الأرض … ريف الثلاثينيات

لعل القيمة الأهم لرواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي أنها خرجت عن الموضوعات التاريخية القديمة، وارتبطت بهموم الطبقات الأدنى، فصورت صراع الفلاحين ضد طبقة كبار الملاك والإقطاعيين في بداية الثلاثينيات.١ ويجد يوسف الشاروني أن طبيعة الصراع في قرية الأرض أعمق وأشمل من طبيعة الصراع في قرية محمد زكي عبد القادر «أبو مندور». وهو ما ظهرت تأثيراته في نهاية كلٍّ من الروايتين، ﻓ «أبو مندور» انتهت بما يقرب من المصالحة بين الطرفين، يعتذر رفعت بك لصبحة بالقول: «مش حانساك يا صبحة أبدًا، أنت عملتيلي كتير.»٢ وبعد وفاتها، حرص رفعت بك أن يسير في جنازتها. أما «الأرض» فقد انتهت الرواية دون أن ينتهي الصراع، لأنه — والتعبير للشاروني — «كان صراعًا أشمل، انعكس في تعدد جوانب التعبير عنه.»٣

«الأرض» تتحدث عن تأثيرات أزمة ١٩٣٠م السياسية والاقتصادية في القرية المصرية، حتى استطاعت إرادة الجماهير إسقاط حكومة صدقي المستبدة، وإدانة دستور ١٩٢٣م. لقد تهدد الأرض خطران: الأول تقسيط مياه الري، وهو ما يعني جفاف الأرض، فموتها. والخطر الثاني شق السكة الزراعية، وهو ما يعني القضاء على الكثير من الزراعات؛ وذلك الخطر يذكِّرنا بالمصرف في رواية نجيب الكيلاني «رأس الشيطان». أنشأته الحكومة في عهد صدقي أيضًا، يشق الأرض الزراعية، وإلى جواره طريق زراعي تسير فوقه العربات، ويصل القرية بعاصمة الإقليم، لكن عثمان باشا — سيد القرية — استطاع بنفوذه أن يتفادى أملاكه وعزبته وحدائقه ومزارعه الواسعة، ظلَّت جميعها سليمة، واستولت الحكومة — لإنشاء المصرف والطريق — على أراضي صغار الفلاحين، لقاء تعويض تافه، أو ثمن أسمى، وتقدم المتضررون من المشروع بعرائض والتماسات، لإعادة النظر في تنفيذ المشروع.

يقول الراوي (الأرض): «كنت أعرف في المدرسة المحمدية كثيرًا من التلاميذ يقبلون بأحذية ممزَّقة، وكنت أرى زملائي يدارون جواربهم المثقوبة في أحذيتهم، وكان بعضهم يسير بحذرٍ حتى لا تبدو آثار الثقوب في البنطلونات. وكان أبي أول كل عام يصلح لي بدلة أحد إخوتي الكبار، ولم يعُد أحد من التلاميذ يعرف البدل الجديدة في أوائل الدراسة، أو في الأعياد، إلا القليل.»٤ كان الفلاح — حتى أواسط الثلاثينيات — يدفع الضرائب التي كان يدفعها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بمقتضى الأمر العالي الذي وضع فئات الضرائب على أساس ٢٨٫٦٤٪ من قيمة الإيجار المقدَّرة بمعرفة لجان شُكِّلت في عامَي ١٨٩٥م، ١٨٩٦م.٥ وكان ما يدفعه الفلاحون كل عام من أموال أميرية ٥١٨٢٠٦٠ جنيهًا، ورسوم خفر ١٣١٧٩٧٩ جنيهًا، و٦٤٨٨٨٥ جنيهًا رسوم مجالس المديريات، بالإضافة إلى ضريبة على القطن.٦ وقد لاحظ الرجل (الليل والرجل) أن حياة الفلاحين لم تتبدَّل بمرور الأعوام، حتى في السنوات التي يبيعون فيها المحاصيل بأسعارٍ مرتفعة، يظلون كما هم، يعيشون في دور قذرة مع البهائم، ولا يأكلون الطعام الجيد، ولا يشربون الماء النقي. وأدرك أن ما ينقصهم هو صحة «الإدراك للأمور، لأنهم جهلاء، وعندما يتعلمون وتنمحي منهم الأمية، سيدخل النور عقولهم، وسيرتفع مستواهم وإدراكهم للحياة.»٧
كان الفلاح يواجه مشكلاته، في البداية: السخرة والضرائب والتجنيد لغير الدفاع عن وطنه، بالفرار من أرضه بكل ما يعنيه ذلك من ضياعٍ وغربة واحتماء ببعض الإقطاعيين الذين ربما كانت حمايتهم شرَّ من العبودية، ثم تفتقت الأذهان عن سلاح جديد، سلاح أكثر إيجابية وجماعية، وهو تقديم العرائض التي تناقش المشكلة، وتشير بالحل. كانت العرائض، ورفْعها إلى المسئولين، هي الوسيلة المتاحة أمام الفلاح المصري، ربما حتى الآن. وفي قصة «وجه الحياة» لمحمد صدقي (كُتبَت في يناير ١٩٥٢م، ونُشرَت في ١٩٥٧م) كان تحرُّك خميس الإيجابي لصالح أبناء قريته يتمثل في دعوة كل من يشكو، أو يتظلم، أو يتألم؛ لأن يأتي إليه في المندرة، فيكتب له عريضة إلى النيابة أو المأمور أو رئيس الوزراء قائلًا في عصبية: «إيه ده؟ مالكو كده … ما تعملوا حاجة … ما تتحركوا بقه … يا باي … خايفين من إيه؟ هو فيه ألعن من كده؟!٨ لكن حدة المظالم فرضت — في بعض الأحيان — ثورات فردية وجماعية، تجاوز الفرار، وتقديم العرائض، وتحاول أن تفرض كلمتها بالعنف، بدءًا بأول ثورة على الإقطاع في مصر الفرعونية، وانتهاءً بأحداث كفور نجم وبهوت وكمشيش في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين. إن تكاتف الفلاحين لإخراج جاموسة مسعود أبو قاسم من بئر الساقية،٩ مؤشر لما يمكن لتكاتف الفلاحين أن يصنعه في مواجهة كل المشكلات التي تترصدهم. وإذا كان الباشا يملك السلطة، فإنهم — في المقابل — يملكون المقاومة.

وإذا كانت الأرض تمثِّل قيمة جوهرية في حياة الفلاح، فإن الماء والحيوان يمثلان قيمة تالية، إلى حد الدخول في مواجهات دامية بسبب ري الأرض.

والدستور — في تقدير رجاء النقاش — هو أعز أحداث ثورة ١٩١٩م، لأنه أساس الاستقلال والحرية.١٠ وكان الدستور هو الشعار الأول لغالبية المصريين بما يعنيه من إقامة حياة ديمقراطية سليمة. وقد وجد محمد عصفور في إهدار الدستور حق الملكية إذا اقتضت المنفعة العامة بذلك، ونزع ملكية الأفراد جبرًا عنهم مع تعويضهم، تصور الدستور لإمكان قيام نظام اشتراكي، إذا أتت في الحكم وزارة اشتراكية تكون سياستها تملُّك الدولة جميع وسائل الإنتاج عن طريق نزع ملكيتها جبرًا عن أصحابها مع تعويضهم.١١ لكن هذا النص الدستوري قد نُفِّذ — في الحالات التي طُبِّق فيها — بصورة مغايرة لتلك التي كان يتصورها الدستور. الأدق: يتصورها محمد عصفور. ﻓ «الأرض» التي استُلبَت من مالكيها كانت لشق سكة زراعية إلى سراي الباشا. وكما يقول رفعت السعيد، فإن البرجوازي الصغير، الفلاح وما يدنو منه من الفلاحين المتوسطين، نمط خاص وفريد، يتعلق بأرضه تعلقًا شديدًا، ويعتبرها المقياس الأساسي لوجوده وهيبته واحترامه. أرضه هي الحقيقة الكبرى، حتى حسان بك الوفدي الكبير، وأحد أعضاء الهيئة الوفدية، طالبه صدقي في أثناء رئاسته للوزارة، بالانفصال عن الوفد، فلما رفض، حرمه معونة بنك التسليف في عز الأزمة، فبيعت الأرض، وضاعت الثروة.١٢ أما الانتخابات، فإن أصدق ما ينطبق عليها قول الحكيم: «إن جمع الأصوات وجمع الدودة تسميتان لعملية واحدة في مصر.» وكانت نظرة أهالي الأرض إلى حزب الشعب، وأن حكومته جاءت بأصوات الموتى والتزوير، هي نظرة كل القرى والمدن المصرية. حتى ماسح الأحذية في عاصمة الإقليم، راح يدعو على حزب الشعب بالخراب المستعجل قبل أن يخرب الدنيا!١٣ وكانت المظاهرات التي شملت القاهرة والمنصورة وطنطا وبني سويف، ورحلات مصطفى النحاس التي تحدى بها حكومة صدقي، وتلقَّى النائب الوفدي سينوت حنا طعنة سونكي كانت موجهة إلى جسد النحاس، واقتحام ويصا واصف دار البرلمان تحديًا للدستور الجديد (حتى لا يقدم ويصا واصف على فتح البرلمان بعد أن أغلقته سلطة الملك والإنجليز؛ احتجزه الجنود في بيته على حافة النيل، وفرَّ ويصا واصف في قارب صيد صغير إلى الشاطئ الآخر، وانخرط في جنازة صادفته، وهو يتظاهر بالبكاء حتى وصل مبنى البرلمان في موعد بداية الجلسة، وأمر بكسر السلاسل، وفتح حرس البرلمان المغلق بالفعل، وعُقدَت الجلسة رغم محاولة المنع).١٤ والصحف التي أغلقها صدقي لتصدر في اليوم التالي بأسماء جديدة، وأسماء: طه حسين والديمقراطية وحرية الفكر … كان ذلك كله وغيره، زادًا لأبناء القرية في رحلة الصمود والمعاناة.
ويلخص محمد أبو سويلم (الأرض) المأساة التي فرضت ظلها الثقيل على أهالي القرية: «خدوا منَّا مشيخة الخفر وسكتنا لهم، ورموا لنا الشيخ حسونة في آخر الدنيا وسكتنا لهم، وحجزوا على نص البلد وسكتنا لهم، الله! ويموتوا لنا الأرض من العطش كمان؟ هو احنا خلاص بقينا هفية؟! هي البلد خلاص كده بقت كلها حريم! مفيش رجالة؟!١٥ لقد فُصِل محمد أبو سويلم من وظيفته، ونُقِل الشيخ حسونة ناظر المدرسة الإلزامية إلى وظيفة مدرس في قرية بعيدة، وعلت نبرة التهديد في صوت العمدة، والتفت محمود بك إلى كل من بادر — أو يبادره — بالعداء، سواء من القرية، أو من القرى المجاورة. يطوف رجال الهندسة على الحقول، يفتشون عن السواقي المعلقة. فإذا وجد الساقية تدور في غير الوقت المخصص لدورانها، قام المهندس، أو مساعده، بتعطيلها، ليعود العامل بعد قليل، ويدير الساقية مقابل عشرين قرشًا.١٦ لكن أهالي القرية — في تلك الأيام السوداء — كانوا لا يملكون ريالات، ولا أي نقود! وقد رضخ البعض لأوامر رجال الهندسة قصرًا للشر، وتظاهر البعض الآخر بالرضوخ، ورفض عبد الهادي في إصرار، ثم أدار الجميع سواقيهم — بلا تدبر — حتى لا تحترق المزروعات.١٧ كانت لوزات القطن قد بدأت تترنَّح على أعواده القصيرة الغضة، وتهددها الموت عطشًا مثلما عطشت حقول الذرة من قبل.١٨ و«أحس كل واحد كأنما الآخر يريد أن يسلبه الحياة نفسها.»١٩ بل إن لحظات العتاب بين عبد الهادي ودياب تحوَّلت إلى مشاجرة حقيقية: هوى عبد الهادي بكفِّه على وجه دياب، وهوى دياب بفأسه على رأس دياب: «وفي تلك اللحظات لم يكن أحد يدري ما يفعل، كانت طاقات هائلة من الضيق تنفجر من كل نفس، وتضرب كل من يتعرض لحرمان الأرض من الماء. وباسم الدفاع عن حياة الأرض، عن الحياة نفسها، مضى كل فلاح يضرب ويضرب بلا توقف كلَّ مَن يريد أن يناقش حق الأرض في الماء. كان الرجال يضربون بعضهم بعضًا بلا حساب وبلا مراعاة، كأنهم لم يعرفوا بعضهم أبدًا، ولم يحبوا بعضهم من قبل، وكأنما قد أصبح من المستحيل أن يتحدثوا إلى بعضهم مرة أخرى» … إلخ.٢٠ لكن الجميع عادوا إلى أنفسهم، إلى التكافل الاجتماعي الذي يحتضنونه في كل أيامهم، حين انطلقت أصوات استغاثة من ناحية الساقية، وتراخت الأيدي بالعصي، وسقطت الفئوس والشماريخ على الأرض، واتجه الجميع إلى بئر الساقية، ونسي دياب وعبد الهادي أن أحدهما كاد يقتل الآخر منذ قليل، وتعاونا مع بقية الرجال لإنقاذ جاموسة مسعود أبو قاسم من بئر الساقية الذي سقطت فيه. يذكِّرنا بما رواه يوسف إدريس عن موضع الماشية في نفس الفلاح؛ إنه يفرح بولادتها، ربما أكثر من فرحه بولادة الأبناء.٢١ وفي (خليها على الله) يطيل الفنان التوقف عند موت جاموسة الفلاح، فتُذرَف عليها الدموع، وتُلطَم الخدود، وتتعالى الصيحات، وتقام مناحة كبيرة، ويتقبَّل صاحب الجاموسة العزاء من الأهل والجيران.٢٢ إن نزول كارثة برجلٍ أو امرأة من أهالي القرية كأنما نزلت عليهم جميعًا، وهم يتكافلون لدرئها، أو للتقليل من خسائرها في أقل تقدير.
كان أهالي القرية على معرفة بما يحدث في الأمريكتين، وأنهم — هناك — يحرقون القمح والقطن، بينما لا يجد الناس هنا قروشًا يشترون بها الملابس، وتتمزق أمعاء الفلاحين من خبز الذرة الجاف.٢٣ إن كيزان الذرة هي — في الأغلب — البديل للنقود عند أهالي الأرض. وعلى سبيل المثال، فإن سعر ورقة الدخان يتراوح بين ثلاثة وخمسة كيزان ذرة.٢٤ والبيض أيضًا بديل عن النقود في المقايضة بين الشيخ يوسف وأهالي القرية.٢٥ ويقول علواني: هي خلاص الحكومة ما عندهاش شغلانة غير بلدنا … مرة ترفد، ومرة تحبس، وجاية في آخر المواخر تحوش عنا المية؟ يا للا انجر منك له … حكومة نجسة!٢٦ وكانت صورة تجمع بين الطرافة والقسوة، تلك التي تخيلها محمد أفندي لرئيس الوزراء الشيخ الذي يصب الموت على الآلاف وهو يجلس على مكتبه بهدوء، يأكل الساندوتش لفرط ما لديه من أعمال.٢٧ يقول علواني لعبد الهادي في اهتمام: باين فيه رجالة سقطوا على البلد. يقول عبد الهادي في سخرية: رجالة! رجالة إيه وهباب إيه؟! ورجالة الليل ييجوا بلدنا يزروطوا إيه؟! يعني حا يسرقوا الأبعدية؟ ولا يعني الوسية؟ دي البلد تسرق اللي معاهم!٢٨

