الأزمة الاقتصادية العالمية
استغرقت الأزمة الاقتصادية العالمية سبع سنوات، بدأت في ١٩٢٧م، ثم زادت احتداماتها
ما
بين ١٩٢٩–١٩٣١م؛ أصبحت أزمة مالية اقتصادية عالمية. وكما يقول آن تيلر (كوكب مرقَّع)
فإن البنوك كانت تتهاوى مثل البنايات الآيلة للسقوط.
١ ويصف الدكتور إبراهيم عقل (المرايا) تلك الأيام، بأنها «أيام أزمة، أزمة
تطحن العالم كله، وليست خاصة ببلادنا كما يصورها البعض.»
٢ كانت الأزمة — في حقيقتها — أزمة زيادة الإنتاج، ومن ثَم زيادة في الكميات
المختزنة، فمنذ منتصف ١٩٢٨م بدأت الكميات المختزنة تزداد، حتى قفزت إلى ثلاثة أمثال في
١٩٣١م. عجزت الطاقة الإنتاجية عن تحويل نفسها إلى طاقة استهلاكية. وعلى سبيل المثال،
فقد
كانت سوق المنسوجات — حينذاك — أشبه ما تكون بأرجوحة الصناديق، ذات صرير وضجيج وارتفاع
وانخفاض، حتى محيت أسماء تجار كانوا من اللامعين، وارتفعت أسماء كان أصحابها في الحضيض،
ونشط الوسطاء، وتسلَّح المضاربون بحيلٍ خسيسة.
٣ ثم زادت الأزمة المالية من فداحة الكارثة.
٤ ففي الفترة من ١٩٢٩م إلى ١٩٣٢م تقلص حجم التجارة العالمية إلى الثلث، وفي
أكتوبر ١٩٢٩م حدث انهيار مالي كبير في أسعار الأوراق المالية في بورصة نيويورك. وكان
ذلك
الانهيار مؤذنًا بحلول الأزمة التي امتدت لبضع سنوات، وشملت العالم كله — فيما عدا
الاتحاد السوفييتي — وأدت إلى هبوط الدخول بصورة عنيفة، فقد هبط الدخل القومي في
الولايات المتحدة بنسبة ٣٨٪ في الفترة من ١٩٢٩م إلى ١٩٣٢م. وبلغ عدد العمال العاطلين
١٥
مليونًا، وفي ١٩٣٢م بلغ عدد المتعطلين ٣٠ مليون شخص في أنحاء العالم، بالإضافة إلى
ملايين أخرى رضخوا لشروط أصحاب الأعمال بالعمل ساعات قليلة بأجور أقل.
٥ وهبطت الأسعار هبوطًا حادًّا. وقد أغرقت البرازيل، وأحرقت، كميات هائلة من
البن، إبان الأزمة العالمية الكبرى، حتى تتخلص من الفائض.
٦ ويهبنا الفنان (الشمندورة) صورة بانورامية لتأثير الأزمة في دول العالم، من
خلال لقطات سريعة، أداتها عناوين الصحف المصرية: «في الصين يأكل الناس بعضهم من الجوع
…
رئيس الصين يبكي … في أمريكا يرمون في البحر الدقيق والتفاح والبن … السلع تبور وتفسد
على
الأرصفة وفي المتاجر في كل بلد … البطالة بالملايين في أوروبا … هندرسون يصرح … الوفد
يطالب بدستور ١٩٢٣م … مكرم يخطب في جماهير طنطا … مجلس النواب والشيوخ يناقشان التعويضات
…
شفيق باشا لا يجيب … آخر محاكمات عمال العنابر … أرامل شهداء العنابر يقدمن شكوى … أهالي
الدور يشكون … عامل يوزع منشورات … قبض عليه … لأ هي الكلمة الوحيدة التي يرددها … مصيره
السجن … صبري باشا يسافر إلى موقع الخزان … مساحات جديدة من الأرض … البولمان يعد لدولة
الرئيس … إلى الثغر.»
٧
ثم بدأ العالم — منذ منتصف ١٩٣٢م — يفيق من الكساد الاقتصادي، ولم يحل خريف ١٩٣٦م
حتى
سجلت أسعار المواد الأولية ارتفاعًا عظيمًا يرجع إلى النشاط الصناعي الذي عم دول غرب
أوروبا بخاصة، بسبب زيادة الإنفاق على شئون التسلح، الأمر الذي تطلب ارتفاع وارداتها
من
المواد الأولية.
