حكومات ضد الشعب
عندما مات سعد زغلول، كانت تتولى الحكم وزارة ائتلافية من الوفد والأحرار الدستوريين
والحزب الوطني، ويرأسها عبد الخالق ثروت. وكان ثروت — عند وفاة سعد — لا يزال في أوروبا،
فبادر بالعودة إلى مصر. وانتُخب مصطفى النحاس رئيسًا للوفد بالإجماع، بينما انتُخب مكرم
عبيد سكرتيرًا للوفد بدلًا من النحاس. وكان حفل الأربعين الذي أقيم لسعد زغلول في ١٧
أكتوبر ١٩٢٧م مناسبة لتأكيد الائتلاف، فكان من خطبائه مصطفى النحاس ومكرم عبيد وثروت
من
الحكومة، ومحمد محمود عن الأحرار الدستوريين، وعبد الحميد سعيد عن الحزب الوطني.
١
تولى مصطفى النحاس رئاسة مجلس النواب، وأسفرت المفاوضات التي كانت دائرة بين
الحكومتين المصرية والإنجليزية عن مشروع معاهدة قدَّمه السير تشبرلن وزير الخارجية
البريطانية، واعتبر النحاس مشروع المعاهدة ماسًّا بحقوق البلاد. كما رفضت وزارة ثروت
(٤
مارس ١٩٢٨م) مشروع المعاهدة؛ لما ينطوي عليه من إهدار لاستقلال مصر والسودان. وفي اليوم
نفسه الذي رفض فيه ثروت مشروع المعاهدة، رفع استقالته إلى الملك، وأرجع الاستقالة إلى
حالته الصحية، فقبلها الملك في ١٦ مارس ١٩٢٨م. وعهد الملك — في اليوم نفسه — إلى مصطفى
النحاس بتأليف الوزارة، باعتباره زعيم حزب الأغلبية، فألَّفها في اليوم التالي، وكانت
مؤلَّفة من الوفد والأحرار الدستوريين.
كانت تلك وزارة النحاس الأولى، وقد اتخذت طابعًا شعبيًّا واضحًا، وبالذات في كتاب
رئيسها إلى الملك.
٢ وأرهص الجو السياسي بتفكك الائتلاف، نتيجة لاتفاق عُقِد بين دار المندوب
السامي وحزب الأحرار الدستوريين والسراي على تعطيل الدستور. السراي تجد في الدستور
حائلًا دون انفرادها بالحكم، والإنجليز لا يمانعون — بالطبع — في أية خطوة تستهدف إيقاف
العمل بالدستور، والأحرار الدستوريون يطمعون في الوثوب على كل مقاعد الوزراء، رغم أنهم
كانوا يشغلون بالفعل أربعة مقاعد.
٣ بدأت الأزمة — وكانت مفتعَلة — باستقالة محمد محمود وزير المالية ووكيل
الأحرار الدستوريين في ١٧ يونيو، ثم استقال في ١٩ يونيو وزير الحربية الدستوري جعفر
ولي، وفي ٢١ يونيو استقال أحمد محمد خشبة وزير الحقانية (وكان وفديًّا) مما وضع الوزارة
في مأزق.
كانت دار المندوب السامي تتصرف بدافع نقمتها على رفض مشروع تشمبرلن، ومن ثَم فقد
كان
العقاب — في تقديرها — هو حرمان الأمة من الدستور، أما السراي، فقد كانت تجد في الدستور
عائقًا دون انفرادها بالحكم.
٤ وأما الأحرار الدستوريون، فقد كان الحكم هو شاغلهم الأول، إن لم يكن شاغلهم
الوحيد. ورغم أنهم كانوا يشاركون في وزارة النحاس — كما أشرنا — بأربعة مقاعد، فإنهم
كانوا
يطمحون — فيما يبدو — إلى تأليف وزارة بأكملها من قياداتهم.
٥ افتعلت — في الفترة نفسها — قضية الأمير سيف الدين، التي صاحبتها حملة صحفية
مدبَّرة، نالت الاتهامات فيها مصطفى النحاس. لكن السراي اتخذت من الاستقالات سببًا لإقالة
الوزارة، وأصدر الملك فؤاد قرار الإقالة في ٢٥ يونيو ١٩٢٨م. وعهد — في اليوم نفسه — إلى
محمد محمود بتأليف الوزارة الجديدة، مما أكد سبق الاتفاق على هذا الانقلاب. ويقول
الرافعي: «كان حزب الأحرار الدستوريين هو محور هذا الانقلاب، وإن المرء لتأخذه الدهشة
من أن حزبًا لم يكن له في البرلمان سوى ثلاثين نائبًا على أكثر تقدير، من مجموع ٢١٤
نائبًا يستأثر بالحكم، غير مكترث للأوضاع الدستورية، ولا لإرادة الأمة.»
٦ وفجأة — كما يقول الضاحك الباكي — في ٢٥ يونيو ١٩٢٨م قرأ رئيس مجلس النواب
مرسوم إقالة النحاس، وتأليف وزارة محمد محمود الرهيبة.
٧ كانت وزارة النحاس هي أول وزارة تقال بعد صدور الدستور، وكان تشكيل تلك
الوزارة دليلًا على سبق الاتفاق على الانقلاب الدستوري، فقد تألفت من الأحرار
الدستوريين والاتحاديين، ولم يكن يمثِّل الحزبين معًا في مجلس النواب سوى ٣٥ نائبًا من
مجموع ٢١٤ نائبًا. وكان أول ما أقدمت عليه الوزارة الجديدة تأجيل البرلمان شهرًا، ثم
أعقب التأجيل حل البرلمان بمجلسَيه، وإيقاف الحياة الدستورية ثلاث سنوات قابلة
للتجديد.
٨ كان هدف الوزارة — كما يقول صدقي في مذكراته — أن تقضي على الأوتوقراطية
البرلمانية التي أتاحها دستور ١٩٢٣م بطغيان الأكثرية على الأقلية، فاستقر الرأي عندها
على أن تؤجل الحياة النيابية، وتوقف الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، فأصبحت البلاد
بذلك تحكم حكمًا غير برلماني.
٩ وقد أدى توالي الأحداث إلى تفجير المعارك الصحفية التي كانت قد هدأت قبل
عامين، نتيجة لائتلاف الأحزاب الذي انفض بتشكيل الوزارة الجديدة، وألغيت مائة رخصة
صحفية، بعد أن أعيد العمل بقانون المطبوعات القديم الصادر في ١٨٨١م، والذي يجيز تعطيل
الصحف وإلغاءها إداريًّا، وألغيت بالفعل تراخيص نحو مائة صحيفة، وعُطِّلت صحف: «البلاغ»
و«كوكب الشرق» و«وادي النيل» و«روز اليوسف» و«الأفكار» و«الوطن»، كما حظرت الاجتماعات
والمظاهرات،
وحظرت على الموظفين والمستخدمين أن يشتركوا في اجتماعات سياسية، أو أن يبدوا — علانية
—
آراء أو نزعات سياسية.
١٠ أو أن يزودوا الصحف بأخبار للنشر، سواء في مصر أو الخارج، وجددت عقود
الموظفين البريطانيين. ويقول بدر الزيادي (المرايا): لم يكن لنا من عدو في الماضي إلا
الإنجليز.
فقال رضا حمادة: والملك؟
– هما شيء واحد.
– موافق!
فقال بدر: وها هو عدو جديد ينضم إلى الميدان!
١١
كان محمد محمود أقوى شخصيات الأحرار الدستوريين، رغم أنه لم يتول رئاسته إلا في ١٩٢٩م.
والده محمود سليمان باشا، وكيل مجلس شورى القوانين، ومن كبار ملاك الأراضي الزراعية في
الصعيد، وقد اختير رئيسًا لحزب الأمة عند تشكيله في ١٩٠٧م، وقد ورث محمد محمود عن أبيه
١٦٠٠ فدان.
١٢ وكان محمد محمود يعتز بأنه ابن من عُرض عليه العرش، فأبى.
١٣ وصفه سعد زغلول — من واقع معايشته له في جزيرة مالطة، أثناء فترة النفي —
بأنه «متكبر، معجب بنفسه، مستخفٌّ بغيره، غيور، يأكل بعضه إذا علا الغير عليه، ويجهد
نفسه
أن يخفي فضل غيره ليظهر فضله. يضحي بالمصلحة العامة للمصلحة الخاصة. يطلب في كل عمل
يعمله شأنًا خاصًّا، فإن لم يجده، فما أسهل عليه أن يهمله. سيئ الظن، كثير الوسوسة، غير
أمين في الرواية، ولا رؤية عنده.»
