هارب من الأيام

إذا كان محجوب عبد الدايم ثمرة طبيعية لمجتمع المدينة، بكل ما كان يحمله من سلبيات في الثلاثينيات، فإن كمال الطبال — هارب من الأيام — ثمرة طبيعية لمجتمع القرية بتناقضاته في الفترة نفسها. لكن الفنان في — القاهرة الجديدة — يلتزم حيدة هي أقرب إلى التعاطف مع محجوب عبد الدايم، الذي يُعَد — في الدرجة الأولى — ضحية ظروف مجتمعه، وظروفه الشخصية، في حين يرفض ثروت أباظة تلك الحيادية، ويأخذ موقف المناصرة أو التحقير من شخصياته في مباشرة صريحة. وظني أن إقحام الفنان لمشاعره وأيديولوجيته، واتخاذه موقف التعاطف الصريح أو العداء الصريح من بعض شخصياته، ربما يقلل من عفوية السرد التي يتطلَّبها العمل الإبداعي.

ثروت أباظة يحدد — منذ البداية — موقفه من كمال الطبال، فهو «ذلك الشيء كثير الدعاء، كثير الحقد.»١ حين أراد مأمور كفر الزيات أن يهين العمدة، صاح في وجهه: أنت مين عملك عمدة؟ أنت تنفع طبال! وكان ذلك «أقصى وصف مهين رأى المأمور أن يصم به ممثِّل الحكومة في بلدته.» (محمود كامل، يوميات محام مصري، ص ٣٠) وهو «الشرير».٢ وهو «ذلك الشيء الذي ينطلق مع الفجر يلتمس رزقه بالدعاء للناس، وما هو بالشيخ العجوز الذي يقعده الكِبر، ولا بالمريض المقعد الذي تحتجزه العلة، ولا هو بالعاطل المتبطل الذي يفقِره العجز، وإنما هو شاب في ريعان الفتوة، مكتمل الجسم، موفور الصحة.»٣ لقد طرد الرجل من جنته تمامًا، ووجد فيه شخصًا تافهًا حقيرًا «تبذل له درية من كريم عطفها ما جعله يحس أن له وجودًا ولا وجود له، أو أن له كيانًا ولا كيان له.»٤ ثم يؤكد الفنان موقفه — عبر صفحات الرواية — فهو يصف كمال بأنه «كمية من الهمل تنظر إليها الجماعة أو لا تنظر، فهي بقعة من الأرض لا تزيد.»٥ «الكرامة كل الكرامة هي أن يحصل على قوت يومه، ليس يعنيه أي سبيل يسلكه إلى هذا القوت.»٦ وكان يقصد بيت العمدة؛ لينال من برِّه وعطفه، وليفتتح يومه بنظرة كريمة طيبة، متفضلة، تلقيها إليه درية — ابنة العمدة — مع ما تلقيه من طعام، وهو لا يطمع في غير تلك النظرة، وإنه ليعتدها كرمًا منها يتخاذل إزاءه كل كرم يلقاه من أي كريم، وإنه ليعتدها زاد الدنيا الذي به يعيش، إلى أن تتحقق له آمال وأحلام.٧ مع ذلك، فإنه كان يتساءل وهو ينظر إلى العز الوفير الذي يحيا فيه العمدة «ويل للأيام! أكل هذا الخير في بيتٍ واحدٍ تنعم به أسرة واحدة؟ أهذا عدل يا رب؟ ويا ليته جمع — العمدة — ما جمع من الطريق الحلال! بل هو النصب والسرقة والرشوة، عدلك يا رب، هذا العقل الغليظ يتمتع بكل هذه الخبرات وأنا لا أملك شيئًا. ما ذنبي إن كان أبي طبالًا فكنت مثله؟ وكان أبوه عمدة فهو مثله! أأنا الذي خلقت أبي وجدي ومن سبقهم وقلت لهم كونوا طبالين فكانوا؟! أي ذنب جنيته؟ آه لو تحقق حلمي!»٨ وثمة معلَم آخر في حياة كمال؛ إنه جلسات أفراد العصابة، قبل أن يصبح كمال واحدًا منها، بل ورئيسًا لها، وما كان يدور فيها من أحاديث القتل والسرقة وتجارة المخدرات. امتلك كمال في يده كل مفاتيح تلك العوالم الحافلة بالغرائب والعجائب والمتناقضات. وربما كان كمال سيحتفظ سبيلًا مغايرًا لما انتهى إليه، أو أنه كان قد تأخر في اتخاذ هذا السبيل، لو أنه لم يستدل على موضع السلاح الذي دفنه منصور في جبانة الزمارنة، فهو قد سعى إلى المخروطة، يرتكب بها جرائمه الثلاث الأولى.

