قصر الشوق … مرحلة جديدة

تأخذ «قصر الشوق» البداية نفسها التي تطالعنا في «بين القصرين». أحمد عبد الجواد يعود آخر الليل ليجد أمينة في انتظاره، يمد قدميه، فتخلع عنهما الحذاء والجورب، ثم تقدِّم له الطست والإبريق ليتوضأ ويصلي، ثم تجلس تحت قدميه، تنصت — في تأدب — إلى ما يخطر على باله ولسانه من كلمات … لكن الصورة — رغم هذا — لم تعُد هي نفس الصورة؛ طرأ عليها تغيُّر الأعوام الخمسة، أو الستة، منذ قيام ثورة ١٩١٩م، وهي أعوام حفرت روافد لم تكن موجودة من قبل.

كان من نتائج الحرب العالمية الأولى، تحوُّل النمسا والمجر إلى النظام الجمهوري، وظهور دول جديدة مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبولندا الموحدة الشمل، ورومانيا الشاسعة الأنحاء، وظهرت دول عربية من حطام الإمبراطورية العثمانية الغاربة. ثم أعلنت الجمهورية في تركيا بقيادة مصطفى كمال، واتخذت تركيا خطوات فعلية لضم لواء الإسكندرونة السوري، وفقدت ألمانيا كل مستعمراتها، وحُرمَت من معظم أسطولها الحربي والتجاري، وحُرِّم فيها التجنيد الإجباري، وحُدِّد جيشها بمائة ألف، وحُرِّم عليها تملك المدفعية الثقيلة، والطائرات والغواصات. رفض مجلس الشيوخ الأمريكي — في ١٩٢٠م — التصديق على اشتراك الولايات المتحدة في عصبة الأمم، لكن العصبة استطاعت أن تنتظم في أعمالها، وعنيت — في أثناء السنوات التي تلت إنشاءها، بإصلاح أحوال النمسا وهنغاريا واليونان وبلغاريا، واستطاعت الحيلولة دون نشوب بضعة حروب صغيرة، ونجحت — في ١٩٢٣م — بصورة جزئية، في تسوية النزاع بين اليونان وإيطاليا التي كانت قد دانت لديكتاتورية موسوليني. ثم استطاعت العصبة إيقاف الحرب بين اليونان وبلغاريا، ونجحت — على المستوى الاقتصادي — في تمكين النظام النقدي العالمي، وتخفيض، وتثبيت، التعريفات الجمركية، ثم عقدت مؤتمرًا اقتصاديًّا دوليًّا في ١٩٢٥م.١
مع ذلك، فإن عصبة الأمم — ١٩١٩م — وُلدَت وهي تحمل في داخلها أسباب وفاتها. وكان أخطر تلك الأسباب أنها لم تكن منظمة عالمية بالفعل، فقد أُبعدت عنها — بداية — الاتحاد السوفييتي وألمانيا، وأبعدت الولايات المتحدة نفسها عنها، ثم انسحبت اليابان في ١٩٣٣م، فزادت الشروخ في البناء المتهاوي، وفي ١٩٣٢م فاز الحزب النازي في الانتخابات الألمانية، وأصبح هتلر — زعيم الحزب — مستشارًا لألمانيا في ٣٠ يناير ١٩٣٣م. وقال حسني شوكت — عند تسلم الحزب النازي الحكم — في ألمانيا: إن نجاح الحزب النازي في الوصول إلى الحكم أمر جد خطير. فقال أحمد عاصم: ولكن شخص الرئيس هندنبرج حقيق بأن يبتلع هتلر. فقال حسني شوكت: انظر إلى الأفق … ألا ترى أن هتلر في عنفوان الشباب والرئيس في نهاية العمر.٢ وفي ١٩٣١م غزت اليابان منشوريا — وهو إقليم في شمال الصين — واستولت عليه في مدى عام، ثم توغلت في أراضي الصين. وكان عجز عصبة الأمم عن منع العدوان الياباني ضد الصين، أو إيقافه، إصابة مباشرة لهيبة المنظمة كأداة لحفظ الأمن. ثم كان الهجوم الإيطالي على الحبشة في ١٩٣٥م، والابتلاع الألماني للنمسا في مارس ١٩٣٨م، ثم الانتصار الألماني على تشيكوسلوفاكيا في سبتمبر ١٩٣٨م، وضم بقية البلاد في ١٩٣٩م، والاحتلال الإيطالي لألبانيا في أبريل ١٩٣٩م، وتأكد عدم جدوى مواد قانون العقوبات في المنظمة لدرء العدوان.٣
كذلك فقد تغيَّرت الصورة الكلية للأسواق العالمية، بعد أن أخلى الإنتاج الاستهلاكي مكانه طيلة سني الحرب للإنتاج الحربي، وبيعت الاستثمارات الكبرى الخارجية، وانعزلت سوق الاتحاد السوفييتي عن مجالات الاقتصاد العالمي، وظهر المزيد من الحواجز الجمركية بظهور الحدود الدولية الجديدة. وخلف ونستون تشرشل اللورد ملنر في وزارة المستعمرات. وأعلنت المملكة العربية السعودية عن اكتشاف البترول بكميات تجارية في منطقة الإحساء. وتكررت المصادمات — في الهند — بين السنة والشيعة، بينما الهندوس يسفكون دماء المسلمين لا يفرقون بين سني وشيعي. واختل التوازن العادي بين الجنسين وبين مجموعات الأعمار، نتيجة لتفكك الحياة العائلية في سني الحرب، وقتل الملايين من الشبان، وهبوط نسبة المواليد بصورة خطيرة، ثم ارتفاعها بالصورة ذاتها بعد انتهاء الحرب، وشاركت النساء في العمل بكيفية لم تكن قائمة من قبل، وبات من الحتمي حصولهن على حقوق أكبر، ليس في دول أوروبا فقط، ولكن في العالم كله، ودخلت معظم الدول في عنق زجاجة المعاناة الاجتماعية التي أدى إليها تضخم الأسعار بعد الحرب، وثقل عبء الضرائب.٤

•••

تبدأ أحداث «قصر الشوق» السياسية بسفر سعد زغلول من الإسكندرية إلى باريس، ومنها إلى لندن، للتفاوض مع مكدونالد في الاستقلال.٥ وتتفجر الخلافات بين سعد زغلول من ناحية، وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت من ناحية أخرى، ويلقَى السردار مصرعه؛ ليواجَه سعد زغلول بالمطالب الإنجليزية التي ترغمه على الاستقالة — قبل أن يعود الائتلاف، ويتولى عدلي يكن رئاسة الوزارة، بينما يكتفي سعد زغلول برئاسة مجلس النواب — وتأتي النهاية في نداءات باعة الصحف في الشوارع على ملحق «المقطم» الذي يعلن وفاة سعد زغلول، ذلك — باختصار — تطور الأحداث السياسية في «قصر الشوق». أما «السكرية»، فإنها تبدأ منذ مطالع الثلاثينيات إلى أواخر الحرب العالمية الثانية. ومن أهم أحداثها السياسية، محاولة الاعتداء على مصطفى النحاس (١٩٣٨م) وخرجت المظاهرات تهتف بحياة زعيم الوفد، وتتهم محمد محمود — رئيس وزراء مصر آنذاك — بمحاولة اغتياله، حتى نساء درب البغاء، شاركن في المظاهرات، وكانت قدرية واحدة من المتظاهرات.٦

•••

كانت الانتخابات التي أجرتها حكومة يحيى إبراهيم (١٩٢٣-١٩٢٤م) قد أسفرت عن فوز غير متوقع للسعديين، حتى إن رئيس الوزراء نفسه لم ينجح، وأجرى إسماعيل صدقي انتخابات ١٩٢٥م — في عهد وزارة زيور الموالية للقصر، والمعادية للوفد — واستخدم كل أدوات الضغط الإداري؛ ليضمن نجاح العناصر المناوئة للوفد. وحقق خصوم الوفد — بالفعل — نجاحًا كاسحًا، ما لبث أن تبين عدم صحته، عندما اختار المجلس الجديد سعد زغلول رئيسًا، فأصدر القصر مرسومًا بحل البرلمان بعد أقل من عشر ساعات.

وفي مايو ١٩٢٦م، بعد ضغوطٍ من الإنجليز على وزارة زيور، وانسحاب صدقي من الوزارة، وائتلاف الوفد والأحرار الدستوريين؛ أجريت انتخابات جديدة، وحصل الوفد على أغلبية هائلة، مما أدى إلى قيام الملك فؤاد بانقلاب، عيَّن على أثره محمد محمود رئيسًا للوزراء، وكان أول قرارات الوزارة الجديدة تعطيل الدستور لمدة عامين.