١٤ وقد أدين محمد محمود — فيما بعد — بانقلاباته المتوالية على الحياة النيابية،
وتزويره للانتخابات، وتحالفاته مع القصر، وسوء استخدامه للسلطة، حتى إنه سمَّى وزارته
«القبضة الحديدية».
١٥ وحين أعلن رئيس الحكومة أن حكومته هي وزارة اليد الحديدية قال الكونستابل
فؤاد عبد السميع لنفسه: وعلينا نحن أن نكون المطرقة التي يُضرب بها!
١٦
وعلى الرغم من أن محمود كامل المحامي كان أحد هؤلاء الشباب الذين عُيِّنوا في الحكومة
آنذاك لإصلاح الإدارة — كما قالت الوزارة في برنامجها — فإنه يضغط على حقيقة أنه كانت
هناك مبررات أخرى غير إصلاح الإدارة، فكل المعيَّنين من أبناء الوزراء وأقاربهم، وأبناء
وأقارب كبار العاملين في الدولة. ويزيد محمود كامل، فيحدد سبب تعيينه أن أباه تربطه
بوكيل الوزارة صلة زمالة منذ عهد الدراسة في مدرسة الحقوق.
١٧
•••
ألَّف محمد محمود وزارته في ٢٧ يونيو ١٩٢٨م «فأوقفت الحياة النيابية — والكلام للفنان
(يوميات محامٍ)، وأعلنت عن برنامج للإصلاح العام، يشمل ردم البرك والمستنقعات للقضاء
على
مرض الملاريا، كذلك إصلاح الإدارة بإدخال عناصر جديدة من الشبان ذوي الشهادات
العليا.»
١٨ وكان أول ما أقدمت عليه الوزارة تعطيل الحياة النيابية، ومنع الاجتماعات
العامة، ومصادرة الصحف، واضطهاد الحريات. كما أزالت معسكرات القمصان الزرق والخضر بعد
أن استصدرت قانونًا بحظر الجمعيات، أو الجماعات، ذات الصفة شبه العسكرية. وقرر الشيوخ
والنواب أن يجتمعوا في دار البرلمان يوم السبت ٢٨ يوليو ١٩٢٨م، وهو اليوم التالي لفترة
الشهر التي حددتها حكومة محمد محمود لتأجيله. واتخذت الحكومة كل الوسائل التي تكفل منع
اجتماع المجلسين بمبنى البرلمان، بالإضافة إلى تجسسها على كل الأمكنة التي ربما يختارها
الأعضاء لاجتماعهم. واستطاع الأعضاء — فعلًا — أن يجتمعوا في الموعد المحدد بدار مراد
الشريعي بشارع محمد علي، وأعلنوا — في ختام اجتماعهم — أن البرلمان قائم، وله حق
الاجتماع، وهو يحجب الثقة من الوزارة التي تُعَد ثائرة على الدستور، ويُعَد كل تشريع
تستصدره باطلًا، ثم قرر الأعضاء تأجيل اجتماعات مجلس الشيوخ والنواب إلى نوفمبر
١٩٢٨م.
١٩ وعقد النواب والشيوخ اجتماعهم الثاني في ١٧ نوفمبر ١٩٢٨م بدار جريدة
«البلاغ»، وكان أول اجتماع لدورة برلمانية جديدة. وأعاد المجلس — بالإجماع — تأكيد عدم
ثقته بالوزارة، وتحميلها مسئولية كل عمل أتته مخالفًا للدستور.
•••
يلخص الراوي (نفوس مضطربة) الفترة منذ وفاة سعد زغلول، إلى تولي محمد محمود الحكم:
«مات الزعيم الباشا بعد جهاد وكفاح، فبكته الأمة والشعوب الشرقية — يعني أقطار الوطن
العربي — لأنها وجدت فيه أيضًا زعيمًا ومحررًا، واتفقت الأحزاب المصرية كلها على أن موته
خسارة لا تعوَّض. وخلفه زعيم آخر، باشا أيضًا، كان من المصطفين عند زعيمه الشيخ،
واضطُهِد ونُفي معه، وأيَّد الحزب الخلف، وتطورت الأحداث السياسية، واشتد الخلاف بين
الأحزاب
والأحزاب المناوئة. وتولى هذا الحزب الحاكم، ثم نزل، وأخيرًا رأس الحكومة رجل شديد
المراس باطش اليد، ولكنه مع ذلك ليِّن الحديث، على وجهه ابتسامة دائمة. وبطش الرجل بكل
الأحزاب والزعماء، وبكل جماعة سياسية لا تواليه، وكتم الصحف، واضطهد الأفراد، وحلَّ
البرلمان الذي كان الشيخ حبيب عضوًا فيه. وجاء برلمان آخر. كانت الانتخابات التي أجراها
محمد محمود أول انتخابات تُزيَّف نتيجتها بقوة البوليس، في ظل دستور ١٩٢٣م، وقبل ذلك
كان
الملك فؤاد إذا ضاق ذرعًا بالدستور، ألغاه، أو أوقفه.
٢٠
أضربت الأحزاب عن دخول برلمان محمد محمود، لكنه اجتمع وناقش وأبرم الأمور، وامتدت
يد
رئيس الحكومة إلى المديريات والمحافظات والمراكز، وحاول أن يجتذب المناوئين لسياسته
باللين والوعود والابتسام على موائد الشاي. قال إنه يعرف أن الشعب ليس معه، ولكن هذا
لن
يثبط هِمَّته. إن الشعب جاهل وجائع ومريض، وليس البلد في حاجة إلى مناقشات سياسية أو
مظاهرات واجتماعات وهتافات، وإنما هو في حاجة إلى إصلاح اجتماعي شامل يتناول الطبقات
كلها … إلخ.»
٢١ وقد حاول محمد محمود — بالفعل — أن يتودَّد إلى العمال والفلاحين عن طريق
مشروعات توزيع أراضي الدومين على الفلاحين بأثمانٍ متهاودة على أقساطٍ طويلة الأجل،
وتحسين الأحوال الصحية للقرى بردم البرك والمستنقعات، وتنقية مياه الشرب، وإقامة المساكن
الصحية للعمال في أحياء القاهرة، لكنهم استمروا في مناوأتها، وواصلوا نضالهم ضد رأس
المال، ومن أجل الدستور. وإذا كان مصطفى أمين قد أدان الملايين المصرية الكادحة؛ لأنها
كانت تهتف بسقوط محمد محمود الذي ردم البرك والمستنقعات، ورأى في ذلك تعبيرًا عن الجهل،
أو ما هو أشد منه، فإن الكاتب أغفل حقيقة أن محمد محمود «اغتصب حرية الشعب في نظير وعده
له بتجفيف البرك والمستنقعات»!
٢٢ وتحدَّث بعض الكُتاب عن وعد حكومة محمد محمود بأنها وعدت ببناء عشرات
المستشفيات والمساكن الشعبية للعمال، لكنها — بدلًا من أن تبني مساكن شعبية — قامت ببناء
سجون جديدة. أما الأموال التي أنفقتها بسخاء على البوليس السري، فقد كانت تكفي لتنفيذ
مشروعات الصحة والإنارة. كذلك فإن المشروع الذي أعدته الحكومة لقوانين العمل، اكتفى
بتثبيت وتقنين حالة العبودية التي تسود العمل، واعتبروها ظروفًا عادية، وهو ينص فوق ذلك
على وضع النقابات تحت رقابة الإدارة.
٢٣ ويشير الراوي (المرايا) إلى بعض تأثيرات قرار وزارة محمد محمود بتأجيل
العمل بالدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، فقد «أضربت المدارس جميعًا، ومنها مدرستنا.
غير أن قوات الشرطة حاصرتنا، فلم نتمكن من الخروج. ولكي نتسلح بما يلزمنا في المعركة،
اقتلعنا الأشجار والنوافذ والأبواب، واقتحمنا المطعم فاستولينا على الأطباق والحلل
والمغارف والشوك والسكاكين، وتصاعدت هتافاتنا العدائية مقتحمة كل مقام، حتى مقام الملك،
وعند ذاك هجم الجنود فجأة، ومن جميع الأبواب، وانهالوا علينا بالعصي الطويلة، على حين
أطلق الكونستبلات الإنجليز الرصاص في الهواء على سبيل الإرهاب، ودارت معركة غير
متكافئة، ولم ينجُ أحد منا من ضربة أو أكثر، وسقط جرحى كثيرون، واستُشهِد فراش
وتلميذ.»
