الشمندورة

وإذا كان عبد الرحمن الشرقاوي قد وجد في إزالة حكم صدقي منطلقًا للفلاح المصري؛ كي يتخلص من إسار واقعه، فقد كانت تلك أيضًا هي المقولة التي حاول محمد خليل قاسم أن يعبِّر عنها في رواية «الشمندورة». وقرية الشرقاوي تنتمي إلى أحد مراكز الوجه البحري، أما قرية خليل قاسم، فهي تقع في الصعيد الأعلى، في إقليم النوبة على وجه التحديد. وقرية الشرقاوي تعاني الضغوط الاقتصادية الخانقة التي فرضتها الأزمة العالمية، والإرهاب السياسي والاجتماعي لحكومة صدقي، وقرية خليل قاسم تعاني، بالإضافة إلى ذلك، خطر الفيضان الذي يعقب التعلية الثانية لخزان أسوان، وهو خطر يهدد كل أبعاد الحياة في القرى التي كان سيدهمها.

النوبة مجتمع له سِماته الخاصة، وملامحه التي تختلف — إلى حد كبير — عن الملامح والسِّمات التي تتصف بها الأقاليم المصرية الأخرى. وقد وجد مجتمع النوبة نفسه في مواجهة تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية، وديكتاتورية إسماعيل صدقي، ونتائج التعلية الثانية على البشر والأرض، بحيث واجه الخطر ديموجرافية الإقليم. يصف الراوي بناء خزان أسوان بأنه «تلوث»!١ ويخاطب الخزان بقوله: «يا مفرق الأحباب، صبُّوك على المجرى الرزين، حجزت تيار الحياة المائي ففاض وقتل نصف أراضينا غرقًا، النهر طيب مثل ناسه، لكن الخزان كتم الماء في إنائه الممدود. أجبروه على الفوران كاللبن الذي يغلي، فعلا وفاض، قضم نصف الوادي الأخضر فحرقه، خنق صفوفًا من النخيل، ولوث السلسبيل، عكر الزمن الهادئ النقي، فرحلنا تاركين منازلنا البرحة، ولجأنا لمنازل عليلة تعلقت على بطن الجبل كالبثور.»٢