•••
من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد أسهمت في تفشي الحركات اليسارية المتطرفة
التي وعدت الناس بغدٍ أفضل. حتى تلك الحركات التي كانت تستهدف تثبيت سلطة الديكتاتورية
العصرية أساسًا، مثل النظام النازي في ألمانيا، والفاشي في إيطاليا، استطاعت أن تحتل
موقعًا في نفسية المواطن الألماني والإيطالي.
كان فوز هتلر بسيادة ألمانيا نتيجة مباشرة للأزمة الاقتصادية العالمية، فهو قد أخفق
في عام ١٩٢٨م في الحصول إلا على أربعة عشر مقعدًا في مجلس النواب الألماني. فلما تبدَّت
مظاهر الأزمة الاقتصادية؛ بدأ الألمان ينصتون لأحاديث هتلر عن الطعام والمسكن لكل
مواطن، وأنهم سيكونون أيضًا سادة العالم كله. وفي ١٩٣٢م فاز هتلر في الانتخابات
الألمانية، ليصبح في العام التالي زعيمًا ديكتاتورًا، وليبدأ في الإعداد لدمار العالم.
بدأ النظام الهتلري في تنفيذ برنامجه الذي يقف على أرضية المعاداة للشيوعية. وكان يعتمد
— في الدرجة الأولى — على تأييد الحكومات القائمة في واشنطن وباريس ولندن، التي أسهمت
— قبلًا — في تقويته، ووصوله إلى الحكم كمخلب قط قوي، يمكنه مناهضة الشيوعية، متمثلة
في
الاتحاد السوفييتي الذي كان قد حقق خطته الخمسية الأولى، وجاوز مأساة التخلف الزراعي،
ليصبح قوة صناعية متقدمة، تمتلك قدرات دفاعية لا يُستهان بها. وانطلاقًا إلى الهدف
المحدد، انسحبت ألمانيا الهتلرية من مؤتمر نزع السلاح في ١٤ أكتوبر ١٩٣٣م، ثم أعلنت —
بعد
ذلك بخمسة أيام — انسحابها من عصبة الأمم.
٨ وفي ١٣ مارس ١٩٣٥م، أعلنت ألمانيا أنها لم تعد مقيَّدة بالالتزامات التي
تمنعها من إنشاء سلاح جوي (وهو ما كان قد تقرر في معاهدة فرساي)، وفي ١٦ مارس، أدخلت
ألمانيا العمل بنظام الخدمة العسكرية الألمانية.
•••
أعقبت الحرب العالمية الأولى فترة رواج هائل، لجأ فيها الكثير من ملاك الأراضي إلى
عقد قروض مع البنوك العقارية لآجال طويلة، لكن فترة الرواج انتهت بكارثة القطن في ١٩٣١م
(كانت مساحة الأراضي المزروعة، حسب إحصاء ١٩٣٠-١٩٣١م، ٥٤٦٣٦٦٧ فدانًا (أحاديث جديدة،
٢)). لم تكن تجارة القطن مقصورة على تجار محدَّدين لا يمارسون مهنة سواها، ثمة حلَّاقون
وجزَّارون وتجار حبوب، إذا جاء موسم القطن، حملوا ما ادَّخروه طول العام، وباعوا مصوغات
نسائهم، وطافوا القرى والعزب، بحثًا عن قطن يشترونه.
٩ والعادة أن المزارعين كانوا يحصلون من تجار القطن على سلف، فترة
الصيف.
١٠ وكان الجد عبد الرحمن (الباب الزجاجي) يزرع القطن، وكان ابنه يتاجر فيه،
ويقول إنه عصب الحياة، وإنه الذهب الذي يدور في السوق، ويجعل لكل شيء قيمة.
١١
بالإضافة إلى ذلك، فقد زاد العبء للديون العقارية على مالكي الأراضي، وعجزوا عن
الوفاء بالتزاماتهم، مما أدَّى إلى انتشار بيع الملكيات العقارية بصورة إجبارية، وأدى
بالتالي إلى هبوط أسعار الأراضي، وبيعها بأقل من قيمتها الفعلية. وبدعوى حماية الثروة
الزراعية، دفعت الحكومة ١٤ مليون جنيه من أجل تنظيم دفع الديون العقارية المتراكمة على
كبار الملاك، وكان عددهم ١٣ ألفًا فقط؛ أي بمتوسط ألف جنيه لكل واحد منهم.
