زقاق السيد البلطي
حاول صالح مرسي في روايته «زقاق السيد البلطي» أن يعكس تأثير تلك السنوات التي عانى
المجتمع المصري من قسوتها، واختار لذلك بيئة الصيادين التي تُعَد النبع الذي استمد منه
— ومن حياة البحر بعامة — معظم إبداعه، نتيجة للسنوات التي أمضاها في وظيفته كمساعد ضابط
بالقوات البحرية، وأحدثت أثرًا عميقًا في مزاجه النفسي والفني. وإذا كان البحر هو أشد
أدباء العالم التصاقًا بالبحر، وحبًّا له، فإن صالح مرسي هو أشد الأدباء العرب التصاقًا
بالبحر، لقد جعل من البحر محورًا لمعظم إبداعاته القصصية والروائية منذ مجموعته
«الخوف».
١
«زقاق السيد البلطي» — وكانت في الأصل قصة قصيرة — تحفل بأدق التفصيلات عن حياة البحر
والصيادين، ربما لإحساس الفنان بأنه يقدم لنا ثمارًا لم نتذوقها من قبل. فالحقيقة
المؤسفة أن بلادنا التي يحيط الساحل بجزءٍ كبيرٍ من حدودها، لم تكن قدمت فيها إبداعات
تُعنى بالحياة في البحر. ثمة عشرات التشبيهات والمصطلحات والاستعارات البحرية التي ربما
تكون في غير حاجة إليها، لكن صالح مرسي يقصد أن يقدمها لنا، إضافة أخرى إلى جانب السرد
الروائي. وقد دفعه هذا الحرص على أن يؤكد بعض الأحداث التي أصبحت تشكِّل بُعدًا ثابتًا
في
حياة أبناء الساحل، يعطونها — ربما — ما تستحق من اهتمام وحزن، لكن أيامهم التالية
تطويها، مثل النَّوات والعواصف التي تفاجئ الصياد في قلب البحر، لتعود سفينته ولا يعود
هو.
وعلى الرغم من أن الفنان يحدد الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية، بل هو
يحدد اليوم الذي تبدأ فيه هذه الأحداث — يوم قارس من أيام ديسمبر ١٩٣١م — فمن السهل نسبة
الأحداث إلى فترة زمنية أخرى، ولعله من الصعب أن تنتسب إلى تلك الفترة تحديدًا؛ لأنها
ترتبط بأخطر المشكلات السياسية في تاريخ بلادنا الحديث، متمثلة في الأزمة الاقتصادية
الخانقة التي وجدت بدايتها في موسم القطن عام ١٩٣٠م، واستمرت إلى أواخر ١٩٣٤م، فضلًا
عن
إلغاء حكومة صدقي للدستور، ومصادرة الحريات، وإجراء انتخابات زائفة … إلخ، كل تلك
التطورات السياسية والاقتصادية العنيفة لا تعكس أثرًا على زقاق السيد البلطي، كأن
أبناءه يحيون في عزلة عما يجري حولهم من أحداث وتطورات. حتى المشكلات التي تواجههم، لا
صلة بينها وبين تلك التطورات والأحداث، إنما هي مشكلات دائمة، بالإمكان حدوثها قبل ذلك
اليوم القارس من أيام ديسمبر ١٩٣١م، وبالإمكان حدوثها بعده. بل إن الرواية لا تعكس
المناخ الاجتماعي لتلك الفترة، ومن ثَم فإن أرضيتها الزمنية لا تبدو ذات تأثير مباشر
على
أحداثها.