والكلمات تبين عن المستوى الأدنى الذي كانت تحياه القرية.

والواقع أن أبناء القرية كانوا يدركون جيدًا أبعاد المأساة التي تغلف حياتهم، ويدركون بواعثها. من هنا، لم يكن يعنيهم أن تُنتزَع الأرض من أيدي الملاك لقاء ضرائب متجمدة على الأرض. كان شاغل كل منهم أن يبحث عن حقل يعمل فيه، ويتقاضى أجرًا يحفظ عليه حياته، وربما جاهروا بضحكاتهم الشامتة لمرأى الصراف وهو يدخل — بصحبة خفير — إلى بيت أحد الملاك في القرية.٢٩
الأرض شخصية رئيسة في الرواية، وهي شخصية فاعلة، ولها تأثيرها المؤكد في نفوس شخصياتها؛ فعبد الهادي ينظر إلى «هذه الأرض الواسعة التي تمتد إلى جواره لتملأه إحساسًا بالثبات والرسوخ والشرف. لم يكن يرى منها شيئًا في الليل، ومع ذلك فقد كان يعرفها، ويعرفها جيدًا، يعرف وجهها وقنواتها وكل مسلك فيها. إنه الآن يقف إلى جوار الأرض التي يملكها هو، والتي ورثها عن أبيه، وحمل الفأس عليها وهو طفل.»٣٠ الأرض — من ناحية ثانية — وسيلة لتحقيق السلطة، وتأكيدها، ولولا الأرض التي يمتلكها العمدة، ما بلغ المكانة التي وصل إليها.٣١ إن الذي لا يملك أرضًا لا يملك شيئًا، حتى الشرف. ويقول عبد الهادي لنفسه «إن فدانه يجعل له مكانًا خاصًّا في القرية، فالعمدة نفسه لا يملك أكثر منه.»٣٢ وعندما يطلب علواني يد وصيفة تقول «إن علواني يصلح أجيرًا، عليه أن يتزوج إحدى الفتيات اللائي يشتغلن في الحقول بالأجرة، لأنهن لا يملكن حقلًا يشتغلن فيه.»٣٣ وتقول وصيفة: «الذي لا يملك في القرية أرضًا، لا يملك فيها شيئًا على الإطلاق، حتى الشرف.»٣٤ وحين أصبحت وصيفة بلا أرض، أصبحت — بالتالي — بلا شرف، حتى إن أحد عمال الزراعة حاول إغراءها بالعمل مقابل «بريزة» في اليوم، ويمكنها الحصول على «بريزة» أخرى إذا دخلت الذرة.

•••

كان الباشا وابن أخته محمود بك يملكان معظم أراضي القرية، في حين أن أعلى ملكية لأهالي القرية فدان واحد، يملكه العمدة، الأمر نفسه للأقل من الأهالي. أما الباقون، فلا يكادون يملكون شيئًا على الإطلاق. وكانت أجهزة السلطة تعمل لتدعيم مركز الباشا في القرية. وكان أدوات الباشا في القرية هم قريبه محمود بك والعمدة والشيخ الشناوي. وقد جمع العمدة أختام الفلاحين، بدعوى تقديم شكوى لتعديل مواعيد الري، لكنه كان يضع أختامهم على طلب بإقامة جسر سراي الباشا، وقرن الشيخ الشناوي دعوة أهالي القرية للتوقيع على العريضة، بترغيب ديني: اللي يحب الله ورسوله، يروح بختمه ع الدوار!٣٥
تنبَّه الفلاحون إلى أن المشكلة لا تتصل بلعنة الله على القرية — كما ادعى الشيخ الشناوي — وأن الله قادر على أن ينزل من السماء ماء؛ فالباشا لا يصلي، ومع ذلك فلم يقطع عنه الماء.٣٦ وفي الوقت الذي كان شيخ البلد يشدد على الرجال في أن يوقفوا سواقيهم، فإنه كان يهمس لعلواني بأن يقطع جسر الترعة؛ لترتوي أرضه — شيخ البلد — ثم يسدَّها كأنها لم تنقطع.٣٧
أما الشكوى إلى النيابة فهي عبث، وربما أتت بعكس النتائج المطلوبة؛ فالنيابة في يد الحكومة، والحكومة تقبض على الناس بلا حساب، وبعد القبض تبحث النيابة في القانون عن مادة تطبقها، وتبرر بها إجراءات القبض.٣٨ وكان محمد أفندي هو أول من طرح فكرة كتابة عريضة إلى وزير الأشغال، لكن محمد أبو سويلم اعترض على كتابة عريضة إلى الحكومة لأن التجربة علَّمته أن الحكومة تخاف ولا تختشيش. وتتابعت الآراء ما بين مؤيدة ومتحفظة ورافضة، ثم وافق الجميع — في النهاية — على كتابة العريضة.
والعرائض التي توكل الأفراد القادة للدفاع عن حقوق الجماعة، أمر ألِفه المصريون منذ وقَّع مئات الآلاف — من أقصى الصعيد إلى الإسكندرية — على توكيلات لعرابي برفض المذكرة المشتركة، وتأكيد الثقة التامة به، وبوزارة البارودي الوطنية. ثم في ثورة ١٩١٩م التي كانت توكيلات الجماهير المصرية هي المنطلق لتسمية الوفد المصري، ثم في كل التطورات التالية. والحق أن كتابة العرائض لم تكن سوى وسيلة متاحة، فقد انشغل الفلاحون بالضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها حكومة صدقي، بل إن الشيخ يوسف راح يتذكر أيامه القديمة في ثورة ١٩١٩م، وكان الناس يرفضون التفكير في واسطة أو شفاعة «كنا أيامها بنهجم عالإنجليز بمدافعهم … لا رجا ولا خوف من حد … لكن يا عم هيه دي بقت بلد؟!»٣٩ وبعد أن انتهى محمد أفندي من كتابة العريضة، قُدِّمت إلى محمود بك الذي ثار عندما قرأها، واتَّهم لغتها بقلة التهذيب، وأعلن أنه سيكتب بنفسه عريضة أخرى. وقد وقَّع أبناء القرية على العريضة دون أن يعلموا ما فيها، وعندما واجههم الشيخ يوسف بهذه الحقيقة، دَبَّ في نفوسهم الرعب، وراحت الشكوك المخيفة تناوشهم.٤٠ ثم تبيَّنت القرية — متأخرًا — أن العريضة التي وقَّع عليها رجالها، لم تكن هي عريضة ماء الري، وإنما كانت عريضة كتبها محمود بك، يطلب فيها — باسم الأهالي الموقعين — شق سكة زراعية تمر في أرضهم لتصل إلى قصر الباشا الجديد، الكبير. وجمع العمدة أختام القرية وأختام القرى المجاورة، ووضع كل الأختام على العريضة! وحرص محمود بك — رغم أن العريضة لصالحه — على أن يحصل على عشرة جنيهات من كل قرية مصاريف رحلته إلى العاصمة، حتى يقدم العريضة للمسئولين.٤١ وأدرك الرجال أنهم أخطئوا لما اطمأنوا إلى العمدة ومحمود بك، وأن محمد أبو سويلم الذي لا يعرف القراءة والكتابة كان أبعد نظرًا منهم جميعًا حين أعلن عدم وثوقه في العمدة والبك.
لم يكن أهالي القرية قد استطاعوا التوصُّل إلى حلٍّ في مشكلة المياه التي حجبتها الحكومة عن أراضيهم لتروي أرض الباشا، حين أعلنت عن شق السكة الزراعية في قلب أراضي الفلاحين لتصل إلى سراي الباشا التي لم تكن قد أُنشئَت بعد، وكان معنى شق الزراعية أن معظم الذين يملكون أرضهم في حوض الترعة سيصبحون بلا أرضٍ، إذا نفَّذت الحكومة مشروعها.٤٢