١٢ وقد كشفت الإعلانات القضائية في الصحف عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية في
الريف؛ باع الفلاحون كل شيء: الحصير والدجاج والغلة والمواشي والبيوت.
١٣ وكان للمعلم في المدرسة الإلزامية — وكان في الأغلب من أهل القرية — مكانة
مالية تساوي مكانة مَن يملكون مساحة كبيرة من الأرض، فقد كان أقدر — براتبه الذي يبلغ
أربعة جنيهات في الشهر — على الشراء من مالك العشرين فدانًا، وربما أكثر من مالك
الثلاثين «ولذلك فسرعان ما كانت الأرض تنفرط من أيدي ملاكها لتهبط في أيدي
هؤلاء.»
١٤
تدخلت الحكومة لحل المشكلة بعدة وسائل، منها: وقف البيوع الجبرية، تجميد المدخرات،
تأجيل السداد، الحلول مكان الدائن المرتهن، تخفيض أسعار الفائدة، إنشاء البنك العقاري
الزراعي المصري. وكان هدف الحكومة من ذلك كله هو: صيانة ثروة البلاد العقارية من
التدهور، الاحتفاظ بتلك الأراضي للمصريين دون سواهم.
١٥
ولا شك أن التجار كانوا من أشد الفئات تعرضًا لأحداث تلك الفترة التي كانوا يسمونها
أيام الرعب «حين استبد إسماعيل صدقي بالحياة السياسية، وسيطر القحط على الحياة
الاقتصادية، وكانوا يصبحون ويمسون على أخبار الإفلاس والتصفيات، ويقبِّلون الأكف وهم
يتساءلون عما يخبئ لهم الغد.» وقد أدت الأزمة إلى تحطيم مركز والد محمد (فرصة العمر)
في
تجارة القطن، فحرمته بالتالي من إتمام تعليمه بمدرسة المعلمين الأولية
بالزقازيق.
١٦ أما والد مختار (شمس الخريف) فقد كان تاجرًا للمنسوجات بدمنهور، تزوج فتاة
من المنصورة، واستقرَّا في الإسكندرية. فلما حدثت الأزمة العالمية تدهورت تجارته، وأفلس،
وعمل وسيطًا، وكانت الصدمة قاسية، فضيعته تمامًا.
١٧ وكان أحمد عبد الجواد (السكرية) من المحظوظين بغير شك؛ لأن ضيقته لم تبلغ
به الإفلاس الذي تهدده عامًا بعد عام.
١٨ لقد امتدت الأزمة إلى مصر، ولكن بصورة تختلف عنها في الولايات المتحدة؛ لأن
مصر دولة زراعية، بينما الولايات المتحدة دولة صناعية. تبدَّت الأزمة هناك في هبوط الدخل
والإنتاج والبطالة، بينما توضحت هنا في صعوبة تصريف الحاصلات، والانخفاض الكبير في
أسعارها. وانخفض سعر القطن ٤٧٪ عما كان عليه، مع ملاحظة أنها كانت تعتمد — بصورة كلية
—
على تصدير أقطانها إلى الخارج، وأن إنجلترا كانت هي المشترية الأولى لتلك الأقطان،
وهبطت قيمة الصادرات عمومًا بنسبة ٣٧٪.
١٩ بل لقد انخفضت قيمة تجارة مصر إلى مستوى ما كانت عليه في ١٩١٣م، فقد بلغ
مجموع الصادرات والواردات في ١٩٣١م، ٦٠١٩٣٠٠٠ جنيه، بينما كان مجموع الصادرات
والواردات قد بلغ في ١٩١٣م، ٦٠١٠٥٠٠٠ جنيه؛ ولأن ما يقرب من ٩٠٪ من سكان مصر يشتغلون
بالزراعة، فقد تأثرت مقدرتهم على الشراء بسبب نقص أثمان المحصولات الزراعية.