أجريت الانتخابات في ديسمبر ١٩٢٩م، وفاز بها الوفد أيضًا، وتشكلت وزارة النحاس في أول يناير ١٩٣٠م، وجلس مصطفى النحاس إلى مائدة المفاوضات مع الإنجليز لإتمام الاستقلال. وكان رأي الملك فؤاد أن الوزارة استنفدت أغراضها نتيجة لفشل المفاوضات. وحين أقدمت الوزارة النحاسية على تقديم استقالتها، تصورًا أن الملك لن يجرؤ على قبولها، فإن الملك قبِل الاستقالة حالًا، ووجَّه الملك أمرًا إلى محمد محمود باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وطالبه بالعمل على تحقيق وحدة البلاد، وتوفير أسباب الثبات والاستقرار للسياسة التي يقوم عليها الحكم.٧

وجد فؤاد في فشل المفاوضات دافعًا لحل البرلمان، ثم ألغى الدستور، وكلَّف إسماعيل صدقي بوضع دستور آخر، أجريت الانتخابات وفق مواده، وقد قاطعت الأحزاب تلك الانتخابات، عدا الحزب الوطني، والحزبَين اللذين اصطنعتهما السراي: الاتحاد والشعب.

انضم حزب الأقلية الذي كان يتبعه رئيس الحكومة إلى حزب الأغلبية في استنكار تصرفات رئيس الحكومة الجديد، وعدوانه على الدستور والحريات وكل مقدسات الأمة. وطاف زعماء الحزبين بالبلاد منددين بما يجري ويقع، وتصدت الحكومة بالجيش والبوليس لهذه الزيارات والجولات، وكاد رئيس حزب الأغلبية يصاب بضربة سونكي في إحدى المرات لولا أن تلقَّاها عنه أحد إخوانه، وسقط عشرات من القتلى ومئات من الجرحى في طول البلاد وعرضها، ووصل الصراع إلى أشده في اليوم الذي كان محدَّدًا لانعقاد البرلمان بعد تأجيله، وأهاج الشعب أن عمدت الحكومة إلى حل البرلمان من أساسه، فقامت مظاهرات الاحتجاج في أنحاء العاصمة، وحطَّم الجمهور الغاضب — جريًا على عادته — مصابيح النور، واقتلع الأشجار من الطرق، وقلب مركبات الترام، وأشعل النار فيها، وخلت الشوارع التي غُطيَت بشظايا الزجاج وقطع الطوب والأحجار وفروع الشجر من كل حركة، إلا حركة البوليس الراكب وهو يحمل المزاريق، ويكتسح الشوارع جيئة وذهابًا.٨ وقد تدخَّل الإنجليز، فوجَّهوا إنذارًا إلى الحكومة، وإلى رئيس حزب الأغلبية، مهددين بالتدخل لحماية أرواح الأجانب، ثم هدأت الأوضاع نسبيًّا، وخاصة بعد أن توقفت الدراسة، وعاد الطلاب إلى مدنهم وقراهم.٩
وفي الذكرى الأولى لإلغاء دستور ١٩٢٣م نظمت اللجنة العامة للطلبة إضرابًا عامًّا شمل جميع المحال العامة في أنحاء مصر،١٠ لم يعترض أحد على ذلك الإضراب، حتى الأجانب.١١ ومع أن دستور ١٩٢٣م فُرِض على الشعب، فلم يُعرَض عليه في استفتاء، ولا أُخذ رأيه فيه على أي نحو، فإن الشعب — المواطنين العاديين — كان أشد الجميع استمساكًا بالدستور، وحرصًا عليه.

•••

في يناير ١٩٣٢م طُرحت فكرة تأليف وزارة ائتلافية من الوفديين والأحرار الدستوريين، وكانت دار المندوب السامي وراء تلك الفكرة، بعد أن توضَّح الرفض الشعبي الهائل لحكومة صدقي، واجتذبوا إلى تأييدهم ثمانية من أعضاء الوفد، بينما رفضها النحاس وماهر النقراشي ومكرم عبيد، الذين أصروا على أن تُشكَّل الوزارة من حزب الأغلبية. وأدى الخلاف إلى حدوث انشقاق بين أعضاء الوفد، فاستقال نجيب الغرابلي، ثم تبعه أعضاء آخرون هم: فتح الله بركات وحمد الباسل وراغب إسكندر وسلامة ميخائيل ومراد الشريعي وعلوي الجزار وفخري عبد النور وعطا عفيفي وبهي الدين بركات وعلي الشمسي وجورج خياط، وقرر الوفد — في ديسمبر ١٩٣٢م — ضم اثني عشر عضوًا جديدًا إلى هيئته، بدلًا ممن فُصلوا، أو تُوفوا.

وقد خرجت المظاهرات الصاخبة في سنة ١٩٣٣م، شارك فيها — بالكلام وبالفعل — التجار وصغار الموظفين والحرفيون والعمال والفلاحون، حتى بائعات اللبن والفاكهة، كن يتحدث عن الطاغية، وعن الحرية.١٢ وانتقلت عدوى التظاهر من القاهرة إلى الأقاليم؛ خرج طلبة الثانوي في المدن الإقليمية يحملون الرايات، ويطالبون بالدستور، ويلعنون الملك الطاغية.١٣ ثم انصرف الطلبة عن الحياة السياسية، نتيجة لتكالب الساسة على مقاعد الحكم.١٤ تحوَّلت الثورة إلى صراع سياسي بين الوفد وكل من القصر والاستعمار، أو إلى صراع بين أحزاب الأقلية وحزب الأغلبية، وتوزَّع الجيل في بحثه عن مخرج من أزمته بين أحزاب جديدة، واتجاهات جديدة، بعضها يهدف إلى بعث الإسلام، أو مجد الإمبراطورية العربية، وأحزاب أخرى فاشية مصرية، تجد في ديكتاتورية هتلر وموسوليني مثلًا يُحتذى، وأحزاب متطرفة تريد نقل النظريات الغربية، وتطبيقها.١٥ وكما يقول رفعت السعيد فإن تخاذل الوفد — في مطالع الثلاثينيات — كان هو الباعث لأن تتمكَّن قوى سياسية جديدة من الظهور، مثل «مصر الفتاة» و«الحزب الوطني»، مدعمًا بكوادر جديدة من الشباب، والإخوان المسلمين الذين كانوا يحاولون إيجاد نفوذ لهم في الجامعة.١٦ كان بطل قصة «الأيام الحلوة» لإبراهيم مصباح، يفاجأ — في بعض الأيام — عندما يصل إلى المدرسة، بأن الزعماء قد دبَّروا مظاهرة «ومع أننا كنا نفهم معنى الوطنية، إلا أننا كنا نعلم أيضًا أن المظاهرات مدبَّرة لصالح حزب من الأحزاب الحاكمة أو المعارضة، ولم يكن بد من الاشتراك في المظاهرة، وإلا اتُّهمنا بالجبن والخيانة.» وحين يدلف محسن (الدرس الأول) من باب الكلية، يبلغ سمعه صوت جلبة وضوضاء، فيحسب أن الطلبة يتأهبون للإضراب، ويتساءل عمَّ يدعوهم إلى الإضراب؟ ويجيب عن تساؤله: «وهل لا بد من سبب للإضراب؟ لكَم أضربنا في السنوات الثلاث الماضية التي قضيتها في الكلية بلا سبب، أو لأتفه الأسباب!»١٧

وقد سقطت وزارة صدقي ودستورها في ١٩٣٤م، وحلت وزارة جديدة، هي وزارة توفيق نسيم؛ ألغت دستور ١٩٣٠م، وإن لم يعُد العمل بدستور ١٩٢٣م إلا في ١٩٣٥م.

•••

كانت الحيرة هي وقفة ذلك الجيل أمام التيارات العنيفة الهوجاء، التي كانت البلاد تعانيها في تلك الأيام. ثمة تيارات متناقضة، وأفكار متطاحنة: وفديون وسعديون وأحرار دستوريون وفاروق والنحاس وصدقي وعفيفي … إلخ. إن بطل رواية (نفوس مضطربة) لأحمد زكي مخلوف يعبِّر عن تلك الحيرة التي عاناها الشباب بقوله: «لقد زهق الشباب من جدل الأحزاب، وهذه الفتنة الضارية بين الزعماء، لماذا توجد في البلاد أربعة أو خمسة أحزاب؟ لماذا يكون عشرة أو عشرون زعيمًا؟ وما هي سياسة كل حزب؟ وما هو هدف كل زعيم؟ لا أحب تكوين الأحزاب بحالتها الراهنة؛ إذ لا مبادئ مرسومة لها، ولا سياسة موضوعة، ولا برامج للإصلاح الاجتماعي، إنما هو زعيق وصياح وسباب.»١٨ ويتحدث السوري عدنان الأسطواني (رأس الشيطان) عن المندوب السامي الذي جلس واضعًا ساقًا على ساق، وحذاؤه يتجه إلى حيث يجلس الملك فؤاد، دون أن يتململ الملك أو يثور. يقول عدنان: «المندوب السامي هو رأس الأفعى، حذاؤه الذي رفعه في مواجهة الملك، وهو نفس الحذاء الذي يدوس به الدساتير والحريات وكلمة الشعب، وفؤاد وصدقي وباقي الباشاوات أدوات قذرة في يده.»١٩

التقت أحلام غالبية الشباب في مطالع الثلاثينيات حول ثلاثة أهداف مشتركة:

  • إجلاء الإنجليز عن مصر والسودان.

  • مقاومة الحكم المطلق الذي يمثِّله السردار وحكومات الأقلية وعدوانهما المتكرر على دستور ١٩٢٣م.