•••

أمرت وزارة الداخلية، المديرية بأن تُعِد استقبالًا حافلًا لوزراء حزب الشعب الذين سيزورون الباشا في عزبته، بالقرب من عاصمة الإقليم. ونقل المدير الأوامر إلى المأمور، وبدأ المأمور في إعداد المساجين ورجال البوليس السري والعُمد والمشايخ والخفراء وكل من استطاع أن يجمعهم من الطرقات، ليؤلفوا الاستقبالات الشعبية.٤٣
لقد أتوا إلى المركز بالعشرات من الرجال، كان بعضهم يرتدي الجلابيب، والبعض الآخر يرتدي البدل، وكانوا خليطًا من الطلبة والتجار وماسحي الأحذية والباعة السريحة والمحامين والعمال والذين بلا عمل، لكنهم جميعًا كانوا يهتفون ضد حزب الشعب، ويتحدثون عن مصر والإنجليز والملك والحرية والدستور والاستقلال والرصاص والموت والحكومة.٤٤
وبعد أن اطمأن المأمور إلى أنه قد زجَّ في السجن بكل من يشتبه في معارضته لحزب الشعب، جمع بقية الفلاحين، ووزَّعهم على أرصفة الشارع في طريق موكب الوزراء إلى قصر الباشا من محطة السكة الحديد حتى نهاية المدينة. على أن يعطيهم ملاحِظ البوليس إشارة بيده عندما تقترب العربات، يبدءون بعدها في الهتاف: يعيش جلالة الملك المعظَّم … يحيا حزب الشعب … يحيا صدقي … وأتم المأمور استعداده، واطمأن لكل شيء. حتى الدكاكين التي أغلقها أصحابها، أمر العساكر بأن يفتحوها بالقوة، وأن يضعوا عليها أعلامًا صغيرة للزينة، وازدحمت جوانب الطريق بالمساجين والجنود، وجميعهم بالجلابيب، وفرق الموسيقى والطبل البلدي تحتل أماكن متباعدة، تعزف أنغامها، والتعليمات مشددة للنسوة بأن يطلقن الزغاريد. ووصل الوزراء إلى المحطة، وتحركت العربات تشق الطريق الرئيسة من المحطة إلى قصر الباشا، في ضيعته القريبة من المدينة. ومضت العربات بضعة أمتار وسط هتافات: يعيش جلالة الملك المعظم، يحيا حزب الشعب، يحيا صدقي، يحيا صدقي. كانت العربات تمضي على مهل، وفي اعتزاز، وعلى جانبَي الطريق ترفرف الأعلام، فوق لافتات كبيرة كُتِب عليها بيت من الشعر الركيك، فيه ترحيب ومدح. وتعالت الزغاريد من فوق أسطح البيوت، والمأمور — بكل كبريائه، ورضاه عن نفسه — فوق حصانه الأبيض إلى جوار العربات، وهو يلوح بيده للنساء، وللذين يهتفون. وقطع الموكب نصف الطريق، بين أرفة زاخرة، وهنا وهناك رجل يهتف: يحيا صدقي، والآخرون يرددون الهتاف على وقع الطبل البلدي وموسيقى الأحداث، وفجأة، على نفس النغم، استرد الواقفون كلمات النغم، أصل كلمات النغم، كلماتهم التي تضطرم في الصدور، وانفجرت من كل مكان هتافات مجتمعة: تحيا مصر … تحيا مصر».٤٥
تحوَّل المجرم أدهم الشرقاوي — هو كذلك بالفعل! — في روايات الفلاحين إلى أسطورة، لأنه تحدى السلطة. وكان ذلك سببًا كافيًا لأن يضعوه موضع التقدير والإعزاز، وعندما بلغ تحدي حكومة صدقي لقرية «الأرض» ذروته، لم يجد عبد الهادي إلا حكاية أدهم الذي دوَّخ الحكومة، وتحدَّاها، وتغلَّب عليها، وكان يهاجم الكبار، ويأخذ من مخازنهم، ويعطي الفلاحين الفقراء.٤٦
جمع الشيخ الشناوي الفلاحين من الحقول ليعطوا أصواتهم في الانتخابات لحكومة صدقي، وقال لهم إن بيدها الخير، وإن قدومها قدوم سعد!٤٧
وقد ظلَّت القرية تعاني، طيلة الفترة التي قضتها حكومة حزب الشعب «حزب الشعب اللي ماسك البر وحارقه بولعة.»٤٨ من المجيء المتوالي لأبنائها الذين يعملون في مصانع القرية، وبعد أن تطردهم المصانع. ولم يكن العمال يتقبَّلون قرارات الفصل ببساطة، فهم ينظِّمون الإضرابات والمظاهرات — من فُصِل ومن لم يُفصَل منهم — ويهتفون بسقوط الحكومة، فيسلط عليهم رجالها أنابيب المياه الساخنة، وتصدر الحكومة قوانين باسم حماية المصلحة العامة، وتغلق بعض المصانع بحجة إنها مقلِقة للراحة، وتفصل العمال عن الطلبة بنقل المصانع بعيدًا عن المدن، وبحيث يفصل العمال عن أهل المدينة عدد من الكباري التي يمكن للحكومة أن تفتحها في وجه المظاهرات العمالية متى شاءت!٤٩

•••

لجأ الفلاحون، للتعبير عن رأيهم بوجوب عودة الدستور، إلى حيلة طريفة: كانوا يمرون على محمود بك في عزبته الصغيرة وهم يركبون الحمير، يتعمدون عدم النزول مثلما جرت العادة، وإنما يكتفون بالقول: دستور! وكالعادة أيضًا، كان المفروض أن يجيب البك على ذلك بالقول: دستورك معاك! لكنه كان يأمر بإلقاء القبض على من يفعل ذلك ليساق إلى سجن المركز، فيُحلَق نصف شاربه، ويشرب بول الخيل، ويعذَّب حتى يعلن أنه امرأة!٥٠

هتف الرجال ضد حزب الشعب، فاقتيدوا إلى السجن، وأُكرِهوا على شرب بول الخيل، وحُلقَت شواربهم، وهوت الكرابيج على وجوههم وأبدانهم، وأُجلِسوا على الخوازيق، وضُرِبوا حتى فقدوا الوعي، ولم يبرحوا المركز إلا بعد أن صاح كل منهم إنه امرأة.

وكان ما فعله الرجال سببًا في نقل المأمور إلى الواحات، والحكمدار إلى أسوان، وأحس الرجال بالزهو لأنهم هزموا المأمور والحكمدار، وأنهم يستطيعون هزيمة العمدة أيضًا.٥١ ورغم انتصار الرجال، فإن الحكومة أرسلت رجالًا قضوا ليلتهم في بيت العمدة، ليبدءوا — في صباح اليوم التالي — تحديد مساحة الأرض التي ستنزع ملكيتها من زمام القرية لشق السكة الزراعية.٥٢

•••

مات العمدة، وتناثرت الشائعات باسم العمدة الجديد، فلم يعبأ الفلاحون بمن يكون العمدة لأنه لن يرفع سعر القطن، ولن يبدِّل مواعيد الري، ولن يغيِّر مشروع الزراعية، إن كل شيء في يد الحكومة، هناك، في القاهرة، وتغييرها هو البداية الحقيقية لتغييرٍ شامل.

تصوَّرت القرية إنها — حين قذفت بحديد الزراعية وبشعبان في أعماق الترعة، ثم وفاة العمدة المفاجئة — قد تخلصت من المشكلة إلى الأبد، وانطلقت الزغاريد، وتعالت الأغنيات، وسرت البسمة في كل الوجوه، وكان ذلك — بالطبع — تصورًا خاطئًا.

كان وصول الهجانة إلى القرية مفاجأة غير متوقعة؛ غمرتهم الحماسة بالأفعال، فنسَوا ردود الأفعال. وكانت بداية انحسار المد الذي بلغ ذروته في قذف حديد الزراعية وشعبان إلى قاع الترعة، ووفاة العمدة بتأثير ما حدث. وكان رد الفعل قاسيًا، فقد انهالت الكرابيج بلا حساب، وبلا شفاعة للسن أو المقام، حتى شيخ البلد الذي حاول إفهام شيخ الهجانة أنه ممثل الحكومة، فرَّ من لسعات الكرباج التي لم تدع له فرصة كي يقول شيئًا! وتصور الشيخ الشناوي أن الخروج إلى صلاة الفجر لا اعتراض عليه، لكن قرقعة الكرباج في الهواء أعادته إلى بيته!

ثم بدأت أسئلة قائد الهجانة — الشاويش عبد الله — لنفسه، تترك تأثيراتها الواضحة في تصرفاته. فبعد أن كانت قرقعة الكرابيج تستقبل كل من يفتح بابًا، أصبح يترك الشيخ الشناوي يذهب إلى الجامع لصلاة العشاء، وللشيخ يوسف بفتح دكانه إلى ما بعد بداية فرض حظر التجول.٥٣
وفي اليوم نفسه الذي غادر فيه الشاويش عبد الله القرية، بعد أن هوى على المأمور بكرباجه، جاء إلى حوض الترعة رجال يدهسون الزرع، ويهشمون الأعواد، وقدِم إلى القرية ثلاثة جنود، بداية لإقامة نقطة بليس.٥٤ وأسلمت القرية نفسها إلى قلق غامض، مثير، ثم قدمت «الحكومة» إلى القرية بالفعل متمثلة في جنود خيَّالة، يتقدمهم صول تمنطق بمسدس. بدأ الرجال يدهسون أرض محمد أبو سويلم، وتكسير الأعواد بأقطانها، وسقط الرجل في هوة اليأس، وأطلقت وصيفة صرخة مروعة، والتفتَ واحد من الرجال إلى وصيفة يغازلها، فاتجه عبد الهادي إليه — دون تدبُّر — وهوَى على رأسه بعصاه، وامتدت أيدي الفتيات إلى الأحجار المتناثرة القريبة، يتناولنها، ويتهيَّأن لمعركة ضد كل من يتعرض لرجالهن.٥٥ وقدم الجنود إلى المكان، وحاول محمد أبو سويلم إقناعهم بإرجاء العمل حتى ينتهي من جمع المحصول الذي كان قد نضج بالفعل، لكن يد الصول هوت على وجهه، ترنَّح أبو سويلم على الأرض التي ظل راسخًا فوقها مدى خمسين عامًا، ثم دفعه وبعض الرجال إلى غرفة التليفون بدوار العمدة حتى ينتهي أنفار الزراعية من عملهم.

•••

فإذا حاولنا أن نرسم لوحات سريعة — اسكتشات — لهؤلاء الذين عاشوا حياتهم في «أرض» الشرقاوي، فإن شخصية الراوي التي طالعتنا في البداية، ما تلبث أن تغيب تمامًا، لتعود إلينا قبل أن نطوي الصفحات. وصيفة هي الشخصية المحورية في الرواية، أو بتعبيرٍ آخر محور اهتمام كل شباب القرية: محمد أفندي وعبد الهادي ودياب. كانوا يتحدثون عن وصيفة بالحماسة نفسها التي يتحدثون بها عن الإنجليز وإسماعيل صدقي والدستور. حتى الشاويش عبد الله، سرت الشائعات أنه ينوي الزواج من وصيفة.٥٦ حتى عم كساب العربجي، قال كلمات بدا منها أنه يبادلها العاطفة!٥٧ رفضت فكرة زواجها من علواني، لأنه لا يملك أرضًا، «والذي لا يملك في القرية أرضًا، لا يملك فيها شيئًا على الإطلاق، حتى الشرف. فإذا كان علواني يريد الزواج حقيقة، فأولى به إحدى الفتيات اللائي يعملن بالأجرة في الحقول لأنهن لا يملكن حقلًا يعملن فيه. أما إذا أصر علواني أن تقوم بينه وبين أبيها علاقة، فلن تكون بحال علاقة مصاهرة، لكنه يصلح أجيرًا عن أبيها يرعى الغنم، أو يحرس البطيخ.»٥٨ مع ذلك، فقد كانت وصيفة جريئة، ومستهترة، وتقبِل على الجنس ببساطة، وإن كان في أعماقها خوف وقلق وهزيمة عبَّرت عنها بالقول: «لو كانت الواحدة تلاقي الأكل والشرب قدامها، وتقعد طول عمرها كده تغني وترقص ولا تحملش هم حاجة في الدنيا … لو كنت ألاقي في دارنا زلعة مليانة برايز!»٥٩ وكان صغر سن الراوي وحده، هو الذي حال بينه وبين وصيفة على إقامة علاقة جسدية، وكان المقابل لذلك زجاجة عطر، وهو مقابل يتضاءل أمام الطاقة المتفجرة في جسد وصيفة. لكن الراوي يعجز عن مواجهة الموقف، فتعبِّر صفية عن خيبة أملها فيه: «دانت باين عليك لسة صغير قوي … أما مطلَّعني البحر ليه؟ يا خويا بلا نيلة!» ولم يعُد أمام وصيفة — بعد أن أصبحت أرض أبيها جزءًا من سكة الزراعية، وسيق الرجل إلى السجن — إلا أن تقبل — لقاء «بريزة» — ما رفضته دومًا، فتعمل في الزراعية مع العمال الذين يمهدون الطريق إلى سراي الباشا، وتعاني — مثل كل الفتيات — من كلمات الرجال ونظراتهم ووعودهم أحيانًا، بأنها تستطيع أن تحصل على «بريزة» أخرى إذا دخلت حقل الذرة. لقد أصبحت بلا أرض، فهي معرضة إذن لأن تكون بلا شرف … لكن عم كساب حوذي الحنطور، أنقذ وصيفة من المصير التعس، وتقدَّم لخطبتها.

