هل هي ثورة عسكرية؟

تقول الجدة في أحاديث سهير القلماوي: «كان جو الوطن إذ ذاك كله غيوم كثيفة قلقة مضطربة؛ فتوفيق باشا معتصم بسرايه في رأس التين، وعرابي باشا من ورائه الجيش، وقد تجسَّمت آمال المصريين ومطالبهم في شخصه، والأجانب، والإنجليز خاصة، يرَون الفرصة قد سنحت لتدخلهم في شئون البلاد، وأخذ ما يمكن أخذه منها، وكان لي إذ ذاك ثلاثة أبناء في الجيش، اثنان من حرس توفيق باشا، وواحد في جيش عرابي باشا، ولم يكن الجيش يا ابنتي كهذه الأيام يُدخِلون فيه كلَّ من يئسوا منه في العلم أو العمل. لقد أخذوا الآن يرتقون في اختيارهم، وأصبحوا يشترطون في داخلي الجيش حيازتهم الشهادات، ولكن أيام أبنائي كانوا يأخذونهم من مدارسهم العالية بعد أن يكونوا قد درسوا بها سنتين أو ثلاثًا.»١ لقد كان جنود الجيش — وضباطه بالطبع — من الأتراك والشراكسة والأرناءوط، ثم أقدم محمد علي — للمرة الأولى — في ١٨٢٠م على «المخاطرة التي كان يتهيَّبها من قبل، وأنفذ الفكرة التي كانت تخامره ولا يجرؤ عليها، فأصدر أمره بجمع أنفار الجيش الجديد من المصريين.»٢ وحتى لا تظل صورة الجيش سيئة أمام الناس لاقتصار التجنيد على أبناء الفقراء، بينما غالبية الضباط من الشراكسة؛ فقد أمر سعيد باشا بضم أبناء مشايخ القرى والأعيان إلى صفوف الجيش، وكان من بينهم هذا الفتى الأزهري القروي أحمد عرابي. ويذهب الفنان إلى أنه لم تكن هناك قواعد للترقية في الجيش، ثمة الكثير من الضباط كانوا يُرقُّون من صف الجنود إلى المراتب العليا للضباط، ولم يكن يُشترَط في الضابط أن تتوافر لديه ثقافة ما، يكفي أن يجيد الكتابة والقراءة.٣

ولكن: هل بدأ الجيش ثورته دفاعًا عن مصالحه الخاصة، ثم انتهى به بالدفاع عن المصالح المصرية؟

يقول فهمي نور الدين (وكالة الليمون): إن «ثورة عرابي لم تكن أكثر من ثورة الجيش على أوضاع فاسدة في الجيش نفسه؛ لم تلتحم بالشعب.»٤ ويقول إلياس الأيوبي: «إننا لدى وقوفنا على ما أجمع عليه المؤرخون، من غربيين ومصريين، من أن كبار الضباط الشراكسة كانوا شديدي القسوة والجبروت على الضباط المصريين، لا سيما الصغار منهم، وأنهم كانوا يؤاخذونهم بالعنف والقسوة على أصغر الصغائر، كي لا يفشلوا، على زعمهم، ويلقونهم في أضيق السجون، عند أقل حادثة؛ نفهم بجلاء لماذا قام أحمد عرابي بثورته، وندرك بسهولة أنه كان لا بد منها، ما دامت روح القيادة العليا هي عينها التي تولَّت زمام حملة سنة ١٨٧٦م المشئومة.»٥
والثورة — في رأي عبد العزيز رفاعي — لم تقُم إلا بدافع الشعور بالظلم، من تفضيل للأتراك والشراكسة على المصريين، وتسخير للجنود المصريين، ومنع مرتباتهم وترقياتهم. أما الوعي السياسي، فلم يكن هناك من الدلائل ما يشي به، إلا ما تضمنته عريضة الضباط إلى رياض من ضرورة عزل عثمان رفقي، وكان عثمان رفقي — في تقدير الإمام محمد عبده — «رجلًا ساذجًا محدود الإدراك، بعيدًا عن التبصر في العواقب، لم يكن يهمُّه، بعد قبض راتبه الشهري، سوى أن يرضي ميله، ويروي ظمأه إلى حصر السلطة العسكرية في بني جلدته من الجراكسة، وتجريد مَن ساء حظهم بالولادة في مصر منها مع معاملتهم بالاحتقار. كان يطيع في ذلك تلك العصبية الممقوتة التي يبطنها بعض الغفل من الجراكسة المقيمين في مصر، كأن مصر وأهلها جنوا عليهم جناية مسَّت آباءهم، أو تعقبت أدبارهم، أو كأن أهل مصر سلبوهم شيئًا مما كانوا يملكونه، أو منعوهم حقًّا كانوا أهلًا لأن ينالوه.»٦ ويشير لطفي السيد إلى تلك الحركة العسكرية بأنها «كانت مقبولة، معضدة من العقلاء، قبل أن ينشق العسكر على الأمير، ذلك الانشقاق المعيب الذي أفضى إلى حوادث سنة ١٨٨٢م المحزنة.»٧ إنها — في تقديره — «ثورة عسكرية جاءت في غير وقتها، وتبعتها على أصحابها.»٨ كانت الأمة «قلقة، تحب الخروج من ذلك الاحتلال الفعلي الشركسي، وإن كان قلقها هذا لم يتعدَّ حدَّ القلق؛ لأنه لم تكن لها في الثورة العسكرية فكرة ثابتة، ولا مشاركة حقيقية.»٩ أما الثوار فهم لم يقدِموا على ما فعلوا لمصلحة البلاد، وإنما ثاروا ليدفعوا عن أنفسهم البلاء: «وكان ما كان من الاحتلال الإنكليزي الذي هو باقٍ إلى الآن.»١٠ مع ذلك، فإن لطفي السيد يذهب — في تقييمه لشخصية عرابي — إلى أن للرجل حسنات قبل الثورة، رضيت عنها الأمة، وفرحت بها، ورضي بها الخديو توفيق، وسار عليها العمل، وهي الدستور «فالدستور المصري من عمله، ومن صنع يده، ومن آثار جرأته. طلبه عرابي، لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكَّلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك إن لم يكن مشروعًا قانونًا، فإنه مشروع بتقاليد الأمم؛ لأنه هكذا جرى في كثير من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يُحمَل على الأكتاف، ويُهتَف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس؛ فعرابي حقق آمال الأمة بالدستور، ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دمًا، بل كانت الحركة — في حقيقتها — سلامًا لابسًا كسوة عسكرية.»١١ وبصرف النظر عن تعبير «قبل الثورة»، فلعلنا نجد في هذه الكلمات اعترافًا بشعبية الثورة؛ ذلك لأن المطالب التي قدمها عرابي إلى الخديو توفيق — باسم الشعب — كانت أبعادًا أساسية في الثورة، وفي نشدانها لمطالب الجماهير المصرية؛ لذلك يبدو غريبًا تعبير «قبل الثورة» لأن وقفة عابدين كانت معلَمًا له ما يسبقه، وله ما يليه في مسار الثورة، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت وقفة عابدين من قبل أن تبدأ الثورة، فمتى كانت بداية الثورة إذن؟!
يذهب ريمون فلاور إلى أن «ما حدث لم يكن مجرد حركة تمرد، بل ثورة.»١٢ كانت ثورة ١٨٨١م — في تقدير ريمون فلاور — حركة للفلاحين المصريين، موجَّهة ضد طبقة رجال البلاط الأتراك الذين تسبَّبوا في خراب البلاد. كما وجَّهت كراهيتها أيضًا نحو الأوروبيين، بعد أن انحاز الإنجليز والفرنسيون — علانية — إلى جانب توفيق.١٣