والحق أن كمال لم يكن يخلو من ذكاء، بل كان ذكاؤه هو الجسر الذي عبَر فوقه حياتهم المهملة إلى حياة القوة، فهو إذن لم يكن شيئًا كما وصفه الفنان، وسنناقش هذه النقطة في فقرات تالية.

•••

«هارب من الأيام» تنتمي إلى ذلك النوع من القصة الذي يُسمَّى في الفرنسية «القصة السوداء»، وهو يعتمد على الحوادث الخارقة التي تقوم بها إحدى عصابتين: شريرة تعيث في الأرض فسادًا، وخيِّرة تعنى بحماية الضعيف، ونصفة المظلوم، وتأديب الظالم.

وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تضعها في قائمة الأدب الواقعي، إلا أن الرواية تنتسب — في الدرجة الأولى — إلى الرمز، بل إنه يمكن القول إن الإيهام بالواقع لا يحجب رمزيتها الخالصة، فهي تتحدث عن قرية «السلام» التي ظلت تنعم بالطمأنينة والهدوء، حتى ظهرت في حياة أبنائها تلك العصابة التي سمَّت نفسها «جماعة الخير»، فأحالت هدوء القرية صخبًا وعنفًا، ثم عاد الهدوء من جديد بعد أن قضى أفراد العصابة على أنفسهم. هذه «الحدوتة» يمكن أن تحدث في أية قرية أو مدينة صغيرة، ليس في بلادنا وحدها، وإنما في العالم كله. لذلك فإن ما يطالعنا في المجال الذي نطرقه، هو طبيعة الحياة في قرية «السلام» المصرية، بعيدًا عن تأثيرات الأحداث، وهي طبيعة نمطية للحياة والناس في القرية المصرية عمومًا، مثل المأمور الذي يستولي على أزواج الدجاج التي تهرَّب إلى العمدة «إنهم في كل مرة يقولون إن المأمور الجديد شديد، ثم يأتي، وما إن تصل إليه الفراخ والسمن والديوك، حتى يصبح لينًا لطيفًا كالخِراف التي تذهب إليه تمامًا.»٩ وعمدة القرية الشيخ زيدان مَثَل للعمدة المصري القديم بكل مزاياه ونقائصه، فهو متدين يؤدي الفرائض في أوقاتها، لكنه لا يجد حرجًا في أن يرتشي باعتبار أن هذه الرشاوى هي المقابل الطبيعي للمشاق التي يتحمَّلها في سبيل حل مشكلات أبناء القرية، فضلًا عن أنه يجيد ممالأة المأمور والضغط على مواطن ال أخلاقه «إنه مأمور، ثم هم يقولون إنه مأمور قديم؛ أي أنه ظل مأمورًا مدة طويلة من الزمان، وهل يُعقَل أن يظل مأمورًا مدة طويلة من الزمان ويظل شريفًا؟ لو أنه كذلك لكان قد فُصِل من زمن بعيد.»