضيري. وفي ٧ أكتوبر ١٩٤٥م تم في قصر أنطونيادس
بالإسكندرية، توقيع بروتوكول الجامعة العربية، واستبشرت الأقطار العربية خيرًا. لم
يقلل من ذلك إقالة الملك فاروق — في اليوم التالي للتوقيع — لحكومة النحاس، كان هدف
أنتوني إيدن من إنشاء الجامعة العربية جعلها «خادمة للسياسة البريطانية في الدول
العربية.»
٣٧٢ لذلك فقد فسر النحاس بواعث الإقالة بأن الحكومات العربية أرادت أن تكون
الجامعة قومية للعرب، بينما أرادتها بريطانيا أداة لصالحها، وأقيلت كل الحكومات
القوية التي وقعت البروتوكول، سعيًا لإجهاضه.
٣٧٣ وكانت أحداث فلسطين — منذ قرار التقسيم في ١٩٤٧م إلى ١٩٤٨م — عاملًا حاسمًا
في تأكيد وحدة العرب. ولعلي أشير إلى تخبُّط القوى الصهيونية والاستعمارية — المعلَن
—
عقب قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا، وإلى قول الزعيم التركي عصمت إينونو، في
أعقاب إعلان الوحدة: هذه دولة جديدة قوية، ونحن نحترمها … وإن كنت أرجو ألا تطلبوا
استعادة لواء الإسكندرونة! كما أشير إلى ما أنفقته الأنظمة الرجعية العربية لكي
تتقوض الدولة الوليدة. أخيرًا، فلعله لا يخلو من دلالة ذلك التبلور الذي انتهت إليه
الهوية الوطنية، أو القومية، في: ابن العرب الذي يواجه الخواجة!
•••
ولعله يمكن القول إن التحمس الانفعالي، كان هو السمة التي تغلب على معظم تلك
الاتجاهات؛ ذلك لأن البحث عن الشخصية القومية، مسألة تتصل بالعقل، لكنها تتصل
بالوجدان أيضًا.
وحين هدأ الانفعال، وانقشعت غلالات التحمس الطارئ، وتحددت أبعاد الصورة بملامحها
وألوانها وظلالها، فقد تأكد الانتماء العربي للشخصية المصرية؛ فهي قد تجد
امتداداتها، وبعض تكويناتها، في الحياة المصرية قبل الفتح العربي، وإلى عهود
الفراعنة، وما قبل التاريخ الكتابي. وقد تجد في التراث المسيحي والإسلامي جزءًا من
تكوينها الديني. وقد تجد في إفادتها من التقدم الأوروبي المدني، أمرًا بالغ الحيوية
لمجاوزة أسوار التخلف، واللحاق بمدنية العالم المعاصر، لكن الانتماء العربي ظل هو
نبض الحياة الحقيقي في جسد الشخصية المصرية. وكان الإيمان بذلك الانتماء — في
البداية — يتغلف بمسحة وجدانية عاطفية، مثل كل الاتجاهات التي كانت تنشد المخرج، ثم
بدأ يستجمع — أو يجمع له أنصاره — وتؤكد الأحداث مدلولاته المادية، بحيث أصبح في
النهاية اتجاهًا غالبًا، لم تفقد معه بقية الاتجاهات أصواتها، لكنها خفتت بصورة
ملحوظة، بعد أن انضم إلى الاتجاه الغالب العديد من دعاة الاتجاهات الأخرى ومريديها
وتلامذتها. وأذكِّرك — للمرة الثالثة — أن سلامة موسى الذي دعا في بعض فترات حياته، إلى
الفرعونية، ثم إلى الأوروبية، أيَّد — فيما بعد — الدعوة إلى التخلي عن العامية في
الحوار، حرصًا على أن تكون للعرب لغتهم الواحدة، وتأكيدًا للهوية العربية: «أنا لا
أنكر غرابة الحديث بالفصحى على المسرح، وفي السينما، ولكننا نستطيع أن نضحي بذلك
لمصلحة الوحدة القومية بين الشعوب العربية … يجب أن ندرس اللهجات باعتبارها شيئًا
غير اللغة العربية، ولست أنكر أن في ذلك تضحية، ولكن الحلم الأكبر الذي يراودنا هو
إيجاد دولة قوية ينهبها الآن الاستعمار، وتحكمها طغمة رجعية من الملوك، هذا الحلم
يستحق أن نضحي من أجله باللهجات.»