٢٤ كان أمير سرور عزيز (حديث الصباح والمساء) واحدًا من المتظاهرين الذين
خرجوا للاحتجاج على دكتاتورية محمد محمود، أصيب بهراوة ظل بسببها أسبوعين في
المستشفى.
٢٥ ووسط الصيحات الرافضة، المنسحبة، التي كانت تشكِّلها الأحزاب السياسية
المختلفة، فإن وزارة محمد محمود لم تعدم من يدعو إلى التمهل في الحكم عليها، والتبصر
في
برنامجها. والمثل الذي يحضرني محمود (نفوس مضطربة) الذي قال في هدوء وبساطة: «لماذا لا
نترك للرجل فرصة؟ إني — شخصيًّا — أرى فيما يريد أن يفعله علامات قد تعود على البلد بفائدة،
ولو تركنا له فرصة صفاء وهدوء، فلا يبعد أن ينتج شيئًا مفيدًا.»
٢٦
•••
بعد تولي العمال الوزارة البريطانية في يونيو ١٩٢٩م أبدى وزير الخارجية البريطانية
هندرسن رغبة الحكومة البريطانية في التفاوض في المسألة المصرية، واشترط أن يقر الشعب
المصري والبرلمان المصري مواد المعاهدة المشروع، واشترط الوفد بالتالي أن تكون مناقشة
المشروع في برلمان ينتخبه الشعب المصري انتخابًا حرًّا مباشرًا، وأن تشرف على
الانتخابات وزارة محايدة، لتأتي وزارة دستورية تتولى المفاوضة لإبرام المعاهدة. لكن
حكومة محمد محمود أقدمت على إجراء المفاوضات في صيف ١٩٢٩م، وانتهت إلى مشروع معاهدة لم
يخلُ من النص على بقاء القوات البريطانية في مصر، وبقاء السودان منفصلًا عنها. وعلق
الوفد النظرة في ذلك المشروع على إعادة الحياة الدستورية، لكي يقول الشعب كلمته من خلال
ممثليه في البرلمان، بينما تمسكت الوزارة بإجراء انتخابات جديدة، تتم بمعرفتها، وقبِلت
الحكومة البريطانية شرط الوفد، مما دفع محمد محمود — بالضرورة — إلى تقديم استقالته في
الثاني من أكتوبر ١٩٢٩م، عقب عودته من المفاوضات مع هندرسن بالعاصمة البريطانية، وقبِل
الملك فؤاد الاستقالة في اليوم نفسه، وأحدثت الاستقالة شعورًا غامرًا بالارتياح بين
مختلف فئات الشعب، فقد زالت «القبضة الحديدية».
٢٧ وعهد الملك — في اليوم التالي — إلى عدلي يكن بتأليف الوزارة الجديدة، وألَّف
عدلي وزارته الثالثة في أكتوبر ١٩٢٩م، بهدف إعادة الحياة الدستورية، وإجراء انتخابات
جديدة.
أجرت وزارة عدلي يكن الانتخابات النيابية في ديسمبر ١٩٢٩م، وحقق الوفد في الانتخابات
انتصارًا ساحقًا، فقد نال الحزب الوطني خمسة مقاعد، وحزب الاتحاد ثلاثة، وخمسة عشر
مستقلًّا. وقد أضرب الأحرار الدستوريون عن دخول تلك الانتخابات، بعد سقوط وزارتهم،
لإحساسهم — في تقدير الرافعي — بأن الشعب لا يميل إليهم.
قدم عدلي يكن استقالته في آخر أيام ١٩٢٩م، بعد أن أعاد — كما جاء في كتاب استقالته
—
الحياة الدستورية، وعهد الملك إلى مصطفى النحاس — باعتباره زعيم الأغلبية — في أول يناير
١٩٣٠م، بتأليف وزارته الثانية.
جاء النحاس في أول يناير ١٩٣٠م — والوصف للضاحك الباكي — بين الضجيج والعجيج، والطبل
والزمر، والمظاهرات والحفلات والهتافات، وتألفت الوزارة الوفدية، وعُيِّن عدلي رئيسًا
للشيوخ، وانتُخب ويصا واصف رئيسًا لمجلس النواب.
٢٨
وفي ٦ فبراير ١٩٣٠م، قرر مجلسا الشيوخ والنواب تفويض الوزارة في دخول المفاوضات مع
الحكومة البريطانية للوصول إلى «اتفاق شريف وطيد يوثِّق عُرى الصداقة بين
البلدين.»
٢٩ وسارت المفاوضات بنشاط حتى ١٧ أبريل، وتوصل المتفاوضون إلى نقاط اتفاق في
كل ما يتعلق بالمسألة المصرية، حتى توقف كل شيء عندما بدأت مناقشة مسألة السودان. كانت
بريطانيا تريد أن تفرض من المواد ما تؤكد به سيادتها المنفردة، الفعلية، على السودان،
في حين كان المفاوض المصري — بتأثير ضغط شعبي غلَّاب — يصر على وحدة وادي النيل.
٣٠ وأعلن النحاس فشل المفاوضات، وخشية الإقالة — كما حدث من قبل — فقد بادر إلى
تقديم استقالته، وقُبِلت الاستقالة بالفعل، وعهد الملك بتأليف الوزارة الجديدة إلى
إسماعيل صدقي الذي عُرِف بعدائه للشعب، واستخدام سلطته — كوزير للداخلية — في تزوير
الانتخابات، وتحقيق أهدافه السياسية بالإكراه والعنف. وحتى يمنع الرجل ردود الفعل
السلبية، فقد حفل خِطاب تشكيل وزارته بعبارات الإنذار والتهديد، وأعلن حالة الطوارئ،
وقرر تأجيل البرلمان شهرًا، وأغلق أبوابه. وقابل النواب قرار رئيس الوزراء بالإصرار على
افتتاح المجلس، طلب رئيس المجلس من حرس البرلمان تحطيم السلاسل التي أمر صدقي بوضعها
على الأبواب، واجتمع أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ الوفديين، وبعض نواب الحزب الوطني في
النادي السعدي (٢٦ يونيو ١٩٣٠م) وأعلنوا عدم ثقتهم بالحكومة، واستنكارهم عدوانها على
البرلمان.
٣١
•••
عاشت وزارة النحاس الثانية ستة أشهر فقط، من يناير إلى يونيو ١٩٣٠م، ذهب النحاس خلالها
إلى لندن لمفاوضة الإنجليز، ثم ما لبث أن قطع المفاوضات بسبب مسألة السودان، وقال كلمته
الشهيرة: «تُقطَع يدي ولا تُقطَع السودان عن مصر.» وكما يقول الراوي (أزهار) فقد ارتطمت
المفاوضات بين مصر وإنجلترا — كما هو الشأن دائمًا — حول وحدة مصر والسودان. رفض رئيس
الحكومة وزعيم الأغلبية أن يفرِّط في هذه الوحدة، ومن ثَم أعلن فشل المفاوضات، ثم قدم
استقالته «وقُبِلت الاستقالة، وعُهِد بتأليف الوزارة الجديدة إلى إسماعيل صدقي أحد وزراء
الأقلية الذين اشتُهروا بالعداء للشعب، واستخدام سلطة وزير الداخلية في تزوير
الانتخابات، واستعمال كل صنوف الضغط والإكراه لتحقيق أهداف سياسية معينة.»
٣٢ بعد فشل مفاوضات النحاس-هندرسن، بدأ الأحرار الدستوريون محاولاتهم لإسقاط
الوزارة الوفدية؛ رفعوا مذكرة إلى الملك فؤاد في ٢٧ مايو ١٩٣٠م، وجَّهوا فيها اتهامات
عديدة إلى وزارة النحاس، وطلبوا من الملك أن يتلافى الأمر بحكمته.
٣٣ وساعدت السراي في تنفيذ خطة الأحرار الدستوريين، حتى اضطر النحاس إلى تقديم
استقالته في ١٧ يونيو، فقبِلها الملك، وأسند تأليف الوزارة الجديدة — في اليوم التالي
—
إلى إسماعيل صدقي. رشَّحه نفوذ المصالح المالية في مصر، خاصة وقد ظهرت بوادر الأزمة
الاقتصادية العالمية، لذلك كان حرصه — طيلة فترة رئاسته للوزارة — على رجال الأعمال،
والأجانب بالذات.
•••
تألَّفت وزارة إسماعيل صدقي في ٢٠ يونيو ١٩٣٠م، على أساس إهدار الحقوق الدستورية،
والاستهانة بكل الحقوق والقِيَم والإرادات. وكما يقول صبري أبو المجد، فقد بدا واضحًا
أن
إسماعيل صدقي عندما جيء به إلى رئاسة الحكومة، كانت له مهمة واضحة، هي القضاء على
الحركة الوطنية المصرية.