•••

وتختلف خضرة٦٠ عن وصيفة في أن وصيفة تحب للحب — إن جاز التعبير — مدفوعة بالرغبة والفضول والتعرف إلى ذلك العالم السحري المُسمَّى الجنس. أما خضرة، «فقد كانت ترقص في كل فرح، وتبادل الشبان — والكبار أيضًا — أحاديث الجنس، وتبيع نفسها في الموالد والأفراح والأعياد ومواسم الذرة والقصب والقطن بعلبة من الملبن، أو بكفٍّ من الحلاوة السمسمية، أو ربما بكيزان خضراء من الذرة وأعواد من القصب.»٦١ وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت خضرة تسعى وراء البهائم تنتظر ما يسقط منها لتضيفه إلى ما جمعته من الروث فوق رأسها.٦٢ كانت لحظات عودة البهائم من الحقول هي فرصة خضرة للحصول على ما تسقطه البهائم من روث، فتصنع منه أقراصًا كبيرة تُجفَّف في الشمس وتُوقَد بها الأفران.٦٣ كانت خضرة تعطي نفسها حقًّا لشبان القرية بأي مقابل يدفعونه، حتى بخيارة طرية في يوم حار، وتقوم بدور الوسيط بين محمد أفندي أو عبد الهادي مع أخريات.٦٤ وكان في عودة العشرات من شبان القرية الذين لفظتهم مصانع القاهرة، موردًا جديدًا للرزق، أفادت منه خضرة. فقد كان الشبان يقيمون في القرية بلا عمل، إلا مغازلة النساء، لا يجيدون — عدا هذا — صنع أي شيء في الفلاحة. وكان المقابل الذي يعطيه هؤلاء الشبان لخضرة يتمثل في بضعة قروش مما عادوا بها من المدينة، بعكس المقابل التافه الذي كان يهبه لها دياب وعلواني وغيرهما.٦٥

•••

ومع أن العمدة لم يكن يملك أكثر من فدان، فقد كان إرضاء رجال الإدارة همَّه الأول، بصرف النظر عن الضرر الذي قد يلحق دخل القرية من هذا الرخاء. تعلَّم الرجل من دراسته الأزهرية أن طاعة أولي الأمر من أركان الدين.٦٦ وكان إيمان العمدة أن المياه ملك الحكومة، وأنه من حق الحكومة أن توزع المياه — التي تملكها — بالطريقة التي تشاء، ولمن تشاء. وعلى الرغم من أن العمدة كان يعلم — منذ حين — أن الحكومة أمرت بإنقاص مواعيد الري من عشرة أيام إلى خمسة، فإنه تعمَّد ألَّا يخبر أحدًا من أهالي القرية، ولم يُطلِق خادم المسجد بطبلته لينبِّه القرية مثلما يحدث في تلك الحالات. وكان يسعى لأن يفاجئ رجال الحكومة رجال القرية — بعض رجال القرية على وجه التحديد — وهم يخالفون الأوامر؛ ليساقوا إلى البندر، ويواجِهوا الغرامة والسجن.٦٧ وقد ساعد الإدارة على تزوير الانتخابات بكتابة أسماء الموتى، وخدع بعض الرجال بأن دستور حكومة الشعب سيجلب معه البركات.٦٨ وكان للعمدة نفوذه الواسع بين عُمد الإقليم، ذلك لأنه كان أكثرهم قدرة على إرسال الهدايا والخدم والخادمات، وكان سخيًّا في مواجهة حالات الضيق التي يعاني منها — دومًا — رجال المركز.٦٩
وقد أعلن العمدة ضيقه بإهانات محمد أبو سويلم المتكررة، وأنه لا يذكره إلا بكلمة «النجس» من هنا كان إبلاغه اسم محمد أبو سويلم مع الذين قطعوا الجسر، لكنه توعد — في حالة عودته لتحدِّيه، بعد إفراج الحكومة عنه — أن يثير موضوع مقتل خضرة، وأن محمد أبو سويلم طردها من بيته، وضربها قبل وفاتها بساعات. بل لقد أعلن العمدة أن موضوع خضرة سيظل موجودًا لمدة خمسة عشر عامًا، يعرف خلالها كيف يؤدب الذين يحاولون إهانته أو تحدِّيه.٧٠
لقد التفَّت النسوة حول العمدة يضربنه، ويوجِّهن إليه الشتائم، فتثاقل الخفراء في نجدته، فقد كان فكرهم مع الرجال الذين يقضون أيامهم في سجن المركز، وكانوا يفكرون أيضًا في الأرض التي ستأخذها الحكومة لشق السكة الزراعية، وفي افتراءات العمدة على زوجة محمد أبو سويلم، التي يمكن أن تتسع لتشمل زوجاتهم أيضًا. وكان الخفراء يعلمون أن العمدة هو الذي أملى أسماء الرجال للمأمور، وهو الذي أقنعه بالقبض عليهم، وأن العمدة هو الذي أخذ العريضة من محمود بك، وأوهم الناس أنها للري، بينما العريضة تطلب — بأختامهم — شق السكة الزراعية. وكانوا يتحدثون إلى بعضهم البعض عن العمدة الذي يصنع الكوارث للقرية، ويبيع أهلها وأرضها للحكومة، ويحاول أن يخضع رقاب الناس فيها عن طريقهم، هم الخفراء.٧١ تجرَّأت وصيفة فالتقطت مقطفًا طافحًا بالروث، وألقته على رأس العمدة، وكان حدثاً فريدًا لم تعهده القرية من قبل «حاجة حلوة صحيح، لكن يعني ما يعملوهاش إلا النسوان، ما كانتش تيجي من راجل؟!»٧٢ وقد اضطر العمدة لشرب طاسة الخضة بعد أن أفزعه هجوم النساء.٧٣

•••

ولم يكن محمد أفندي مدرس الإلزامي قد ورث وأخوه دياب عن والدهما إلا خمسة عشر قيراطًا، لكنه استطاع — بادخار راتبه، وإقراض الفلاحين مقابلًا لرهن أراضيهم، ثم الاستيلاء عليها — أن يضاعف ما يملكه وأخوه إلى فدان وعشرين قيراطًا. كان يقرض الفلاحين لسداد ديون الحكومة، أو لمواجهة الحاجة، ويشترط أن يكون رهن الأرض مقابلًا للدَّين؛ فإذا عجز المدين عن السداد، اشترى محمد أفندي الأرض المرهونة. وبهذه الوسيلة، استطاع أن يضيف إلى ما اقتناه باسمه واسم أخيه، بالإضافة إلى خمسة عشر قيراطًا ورثها الأخوان عن الأب الراحل، وأربعة جنيهات هي راتب محمد أفندي من وظيفته أول كل شهر.٧٤ مع ذلك، فإن علاقته ظلت سطحية بالقرية، فهو يشرف على زراعة الأرض، وإن كان أخوه دياب هو الذي يفلحها. كان محمد أفندي يملك الأرض، ويشرف على زراعتها، فإن أخاه دياب كان هو الذي يعمل فيها. ومن هنا، فقد كان دياب — الأقل علمًا وذكاءً — أشد صلابة من أخيه؛ لأنَّ قدمَيه كانت مغروستين في طين الحقل. ومنذ اشتغل محمد أفندي مدرسًا، حرص على أن يتميز في حياته ليس عن أهالي القرية فحسب، ولكن عن أمه وشقيقته أيضًا. فقد بنى غرفة فوق سطح الدار، بعيدًا عن زريبة البهائم، وعن القاعة التي تعيش فيها الأم والأخ الفلاح.٧٥ وكان أسلوب المقاومة الوحيد عند محمد أفندي هو كتابة عرائض الشكاوى بأسلوب المنفلوطي، فلما توثق ارتباطه بالأرض، أصبح أكثر صلابة، وأكثر تبينًا لخطأ الأسلوب الذي لم يجنِ من ورائه — لا هو ولا أخوه — حماية حقيقية.

•••

أما دياب، فقد أبدى دهشته من أن محمد أفندي لم يستطع أن يقابل «الحكومة» في يومين كاملين، وتساءل عن مصر هذه وما تكون: أليست الحكومة هناك في دوار كدوار العمدة؟٧٦
ويختلف محمد أفندي عن عبد الهادي في حرصه على مهادنة السلطة، بل ونفاقها، والتقرب من العمدة، ومحمود بك. محمد أفندي — بحكم وظيفته — يخشى السلطة، ويفضِّل أسلوب كتابة العرائض، بعكس عبد الهادي الذي يفضِّل — بطبيعته الواضحة السهلة — أسلوب المواجهة المباشرة الذي ينبغي أن تلجأ إليه القرية في صراعها مع السلطة، طعامه فحل بصل ورغيف ذرة جاف،٧٧ وأحيانًا يأكل بالرغيف قطعة من المش أو الجبن القديم كانت أمه تجيد صنعه. تحددت أمنياته في الإحساس بالطمأنينة، وأن يزرع أرضه في أمان، ويملك زوجة وأولادًا،٧٨ وإن لم يمنع نفسه — ولعل ذلك كان هو السبب — من شعور الحسد لمحمد أفندي على الجنيهات الأربعة التي يقبضها أول كل شهر «ويدوس بهم على الدنيا.»٧٩ الأرض عند عبد الهادي هي الحياة نفسها، هي الشرف والكرامة والأمان. وقد حرص دومًا على أن يبذل لها كل رعايته وإعزازه، ولم يفرط فيها أبدًا، ففدان الأرض الذي يملكه يجعل له مكانًا خاصًّا في القرية، ويسمح له — إذا ذهب إلى عاصمة الإقليم — أن يجلس على مقهى الخواجة الأرمني الذي يجلس عليه عمُّه والعمدة والناس المهمون.٨٠ إن معنى رضوخه لأوامر رجال الهندسة بإيقاف الري عن أرضه، أن تذبل الذرة التي بدأت تظهر وتكسو الأرض بخضرة حلوة، فهل يترك الذرة تموت لمجرد أن الحكومة أرادت هذا؟٨١ وكان — إلى ذلك — مهمومًا بمشكلات الآخرين، فمع أن القرية كانت مشغولة تمامًا بالأيام الخمسة من الري التي أخذت منهم لتُعطَى لأرض الباشا القريبة من مدينة المركز عاصمة الإقليم، فإن عبد الهادي أفلح في أن ينتزع تفكيره من ذلك كله، ويفكر في العلاقة التي رأى أنها تنمو بين وصيفة وخضرة ومحمد أفندي، ودور خضرة في ذلك.٨٢ وحين يصر الشيخ الشناوي على رأيه بأن منع المياه هو أمر يتصل بقلة الدين واللعنة والحساب والجزاء الوفاق، ينفجر فيه عبد الهادي بالحقيقة البسيطة، وهي أن الله لا يد له في منع المياه؛ فرجال الحكومة هم الذين منعوها، بدليل أن المياه تصل إلى أرض الباشا بدون أن تدور ساقية، أو تشقى بهيمة، أو يعمل وابور مياه، ثم يهتف في أسًى: هو ربنا مش فاضي إلا لأذية بلدنا!٨٣ وكان عبد الهادي هو الوحيد الذي رفض — بين الرجال حين أُودِعوا السجن — أن يعترف بأنه امرأة، ورفض أن يشرب البول، أو يجلس على الخازوق، إلا بعد أن أغمي عليه!