الرواية محور لأكثر من مشكلة واجهها صيادو الأنفوشي، لكن المشكلة الحقيقية هي قلة
الرزق، وانعدامه أحيانًا، وارتباطه بأحوال البحر وعواصفه وأنوائه، نتيجة لبدائية أساليب
الصيد، فضلًا عن احتكارات تجار السمك، والقوانين الجائرة التي أشار الفنان إلى أقلها،
لكنه لم يقف عند أكثرها، فهو لم يتحدث — مثلًا — عن خلو حياة الصيادين من الاطمئنان إلى
الغد، وسطوة المعلمين، ومناطق حظر الصيد، وغيرها. لكن الرواية تتحدث عن هؤلاء الرجال
«من يملك قرشًا يضعه بين أسنانه، ويخفيه في حرص، ويخفيه عن الناس، ومن يملك الفقر لا
يسأل، ولا يبحث، بل يستسلم لحياته في دعة.»
٢ وكان كل ما يطلبه الرجال من الحاضر والمستقبل أشياء ثلاثة: قارب وشبكة
جديدة وزوجة تشاركه حياته. يقول حنفي لزوبة: عارفة يا زوبة أنا نفسي في تلات حاجات،
«زمَّت شفتيها إلى شفتيه، وطبعت عليهما قبلة، وأحسَّت أنها تزداد عطشًا: نفسي في قارب،
ونفسي في شبكة جديدة. والحاجة التالتة؟ ونخسها بإصبعه في جنبها، فقفزت ضاحكة، وامتدت
كفه إلى فمها تحجب الضحكة المرحة عن أسماع النائمين، واستسلمت لكفِّه، ومالت معه حتى
لامست رأسها صدره، وأغمضت عينيها.»
٣ وبدأت المشكلة تواجه الرجال عندما قال أحدهم بنبرة يائسة: سمعتم اللي حصل إمبارح في
قهوة سلامة؟
– لا … حصل إيه؟
– واحد من رجالة عبد الموجود حمدان … قال إنه خلاص اتفق على مركب الصيد
الجديدة.
– بيقولوا يا جدع إنها مركب توسق ميت طن سمك.
– حقَّه لو جت المركب دي يا جدعان … قول يا رحمن يا رحيم على الصيادين.
٤
ومضت الأيام، تحمل مزيدًا من الأنباء عن المراكب الجديدة: «ماذا يحدث للرجال لو تحقق
ما يقولونه عن عبد الموجود حمدان وسفينته التي توسق مائة طن من السمك وشِباكه الحديدية،
وشركته الجديدة التي دخل فيها مع الإنجليز؟ كيف ينافسون — بقواربهم الهزيلة — سفينة
كالتي يتحدث الرجال عنها على الرصيف، وفي المقهى، ما الذي يخبِّئه لهم المستقبل من
أحداث؟»
٥
هذه هي الحقيقة إذن؛ المستقبل يفغر فاه للرجال وحشًا أسطوريًّا، ضاريًا، مخيفًا،
لا
سبيل إلى درء خطره أو مقاومته، وأعياهم البحث عن حلٍّ. ذهب الرجال إلى عبد الموجود
حمدان، يستوضحونه الحكاية منذ اعتدل عبد الموجود، وقد أدرك بذكائه الشَّرك الذي نصب له،
«وكان عليوة قد وضع كوب الشاي أمامه، فامتدت يده إليه، وأخذ يرشف منه على مهلٍ، ثم قال
في
صوتٍ ثابت: الحدوتة مش عايزة كلام، جاني راجل إنجليزي اسمه «هوب»، وقال لي الحكاية وما
فيها عاوزينك تشترك معانا في مركب صيد … مركب واحد يا معلمي، مش أسطول. الراجل قال يا
عبد الموجود أنت النص، واحنا النص، والمكسب بالنص … كلام زين؟! وقال المعلم محمد في صبر
وهو يهز رأسه: زين! قال عبد الموجود: هو قال لي كده، قلت له يلزمكم كام؟ قال خمس ألوف،
قلت ماشي … اللي ورايا واللي قدامي وحياة مقام المرسي، دفعتهم واتوكلت على الله … فيها
إيه دي؟»
٦ وعندما واجه الرجال تهديدات الشركة الإنجليزية التي شارك فيها خصمهم العنيد
عبد الموجود حمدان، وقعوا في هاوية اليأس: «العمل إيه يا رجالة؟» … «العمل؟ العمل عمل
الله يا معلمي» … «ما هو لازم … لازم تشوفوا حل يا رجالة»! وبدأ حنفي يفكر «حالهم ينحدر
من سيئ إلى أسوأ، ورجل منهم يضع كفه في كف الغريب ليقتلهم، لا بد من حل! لا بد من مَخرج
…
ولكن أين؟ هل يذهب إلى الصخرة ويصرخ مناديًا أباه؟!»