لقد شارك في الثورة — باعتراف لطفي السيد — علماء الأزهر وطَلَبته ورجال الدين المسيحي واليهودي، وعدد كبير من أعضاء مجلس النواب والأعيان وطلبة المدارس والمعاهد، والتجار والحرفيون، كانوا جميعًا يؤيدون عرابي، ويرفضون التدخل الأجنبي في شئون مصر.

•••

ثم يورد لطفي السيد سيئات عرابي التي تتلخص في خروجه على الخديو من غير مصلحة عادلة للأمة، وعدم تقدير حالة شعبه من القوة والضعف تقديرًا صحيحًا، والجهل بالمقارنة بين قوته الحربية وقوة الإنجليز، والانخداع ببعض المهيجين الإنجليز — لعله يقصد بلنت — وبكلمات بعض نوابهم الأحرار.١٤ وينسب لطفي السيد إلى أحد الساسة البريطانيين قوله يوم افتتاح قناة السويس: «الآن لزم احتلال مصر.»١٥ لم تكن الثورة العرابية إذن إلا ذريعة لاحتلال مصر، ولم يكن الذئب ليعدم ذريعة للانقضاض على الحمل، وكانت حملة فريزر — على سبيل المثال — بلا ذريعة، وبلا مناسبة. أما المأخذ الأساسي، في رأي لطفي السيد بالنسبة للثورة العرابية، فهو أن قادتها فعلوا ما فعلوه ضد خديو هادئ ومسالم، وكان «التمرد» الذي واجهوا به الخديو هو مياه النهر التي تحجج الذئب — لافتراس الحمل — بأنه لوَّثها! وهنا يتبدَّى التناقض فيما كان يؤمن به أستاذ الجيل، وما كان يدافع عنه. فقد كانت الدعوة إلى الاستقلال موازية — في تقديره — للدعوة إلى الدستور، لكنه — متناقضًا مع ما يؤمن به — كان يرجو لو أن العرابيين لم «يتمردوا» على الخديو الذي كان يستكثر الدستور على المصريين. أما الخيانة — والتعبير للطفي السيد — «فذلك أمر لا نعرفه في زعمائنا المصريين والمحسنين على السواء.»١٦ ويقول لطفي السيد: «لا أنكر أن عرابي أساء إلى وطنه وأمَّته، ولكن يجب أن أسارع بأنه أساء غير قاصدٍ إساءته، أساء من حيث أراد أن يحسن، وأضر من حيث أراد أن ينفع، فله ثواب النية، وعليه مسئولية النتيجة. نعم عليه مسئولية النتيجة، ولكن ما أظنه منفردًا بها؛ لأن الحكومة يجب أن تتحمَّل منها نصيبًا أيضًا، ومجلس النواب يجب أن يتحمَّل منها نصيبًا، كلٌّ على قدره، بل أعيان البلاد وتجَّارها يجب عليهم أن يتحمَّلوا من المسئولية شيئًا … فعرابي لا يصح أن يكون وحده هو المسئول عن جميع الأعمال التي كوَّنت الثورة، وأدت إلى هذه النتيجة السوداء.»١٧

ولعلَّنا نذكر — هنا — قول النديم: «قد فعلنا ما وجب.» كلمات ثلاث قيلت في أعقاب الهزيمة مباشرة، وردًّا على الاقتراح بأن يطلب قادة الثورة العفو على ما أقدموا عليه، قد فعلنا ما وجب، إجابة حاسمة من النديم الذي عانى الفرار والنفي والتشريد، لكنه ظل على إيمانه بأن الثورة كانت فعلًا صحيحًا وحقيقيًّا، وأنها كانت ما وجب.