  • تمصير الاقتصاد المصري.٢٠
كانت قد تألفت — في أثناء احتدام المظاهرات — لجنة من الشباب، راحت تطوف بمقار الأحزاب وبيوت زعمائها؛ كي يتَّحدوا في طلب الجلاء، وعدم التعاون مع القصر، وعدم قبول الحكم إلا في ظل الاستقلال. وكان بيان الطلاب بدعوة الأحزاب لتكوين جبهة وطنية، مفاجأة للقيادات السياسية، فهم لم يكونوا على علم «بالجهود التي بُذلَت في صمت، والتي جاءت من جهة لا يعرفونها، ولم تكن متوقعة، ولم تعلم الصحف أيضًا، ولا أحد، بهذه الجهود.»٢١ ولم يكن أمام الزعماء — إزاء وحدة الطلاب وإجماعهم — إلا السعي لتحقيق الهدف شبه المستحيل، وتكوَّنت الجبهة الوطنية في أقل من أسبوع، من كل الأحزاب، حتى الوفد الذي كان يرفض فكرة الائتلاف، ومكرم عبيد الذي كان يجد في الائتلاف جريمة في حق الوطن، الكل «أُجبروا» على الرضوخ لإرادة الطلبة، والانضمام إلى الجبهة.٢٢ وكان أساس تشكيل الجبهة إعادة دستور ١٩٢٣م، وإجراء انتخابات حرة، والعمل على عقد معاهدة مع بريطانيا طبقًا لنصوص مشروع مفاوضات النحاس-هندرسن. ويقول أحمد نجيب الهلالي: «لقد اكتوينا بنار الفرقة حتى أطفأها الشباب.»٢٣

•••

يقول محمد عفت (السكرية): «نحن في عام ١٩٣٥م، ثماني سنوات مرَّت على موت سعد، وخمسة عشر عامًا منذ الثورة، ولا يزال الإنجليز في كل مكان، في الثكنات والبوليس والجيش وشتى الوزارات، الامتيازات الأجنبية التي تجعل من كل ابن لبؤة سيدًا مهابًا ما زالت قائمة، ينبغي أن تنتهي هذه الحال المؤسفة.»٢٤ وعلى الرغم من أنه قد «استغرقت الأذهان أمور أخرى في ذلك الوقت، كالقضية الفلسطينية ودستور ١٩٢٣م ومقاطعة البضائع الأجنبية.»٢٥ وانشغل الموظفون بالكادر الجديد، ووقف الترقيات والعلاوات،٢٦ وكان البعض — حتى ذلك العام — يتساءل في سخرية: «أتتوهم حقًّا أن الإنجليز يمكن أن يخرجوا من مصر؟!»٢٧ وتساءل إسماعيل لطيف ساخرًا: «ألا ترى أن من يتعب نفسه في الكلام عن إصلاح هذا البلد، كالنافخ في قربة مقطوعة.»٢٨ «وقال رجل: أما مصر فيستطيع أي حاكم أن يستبدَّ بها دون كبير خطر.

– الواقع أن أي نظام من أنظمة الحكم يستحيل ديكتاتورية إذا طُبِّق في مصر.

– هذا وطن «ضربك شرف يا أفندينا.»

– لن تظفر مصر باستقلالها أبدًا.

– استبدت بها عادة الحكم الأجنبي.

– وما حاجة مصر إلى الاستقلال؟ أما الزعماء فيعاركون على الحكم، وأما الشعب فغير أهل للاستقلال.»٢٩

ويسأل أحدهم: علام يدل امتلاء الحانات بالواردين؟

– يدل على أن دستور ١٩٢٣م أفضل من دستور ١٩٣٠م.

– أتحسب أن دستور ١٩٢٣م يعود؟

– أين هو الآن؟

– في ضريح سعد مع جثث الفراعنة!

– فليحفظوه هناك حتى نستحقه!٣٠

•••

لقد أرادت القوى الرجعية أن تغيِّر الوجوه، خوفًا من تحول الغضبة الهائلة إلى انفجار حقيقي، فذهب صدقي، وجاء عبد الفتاح يحيى، وأعقبه توفيق نسيم. ومارست قيادة الوفد، التي أضعف بطش صدقي كثيرًا من صلابتها النفسية، نوعًا من المهادنة التي يشغلها العودة إلى الحكم بالاتفاق مع القصر، فلم تتشدد في مطالبتها لنسيم بإعادة الدستور الذي ألغاه صدقي. وتحوَّلت أحلام العمل السياسي من المطالبة بالاستقلال إلى مجرد المطالبة بإرجاع الدستور، وحتى هذا الدستور لم يكونوا يطالبون به في حسم.

ولكن إرادة الأمة أجمعت — والقول لوحيد رأفت — على إعادة دستور ١٩٢٣م من جديد، فأعيد وسط احتفالات طلابية وشعبية لا يمكن أن تنسى في عهد وزارة توفيق نسيم عام ١٩٣٥م.

وإذا كانت توجد في هذا الدستور بعض العيوب كأي دستور، فقد كان ذلك طبيعيًّا بحكم أنه يمثِّل أول تجربة برلمانية حديثة في مصر كما كانت الظروف مختلفة؛ إذ كانت البلاد وقتها محتلَّة بالإنجليز، وكان للمَلَكية شأنها وسطوتها، والاحتلال من جهة، والمَلَكية من جهة أخري، كل منهما كان غير راغب في أن تصل مصر إلى ديمقراطية كاملة.٣١
وصلت الأزمة ذروتها حين أعلن توفيق نسيم عزمه على الاستقالة، وكان معنى ذلك القرار نشوب الثورة مؤيَّدة من كل القيادات والتنظيمات السياسية. ولم يكن أمام الحكومة البريطانية سوى إعلان عدم معارضتها في إعادة دستور ١٩٢٣م دون شروط، ونصحت وزارة نسيم بعدم تقديم استقالتها، وعدل نسيم عن تقديم استقالة وزارته بالفعل.٣٢ كان توفيق نسيم — كما وصفه دافيد كيلي مستشار دار المندوب السامي البريطاني «يعد نفسه صراحة وبلا حاجة إلى مواربة صنيعتنا، وكان يعترف بهذا فخورًا، وفي قرارة نفسه كان توفيق نسيم يائسًا دائمًا لأننا قد تخلينا عن الكثير من نفوذنا.»٣٣ وكان توفيق نسيم قد امتنع — في أثناء توكيلات ١٩١٩م — عن التوقيع، وقال — في صراحة صفيقة — إنه لم يُصب بحمى الوطنية. كان هو الوحيد — مع شخص آخر — الذي رفض التوقيع على التوكيل.٣٤ وحين جاء إلى الحكم، اجترأ على الدستور، فحذف منه النص الخاص بالسودان.٣٥
لم تكن وزارة زيور — في تقدير العقاد — صادقة في أداء مهمتها الانتقالية؛ فهي ليست سوى امتداد لوزارة صدقي في عدائها للدستور، وللحياة النيابية عمومًا؛ لذلك فقد شنَّ العقاد هجومًا شديدًا على الوزارة، وكان في ذلك يقف على أقصى اليسار بالنسبة للوفد، وللثورة الوطنية، في وجوب الحفاظ على دستور ١٩٢٣م، واستكمال الاستقلال السياسي.٣٦

•••

في ٩ و١٠ يناير ١٩٣٥م عقد الوفد المصري أول مؤتمر عام له، في مدينة رمسيس بالزمالك، وقد حضره نحو خمسة وعشرين ألفًا من أعضائه، قدِموا من أنحاء العاصمة ومن الأقاليم، وكان أهم قرارات المؤتمر عودة دستور ١٩٢٣م.

ولكن: لماذا هذا الإصرار الشعبي الغلَّاب على إعادة الدستور؟

لعلنا نجد إجابة عن هذا السؤال في قول محمد صبيح إن القضاء كان سند الحركة الوطنية في الثلاثينيات؛ كانت النيابة والحكومات المتعاقبة تقذف في السجون بالمئات من الوطنيين الذين وضعوا على عاتقهم تعرية الاحتلال، والتنديد بأساليبه، ومناهضة السراي والحكومات الرجعية … لكن القضاء كان — في كل الأحوال — في صف الحركة الوطنية، استنادًا إلى الدستور.٣٧ كانت عودة الدستور الملغي إذن هي قضية البلاد كلها، لقد ألغى صدقي الدستور لحساب الإنجليز، فالإلغاء إذن لم يكن ضد حرية المواطن فقط، لكنه كان ضد حرية الوطن أيضًا، من هنا، فإن عودة الدستور كانت تعني عودة الحرية للوطن وللمواطنين في آنٍ، بمعنى أن قضية الاستقلال لم تعُد وقفًا على خروج قوات الاحتلال فقط، أو سقوط وزارات الأقلية فحسب، أو تمتع المواطن بحرية القبول والرفض وإبداء الرأي … لكن القضية — عودة الدستور — أصبحت تعني ذلك كله.

•••

سعت أفواج الناس إلى مكان الاحتفال بعيد الثالث عشر من نوفمبر، وثمة إصرار من الجميع على أن يكون العيد عيد جهاد بمعنى الكلمة، يرد فيه على هور وتصريحه — نوفمبر ١٩٣٥م — الذي نصح فيه بألا يعاد دستور ١٩٢٣م، ولا دستور ١٩٣٠م.