٧
«همست زوجة أحد الصيادين في أذن جارتها: سمعتي يا اختي اللي بيقولوه؟ ظهر الاهتمام
الشديد في عيني الجارة وهي تزيح طفلها الحابي عن حجرها، وقالت في شوق: خير يا أم علي،
حصل إيه؟ مالت أم علي حتى كادت شفتاها تلاصقان أذن صاحبتها وهي تهمس: آل يا اختي شافوا
حنفي البلطي وهو طالع من الميه بعد نص الليل ومعاه جِنيَّة! خبطت الجارة صدرها بكفها،
وبرقت عيناها وهي تقول في جزع: يا لهوي، حنفي مخاوي؟! والنبي يا أم علي أنا خايفة، ما
هو أبوه عمل كدة، وكانت آخرته معاها تحت الميه! ولثلاثة أسابيع بطولها لم يكن لرجال
الشاطئ أو نسائه من حديث سوى حكاية حنفي. كان الحديث عن السفينة قد بدأ يفتر، وكلما مرَّ
يوم أحس الرجال أن أعناقهم محاطة بأطواقٍ من حديد تجذبهم نحو هاوية لا قرار لها، واستولى
اليأس على أغلبهم، واسودَّت الدنيا في وجوههم، فرغم مناقشاتهم العديدة في المقاهي
والبيوت، وحتى في الغُرز، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يجدوا حلًّا للمشكلة.»
٨«… وصل الخبر إلى كل أذن، وازداد الهمس بين الرجال وهم يكتمون الأمر عن
أفراد البلطي، وراحت مخيلاتهم تنسج وتبني وتشيد، حتى استقر اليقين في أذهان الجميع أن
حنفي لا بد سيصنع شيئًا، لا بد أن يحرِّض زوجته وأولاده الساكنين في قاع البحر على إغراق
السفينة قبل وصولها، أو يطلب منهم أن يثيروا عاصفة هوجاء تودي بالسفينة ومن فيها، وساعة
بعد ساعة، ويومًا وراء يوم، أخذ الحديث يتشعب وتولَد له أطراف جديدة، ومن رجل إلى رجل
كانت الحادثة تزداد غموضًا، وتضاف إليها أحداث.»
٩ ومضت الأيام، والمشكلة بلا حل، واضطر الرجال إلى هجر الغيبيات، واستجداء
المجهول، وبدءوا في التكيف مع الواقع الذي فرض نفسه عليهم، وشغلهم البحث عن حل. وربما
كان انتصار الصيادين في قصة صالح مرسي «البحيرة السوداء» تأكيدًا لمعنى الانتصار على
الخرافة، وعلى سطوة القوى الشريرة، المعلَنة، والخفيَّة. كان الصيادون يخشون تلك الجِنيَّة
السوداء التي أتت مع عاصفة مشئومة، وسكنت في البحيرة، لتفترس كلَّ من يحاول الاقتراب
منها، وتحرم الصيادين من خيراتها. ويعلو صوت «واكر» قويًّا ثابتًا يقول للرجال: «نسيب
الشط لمين، واحنا تولدنا عليه، وعشنا فيه؟ جِنيَّة إيه يا رجالة … مفيش جِنيَّة … لازم
فيه
حاجة … حاجة» ويتقدم واكر وحده بقاربه الصغير ليصارع الجِنيَّة، فتلتهمه. لكن بعد أن
يتضح
للجميع أن الجِنيَّة ليست سوى حوت هائل انحبس في البحيرة، ويلجأ الصيادون إلى الحكومة
لتعاونهم في اصطياد ذلك الحوت الهائل، وفي قتل الخرافة في الوقت نفسه.