١٠ بل إنه يقول للمجرمين صراحة: «إنني أعرف خطواتكم جميعها، وطالما سكتُّ عما يفعله منصور والنمرود والولد الزهار أيضًا. وكنت أقول: ما داموا يبتعدون عن البلدة فليفعلوا ما شاءوا.»١١ وثمة المعلم الإلزامي — الشيخ رضوان — الذي يفسر النصوص الدينية في خُطبة الجمعة بما تمليه مقتضيات الظروف والأحوال. وهناك مأذون القرية — الشيخ عبد الودود — ذلك البخيل الذي يعطي صورة مجسَّدة للبخل، وخطيب المسجد الذي يزيد له العمدة في راتبه حتى يحِل الحرام ويحرم الحلال … إلخ، تلك الشخصيات التي تعكس أنماطًا لا تتغير في قرى الريف المصري. بالإضافة إلى ذلك، فإن كمال الطبال، الذي يعمل مناديًا يعلن في المآتم والأفراح مقابل قروش قليلة، أو منحة من طعام أو ثياب، ويجعل من ذلك ستارًا لحياة شريرة تحقد على كل شيء، وعلى كل إنسان. كمال الطبال — أو ذلك الشيء كما يسميه الفنان — يمكن اعتباره شخصية نمطية أخرى من شخصيات الريف المصري، فقد تخرَّج في الكتَّاب، فلم يجد وراءه أصلًا، ولم يجد أمامه مالًا، فكِبره إذن خبيث، يؤديه اللفظ اللين الناعم، يغلف به السم الناقع المتراكم في نفسه، وكبره أيضًا حقد مستعر وكُره للعالم كله، متمثلًا في قريته، يخص منها ذوي اليسار وذوي الأصل، وذوي المكان، وذوي الثقافة.١٢ لكن الدرب الذي سار فيه كمال الطبال للتعبير عن حقده، يشي بوجهة نظر الفنان بأكثر مما يعبِّر عن التصاعد الدرامي للحدث، فهو يحس بضياعه وهوانه بين أبناء القرية «كنت أبحث عن مكان لي في البلدة، فلا أجد. وكنت أطيل النظر إلى نفسي في المرآة، فقد كنت أحس أن أحدًا لا يراني مطلقًا، فكنت أعزِّي نفسي بأن أرى أنا نفسي، كنت لا شيء في قريتكم، وأردت أن أصبح شيئًا، كنت قطعة من الهمل، لا تلقى حتى الإهمال، فقد كنت أقل من أن يهملني القوم، أعددت الخطة، فأصبحت على ما ترين.»١٣ ويزيِّن له خياله المريض أن يصنع «شيئًا» يروِّع به أهل القرية. وحين يشاهد عمليات الرشوة، يعقِّب بعباراتٍ تشي بما ينتويه: «يا رب أَهوَ كثير ما أطلب؟ مجرد مسدس يا رب، أو ثمنه، من أي مكان … مسدس يا رب!»١٤ ويهتدي كمال إلى بندقية قصيرة تصلح لتنفيذ خطته المحمومة، فيرتكب جرائم قطع طريقٍ وسلب أموالٍ في ثلاث ليالٍ متوالية، ثم ما يلبث أن يضم إليه أفراد العصابة «إن في هذه البلدة فقراء كثيرين، وهو يريد أن يفرض إتاوة على الأغنياء، ويعطي منها للفقراء.