•••

كلمة نوبة لفظة مصرية قديمة، معناها باللغة الهيروغليفية أرض الذهب؛ حيث كانت توجد هناك مناجم للذهب. كان المصريون يسمونها «كاش»، بينما سمَّاها الإغريق «إثيوبيا». وثمة اجتهاد أن أصل قبائل النوبة منحدر من سكان وادي النيل القدامى.٣ وثمة اجتهاد أن أصول القبائل ترجع إما إلى سكان النوبة الأصليين ويُعرَفون بالنوب، أو أنها ترجع إلى أصول عربية، ويُعرَفون بالأنصار والكنوز.٤ وقبائل النوبة تسكن جانبَي الوادي، في المنطقة من جنوب مدينة أسوان إلى مشارف الخرطوم، فهي قسم في مصر وآخر في السودان.٥
أما أصل الكنوز، فكما يذهب الأنثربولوجي الأمريكي شارلز كلندر، فإن بعض القبائل العربية نزحت بعد الفتح الإسلامي لمصر في القرنين التاسع والعاشر الميلاديَّين، واتجه بعضهم نحو الشمال في صعيد مصر والمناطق الصحراوية القريبة منها، ومن ثَم اختلطوا بالأجيال المتعاقبة من النوبيين، مكونين بذلك ما يُعرَف بجماعة «الكنوز».٦ وتجمع ثقافة الكنوز بين الثقافتَين العربية والنوبية، وكما يقول هيرتزوج، فإن «الكنوز في عهد الإمبراطورية الرومانية كانوا يعانون ضغط القبائل الأفريقية في الجنوب. وعندما انسحبت الفِرق الرومانية، هاجر الكنوز شمالًا نحو أسوان، ولم يقاوم الرومانيون هذه الحركة، لأنهم رحبوا بوجود شعبٍ يفصلهم عن الشعوب المعادية، وهكذا فإن جميع الجماعات النوبية كان لها اتصال عميق بالجماعات العربية، ومن ثَم بالحضارة العربية.»٧
كانت سفينة «البوسطة» تنقل المسافرين بين مناطق السودان المختلفة. تبدأ رحلتها بعد انتهاء خط السكة الحديد في أسوان، تقطع ١٤٥ كيلومترًا في منطقة الكنوز: دابوت دهميت والإمبركاب وكلابشة وأبو هور ومرواو وماريه وجرف حسين وقرشة وقشتمنة والدكة والعلاقي وقورتة والمحرقة والسيالة والمضيق. كانت تلك أولى مناطق النوبة التي تأثرت بالتعلية الأولى لخزان أسوان.٨ ثم أصبحت الباخرة تقطع ١٢٥ كيلومترًا في قرى كورسكو وأرمنا وأبو حنظل والريقه والديوان والدر وتنقاله وتوماس وعافية وإبريم. هذه المنطقة هي قلب المنطقة النوبية، حتى إن مزروعات القرى النوبية كلها تنتسب إليها. وثمة عنيبة والجنينة والشباك ومصمص وتوشكى وأرمنا وفريق وبلانة وقسطل وأدندان التي تنتهي بها النوبة المصرية، لتمتد — بعد ذلك — نوبة السودان إلى الشلال الرابع في دنقلة.
وأبناء النوبة عمومًا يعتمدون — في معيشتهم — على أبنائهم الذين يعملون في الشمال؛ فرضت عليهم الضغوط الاقتصادية أن يهاجروا. يشربون سطل لبن، ثم يخطُون أولى خطواتهم على عتبة البيت، وهم يزدردون حبتين من التمر؛ لتقلهم الباخرة إلى الشلال، ثم يحملهم القطار إلى القاهرة، أو إلى الإسكندرية.٩ يسعى الرجال نحو الرزق في القاهرة، ويبقى العمدة مدبِّرًا لشئون الجميع، وبديلًا عن الغائبين.١٠ ويعيش الآباء والأشقاء في الشمال شهورًا أو سنوات، وربما لا يعودون أبدًا، بعضهم تنتظم رسائله، والبعض الآخر يكتفي ببضع رسائل، لتنقطع رسائله — فيما بعد — تمامًا.١١ مُن حُرِم من سندٍ في الشمال، يضطر إلى احتراف مهنٍ غير ذات عائد حقيقي، وقد لا يجد ثمن ملعقة سكر يشرب بها كوبًا من الشاي بالحليب.١٢ يتحدث الراوي عن الأهل الحارسين على مصاعد العمارات والبيوت (إبراهيم فهمي، يا مجمع العشاق، بحر النيل، هيئة الكتاب، ١٩٩٠م)، ويتحدث الراوي عن بواب إحدى العمارات، يصفه بأنه «كان — كالمألوف — نوبيًّا.» (نجيب محفوظ، سمارة الأمير، الحب فوق هضبة الهرم، مكتبة مصر). وكما يقول الراوي، فعندما شحَّ الرزق، هاجر الرجال شمالًا حيث العمل الخانع الممنطق بالأحزمة الحمراء مثل وجوه السادة الإنجليز والبكوات، هاجروا شمالًا حيث بنات بحري، الماء المالح الذي لا يروي.١٣ وفي قصة «في الأعماق» جاء محمود الغلام الأسمر من النوبة إلى القاهرة ليعمل في قصر الباشا.١٤ والخادم النوبي يتقاضى — في العادة — أجرًا مرتفعًا بالقياس إلى الخادم ابن البلد.١٥ ربما — كما يقول ديزموند ستيوارت — لأن مبعث استخدام القاهريين لأبناء النوبة هو ما اشتهر عن النوبيين من أمانة.١٦ ولكل قرية من قرى النوبة جمعية في العاصمة، يشترك فيها أبناء القرية، ويدفع كلٌّ منهم لها شيئًا من المال ليتسنَّى لها معونة من تقعد به الحاجة من أبناء القرية. والنوبي يعود إلى موطنه — غالبًا — في أكتوبر من كل عام. يأتي بالنقود والثياب والهدايا والحكايات الرائعة عن المدن البعيدة؛ ومهما طالت هجرة النوبي، فإنها تظل هجرة مؤقتة. إن الهدف الذي يحيا به، وعليه، أن يعود إلى إقليمه ذات يوم، فيقضي بقية عمره، وصور الحياة هناك لا تفارق ذهنه، ومن ثَم فهو يظل منعزلًا عن الحياة في المدينة، ويظل قطعة من النوبة بكل قِيَمها وتقاليدها وعاداتها، وهو يحرص، إذا تقدمت به السن، وشعر بدنو الأجل، على العودة إلى موطنه.١٧ والمهاجر يحرص أيضًا على صلته بقريته وناسه، وعلى الزوجة أن تنتظر عودته مهما طالت.١٨ ويتذكر الراوي أغنية «الوداع» النوبية، فيترنم بمقاطع حزينة منها، وتتمثل أمامه وهي تقف مودِّعة على الشاطئ، والباخرة تحمله بعيدًا عنها مطلِقة صفيرها المبحوح، تلوِّح له بطرحتها باكية، وهو أيضًا يبكي، وكان هذا آخر عهده بها.١٩ وتبيِّن مأساة هجرة أبناء النوبة، ومأساة النوبة عمومًا، عن ملامحها القاسية، في لقاء جابر بأبيه للمرة الأولى في القاهرة. كان الأب قد ترك الزوجة والطفل الصغير، وأمضى سني الغربة في القاهرة، لا صلة بينه وبين أسرته إلا المبلغ الشهري الذي يبعث به إليها لتدبير احتياجاتها، ثم استدعى زوجه وابنه للإقامة معه في القاهرة، وأشارت الزوجة إلى رجل، وقال: أبوك يا جابر. وارتمى الولد في أحضان من أشارت الأم إليه. شعر أن من يحتضنه هو شخص غريب، لا عاطفة مميزة نحوه «حقيقة يتذكر أن أحضانه كانت دافقة وحارة وقوية، ولكنه ظل يشعر أن ما أبداه نحوه أزيد بكثير مما يربط بينهما ساعتها.»٢٠