٣٧٤
•••
ولكن: هل يعني تأخر ترسيخ الدعوة إلى القومية العربية، غياب تلك الدعوة
قبلًا؟
الواقع أن الانتماء العربي لمصر حقيقة تجد منابتها في الفتح العربي، وربما قبل
ذلك كما تقول بعض الاجتهادات، ومن ثَم فإن القومية العربية حقيقة في الحياة المصرية،
وإن لم تجد التسمية ذاتها إلا في الثلاثينيات من القرن العشرين. وقد ساعد على
خفوت صوت الفكرة العربية — قبل ذلك — بضعة عوامل، من بينها: انشغال الشعب المصري
بقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة تفوق انشغاله بغيرها من القضايا،
وثمة إعلان أتاتورك زوال الخلافة، فضلًا عن محاولات الاستعمار المتصلة لإضعاف الحس
القومي في مصر، وفي غيرها من الأقطار العربية. وكان للدعوة العربية رجالاتها من
زعماء السياسة المصرية مثل أحمد زكي الذي لُقِّب بشيخ العروبة، وعزيز المصري، وعبد
الرحمن عزام، وغيرهم.
وقد تواءم قيام ثورة ١٩١٩م في مصر، مع قيام ثورات أخرى في الفترة من ١٩١٩م إلى ١٩٢٢م
في سوريا وفي العراق، ثم في مراكش عام ١٩٢٤م. والثابت تاريخيًّا أن بعض الزعماء
العرب اتصلوا — في بدايات الثورة — بقيادات الوفد المصري للقيام بتنسيق عربي موحد،
لكن الفكرة — بإهمال قيادات الوفد — ما لبثت أن أُجهضَت. وربما يرجع عدم وضوح الخط
العربي لمصر إلى إهمال أيديولوجية ثورة ١٩١٩م للبُعد القومي العربي إهمالًا كاملًا،
وكان لذلك الإهمال أثره المباشر، والحاد، في ضياع الصوت العربي بين الأصوات
المتحمسة والزاعقة التي كانت تنشد تأكيد الشخصية المصرية. لكن الصوت العربي — بعد أن
خفَّت حدة التحمس والانفعال — ما لبث أن تأكد، وشقت الهوية العربية مجراها في التربة
المصرية، في سهولة ويسر.
وكان انتصار الوفد — ومكرم عبيد بالذات — لفكرة العروبة، عاملًا حاسمًا في تأكيد
الهوية العربية لمصر. فقد زار مكرم عبيد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) في ١٩٣١م،
وأقيمت احتفالات تكريمًا له، ودعا الزعيم السوري لطفي الحفار — في أحد هذه
الاحتفالات — إلى زعامة مصر للبلاد العربية، وإن أعلن تحفظه بأن «تكونوا معنا عربًا،
لا شرقيين ولا فراعنة.» وأردف رياض الصلح قوله: «إن نغمة الشرقية لا تلذ أسماعنا،
ولا نطرب لها.»
٣٧٥ وعاد ليتحدث عن الوحدة العربية، وأن المصريين عرب، ولم يكتف بالمعاصرة،
لكنه عزَّز رأيه تاريخيًّا بأن المصريين قدِموا من آسيا، وهم أقرب إلى العرب منذ
القدم، من حيث لون البشرة والخصائص السامية والقومية.
٣٧٦ وكتب مكرم عبيد: «والمقصود بقولي «المصريون عرب» هو هذه الوشائج، وتلك
الصلات التي لم تفصمها الحدود الجغرافية، ولم تنل منها الأطماع السياسية منالًا،
على الرغم من وسائلها التي تتذرع بها إلى قطع العلاقات بين الأقطار العربية، والعمل
لقتل الروح العربية بين أبنائها، والسعي للتفرقة، واضطهاد العاملين لتحقيق الوحدة
العربية، التي لا ريب في أنها من أعظم الأركان التي يجب أن تقوم عليها النهضة
الحديثة في الشرق العربي.»
٣٧٧ وتستوقفنا تسمية «الشرق العربي»، فنحن شرق، لكننا شرق عربي، بمعنى أن
الشرق الذي يضم الدول العربية وحدها، ليس الشرق في إطلاقه كما كانت التسمية قبلًا.