٣٤ وكتبت إحدى الصحف الإنجليزية: «لم يكن صدقي باشا إلا قفَّازًا لينًا في يد
الملك فؤاد الحديدية؛ لأن الملك كان هو الحاكم الحقيقي للبلاد.»
٣٥ يقول اللورد كيلرن: «… وجاءت الفرصة في يونيو ١٩٣٠م، حين أصبح إسماعيل صدقي
رئيسًا للوزراء، ووزيرًا للمالية، ووزيرًا للداخلية، وأظهر حنكة ومقدرة كبيرتين في
معالجة المشاكل الصعبة التي واجهته منذ البداية العاصفة لحكمه شبه الديكتاتوري. فقد
أعطى الملك دستورًا، تكتلت ضده كافة العناصر الديمقراطية في مصر، وأنشأ حزب الشعب،
وأجرى انتخابات، وقدم واجهات لهيئات برلمانية تخدم أغراضه بسهولة تامة، واستطاع أن يكبح
جماح الوفد، وأن يفرض نفسه على كل فرع من فروع الحكم، ووجَّه عناية خاصة لتغطية الملك
في
جميع تصرفاته التي تعرِّضه للنقد.»
٣٦
•••
استهل إسماعيل صدقي عهده بتغيير الدستور جميعًا، وليس بتغيير القانون؛ ففي ٢٢ أكتوبر
١٩٣٠م أصدر الملك فؤاد مرسومًا بدستور جديد، ألغى — بمقتضاه — دستور ١٩٢٣م، ومنح الملك
سلطات واسعة، وعطَّل البرلمان القائم.
٣٧ وكما يقول يونان لبيب رزق، فالدستور الصادر في ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠م، أعطى الملك
حق إبطال أي قانون، وجعله يعين أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ، ويجعل له حق اقتراح القوانين
المالية، ويتيح له سلطة مطلقة، ويهب الحكومة حق التصرف في الأموال العامة، في حين أن
مسئوليتها الوزارية تظل متعذرة، كما أن الدستور منحة من الملك له الحق أن يلغيه، ولا
تستطيع الأمة تعديله — على أي نحو — إلا بعد مرور عشر سنوات.
٣٨ وجاء قانون الانتخاب الملحق بدستور صدقي الصادر في ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠م، وبه كل
عيوب قوانين زيور وأكثر، فقد أعاد نظام الانتخاب على درجتين، وجعل كل خمسين ناخبًا
ينتخبون مندوبًا يُسمَّى بالمندوب الخمسيني، واشترط في هذا المندوب الناخب أن يكون مالكًا
لأموال ثابتة، مربوطًا عليها ضريبة عقارية، أو قاطنًا في منزل لا يقل إيجاره السنوي عن
اثني عشر جنيهًا، أو حاصلًا على الشهادة الابتدائية، ورفع سن الناخب إلى خمسة وعشرين
عامًا، كما حرم الدستور الجديد على المشتغلين بالمهن الحرة، في جميع أنحاء مصر، عدا
القاهرة، حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان. ومعنى ذلك منع غالبية المثقفين ومعظم التجار
المشتغلين بالمهن الحرة، من دخول البرلمان الدستور والاستقلال، فضلًا عن أن الأطباء
والمحامين والصحفيين والمهندسين والتجار المقيمين في الثغور والأقاليم كانوا يشكِّلون
العمود الفقري للوفد.
٣٩وكان معنى هذا حرمان الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين من انتخاب أعضاء البرلمان، ومن
ثَم ضمان عدم وصول الوفد إلى الحكم؛ لأن الوفد كان يعتمد على الطبقة الكادحة في الوصول
إلى الحكم، وكانت الفكرة التي استقرت في أذهان الشعب أن الوفد هو الأمة، وبذلك تمتع
الوفد بشعبية واسعة بين العمال والفلاحين.
٤٠ وفي ١٩ ديسمبر ١٩٣٠م نشرت مجلة «اسبكتاتور» الإنجليزية مقالًا لصدقي، وصف
فيه دستور ١٩٢٣م بأنه «كثير على حالة البلاد»، وأن الفلاح المصري لا يفهم شيئًا خارج
قريته، وأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومن السخافة أن يكلف انتخاب رجل يبعد عن قريته خمسين
أو ستين ميلًا، وأنه — أي الفلاح — متى احتاج إلى شيء، ظل في حقله، وأرسل زوجته إلى السوق
لتأتيه به.
٤١
•••
يؤكد الفنان أن إعلان دستور ١٩٣٠م ظل معلقًا، حتى جاءت عليه موافقة كتابية من دار
المندوب السامي.
٤٢ وكما يقول الراوي (المرايا) فقد كان يوم إلغاء دستور ١٩٢٣م رهيبًا «بلغ فيه
التوتر مداه، احتلت مفارق الطرق بقوات الشرطة والجيش، ولم يتمكن الشعب من التجمع الذي
يصلح أساسًا لمظاهرة ضخمة، فعمد الناس من جميع الطبقات إلى التجمد في الحواري والأزقَّة
والشوارع الجانبية، ومنها يندفعون بقوة، هاتفين ملقين بالطوب في جميع الجهات، ثم
يتفرقون بسرعة ليعيدوا الكرة والرصاص يطاردهم.»
٤٣ يصف الفنان (أيام الطفولة) تصاعد المظاهرات، وتعالي الصيحات، «تنتقل من
الأفواه كهدير البحر الهائج، ووصلت إلى فمي، وبدأت أهتف مع الجموع، وأنادي بأشياء لم
أكن أعرفها، ولم أكن أفهم معناها، وإني ورثتها يوم ولدت عن والدي وأجدادي، كأني شربتها
في الطفولة من ثدي أمي: الشعب مصدر السلطات، تسقط الانتخابات المزورة، يسقط الاستعمار
والاستبداد، تسقط حكومة صدقي، تسقط حكومة صدقي، عاش الدستور. وامتلأت الشوارع بالناس،
كأن بيوت بلدتنا قد أفرغت كل ما فيها من الآدميين، حتى النساء كن يقفن كتلًا متراصَّة،
وتبرز رءوسهن من النوافذ، وتتعالى زغاريدهن كأن في كل بيت حفلة عرس، كأن بلدتنا تحتفل
بعيدٍ يخص أهلها جميعًا … إلخ.»
٤٤ وكان أمير سرور عزيز (حديث الصباح والمساء) واحدًا من المتظاهرين ضد
إسماعيل صدقي، احتجاجًا على إلغاء دستور ١٩٢٣م، وسقط قتيلًا برصاصة في شارع محمد علي،
وتولى رجال الأمن دفنه مع كثيرين، حتى لا تهيئ لهم جنازاتهم فرصة لقيام مظاهرات
جديدة.
٤٥ وظل الأب (هروب الطائر الأبيض) يذكر اشتراكه — مرة وحيدة — في مظاهرات ١٩٣٠م.
قُبِض عليه، وتعرض للإيذاء في قسم البوليس، وأُجبِر على شرب البول، وعلى القول بأنه
امرأة.
٤٦ وكانت شهرة ضابط الشرطة حسن محمود المراكيبي (حديث الصباح والمساء) هي عنفه
في تفريق المظاهرات، وشَنَّت عليه صحف الوفد حملات عنيفة، أساءت إلى سمعته لدى الجماهير،
ولكنها زكَّته — في الوقت نفسه — عند السراي والإنجليز، وأتاحت له ترقيات
استثنائية.
٤٧
يقول خيري (ثم تشرق الشمس): هل يمر يوم من غير مظاهرة؟ حزب الوفد وحده كان يقيم
المظاهرات كل يوم في وزارة محمد محمود، فما بالك والوفد اليوم مع الأحرار الدستوريين؟
المظاهرات كل ساعة، هل مر علينا يوم في وزارة صدقي من غير مظاهرات؟
٤٨ وواضح أن الفنان يريد القول إن الأحرار الدستوريين كانوا قوة لها تأثيرها! كان دوي
الرصاص يزلزل القاهرة كلها. مع ذلك، ففي صباح كل يوم كانت عنابر العمال تسكب
الآلاف في الشوارع من جديد، وهتافات الطلبة تهز ركود الحياة.