•••

إن النوبي — مثل كل المصريين — يحب موطنه، فما الذي دفع أبناء النوبة إلى ترك موطنهم، وطنهم؟

الباعث الأهم — واقعيًّا — هو غمر المياه لأراضي النوبة، بتوالي إقامة المشروعات المائية، مثل بناء خزان أسوان في ١٩٠٠م، ثم التعلية الثانية في ١٩٣٣م، ثم إقامة السد العالي في الستينيات من القرن العشرين. أصبحت بلاد النوبة خزانًا لمياه شمال الوادي منذ بناء خزان أسوان، وتوالَى ارتفاع مناسيب المياه بتوالِي ارتفاع تعليات الخزان، بحيث غرقت كل الأراضي الواقعة تحت المنسوب المائي، فيما عدا القرى التي أنشئت بها جسور واقية، وهي أبو سمبل وبلانة وأدندان وقسطل، فضلًا عن القرى التي اعتمدت الري الدائم والموسمي وغيرها في المنطقة الكنزية. وكان من التأثيرات المباشرة لغمر أراضي النوبة بالمياه، فقدان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ومئات السواقي، وآلاف من الأشجار والمساكن والماشية، وبات من الضروري هجرة النوبيين إلى داخل البلاد وخارجها، بحثًا عن العمل ولقمة العيش.٢١ وفيما عدا الذين سافروا إلى الشمال، فقد تجمَّع أبناء النوبة في منطقة كوم أمبو، وظلوا محتفظين فيها بنمط حياتهم.٢٢ أما العامل الأول في رفض أبناء النوبة للهجرة فهو عاطفي تمامًا؛ لقد «ولدوا جميعًا على هذه الأرض، ومن قبلهم وُلِد عليها آباؤهم وأعمامهم. إنهم جميعًا يعشقون أشجار النخيل، ويحبونها هي والأرض الزراعية والبيوت المبنية من جالوص الطين، والطوب الأخضر والنيل — شريحته المتدفقة — أمام قريتهم، يعشقونها كما يعشقون زوجاتهم، دار في خَلَدهم أن بلادهم أجمل بلاد الدنيا، وناسها أحسن ناس في العالم، هم الناس وغيرهم ركش لا طائل تحته!»٢٣ لذلك كان الأمل معقودًا على سقوط وزارة صدقي، فالأنباء تفد بالمظاهرات التي تصخب ضدها، وطوابير المتعطلين تقف أمام المصالح والشركات، والشكاوى تُرسَل من المدن والقاهرة يكتبها المتعلمون من أبناء النوبة.٢٤ ولأن هذا الأمل كان قائمًا على التمني، فقد كان ثمة أمل في ارتفاع البلدة عن الحد الأعلى لمياه الطوفان حين تقبل، وكان هناك أيضًا أمل في الحاج مكاوي صاحب الضريح الذي تتبرك به البلدة.٢٥ إن الطوفان لن يجرؤ على مقامه، والبلدة في رحابه.٢٦
أقيمت التعلية الثانية لخزان أسوان في ١٩٣٣م، لتجهز حوالي ستة مليارات من الأمتار المكعبة من المياه. وكان باشري ثمرة قاسية للطوفان الأول، والطوفان الثاني، منذ بناء خزان أسوان، ثم تعليته لأول مرة في ١٩١٢م. هجر قريته مع الآلاف من مواطنيه، فانتقلوا إلى قمم الجبال يحاولون أن يعاشروا الطبيعة القاسية، ثم أصابهم اليأس، فهاجروا إلى المدن الكبرى، أو إلى الجنوب.٢٧ ولعله من هنا كان إحساس باشري بالخطر المتوقع؛ فالناس — في تقديره — لاهون عن الكارثة المعلَّقة فوق رءوسهم؛ لأنهم لم يجربوا النار بعد. أما هو، فقد جرَّبها، ورأى الموت يزحف أمواجًا على النجوع، وزاد النائب النوبي، فقدم صورة قاتمة لمصير الإقليم، فستتهدم الدُّور، وتغوص ملايين الأشجار، وتنبش الأمواج جثث الموتى، وينتشر البعوض والبلهارسيا والإنكلستوما وأمراض العين، ويعم الوباء، وتفسد الأخلاق، وتكثر الهجرة.