– وماذا سنفيد نحن؟

– تفيدون إنكم ستطبقون الأفواه حواليكم، فلا تنطق إلا بحمدكم، وتقومون بأعمالكم في الظهر الأحمر فلا يشهد عليكم أحد، ثم إنكم لن تعطوا هؤلاء الفقراء إلا ربع أو خمس ما تنالون.»١٥ فضَّل كمال أن يلجأ إلى الإغراء المادي، والحسي، وأن يخاطب بطونهم التي تعودت الجوع إلا بما تغتصبه لهم الجريمة، وما أقله، وأيسره، قبل أن تتوحد مجهوداتهم الشريرة الصغيرة، لتصبح شرًّا كاملًا: «فأنت يا زهار ستتزوج سعدية أم الخير التي طالما تمنيت زواجها، فلن يكون زواجها من صالح، أو سعي أحمد أبي خليل حائلًا بينك وبين الزواج منها، ولن تحتاج بعد اليوم إلى أن تكون أجيرًا أو عاملًا بسيطًا في توزيع تجارة النمرود. وأنت يا دفراوي لن تقتل بعد اليوم إلا في سبيل الجماعة التي تعمل معها، وستحميك من كل شيء، وأنت يا نمرود ستتسع تجارتك فتصبح كبير تجار مصر كلها، وأنت يا نور لن تحتاج بعد اليوم لريع فدانك الحقير، سيجري المال في يدك فلا تدري أين تنفقه.»١٦ ويفسر كمال لدرية بواعث تكوين عصابته، بعد أن أصبحت معلَمًا أهم في حياة القرية: «كنت أبحث عن مكان لي في البلدة، فلا أجد. وكنت أطيل النظر إلى نفسي في المرآة، فقد كنت أحس أن أحدًا لا يراني مطلقًا، فكنت أعزِّي نفسي بأن أرى أنا نفسي. كنت لا شيء في قريتكم، وأردت أن أصبح شيئًا. كنت قطعة من الهمل، لا تلقى حتى الإهمال، فقد كنت أقل من أن يهملني القوم؛ أعددت الخطَّة فأصبحتُ على ما ترين.»١٧ ويوسِّع كمال الطبال من دائرة نشاطه، فيفرض إتاوة على كل قنطار قطن يخرج من القرية، وعلى كل أردب تنتجه الأرض، ويأخذ من كل بائع للأرض ومشترٍ لها خمسة جنيهات عن كل فدان، فضلًا عن عشرات الإتاوات والضرائب التي يفرضها على أهل القرية، لكن كمال لا يكتفي بأن يتقاسم «الغنائم» مع أفراد عصابته، بل هو يأخذها من الأغنياء، ويعطي الجانب الأكبر منها للفقراء من أبناء القرية، ثم يوزع الباقي على أفراد العصابة، ويضغط على كلماته مؤكدًا: «هذا عملي … أقتل الفرد في سبيل الجماعة.»١٨ «وأنفذ كمال وعده إلى الفقراء، فقد كانت تهبط عليهم صبابة من المال من حين إلى حين.»١٩ وإذا كان الفنان قد أشار إلى «العادات السيئة الفاشية في الأقاليم، أن ينتقم الناس من بعضهم البعض، بسرقة البهائم، أو قلع المزروعات، أو بقتل الأنفس.»٢٠ فإن عصابات الريف كانت ترتكز — في معظم نشاطها — إلى تعاطف الأغلبية الفقيرة معها؛ لأن ذلك النشاط كان ينال من أميل الناس إلى الثراء؛ لذلك فإن «الحدث» يقول شيئًا أكثر مما تبين عنه الأحداث. وتتأكد الرمزية في الأحداث بعامة عندما يضغط الفنان في أكثر من مناسبة على فكرة المعارضة للأخذ من الأغنياء، وإعطاء الفقراء؛ لأن الأغنياء يجب أن يظلوا على حالهم، كما يجب أن يظل الفقراء على حالهم، تلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. بل إن الفنان يضغط على حقيقة أن إعطاء الفقراء كان مبررًا من الجماعة أمام القرية لارتكاب ما ارتكبته.٢١ وتقول وطنية لكمال: «من قال إن كلَّ مَن يملك بهيمة أو قطنًا أو أرضًا، غني؟ ومن قال إن هؤلاء كثرة؟ ليس في قريتنا إلا قلة نادرة لا تملك شيئًا، وحتى هذه القلة غير راضية عنك، فالأُجراء أصبحوا لا يُستأجرون، وأصحاب الأرض جميعًا وقف حالهم، ثم هم يقولون: إنك فرضت الإتاوات لتأخذ معظمها لك، وتعطيهم منها الفتات الذي لا يغني، لا يغني أبدًا بعد أن وقف عنهم الخير الذي كان يأتيهم ممن يستأجرونهم.»٢٢ ويبين الفنان عن الهدف من منح الفقراء جزءًا من الإتاوات التي كانت تُفرَض على الأغنياء، لم يكن مساعدة الفقراء على مواجهة ظروفهم القاسية، بقدر ما كان محاولة لإسكات أفواههم، فلا يشهد منهم أحد على ما تقوله العصابة.