٤٩ اندلعت المظاهرات في كل المدن المصرية، وتصاعدت موجة الإضرابات العمالية،
فشملت غالبية المصانع في كل مدن القطر. وكان من بين أهم مظاهر رفض دستور ١٩٣٠م إضراب
عمال وِرش السبتية منذ ١٤ مايو ١٩٣١م — اليوم الأول من أيام انتخابات صدقي — واعتصامهم
داخل
الورش. وحين حاولت قوات الشرطة فض الاعتصام، قامت بينها وبين المعتصمين معركة استخدم
فيها الجنود الرصاص، بينما لجأ العمال إلى الآلات الحديدية وخراطيم المياه، وقاموا
بتحطيم المركبات والقاطرات، وأشعلوا النيران في بعضها، وأقدم العمال على تصنيع القنابل
يدويًّا لمواجهة إرهاب الحكومة. وتكرر فشل قوات البوليس في اقتحام الورش، فأمر صدقي
بقطع المياه عن الورش، وبإطلاق الرصاص في «المليان». واستُشهد بالفعل ١٦ عاملًا، وجُرح
أكثر من ١٢٠، كما أصيب العشرات من أبناء السبتية، وعدد كبير من رجال البوليس. ودفنت
السلطات عددًا كبيرًا من الجثث دون إبلاغ أهالي الشهداء، وقدم إلى المحاكمة مائة وعشرون
عاملًا، وفُصِل ٤٧٧ عاملًا.
٥٠ ويقول رئيس التحرير (رأس الشيطان) لصفاء: «إن كلمة عمال وحدها كفيلة بأن
تُلصِق بك تهمة التطرف والفوضوية.»
٥١ وكان رأي الصحفي ضياء أن رئيس التحرير والباشوات والدستور الجديد الذي
أصدره صدقي … ذلك كله أخطاء صنعها الاستعمار.
٥٢
ويُعد كامل (البعث) واحدًا من الذين اجتذبتهم المظاهرات الوطنية العارمة التي كانت
تملأ نهار القاهرة. إنه لم يعتد الهتاف، وقد اشتهر بخفض الصوت منذ صغره، لكنَّ صوته علا
—
شيئًا فشيئًا — مع المتظاهرين الذين التقى بهم — مصادفة — في شارع قصر العيني، وكان قد
اضطر إلى السير بينهم؛ ليبلغ كليته في الميعاد بعد أن أوقفه الترام عن السير.
٥٣ وكان العديد من ضحايا المظاهرات يلقون في القبور بملابسهم، حتى لا يشملهم
الإحصاء الرسمي.
٥٤ كذلك كان من ضحايا المظاهرات شقيقان استُشهدا في المظاهرات التي اجتاحت
البلاد أول عهد إسماعيل صدقي.
٥٥ ويقول الراوي (المرايا): «كانت الهتافات العدائية للسراي تتردد في جنبات
الوادي، ونشرت جريدة التايمز أن مظاهرة في أسوان هتفت لمصطفى النحاس رئيسًا
للجمهورية.»
٥٦ وانقسمت البلاد إلى أقلية موالية للملك، وأغلبية معادية تكاد تجهر بعدائها.
كانت أزمة تهاوت فيها القِيَم إلى الحضيض، وتقوضت كرامات الكثيرين من الرجال، ورمى
الأبرياء المهزلة بأعين حمراء … ولكن حتى صفوفهم لم تبرأ من فساد، عصر الزلازل والبراكين
المتفجرة، عصر إحباط الأحلام وانبعاث شياطين الانتهازية والجريمة، عصر الشهداء من جميع
الطبقات.
٥٧
ويبرر صدقي تلك الأحداث الدامية بأنه «كان لا بد لي لأمهد للنظام الجديد الذي جئت
لإنشائه أن أؤجل البرلمان، فأجلته شهرًا كما يسمح بذلك الدستور. وكان من المنتظر أن
يقابل هذا الإجراء بمعارضة شديدة من جانب الأغلبية المسيطرة على المجلسين في ذلك الحين؟
ولم أكن أنتظر أن تكون هذه المعارضة تشبه حربًا أهلية مبعثها كراسي الحكم، ولكن حدثت
للأسف حوادث مؤلمة سواء في مصر أو في الإسكندرية أو بعض مدن الريف، ولم يكن للحكومة
حيلة فيها إلا المحافظة على النظام، ومنع العابثين من الإخلال بالأمن، وتحدي
القوانين. وعلى الرغم مما كان يدبِّره البعض من أعمال لا تتفق ومصلحة البلاد، فقد استطعت
وقتئذٍ أن أحافظ على هيبة الحكومة، وأن أقضي على الاضطراب.»
٥٨
•••
يقول كمال عبد الجواد (قصر الشوق): «لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل الدستور ثلاث
سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات. كما
عشت سنين الإرهاب السياسي التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد.» ويقول البلطجي في درب
المومسات: «أليس الطاغية يحكمكم، والشرطة تجلدكم، والجيش يحصدكم، والإنجليز يتربعون فوق
رءوسكم؟»
٥٩
حزب الشعب
على الرغم من تفاقم الاضطرابات في القاهرة والإسكندرية والمنصورة وبورسعيد
وغيرها، فقد حرصت حكومة إسماعيل صدقي على تقديم رشوة معلَنة إلى الإنجليز؛ حيث وافقت
— في الفترة التالية لبداية تكوينها — على ثلاثة مشروعات كبري، عهدت بها إلى شركات
إنجليزية بمبالغ وصلت في جملتها إلى نحو مليون جنيه.
٦٠
ثم نشرت: «المصور» خبرًا يقول: «إن النية عقدت على إنشاء حزب جديد يجمع أنصار
الوزارة، ويرجح أن يكون لسان حاله جريدة «الكشاف» لصاحبها أحمد عبود بك.»
٦١
عقد حزب الشعب اجتماعه التأسيسي في ١٧ نوفمبر ١٩٣٠م برئاسة إسماعيل صدقي، وكان
أعضاء مجالس إدارته ٥٨ من الباشوات والبكوات، كبار الماليين المتصلين بالاحتكارات
الأجنبية، بالإضافة إلى «أفندي» واحد هو سليمان فوزي. وقد قاطعت اجتماعات الأحزاب
والطبقات الشعبية اجتماعات الحزب. العجيب أن الحزب لم يعلن لنفسه عن برنامج سياسي،
ولم يقيد نفسه بخطة أو غاية معينة،
٦٢ وإن أسرف ممثِّلو الحزب — قبل بدء الانتخابات — في بذل الوعود للناخبين:
إيجاد عمل لكل متعطل، طعام لكل جائع، تخفيض إيجارات الأراضي الزراعية، منع انقطاع
المياه عن المزروعات طول العام، رفع أسعار القطن، وضع أساسات مستشفيات جديدة،
التبرع لبناء مساجد.
٦٣
وفي ٦ نوفمبر ١٩٣٠م، أعلن الوفد المصري والأحرار الدستوريون أنهما يقاطعان
الانتخابات، ويدعوان الأمة لمقاطعتها. وفي ٣١ مارس ١٩٣١م عقد الوفد والأحرار
الدستوريون ميثاقًا قوميًّا باسم «عهد الله والوطن»، قرروا فيه مقاطعة الانتخابات
التي اعتزمت الحكومة إجراءها في ظل دستور ١٩٣٠م، وتأليف جبهة لإعادة النظام
الدستوري، ورحبت الأمة بهذا الائتلاف. ومع أن الحزب الوطني شجب إلغاء دستور ١٩٢٣م،
فإنه قد شارك في الانتخابات وفق أحكام الدستور الجديد الذي وضعه صدقي، بما يعني
موافقته الضمنية.
٦٤ والدلالة واضحة في قول الراوي (المرايا): «طالما عذَّبني التناقض بين
تناول الأوساط الشعبية للسياسة، وتناولها في الأوساط الثقافية الرفيعة، فهي هناك
انفعال مضطرم سرعان ما يسيل دمًا، وهي هنا مناقشات متفلسفة لا تخلو من تثبيط للهمم
وتخييب للآمال.»
٦٥ وقد رفض عباس الأشرم أن يزوِّج أنيسة — ابنته — من أحد وجهاء الإقليم؛ لأن
والده كان عضوًا بحزب الشعب.
٦٦
رفض البوليس كل الاجتماعات التي دعت لمقاطعة الانتخابات، وتجددت الاشتباكات بين
الجماهير والشرطة. وحرضت الحكومة مشايخ البلد على الاستقالة من حزب الوفد،
والانضمام إلى حزب الشعب، ومن يرفض الاستقالة يُفصَل من عمله الحكومي. وعندما استقال
عدد من العُمد لرفضهم المشاركة في الإساءة إلى التجربة الدستورية، وهددتهم الحكومة —
بواسطة رجال الإدارة — بسحب استقالاتهم، أو تقديمهم إلى المحاكمة.