أخيرًا، فقد عاب لطفي السيد على المصريين أنهم أساءوا إلى عرابي في منفاه، فلمَّا عاد إلى الوطن وهو شيخ أشيب «لم يُحترَم له شيء من حسن نيته، ولم يُحفظ له شيء من تاريخه الطيب.»١٨

•••

إذا كان لطفي السيد — في معظم الكتابات التي عرض فيها لعرابي وللثورة — قد هاجم عرابي بقسوة، ربما بأسلوبٍ يتناقض مع عقلانيته في تناول الأمور ومناقشاتها وتحليلها؛ فذلك لأن لطفي السيد كان أقرب إلى الإمام محمد عبده في نهجه الإصلاحي، وأبعد ما يكون عن الثورة التي انطلقت منها كلُّ أفكار عرابي ومبادئه، وكما أشرنا من قبل، فإن الإمام لم يناصر الثورة بعد قيامها إلا لأنها كانت قد قامت فعلًا. الأمر نفسه فعله لطفي السيد بالنسبة لثورة ١٩١٩م، فالنهج الذي كان يحرص عليه — والمهادنة بعد رئيس فيه — يتناقض مع مبدأ الثورة، فضلًا عن أن عرابي كان يمثِّل مجموع الشعب المصري — وفلاحيه بالذات — تمثيلًا حقيقيًّا، بينما عبَّر لطفي السيد — في غالبية مواقفه — عن الطبقة التي كان ينتمي إليها، حتى إنه شارك في حكومتَي محمد محمود (عام ١٩٣٨م)، وإسماعيل صدقي (١٩٤٦م).

•••

عرابي في «قلعة الأبطال» يكتب العريضة إلى رياض، ويُضمِّنها أكثر من مطلب: عزل ناظر الجهادية، وتأليف مجلس للنواب، وزيادة أفراد الجيش إلى ١٨ ألفًا … إلخ، وقد ذهب البعض إلى أن عرابي ورفاقه كان شاغلهم حقوقهم الخاصة فقط، وأن اهتماماتهم «ظلَّت قاصرة على المصالح الفئوية دون المصالح العامة القوية.» أما العريضة التي رفعها عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي إلى رياض باشا، فإنها لم تكن تحتوي — كما زعم عرابي — على مطلب تأليف مجلس نواب من نبهاء الأمة. نفى ذلك كل معاصريه، واعتبر الباحث عرابي أداة «فرضوا بها إرادة طبقتهم في تصفية الحكم المطلق.» ثم أكد «في وضوح أن عرابي لم يكن زعيمًا للثورة العرابية بهذا المعنى العريض، وإنما كان منفِّذًا لإرادة طبقة.»١٩ بل لقد أكد تحليل أيديولوجي لبواعث الثورة، وتطورات أحداثها، على أنها — أي الثورة — تمثِّل «مصالح البيروقراطية العسكرية تحالفًا مع الأرستقراطية الإقطاعية.»٢٠ غاب عن واضعي التحليل أن الثورة كانت موجَّهة في الأساس ضد البيروقراطية العسكرية التركية والشركسية، التي تشغل مناصب الجيش القيادية، وكبار ملاك الأراضي، بدءًا بالخديو وأسرته، وانتهاءً بالأسر الإقطاعية من أتراك وشركس، فضلًا عن أن «الظلم» الذي وقع على العرابيين، كان جزءًا من الظلم العام الذي وقع على الأمة؛ ومن ثَم فهم «لم يطالبوا بحقوقهم الخاصة، ولكن بحقوق الأمة.»٢١ ورغم مؤاخذات الرافعي المعلَنة لعرابي فإن الحركة العرابية — في تقديره — قامت «لغرضٍ نبيل هو إنقاذ الأمة من مظالم الاستبداد، وإقامة قواعد الحكم الدستوري، وتحرير البلاد من التدخل الأجنبي.»٢٢ ويروي النديم — في مذكراته — أنه رافق عرابي في زياراته لمدن الأقاليم، وكان يخطب في الجماهير التي تجمَّعت على جانبَي خطوط السكك الحديدية، وفي المحطات، لاستقبال «بطل الثورة». ويضيف النديم أن الجماهير الكثيرة كانت في انتظار ركب عرابي في الزقازيق، وبعد أن خطبهم عرابي نادَوا باسم النديم، فخطبهم أكثر من مرة، وطالبهم بحفظ الوحدة والتمسك بالحرية.٢٣
أصبح الجيش — على حد تعبير روزنشتين — هو الهيئة الوطنية الوحيدة التي تملكها مصر، بعد أن فرض ممثِّلو فرنسا وإنجلترا سيطرتهم على كل المؤسسات المدنية؛ ومن ثَم كان من الطبيعي أن يتجمَّع حول الجيش استياء الأمة ليعبِّر عن طموحها وآمالها.٢٤ ولا يخلو من دلالة قول ضابط مصري لأحد رجال القنصلية الفرنسية: «لو أن عرابي تخلَّى عنا، لمزقناه إربًا.»٢٥ كذلك فإنه من المهم أن نشير إلى قول كرومر: «ليس هناك ريب في أن حركة عرابي كانت من بعض الوجوه حركة قومية، وليس من شكٍّ كذلك في أنه لو ترك عرابي وأتباعه في القيام على الشئون من غير مراقبة، فإن حالة من أشد حالات الاضطراب كانت تنشأ في مصر، وإن تدخلًا أجنبيًّا مسلحًا من نوعٍ ما، كان يصبح ضرورة من الضرورات.»٢٦ أما قنصل النمسا فقد أكد أن حركة العرابيين «ليست تمردًا، أو حركة عسكرية بأية حالٍ، هذه ثورة شعبية تمامًا.» وعلى الرغم من كل الاتهامات التي كالها الإمام لعرابي، فإنه يقرر أن: «الجند والأمة كلاهما كان في جانب عرابي.»٢٧ وفي التقرير الذي كتبه الإمام محمد عبده وهو في السجن للمستر برودلي: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيًّا صرفًا، بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؟ فكان يتكالب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته بحماسٍ غريب، وبكل ما أوتوه من حول وقوة لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنجليز. إني لم أعلم أنه قيل إن الخديو كان يحارب جيشه، بل المعروف عند الناس أن الحرب وقعت برضاه وبأمره، وقد رسخ هذا الاعتقاد عندما علم الناس أنه أقال عرابي من منصبه؛ لأنه لم ينفذ أمره بالاستمرار على المقاومة، وتحصين بعض المراكز، اتقاءً لنزول غزاة من البحر. وفي أثناء ذلك كان الأزهريون يقرءون البخاري في الجامع، وفي جامع الحسين، يدعون بالنصر لعرابي، وتبرع الأمراء والأعيان والعلماء ونساء الأسرة المالكة وأفراد الحاشية الخديوية، بالخيل والحبوب والنقود والمعدات اللازمة للجيش، وأقبل المتطوعون — مسلمون وأقباط — وهم في شوق لقتال الإنجليز، وكان رؤساؤهم يشجعونهم، وفي أي اجتماع ذُكرَت فيه الحرب، كان الناس يدعون الله طالبين النصر لجيوشنا.»٢٨