كانت صورة الاحتفال بعيد الجهاد — كما يصورها الفنان — (أزهار) تتلخص في اجتماع حزب الأغلبية على ضريح سعد زغلول، ينثر زعماؤه الزهور، ويقرءون الفاتحة، ثم يلقي رئيس الحزب خِطابًا يهاجم فيه الأحزاب الأخرى، وربما تأجل إلقاء الخِطاب إلى المساء في سرادق كبير يُخصَّص لهذا الغرض، ويسع عشرات الألوف من المواطنين. أما أحزاب الأقلية فكانت تعقد اجتماعات مماثلة في مقارها، ترد هجوم حزب الأغلبية بمثله، وتصفه بأنه حزب الرعاع والغوغاء من أبناء الشعب.٣٨
وحين قررت الأحزاب المصرية عقد اجتماع جماهيري لاتخاذ موقف موحد إزاء تصريح وزير خارجية بريطانيا، اضطر حزب الأغلبية إلى العدول عن سياسته في تأييد الحكومة، وانضم إلى صفوف المعارضة، وهو ما تبدَّى في الاحتفال بعيد الجهاد، في ١٣ نوفمبر ١٩٣٥م. اتجهت النية منذ البداية إلى أن يكون «الاحتفال بعيد الجهاد الوطني السنة دي يختلف عن السنين اللي فاتت.»٣٩

«عيد الجهاد هذا العام عيد جهاد بكل معنى الكلمة، أو هذا ما يجب أن يكون.

– يجب أن يرد فيه على هور وتصريحه المشئوم.

– ابن الكلب نصحنا بألَّا يعاد دستور ١٩٢٣م ولا دستور ١٩٣٠م، ما شأنه هو بدستورنا؟

– لا تنسَ أنه قال قبل ذلك: على أننا عندما استشارونا نصحنا … إلخ.

– أجل، من الذي استشاره؟

– سل عن ذلك حكومة القوادين.

– توفيق نسيم وكفى! أنسيتموه؟ ولكن لماذا هادنه الوفد؟!

– لكل شيء نهاية، انتظروا خُطبة اليوم.»٤٠
احتشد سرادق الاحتفال الضخم بجوار بيت الأمة، بالآلاف من المواطنين، مندوبون من الجامعة وطلاب المدارس الثانوية والصناعية والمتوسطة والأزهر، ومندوبون عن العمال والتجار.٤١ يتطلعون إلى مدخل السرادق الخلفي، حتى لاح مصطفى النحاس فوق المنصة ليلقي خُطبته الخطيرة التي دعا فيها إلى الثورة «وبلغ الحماس من القوم مداه، فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماسٍ جنوني، ولم يكن كمال دونهم حماسًا وهتافًا نسي أنه مدرس مطالَب بالوقار، وخيِّل إليه أنه رجع إلى الأيام المجيدة التي سمع عنها وحال عمره دون الاشتراك فيها … إن فورة الحماس عالية، الهتافات حارة متوعدة، المقاعد ترتج بمن فوقها، فما الخطوة التالية؟ ما يدري إلا والجموع تتجه نحو الخارج … ولكن ما هذا؟ التفت كمال إلى الوراء في اضطراب، سمع صوتًا اهتز له قلبه، وأنصت في انتباه، فصك الصوت مسامعه مرة أخرى. إنه الرصاص، ورأى المتظاهرين — عن بُعد — يضطربون في دوامة خطيرة لا يتضح له أمرها … وعلا الهتاف، واختلط بأصوات الغضب، واشتد إطلاق الرصاص … وترامت أصوات كسر زجاج وصهيل خيل، وعلت أصوات مزمجرة دلَّت على أن تجمعات ثائرة تنتقل من مكان إلى مكان بسرعة خاطفة … إلخ.»٤٢

يقول أحمد عبد الجواد لكمال: «أشهدت اليوم المؤتمر الوفدي؟

– نعم، وسمعنا خُطبة مصطفى النحاس، كان يومًا مشهودًا.

– قيل لنا إنه كان حدثًا عظيمًا، ولكني لم أستطع حضوره، فنزلت عن بطاقة الدعوة إلى أحد الأصدقاء، لم تعد الصحة تحتمل التعب.

– ربنا يقويك.

– ألم تقع حوادث؟

– كلا، مرَّ اليوم بسلام، واكتفى البوليس بخلاف عادته بالمراقبة.»٤٣

•••

في (السكرية) يعرض لنا الفنان تفجُّر أحداث ١٩٣٥م. أدلى صمويل هور وزير الخارجية البريطاني في ٩ نوفمبر ١٩٣٥م بتصريحٍ ردًّا على مناداة الوفد بعودة دستور ١٩٢٣م، بما يعني عودته — بالانتخاب — إلى الحكم. أعلن أن مصر مرتبطة ببريطانيا ارتباطًا أبديًّا؛ لأنها تقع في طريق المواصلات الإمبراطورية بما يوجب الاحتفاظ الدائم بالقوات البريطانية على أرضها، وأن التعاون بين الدولتين قائم بالفعل على أساس اختياري ودي لمصلحتهما المشتركة، وقال: لا صحة مطلقًا لزعم الزاعمين إنا نعارض في عودة النظام الدستوري إلى مصر بشكلٍ يوافق احتياجاتها. أجل، عندما استشارونا، أشرنا بعدم إعادة دستور ١٩٢٣م، ودستور ١٩٣٠م، ما دام الأول قد ظهر أنه غير صالح، والثاني لا ينطبق مع رغبات الأمة. واجتمعت الأحزاب المصرية في مساء صدور التصريح، وهي: الوفد، الأحرار الدستوريون، الحزب الوطني، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة، حزب الاتحاد، وفي صباح اليوم التالي، تفجرت المظاهرات الصاخبة، والغاضبة، في كل مكان، تنادي بسقوط هور ابن التور، وهو النداء الذي ردَّده الشقيقان حسين وحسنين كامل علي صبيحة استدعاء ناظر المدرسة لهما، وإبلاغهما أن أباهما مات.

خرجت المظاهرات من الجامعة والمدارس، تهتف بسقوط نسيم وعودة الدستور. يقول الراوي (صديقي الوطني الباسل): «عقب تصريح مستر هور، قمت في الطلبة خطيبًا أندِّد بالتصريح، وأحضُّهم على الثورة، فثار الطلبة واندفعوا إلى باب الكلية كبحرٍ زاخر؛ لينطلقوا في شوارع القاهرة يهتفون بسقوط هور، وتصريح هور.»٤٤ ولأول مرة — منذ سنوات — خرج طلاب الجامعة في مظاهرة ضخمة، انحدرت من الجامعة نحو القاهرة عن طريق كوبري قصر النيل، وواجه الطلبة في طريقهم مقاومة عنيفة من جنود الإنجليز وقوات الشرطة، وسقط قتلى وجرحى، وعندما مرَّت المظاهرة أمام ثكنات الإنجليز في قصر النيل، ارتفعت أصوات الطلاب تهتف — بالإنجليزية — بسقوط هور!٤٥ واستطاعت المظاهرة أن تصل إلى ميدان عابدين، وهتف المتظاهرون أمام سراي الملك بحياة الوطن والدستور، واصطدموا من جديدٍ بقوة من بلوك الخفر، واستخدمت العصي الغليظة، وأطلقت الأعيرة النارية، وامتدت المصادمات إلى شارع حسن الأكبر. وتجددت المظاهرات في اليوم نفسه، وفي الأيام التالية، قوامها طلبة الجامعة والمدارس الثانوية. ثم استمرت المظاهرات لا تنقطع طوال شهري نوفمبر وديسمبر ١٩٣٥م، شعارها الحرية والاستقلال والدستور.٤٦ وشارك حسنين كامل علي (بداية ونهاية) في المظاهرات، وهتف مع الهاتفين: ليسقُطْ هور ابن التور! ليسقط هور ابن التور!٤٧
ووصل المدُّ إلى الأقاليم، وقُتِل طالبان في المعهد الأحمدي بطنطا، كما أصيب ثمانون طالبًا، وكان للعمال دور بارز في المظاهرات التي قامت في أحياء القاهرة، وبعض المدن الكبرى (نوفمبر ١٩٣٥م) احتجاجًا على تصريح وزير الخارجية البريطاني صمويل هور عن الدستور، وأنه ينبغي ألا يعاد دستور ١٩٢٣م ولا دستور ١٩٣٠م؛ لأن العمل غير صالح للعمل، والآخر لا يتفق مع رغبات الأمة، فضلًا عن مطالبة زعماء الأحزاب بالاتحاد للحفاظ على الحقوق الدستورية للأمة، وأسفرت المظاهرات عن قتلى من الطلبة والعمال، ونظمت الجماعات إضرابًا عامًّا حدادًا على الشهداء، توقفت بتأثيره الحياة الاقتصادية في القاهرة، وتعطَّلت الأعمال، واحتجبت الصحف.٤٨ وقد حدث ذلك كله قبل أن يلقي النحاس خُطبته في هذه المناسبة، بما يعني أن الخُطبة لم تكن هي الدافع إلى الثورة، لكنها جاءت مؤيدة للشعور العام.٤٩ ووافق العقاد على أن يخطب في الاحتفال الذي أقامه حزب مصر الفتاة لهذه المناسبة، بعد أن خرج على الوفد، وتبعه الآلاف من الذين اعتادوا الإعجاب بقلمه وصلابته.٥٠
كان الشعب — كما وصفه نجيب محفوظ — قد اتخذ في النهاية موقفًا سلبيًّا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية، والطغاة من ناحية أخري، وقنع الشعب بمجلس المتفرج، وراح يشجع رجاله في همس، دون أن يمدَّ لهم يدًا. لكن تلك — في الحقيقة — لم تكن كل أبعاد الصورة. خرج «اليوم العظيم» بالمارد من قمقمه، واجتاحت المظاهرات شوارع القاهرة تهتف بسقوط هور، وبسقوط الخونة والعملاء، وتعرض البوليس للمحتشدين، وأطلق النار، فسقط أحد العمال صريعًا، ونُودي به شهيدًا.٥١ ويروي فؤاد (أزهار) كيف واجه عمال العنابر مهزلة الانتخابات، وإضرابهم الذي لم يفلح رجال البوليس في تحطيمه، بعد أن لجئُوا إلى استخدام خراطيم الماء المغلي، حتى أمر رئيس الحكومة بأن تُقطَع المياه عن حي بولاق بأكمله، فحرم العمال من سلاحهم المؤثر، وأمكن التغلب عليهم.٥٢