٦٧ وقدم عدد كبير من العُمد استقالاتهم بالفعل لصعوبة تنفيذ ما أرادته
الحكومة منهم، فلما طالبتهم الحكومة بالعدول عن استقالاتهم، أصرُّوا عليها، فقُدِّموا
للمحاكمة أمام لجان الشياخات بتهمة العصيان.
٦٨ وقررت بعض القرى أن يكون يوم الانتخابات يوم إضراب شامل، فلا يفتح
التجار دكاكينهم، ويمتنع الطلبة عن الذهاب إلى المدارس، والفلاحون عن الذهاب إلى
الحقول، وأن يخرج الجميع في مظاهرة تتحدى الحكومة. وشمل الإضراب والمظاهرات بالفعل
كل قرى ومدن ميت غمر التي تقع القرية ضمن كردونها، وتعالت الهتافات: يسقط صدقي عدو
الشعب … تسقط إنجلترا … عاش الدستور … الاستقلال التام أو الموت الزؤام … تسقط
الانتخابات المزورة.
٦٩ المؤسف أن البوليس واجه المتظاهرين بالرصاص، مما أدى إلى مذبحة بلغ عدد
ضحاياها حوالي الخمسمائة. وينقل الفنان على لسان الملك فؤاد قوله متسائلًا: «خمسمائة
فقط؟!»
٧٠ اختلطت أصوات الرصاص، ودخان الحرائق، وسقوط الشهداء، وصرخات الجموع
تكاد تهز الأرض والسماء، وأفواه الناس كأنها استحالت براكين تغلي.
٧١ ويروي الفنان (رأس الشيطان) عن الأحداث التي شهدتها عزبته للمرة
الأولى، فقد حمل الفلاحون السلاح، وقتلوا ناظر العزبة، ودمروا، وأشعلوا
النيران.
٧٢ مع ذلك، فإن الباشا (رأس الشيطان) صارح صديقه — قبيل إجراء الانتخابات —
بأن تمرد الفلاحين لن يغيِّر من الواقع شيئًا «المسألة متفق عليها مع صدقي باشا،
غدًا تُعلَن النتيجة، وستعلم أن ممثل حزب الشعب بالدائرة قد فاز بأغلبية
ساحقة.»
٧٣
أُجريَت الانتخابات بالفعل، وتم تزويرها بصورة لم تعرفها الحياة النيابية قبلًا،
وكان تزوير الانتخابات هو وسيلة الأقليات السياسية عمومًا للجلوس على كراسي الحكم.
ولأول مرة، خرج المعلم كرشة على إرادة الوفد مُرغَمًا، فقد نُقَل مع غيره في لوري إلى
مركز الانتخاب ليدلي بصوته ضد مرشح الوفد.
٧٤ وبلغ عدد القتلى في أنحاء مصر — في أثناء الانتخابات المزورة — مائة قتيل.
٧٥ فاز حزب الشعب، الحزب الذي ألَّفه إسماعيل صدقي ليفوز في الانتخابات،
ويتولى الوزارة. وكما قال الباشا (رأس الشيطان) فإن الفلاحين لم يغيروا من الواقع
شيئًا، فقد أُعدَّت النتائج سلفًا، صنعها الملك والإنجليز وصدقي، وفاز مرشحو حزب الشعب
بأغلبية كاسحة.
٧٦ ويقول الباشا لناظر العزبة محروس أفندي: «ألم تقل لي بالأمس إن الدائرة
كلها ملك يميني، وإن لجان الاقتراع سوف تغص بمؤيدي حزبي، حزب الشعب الجديد؟ تكلم،
ماذا كانت النتيجة؟ لجان الاقتراع ظلت خاوية طول النهار، وضحكات السخرية والازدراء
تنطلق من أفواه هؤلاء الفلاحين الحيوانات، ماذا أقول لصدقي باشا وأنا المرشح ضمن
وزرائه؟»
٧٧ وقد علَّق الدكتور أمين رضا (السراب) على ما حدث بقوله: «من الخير لهذا
البلد أن تحكمه حكومة فاسدة؛ ذلك أن الحكومة الصالحة لا تستطيع أن تفعل شيئًا ذا
بالٍ في حدود الأوضاع القائمة؛ فالخير أن تستبد الحكومة الفاسدة حتى تعجل بالنهاية،
النهاية المحتومة.»
٧٨
وعلى الرغم من فوز عثمان باشا (رأس الشيطان) في انتخابات حزب الشعب المزورة، فإنه
ظل على كراهيته للفلاحين الذين رفضوا التصويت لصالح انتخابه في البرلمان. توعد بأن
يزيد إيجارات الأرض، وبألا يسمح لأحدٍ منهم أن يروي أملاكه الخاصة من الترعة إلا بعد
رفع الثمن، وعدم استئجار أحد للعمل في أرضه إلا بنصف الأجر «هؤلاء الفلاحون، عندما
تحرمهم الرغيف والقرش يهرولون لتقبيل حذائك، لن أنسى أبدًا يوم الانتخاب، واللجان
تصفِّر في جنباتها الريح … هؤلاء الأوغاد.»
٧٩
الرأي الوحيد الذي وجد في فوز حزب الشعب مسألة طبيعية، ذهب إلى أن «فوز حزب الشعب
الناشئ بالغالبية الساحقة، يعني شيئًا واحدًا، وهو تدخل من جانب رئيسه في سير
الانتخابات، والعكس هو الصحيح؛ لأن الحزب كان ناشئًا فعلًا، وكان يُرجى على يديه خير
كثير؛ ولذا كان التصويت في جانبه. وهذا أمر مشاهَد ومعترَف به في شتى الانتخابات التي
أجريت في مصر؛ إذ طالما أحرزت الأحزاب المرشَّحة للحكم، أو القابضة على ناصية
الغالبية المطلقة؛ لأن للناخبين مطالب، لا يمكن أن يؤديها لهم نوابهم في سهولة ويسر
وسرعة أيضًا، وهم معرضون للحكومة، ولهم ضدها وقفات.»
٨٠
•••
اجتمع البرلمان الجديد في يونيو ١٩٣١م، ليخوض — وحكومته — سلسلة من المعارك ضد قوى
المعارضة، حتى ألَّف عبد الفتاح يحيى وزارة جديدة في أواخر ١٩٣٣م.
وبعد أن مضى على وزارة صدقي ثلاث سنوات، قدم استقالته في ٢١ سبتمبر ١٩٣٣م، وإذا
كان الرجل قد برر استقالته بظروفه الصحية، فمن المؤكد أنه كان قد أدى دوره لصالح
السراي في مصادرة الحريات، وتكميم الأفواه. وكان الإنجليز قد حاولوا أن يخفِّفوا حدة
التوتر الداخلي، توصلًا إلى عقد معاهدة، هي معاهدة ١٩٣٦م. وجرى الاهتمام والسرور مع
الهواء في كل مكان؛ ذهب الطاغية، غار سفاك الدماء، وانفك الاستبداد عن المصريين أو
كاد.
٨١
سقط إسماعيل صدقي، وسقط معه دستوره المزيف، وأحنى الملك رأسه حتى مرَّت العاصفة،
وجاءت وزارة جديدة، تعيد الدستور، وتجري انتخابات حرة، وإن أجريت الانتخابات في ظل
الاحتلال والفساد والظلم الاجتماعي.
٨٢
ولأن حزب الشعب نشأ في أحضان القصر، وبقوة البوليس، وضغط ونفوذ رجال الإدارة
بصورة علنية، فإنه لبث أن ذوي وانتهى أمره عقب خروجه من الحكم، وفضَّل أعضاؤه سياسة
جديدة، هي البقاء خارج الأحزاب باعتبارهم مستقلين.
ويعتبر لويس عوض حكم عبد الفتاح يحيى امتدادًا لديكتاتورية صدقي، ثم كان حكم
توفيق نسيم امتدادًا لحكم عبد الفتاح يحيى.
٨٣ يقول كمال عبد الجواد: «شد ما طال موقف الصابر الذي يتلقَّى الضربات؛
اليوم توفيق نسيم، وأمس إسماعيل صدقي، وأول أمس محمد محمود، تلك السلسلة المشئومة
من الطغاة.»