٢٣ وأما كمال فهو لم يقرر أن يهب الفقراء بعض ما يحصل عليه من إتاوات وسرقات إحساسه بما يعانون، وإنما كان الهدف أن ينظر إليه الناس من زاوية الاحترام والتبجيل «الناس هم الذين يجعلون المجرم محسنًا، والقاتل كريمًا، وما ذاك إلا لأنه يبذل لهم فنجان قهوة، أو لفة جوزة، أو كرسي دخان … فإذا ذكَّرهم واحد منهم أن هذا الذي يمدحونه قاتل، وإن كان كريمًا، سارع أكثر الجالسين ينهون ذلك المتحدث قائلين له: ما لنا وما له إذا كان قاتلًا، أو غير قاتل؛ المهم أنه كريم، رحب اللقاء، مفتوح البيت.»٢٤ ويعلو همسه لنفسه: «لو أرضيتهم، أو أرضيت غالبيتهم، أصبح من بينهم عيون على أنفسهم، وأنت حينئذٍ تستطيع أن تتشدق في يسرٍ، إنك تسرق، ولكن المال مآله إلى الفقراء، وليس إليك.»٢٥ وإذا كان فقراء الفلاحين قد سعدوا بالأموال القليلة التي كانت تهبها لهم الجماعة بين الحين والحين، فقد تبيَّن لهم أن تلك الهبات القليلة، المتقطعة، قد حجبت عنهم رزقًا كثيرًا مستمرًّا، فلم يعُد الملَّاك يستأجرون أحدًا لبذر المحصول ورعايته وحصاده؛ فهم يعيشون بما تحت أيديهم من أموال حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.٢٦ لكن أخطر ما واجهته القرية كان استسلام أبنائها لما أرادته العصابة، بل وميلهم إلى إضفاء ثوب من التبرير على ما يجري لهم، فقد امتدحوا جماعة الخير، وأشاعوا أنهم إنما يدفعون الإتاوات، اقتناعًا بالفكرة التي تسعى إليها جماعة الخير.٢٧ ويتبدَّى الرمز واضحًا في إعلان الخواجة ستاورو أنه لن يعود إلى بلدة السلام مرة أخرى، وأنه لا يريد العرابين التي دفعها ثمنًا للقطن. وتقول الست فضيلة: «القطن عندنا كالقتيل لا يجد من يشتريه. وقد ذهب أخوك صلاح اليوم إلى المديرية، ليبحث عمن يشتريه، ولم يعُد حتى الآن.» وتقول درية: «إن شاء الله يجد المشتري يا خالتي.
– والله يا بنتي لا أظن … التجار خائفون من القرية، والتجارة يا بنتي أمان.»٢٨
أما موقف لطيف بك، بعد أن أصبحت «جماعة الخير» حقيقة مفروضة، فقد كان نشدان صداقة الجماعة، حتى لا تمارس نشاطها إذا لم تتم هذه الصداقة!٢٩
والملاحَظ أن أنور بك صدقي — أحد أعيان الريف — هو الذي واجه جرائم لطيف بك وعصابته، وهو الذي دافع عن حقوق الفلاحين، فأثابوه على ذلك بانتخابه لعضوية مجلس النواب … لكن القرى خلت — في الرواية — من المتصدِّين لجرائم لطيف بك وعصابته، ثم لكمال وعصابته، من أبناء الفلاحين البسطاء أنفسهم! وبعد أن تنفذ العصابة تهديدها، وتقتل ابن الشيخ حسن، يقول الرجل: «كبر عليَّ أن يهددني المجرمون، فأبيت أن أدفع لهم ما يطلبون، لم أكن أظن إنهم سيقتلون؛ حسبتهم لصوصًا، ولم أحسب أنهم قتلة!»٣٠ وكان الفرماوي من رجال لطيف بك، وبعد أن قتل له بهجت الدلمون، دخله الغرور، وراح يطالب لطيفًا بعشرة أفدنة، وهدده بأنه سيخبر أهل الدلمون، فاستأجر البك من يقتله.٣١
ويصف الفنان تلك الأيام التي أسدلت أستارًا من الخوف والمهانة والذل على القرية المسكينة: «كان أمر أفراد العصابة مجهولًا، وفي ستار الجهل بهم كانوا يعرفون ما يدور بالقرية جميعًا، فإذا القرية وقد غشيها الذعر الراجف، تلتقي الأعين حسرى كليلة، ويدور الحديث، كل حديث، فلا يلبث أن ينتهي إلى صمت مفاجئ، ويطرق المتحدثون، فقد كان كل حديث يؤدي بهم إلى الرُّزء الذي انحط على القرية، والذي لا يستطيعون أن يصفوه، فقد ملأهم الخوف أن يصفوه.»٣٢ ولأن الشر لا بد أن يصفِّي نفسه، فقد بدأت عصابة كمال تحذر عصبة لطيف بك، والعكس صحيح. وتيقن أفراد كل عصابة، بعد أن أسفر الخلاف بينهم عن قسماته، أنهم إذا لم يسارعوا بقتل أفراد العصابة الأخرى، فسيسبقونهم هم إلى ذلك!٣٣