٢٠
وكانت الكارثة القطنية الكبرى في ١٩٣١م عاملًا في عجز ملَّاك الأراضي عن الوفاء
بالتزاماتهم مع البنوك العقارية وغيرها، فتحوَّل بيع الملكيات العقارية بيعًا إجباريًّا
إلى ظاهرة، مما أدى إلى هبوط أسعار الأراضي وبيعها بأقل من قيمتها الحقيقية. وإذا كانت
دول العالم قد حاولت علاج الأزمة بمختلف الوسائل، دون أن يكون لدى إحداها مال احتياطي
تلجأ إليه، فإن مصر — التي لديها مال مدخر — لم تلجأ إليه لتخفيف شر هذه الأزمة إلا عن
فئة قليلة العدد هي أصحاب الديون العقارية.
٢١ وقد حاولت الحكومة مواجهة الأزمة، فقررت التدخل مشترية في سوق القطن، وبلغت
مشترياتها ثلاثة ملايين قنطار، دفعت فيها ١٤ مليونًا من الجنيهات (كانت ميزانية الحكومة
المصرية ٣٣ مليون جنيه)، وأدى ذلك إلى زيادة المخزون لدى الحكومة، فوصل في يوليو ١٩٣١م
إلى ٣٫٥ مليون من القناطير؛ أي ما يساوي نصف المخزون العالمي آنذاك.
٢٢ ثم استقالت الوزارة التي كانت تؤيد سياسة التدخل في الأسواق، وأعدَّت الوزارة
الجديدة دراسة جديدة لما يجب أن تكون عليه السياسة الاقتصادية في مصر. وفي ١٢ أكتوبر
١٩٣٠م قدَّم وكيل وزارة المالية مذكرة عن السياسة القطنية المستديمة، نصح فيها بالعدول
عن
سياسة التدخل فورًا، والتوسع في إنتاج القطن إلى أقصى حدٍّ ممكن، والعمل على رفع الكفاية
الإنتاجية لمحصول القطن، واتِّباع سياسة من شأنها تنويع الإنتاج للإقلال من خطر الاعتماد
على محصول واحد.
٢٣
وقد اقترح عزيز خانكي حلًّا للأزمة:
-
تخفيض إيجارات الأطيان والأملاك ٣٠٪ في الأقل، حتى لا ينتهي التشدد في
دفع الإيجار بأكمله إلى تجريد المستأجر من رأس ماله.
-
تشغيل الموظفين الموسرين بلا أجر؛ فالموظف الذي يودع في البنوك عشرة آلاف
أو عشرين ألف جنيه، أو له إيراد من أطيانه يزيد على مرتبه عشرة أضعاف، عليه
أن يتقبَّل وقف صرف مرتبه. ومثلما يؤدي المواطن «الفقير» ضريبة الخدمة
العسكرية مجانًا، فإن المواطن «الموسر» عليه أن يؤدي ضريبة الخدمة المدنية
مجانًا لمدة عام واحد.
-
تخفيض المرتبات الكبيرة بنسبة من ١٠ إلى ٤٠٪.
-
إيقاف صرف المخصصات التي يتقاضاها الموسرون من الأمراء والأميرات.
-
فرض ضريبة لمدة ثلاث سنوات في الأقل على الشركات الكبيرة والأوقاف
الواسعة.
-
الاستيلاء على جميع الودائع الموجودة في البنوك — طوعًا أو كرهًا — لتفريج
الأزمة، مع دفع فائدة معقولة لأصحاب الودائع.
٢٤
كما دعا عزيز خانكي إلى ضرورة تفتيت الملكيات الصغيرة، سعيًا لتحسين الخدمة الزراعية.
ودلل على رأيه بأن معظم الملكيات الزراعية تصل إلى ملكية الشخص الواحد لثمانية عشر
قيراطًا فقط من الفدان.
٢٥ كان عدد الملَّاك لفدان واحد فأقل — في ١٩٣١م — ١٥٢٩٦٤٤.
٢٦ والواقع أن ملَّاك المساحات الصغيرة من الأراضي الزراعية كانوا أسوأ حالًا من
العمال الزراعيين؛ فالعامل الزراعي يعمل مائتي يوم في العام، يتقاضى عنها ستة جنيهات،
بمعدل ثلاثة قروش كل يوم، بينما المزارع الذي يملك نصف فدان لا تغل له هذه الملكية —
في
أفضل الظروف — أكثر من خمسة جنيهات في العام، ويبلغ عدد هؤلاء المزارعين أكثر من مليون
ونصف المليون.