وكان مكرم عبيد هو الذي اختار اسم «الجامعة العربية» قبل سنوات من
إنشائها.
٣٧٨ وكتب المازني للمرة الأولى في مصر — كما أشرنا — تعبير «القومية
العربية»، ودعا محمود عزمي وعبد الرحمن عزام إلى قيادة مصر للأمة العربية، وأن
«الرابطة العربية هي الرابطة الوحيدة التي يجب أن يستند إليها تطورنا المحتوم.» وأن
«مصر تقع وسط هذه الأمة، فلا غنى للشعوب العربية عن مصر، ولا لمصر عن إخوتها
العرب.»
٣٧٩
ولا شك أن حركتَي «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمين» — برغم السلبيات التي شابت نشوءهما
وتحركاتهما — قد ساعدتا في اقتراب «القومية» إلى العقل المصري، والوجدان المصري. ومع
أن الإخوان المسلمين جماعة إسلامية، ومع أن حسن البنا وصف دعاة القومية العربية
بأنهم هم «الشعوبيون العرب»، ووصف القومية العربية بأنها «أعنف حرب على الإسلام
والعروبة عرفها الإسلام القديم والحديث، وجعل علاقة المسلم بأخيه المسلم المصري
مساوية تمامًا لعلاقته بالمسلم في إندونيسيا ونيجيريا وتركستان.» مع ذلك، فإن
الإخوان المسلمين ما لبثوا أن اعتبروا الدين بُعدًا في العروبة، وكانوا يقابلون
بالعروبة فكرة القومية المصرية التي دعت لها بعض الأقلام. وتوالى تأليف الجمعيات
والأندية والمنظمات الشعبية، التي جعلت تحقيق القومية العربية هدفها الأهم. وفي
مايو ١٩٤٢م تكوَّن الاتحاد العربي؛ ليكون معلَمًا رئيسًا في طريق الوحدة العربية، كما
ساعدت الصحف في تأكيد الفكرة العربية، بتخصيص صفحة في كل جريدة باسم «الصفحة
الشرقية»؛ أي الصفحة العربية. يحررها صحفيون شوام، مثل أسعد داغر في «الأهرام»، وأمين
سعيد في «المقطم»، وسامي السراج في «الجهاد»، وتوفيق اليازجي في «البلاغ»، وحبيب جاماتي
في صحف «دار الهلال»، وكما يقول حافظ محمود، فقد أنشأ هؤلاء الخمسة مدرسة للقضايا
العربية.
٣٨٠
تحدد انتماء مصر — قوميًّا — إلى المنطقة العربية، والتي تنتمي بدورها إلى الشرق،
من حيث التاريخ والامتداد الحضاري. وارتكازًا إلى ذلك الانتماء، تحددت عملية
«تأكيد» الذات المصرية في استرداد الأصالة، واكتساب المعاصرة، والحق أن خطوات مصر
الإيجابية في درب الهوية العربية كانت هي البداية الحقيقية كي تجاوز القومية
العربية مجرد كونها أمنيات وأحلامًا، لتصبح شيئًا فشيئًا واقعًا يفرض نفسه بالتدريج.
من هنا يأتي قول العقاد إن المصريين «إذا ذكروا أعراقهم، فليس معنى ذلك أنهم ينسون
الأواصر العربية، أو يسيئون إلى تاريخ العرب وآمال العروبة، بل يسيء إلى المصريين
من يحسبهم مضطرين إلى التبرؤ من جنسهم، والأنفة من ماضيهم. إن الجامعة العربية
لأكبر وأوسع وأكرم من أن تكون جامعة لحم ودم وقرابة عمومة وخُئولة، إنما هي جامعة
ثقافة ولغة وعقيدة ورجاء، وماذا يضيرها — وهي كذلك — أن يكون فيها مصريون وعراقيون
وسوريون وحجازيون؟ لن يفيدها ذلك شيئًا، وإنما يفيدها أن تتنافر على التاريخ،
وتتنابذ بالأصول، وتنسى أن المستقبل هو الأمل المطلوب.»