وقد تنبَّه الشباب المثقف في القرية إلى أن الرشاوى والظلم والتغاضي عن الجرائم الصغيرة، كان هو الباب الذي دلفت منه العصابتان لممارسة الجرائم، ومن ثَم فقد كان أول ما فكر فيه الشباب، بعد أن قتل الشر نفسه! أن يكون الحق هو شأن المسئول عن القرية، فلا ظلم ولا ميل ولا رشوة.

والحق أني لا أدري على أي أساس بنَى طه حسين رأيه بأن عمدة قرية السلام هو الذي عناه الفنان بالهروب من الأيام، بعد أن انتهى أمره إلى التخلي عن نفسه، ومغادرة القرية نهائيًّا «ولكن هذا العمدة لم يهرب من الأيام، وإنما هرب من منصبه، وهرب من القرية التي لم يُحسِن القيام عليها.» فمن الواضح، على المستويين الواقعي والرمزي، أن الهارب من الأيام هو ذلك الشيء كمال، الذي يحاول أن يفر من ماضيه وحاضره ليصنع حاضرًا يتمتع فيه بالسطوة والقوة، لكنه ما يلبث أن يخفق بعد أن أعلنته درية بذلك في أكثر من مناسبة: «أيها المسكين، تحاول أن تهرب من الأيام … لن تستطيع.» لكنه ما يلبث أن يتردَّى في هُوة الإخفاق، وتصرعه رصاصات الشر لتقضي على كل تطلعاته وأحقاده.

•••

بعد أن قرأ جاك جومييه رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» عبَّر عن تعاطفه مع شخصية سعيد مهران، بل وأبدى استعدادًا طيبًا للدفاع عنه. فلم يكن — في تقدير المستعرب الفرنسي — سوى ضحية لعوامل عديدة، من بينها ظروفه الاجتماعية والمادية القاسية، وتضليل الصديق، وخيانة الزوجة، وتفسخ المجتمع عمومًا. ولعلِّي أميل إلى أن تكون نظرتي إلى كمال الطبال هي نظرة جاك جومييه نفسها إلى سعيد مهران؛ فكلاهما ضحية لظروف ضاغطة كانت الجريمة انفجارها المتوقع!

الفنان يصف كمال الطبال بأنه «كان مرعًى للاعتداء، وموطنًا للهوان.»٣٤ فهل كانت تلك هي الحياة الطبيعية لإنسان، وألم يكن من حقه — بل وواجبه — أن يتمرد عليها؟! ويقدمه الفنان بأنه ذو نفس حاقدة. لكن: ألا نجد في الصورة التي تطالعها عيناه ظلمًا اجتماعيًّا صارخًا، بحيث يُعَد ذلك الحقد رد فعل مباشرًا لها؟! كمال ينظر إلى الخير الذي يرتع فيه العمدة «فيرى الدجاج الكثير، ومعه الإوز والبط، ويلقي بنظرة إلى مرتع الماشية، فيرى عددًا وفيرًا من الجاموس والبقر والثيران والحمير والخيل، ويل للأيام! أكل هذا الخير في بيتٍ واحد، تنعم به أسرة واحدة؟! أهذا عدل يا رب؟ ويا ليته جمع ما جمع من الطريق الحلال! بل هو النصب والسرقة والرشوة، عدلك يا رب، هذا العتل الغليظ يتمتع بكل هذه الخيرات وأنا لا أملك شيئًا، ما ذنبي إن كان أبي طبالًا فكنتُ مثله؟ وكان أبوه عمدة فهو مثله! أأنا الذي خلقتُ أبي وجدي ومَن سبقهم، وقلت لهم كونوا طبالين فكانوا؟ أي ذنب جنيته! آه لو تحقق حلمي!».٣٥ وكان الفقر، مقابلًا للثراء النسبي الذي كان يحيا فيه رجالات القرية، دافعًا لأن يحرص كمال على الطريق التي سار فيها. يقول لوطنية: «غدًا حين ترين المال في يدي تعرفين قيمتي»!٣٦ وكانت المعاملات الفوقية بين أبناء القرية بعضهم البعض، وبينهم وبين كمال، دافعًا لأن يتخذ الطريق التي اختطها، يقول: «والله إني مجهول في بلد الكلاب هذه … ولكن لا بأس … غدًا تعرفني البلدة، وتعرف قيمتي!»٣٧ ولعلنا نجد تبريرًا لمواقف كمال في مجرد سماعه لهذا الحوار الغريب بين العمدة والمأمور، وكلاهما يعزم على الآخر بما حصل عليه العمدة من رشاوى الغلابة والمنكسرين. لذلك فنحن نجد سببًا لقول كمال لنفسه وهو ينصرف بعد أن استمع إلى الحوار منذ بدايته: «يا رب … أهو كثير ما أطلب؟ مجرد مسدس يا رب أو ثمنه، من أي مكان … مسدس يا رب.»٣٨
ويرفض فؤاد دوارة منطق الفنان «وإذا كنا نرفض أسلوب عصابة كمال في سرقة الأغنياء لإعطاء الفقراء، فإنا لا نملك — في الوقت نفسه — إلا رفض منطق الكاتب الذي يرى أن الأغنياء ينبغي أن يظلوا أغنياء ليستطيعوا استخدام الفقراء والتوسعة عليهم، فليست هذه سنة الله على الأرض كما يتصور، وإنما سنته أن من يعمل يُؤجَر على عمله، ومن لا يعمل فلا ينبغي أن يُؤجَر من كدح العاملين.»٣٩