١٠
•••
انتصر الرجال، أو وجدوا الحل، في زقاق السيد البلطي، لما أعلن حمودة: «حاننزل مشوار
مصر … ونجس النبض هناك … ندوَّر وربك يعدلها.» ويقول حنفي: «عبد الموجود فاهم كويس إن
المركب حا تغرق السوق من أول البر لآخره، وعارف كمان، وكلنا نعرفوا كده، إننا حانضيع
قدامه، ومش حا نقدروا على حاجة … قلنا في عقل بالنا، كل من له قارب يصطاد بيه اللي يقدر
عليه، ونلموا الرزق كله، ونبعته على مصر في السكة الحديد، كل يوم بيومه. خالي يبيع
هناك، وكل واحد برزقه، وهو كمان يسترزق، وبالشكل ده نقدروا نعيشوا من غير حد ما يتحكم
فينا.»
١١
وقد أهمل صالح مرسي بتلك النهاية التي وضعها للرواية حقيقة التناقضات الطبقية، التي
كانت تشكِّل واقعًا أساسيًّا في تلك الفترة، واختار «التعاون» حلًّا لمواجهة الإقطاع
السمكي الذي تحالف في تجسيده أسطول الشركة الإنجليزية، وأموال ورجال عبد الموجود حمدان.
وكان ذلك الحل — في واقعه — فرارًا من المواجهة، بحيث إن أسطول المراكب الكبيرة أصبح
قوة
لها خطرها في وسط بيئة الصيادين، وفي حياتهم، بينما لجأ بعض الصيادين إلى التخلي عن
مهنتهم — بحجة المرض — لبيع الكميات القليلة التي يصطادونها، بالقياس إلى الكميات الهائلة
التي يصيدها أسطول المراكب الكبيرة. وربما فات الفنان — الذي كتب روايته في الستينيات
—
أن صبغ حركات الطبقات الشعبية، في تلك الفترة بالصبغة التعاونية، كان هدفًا من أهداف
الاستعمار لإبعادها عن المضمون الحقيقي لها، وهو التناقض الطبقي.
وعمومًا، فإن «زقاق السيد البلطي» معالجة متفوقة لحياة أبناء الساحل — والصيادين بالذات
—
بعكس بعض الأعمال الأدبية التي تشحب فيها البيئة الساحلية، مثل «الشارع الجديد» التي
يمكن
لأحداثها أن تدور في أحد أحياء القاهرة الوطنية، و«الخيط الأبيض» التي يسهل انتسابها
إلى
بيئة أخرى غير بيئة الساحل. وهذه الملاحظة تضعنا بالضرورة أمام الحقيقة المؤكدة، وهي
أن
بيئة البحر — وبيئة الساحل عمومًا — غائبة أو تكاد في أعمالنا الأدبية، على الرغم من
أنها
تمثِّل بُعدًا مهمًّا في المجتمع المصري. ولعل هذا هو مبعث إحساس الفنان في «زقاق السيد
البلطي» بالتفرد، ومحاولته المخلصة لأن يمسك بكل خيوط البيئة الساحلية التي لم تمتد
إليها أيدي الأدباء من قبل.
•••
إن جوانب الصورة البانورامية التي يضمُّها الإطار الروائي، تحفل بالحقيقي الذي استلهمته
المعايشة الدءوب، الصادقة، وتحفل أيضًا بالألوان التي تعطي تأثيرًا مغايرًا لما تعطيه
اللوحة/الرواية، ككل، نتيجة لالتقاط بعض الظواهر الهامشية التي لا تشكِّل بُعدًا ما في
حياة الصيادين.