٢٨ يسأل الشيخ جعفر: ولماذا يقيمون الخزان ليخربوا بيوتنا؟ أراضيهم واسعة، فلماذا لا يغرقون جزءًا منها؟ يجيب بدر أفندي: الخزان يُبنى في أنسب مكان يا شيخ جعفر، وبناؤه أمر لا بد منه، فسوف تروي مياهه أراضي واسعة يقتات منها ملايين الناس. يقول الشيخ جعفر: سيعم الخير هناك، ونموت نحن من الجوع.٢٩
اقترح البعض أن يتوسط سفرجي الملك — وهو من أبناء البلدة — عند مولاه ليمنع الطوفان،٣٠ وحاول البعض أن يؤخروا التسجيل، توهمًا أنه كلما تعطل التسجيل، كلما تأخر الطوفان، لكن بركات أفندي صارحهم بأن الطوفان سيأتي بعد أشهر، بصرف النظر عن التسجيل.٣١ وحين بدا رفض التسجيل واضحًا، اقترح بديع أفندي إحضار قوة من الجيش «لا بد من ضباط وعساكر، والمصيبة إن علينا تسجيل آلاف من أشجار النخيل، داهيتنا سوداء، لن ننتهي من عملنا إلا بعد سنوات.»٣٢ كان أخوف ما يخافه الأهالي أن تستغل حكومة صدقي ما يحياه الناس من أزمات اقتصادية حادة، فتتعسف، وتعمل على خفض التقديرات الأولية التي أعدتها حكومة الوفد للتعويضات.٣٣ لكن المستر هيس باشا مدير مصلحة المساحة والري، راح يتحدث إلى الأهالي عن الحب المفرط الذي يكنه للنوبيين جلالة الملك فؤاد المعظم، وصدقي باشا، ومحمد شفيق باشا وكيل وزارة الأشغال، وأخبرهم بأن «الأفندية» سيمكثون عند العمدة، ويسجِّلون الأطيان والنخيل حتى تستقر الحكومة على تقديراتها الأخيرة للتعويضات.٣٤ وحدث ما تخوَّف منه أبناء النوبة بالفعل، فقد استغل صدقي ما كان يعانيه الناس، فخفض التعويضات إلى الربع: النخلة بعشرين قرشًا، والغرفة بأربعة جنيهات، والفدان بأربعين جنيهًا.٣٥ ويذكر إبراهيم شعراوي تقديرات أخرى، فقد قدر فدان الأرض في المتوسط بثلاثين جنيهًا، والنخلة بثلاثين قرشًا، وثمن الحجرة في كل بيت بأربعة جنيهات، رُفعَت — أحيانًا لبعض ذوي النفوذ — إلى عشرة جنيهات، وتمت التعويضات على تلك الأسس.٣٦ كان من بين الأسئلة المطروحة: وهل يقبلنا الناس، وعاداتنا ليست مثل عاداتهم؟٣٧ ويتساءل عبد الله الجزار: ولكن لماذا لا نرحل إلى السودان، المهدي يرحب بنا هناك؟
يجيب الأستاذ بحماس: مجرد إشاعات. صحيح إن السودانيين إخوتنا، صحيح الأراضي واسعة هناك، ولكنها تموت من العطش، والذين يحكمون هناك ليسوا إلا إنجليزًا حمر الوجوه، يكرهون الجميع: المصريين والسودانيين، ويكرهوننا نحن سواء بسواء. إنهم يريدون استغلال نكبتنا لينقلونا إلى السودان، ثم يدَّعون على مصر حقوقًا، أنسيتم حادث السردار؟!٣٨ لكن البعض كان يخشى الرحيل إلى القاهرة، أو إلى المدن المصرية عمومًا، بسبب اللون، من هنا كان ترحيب هؤلاء بالهجرة إلى السودان: في السودان لن يعيِّرنا أحدٌ بسواد وجوهنا كما يفعلون في القاهرة.