٢٧
حاولت حكومة إسماعيل صدقي حل المشكلة بوسائل شتَّى، منها وقف البيوع الجبرية، وتجميد
المتأخرات، وتأجيل السداد، والحلول مكان الدائن المرتهن، وتخفيف أسعار الفائدة، وإنشاء
البنك العقاري الزراعي المصري.
٢٨ وأوشك مصنعَا الغزل الأهلية والمحلة الكبرى على الإفلاس، لولا أن اعتمدت
لهما الحكومة (مايو ١٩٣١م) إعانة قدرها ريال عن كل قنطار يُستخدَم من القطن، على أن تتوقف
الإعانة مستقبلًا، عندما تبلغ الأرباح ٥٪ على رأس المال المدفوع، ثم زادت التعريفة
الجمركية الحامية من تدعيم موقف الشركتين.
٢٩ لكن ذلك لم يقف ذلك حائلًا دون تنفيذ العديد من المشروعات الصناعية،
وبالذات تلك التي أقامها بنك مصر.
٣٠ وقد أرجع البعض أسباب استمرار الأزمة إلى: تضخم الجهاز الوظيفي، وبالتالي
ضخامة ميزانية الموظفين … الاعتماد شبه الكلي على الزراعة … سوء النظام المصري، فالبنوك
—
ومعظمها أجنبية — تضع أمامها هدفًا محددًا: الإثراء على حساب الشعب المدين … سوء توزيع
الضرائب … ارتفاع سعر الفائدة في القروض الزراعية … انعدام المدخرات، أو أسلوب المدخرات
عمومًا … عدم حماية الدولة للحاصلات المحلية.
٣١
وكان في مقدمة النتائج التي أدى إليها الكساد العالمي — فيما يتصل بالزراعة — إعادة
الحكومات المتعاقبة النظر في السياسة الاقتصادية، ومحاولة إيجاد نوع من التوازن في
الإنتاج الزراعي، بأن تدفع إلى الأمام بعض الحاصلات الأخرى، بهدف إضعاف أهمية القطن،
والتقليل من سيطرته على الاقتصاد المصري. ووجَّهت الحكومة عناية خاصة نحو تنفيذ بعض
المشروعات العامة للري، من أبرزها تنفيذ التعلية الثانية لخزان أسوان، كما تم مشروع
خزان جبل الأولياء في ١٩٣٧م ليساعد في إمكان الانتفاع بمياه خزان أسوان بعد الفيضان،
كما
اعتبر التصنيع وسيلة مناسبة وجوهرية للتخلص من سياسة الاعتماد على الزراعة وحدها، وعلى
القطن فحسب. وكان تاريخ فرض التعريفة الجمركية الحامية في ١٩٣٠م بداية قيام الصناعة
الحديثة ذات الإنتاج الكبير في مصر.
٣٢ كذلك فقد أصبح التصنيع هو أمل المصريين لحل الكثير من مشكلاتهم الاقتصادية،
وفي مقدمتها مشكلة عدم استغلال الموارد بصورة كافية، وانخفاض مستوى المعيشة، وعدم
الاستقرار والطبقية، والبطالة، وغيرها. لكن التعديل الجمركي في ١٩٣٠م كان هو البداية
الفعلية للتصنيع.
٣٣
•••
كان من مظاهر الأزمة الاقتصادية على الواقع المصري: كثرة الطلاق، عدم الإقبال على
الزواج، انتشار الشعوذة والتنجيم، عودة الصناعات اليدوية، وإلقاء ظل المأساة على التجار
والزرَّاع والعمال والحرفيين. ويقول محمد عفت: هذه موضة جديدة … الشبان الآن يتزوجون.
فيقول أحمد عبد الجواد: ليست موضة فحسب، ولكن بنات اليوم يزحمن الشوارع فضعفت الثقة
بهن، ألم تسمعوا الشيخ حسنين وهو يغني: يا ما نشوف حاجات تجنن، البيه والهانم عند مزين.
فيقول محمد عفت: ولا تنسَ الأزمة الاقتصادية وضيق المستقبل أمام الشبان؛ إن خريجي
الجامعة يتوظفون بعشرة جنيهات إن وجدوا وظيفة بطلوع الروح.