أيام الطفولة

ولعلنا نستطيع أن نتبيَّن بواعث إقدام كمال الطبال على تكوين عصابته، وارتكاب جرائم السرقة والابتزاز والخطف والقتل، فرواية إبراهيم عبد الحليم «أيام الطفولة»، القرية المصرية في الثلاثينيات هي «الشخصية» الرئيسة في الروايتين، والفقر هو الإطار الذي كان يضم الشخصيات الرئيسة، وتتحرك من خلاله الأحداث، لكن كمال الطبال حاول أن يحطم الإطار المأسوي بتكوين العصابة، بينما لجأت أسرة «أيام الطفولة» إلى أسلوب آخر، سلبي في ظاهره، وإيجابي في دلالاته ومبتغاه، لتحطيم ذلك الإطار الذي صنعته الفوارق الاجتماعية الحادة.

كان الراوي تلميذًا، فهو — بالقطع — ينتسب إلى ظروف اجتماعية أفضل من كمال الطبال. إنه فرد من أسرة، ولا يعاني في الملبس والمأكل والمسكن، تلك الضروريات التي كانت همًّا يوميًّا للطبال، لكن الحقيقة التي لا تلبث أن تُكشَف لنا في «أيام الطفولة» أن الاختلافات الظاهرة تنطوي على وجوه كثيرة للتقابل، وكان الفقر محورها جميعًا. لقد اضطر كمال الطبال — لكي يغادر ظروفه القاسية — أن يكوِّن عصابة — في سن متأخرة نسبيًّا — يضم إليها أشرار القرية ممن تتبَّع جرائمهم، وكان لها شاهد عيان. وتقاسم قرية السلام — هؤلاء الذين لم يكونوا يجودوا عليه حتى بالكلمة الطيبة — فقاسمهم إيرادات محاصيلهم. أما راوي «أيام الطفولة» فقد كوَّن عصابة في الصبا الباكر وهو بعد تلميذ، وكان أفراد عصابته من التلاميذ الفقراء: «كنت وعدد قليل من الصبية أمثالي، نكوِّن عصابة للسرقة، لها تنظيم، ولها قيادة، ولها أهداف تلتقي حولها. كلم كانوا متمردين مثلي، وكلهم كانوا يئنُّون من الحرمان والحاجة وهم يرَون رفاقهم يلتهمون قطع الحلوى. كنا جميعًا لا نتعامل مع كانتين المدرسة، ولا مع باعة الطعام والحلوى، وكنا لا نعرف القوانين التي وضعتها الدولة لحماية زملائنا الذين يملكون المال، ولهم الحق في شراء كل شيء.»٤٠

وعلى الرغم من تهديدات الناظر والمدرسين، والخُطب الطويلة عن جريمة السرقة، وعن القوانين التي تقف للصوص بالمرصاد، وعن العار والأخلاق والدين والمستقبل، فإن أفراد العصابة الصغيرة واصلوا جرائمهم لحاجتهم الشديدة إلى ما كانوا يسطون عليه أولًا، وتعبيرًا عن احتجاجهم على التفرقة الصارخة، في المعاملة بينهم وبين زملائهم أبناء الموسرين.