– وماذا يفعلون؟

– يضحكون علينا في الطرقات. هناك رجل اسمه علي الكسار، يسمي نفسه بربري مصر الوحيد! والعيال يجرون خلف أكبر كبير منا وهم يصرخون: البربري أهو! البربري أهو!٣٩
وأخيرًا، صدر القانون رقم ٦ لعام ١٩٣٣م، ويقضي بنزع ملكيات كل الناس، وليس من حق أحد أن يرفع دعوى على الحكومة بسبب نزع الملكية، ولا بسبب تقدير التعويضات.٤٠ ويتعالى صوت برعي في حسم: يجب أن نقاطع التعويضات.

– وكيف نقاطعها؟

– لا تذهبوا إلى مكان صرفها.

– وإذا جاءوا إلى بيوتنا؟

– أغلقوا الأبواب في وجوههم!٤١
لكن تكاتف الجراد وسوء المحصول وانخفاض أسعار البلح والمجاعة، صنعوا قوة ضاغطة جعلت الأهالي على استعدادٍ لقبول التعويضات، دون نظر إلى عدالتها.٤٢ بدت اللوتارية — أحيانًا — هي الملاذ من الأزمة الخانقة. يقول جمال لزنوبة: اصبري يا زنوبة، اشتريت اليوم ورقة لوتارية، لعلها تكسب ونأكل ما نشتهيه!٤٣
وحاول العمدة أن يحُول بين أهالي قريته وصرف التعويضات، وكان يشير إليهم — في غيبة نظرات أفراد لجنة التعويضات — أن يرفضوا.٤٤ فالعمدة ابن القرية، وُلِد وعاش فيها، ويدرك المصير الذي ينتظره والناس. أراضيهم وقبور أجدادهم ذات الشواهد والحجارة البيضاء ستغوص في اليم. وإذا كان الناس يجأرون بالشكوى، فهو مثلهم يشكو، وإن كانت وظيفته تدفعه إلى مداراة الموظفين، وتملُّقهم، والعمل — مضطرًّا — على راحتهم.٤٥
كانت المشكلة في البداية أن يتقدم مخلوق واحد؛ أي إنسان، لتكسير طوق المقاطعة، ويصرف تعويضاته، ومن ثَم تدور العجلة وتنتهي المقاطعة.٤٦ وقد لجأ غطاس بيه — رئيس لجنة التعويضات — إلى الوسيلة التي اعتبرها — في ظروفهم القاسية — مناسبة تمامًا لبدء عملية الصرف، فهو قد حمل رزمة من الأوراق المالية الخضراء، ورفعها أمام عيونهم.٤٧ وضعفت النفوس حينًا، لكنها ظلَّت على إصرارها. ثم فشلت كل محاولات غطاس بيه وبقية الموظفين، فراحوا يتسلون بالتندر على الناس ولعب الورق وانتظار الشخص الذي يبادر بصرف تعويضاته، فيحطم حصار المقاطعة.٤٨
وعلى الرغم من أن الأهالي قرروا رفض التعويضات، وأقسموا على المصحف بذلك، إلا أنهم رضخوا — في النهاية — أمام قسوة الواقع. وكانت بداية فك الحصار، حين عقد المفتش الإنجليزي اتفاقًا مشبوهًا مع عمدة قرية «كروسكو» يتكفل فيه المفتش بشطب كل القضايا التي تُرفَع ضد العمدة لقاء إقناع العمدة لأهالي قريته بأن يصرفوا التعويضات.٤٩ ثم مثَّلت خيانة عبد الله الجزار، الذي صرف تعويضاته بزيادة خمسين جنيهًا، دافعًا لأن يتبعه آخرون، وقامت خناقات، وعلت كراسي، واستلَّت خناجر … لكن جسر المقاطعة كان قد انتهى إلى غير رجعة، فالجوع كافر!