٣٤ ويحلم سالم جبر بثورة كالتي قامت في روسيا قبل أربعة عشر
عامًا.
٣٥ وفي ٣١ ديسمبر ١٩٣٠م صدر الحكم بحبس العقاد تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات
الملكية. وكان سيد شعير (المرايا) من ضحايا الأزمة الاقتصادية؛ استُغني عنه في عمله،
ووجد نفسه وحيدًا بلا مورد ولا أهل ولا مال.
٣٦ وفي ٨ مايو ١٩٣٢م نشرت جريدة «الوادي» مقالًا بعنوان لافت هو «العمال وسبب
انتحارهم» بقلم أمين الحسيني غانم سكرتير لجنة العمال، يقول فيها: «لم تعد تخلو صحيفة
عربية من خبر تنفطر له القلوب، وتنهمر له مدامع العمال من فقْد زميل لهم كان يقاسي ما
يقاسونه من ضروب البؤس والشقاء، والحكومة لاعبة، فقد انعدم العطف على العامل البائس
فأصبح في حالة يُرثى لها، ولم يرَ أمامه سوى التخلص من الحياة وشقائها.» وبلغت الأزمة
حد
إغلاق العديد من المسارح، مثل مسرح منيرة المهدية، ومسرح رمسيس، وغيرهما.
٣٧
وإذا كانت كل فئات الشعب قد عانت بنسبٍ متفاوتة من الأزمة، فإن تأثيرات الأزمة على
الطبقة الوسطى — والموظفين بخاصة — تختلف — إلى حدٍّ كبير — في الإبداعات الروائية؛ فقد
كثر
المتعطلون في «بعد الغروب»، وتهدد الموظفون بفقد رواتبهم الضئيلة، ومع أن إسماعيل صدقي
خفَّض المرتبات بعامة، فإنه زاد في مرتبات رجال الإدارة بدعوى أن هذه إرادة الملك
فؤاد.
٣٨ وقبِل عبد العزيز أن يلتحق بالعمل في معمل ألبان براتبٍ قدره ستة جنيهات في
الشهر.
٣٩ ويشير الفنان (أزهار) إلى أن موظفي الحكومة أفلتوا من الأزمة بدرجة
ما.
٤٠ أما «الباقي من الزمن ساعة» فهي تذهب إلى أن الموظفين لم يتأثروا كثيرًا
بتطورات الأزمة؛ أتاحت لهم مرتباتهم الثابتة أن يفيدوا من الكساد وهبوط
الأسعار.
٤١ وحتى عام ١٩٣٥م كانت «الحالة متأثرة بعض الشيء بالأزمة الاقتصادية»
والكلمات للسيد أحمد عبد الجواد، وإن أضاف وكيله جميل الحمزاوي قائلًا: بدون شك، غير
أن هذا العام خير من العام السابق، والعام السابق خير من الذي قبله؛ الحمد لله على أي
حال.
٤٢
•••
وعلى الرغم من النتائج السلبية التي تمخضت عن الأزمة الاقتصادية، فثمة مَن اعتبر
عام
١٩٣٠م فاصلًا بين عهدَين: عهد يسوده سياسة التخصص وحرية التجارة في أجلى معانيه، باستثناء
فترة الحرب العالمية الأولى، وعهد من التدخل الحكومي، وبدء اتِّباع سياسة التوجيه
الاقتصادي.
٤٣ كما اعتبر بعض الاقتصاديين تاريخ فرض التعريفة الجمركية الحامية في سنة
١٩٣٠م بدء قيام الصناعة الحديثة ذات الإنتاج الكبير في مصر؛ فالتعريفة الحامية أدت إلى
تغيُّر في الميزات النسبية؛ حيث زادت من إنتاجية رأس المال المستثمر في الصناعة، وساوت
في
الفرصة بين الاستثمار في الزراعة والصناعة، وبدَّدت الخوف الذي كان يساور فئة المنظمين
من
ناحيتها.
٤٤ وكان أول اهتمام حكومي بمعالجة مشكلة البطالة في مصر، في يناير ١٩٣١م، لما
قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة خاصة لدراسة مشكلة البطالة، وتقديم الاقتراحات عن خير
الوسائل لمكافحتها.
٤٥
هوامش