إن توفيق بن إسماعيل يشابه فاروق بن فؤاد في بُعد رئيس في الحياة المصرية؛ فقد ولي كلاهما العرش عقب عزل أو وفاة سلفه الذي لم يكن محبوبًا من الشعب، وكانت الظروف مهيأة تمامًا أمام توفيق وفاروق ليبدآ عهدًا جديدًا ويتجها إلى الجماهير المصرية، وليس إلى أية قوًى خارجية أو متمصرة. وقد عبَّرت الجماهير المصرية — بالفعل — عن تفاؤلها اللامحدود بتولية توفيق الذي كان تلميذًا للأفغاني، وصديقًا للشباب المصري المثقف، ومتحمسًا للدستور، مثلما عبَّرت عن تفاؤلها اللامحدود — بعد عشرات السنين — بتولية فاروق، الذي كان في مقتبل حياته، ولم تكن السياسة قد أفسدته بعد. ثم فوجئت الجماهير المصرية — عقب تولية الخديو الجديد، والملك الجديد بفترة قصيرة — أن الخلف لا يختلف عن السلف إلا في القناع الذي نزعه بعد أن ولي العرش!

كان إيقاف خطوات إعلان الدستور، وتعطيل مجلس النواب، في مقدمة الأهداف التي حرص عليها الخديو توفيق، وقد تبدَّت نيَّات توفيق الأوتوقراطية منذ اليوم نفسه الذي تسلَّم فيه من مندوب السلطان فرمان تثبيته على العرش؛ فقد أقال وزارة شريف باشا، وألَّف وزارة برئاسته بحجة التعجيل بالإصلاح، وإن كان الدافع الحقيقي هو رفض الاتجاه الدستوري الذي كان يسير فيه شريف باشا. وأكد توفيق نيَّاته في الخِطاب الذي أرسله إلى وزرائه الجدد، يكلف كلًّا منهم بأن يحضِر أوراق وزارته عند حضوره إلى المجلس لعرضها، ثم في استدعائه رياض باشا من أوروبا، وهو من عُرِف عنه عدم ميله إلى الحياة الدستورية.٢٩

مع ذلك، فقد حرص عرابي أن تكون كل خطواته في درب الالتزام بالسلطة الشرعية للخديو، وهو لم يعلن خيانة الخديو إلا بعد أن لاذ توفيق بالإنجليز فعلًا. حتى في يوم عابدين حرص عرابي على أن يزيل ما قد ينشأ من سوء الفهم، فكتب إلى الخديو ينبِّئه بما اعتزم هو وزملاؤه، وأنهم لا يسعَون إلى عداء شخص الخديو، لكنهم يطلبون — يتوسلون! — أن ينصت إلى شكواهم. فلما وقف الشعب — ممثَّلًا في عرابي — أمام الأوتوقراطية — ممثَّلة في توفيق — حرص عرابي على أن يراعي مقام الخديو «ووقفت بين يدي الخديو وقفة الطالب الراجي كرم مولاه»، فامتثل لأوامره بالنزول من على جواده، وإغماد سيفه، وأدى التحية العسكرية، وردَّ على إهانات الخديو بصوتٍ هادئ واثق. وبعد أن امتثل الخديو لإرادة الشعب، لم يفلت عرابي مناسبة للتأكيد على أن «قيامنا كان لطلب الحقوق لا للعقوق» وأن «الطمأنينة عادت كما كانت، وعدنا إلى ما نشأنا عليه من طاعة مولانا الخديو، وخضوعنا له ولوزرائه الفخام، فلا تأخذكم الأراجيف وإشاعات أعداء الوطن، وثقوا بسعي أميرنا ورجاله.» وعندما يقسم محمود سامي البارودي — في لحظة حماسة — إنه مستعد لأن يضحي بحياته مقابلًا للمناداة بعرابي خديويًا لمصر. يقول له عرابي: «مَه يا محمود باشا، فإني لا أريد إلا تحرير بلادي، ولا أرى سبيلًا لنوالنا ذلكم إلا بالمحافظة على الخديو، كما صرحت بذلك مرارًا وتكرارًا، وليس لي مطمع أصلًا في الاستئثار بالمنافع الشخصية، ولا أريد انتقال الأريكة الخديوية إلى عائلة أخرى لما في ذلك من الضرر.»