كان الهدف هو استمرار الحركة، رغم إغلاق الجامعة ومعظم المدارس الثانوية، ومن ثَم فقد تقرر توجيه منشورات مستمرة إلى الشعب والتجار والعمال لإعلان الإضراب العام، والاتجاه إلى الأقاليم، والعمل على أن تكون ثورة ١٩٣٥م أروع من سابقتها في ١٩١٩م.

بدا أن ثورة ١٩ تعود بالفعل من جديد، فاستقال وزير الخارجية البريطاني، وأعلن خلفه أن حكومته لا يمكن أن تتدخل في شئون مصر الداخلية، وأن الشعب المصري حر في اختيار الدستور الذي يرضاه. انطلق باعة الصحف ينادون: «ملحق «البلاغ» الليلة … تصريح جديد للمستر هور يا جدع.»٥٣
وانتصرت إرادة الشعب المصري.٥٤

ثم تشكَّلت وزارة علي ماهر التي أجرت الانتخابات وفق مواد دستور ١٩٢٣م في أبريل ١٩٣٦م، وفاز فيها حزب الوفد.

•••

في أغسطس ١٩٣٤م لحق الملك فؤاد مرض الموت، ورأى أن يتيح لابنه وخلفه فاروق فرصة اختيار حكومة أكثر شعبية، فعين توفيق نسيم رئيسًا للوزراء. تألفت الوزارة في ١٥ نوفمبر ١٩٣٤م، فاستُقبلَت بابتهاج شعبي واضح، وحين أعلنت إلغاء دستور صدقي وما تلاه من خطوات ديكتاتورية، تصور الجميع أن الخطوة التالية هي إعادة دستور ١٩٢٣م، لكن الأيام مضت، فالشهور، وعودة الدستور مجرد أمنية جميلة.

قال علي عبد الرحيم (السكرية): «يا رجال، ما رأيكم في مصطفى النحاس؟ الرجل الذي لم تؤثر فيه دموع الملك الشيخ المريض، فأبى أن ينسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى: دستور ١٩٢٣م.»

وقال محمد عفت: «برافو! برافو! إنه أصلب من سعد زغلول نفسه. من كان يرى الملك الجبار مريضًا باكيًا، ثم يصمد أمامه بهذه الشجاعة النادرة، ويردد في ثبات صوت الأمة التي أولته زعامتها قائلًا: دستور سنة ١٩٢٣م أولًا، وهكذا عاد الدستور، فمن كان يتصور ذلك؟»٥٥
وقال إبراهيم الفار: «تصوروا هذا المنظر، الملك فؤاد وقد حطمه المرض والشيخوخة، يضع يده على كتف مصطفى النحاس في مودة بالغة، ثم يدعوه إلى تأليف وزارة ائتلافية، فلا يتأثر النحاس لذلك كله، ولا ينسى واجبه كزعيمٍ أمين، يغفل لحظة واحدة عن الدستور الذي توشك الدموع الملكية أن تغطي عليه، لا يتأثر لشيء من هذا، ويقول بشجاعة وصلابة: دستور سنة ١٩٢٣م أولًا يا مولاي!»٥٦ إن هذا الدستور الرجعي — على حد تعبير البعض — هو الذي قال كتاب الجبهة الوطنية إلى الملك فؤاد، في ١٢ ديسمبر ١٩٣٥م، إن الشعب قد أجمع على وجوب عودته!
لم يكن الملك فؤاد يؤمن بالدستور، ولا بالأحزاب، ولا بالإرادة الشعبية؛ كان إيمانه يقتصر على الوجود الاحتلالي، وأنه هو الحاكم الفعلي المصري، فهم مجرد أدوات، أو دُمى، يحركها على النحو الذي يريده، ويضمن مصالحه.٥٧ وقد انتهز الإنجليز فرصة مرض الملك بمرضه الأخير؛ ليقضوا تمامًا على استقلال مصر؛ راحوا يتحدثون عن الوصاية، وعن عدم صلاحية الملك للحكم، وعما أصاب قواه العقلية.٥٨ ومثَّل ذلك دافعًا للملك المريض كي ينحاز — لأول مرة في تاريخه — إلى جانب الشعب ضد الإنجليز، انتقامًا لنفسه من الإهانات التي وجَّهوها إليه، فأعلن عن رغبته في أن يرى الدستور — الذي ارتضته البلاد لنفسها — يحكم البلاد من جديد.٥٩ وأصدر الملك مرسومًا في ديسمبر ١٩٣٥م بإعادة العمل بدستور ١٩٢٣م، وكانت عودة الدستور نصرًا لا شك فيه، حتى قال أمين أفندي (الشوارع الخلفية) في تأكيد: «أنا لو كنت فاهم إن عودة الدستور حا تحفظ لي بيتي وحقي كده، كنت وزَّعت منشورات بنفسي، ومشيت في المظاهرات إن شا الله حتى أنضرب بالسونكي.»٦٠

•••

تختلف ثورة ١٩٣٥م عن ثورة ١٩١٩م في أنها اقتصرت على الشباب والفئات المتعلمة، ولم تشمل فئات الشعب كله، وإن كانت — على نحو ما — امتدادًا للثورة الأولى. ولعله يمكن تقسيم «المثقفين» الذين شاركوا في الثورة — بصورة وبأخرى — إلى ثلاثة قطاعات: أصحاب المهن الحرة، الموظفين، الطلبة.

لقد شقَّ الجيل سبيله العسير — على حد تعبير كمال عبد الجواد — إلى هدف بيِّن دون شك أو حيرة.٦١ وربما كان ذلك صحيحًا، لكن الصحيح أيضًا أن السُّبُل إلى ذلك الهدف تباينت واختلفت، إلى حد المعاداة المعلَنة أحيانًا. فإلى جانب الأحزاب المناوئة للوفد، بدءًا بالأحرار الدستوريين، ظهرت التنظيمات التي حاولت اجتذاب الشباب بما أعلنته من شعارات ذات بريق مثل: الشيوعيين،٦٢ والإخوان المسلمين، ومصر الفتاة، وغيرها من التنظيمات التي ربما فرضتها — بنسبٍ متفاوتة — الأجيال السابقة، لكنها أفلحت — بنسبٍ متفاوتة كذلك — أن تخاطب جيل ١٩٣٥م، والأجيال التالية، بأهدافها التي جاوزت البُعد السياسي إلى أبعاد أخرى اجتماعية وفكرية. ولم تكن أزمات الشباب تتركز في البُعد السياسي وحده، بل كان ذلك البُعد جزءًا مكمِّلًا لبانورامية المجتمع المصري. إن الشاب الذي كانت تلح عليه أزمة جنسية لم يكن يعنيه تمامًا حرص الحزب الوطني على الاستقلال التام دون الارتباط بمعاهدات أو تنازلات من أي نوع، ولا مبادئ الوفد المصري التي كانت تتحدد في معاداة الاستعمار والقصر معًا، بينما الأهداف الاجتماعية — في برامجه — غير معلَنة، أو شاحبة. وإن الشاب الذي كان يحيا في المستوى الأدنى ربما وجد ميلًا إلى المبادئ الماركسية التي تنادي بسيادة الطبقة العاملة، وإن الشاب الذي كان يرى في الحياة السياسية مهزلة يؤدي أدوارها ثالوث الزعماء السياسيين والقصر والاستعمار، بينما اقتصر دور الشعب على الفرجة، لا بد أن يتجه اهتمامه إلى الحركات السياسية التي تنادي بتغيير شامل — ولو بالثورة المسلحة — في كافة قطاعات المجتمع. وفي المقابل، فقد كان من بين زعماء الطلبة من يفتعل الحماسة الوطنية سعيًا للوصول إلى مرتبة الزعامة بين الطلبة، فينتخب عضوًا في لجنة الطلبة التنفيذية، ويشترك في جمع التبرعات، ويتعرف إلى الزعماء، ثم يختلس من التبرعات، ويفيد من الزعماء. ذلك ما فعله سالم الإخشيدي في «القاهرة الجديدة»، وذلك ما فعله حسين شاكر في «شيء في صدري» لإحسان عبد القدوس، الأمر نفسه كان واسطة الكثيرين من الطلبة إلى الحياة الاجتماعية العريضة. يقول الرجل: «لكن مظاهرة ١٣ نوفمبر ١٩٣٥م كانت من أخطر المظاهرات التي راح ضحيتها عدد ليس بالقليل من طلبة الجامعة، ومهَّدت لقيام الجبهة الوطنية، وعقد معاهدة ١٩٣٦م.»٦٣