٣٨١
مصر هي آخر الأقطار العربية التي أعلنت هويتها، لكنها كانت البداية لتأكيد تلك
الهوية في الوطن العربي جميعًا. وإذا لم تكن سوريا — مثلًا — أو الأردن أو اليمن أو
دول الخليج في حاجة إلى الكتب التي تدلل على عروبتها، فلأن عروبة تلك الأقطار رقت
عن مستوى الشك، بينما حفلت المكتبة بعشرات الكتب التي تؤكد الهوية العربية لمصر.
ويضغط روبير مونتاني (١٩٥٠م) على أن أحدًا لم يكن يتوقع لفكرة العروبة — قبل خمسة عشر
عامًا — أن تتطور على هذا النحو.
٣٨٢
والآن، فإن انتماء مصر العربي يبين عن نفسه، حتى في لغة التخاطب، وفي مفردات
الحياة اليومية. فأنا أسأَل عن هوية جاري، فأجيب: نحن أولاد عرب. وحتى عام ١٩٤٨م كان
نصيب مصر في أموال الجامعة العربية يبلغ ٤٢٪ من مجموع تلك الأموال، وبالأرقام فإن
ما كانت تدفعه مصر بلغ ٤٢٠٠٠ جنيه. وحينما أنشئت أحياء للمصريين في بورسعيد
والإسماعيلية، أعوام الاحتلال البريطاني، سمَّاها المصريون، لا سواهم، «حي العرب»
والدلالة معلنة فيما فعله الجزار (الغارة الجوية) حين أطلق على دكانه — فترة الحرب
العالمية الثانية — اسم «جزارة الوحدة العربية».
٣٨٣ ولعل الأفلام المصرية قد أسهمت في تعميق المعنى، من خلال التكلم
باللهجات العربية، وتقديم الرقصات والأغنيات العربية والاستعراضات التي تؤكد عروبة
المنطقة، وتوافق ظروفها.
•••
تبقى حقيقة، يجدر بنا أن نضغط عليها، وهي أن التيارات المختلفة، سواء كانت
متباينة أو متوازية أو متلاقية، لم تخضع في مسارها لزمن محدد؛ فهي بعض أبعاد
الشخصية المصرية فعلًا، وفق تطورها التاريخي وموقعها الجغرافي. وكما قلنا، فإن
الشخصية الفرعونية تجد امتداداتها في فجر الحضارة المصرية، والشخصية القبطية يصعب
إغفالها منذ عصر الشهداء. أما الشخصية العربية، فإن بعض الاجتهادات تجد نواتها في
الفتح العربي، بينما تنقب اجتهادات أخري، لتصل إلى توافق الأصول المصرية والعربية
الأولى. أما الحضارة الغربية، فإن انتماء مصر الإسلامي/العربي — ثم جدار العزلة
الذي فرضته عهود العثمانيين — لم يُفقِد مصر صفتها المتوسطية، وبالتالي فإن صلتها
بالغرب قائمة حتى من قبل مجيء الحملة الفرنسية. كل ما في الأمر أن تأكيد الشخصية
المصرية الذي بدأ يفرض نفسه، ربما منذ ثورة العرابيين، جعل من تباين الانتماء إلى
أي من تلك التيارات، صراعًا أو ما يشبه الصراع. وقد امتد الصراع — ولعل بعض آثاره لا
تزال قائمة في مساحة زمنية عريضة، وتراوح فيها كل تيار بين الخصوبة والجفاف. من هنا
يسهل تفسير خفوت صوت مصر الفرعونية في بعض الكتابات، ليعلو في كتابات أخري، وتحمُّس
قسم كبير من الأقباط لفكرة الفرعونية، أو المصرية، مقابلًا لتحمس قسم كبير آخر من
الأقباط — غالبية الأقباط — لفكرة العروبة، وانتقال بعض الأقلام من التعبير عن الهوية
الفرعونية إلى الهوية الغربية، فالهوية الإسلامية، والعربية، واتخاذ الدعوة إلى
هويتين معًا — التغريب والفرعونية مثلًا — شكَّل التناقض، وهكذا … فعلى الرغم من أن
مصطفى صادق الرافعي كان ينتسب إلى الاتجاه الإسلامي في غالبية كتاباته، إلا أنه
صاغ نشيده القومي من وحي مجد مصر القديمة:
رسا أبو الهول ركينًا ربض.
ربضة جبار على الأرض قبض.
فالفزع الأكبر يومًا لو نبض.