وعلى سبيل المثال، فإن بيئة الصيادين — كما يصوِّرها الفنان — مثل كل البيئات الفقيرة
في المجتمع المصري، أميل إلى المحافظة والتشدد والحرص على العلاقات الأسرية؛ فالأخ
— مثلًا — لا يتزوج قبل الأخت مهما تتقدم بها السن، كذلك فعل حنفي.
وإذا كان ارتباط الفلاح بأرضه قضية أساسية في عشرات الأعمال الأدبية، فلا شك أن
ارتباط الصياد بالبحر، بالمراكب والأسماك والمد والجزر والنَّوات … ارتباط الصياد بذلك
كله، يفوق ارتباط الفلاح بالأرض لأسبابٍ عديدة، في مقدمتها أن الفلاح يلجأ إلى المدينة
بحثًا عن العمل، أما الصياد فإنه يحس ذلًّا وهوانًا لو أنه ترك مهنة الصيد إلى مهنة أخرى
«ليس الأمر أمر هجرة، إنه فراق أهل وأصحاب، وزقاق عاش فيه منذ طفولته … وراءه بطون تريد
أن تمتلئ، ولا يعرف في الدنيا غير صناعة الصيد وطرح الشِّباك واختيار المكان المليء
بالرزق، دماؤه التي تجري في عروقه مالحة كمياه البحر، صدره العليل يأنس لهواء الشاطئ
ويحبه، ولو كانت فيه نهايته.»
١٢
لكن مجتمع الصيادين يتميز بأنه مجتمع مفتوح، لا يرفض أحدًا ما دام قد أثبت النية
الطيبة، وتُعَد علاقة السيد أفندي بعائلة البلطي تجسيدًا لذلك. كان السيد أفندي يحب
عائشة، وعلى الرغم من استجابتها لغزله، فإنه لم يكن على ثقة من جدوى ذلك الحب. ربما
أسرعت بالاستجابة دون أن تنظر إلى أصله وفصله، بل إنه كان يشك في حب أبناء البلطي
أنفسهم، رغم المودة التي كانوا يعاملونه بها. حتى جاءت اللحظة التي أحس فيها السيد
أفندي أنه — بالفعل — واحد من عائلة البلطي، ومن مجتمع الصيادين إطلاقًا، حين ألقي القبض
على حنفي ومحمود، وأودعا السجن. ونهض من مكانه في المقهى للقيام بالواجب، وأصبح
— بالفعل — من خلال المحنة، واحدًا من هؤلاء الرجال الذين بدءوا في التعامل معه باعتباره
واحدًا منهم.
١٣
وللساحل أمراضه أيضًا التي لا براء منها إلا بمغادرته إلى القاهرة، مثل الربو (قد
يصاب أحد مواطني القاهرة بالربو، لكنه يُعالجَ فيُشفى، أما مريض الساحل فلا علاج له قبل
أن
يغادر الساحل تمامًا)؛ ذلك لأن هواء الإسكندرية مشبَّع بالرطوبة، بينما هواء القاهرة
جاف،
ومن ثَم فإن السيد أفندي ينصح بأن يرحل حمودة المصاب بالربو إلى القاهرة، قبل أن يتمكَّن
الداء منه تمامًا:
«جالكم كلامي يا سي حنفي؟
– خير يا سيد أفندي؟
– بلا سيد أفندي بلا زفت … افهم يا بني آدم … الراجل عيان … عنده ربو، والحالة متقدمة.»
ويضيف سيد أفندي: «لازم يروح مكان جاف زي ما قلت لكم قبل كده، عارف يعني إيه جاف؟ يعني
مصر، حلوان … في أي داهيه بس ما يقعدش هنا جنب الميه.»
١٤
وإذا تجمَّعت طيور النورس البيضاء في سماء الساحل، فتلك علامة هبوب الرياح، ما أن
يتكاثر عددها، ويملأ صراخها الفضاء، حتى يعرف أهل الشاطئ أن عاصفة قوية ستأتي «النورس
هاجم قوي … والنَّوة نازلة يا حنفي … حا تقعد لها بالقليلة أسبوع.»