٨٤
صورة الحياة أيام صدقي
لقد امتدت ديكتاتورية صدقي منذ إلغاء دستور ١٩٢٣م، في ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠م حتى إعادة
العمل به في ١٢ ديسمبر ١٩٣٥م. يقول الراوي (أيام الطفولة): «هل حدث ما حدث في الصيف؟
هل حدث ما حدث في الشتاء أو الربيع أو الخريف؟ وفي أي شهر زلزلت الأرض في بلدتنا،
واختضبت بدماء أبنائها؟ كل هذا لا أذكره، ولست في حاجة إلى أن أذكره، أو أسأل عنه
الآن؛ لأن الأحداث التي وقعت في بلدتنا قد شملت وادينا الأخضر كله، ولأن هذه
الأحداث ليست من النوع الذي نحتاج إلى مَن يذكِّرنا به، ولأنها كما رسبت في أعماقي،
وعاشت معي هذه السنين الطويلة، رسبت في أعماق كل الأطفال وكل الرجال وكل الشباب
والنساء، وكل إنسان كان يعيش ويتنفس على أرض مصر في تلك الفترة، إنها من الأحداث
التي لا تموت؛ لأنها جعلت لحياتي معنى، وحددت لي — ولغيري — الهدف، واستحالت إلى
تاريخ.»
٨٥ ويقول الراوي (المرايا): «غير أن الانقلاب الذي قام به إسماعيل صدقي في
ذلك التاريخ، طوَّق المشاعر، وضغط على الأفكار، فلم يكن من اليسير تجاهله.»
٨٦ ويقول أحمد عبد الجواد (السكرية): «وهل يمكن أن ننسى عهد صدقي؟ لقد
كان الجنود يجمعون الأهالي بالعصي أيام الانتخابات، وكثير من الأعيان من أصدقائنا
خربت بيوتهم وأشهروا إفلاسهم ثمنًا لثباتهم على مبدأ الوفد. ثم إذا بنا نرى الشيطان
ضمن هيئة المفاوضات في لباس الوطنيين الأحرار.»
٨٧ وقد نقم أبناء القرية على الشيخ ابن قريتهم، عندما وصلت الأخبار بأنه
صار خطيبًا في زفة صدقي بالبلاد في سنوات حكمه الأغبر.
٨٨
لقد تعدَّدت حوادث إلقاء القنابل ضد المسئولين والمنشآت الحكومية والبريطانية،
وزادت حوادث القتل والشروع فيه بنسبة ٤٠٪ في عام ١٩٣٠م عما كانت عليه في ١٩٢٩م، وقد
عزت الحكومة تلك الزيادة إلى سوء الحالة الاقتصادية، لكن الحالة السياسية كان لها
تأثيرها المباشر. وبالإضافة إلى إلغاء دستور ١٩٢٣م، فقد تعطلت الحياة النيابية
تمامًا، واستقال لطفي السيد من منصب رئيس جامعة القاهرة، بسبب نقل طه حسين من عمادة
كلية الآداب.
٨٩ ففي ١٩٣٢م رغبت وزارة إسماعيل صدقي في منح درجة الدكتوراه الفخرية
لجماعة من السياسيين الممالئين لها. ورفض طه حسين ذلك بوصفه عميدًا لكلية لآداب،
وذهب إلى حلمي عيسى وزير المعارف، وقال له: إن الجامعة تعطي درجة الدكتوراه الفخرية
بوحي من نفسها لا بوحي من الحكومة، وإنها لا تستطيع أن تمنح هذه الدرجة لأفراد
حزبيين. وامتنعت كلية الآداب عن منح الدكتوراه لأنصار الحكومة، بينما وافقت كلية
الحقوق. وأمر الملك فؤاد بإخراج طه حسين من الجامعة، وزادت الحكومة فطلبت من شركة
مصر الجديدة أن تخرجه من داره، وقد لقَّبت صحف المعارضة طه حسين بعميد الأدب العربي
وليس عميد كلية الآداب وحدها. والحق أن خروج طه حسين من الجامعة، واشتغاله
بالصحافة، ومواصلة كتاباته الأدبية والتاريخية والاجتماعية من أهم ظواهر المقاومة
الفكرية للحكم المتعسف الذي فرضه صدقي، كذلك فقد حكم — في تلك الفترة — على العقاد
بالحبس بتهمة العيب في الذات الملكية، وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب. ويقول
الفنان إن الجواسيس كانوا مبثوثين في كل مكان، وكان راكب الترام ينظر إلى جاره نظرة
مرتابة، يحسبه جاسوسًا يريد أن يطَّلع على خبيئة نفسه ليسوقه إلى المحاكم
والاضطهاد.
٩٠ حتى رفاق السلاملك، أصبح حديثهم همسًا خوفًا من سيف الإرهاب المصلت على
الرقاب، والجواسيس المنبثة في كل مكان.
٩١ وفي ٥ أغسطس ١٩٣٠م بينما كان صدقي يستقل القطار من الإسكندرية إلى
القاهرة، أُلقي القبض على حسين محمد طه الموظف بهندسة السكة الحديدية، وابن محمد بك
طه عضو مجلس النواب السابق عن مركز دراو، وهو يندس ضمن الخدم؛ لكي يقتله ببلطة كان
يخفيها تحت قفطانه الأبيض، وقدم الرجل إلى محكمة الجنايات بتهمة الشروع في قتل
إسماعيل صدقي، وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات، وقد تُوفي في السجن سنة ١٩٣٢م.
لقد صدرت «أهل الكهف» في عام ١٩٣٣م، وحكومة صدقي تفرض إرهابها، ومن ثَم فلم يكتفِ
محمود أمين العالم بالمغزى الفلسفي، وهو — تقديره — العدم والموت، لكنه عني بالمغزى
الاجتماعي أيضًا، فقد كانت الحريات مكبوتة، والصحافة مصادَرة، ومحاولات بعث مصر
وإنهاضها من رقدتها محكوم عليها بالهزيمة، وكانت عودة أهل الكهف إلى كهفهم تجسيدًا
لتلك الهزيمة.
٩٢ وقد نشأت جماعة أبوللو في سبتمبر ١٩٣٢م؛ أي في ذروة التعسف الصدقي، ومن
هنا اتَّسمت غالبية محاولات أفرادها بالقتامة والسوداوية.
وانعكس سوء الأحوال الاقتصادية في مصر على الأنشطة الفنية من مسرح وسينما وأغنية
وعروض ترفيهية، وبدأ الكثير من دور العرض السينمائي والمسرحي يغلق أبوابه، وتوقفت
المجلات الفنية عن الصدور، وحدثت أزمة في صناعة التسجيلات الموسيقية.
شخصية صدقي
كان لسقوط إسماعيل صدقي في الانتخابات أمام مرشح الوفد نجيب الغرابلي، في بلدته
«الغريب» تأثيره السيئ المباشر في نفسية الرجل، فقد تزلزلت ثقته نهائيًّا بالجماهير
«فانساق في طريقه، وازداد إيمانًا بنفسه، ورضي بلقب رب الكفايات، ورب المواقف، ومنذ
ذلك الوقت، لم تعرفه مصر إلا ضاربًا للشعب، أو رجل اقتصاد، وعضوًا في مجالس
الشركات، أو صاحب كرسي في مائدة المفاوضات.»
٩٣ يصفه الفنان بأنه «كان ديكتاتور مصر ومعذِّبَها، وأبغض خلق الله إلى
قلبها.»
٩٤ وكانت صورة صدقي في أذهان بعض شباب أرض الشرقاوي أنه كائن عجيب يغلب
مائة من عبد الهادي — أقوى رجال القرية — ويأكل خبزًا كله من القمح، ولا يعرف خبز
الذرة الذي يأكلونه في القرية، ويشرب الماء المثلج من الحنفية لا من
الزير.
٩٥ ويرسم الراوي (أيام الطفولة) صورة لصدقي من خلال أحاديث الناس وكلماتهم
الساخطة والرافضة، فهو يتجسد له — أحيانًا — في صورة شيطان، ثم هو يراه في صورة جندي
بريطاني يحمل بندقية يصوبها إلى صدره، وهو يراه وحشًا ضاريًا يبتلع وحده كل ما في
القرية الصغيرة من ناس وخيرات.
٩٦ ويقول موريس بترسون في مذكراته: «إن حكمًا ديكتاتوريًّا بدون صدقي لا
قيمة له مثل رواية هاملت بدون شخصية الأمير.»
٩٧ وقد دعا إحسان بك القربي (صباح الورد) إسماعيل صدقي إلى مأدبة عشاء في
قصره، كان صدقي «في ذلك الوقت، دكتاتور مصر ومعذبها وأبغض خلق الله إلى
قلبها.»
٩٨ وأعدَّت الشرطة للزيارة، بانتشار المخبرين في شارع الرضوان، وفي حي
العباسية، ومنعوا أي تجمع لأبناء الحي، واتخذت قوات الشرطة مواقعها بكامل أسلحتها،
وجاء إسماعيل صدقي وانصرف «وجرى اسم القربي على الألسنة مصحوبًا
باللعنات.»