وعلى الرغم من استعدادات قوات الشرطة في اليوم التالي — الخميس ١٤ نوفمبر ١٩٣٥م — فقد استطاع الطلاب أن يغادروا أسوار الكليات، وانضم إليهم طلاب المدارس الثانوية، حتى وصلوا إلى كوبري عباس. وما كادت مقدمتهم تبعد عن الكوبري بأمتار حتى انهال عليهم الرصاص من أفراد القوة التي كان يقودها ضابطان بريطانيان، وأصيب الطالب محمد عبد المجيد مرسي برصاصات قاتلة، فكان أول شهداء الجامعة. كما أصيب الطالب محمد عبد الحكم الجراحي بثلاث رصاصات في بطنه، وحمله زملاؤه إلى مستشفى قصر العيني، ولأن عبد الحكم كان قد رفع العلم بعد أن قتل قائده، فقد أصبح — في اللحظة نفسها — رمزًا للثورة، وهتف المتظاهرون: «رفعت العلم يا عبد الحكم.» وأصيب كذلك طلاب آخرون، من بينهم محمود عبد الله مكي، وإبراهيم شكري، وعبد القادر زيادة، ورجائي كامل حسن، وغيرهم. وقبل أن يلفظ الجراحي أنفاسه الأخيرة في المستشفى، كتب رسالة إلى «بلدوين» رئيس الوزارة الإنجليزية، قال في مطلعها: «إلى بريطانيا روح الشر.» وأشار إلى ظلم بريطانيا وعدوانها على الشعوب، وتنبَّأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما وجَّه رسالة شكر إلى زملائه الذين أحاطوه بالرعاية فترة بقائه في المستشفى، وقد مات في اليوم الخامس من إصابته.

وثمة رواية أخرى للفنان في (العراوي) تذهب إلى أن عبد الحكم الجراحي قد استُشهد غريقًا حين فتح البوليس كوبري عباس، فابتلعهم النيل «الولد ورفاقه كانوا سعداء وموج النيل يحضنهم إلى الأعماق، فهم قد ضحوا بأرواحهم في حب مصر، ثم أن الذي أكل جثثهم هو النيل الحبيب وليس نهرًا آخر.»٦٤ والرواية خاطئة؛ لأن النهر لم يبتلع عبد الحكم الجراحي، وإنما قتله رصاص البوليس، وظل الجثمان مودعًا في مشرحة قصر العيني.
ورغم قرار أحمد لطفي السيد — مدير الجامعة — بتعطيل الدراسة في جميع الكليات، وإغلاق نادي الجامعة، فقد خرج طلبة دار العلوم صباح السبت ١٦ نوفمبر، في مظاهرة إلى بيت الأمة، فواجهتهم قوة من جنود الشرطة والجيش في شارع المبتديان، بقيادة ضباط إنجليز. وانهال أفراد القوة ضربًا على الطلبة بالعصي الغليظة، فاستُشهد الطالب علي طه عفيفي — أذكِّرك باسم علي طه، الطالب اليساري، في «القاهرة الجديدة» — وأصيب كثيرون. وامتد الإضراب، فشمل معظم مدارس مصر، وأضرب المحامون، واحتجبت الصحف يومًا عن الصدور، احتجاجًا على التدخل البريطاني، وأصدر القضاة المصريون بيانات احتجاجٍ على بريطانيا، وخرجت المظاهرات في عواصم الأقاليم، ترافقها الهتافات: «رحمة الله على شهداء الآداب والزراعة ودار العلوم.»٦٥ وحدثت مصادمات عنيفة بين الطلاب وقوات الشرطة، وإن انتشرت ظاهرة رفض الضباط المصريين لأوامر إطلاق الرصاص على المتظاهرين.٦٦ وأصدرت الحكومة قانونًا بمنع الصحف من نشر أخبار المظاهرات، لكنَّ الصحف نشرت عن أحداثٍ في شبين الكوم والزقازيق والمنصورة والإسكندرية وبورسعيد وغيرها من المدن المصرية. ونزل الجيش إلى شوارع المدن الكبرى؛ ليعاون قوات الشرطة في قمع المظاهرات. وأصدر شيخ الأزهر قرارًا بتعطيل الدراسة في كليات الأزهر، بحجة قدوم شهر رمضان، مع أنه كان قد بقي أسبوعان على قدوم رمضان، أما السبب الحقيقي فهو الحيلولة دون مشاركة طلاب الأزهر — بثقلهم الذي يصعب إغفاله — في المظاهرات الطلابية.٦٧

•••

استمرت معركة الدستور خمس سنوات وستة أشهر، منذ انقلاب صدقي في يونيو ١٩٣٠م إلى صدور الأمر المَلكي بإعادة الدستور في ١٢ ديسمبر ١٩٣٥م. لم تذهب التضحيات عبثًا، فقد أطيح بوزارة نسيم، وكانت عودة الدستور الشرعي انتصارًا مؤكدًا للوطنية المصرية ضد سلطات الاحتلال البريطاني التي أعلنت إصرارها على عدم إعادة الدستور، لكنَّ الثورة التي قام بها المصريون، التي دفعت زعماء الأحزاب إلى الوقوف جبهة واحدة، كانت عاملًا حاسمًا في عودة الدستور الشرعي.٦٨
وتجري حوارات: «رحمة الله على شهداء الآداب والزراعة ودار العلوم … لا بد من التضحية؛ فالدم هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز … لم يضِع الدم الطاهر عبثًا، ألم تسمعوا عن الدعوة إلى الاتحاد … وهذه «التيمس» تلمح إلى المفاوضة.»٦٩
يقول الرجل لحسين في القطار: لولا الطلبة ما ائتلف الزعماء، من كان يتصور أن يجلس صدقي مع النحاس على مائدة واحدة؟ يضيف الرجل: ومن كان يصدق أن يعترف الإنجليز بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن يتنازلوا عن التحفظات الأربعة؟ أتظن أن تلغي الامتيازات حقًّا؟٧٠

وفي تقديري أن ذروة دور الطلبة في الحركة الوطنية يمكن تحديده بذلك العام التاريخي — ١٩٣٥م — حين تألَّفت الجبهة الوطنية من زعماء القوى السياسية المختلفة، بضغطٍ من لجنة الطلبة، وإن كان ختام نشاط اللجنة عقد معاهدة ١٩٣٦م التي تُعَد إعلانًا مؤكدًا بتصفية ثورة ١٩١٩م. فقد عمل الإنجليز — بواسطة رجلهم علي ماهر — على استغلال اللحظات العاطفية التي أعقبت وفاة الملك فؤاد لتكوين جبهة قومية، وقَّع قادتها معاهدة ١٩٣٦م. وكان شباب ١٩٣٥م هم الذين مهدوا لثورة ١٩٥٢م — فيما بعد — وتولوا قيادتها: غالبية الضباط الأحرار، قيادات الحزب الوطني الجديد، معظم قيادات الحزب الاشتراكي، وكذلك معظم قيادات الطليعة الوفدية، وغيرها.