•••

طالب عرابي بالدستور، وهو مطلب شعبي عام، وليس مجرد مطلب عسكري؛ لذلك جاء قول لطفي السيد — لم يثبت على رأي واحد! — «أنه من الظلم أن نحكم على الثورة العرابية أنها ثورة جندٍ من أجل المساواة بينهم وبين أندادهم من الترك والجركس في الحقوق والواجبات والامتيازات، فإنها وإن بدأت تلك البداية إلا أنها انتهت بالمطالبة بحق الأمة في الدستور والحكم النيابي والمساواة التامة في الحقوق والواجبات.»٣٠ ويذكر القنصل الفرنسي رينيج أن عرابي قال له يومًا، إنه «ينحني إجلالًا أمام الجمهورية الفرنسية، وإنه يود لو كان مواطنًا في جمهورية؛ لأن الجمهورية هي راية الفلاحين الثوار، ورمز الحرية والمساواة والإخاء، وأن هذه المبادئ مستمدة عنده من القرآن، وليست مستعارة من المفاهيم الأوروبية التي لا يعرفها.»٣١ وحين خُلِع إسماعيل من منصب الخديوية، عمَّ الفرح على حد تعبير عرابي «ولكن لو أنَّا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل؛ إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلص من أسرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية.»٣٢ ولعلَّه مما يؤكد ذلك الاتجاه، إفتاء الشيخ عليش بأن الخديو فقدَ مشروعيته كوالٍ على المسلمين المصريين؛ لأنه حاول بيع البلاد للأجانب، وأطاع مشورة قناصل أوروبا، وردَّ مفتي الديار المصرية — إبان احتدام الأحداث، ١٨٨٢م — على استفتاء من ناظر الجهادية وزعيم الثورة، بواسطة الشيخ محمد الإنبابي شيخ الجامع الأزهر، في شأن «النظر في مسألة هدم وحرق الصنم الموضوع بالأزبكية بمكان مئذنة مسجد الأزبكية، مع كسر رءوس الصور الموجودة في فتحتَي كوبري قصر النيل أيضًا.» وقال المفتي في ردِّه: «إن المصائب ما نزلت على بلادنا إلا من عهد نصب صنمَي مصر وإسكندرية.» والمقصود بعبارة «الصنم الموضوع بالأزبكية» هو تمثال إبراهيم بن محمد علي الذي كان قائمًا في ميدان العتبة، أما المقصود بعبارة «الصور الموجودة في فتحتَي كوبري قصر النيل» فهي تماثيل الأسود الأربعة القائمة على مدخلَيه، حتى الآن، وأما «صنم الإسكندرية» فهو تمثال محمد علي القائم — حتى الآن — في ميدان التحرير بالإسكندرية، وأفتى الرجل — في حسمٍ — في كتابه «الفتاوي المهدية في الوقائع المصرية» بأن هذه الأصنام «يجب إزالتها فورًا.» وقد بدأ تنفيذ الفتوى بالفعل، فأنزل تمثال إبراهيم باشا من فوق منصته بميدان العتبة، واقترح بعض قيادات الثورة صهر التمثال لصنع مدافع من مادة البرونز التي يتشكَّل منها، لكن الأحداث سبقت التنفيذ، فأجهضت الثورة، ونُقِل التمثال — بعد ذلك — إلى موقعه الحالي بميدان الأوبرا.٣٣ وقد توصَّل علماء الأزهر إلى اتفاقٍ مع علماء تونس وطرابلس، أن طاعة الباب العالي غير واجبة إذا انضم إلى الأوروبيين.٣٤ وأفتى الشيخ عليش بأن الخديو فقدَ مشروعيته كوالٍ على المسلمين المصريين؛ لأنه حاول بيع البلاد للأجانب، وأطاع مشورة قناصل أوروبا. وظل الشيخ عليش على موقفه من تطورات الثورة، فاعتقله الإنجليز عقب الهزيمة، وأودعوه مستشفى قصر العيني، حيث لقي — كما يروي النديم — معاملة لا تليق بسنِّه ولا مكانته، حتى مات. كما أعلن الشيخ حسن العدوي في خُطبه، خيانة الخديو، وأصدر فتوى بخيانته، وطالب بعزله، ودخل الشيخ السجن لقاء دعوته.٣٥ وترأس الشيخ محمد خضير وفدًا من الأعيان (٢٢ عضوًا) حملوا عريضة بتوقيعات عشرة آلاف مواطن، معظمهم من طلبة الأزهر، يؤيدون عرابي، ويرفضون التهديدات الأجنبية، وقد أكد عرابي أن الرأي أجمع على «خلع الخديو على مقتضى الشرع الشريف الإسلامي.»٣٦ وصارح عرابي الضباط، في اعترافات يعقوب سامي، «أن هذا الظالم — يعني الخديو — لا يصح أن يكون خديويًا، فإنه مخلوع، فمن يقبل خلعه معنا يقف.»٣٧ ومن ناحيته قال البارودي لمراسل أجنبي: «منذ بداية حركتنا، وهدفنا تحويل مصر إلى جمهورية صغيرة مثل سويسرا، تقوم وتنضم إليها سوريا، وتتبعها الحجاز، ولكننا وجدنا بعض العلماء لم يتقبَّلوا ذلك؛ لأنهم متأخرون عنا، لكننا سنجعل مصر جمهورية قبل أن نموت، ولنا كل الأمل في ذلك.» بل إنه بعد تصاعد الأحداث، وانحيازه الواضح إلى أن تنقشع سحب المصائب المتكاثفة على مصر.٣٨ وأكد أحمد رفعت في التحقيقات أن البارودي قال إن الخديو «لازم ياخد شنطته، ويتوجه للوكاندة شبت، فإنه عزل.»٣٩ ويروي بلنت أنه قابل شيخًا بالأزهر — في أثناء الثورة — هو محمد خليل، ذكر له أنه عضو في جمعية المصلحين الأحرار، وأن مركزها الرئيسي في مكة، وهدفها إقامة خلافة عربية. ويشير كرومر إلى أن الهمسات تعالت — وقت الثورة — عن قيام حركة سرية، ترمي إلى إنشاء دولة عربية في مصر وسوريا.