•••

أما محمد أبو سويلم فقد أسهمت مشاركته في ثورة ١٩١٩م في إنضاج وعيه، وفي تمرسه بالنضال. كان محمد أبو سويلم شيخًا للخفراء، ثم فُصِل من وظيفته بعد أن قاطعت القرية الانتخابات التي أجرتها حكومة صدقي، ودخل فيها حزب الشعب بمفرده. وأصر المأمور أن يسوق أبو سويلم الرجال إلى صناديق الانتخابات فرفض، فلجئُوا إلى جمع أصوات الموتى، فتشاجر، وفُصِل من وظيفته.٨٤ لم يكن محمد أبو سويلم مؤمنًا بأسلوب العرائض، وكان لا يفتأ يقول: «ما كفاية عرايظ! أدي احنا جربناها … عاوزين نشوف لنا سكة تانية!»٨٥

•••

ويُعَد الشيخ حسونة هو العقل المفكر للقرية، أفاد من تجنيد السلطة له في الحرب العالمية الأولى، ومن أحداث ثورة ١٩١٩م، في التصدي لمحاولة حكومة صدقي تزييف الانتخابات. إنه يجد الحل في طرد الإنجليز، وطرد حزب الشعب، وعودة الدستور، لترتفع مِن ثَم أسعار القطن.٨٦

•••

أما الشيخ الشناوي، فقد استغرقته مسألة المنح والمنع الإلهي، فعندما واجه الرجال خطر قتل المزروعات، نتيجة للتحديد المتعسف لمواعيد الري، فقد اكتفى الشيخ بأن يرفع يديه بالمسبحة، ويقرِّبها من عينيه، ويطلب من الموجودين أن يقرءوا عدية ياسين على من قصَّر مواعيد الري، أن ينتقم الله منه بحق جاه النبي.٨٧ ويتحدث الشيخ — في إجلال — عن أمر الله الذي قضى بأن تُحرَم القرية من الماء خمسة أيام، ليحصل عليه الباشا الذي يؤتي الزكاة. وتحدَّث عن حكمة الله، ولعنته التي أنزلها على القرية؛ لأنها تعصاه فلا تصلي، كما أنزل الله لعنته على عاد وثمود، وأن الله قادر على أن ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض!٨٨ نسي الشيخ أن أصل اللعنة — في تقديره — هو عزوف القرية عن الصلاة، وأن الباشا لا يصلي أيضًا! وإذا كان يخرج الزكاة، فما ذلك إلا لأنه يملك الكثير، بينما لا تملك القرية ما تدفعه للزكاة.٨٩ وهمس عبد الهادي لنفسه – ليلة — بأن الشيخ الشناوي لو كان يملك أرضًا في القرية لما قال هذا الكلام. لو أن عرقه اختلط بترابها، لو أنه رآها تتشقق من الجفاف تحت عينيه دون أن يقوى على فعل شيء، لو أنه أعمل الفأس وحفر القنوات، لما اتسم موقفه بالسلبية. ثم ساوى عبد الهادي بين الشيخ الشناوي والمومس خضرة، فكلاهما يملك شيئًا يبيعه للذين يملكون المال والجاه والكلمة، ولا يُعنى أحدهما بما يجري بعد لأرض القرية. إن الذين يملكون أرضًا في القرية يضعون أيديهم في النار، أما الشيخ الشناوي وخضرة فأيديهما في الماء، ومن ثَم فلا تعنيهما دوامة الأحداث التي كادت تعصف بالآخرين. وبصرف النظر عن باعث موقف الشيخ الشناوي الموالي للسلطة علنًا، وهو أنه كان بلا أرضٍ، فإن الرجل كان يمثِّل — في تقدير الفنان — المؤسسة الدينية التقليدية (نحن نلحظ أن عبد الرحمن الشرقاوي يتخذ موقفًا سلبيًّا من معظم علماء الدين وقراء القرآن الكريم، لأسباب أيديولوجية معلَنة! (الرواية، ٢٦٠)). الميزة الوحيدة التي تحسب للشيخ الشناوي، هي مشاركته في أحداث ثورة ١٩١٩م، لكنه ظل مثلًا لعالِم الدين الذي يقف مع السلطة ضد أبناء قريته، كان يعمل لحساب السلطة، وفي خدمتها.
ولعل شخصية الشيخ الشناوي — في الفترة التي تناولها الفنان — تتماهى مع مواقف علماء الدين المؤيدة للسراي، والمطالِبة بإنهاء المظاهرات، وطاعة أولي الأمر، والإخلاد للسكينة. فقد أصدر الشيخ الظاهري — شيخ الأزهر آنذاك — بيانًا وقَّعه عدد من العلماء قالوا فيه: «أيها الشعب الوفي، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: ٥٩). وإن من فضل الله علينا أن كان صاحب الأمر فينا هو حضرة صاحب الجلالة مليكنا المعظَّم الملك فؤاد الأول، حفظه الله، وأيَّده بروحٍ من عنده.» … إلخ. وكان ذلك البيان صادمًا — بالطبع — للرأي العام، واشتدت المظاهرات المندِّدة بحكم صدقي، وأعلن عدد من علماء الأزهر احتجاجهم على البيان، فأصدر الشيخ الظواهري قرارًا بفصلهم.٩٠ وفي المقابل، فإن الشيخ الشاذلي (رأس الشيطان) رفض أن يكون في استقبال عثمان باشا الذي قفز إلى منصب الوزارة في الانتخابات المزورة «كانت رابعة العدوية تستقبل الله كالعروس، وتريدني أن أقف هاتفًا في موكب الشياطين»؟!»٩١

•••

كان الشيخ يوسف يعتمد في تحصيل رزقه على دكانه، فهو مورده الأساس، مع أنه يملك فدانًا من الأرض، ثم نُزعَت منه ملكية نصف فدان بعد ذهاب الدستور.٩٢ لكن الشيخ لم يكن يعمل في أرضه بنفسه، وكان أميل قيادات القرية إلى التناقض في مواقفه، وعدم الثبات على رأي محدد. كان الشيخ يشعر أن السنوات التي أمضاها في الدراسة بالأزهر تعطيه من الحق أكثر مما تعطي محمد أفندي الذي لم يرَ مصر أم الدنيا على الإطلاق.٩٣ مع ذلك، فإن زواج محمد أفندي من ابنة الشيخ يوسف صار هدفًا يسعى إليه الشيخ، بالتلميح حينًا، وبالإغراء حينًا آخر، والشاب يعتذر بابتسامة مجامِلة!٩٤ وعندما همس علواني للشيخ يوسف بأن يأمره بضرب عبد الهادي، أصيب الرجل بذعرٍ حقيقي من مجرد الفكرة: أن يفكر ولد ضائع مثل علواني في ضرب رجلٍ له في القرية أرض ومال وكلمة، بصرف النظر عن صداقة هذا الرجل أو عداوته للشيخ يوسف.٩٥ وقد أولى الشيخ يوسف في البداية ظهره لإرادة أبناء القرية، وأصبح عضوًا في لجنة الثلاثين التي اختارت الباشا نائبًا عن الدائرة. ثم غمر الشيخ يوسف الشعور بالندم على اشتراكه في الانتخابات، وحاول الوقوف مع القرية، فلما امتنع — مثل بقية أبناء القرية — عن دفع المال، وحجزت الحكومة على نصف ما يملك، اتخذ موقف أبناء القرية بصورة سافرة.٩٦ وقد داعبت وفاة العمدة المفاجئة أحلام الشيخ يوسف في أن يرشح نفسه للعمودية، واشترى من المركز شالًا جديدًا لعمامة، وجلبابًا من الكشمير، يكشف عن كم طويل لفانلة جديدة صفراء. لكن الشيخ حسونة — بجرأته الصارمة — وبَّخه على تفكيره في العمودية، بينما القرية تخوض صراع الحياة والموت. وخلع الشيخ يوسف الجلباب الكشمير والفانلة الصفراء والصديري الشاهي، وعاد إلى الجلوس في دكانه يقرأ سيرة أبي زيد الهلالي، وكيف حقق انتصاره بعد توالي الهزائم!٩٧ ثم كشف الشيخ يوسف عن انتهازيته — مرة أخرى — في ترحيبه بمقدم عمال الزراعية الذين ملئُوا أدراج دكانه بالنقود «لما أنا مابيعش لأنفار الزراعية ما هم حايشتروا من غيري من بلد تانية، ويعني افرض إن الزراعية مش عاجباني، حاعمل إيه؟ إيه العمل يعني؟ يعني احنا اللي حانوقفها؟ ما رميتو الحديد في الترعة، وأهي مشيت برضه على رقبة أحسن واحد! احنا حانقف قصاد الحكومة؟ ما الشاويش عبد الله عمل شملول، أهو جاب النقطة! جاب العسكر!»٩٨ ثم بدأت أحلام العمودية تناوشه من جديد، وصمم على أن يذهب إلى محمود بك؛ ليعاونه في السعي للعمودية. وقرر — في حالة تعيينه — أن ينتقم من كل الذين رفضوا تصرفاته من أبناء القرية: «حاكم دي مش بلد يا سيدنا … دي بلد عاوزة الرباية. إن ما كنت أأدبها لك تمام. شوف يا أخي محمد أفندي بيعمل إيه؟ يخلِّي الراجل في الحبس ويلعب بعقل البنت ويدِّيها قرشين، قال إيه؟ قال اشترى الشوية القطن اللي الصول حجز عليهم، المصيبة إن الصول خادهم، وأنا شايفه بعيني دي! البت جات شاورتني من قيمة شوية قلت لها أوعي لنفسك. أحسن لها تروح تشتغل في الزراعية بدل محمد أفندي ما ياكل بعقلها حلاوة، ما هي بلد خبص.»٩٩

•••

ولم يكن علواني — في الأصل — من أبناء القرية، فقد قدِم أبوه إلى القرية — ذات شتاء — ومعه بندقية مقروطة وقلب شجاع، وقد ورثهما عنه علواني، وورث عنه مهنته أيضًا، فهو يرعى — أحيانًا — أغنام ملاك الأراضي في القرى المجاورة، أو يحرس حدائق البرتقال وحقول البطيخ. ولم يكن حديث الأرض مما يعني علواني على الإطلاق، فهو لا يملك إلا المقروطة التي يحرس بها حقول الآخرين. ولما طال الحديث بين الشيخ يوسف وعبد الهادي حول الخراب الذي يتهدد الأرض بقطع المياه، أحس علواني أن الحديث لا يخصه ولا يحتمله، فانسل في هدوء إلى حقل البطيخ الذي يحرسه لينام.١٠٠ لم يكن أمام علواني — ليشغل وحدته — إلا دكان الشيخ يوسف، يشتري الشاي والسكر والدخان، ويسمر قليلًا مع الذين يتصادف جلوسهم، ثم يعود إلى الحقل بعد أن تنام القرية. وكان يجتهد في التأكيد للشيخ يوسف بأنه ينعى همَّه، حتى ينال عطف الرجل، فيعطيه سيجارة أو ورقة دخان. وكان علواني يشابه خضرة في ظروف حياته، فكلاهما يحيا في القرية بلا أرض ولا أهل، وعلواني يعمل راعيًا أو حارسًا لمن يدفع، وخضرة تنازل عنها أهلها للبك الأعزب. وظلت تعمل عنده سنتين قبل أن يطردها، وعادت إلى القرية لتبدأ حياة أكثر قسوة. لم يكن علواني يعرف شكل القرش إلا بعد أن ينتهي موسم البطيخ، فيأخذ أجره عن الحراسة، وقبل أن يحدث ذلك فهو يلجأ إلى الشيخ يوسف — بقال القرية الوحيد — يأخذ على الحساب ما يحتاجه من الشاي والسكر وورق الدخان.١٠١ يقول لعبد الهادي: «والله يا عبد الهادي لولا أن شيخ البلد بيبعت لي الأكل، لكان الواحد بقى ياكل من الغيطان زي الديب.»١٠٢ وقد برر علواني سرقاته بأنها ليست من بيوت أحد من أصحابه، ولا من الذين أكل معهم عيشًا وملحًا، بل «ولا فيهم كوز من دار واحد محتاج.»١٠٣ وحين يهدده الشيخ الشناوي بالعقاب وجهنم، يقول في استخفاف: «جهنم؟ وأنا أخاف من جهنم؟ هيه جهنم دي يعني حا تبقى أكتر من اللي أنا عايش فيه؟ وهو أنا يعني يا سيدنا كنت لقيت الحلال، وسبته علشان الحرام؟!»١٠٤ وكان علواني يحصل على لحظات جنس من خضرة لقاء بطيخة من الغيط الذي يتولى حراسته!١٠٥ ويقول لها — في لحظات العلاقة الجنسية — «لو كنا نصبح نلاقي الغيط ده كله بتاعنا» فتؤمن على قوله: «يا ريت»!١٠٦