بدأت مشكلة جديدة تطرح نفسها، وهي كيفية الإفادة من التعويضات في تأمين المستقبل، فأحدهم يُعِد نفسه لفتح مقهًى بأسوان، وآخر يزمع إنشاء جراج في الإسكندرية، ويفضِّل ثالث إقامة بوفيه في القاهرة أو الإسكندرية، وينصح رابع بمحاولة تربية الماشية.٥٠ بل إنهم وجدوا في المأساة فرصة لتغيير حياتهم. قال المحامي النوبي: «آه لو كان من أبنائنا مهندسون وأطباء. وأضاف: علينا أن نعلم أولادنا ليصبحوا أطباء وأساتذة، فيحترمنا الحكام، فلا سبيل إلى الاحترام غير المال، ولا حيلة لنا فيه، وغير التعليم. ولكن الآباء يفضِّلون إرسال أبنائهم إلى مصر ليخدموا في البيوت، ينحنون للذي يستأهل والتي لا تستحق، وللبيه الكبير والبيه الصغير صغر عقلة الصباع، والست، الست الصغيرة.»٥١ ثم حسم كلَّ المشكلات والأسئلة والقضايا، إنذار الحكومة بتحديد خمسة عشر يومًا، يأتي من بعدها الطوفان.٥٢ وأغلقت العيون الحديدية، وبدأت المياه ترتد إلى الخلف. غزت القرى الشمالية، ثم فاضت على الجانبين، وأسرعت إلى الجنوب فاكتسحته. وراح الأهالي — بأيديهم — يقوضون كل شيء: السواقي والشواديف والبيوت والحظائر. واستعدت الصنادل لنقل البشر والحيوان والأمتعة (قالت الجدة: نزعونا من جذورنا، فصرنا كالهيش (حجاج حسن أدول، أديلا يا جدتي).) واستغل الأهالي التعويضات التي دفعتها لهم الحكومة في بناء دُور جديدة فوق سطح الهضبة، وعلى المدرجات العالية، وفي شراء الأراضي الزراعية في مناطق المشروعات الجديدة. واللافت أن الأهالي اكتفوا — لفترة — في موطنهم الجديد بترديد حكايات السرقة والقتل والاغتصاب، مما يرويه العمال الصعايدة. حتى كانت ليلة سرق فيها أحدٌ متاجرهم، فتنبَّهوا إلى الخطر الذي لم يكن يخطر لهم ببال، وبدءوا يتخذون وسائل الدفاع عن أنفسهم، وعرفوا البنادق المحشوة، والحراسة الليلية، والترقب، والحذر.٥٣ ثم انتهى كل شيء بمأساة كاملة، فقد شبَّت الحرائق فجأة في الخيام التي كانت بداية الموطن الجديد، واستمرت يومين كاملين، ضاع بعدها كل شيء: المحصول والخيام والتعويضات … والنفوس أيضًا! وامتدت يد العون من قرى مجاورة، لكن القرار بدأ يفرض نفسه: لا مقام لنا هنا، يجب أن نرحل إلى مصر أم الدنيا، نقوم هناك بأي عمل.٥٤ وأخذ النجع يخلو من كل إنسان؛ لم يبقَ إلا بعض العجائز الذين يشدهم رباط الألفة إلى موطن العمر كله.
وحين أقيم مشروع جبل الأولياء في ١٩٣٧م ليساعد في الانتفاع بمياه خزان أسوان بعد الفيضان،٥٥ ازدادت قرى النوبة — بتلك التعلية — طردًا لأبنائها القادرين على العمل؛ نزحوا إلى الشمال، تاركين الأهل والزوجات والأولاد.٥٦ لم يعُد في منطقة النوبة إلا بضع عشرات من الألوف، يعتمدون في حياتهم على أبنائهم وإخوتهم المنتشرين في المدن المصرية. وحتى عام ١٩٤٧م لم يكن في منطقة النوبة كلها سوى مدرسة ابتدائية واحدة، تستوعب ثلاثمائة تلميذ فقط، ومستشفى واحد في بلدة «عنيبة» يعمل فيه طبيبٌ واحد. وكان التهجير عاملًا مباشرًا في اتجاه عددٍ من مثقفي النوبة إلى اليسار «ساعد على ذلك، أي على تكوين القسم النوبي في الحركة المصرية للتحرر الوطني «ح. م. ت. و»، ترابط النوبيين، والأزمة التي كانوا يعيشونها عقب التهجير.»٥٧