والواقع أن الاتجاه إلى إعلان الجمهورية لم يكن يعني مجرد الرغبة الأكيدة في التخلص من حكم الأسرة العلوية، ومن الحكم الملكي بعامة، لكنه كان يعني — أيضًا — التخلص من التبعية للخلافة؛ فحاكم مصر سيصبح رئيسًا لجمهورية، وليس واليًا ولا خديويًا، ولا ملكًا، بما يعني — تلقائيًّا — سقوط أية تبعية لسلطة الخلافة. شعار «مصر للمصريين» الذي أعلنه قادة الثورة العربية — وفي مقدمتهم النديم — لم يكن يتجه إلى الباب العالي، لكنه كان يعني أن تكون مصر للمصريين حقيقة وفعلًا.

•••

وعلى الرغم من أن الرافعي حدد ماهية الثورة بأنها عسكرية «وهذا صحيح لا مراء فيه.»٤٠ — على حد تعبيره — إلا أنه قد حسم الأمر في كتابه بأن الثورة «ليست عسكرية فحسب، بل هي أيضًا ثورة قومية، اشتركت فيها طبقات الأمة كافة، وإذا أردنا أن نستقصي أسبابها، وجدناها على نوعَين: أسباب خاصة أو مباشرة، وهي المرتبطة بطبقة الجند والضباط وموقفهم من الحكومة، وموقف الحكومة منهم، وأسباب عامة، وهي التي تتصل بحالة الشعب، والعوامل التي دفعته إلى مناصرة الثورة وتأييدها.»٤١ ومع ذلك التحديد المسئول لماهية الثورة، فإن الرافعي يعود فيأخذ على الحركة العرابية، أنها اتخذت الجيش أداة للحركة السياسية، بينما تجنَّب مصطفى كامل هذا الخطأ! واعتمد على قوة الرأي العام، وليس اعتماد الحق على قوة تسانده مما يصح نسبته إلى قصور الرأي أو الخطأ؛ فقد كان الجيش هو القوة التي استندت إليها ثورة الثالث والعشرين من يوليو في فرض سيطرتها على مقاليد الأمور، وانتزاع حق سيادة الشعب من براثن الحكم الرجعي؛ لأن مشاعر الجماهير — بغير القوة — لا تحيل الأماني إلى حقائق، ولعلي أوافق على القول بأن الاعتماد على الجيش في تحريك الأحداث؛ لأنه — أيامها — كان المؤسسة المصرية الوحيدة، المنظمة، على نحوٍ يسمح لها بالحركة المؤثرة في تلك الأحداث.٤٢ قال عرابي: «إن الجيش هو القوة الواقفة الآن بين مصر وحكامها الأتراك الذين لا يحجمون عن تجديد مظالم إسماعيل في أي وقت، إذا لاحت لهم فرصة.»٤٣ وقال: «إن سكوتنا يُعَد من العجز والجبن والتفريط في وطننا، فاعلموا يا معاشر الوطنيين أن أولادكم المنتظمين في سلك الجهادية، قد عزموا على منع كل ما من شأنه الإجحاف بحقوقكم. بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد، وفلقنا عرش الاستبداد.» أما مصطفى كامل، فلم يكن قائدًا لثورة، لكنه كان ردَّ فعل معنويًّا لهزيمة العرابيين؛ لذلك، فقد اعتمد — في الدرجة الأولى — على الخطب العاطفية، والأسلوب البليغ، والعبارات الإنشائية التي تعنى بالمطلق، ولا تقف عند التفصيلات الثابتة. فليس ثمة إحصائية واحدة يدلِّل بها على جور السياسة الاستعمارية، ولا حادثة تدين حكم الإنجليز — فيما عدا حادثة دنشواي التي كانت صدمة هائلة لكل المصريين — وإنما هي عبارات بليغة مثل: «لو لم أكن مصريًّا، لوددت أن أكون مصريًّا … لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس … في الرضاء بالاحتلال الخيانة والعار، وفي العمل ضد الاحتلال الشرف والفخار … الأمل دليل الحياة ورائد الحرية … الوطنية شعور ينمو في النفس، ويزداد لهيبه في القلب، ويرسخ في الفؤاد، كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه … إلخ.»
إن الثورة لا تقوم على العاطفة وحدها، فلا بد من قوة تساندها، وتعينها على الاستمرار ومواجهة التحدي. يقول الرافعي: «وإذا علم — مصطفى كامل — أن اصطدام العرابيين بالخديو توفيق قد مكَّن للدسائس الإنجليزية من أن تُوقِع الفرقة والانقسام في مصر، فإنه نأى عن هذه السياسة الخرقاء، وسلك بالحركة الوطنية سبيل التفاهم مع الخديو عباس حلمي الثاني.»٤٤ وبرغم ذلك الدرس الذي أفاده مصطفى كامل من الثورة العرابية، فإنه ما لبث أن جاهر بعداوته للخديو عباس حلمي الثاني، بعد أن تبدَّى انحيازه إلى السياسة البريطانية، إلى حد عرض مقاسمة المعتمد البريطاني له في حكم البلاد حكمًا مطلقًا، وقال مصطفى كامل: إن مصلحة الشعب المصري تقضي بأن تكون الحركة الوطنية بعيدة عن الجناب العالي. وباختصارٍ، فإن مصطفى كامل كان إرهاصًا وممهدًا حقيقيًّا لثورة ١٩١٩م، بعد صدمة الاحتلال التي لم يفُق منها المصريون لسنواتٍ طويلة؛ عباراته الرنانة أيقظت الوجدان القومي بعد سني الظلام، وهيَّأت الأذهان والنفوس للأحداث العظيمة التي شهدتها البلاد بعد أعوامٍ من وفاته.