•••

أما الشيخ شعبان — كما كان العمدة يحرص على تقديمه — فهو رجل مجذوب، ليس من القرية، وليس له فيها أرض ولا أهل ولا أحد يعرفه، وإنما هو سائل على الطريق، من أهل الله.١٠٧ لكن الرجل كان يتظاهر بأنه مجذوب ليكتسب عطف الفلاحين، مما يساعده على التجسس، ومحاولة بذر الشقاق والتخريب. وكان العمدة يستغله لإيذاء مَن لا يقدر عليه من رجال السلطة. وإذا كانت عادة العُمد أن يلجئُوا إلى بعض الأشقياء لمحاربة أعدائهم وإرهابهم، فذلك هو نفسه الدور الذي كان يؤديه شعبان، وإن اختلف مظهره، فتصنَّع الدهشة والولاية. وقد أحرق شعبان المحاصيل والبيوت، وأغرق المزروعات، وسمَّم البهائم. وتوالت العرائض التي تتهم الرجل بكل ما حدث، فأشار عليه العمدة بأن يختفي من القرية حينًا. ولما عاد الرجل إلى القرية كان قد بدَّل ثيابه، فارتدى عمامة ذات شال أخضر سمَّاه «شرف سيدي رمضان»، وأعلن أنه وجد الهداية.١٠٨ وعندما تبدَّى الاحتقار في معاملة موظفي المساحة للعمدة، فإنه اكتفى بأن يشير إلى شعبان الذي تصنَّع الدروشة واحتك بالموظفين؛ لأنهم — كما قال — ينوون هدم مقام الشيخ رمضان. وزاد من دروشته حتى نزع البُلغة من قدمه، وهوى بها على رأس أحد الموظفين!١٠٩ وقد هبط شعبان إلى القرية فجأة بعد أن اختفى لفترة طويلة، وكان قدومه يوم زيارة الوزراء.١١٠ وعمل شعبان — لفترة — في إرسال الفتيات من القرى إلى القاهرة ليشتغلن خادمات فلا يعُدن أبدًا. عادت واحدة فقط هي زنوبة، لكنها كانت غيَّرت اسمها، وأصبحت بشرتها نحاسية اللون، واكتنز لحمها، وتدلى الذهب على الصدر، وخط الأحمر على الشفاه، وعرفت القدم موضعها — لأول مرة — في الحذاء ذي الكعب العالي.١١١ مع ذلك، فقد غيَّرت حادثة ضرب شعبان لمهندس الري بالبُلغة، من موضعه في نظر أبناء القرية؛ أصبحوا ينظرون إليه كبطلٍ صنع شيئًا خارقًا لا يصنعه أحد غيره!١١٢
والحق أن شعبان كان جزءًا من خطة الانتقام التي راح العمدة ينفذها؛ ليثأر لنفسه من أبناء القرية. فقد تحوَّل شعبان — بأمرٍ من العمدة — إلى مجذوب، يهذي بالأوراد والمدائح النبوية، ويتخذ من المواقف ما يجعله بطلًا في أعين البسطاء من أبناء القرية، ويستعيد الثقة التي فقدها تمامًا في توالي جرائمه. ثم بدأ شعبان يؤدي الدور المطلوب منه، فأثار الخلافات بين أبناء القرية، وتعرَّف إلى اتجاهاتهم ضد العمدة، وعرف أيضًا أن علواني هو الذي سرق القمح والذرة من مخازن العمدة، ولأن الجاني في حادثة مقتل خضرة لم يكن عُرِف بعد، فقد أُلقي القبض على علواني بتهمة القتل.١١٣ وتحوَّلت وصيفة — على لسان شعبان — إلى مومس، مثل خضرة تمامًا، يتبادلها الرجال: علواني، محمد أفندي، عبد الهادي، دياب، وغيرهم.١١٤ وأقنع شعبان العاطلين من أبناء القرية، أن الحكومة ستتيح لهم فرصة العمل في الزراعية.١١٥ وروى حكاية كاذبة عن عبد الهادي الذي اتفق مع رجال الحكومة على أن يسهِّل مأمورية شق الزراعية؛ لأنه لا يملك أرضًا في حوض الترعة، ولن يصيبه ضرر. ونسب إلى محمد أبو سويلم قوله إن الشيخ حسونة لم يسعَ من أجل القرية كلها في مسألة الزراعية، لكنه أقنع أصدقاءه هناك بأن يغيِّروا طريق الزراعية حتى لا تمر في حقله هو.١١٦ وقد أوشك شعبان أن يلقَى نهايته في قاع الترعة، بعد أن حمله عبد الهادي بيديه، وقذف به مع حديد الزراعية الذي أرسلته الحكومة لتفسد الأرض، وكان شعبان يتولى حراسة الحديد،١١٧ لكن شعبان استطاع أن يغطس قليلًا، ثم يطفو على سطح الماء، بعيدًا عن الرجال، ليعيش في قرية أخرى.١١٨

•••

ولم يكن الشاويش عبد الله مجرد أداة تفرض بها الحكومة سطوتها؛ كان له قلب ينبض وعاطفة. وبعد أن لاذ الفلاحون بدُورهم، جلس الشاويش عبد الله في دوار العمدة يفكر في أبيه الذي تركه في الصحراء البعيدة جنوبي السودان. وأنه ضرب — في هذه القرية — رجالًا كأبيه، ونساء كأمه، وأطفالًا صغارًا كإخوته، وتساءل: لماذا ضرب هؤلاء الناس جميعًا؟ لحساب من؟١١٩ اقتحم الحزن العميق قلب الشاويش عبد الله، لأنهم جاءوا به من قريته الصغيرة ليذل قرية لم يرها من قبل، وليس بينه وبين أهلها عداء.١٢٠ كان الشاويش عبد الله يعِّبر عن مأساته ومأساة قومه، ببيتين من الشعر:
اشمعنى جفاهم أبيض
وجفانا جالوص طين
واشمعنى الخير حداهم
واحنا شحاتين.١٢١
وقد انتقم الشاويش للفلاحين من المأمور، لما هوى عليه بكرباجه يشويه، ثم قذف به من فوق حصانه، ومرَّغ به الأرض.١٢٢
ويحدد الشيخ حسونة علاقة البك محمود بالفلاحين بأنه لا يستفيد من ارتباطه بهم، وإنما الفائدة يحصل عليها من ارتباطه بالحكومة، ومن ثَم فإن همَّه الأول أن يسلب الفلاحين كل ما يملكونه.١٢٣

•••

وعلى الرغم من أن أحمد محمد عطية يأخذ منطلقًا مناقضًا لجلال كشك في كتابه «الغزو الفكري»، فإنهما يتفقان في وجهة النظر التي يناقشان في ضوئها رواية «الأرض». إن جلال كشك — من خلال نماذج كتابه — يحاول إدانة الماركسية، فضلًا عن آراء الناقدَين لويس عوض وغالي شكري. أما أحمد محمد عطية فإنه يختلف في المقولة التي بنى عليها كتابه، ولعلها مقولة مناقضة تمامًا. إن قضية أهالي «الأرض» — كما تمثَّلها الناقد — لم تكن سوء توزيع الملكية، وضياع حقوق المعدمين والأجراء … ففلاحو «الأرض» كانوا أبعد ما يكونون عن تلك المشكلات، كل ما كان يشغلهم فحسب هو «وجود صدقي في الحكم، فإذا ما زالت الحكومة، زالت كل مشاكل الفلاحين.»١٢٤ ومثلما فعل جلال كشك، فإن الناقد يضغط على تاريخ نشر «الأرض» مسلسلة في جريدة «المصري»، صحيفة الوفد الرجعي — على حد تعبيره — منذ يناير ١٩٥٣م، وبينما البلاد تحتضن أول قانون اشتراكي يصدر في تاريخها، يأخذ الأرض من ناهبيها، ويوزعها على مستحقيها،١٢٥ وأتذكر أيضًا كلمات جلال كشك!

الأرض هي البطل الرئيس في رواية عبد الرحمن الشرقاوي، هي المحور الذي تدور حوله مشكلات الشخصيات وتصرفاتهم وطموحاتهم. والركيزة الأساسية في الرواية هي الصراع بين طبقة كبار ملَّاك الأراضي، وطبقة صغار الملَّاك؛ فالحكومة تنتصر للكبار في مواعيد الري، وفي مد السكة الزراعية، بينما يعاني الصغار فقْدَ كل شيء. ولم تكن حكومة مثل غيرها من الحكومات التي ابتُليَت بها الحياة السياسية المصرية، وهي حكومة إسماعيل صدقي الشهيرة! لم تكن القضية أرضًا لبعض أهالي القرية ستشق فيها الحكومة سكة زراعية، لكنها كانت قضية «القرية» ذاتها. إن الاعتداء على رجلٍ واحدٍ في القرية يعني الاعتداء على القرية بأكملها. ليس عاطفة، وإنما لأن الحكومة تعاملهم بالفعل كأنهم رجلٌ واحدٌ، فإذا اعتدى أحدهم على ما ترى الحكومة أنه حق لها، أخذت بذلك كل القرية. وكان من بين أبناء القرية أيضًا أُجراء عزبة البك الذين لا يملكون أرضًا، لكن قضية الأرض كانت تشغلهم بالقدر نفسه الذي كانت تشغل به ملَّاك الأرض أنفسهم.

ومع أن نقطة الضعف الوحيدة — ربما — أن عملاء السلطة، والأذناب، والذين بلا موقف من القضية، هم الذين لم يكونوا يملكون أرضًا، مثل الشيخ الشناوي وشعبان وخضرة وعلواني، فلعل السؤال الذي يعنينا: إذا كانت الأرض هي المشكلة التي تنبض بها الرواية، وإذا كان شخصياتها الرئيسة هم من الملَّاك، فأي نوعٍ من الملَّاك هؤلاء؟

إن أهالي «الأرض» هم من الكادحين، أو من صغار الملاك، وفيما عدا البك الأعزب الذي يملك ثلاثين فدانًا، فإن عشرة رجال في القرية فقط يملكون فدانًا أو أكثر منه، أما الباقون — بضعة مئات، أو بضعة آلاف — فإنهم يملكون بضعة قراريط، أو لا يملكون شيئًا.١٢٦ ولعله مما يؤكد ضآلة مساحة الأرض التي كانت في حوزة أبناء «الأرض» أن «معظم الذين يملكون أرضهم في حوض الترعة يصبحون بلا أرض إذا نفذت الحكومة مشروع الزراعية.»١٢٧ إن قرية الشرقاوي — كما يقدمها الفنان — تختلف عن قرية هيكل في أن الأولى يتشاجر فيها الفلاحون على الماء، وتحرمهم الحكومة من الري، وتنتزع منهم الأرض، وترسل إليهم رجالًا بملابس صفراء، يضربونهم بالكرابيج، وأطفالها يأكلون الطين، ويحط الذباب على عيونهم الحلوة، ورجالها ونساؤها يعانون — بعد التبول — نزول الدم والصديد، ويدهمهم المرض المفاجئ في جنوبهم، فيتلوَّى الإنسان منهم لحظة، ويطلق صرخات يائسة فاجعة من شدة الألم، ثم يسكت إلى الأبد. وعانت قرية الشرقاوي من اضطراب مواعيد الري، وذاق رجالها بول الخيل، وعرفوا القضاء والإنجليز والعمدة والحكومة، وانتصروا لبعض الوقت.١٢٨ ويلمح الفنان إلى عمومية المشكلة، في اهتمام أبناء القرى المجاورة بأمر الزراعية الجديدة التي تجنبت جسر النهر — وهو الطريق الطبيعي — لتخوض في الحقل، وتحطم الملكيات الصغيرة «وكان لكل واحد منهم أب أو أخ أو عم أو خال سيجد نفسه بلا أرض بعد أن ينُفَّذ مشروع الزراعية.»١٢٩ وقد تمثَّلت الأزمة الاقتصادية في القرية، في رحيل الفتيان والفتيات إلى المدينة بحثًا عن عمل، ثم في عودتهم أشد صفرة وهزالًا مما ذهبوا، وعودة آخرين عاشوا في المدينة طويلًا، ثم أعوزتهم الوسائل تمامًا، فعادوا لينبشوا جميعًا في طين الحقول بحثًا عن طعام. لكن الفنان يرفض النمطية في الحدث، وفي الشخصية؛ فالحياة ليست بُعدًا واحدًا فقط، وهو يحرص على «إنسانية» الشخصية الروائية بكل ما في شخصية الإنسان من تباين، وهو مما يُحسَب للعمل الفني، وللفنان، وإن افتقد الناقد ثورية الضابط شكري عبد العال. مثلًا — في «الشوارع الخلفية» — لأنه تأفف من أن يقطن عامل في بيته، أو لأن نفسه راودته لحظة في اقتناص زوجة العامل، أو لأنه حرص على الحياة بالأسلوب نفسه الذي يحياه سواه من البشر. من هنا، فإن الفنان يضغط على المأساة التي كانت تحياها قرية «الأرض»، ويضغط — في الوقت نفسه — على لحظات الهناءة، ومحاولة تجاوز المأساة. فبعض فتيان القرية قد يجدون العمل والطعام، ومن ثَم ينشغلون — أحيانًا — بفتاة تنضج فجأة، ما تلبث أن تتزوج، ويُحمَل إلى بيتها الصندوق الأحمر المخطط، فتفرغ القرية بسرعة من الهمس الشائع المعروف عن خيبة الزوج في أول ليلة، وتُعنى ثانية بهمومها، وبلحظات هناءة أخرى تالية.