١٥
والإيمان بالخرافات والأساطير بُعد هام في حياة الصيادين، وكما اختطفت الجِنيَّة
في
«قلعة الأبطال»، وهبطت به تحت الأرض لتتزوجه، كذلك اختطفت ابنة أحد ملوك الجان السيد
البلطي من سفينته، وهبطت به إلى قصرها الذي لا يزال قائمًا تحت صخرة رأس
التين.
١٦ وكان السيد البلطي متزوجًا بالفعل من تلك الجِنيَّة، وأنجبا اثنَي عشر ولدًا،
ليس فيهم أنثى واحدة. وكان ذلك سرًّا يعرفه الجميع! ويتوارثه الجميع، دون أن يصل الأمر
بأحدٍ لأن يعلن ذلك صراحة، حتى لا يحدث له ما حدث للسيد «وكانت بداية النهاية عندما
اختلف السيد مع زوجته الجِنيَّة، واشتد الخلاف بينهما فتخاصما، وقرر السيد إغاظتها فتزوج
أم حنفي.»
١٧ ثم لم يعُد السيد البلطي نفسه بشرًا، حوَّلته أحاديث الرجال إلى شخصية
أسطورية: رأس كرأس الحوت، وكف تهابها الرجال، وقامة مارد، وعينا نسر لا تخطئان، وبطل
يخاوي جنيات البحر.
١٨
حتى التشبيهات والاستعارات والدعابات والنكات تصدر عن البيئة. محمود — مثلًا — يعبِّر
عن حبه لكيداهم بقوله: «وحياة من ملا البحر بالرزق بنحبك.» وفي داخل البوظة يصيح رجل
من
فرط النشوة: «آني نِفسي نتجوز» فيسأله آخر: «تتجوز مين يا ابن القديمة؟» فيقول ثالث
وهو يتمايل مترنحًا: «أمك يا ابن أم جلنبو!»
١٩
وكان السؤال الذي تقضي عائشة أيامها في مضغه: متى تتزوج أو تموت؟ وهل سيأتي ذلك
اليوم الذي يطلبها فيه رجل؟
٢٠ قالت لها أمها مئات المرات إنها تزوجت وهي في الرابعة عشرة، وإن فتاة
واحدة من عائلة البلطي لم تعشش في بيت والدها أكثر من خمسة عشر عامًا، وها هي ذي قد
بلغت العشرين، فهل آن الأوان؟
٢١ وظني أن هذا السؤال ليس ملحًّا — بهذه الكيفية — في مجتمع الصيادين؛ ثمة عشرات
الفتيات اللائي لا تشغلهن على الإطلاق قضية تأخر الزواج؛ لأن البيئة تختلف — في مظاهر
عديدة — عن بيئة الفلاحين.
وعلى الرغم مما قد يوجَّه إلى «زقاق السيد البلطي» من ملاحظات، فإنها تظل بانوراما
تنبض
بكثيرٍ من الصدق لطبيعة الحياة في مجتمع الساحل، ومجتمع الصيادين بوجه خاص: معتقدات
وتقاليد وعادات ومشكلات دائمة وطارئة، تصدر عن ذاتها الخالصة، ومن الصعب أن تنتسب إلى
بيئة أخرى.
وكما أشرنا فإن أحداث «الشارع الجديد» و«الخيط الأبيض» تدور في الإسكندرية، لكننا
لا
نشم رائحة الساحل على الإطلاق. إن عالم السحار في «الشارع الجديد» يتحدد في منطقة كفر
عشري وعنابر السكك الحديدية. أما بقية ملامح الإسكندرية — الساحل — فغائبة تمامًا، بحيث
يسهل تبين أن الفنان قد تصور المكان ولم يعِشه، أما الشوباشي في «الخيط الأبيض»، فلم
يجاوز
ضاحية الرمل.
٢٢
هوامش