•••

يسأل المدرس أحد تلاميذه: ما أسباب الثورة العرابية؟

يجيب التلميذ: اضطهاد الشعب.

– وأنت؟

– تدخُّل الأجانب.

– وأنت؟

– المطالبة بتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي.

– وآخر واحد على اليمين؟

– إسقاط الوزارة المستبدة.٤٥
ويقول عرابي لعبد الله النديم: أنت تعرف أننا نريد القيام بحركة لم تحدث من قبل في هذه المنطقة، لقد ظل الجيش لآلاف السنين الوسيلة الوحيدة لاستبداد الحكام، واليوم سيخرج عن تقاليده ليصبح وسيلة شعب لتحقيق نظام دستوري لا وجود له في أي بلدٍ حولنا، وهذا وحده كافٍ لأن يثير ضدَّنا الجميع، لن يرحب الأجانب بأية حركة يمكن أن تؤدي إلى منع سيطرتهم على البلاد. إنهم يصدِّرون لنا هذا النوع من السلع، وأما السلطان الذي حارب الحركة الدستورية في تركيا، ولم يتورَّع عن نفي زعيمها مدحت باشا، فلا يمكن أن يرحب بالدستور في بلدٍ تابع له، وقد تثير حركتنا جنونه.٤٦ وقد أشار اللورد كرومر في تقريره عن مصر — ١٩٠٥م — إلى أن الحركة التي أفضت إلى الاحتلال، كانت في جوهرها ثورة صحيحة ضد سوء الحكم، ولم تكن في جوهرها موجهة ضد الأوروبيين.٤٧ ومع أن كرومر يرى أن مبدأ «مصر للمصريين» الذي اعتنقه الثوار كان سيؤدي إلى التخلص من الأوروبيين، ومن الخديو، ومن الأرمن، ومن الطبقة الأرستقراطية، وأغلبها من الأتراك الذين كانت لهم أراضٍ واسعة.٤٨ ويروي برودلي على لسان أحمد رفعت — أحد المتهمين في أحداث الثورة، وكان تركيًّا — «قيل لي إنني تركي، ولا شيء يصلني بهذه الثورة، ولا بالفلاحين، لكنني انضممت لأنني وجدت قضية عادلة. كان عرابي زعيمًا، وكانت مصر كلها تقف وراءه. كان عرابي يعبِّر تعبيرًا صحيحًا عنها، عن شعب أرهقه الاستبداد والاستغلال، وأُنهكَت أبسط حقوقه، وقام ليستردها له؛ ولهذا وقفت مصر كلها، وبلا استثناء، معه. وكان لا بد أن ينتصر، لولا أن خانه الخديو، وخدعه السلطان، وتداعت أركان القضية.» ويوضح أحمد رفعت في دفاعه أنه «بعد تنكُّر الخديو وانحيازه للعدو، وعزْله لعرابي، تقرر عقد اجتماع للمجلس العرفي في القاهرة، ليقرر ما يجب اتخاذه من إجراءات، وقد طلب عرابي إلى المجلس أن يفصل بينه وبين الخديو، وأن يقرر من هي السلطة الشرعية في البلاد، ودُعي إلى عقد الاجتماع. ولم أشهد في حياتي اجتماعًا حافلًا مثله؛ إذ شهده أمراء من الأسرة المالكة وبطاركة وحاخامات وعلماء، وكل رجالات مصر وعظمائها، وأجمعوا جميعًا على تأييد عرابي ضد الخديو، وأن الخديو قد خرج على الدستور والشرع وكل المبادئ، وأن عرابي هو القائد، وأن المجلس هو السلطة، وأن مواصلة الحرب ضد الغزوة هي المهمة الأولى، والأخيرة، وذلك حتى يفصل السلطان في الأمر إزاء الخديو.»٤٩ ويكتب حسن موسى العقاد في رسالة بيد شخصٍ اسمه خليل أفندي: «ومن المعلوم أن المسألة صارت غير مختصة بذات عرابي باشا كما يقال، بل صارت مسألة عمومية؛ بحيث لم يكن موجودًا بالقطر من هو راضٍ عن توفيق لمناسبة انضمامه للإنكليز، وجلب حربهم على المصريين.»٥٠ لقد أجادت الثورة استخدام جميع المؤسسات، بداية من الجيش وانتهاءً بالتنظيمات الشعبية، مرورًا بالحكومة والبرلمان والدستور وغيرها، ونمت قوى الثورة في كل المؤسسات مع نمو العقلية الثورية، وتتابعت المخاطر التي واجهتها الثورة بما فرض من تعبئة متنامية للمؤسسات الثورية، بحيث غذَّت كلٌّ منها الأخرى، وأخذ بعضها بيد البعض الآخر، وعملت جميعها في توافق.