•••

كانت مناقشات أحمد بك عبد الغفار مع أصدقائه في القهوة تدور حول سياسة إيطاليا مع الحبشة، فأحداث القصة إذن تدور في أواسط الثلاثينيات.٧١
كانت الفاشية في إيطاليا قد تقوَّت تمامًا، وبدأ موسوليني يخطط لغزو الحبشة، وظهرت في الأفق نُذُر حرب عالمية جديدة.٧٢ وفي الثاني من أكتوبر ١٩٣٥م، خطب موسوليني في الجماهير الإيطالية، أعلن أن ساعة الحرب قد دنت، و«أن الساعة الرهيبة في تاريخ إيطاليا قد دنت، وأن عشرين مليونًا من الإيطاليين مجتمعون في تلك اللحظة في الميادين العامة في جميع أنحاء إيطاليا.» وأعطى موسوليني إشارة بدء الحرب ضد الحبشة، وقسَّم الجيش الإيطالي قواته إلى ثلاث كتائب: الأولى زحفت من الشمال، والثانية من الشمال الغربي، والثالثة من الجنوب الشرقي. واضطر الجيش الأثيوبي إلى التقهقر في مواجهة الحصار الإيطالي، والنيران الكثيفة للقوات الإيطالية، ولم يتركوا المدن والقرى إلا بعد أن كبَّدوا الإيطاليين خسائر فادحة، فضلًا عما عاناه الإيطاليون من وعورة الطريق، وندرة المياه، وحرارة الجو، وهطول الأمطار، إلى جانب عمليات العصابات، وقتل الجيش الإيطالي أعدادًا هائلة من العسكريين والمدنيين الأحباش، وقطع المواصلات بين العاصمة وبقية المدن، ودمر الكثير من المدن والقرى.٧٣
كانت حربًا غير مبررة سياسيًّا ولا عسكريًّا ولا أخلاقيًّا، ولم يعبأ الديكتاتور الفاشيستي بعصبة الأمم وميثاقها، ولا بالرأي العام العالمي. وأفلح الإيطاليون في اكتساح الحبشة؛ لأنهم — من ناحية — اشتروا الضمائر بالرِّشا، ولأنهم — من ناحية ثانية — استخدموا الغازات السامة برغم توقيعهم على معاهدة في ١٩٢٥م تنص على عدم استخدام الغازات في الحروب.٧٤

•••

وفي موازاة حرب الحبشة، كان للثورة الفلسطينية تأثيرها في نفسية المواطن المصري العادي — وإن كان يصعب إطلاق هذا الرأي — ذلك لأن النظرة إلى ما يدور في كلا البلدين كان مبعثها التعاطف مع شعوب مجاوِرة وصديقة. ولم يكن الانتماء العربي قد استقر — كواقعٍ وحقيقة — في نفوس المصريين. ولعلنا نجد تعبيرًا لذلك في ملاحقة عبده (الشوارع الخلفية) بائع الصحف، يسأله عن آخر أخبار الثورة في فلسطين، ويحلم دائمًا بأن يذهب إلى هناك ليحارب الإنجليز، ويرمي بهم في البحر من بر الشام كله، ويعرف منه أيضًا آخر ما حدث في حرب الحبشة.٧٥ ويتساءل عبده: «اللي عاوز يتطوع في الحبشة يعمل إيه؟ أنا اتطوعت في فلسطين … لكن بيقولوا إن الحكومة قطعت السكة … داهية لما تقطعهم من البر كله … لكن أهي السكة سالكة عالحبشة … وآهُم سايبين اللي عاوز يروح يروح.»٧٦
لقد قام العرب (٢٠ أبريل ١٩٢٠م) بمظاهرات سلمية ضد اليهود، أسفرت عن مقتل خمسة من اليهود وجرح ٢١١، وتدخلت القوات البريطانية فقتلت وأصابت ٢٥ عربيًّا. وكان في مقدمة أسباب الاضطرابات «خيبة أمل العرب لعدم تنفيذ الوعود باستقلالهم التي يدَّعون بأنها منحتهم أثناء الحرب.»٧٧ ومن مذكرة الوفد العربي الفلسطيني الأول إلى وزير المستعمرات البريطانية في ٢٤/ ١٠/ ١٩٢١م «إن أهالي فلسطين رحبوا بالجيش البريطاني الظافر بفلسطين لاعتقادهم بأنه جاء ليمنحهم الحرية لتعيين مصير بلادهم وفقًا للوعود والعهود.»٧٨
وللأسف، فلقد تصارع زعماء ثورة ١٩٢٥م — العربية — على الرئاسة، وتقاتلوا على الأموال التي تبرَّع بها الأثرياء، من مصر، ومن أبناء لبنان وفلسطين في المهجر؛ حوَّل بعضهم فوهات البنادق إلى صدور بعض، بدلًا من أن تُسدَّد إلى صدور الأعداء.٧٩
وفي ١٩٢٩م أشار شكيب أرسلان إلى أن تولية الأمير عبد الله إمارة شرقي الأردن هي ضد القضية الفلسطينية.٨٠ وفي ١٩٣٢م أعلن عن تشكيل حزب الاستقلال العربي بفلسطين، وفي مقدمة أهدافه استقلال البلاد العربية استقلالًا تامًّا، وأن البلاد العربية وحدة تامة لا تقبل التجزئة.٨١

كان الحاج أمين الحسيني هو القائد الفعلي لثورة ١٩٣٦م، وقد تشكلت اللجنة العربية العليا برئاسته في أبريل من العام نفسه.

وفي ١١ أكتوبر ١٩٣٦م أصدرت اللجنة العربية بيانًا يدعو إلى إنهاء الإضراب: «ولما كان الامتثال لإرادة أصحاب الجلالة والسمو وملوك العرب، والنزول على إرادتهم، من تقاليدنا العربية الموروثة. وكانت اللجنة العربية العليا تعتقد اعتقادًا جازمًا أن أصحاب الجلالة والسمو لم يأمروا أبناءهم إلا لما فيه مصلحتهم وحفظ حقوقهم؛ لذلك فاللجنة العربية العليا — امتثالًا لإرادة أصحاب الجلالة والسمو الملوك والأمراء، واعتقادًا منهم بعظم الفائدة التي تنجم عن توسطهم ومؤازرتهم — تدعو الشعب العربي الكريم إلى إنهاء الإضراب والاضطراب، إنفاذًا لهذه الأوامر السامية التي ليس لها من هدف إلا مصلحة العرب.»٨٢ وبلغ عدد الشهداء العرب في ثورة ١٩٣٦م حوالي الألف، فضلًا عن الجرحى والمفقودين المعتقلين.
وكانت هدى شعراوي — رئيسة الاتحاد النسائي المصري — قد تلقَّت برقية من السيدة أنيسة الخضراء رئيسة لجنة السيدات بعكا، تخاطب فيها أبناء مصر: «يا جيرة الأرض المقدسة، ألم تأتكم أنباء ما حلَّ بإخوانكم فيها؟ فاجعة كالطوفان توشك أن تحلَّ بجانبكم تستبدل معالم أمة، وتمحو من الوجود أقدس بقاع الإسلام. أتتركونا وحدنا، وفيكم لسان يتكلم وقلب ينبض؟ اسألوا حليفتكم: ما شأن الأربعمائة ألف مسلم والخمسمائة مسجد؟ اسألوها: ماذا سيحل بجامع الجزار ومدينة الجزار؟ أتتهوَّد الأرض المقدسة وفي مصر خمسة عشر مليونًا من المسلمين؟ اللهم أيقظ مصر من سباتها لترى هول الفاجعة وفداحة النازلة. اللهم إنك ربنا، وهذه المقدسات مقدساتك، فاحم اللهم دينك، وأنقذ بيتك، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.»٨٣
وقد عقد مؤتمر قومي في بلودان، في ٨ سبتمبر ١٩٣٧م للبحث في الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لدرء الخطر الصهيوني عن فلسطين. وخطب في جلسة الافتتاح محمد علي علوبة باشا، فقال: «أنا أقول كعربي من مصر إن الأمة العربية إذا وجب عليها الدفاع عن فلسطين، فأولى أقطارها بالدفاع هي مصر التي يجب أن تكون — حكومة وشعبًا — صفًّا واحدًا في حماية فلسطين. أما الأمر الذي لا يحتاج إلى بحثٍ فهو أننا متفقون على أن ما حلَّ بتلك البقعة من بلادنا يُعتبَر «غرغرينة» في جسد وطننا. ولا يقولن أحد إن الخطيب تكلم بإحساسه القومي العربي فقط؛ لأن الواقع هو أنني أتكلم كمصري أيضًا، وأقول إن وجود أمة يهودية في فلسطين يهدد كيان مصر الخاص كما يهدد كيان العرب أجمعين. وعلى الذين ينظرون إلى الأمام أن يفكروا أن أمة طامعة جديدة ستدخل في جوارهم، في جوار لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية ومصر. وهذه الأمة سيكون عددها لا مليونًا واحدًا من اليهود، بل سبعة عشر مليونًا بعددهم وأسلحتهم وأموالهم وسط هذه الأمة العربية الناشئة التي تعمل على تكوين نفسها لتكون أداة للسلم العام، وستكون هذه الدولة الصهيونية حائلًا بين العرب وبين تأدية رسالتهم الإنسانية. ولا يظن ظانٌّ أن اليهود سيقتصرون على البقعة التي يُراد إعطاؤهم إياها، كلا، بل إن استعمارهم الممقوت سينتقل — لا سمح الله — بقيوده الذهبية إلى شرقَي الأردن وسوريا ولبنان ومصر والعراق ليكبِّلها بسلاسل من الذهب.»٨٤
وفي ١٩٣٨م اشتدت ثورة الفلسطينيين إلى الحد الذي دفع عشرين نائبًا بريطانيًّا إلى تقديم اقتراح للحكومة بوقف الهجرة اليهودية وقفًا تامًّا، حتى تُحَل قضية فلسطين حلًّا ملائمًا.٨٥ وكتب وزير المستعمرات البريطاني مالكولم ماكدونالد في تقرير له، في العام نفسه، أنه «لا يكاد يوجد يهودي واحد في أمريكا الآن ليس له مصلحة شخصية في فلسطين.» وأذاع الوزير بيانًا عن تعيين لجنة فنية لدرس إمكانات التقسيم، وأكد أن الحكومة البريطانية لم ترتبط بمشروع معين. وردَّت اللجنة العربية العليا ببيان على وزير المستعمرات، كما أذاع قادة المجاهدين بيانًا مماثلًا. فلما وصلت اللجنة الفنية إلى فلسطين صيف ١٩٣٨م، لم يتقدم إليها أحد من العرب ببيانات. أما اليهود فتقدموا إلى اللجنة مطالبين بتوسيع القسم اليهودي الذي نصَّ عليه التقسيم، وأن يُضاف إليه صحراء النقب وسهول بيسان والأحياء اليهودية في القدس. وطالب المتطرفون منهم بدولة يهودية تشمل فلسطين كلها، وطالب آخرون بإدخال شرق الأردن في الدولة اليهودية. وقدمت حكومة شرق الأردن مشروعًا إلى اللجنة يشتمل على دولة موحَّدة تضم شرق الأردن وفلسطين، ويكون فيها لليهود استقلال ذاتي في المناطق اليهودية، وأُلحق بهجرة محددة. وقدمت اللجنة الفنية — بعد عودتها — تقريرًا إلى الحكومة البريطانية، اشتمل على دراسة موسَّعة، وأشار إلى الصعوبات العديدة التي تقوم في وجه أي مشروع من مشروعات التقسيم. وعلى أثر ذلك، أصدرت الحكومة البريطانية بيانًا أعلنت فيه عدولها عن مشروع التقسيم، وأنها ستبحث عن حلٍّ آخر يمكِّنها من الوفاء بالتزاماتها نحو كلٍّ من العرب واليهود.٨٦ كما دعا محمد علي علوبة باشا إلى عقد مؤتمر برلماني في القاهرة صيف ١٩٣٨م، شهده عدد كبير من الشيوخ والنواب من مصر وسوريا ولبنان والعراق، ووفود من فلسطين والمغرب ومسلمي الهند ومسلمي البوسنة. واتخذ المؤتمر قرارات بتأييد ميثاق الشعب الفلسطيني، واستنكار سياسة بريطانيا بتقسيم فلسطين. ثم سافر إلى لندن — بتوصية من المؤتمر — وفد برئاسة علوبة باشا للدفاع عن قضية فلسطين والدعاية لها.٨٧ وقد بلغت الخسائر البشرية العربية ما بين ١٩٣٦م و١٩٣٩م ما مجموعه ١٩٧٩٢ بين قتيل وجريح.٨٨