•••

في ٢٥ أغسطس ١٩٣١م قُبِض على أحد الشبان في القطار القادم من الإسكندرية إلى القاهرة، والذي كان سيقل إسماعيل صدقي. ووُجِهَت إلى الشاب تهمة الشروع في قتل رئيس الوزراء بآلة حادة. وكان اسم الشاب حسين محمد طه، موظف بهندسة السكة الحديد، ووالده محمد بك طه عضو مجلس النواب عن دائرة «الدر» بالنوبة. وأصدرت محكمة الجنايات حكمها عليه بالسجن لمدة سبع سنوات.٥٨ وكتب الراوي في «أزهار» عن المؤامرة لاغتيال رئيس الوزراء، حيث قُبِض على شاب سوداني يرتدي زيَّ الخدم، اندسَّ في عربة البولمان بالقطار الذي كان رئيس الوزراء يستقله من الإسكندرية إلى القاهرة، وعندما فُتش الشاب، عثر معه تحت ملابسه على بلطة مرهفة، كان ينوي أن يطيح بها بحياة رئيس الوزراء.٥٩

كانت محاولة الاغتيال تأكيدًا لرفض أبناء النوبة للتعلية الثانية — وقفزت النوبة — بناسها وأحداثها وما تعانيه، إلى مقدمة الاهتمامات.

والواقع أن دور حكومة صدقي في تعلية الخزان، وما صحبها من إغراق أراضي النوبيين وتعويضهم عنها، كان استمرارًا لما بدأته حكومة الوفد. لكن الممارسات القاسية لرئيس الوزراء إسماعيل صدقي، وضعته — بمفرده — في إطار المسئولية لما حدث، ولما يحدث، ولما سيحدث، حتى إن الشيخ عبد الغفور الذي يعلم جيدًا قصة التعلية منذ بدايتها، يقول في بساطة: لا شيء! لا شيء! صدقي باشا لن يقدم لنا شيئًا، الداهية ابن الداهية، حتى الدموع لن يذرفوها علينا، لو كان النحاس باشا لتبدَّل الحال!٦٠
اختار حسين طه دربًا مغايرًا لكل الدروب التي سلكها أبناء النوبة، والتي تحددت في التماسات وشكاوى ومطالب، برفع قيمة التعويض. فضَّل الشاب أن يلجأ إلى ضربة مميتة، تريح الأمة من أصل المشكلة في تقديره، من صدقي باشا.٦١ «سيكون للحادث دوي، ثم يستريح الشعب، وقد يكف الطوفان.»٦٢ والواقع أن حسين طه لم يقدِم على محاولة اغتيال صدقي لسببٍ عاطفي، مثل التهجير من الموطن، أو نحوه، لكنه قلَّب الأمر وناقشه بعقلانية تامة، فللخزان — بلا جدال — أهميته وضرورته، لكن ما فائدة أن تتم التعلية في ظل حكومة غير دستورية؟ ما معنى أن يشرف قسم من المصريين على الهلاك، بينما قسم آخر، ضئيل، يظفر بكل شيء؟!٦٣ وفي المقابل، فقد كان رفض بدر أفندي محاولة اغتيال صدقي، تقديره لحقيقة الرجل — صدقي — وأنه ليس أكثر من ذئب، وأن قطع جسد الذئب لا يعني شيئًا إن ظلَّت الرأس صاحية، والرأس — بلا شك — هو الإنجليز! كان هَم الرجل إذن خروج الإنجليز أولًا، ليسهل بعد ذلك تصفية كل الأذناب والقضاء عليهم.٦٤
رفع حسين طه البلطة التي أعدَّها لقتل صدقي، وكاد يهوي بها على رقبة الرجل لولا أن شُلَّت يده فجأة؛ أمسكت بها قبضة حديدية هائلة، لوَت ذراعه بقوة، ثم امتدت قدم وضربت ساقه ضربة قاسية تدحرج بتأثيرها على الأرض، ثم أحس أنه يهوي إلى بئرٍ سحيقة الأغوار، وأن كابوسًا ثقيلًا ينيخ على صدره.٦٥ وألقى البوليس القبض على برعي والمأذون وأحمد محمود وعدد كبير من شبان القرى المختلفة، وأودعهم سجن المركز الذي كان خاليًا من قبل دومًا. ولم يكن أحد منهم يعرف السبب الذي قُبِض عليه من أجله، وكانوا يتساءلون: من هو حسين طه الذي أخذ اسمه يتردد بعد أن نطق به المأمور؟٦٦ إذن، فقد كان فشل أحد النوبيين — لا يعرفه أبناء القاهرة! — في اغتيال إسماعيل صدقي، في عربة البولمان بالقرب من بنها، سببًا مباشرًا في اعتقال أعداد كبيرة من أبناء النوبة المقيمين في إقليمهم. ربطت الحكومة بين الحادث والبيانات والشكاوى والمطالب التي كانت تفِد إليها من النوبة وتهملها، فساقتهم جميعًا مكبَّلين بالأغلال إلى سجن الأجانب في القاهرة، فمن المؤكد — في تقديرات المحققين — أن الحادث ليس نتاج تفكير فردي، لكنه نتاج مؤامرة جماعية شارك في نسجها هؤلاء البرابرة!