وإلى قيام ثورة يوليو، كانت الفكرة العربية غير واضحة في برامج الأحزاب المصرية،
وكانت غائبة تمامًا في برامج معظم الأحزاب. بل إنه حين تأكد صوت القومية العربية
وعمُق، فإن الاتجاهات الأخرى — ما بين فرعونية وغربية وغيرها — لم تفقد أصواتها
تمامًا، بل إن بعض أصدائها لا تزال تتردد في حياتنا الثقافية حتى الآن، وأغلب الظن
أنها ستظل تتردد لأجيال أخرى قادمة، بصرف النظر عن ارتفاع الصوت أم خفوته. وكما
أشرنا، فقد كان سلامة موسى — في البداية — أقوى دعاة الفرعونية صوتًا، وضمَّن رأيه
غالبية كتاباته. وكان أكثرها تعبيرًا عن ذلك الرأي كتابه «مصر أصل الحضارة».
٣٨٤ وإذا
كان سلامة موسى قد احتاج إلى تفسير رأيه مرات عديدة، بعد أن فرض التيار العروبي
ذاته فيما بعد، وواجه دعاة الفرعونية اتهامًا بالإقليمية، وربما بالطائفية، فإن
أصدق ما في الرجل أنه لم يتنازل عما يرى أنه صواب، رغم سوء فهم الكثيرين له. ولا شك
أن سلامة موسى قد أسرف في دعوته — أحيانًا — إلى حد شجب اللغة العربية، لكنه خفَّف من
إسرافه، بعد أن تأكد الانتماء العربي لمصر، وربما بعد أن تأكد له إسرافه فيما أعلن
من أفكار ومبادئ، لكنه ظل حريصًا على جوهر أفكاره وآرائه. وهل يرفض انتماء مصر
للوطن العربي، أن تكون مصر أصل الحضارة، وأن يجد فيها أبناؤها خير البلاد، وأم
الدنيا، وأن يؤمنوا بماضيها، وحضارتها، ويستشرفوا الأمل في مستقبلها؟
٣٨٥
والوقع أن الفترات التي تحوَّل فيها الحكيم وطه حسين وهيكل وغيرهم من دعواتهم إلى
الفرعونية، أو التغريب … إلخ، والاتجاه شرقًا فيما يبدو تناقضًا حادًّا، كانت أقصر من
أن تتيح لجملة أدباء أن يراجعوا مواقفهم، ثم أن يتحولوا عن أفكارهم إلى أفكار أخرى
هي أقرب إلى التضاد، وهو ما يعكس الحيرة التي كانت تتوزع المثقفين المصريين نشدانًا
للمرفأ الذي تجد فيه الذات المصرية خصائصها الحقيقية ومقوماتها. وعلى سبيل المثال،
فما يبدو تناقضًا في فن العمارة، مثل حرص مختار على إحياء الخطوط الفنية الفرعونية
في منحوتاته، وتشييد ضريح سعد زغلول على النسق الفرعوني، في مقابل إنشاء طلعت حرب
لمسرح الأزبكية، وبنك مصر في شارع عماد الدين على الطراز العربي، بينما دار الأوبرا
القديمة أنشأها الخديو إسماعيل على طراز أوبرا روما، وقُدمَت عليها موسيقى فردي
والأوبرا الإيطالية … ما قد يبدو تناقضًا في ذلك، كان — في الحقيقة — تعبيرًا عن رحلة
البحث عن الذات. والتعبير هنا هو مجال العمارة.
٣٨٦ كان توفيق الحكيم من أقوى الدعاة ضد الاتجاه العربي، ﻓ «كل تفكير العرب
وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مختطفة اختطافًا؛ لأن كل شيء
عند العرب سرعة وتنهب واختطاف، عند الإغريق الحركة؛ أي الحياة، وعند العرب السرعة؛
أي اللذة.» وكل شيء يحسه العرب إلا عاطفة الاستقرار «وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم
أرض ولا ماضٍ ولا عمران، دولة أنشأتها الظروف ولم تنشئها الأرض، وحيث لا أرض فلا
استقرار، وحيث لا استقرار فلا تأمل، وحيث لا تأمل فلا ميثولوجيا ولا خيال واسع، ولا
تفكير عميق، ولا إحساس بالبناء؛ لهذا لم يعرف العرب البناء، سواء في العمارة، أو في
الأدب، أو في النقد، والأسلوب العربي في فن العمارة من أوهى الأساليب التي عرفها
تاريخ الفن، وإذا عاش اليوم فإنما يعيش بالزخرف.»