•••

ما حدث في «الأرض» يطالعنا في رواية نجيب الكيلاني «رأس الشيطان»، عندما شقَّت الحكومة مصرفًا كبيرًا في الأرض المزروعة، وسُويَت إلى جانبه أرض على هيئة طريق زراعي واسع، تستطيع العربات أن تسير عليه. وكان الطريق — في ذاته — هدفًا مطلوبًا، لكن الباشا حرص أن يتفادى الطريق أملاكه وعزبته، بحيث يقع العبء كله على صغار الملَّاك.١٣٠ ومثلما حدث في «أرض» الشرقاوي، فقد تقدم فقراء الفلاحين في «رأس الشيطان» بعرائض والتماسات للمسئولين، كي يعيدوا النظر في أمر مشروع الصرف والري والطريق الزراعي.١٣١

•••

وبصرف النظر عن صعوبة شرط الثورية للعمل الفني بأن يقصر تناوله على الطبقات الأدنى في المجتمع، بل إن ذلك الشرط شجبٌ مؤكدٌ لغالبية الأعمال في المجتمعات الاشتراكية … فإن صغار الملَّاك في مجتمع ما قبل عام ١٩٥٢م، كانوا يعبِّرون عن مشكلة لا تقل في حجمها عن مشكلة عمال التَّراحيل من حيث الأعداد الهائلة لهؤلاء الملَّاك.

لقد قسَّم إبراهيم عامر القوى الاجتماعية في الريف المصري إلى ما يلي:

  • (١)

    الملَّاك العقاريين.

  • (٢)

    المزارعين الأغنياء.

  • (٣)

    المزارعين المتوسطين.

  • (٤)

    المزارعين الفقراء.

  • (٥)
    المعدمين والعمال الزراعيين.١٣٢
يتحدث المحرر في المجلة الجديدة (سبتمبر ١٩٣٠م) عن عدم ملكية المصريين لمصر «وإنما يملكها من يمتلك الأرض الزراعية فيها، وهم ٢٠٩٧١٢٢ مالكًا، وسائر الأمة الذي يبلغ ١٣ مليونًا، لا يملك شيئًا من هذه الأرض. وأغرب من هذا أن يملك نصف الثروة الزراعية في مصر أقل من ١٣ ألف نفس.» وكانت سمعة كبار الملَّاك الزراعيين سيئة للغاية، لعدة أسباب، في مقدمتها تأييدهم المعلَن لكل الجهات التي تقف ضد أماني الشعب، كالسراي والسفارة البريطانية وحكومات الأقلية، فضلًا عن حياة البذخ، والإقبال على الشهوات التي كانت سِمة لأبناء تلك الطبقة بصورة عامة. وفي ١٩٣٢م كان ١٩٤٠٠٠٠ شخص لا يزيد ما يملكه الواحد منهم عن خمسة أفدنة، وثلاثة أرباعهم لا يزيد ما يملكه كلٌّ منهم عن فدان واحد. أما أجرة عامل الزراعة، فإنها تتراوح بين ستة وثمانية قروش يوميًّا في أوقات الرخاء، وثلاثة أو أربعة قروش في الأزمات المالية، مثل الأزمة وقتذاك. وكان عدم رفع أجور العمال هو الاتفاق غير المكتوب الذي يحرص عليه مالكو الأراضي؛ لأن الذي سيرفع الأجور سيأتيه العمال ويتركون غيره، فيضطر هؤلاء الغير إلى رفع الأجور، ويضار كل الملَّاك، بينما يستفيد العمال فقط!١٣٣ وقد طرأ تغيُّر بعد مُضي أربعة أعوام — ١٩٣٦م — فبلغ متوسط ما يزرعه الفلاح من أرض مصر حوالي ١٫٦٦ فدان، ومتوسط ما يملكه الفلاح من أراضٍ لا يتجاوز فدانين وثلاثة وعشرين في المائة من الفدان. وكان التحليل الدقيق لحقيقة الملكية الزراعية ينتهي إلى أن أكثر من نصف ملَّاك الأراضي الزراعية في مصر يعيشون في المستوى نفسه الذي يحياه العمال الزراعيون.١٣٤ بلغ عددهم ١٦٧٥٦٢٣، يملك الواحد منهم متوسطًا قدره ٤١٪ من الفدان، ولأن نصف الفدان لم يكن يُغلُّ — في أفضل الظروف — أكثر من خمسة جنيهات في العام، بعد استبعاد التكاليف المختلفة. بينما كان العامل الزراعي يتقاضى ستة جنيهات في العام، بدل ثلاثة قروش في اليوم لمدة تصل إلى مائتي يوم، بحيث يتفوق حال العامل الزراعي — نسبيًّا — على حال المالك الصغير للأرض!١٣٥
وكان من بين الأشياء التي تُحسَب لوزارة سعد زغلول تعميم الملكيات الصغيرة، ببيع أكبر جزء ممكن من أراضي الحكومة لصغار المزارعين؛ من هنا، زاد التفاف صغار الملاك حول الوفد. وكانت الملكية الزراعية في بعض المحافظات — المنوفية مثلًا — مفتَّتة إلى ملكيات صغيرة للغاية تصل إلى أقل من فدان واحد في المتوسط، وفي المقابل من ندرة الملكيات الكبيرة (٣٠ فدانا فأكثر)، حتى إن الإصلاح الزراعي لم يستولَ عند تطبيق القانون (١٩٥٢م) على أكثر من ٢٠ ألف فدان.١٣٦
وذهب رضا حمادة (المرايا) إلى أنه «لا نجاة لنا إلا بإبادة السراي وأحزاب الأقلية، ثم نواجه الإنجليز كتلة واحدة.»١٣٧

•••

نحن نلحظ أن صوت الاحتجاج على واقع القرية المصرية، إنما يأتي من خارج القرية. ذلك ما يطالعنا — على سبيل المثال — في «يوميات نائب في الأرياف»، وفي «عاصفة فوق مصر»، وفي «حواريات» عبد المنعم سليم؛ أخرس الفلاحين ظلم القرون، على حد تعبير الفنان.١٣٨ ويعلو صوت الفنان على الورق «إنه الريف القذر الذي أعرفه دائمًا، ولا فائدة تُرجى منه.»١٣٩ وتقول سوسن هانم (الرجولة قبل كل شيء): «أريد أن أعرف لماذا يرضى الفلاحون بأكل الخبز المصنوع من الذرة بغير غموس، اللهم إلا المش والخل، ثم لا تحدِّثهم نفوسهم بالثورة؟!»١٤٠ وفي المقابل، فقد كان كبار الملَّاك وطبقة الأرستقراطية يرفضون أية دعوة لإصلاح أحوال الفلاح، واعتبروها «دعوة خطرة». نسبت مجلة «الأدب الحي» إلى قليني فهمي باشا قوله: «أما الفلاحون الصغار، أو الأجرية، فأهم شيء يلزم عمله لإصلاح حالهم وتحسين معيشتهم، هو ردم البرك والمستنقعات المحيطة بمساكنهم، إنقاذًا لصحتهم من الأمراض التي تتوالد بها. كذلك يجب إنشاء دورات مياه صحية في كل قرية، وإمدادهم بمياه صالحة للشرب؛ هذه هي أهم المطالب. أما النغمة القائلة بتشييد القرى النموذجية، وتجهيز بيوتها بالغرف الوجيهة والحمامات البديعة، فضلًا عن إنارتها بالكهرباء، وتزيينها بالمقاهي وأماكن اللهو والتسلية، فهذه مظاهر لا تفيد الفلاح، بل تفسده؛ لأنها تؤخره عن عمله، وتدعوه إلى النفور من طبيعته الخشنة التي ألِفها، وتعوَّد عليها آباؤه وأجداده.»١٤١ أما محمود خيرت فهو يعلن دهشته (١٩٢٨م)؛ لأن الكثير من المتحضرين — على حد تعبيره: «حين يذكرون الفلاح يتألمون له، ويتوجعون لحاله؛ لأنه يسكن أحقر البيوت، ويتناول دنيء الغذاء، غير كد النهار تحت حرارة الشمس المحرقة، ولو أنهم علموا أنه أهنأ منهم حالًا، وأنعم بالًا، لحسدوه. إن الفلاح ربيب الطبيعة، يعيش في أحضانها بين هوائها الطلق وتحت شمسها المنعشة، لا يأكل غير بسيط الطعام، فلا يؤذي معدته، ويدأب على العمل فلا يضعف جسمه، ويندر أن يتطرق إليه المرض، ورئتاه تستنشقان الهواء، والشمس من فوقه ترسل إليه أشعتها الدافئة، فكأنه تحت رشاشة يتدفق من مسالكها النور، وفوق هذا بُعده عن متاعب المدينة وهمومها.»١٤٢ غفر الله لبيرم التونسي «محلاها عيشة الفلاح»! بل إن بعض ملَّاك الأراضي كان يرفض النظرة المشفقة لفلاحي القرية المصرية؛ «إن تلك الحياة هي الأليق بهم؛ لأن مظهرهم المستكين يخفي غدر الذئاب ومكر الثعالب!»١٤٣

الهجانة

الهجانة هم عصا التأديب التي تلجأ إليها السلطة في مواجهة التمرد الذي قد يعلنه الفلاحون. يفاجأ أبناء القرية بصيحات الهجانة، ولذعات الكرابيج: «ادخل جوه، جوه يا زول، ممنوء، جوه البيت انتي وهوه.»١٤٤ الكرباج — كما يقول الراوي — هو لغة الهجانة.١٤٥ صورة الهجانة عند أبناء القرى، هي الجندي الأسمر البشرة، يركب الحصان أو الجمل، يتحرك ببطء والسوط السوداني الحامل للموت في يده، والشراسة تبدو في وجهه المشروط.١٤٦ إنهم يركبون الجمال، وفي أيديهم الكرابيج، تبعث بشرتهم السمراء الرهبة في نفوس الكبار والصغار، يلوذ الناس بداخل دُورهم، لا يتركونها، ويفرُّون من الحر بالجلوس على الأسطح المفروشة بالقش.١٤٧ ذلك كان دور الهجانة في قصة علي الدالي «عمدة الناحية»، عندما فرضوا على القرية أن تنام من المغرب، وألهبوا ظهور رجالها بكرابيجهم لأتفه الأسباب، وذلك أيضًا كان دورهم في «أرض» الشرقاوي.١٤٨ وكان للهجانة دورهم في اقتياد الآلاف من أبناء القرى للالتحاق بقوات الإنجليز في حربها ضد دولة الخلافة، يقيدونهم في حبلٍ طويلٍ، ويقلهم القطار إلى معسكرات الجيش في القاهرة.١٤٩ وعندما حدثت معركة بين الجعافرة والسوالم، قدِم الهجانة، فمكثوا قرابة الشهر يأكلون ويشربون ويطلبون من الناس المعروف، وما يحبون من الخبز واللحم والسكر والشاي وأطباق الحلوى والفطائر، وثمن الدخان والفواكه، ويُلزِمون الناس البيوت.١٥٠ وقد طالما سمع تحسين (القضبان) وهو صغير حكايات من أبيه عن عساكر الهجانة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلًا، وإذا نزلوا في أرضٍ كان مصيرها الدمار. وروى الأب أن شباب قريته أفلحوا في القبض على أحد عساكر الهجانة، وشقوا صدره، فوجدوه بلا قلب.١٥١
«حين تعلو أصوات الهجانة، أو الكتربند، التسمية التي أطلقها عليهم أبناء القرى،١٥٢ التي لا يفهمها أهل القرية، فمعنى ذلك أن يختفي الجميع داخل البيوت، ومن يصلون إليه قبل ذلك، عليه أن يتحمَّل لسعات الكرابيج التي تمزِّق جسده، دون أن تبالي بصراخه، أو يتقدم أحد لإنقاذه. لا تفرقة بين صغير وكبير، ولا بين غني وفقير، فجميع الناس يصبحون في نظر هؤلاء العساكر مستحقين للضرب إذا ظهروا في شوارع القرية في أوقات حظر التجول، وهذا هو الحق الوحيد الذي لا يفهم هؤلاء الجنود لحياتهم معنًى إلا في أدائه على الوجه الأكمل.»١٥٣ لكن أهل القرية لا يستسلمون لحظر التجول، لحكم الأصوات غير المفهومة والكرباج والأبواب المغلقة على القاطنين داخل الدُّور. إن جنود الهجانة ينطلقون في شوارع القرية لفرض سطوة القوة، لكن القرية تخلق لنفسها شوارع أخرى تنتقل خلالها، ويخلق الأطفال لأنفسهم أجرانًا جديدة للعب، فدُور القرية كلها من طابق واحد، وكلها متلاصقة، والحارات الضيقة التي تفصل بين دُورها مما يسهل عبورها قفزًا «وهكذا تتحوَّل الأسطح إلى شوارع تشغى بالحياة.»١٥٤ ولعل إصرار أبناء هذه القرية على ممارسة حياتهم على النحو الذي ألِفوه يذكِّرنا بقصة يوسف إدريس «الطابور». السور الذي أقامته الشركة لمنع الناس من الوصول إلى السوق عبر أراضيها، لكن الطابور البشري كان يصنع ثغرة في السور ليواصل سيره.