هوامش

(١) حجاج حسن أدول، الرحيل إلى ناس النهر، ليالي المسك العتيقة، الحضارة للنشر والتوزيع.
(٢) المصدر السابق.
(٣) محمود أحمد الحفني، الموسيقى الشعبية في النوبة، الفنون الشعبية، يونيو ١٩٧٠م.
(٤) مجلة العلوم الإدارية، العدد الأول، مجلد ١٣ / ٨٢.
(٥) راجع كتابنا «مصر المكان»، المجلس الأعلى للثقافة.
(٦) الفيصل، العدد ٨٩، ص ٨٤.
(٧) المرجع السابق.
(٨) إبراهيم شعراوي، مناشدة من أجل إنقاذ الشعر النوبي، الشعر، العدد ١٢.
(٩) محمد خليل قاسم، الشمندورة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ٤٠.
(١٠) رفعت السعيد، اليسار المصري، ١٩٩٢م.
(١١) الشمندورة، ٤١.
(١٢) أديلا يا جدتي.
(١٣) الرحيل إلى ناس النهر.
(١٤) عباس خضر، في الأعماق، العجوز والحب، هيئة الكتاب.
(١٥) إحسان عبد القدوس، أين عمري؟، مكتبة مصر، ١٩٧٨م، ١٨٨.
(١٦) ديزموند ستيوارات، القاهرة، ١١٤.
(١٧) محيي الدين صابر، البدو والبداوة، مطبوعات اليونسكو العربية، ١٠٦.
(١٨) المرجع السابق، ١٠٧.
(١٩) إدريس علي، غدر الغرياني، مطبوعات الفجر، ١٩٨٤م.
(٢٠) يحيى مختار، الطرد، عروس النيل، أخبار اليوم، ١٩٩٠م.
(٢١) سليمان مظهر، النوبة أرض الذهب وشعب المأساة، العربي، يونيو ١٩٨٧م.
(٢٢) البدو والبداوة، ١٠٧.
(٢٣) الشمندورة، ٥١.
(٢٤) المرجع السابق، ٥١.
(٢٥) نفسه، ٥١.
(٢٦) نفسه، ٥١.
(٢٧) نفسه، ١٠٧.
(٢٨) نفسه، ٣٣١.
(٢٩) نفسه، ٢٨١.
(٣٠) نفسه، ٥٣.
(٣١) نفسه، ١٥٦.
(٣٢) نفسه، ١٦٥.
(٣٣) نفسه، ٢٨١.
(٣٤) نفسه، ١٢٢.
(٣٥) نفسه، ٣٥٥.
(٣٦) إبراهيم شعراوي، الشعر، العدد الثاني عشر.
(٣٧) الشمندورة، ٢٨٢.
(٣٨) المصدر السابق، ٢٨٢.
(٣٩) نفسه، ٢٨٨.
(٤٠) نفسه، ٣٥٦.
(٤١) نفسه، ٣٥٦.
(٤٢) نفسه، ٣٦٦.
(٤٣) نفسه، ٣٥٩.
(٤٤) نفسه، ٣٧١.
(٤٥) نفسه، ٣٧٥.
(٤٦) نفسه، ٣٧٣.
(٤٧) نفسه، ٣٧٨.
(٤٨) نفسه، ٣٨٢.
(٤٩) نفسه، ٣٩٧.
(٥٠) نفسه، ٤١٥.
(٥١) نفسه، ٤٨٢.
(٥٢) نفسه، ٤٢٢.
(٥٣) نفسه، ٤٨.
(٥٤) نفسه، ٤٩٨.
(٥٥) التطور الاقتصادي في مصر، ٢٥-٢٦.
(٥٦) يحيى مختار، الطرد، عروس النيل.
(٥٧) اليسار المصري، ٢٩٦.
(٥٨) الدستور والاستقلال، ١٠٩.
(٥٩) أزهار، ٢٠٢.
(٦٠) الشمندورة، ٢٨٢.
(٦١) المصدر السابق، ٢٩٨.
(٦٢) نفسه، ٣٠٥.
(٦٣) نفسه، ٣٠٧-٣٠٨.
(٦٤) نفسه، ٣١٥.
(٦٥) نفسه، ٣٠٩.
(٦٦) نفسه، ٢٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