٣٨٧ وللحكيم رسالة شهيرة بعث بها إلى طه حسين في ١٩٣٣م: «إن اختلاطنا بالروح
العربية كاد ينسينا أن لنا روحًا خاصة، تنبض نبضات ضعيفة تحت ثقل تلك الروح الأخرى
الغالبة. لا بد لنا إذن أن نعرف ما المصري وما العربي: العقلية العربية لا تشعر
بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير، ولا ريب عندي أن مصر والعرب طرفَا نقيضٍ؛
مصر هي الروح، والعرب هي المادة، مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصر الوجود.»
٣٨٨ كذلك فقد خلط الحكيم في «عودة الروح» بين العربي والبدوي، وأدانهما، ثم
انقلب الحكيم على آرائه، وطرح آراء مغايرة هي بعض محاولاته الإبداعية في «أهل الكهف»
و«عصفور من الشرق»، وهي بعض أفكاره أيضًا. ولا يخلو من دلالة قول طه حسين «إن الحكيم
كتب أهل الكهف بالإحساس الديني للشرق العربي.»
٣٨٩ الأمر نفسه بالنسبة لطه حسين، الذي تُعَد كتبه الإسلامية تعبيرًا عن
اتجاهه الجديد. ولعلنا نجد تعبيرًا عن الحيرة التي عاناها هيكل من خلال مناداته
بالانتماء للفرعونية حينًا، ثم للغرب حينًا ثانيًا، ثم للذات الإقليمية حينًا
ثالثًا، ثم انتمائه عربيًّا، ودعوته إلى العناية بالتراث العربي، بل وإسهامه في ذلك
بكتبه المختلفة … لعلنا نجد تعبيرًا عن تلك الحيرة في قول هيكل: «إن الذين درسوا في
أوروبا كانوا هم سُبُل الحضارة الغربية، الداعين لها في مصر، ظنًّا منهم أن ذلك هو
السبيل إلى نهضتها، وأن هؤلاء الشباب قد تفتحت أعينهم على حقيقة الأمر بعد الحرب،
فقد أدركوا أن كل ما بذلت الشعوب العربية من تضحيات، لم يكن إلا في سبيل الاستعمار،
وأدركوا كذلك أن الدول الأوروبية التي تزعم أنها تحررت من التعصب الديني هي دول
متعصبة تعصبًا مسيحيًّا، لم تنس معه الحروب الصليبية، حتى إن قائدًا كبيرًا من
قوادهم، وهو اللورد اللنبي، قال يوم استولى على القدس «إن الحروب الصليبية قد انتهت.»
ثم إن هذه الدول الأوروبية شملت بحمايتها الجماعات التبشيرية المنبثة في كل مكان!
ولقد خُيَّل إلى زمننا — كما لا يزال يخيَّل إلى أصحابي — أن نقل حياة الغرب العقلية
والروحية سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أننا لا نزال في حاجة إلى أن
ننقل من حضارة الغرب العقلية ما نستطيع نقله، ولكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة
الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله؛ فتاريخنا الروحي غير تاريخ
الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته.» أضاف هيكل: «… وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي
ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية، ليتخذهما جميعًا هدى ونبراسًا، ولكني أدركت
أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه، ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة
فيه، وانقلبت ألتمس من تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلًا لوحي هذا العصر، ننشئ
فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي، قد قطعا ما بينا وبين ذلك العهد
من سبب قد يصلح بذرًا لنهضة جديدة؛ لذلك لم يكن لنا مفر من العودة إلى تاريخنا،
نلتمس منه مقومات الحياة المعنوية، لنخرج من جمودنا، ولنتَّقي الخطر.»
٣٩٠
كانت كل الروافد تتجه إلى نهر واحد، هو نهر الثقافة المصرية التي تعبِّر عن الشخصية
المصرية، والهموم المصرية، والوجدان المصري. وقد أفرزت تلك التيارات ثمارها، وهي
ثمار مصرية غرست في الأرض العربية، فهي عربية التاريخ واللغة والثقافة والهموم
المشتركة.