•••

واللافت أن قبائل البشارية والعبابدة هي غالبية المصدر البشري الذي يمد سلاح الحدود بجنود الهجانة،١٥٥ وإن كانت نسبة الهجانة — بعامة — إلى أبناء السودان.
والواقع أن جنود الهجانة كانوا بعض مظاهر التفرقة التي حاول الاستعمار البريطاني غرسها في وادي النيل؛ فالمصريون غزاة ومستعمرون، والسودانيون أدوات لإرهاب الشعب المصري. ولعل موَّال «ياسين وبهية» معلَم بالغ الدلالة في هذا الاتجاه، فقد صرع الجنود السودانيون ذلك الشاب المصري الذي تغنَّت به الملاحم.١٥٦ وقد حاولت السلطات الحاكمة في مصر أن تسير في الدرب نفسه، في استعانتها بالجنود السودانيين، فكانت فِرق الهجانة أدوات قهر وإرهاب مثلما حدث في «الأرض». وفي أثناء أزمة الحكم ما بين يناير ويوليو ١٩٥٢م، حاولت السراي تجنيد جيش من أبناء السودان ليمارس دورًا في إرهاب الجماهير المصرية، لكن الصحافة التقدمية في السودان تنبَّهت إلى المؤامرة، وفضحتها. كتبت جريدة «الصراحة» السودانية على سبيل المثال في أبريل ١٩٥٢م: «نحن نعلم لمصلحة مَن يُجنَّد الجيش الذاهب إلى مصر، ونعلم أن الطبقة الحاكمة المصرية تكرهنا وتحتقرنا، مثلما تكره أشقاء الشمال، فهل نسكت عن إرسال جيش سوداني يُعتبَر خنجرًا مسمومًا مسددًا إلى ظهر الشعب المصري؟»١٥٧

هوامش

(١) محمد البدوي، الأرض والصدى، دار المعارف بتونس، ٧.
(٢) محمد زكي عبد القادر، أبو مندور، ١٧٢.
(٣) يوسف الشاروني، الرواية المصرية المعاصرة، كتاب الهلال، ١٠٧٣، ٣٧.
(٤) عبد الرحمن الشرقاوي، الأرض، دار النشر المصرية، ١٩٥٤م، ٢٨.
(٥) الريف المصري، ٧٠.
(٦) أحاديث جديدة، ٥٤.
(٧) محمود البدوي، الليل والرحيل، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٨) محمد صدقي، وجه الحياة.
(٩) الأرض، دار النشر المصرية، ١٥٨.
(١٠) رجاء النقاش، عباس العقاد بين اليمين واليسار، ٣١.
(١١) محمد عصفور، فلنحطم الأغلال، ١٤٧.
(١٢) بداية ونهاية، ٢٠٧.
(١٣) الأرض، دار النشر المصرية، ٢٣٠.
(١٤) فوزية أسعد، بيت الأقصر الكبير، هيئة الكتاب، ١٧٩-١٨٠.
(١٥) الأرض، دار النشر المصرية، ٧٤.
(١٦) المصدر السابق، ٦٥.
(١٧) نفسه، ٧٢.
(١٨) نفسه، ١٢٩.
(١٩) نفسه، ١٨٧.
(٢٠) نفسه، ١٧٨.
(٢١) يوسف إدريس، أكبر الكبائر، بيت من لحم، عالم الكتب.
(٢٢) خليها على الله، ١٢٥.
(٢٣) الأرض، دار النشر المصرية، ٢٨٣.
(٢٤) المصدر السابق، ١٧٢.
(٢٥) نفسه، ١٢٤.
(٢٦) نفسه، ٦٨.
(٢٧) نفسه، ١٣٨.
(٢٨) نفسه، ٦٣.
(٢٩) نفسه، ٦.
(٣٠) نفسه، ٣٠.
(٣١) نفسه، ٣٩.
(٣٢) نفسه، ٣٧.
(٣٣) نفسه، ٤٧.
(٣٤) نفسه، ٢٢.
(٣٥) نفسه، ١٢١.
(٣٦) نفسه، ٧٦-٧٧.
(٣٧) نفسه، ١٠٥-١٠٦.
(٣٨) نفسه، ٢٣٢.
(٣٩) نفسه، ٢٤.
(٤٠) نفسه، ١٤٥.
(٤١) نفسه، ١٣٨.
(٤٢) نفسه، ٢٠١.
(٤٣) نفسه، ٢٤٨.
(٤٤) نفسه، ٢٦٧.
(٤٥) نفسه، ٢٧٣.
(٤٦) نفسه، ٣٥٠.
(٤٧) نفسه، ١٤٥.
(٤٨) نفسه، ٦٠.
(٤٩) نفسه، ٢٠٦-٢٠٧.
(٥٠) نفسه، ١٠٠.
(٥١) نفسه، ٢٨١.
(٥٢) نفسه، ٢٨٤.
(٥٣) نفسه، ٣٤٦.
(٥٤) نفسه، ٣٦٣.
(٥٥) نفسه، ٣٩٠.
(٥٦) نفسه، ٣٤٦.
(٥٧) نفسه، ٣٧٥.
(٥٨) نفسه، ٤٢.
(٥٩) نفسه، ٤١.
(٦٠) خضرة في «الأرض» هي ربيعة في «دم ابن يعقوب» لشوقي عبد الحكيم.
(٦١) الأرض، دار النشر المصرية، ٥٣.
(٦٢) المصدر السابق، ٥٣.
(٦٣) نفسه، ١٥٩.
(٦٤) نفسه، ٩٦.
(٦٥) نفسه، ٢٠٩.
(٦٦) نفسه، ١٠٨.
(٦٧) نفسه، ٨٠.
(٦٨) نفسه، ٨٠.
(٦٩) نفسه، ٢٦٣.
(٧٠) نفسه، ٢٣٨.
(٧١) نفسه، ٢٥٢-٢٥٣.
(٧٢) نفسه، ٢٥٥.
(٧٣) نفسه، ٢٦١.
(٧٤) نفسه، ١٢٦.
(٧٥) نفسه، ١٣٩.
(٧٦) نفسه، ١٦٣.
(٧٧) نفسه، ١١٧.
(٧٨) نفسه، ٩٢.
(٧٩) نفسه، ٩٣.
(٨٠) نفسه، ٥٥.
(٨١) نفسه، ٧١.
(٨٢) نفسه، ٩٠.
(٨٣) نفسه، ٩٤.
(٨٤) نفسه، ١٩.
(٨٥) نفسه، ١٨٦.
(٨٦) نفسه، ٢٧٨.
(٨٧) نفسه، ٧٥.
(٨٨) نفسه، ٨٨.
(٨٩) نفسه، ٩٠.
(٩٠) الدستور والاستقلال، ١٠٥.
(٩١) رأس الشيطان، ١٠٥.
(٩٢) الأرض، دار النشر المصرية، ١٩.
(٩٣) المصدر السابق، ١٠١.
(٩٤) نفسه، ١٢٧.
(٩٥) نفسه، ١٢٧.
(٩٦) نفسه، ٩٨.
(٩٧) نفسه، ٣٣٤-٣٣٥.
(٩٨) نفسه، ٣٨١.
(٩٩) نفسه، ٤٠٦.
(١٠٠) نفسه، ١٢٩.
(١٠١) نفسه، ٥٨.
(١٠٢) نفسه، ٦١.
(١٠٣) نفسه، ٢٣٦.
(١٠٤) نفسه، ٢٣٦.
(١٠٥) نفسه، ٦٩.
(١٠٦) نفسه، ٧٠.
(١٠٧) نفسه، ٢٩٦.
(١٠٨) نفسه، ٢٩٧.
(١٠٩) نفسه، ٢٩٤-٢٩٥.
(١١٠) نفسه، ٢٩٧.
(١١١) نفسه، ٣٠٠.
(١١٢) نفسه، ٣٠٢.
(١١٣) نفسه، ٣٠٦.
(١١٤) نفسه، ٣٠٧.
(١١٥) نفسه، ٣١٠.
(١١٦) نفسه، ٣١٤.
(١١٧) نفسه، ٣٢١.
(١١٨) نفسه، ٣٢١.
(١١٩) نفسه، ٣٤٢.
(١٢٠) نفسه، ٣٥٩.
(١٢١) نفسه، ٣٥٧.
(١٢٢) نفسه، ٣٦٢.
(١٢٣) نفسه، ٢٣٤.
(١٢٤) أحمد محمد عطية، الالتزام والثورة، ١٤٨.
(١٢٥) المرجع السابق، ١٤٧.
(١٢٦) الأرض، دار النشر المصرية، ٥٥.
(١٢٧) المصدر السابق، ٢٠٦.
(١٢٨) نفسه، ٣٤٤-٣٤٥.
(١٢٩) نفسه، ٢٣٠.
(١٣٠) رأس الشيطان، ٤٠-٤١.
(١٣١) المصدر السابق، ١٦٩.
(١٣٢) إبراهيم عامر، الأرض والفلاح، ١١٧.
(١٣٣) هارب من الأيام، ١٧.
(١٣٤) مصر الغد تحت حكم الشباب، ٢٨-٢٩.
(١٣٥) المرجع السابق، ٢٩.
(١٣٦) عبد المحسن طه بدر، الروائي والأرض، ١٥٩.
(١٣٧) المرايا، ١١٢.
(١٣٨) محمود البدوي، الغول، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٣٩) توفيق الحكيم، حمار الحكيم، مكتبة مصر، ٥٨.
(١٤٠) أحمد خيري سعيد، الرجولة قبل كل شيء، الفكاهة، ٢٧/ ٢/ ١٩٣٤م.
(١٤١) اليسار المصري، ٤٥.
(١٤٢) محمود خيرت، المرأة بين الماضي والحاضر، ٥.
(١٤٣) محمود طاهر لاشين، حديث القرية، الأعمال الكاملة، المجلس الأعلى للثقافة.
(١٤٤) إدوار الخراط، صخور السماء، ٢٣٧.
(١٤٥) علي شلش، عزف منفرد، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٤٦) سامي البنداري، السراية، هيئة الكتاب، ١١٠.
(١٤٧) هالة البدري، منتهى، هيئة الكتاب، ٥٨.
(١٤٨) محمد جلال، القضبان، دار الهنا للطباعة، ١٧٦.
(١٤٩) إبراهيم عبد المجيد، لا أحد ينام في الإسكندرية، روايات الهلال، ٤١.
(١٥٠) شحاتة عزيز، الجبل الشرقي، هيئة الكتاب، ٣٤.
(١٥١) القضبان، ١٧٦.
(١٥٢) محمد أبو المعاطي أبو النجا، قرية أم محمد، الابتسامة الغامضة.
(١٥٣) المصدر السابق.
(١٥٤) نفسه.
(١٥٥) الهلال، مارس ١٩٨٧م.
(١٥٦) الثابت تاريخيًّا أن ياسين كان خارجًا على القانون، وقاتلًا! (راجع «البطل في الوجدان الشعبي» للمؤلف).
(١٥٧) نقلًا عن «الطبقة العاملة والكفاح السوداني المصري المشترك»، ٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