هوامش

(١) عصب الحرب، ٥.
(٢) القاهرة الجديدة، ١٨٧-١٨٨.
(٣) تاريخ العالم، ١٩٨-١٩٩.
(٤) المرجع السابق، ١١١–١١٣.
(٥) قصر الشوق، ٨.
(٦) حضرة المحترم، ٥١.
(٧) الأهرام، ٢١/ ١٢/ ١٩٣٧م.
(٨) أزهار، ١٦٢.
(٩) المصدر السابق، ١٦٣.
(١٠) نجيب محفوظ، العالم الآخر، شهر العسل، مكتبة مصر.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) إبراهيم عبد الحليم، أيام الطفولة، دار الفكر، ٤٧.
(١٣) المصدر السابق، ٤٧.
(١٤) أزهار، ٣١٠.
(١٥) راجع فصل: «مصر تبحث عن الهوية».
(١٦) الطليعة، ديسمبر ١٩٧٢م.
(١٧) عبد الحميد جودة السحار، الدرس الأول، همزات الشياطين، مكتبة مصر، ١٩٧٧م.
(١٨) نفوس مضطربة، ٩٢.
(١٩) نجيب الكيلاني، رأس الشيطان، ٧٠.
(٢٠) لويس عوض، الأهرام، ١١/ ٣/ ١٩٨٩م.
(٢١) ضياء الدين الريس، الدستور والاستقلال، ١٦١.
(٢٢) المرجع السابق، ١٦٢-١٦٣.
(٢٣) اتحاد الجامعة المصرية واتحاد كلية الحقوق: واجبنا بعد المعاهدة، دار النشر الحديث، ٣٧.
(٢٤) السكرية، ٥٠.
(٢٥) القاهرة الجديدة، ١٥.
(٢٦) السكرية، ٥٨.
(٢٧) المصدر السابق، ٧٨.
(٢٨) قصر الشوق، ١٧١.
(٢٩) القاهرة الجديدة، ١٨٩.
(٣٠) المصدر السابق، ١٤٨.
(٣١) عبد العال الحمامصي، هؤلاء يقولون في السياسة والأدب، ٦٤.
(٣٢) ضياء الدين الريس، الدستور والاستقلال، ١٦٧-١٦٨.
(٣٣) رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية: ١٩٤٠–١٩٥٠، ٧٣.
(٣٤) الأسرار السياسية، ٦٨.
(٣٥) المرجع السابق، ٦٧.
(٣٦) رجاء النقاش، عباس العقاد بين اليمين واليسار، ١٠٨.
(٣٧) محمد صبيح، آخر ساعة، ١٤/ ٣/ ١٩٧٣م.
(٣٨) أزهار، ١١٢.
(٣٩) الشوارع الخلفية، ٢٣٨.
(٤٠) السكرية، ٣٩-٤٠.
(٤١) الشوارع الخلفية، ٢٣٦.
(٤٢) السكرية، ٤٣–٤٦.
(٤٣) المصدر السابق، ١٤.
(٤٤) عبد الحميد جودة السحار، صديقي الوطني الباسل، همزات الشياطين، مكتبة مصر.
(٤٥) أزهار، ٤٣٥.
(٤٦) الحركة الوطنية المصرية، ٨٠.
(٤٧) بداية ونهاية، ٣.
(٤٨) رءوف عباس، الحركة العمالية في مصر، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٧م، ١٠٢.
(٤٩) الدستور والاستقلال، ٧٦–٨٠.
(٥٠) أزهار، ٤٣٢.
(٥١) المصدر السابق، ٤٣٦.
(٥٢) المصدر السابق، ٢٦٨.
(٥٣) الشوارع الخلفية، ٣٩١.
(٥٤) أزهار، ٤٤٤-٤٤٥.
(٥٥) السكرية، ٤٩-٥٠.
(٥٦) المصدر السابق، ٥٠.
(٥٧) حلمي سلام، أيامه الأخيرة، كتاب الهلال، ٢٢.
(٥٨) مرافعات الرئيس أحمد حسين في عهد حكومة الوفد، ٨٢.
(٥٩) أزهار، ٤٣١؛ ويتحدث العمدة في «كرم العنب» عن فؤاد بأنه جاء مفلسًا مديونًا، ثم صار يملك عشرات الآلاف من الأفدنة، ويتساءل: من أين جاءته هذه الأرض؟ (عبد الوهاب الأسواني، كرم العنب، هيئة الكتاب، ٢٠٠٨م، ٢٣١).
(٦٠) الشوارع الخلفية، ٥٤١.
(٦١) السكرية، ١٥٤.
(٦٢) يؤكد رفعت السعيد أن الحزب الشيوعي المصري لم يتحطم تمامًا في ١٩٢٤م، بل استمر الكثير من خلاياه في مختلف المدن المصرية (اليسار المصري ١٩٢٥–١٩٤٠، ٢٦٢).
(٦٣) نبيل راغب، شجرة العواصف، مكتبة مصر.
(٦٤) خيري شلبي، العراوي، هيئة الكتاب، ٥٣.
(٦٥) بداية ونهاية، ٣٤.
(٦٦) عبد الرحمن الشرقاوي، تاج الشوك، أرض المعركة، مطبعة الاعتماد.
(٦٧) ضياء الدين الريس، الدستور والاستقلال، ٨٧–٩١.
(٦٨) المرجع السابق، ١٧٢.
(٦٩) بداية ونهاية، ٣٥.
(٧٠) المصدر السابق، ٢٠٠.
(٧١) صلاح ذهني، الموسيقار، في الدرجة الثامنة.
(٧٢) الدستور والاستقلال، ١٧٨.
(٧٣) المجلة الجديدة، يوليو ١٩٣٦م.
(٧٤) عز الدين حمدي، طاسا، دموع، الطبعة الأولى، ١٩٣٩م.
(٧٥) الشوارع الخلفية، ١٨٢.
(٧٦) المصدر السابق، ١٨٤.
(٧٧) موسوعة القضية الفلسطينية، ١: ٣٥٠.
(٧٨) المرجع السابق، ١: ٤١٤.
(٧٩) حبيب زحلاوي، حصل أفندي، يقظة ضمير، الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، ١٩٦٠م.
(٨٠) شكيب أرسلان، ١٣٥-١٣٦.
(٨١) موسوعة القضية الفلسطينية، الهيئة العامة للاستعلامات، ٢: ٤٠٥.
(٨٢) غسان كنفاني، شئون فلسطينية، يناير ١٩٧٣م.
(٨٣) أكرم زعيتر، الصرخة الفلسطينية وأصداؤها في مصر، العربي، أغسطس ١٩٨١م.
(٨٤) المرجع السابق.
(٨٥) مذكرات الحاج أمين الحسيني، آخر ساعة، ١١/ ٤/ ١٩٧٣م.
(٨٦) المرجع السابق.
(٨٧) المرجع السابق.
(٨٨) شئون فلسطينية، يناير ١٩٧٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