وأغلب الظن أن المصير الذي كان سينتهي إليه راوي «أيام الطفولة» لم يكن سيختلف كثيرًا عن المصير الذي اختاره لنفسه، أو فرضته الأوضاع الطبقية، كمال الطبال، وأن العصابة الصغيرة التي كوَّنها وهو تلميذ، ربما كانت ستصبح عصابة كبيرة لو أن كل نوافذ التعليم ظلت مغلقة، فربما استمرت حياة الجريمة مع بقية أفراد العصابة ممن استعصت عليهم ظروف التعلم تمامًا! وكان حقد كمال على المجتمع الذي يرفض أن يعترف بحقه في أن يكون إنسانًا، ينام ويأكل ويعمل وتُحتَرم آدميته، مثل الآخرين تمامًا. كان ذلك الحقد هو نفسه الحقد الذي أحس به راوي «أيام الطفولة» حيال المجتمع، وأن الناس والبقال والطبيب والمدرسين وبائعة اللبن والحلاق وتاجر الأقمشة وبائع الكراسات، كلهم أعداؤه لأنهم يعرفون أن أسرته فقيرة، لكنهم يرفضون أن يقدموا لها شيئًا بلا ثمن!٤١ وإذا كان راوي «أيام الطفولة» قد أفلت من مصير كمال الطبال، فإنه أفاد من معاركه في الحياة دروسًا أخرى، مناقضة لما حرصت أمه على تعليمه له. يقول: «الدروس التي تلقيتها من أمي عن القاعة والصبر لن توصِّلني إلا إلى الجوع والذلة والمهانة، وإني إذا كنت قد أخذت بها وأنا في بلدتنا الصغيرة، فلم يعُد أمامي، وقد أصبحت أواجه العالم وحدي، وأتصرف في مصيري، إلا أن أهاجم، وأضرب، وأفترس، بساعدي ولساني، كلَّ من يحاول اغتصاب حقٍّ من حقوقي.»

هوامش

(١) ثروت أباظة، هارب من الأيام، دار المعارف، الطبعة الأولى، ٣٠.
(٢) المصدر السابق، ٣٦.
(٣) المصدر السابق، طبعة هيئة الكتاب، واختلاف بعض الأرقام مبعثه رجوع الكاتب إلى طبعة دار المعارف، ثم طبعة هيئة الكتاب.
(٤) المصدر السابق، طبعة دار المعارف، ٧.
(٥) نفسه، ٥٦.
(٦) نفسه، ٩.
(٧) نفسه، طبعة هيئة الكتاب، ٢٦.
(٨) نفسه، ٢٨.
(٩) نفسه، طبعة دار المعارف، ٢١.
(١٠) نفسه، طبعة هيئة الكتاب، ٣٦.
(١١) نفسه، طبعة دار المعارف، ١٦٥.
(١٢) نفسه، طبعة هيئة الكتاب، ٤٤.
(١٣) نفسه، طبعة دار المعارف، ٢٦٣.
(١٤) نفسه، ٣٠.
(١٥) نفسه، ١٥٢.
(١٦) نفسه، ١٤٨-١٤٩.
(١٧) نفسه، ٢٦٣.
(١٨) نفسه، ٢٦٠.
(١٩) نفسه، ٢١٩.
(٢٠) النفس الحائرة، ٨٣.
(٢١) هارب من الأيام، طبعة دار المعارف، ٢٥٢.
(٢٢) نفسه، ٢٣١.
(٢٣) نفسه، ١٥٢.
(٢٤) نفسه. ٣٨.
(٢٥) نفسه، ٤٠.
(٢٦) نفسه، ٢٢٠.
(٢٧) نفسه، ٢٢١.
(٢٨) نفسه، ١٥٩.
(٢٩) نفسه، ٢٠٥.
(٣٠) نفسه، ٢١٤.
(٣١) نفسه، ٥٩.
(٣٢) نفسه، ٢١٨.
(٣٣) نفسه، ٢٧٩.
(٣٤) نفسه، ١٣٨.
(٣٥) نفسه، ١٢.
(٣٦) نفسه، ٨٨.
(٣٧) نفسه، ٨٧.
(٣٨) نفسه، ٣٠.
(٣٩) فؤاد دوارة، صورة الفلاح في الرواية المصرية، الطليعة، أغسطس ١٩٧١م.
(٤٠) إبراهيم عبد الحليم، أيام الطفولة، ٧.
(٤١) المصدر السابق، ٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