٩٩ ولا يخلو من دلالة رفض الأب زواج ابنته من أحد وجهاء الإقليم؛ لأن
والده كان أحد أعضاء حزب الشعب، حزب صدقي باشا والإنجليز.
١٠٠
والحق أن الجانب الشخصي كان له تأثيره في كل تصرفات صدقي. أثناء رئاسته للوزارة،
فقد خلق فصله من الوفد المصري — في بداياته — ثأرًا متجددًا، ظل حريصًا على تحقيقه
باستخدام أقوى وسائل القمع ضد الوفديين، حتى من كانت تربطه بهم أواصر الصداقة، مثل
سينوت حنا وغيره.
١٠١ لقد دخل صدقي الانتخابات في دائرة تقع فيها بلدته — الغريب — التي لم
يزرها إلا في مواسم المحاصيل، ورشَّح الوفد أمامه نجيب الغرابلي المحامي الذي لم
يكن معروفًا في الدائرة. وتوقع صدقي الفوز، لكنه سقط لعدم انتمائه للوفد، وكانت
الجماهير ضد كل من خرج من الوفد أو تعاون مع أعدائه. وكان لتلك الحادثة أثرها السيئ
في نفس صدقي: انعدمت ثقته نهائيًّا بالجماهير، وانساق في طريقه، وازداد إيمانًا
بنفسه. ومنذ ذلك الوقت لم تعرفه مصر إلا ضاربًا للشعب، أو رجل اقتصاد، وعضوًا في
مجالس الشركات، أو صاحب كرسي في مائدة المفاوضات. وكما يروي صدقي في مذكراته، فقد
دخل مسابقة حول: هل من الأفضل أن تكون مواصلات الإسكندرية في يد الحكومة أم في يد
شركة أهلية؟ يقول: «فكتبت في هذا الموضوع بإسهاب، ورجحت أفضلية الإدارة الأهلية
لأنها تؤدي إلى إتقان العمل، والشعور بالمسئولية.»
١٠٢
وكان من دواعي مباهاة إسماعيل صدقي ما وهبته له، ولعائلته، الأسرة المالكة من
المنح والعطايا، وكان يعتز بولائه للملك «مقابلًا للفضل القديم».
١٠٣ وفي مذكراته، يقول صدقي: «ومع ذلك لم أضق بنفسي معتمدًا على الله، وعلى
انتهاز الفرص.»
١٠٤ ويسجل إعجابه بشخصية موسوليني.
١٠٥
حاولت حكومة صدقي استخدام أوضاع الفلاحين السيئة لإخماد أصوات التمرد بينهم، فقد
عجزوا عن دفع الضرائب، مما استتبع الحجز على مواشيهم، وبيعها بأسعار تقل بكثير عن
أسعارها الحقيقية [١٩٢٥–١٩٤٠م، ٤٠-٤١]. حتى بنك التسليف الزراعي في ١٩٣٠م، كان
مشروعه — في الأصل — قد وضع في عهد الوزارات السابقة، وإن منعت حكومة صدقي طرح نصف
الأسهم في الاكتتاب العام، واكتفت بأن تتقاسم الحكومة والبنوك دفع نصف الأسهم
المقررة. افتتح البنك أبوابه — للمرة الأولى — في أغسطس ١٩٣٠م، وكانت البلاد تعاني
ضائقة مالية قاسية، بلغت حد اتخاذ البنوك العقارية إجراءات لنزع ملكية ما يزيد عن ٢
مليون فدان، لعجز مُلاكها عن سداد الأقساط المستحقة عليهم. وكانت وظيفة البنك الأولى
هي توفير تقاوي القمح والفول، وتوزيعها على المزارعين بالأجل حتى يتمكَّنوا من زراعة
أراضيهم. وإذا كان صدقي قد أنشأ البنك بهدف خدمة صغار المزارعين، عملًا بالحكمة
الرأسمالية: من سيطر على المال، فقد سيطر على كل شيء، فإنه حرص على التأكيد بأنه:
بنك الفلاح التعاوني، «وجعل ضمان الجمعيات التعاونية الزراعية فيه أعضاء مجالس
إداراتها، ضامنين متضامنين، رغم ثقته أن المسيطرين على تلك الجمعيات آنذاك هم العُمد
وكبار المُلاك، الذين لا تشغلهم مشكلات البسطاء من الفلاحين. وقد أدى ذلك — بالطبع —
إلى
حرمان صغار الفلاحين من قروض البنك، بينما حصل كبار المُلاك على كل ما احتاجت إليه
زراعاتهم من قروض نقدية وعينية.»
١٠٦ وفي ١٩٣٠م أنشئ أول مكتب للعمل في مصر، وكان تابعًا لوزارة الداخلية،
وكان الهدف من إنشائه مراقبة وقمع الحركة العمالية محافظة على مصالح الرأسماليين.
وكان رأي صدقي أن يقتصر دخول مجلس الشيوخ على طبقة خاصة من كبار الموظفين أو رجال
الأعمال والصناعة والأثرياء.
١٠٧ ولما اشتد اضطهاد الحكومة لاتحاد العمال الجديد، فكر أعضاؤه في إنشاء
هيئة ذات لون سياسي على غرار الأحزاب الأخرى، فأنشئوا حزب العمل المصري في يونيو
١٩٣١م، لكن حكومة صدقي حاربت هذا الحزب أيضًا.
كان يُلقى بضحايا المظاهرات في القبور بملابسهم، حتى لا يشملهم الإحصاء الرسمي.
١٠٨ لذلك يصفه الرجل (الباب المفتوح) بأنه «الذي يدفن الناس
أحياءً.»
١٠٩ ويقول إسحاق بقطر (المرايا) «إن من يخطب مطالبًا بالاستقلال والدستور
خير ممن يبني الكورنيش ويسفك الدماء.»
١١٠ وقال حافظ إبراهيم في صدقي:
ودعا عليك الله في محرابه
الشيخ والقسيس والحاخام
وكان إسماعيل البنهاوي واحدًا من الذين حاولوا قتل صدقي، فدفع من عمره عشر سنوات
متنقلًا بين أبي زعبل وطره.
١١١
وعلى الرغم من قتامة الصورة، فلعل الموضوعية تفرض الإشارة إلى النتائج المقابلة،
فقد أسهمت الأزمة الاقتصادية — إلى جانب حكم محمد محمود وإسماعيل صدقي — في خلق
الانتكاسة المخيفة التي عاشت فيها الأمة المصرية نحو عشر سنوات، لكنهما مثَّلا دافعًا
— في الوقت نفسه — نحو تنفيذ الكثير من المشروعات نتيجة للحماسة الوطنية، ونمو الوعي
القومي. ففي عام ١٩٢٨م كان بنك مصر قد انتهى من تأسيس عشر مؤسسات صناعية وتجارية
كبيرة، في مقدمتها شركة مصر للغزل والنسيج التي تأسست في أغسطس ١٩٢٧م.
وقد جدد كورنيش الإسكندرية — الذي أنشأه صدقي — أمل المدينة في تغيير ثبات صورتها،
حتى الدكتور إبراهيم عقل الذي كان لا يُخفي معاداته لإسماعيل صدقي، قال في صراحة
بأنه «عندما يتم بناء الكورنيش سيتغير وجه الإسكندرية.»
١١٢ ولا شك أن إتمام بناء الكورنيش في ١٩٣٣م قد أحدث في حياة الإسكندرية
تغيرًا اجتماعيًّا مؤكدًا، وكان من أهم العوامل التي ساعدت النمو العمراني للمدينة
قبل الحرب العالمية الثانية. فقد بدأ الأهالي يزحفون ببناياتهم نحو البحر، بعد أن
كانوا يحرصون على الُبعد عن شواطئه، وعمرت منطقة الرمل إلى درجة كبيرة، وبنى السراة
عمارات وفيلات على طريق الكورنيش، وارتفعت أسعار الأراضي المتاخمة للشاطئ.
وكانت الأزمة الاقتصادية منطلقًا لانصراف أعداد كبيرة من المثقفين إلى دراسة
الاشتراكية، والماركسية بصورة خاصة، بعد أن كانت فكرة الطبقات والصراع الطبقي
والثورة — كما يقول سلامة موسى — غائبة عن الأذهان.
أما خالد محيي الدين فهو يؤكد أن أغلب عائلته كانت تحب صدقي، وكان أبوه يعلل
احترامه لشخصية صدقي بأنه «الرجل الذي أنقذ الرأسمالية الزراعية من
الديون.»
١١٣
هوامش