٥١ وبعد موقعة القناة بدأ الأهالي — كما يروي أحمد شفيق في مذكراته — يتخلَّون عن السلطان، ويجاهرون بالعداء للإنجليز، والتجمُّع في المقاهي، على الرغم من وجود الجواسيس. وأحس الإنجليز خطورة مركزهم أمام الأهالي، والبوليس المصري يتظاهر بتنفيذ الأوامر، لكنه — في الحقيقة — لا يعمل بها.٥٢ ويُصدِر شيخ الأزهر بيانًا، يعلن فيه أن الحكومة الشرعية — منذ اعتمدت على الإنجليز — لم تعُد، في حكم الله، صاحبة حقٍّ شرعي على مصر، ووقَّعت أعداد كبيرة من المواطنين على ذلك البيان، ووضعوا عليه بصماتهم.٥٣ واللافت أن ثلاثة من أمراء الأسرة المالكة كانوا من بين الموقِّعين على الوثيقة التاريخية التي أصدرها قادة الأمة المصرية بالوقوف خلف قيادة عرابي، وعدم الاعتراف بالأوامر التي يصدرها الخديو توفيق «حيث إن الخديو خرج عن الشرع الحنيف والقانون المنيف.»
والواقع أن المطالب التي أعلن الجيش عنها، بضرورة مساواة الضباط المصريين بزملائهم من الشراكسة والأتراك، لا يمكن إطلاق صفة الثورة — وهو التعبير الذي استخدمه رفاعي — عليها؛ لأن الثورة شمول، بدليل قيام ثورة الجيش في ٢٣ يوليو توصلًا إلى تحقيق مبادئ ستة، في مقدمتها: تطهير الجيش، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. أما الحزب الوطني، الذي ترأسه عرابي، وهو غير حزب الأرستقراطية المصرية، أو جمعية حلوان، الذي كان همُّه الوحيد مقاومة النفوذ الأوروبي، متمثِّلًا في وزارة رياض.٥٤ أقول: أما الحزب الوطني، فقد أعلن العزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذلَّ قبل الثورة؛ فالمصريون يعلمون أن الصمت على حقوقهم لا يخوِّلهم الحرية في بلاد ألِف حكامُها الاستبداد وكرهوا الحرية، فإن إسماعيل باشا لم يمكِّنه من الظلم والاستبداد إلا سكوت المصريين. وقيَّد الحزب تأييده لسلطة الخديو بتنفيذ الخديو لمطالب الشعب التي وافق عليها في ساحة عابدين يوم ٩ سبتمبر ١٨٨١م من الحكم، بناءً على قانون العدل والشريعة، بالشورى، وإطلاق عنان الحرية للمصريين، والاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وأعلن أن سبيله إلى تحقيق الحرية الحقيقية هو القانون الأساسي — الدستور — وحفظ الشرائع والقوانين، وحرية المطبوعات، وتعميم التعليم، وتوسيع نطاق المعارف بين أفراد الأمة، أما المؤسسة التي ترعى ذلك كله فهي مجلس شورى النواب. كما حذَّر الحزب الخديو من الإصغاء إلى الذين يحسِّنون إليه الاستبداد، والإجحاف بحقوق الأمة، ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها. وأكد الحزب أن المصريين عازمون على أن يستخلصوا ماليتهم من أيدي أرباب الديون شيئًا فشيئًا، حتى يأتي يوم تكون مصر فيه بيد المصريين. وكان شعار «مصر للمصريين» الذي أعلنه الحزب الوطني، بمثابة ردٍّ على سيطرة الأتراك والشراكسة على مقاليد الأمور في البلاد، والجيش إحدى ظواهرها، وأضاف قادته لقب المصري إلى أسمائهم: أحمد عرابي المصري، عبد العال حلمي المصري، علي فهمي المصري … ولعل هذا هو السبب الذي دعا حزب مصطفى كامل، ومؤرخه الرافعي، إلى دمغ الحركة العرابية، بأنها كانت تحمل من التهوُّر والاندفاع وعدم التخطيط، بأكثر مما تحمل من الاستعداد والتخطيط والنظرة الموضوعية المسئولة؛ فقد كان الحزب الوطني — حزب مصطفى كامل — يدين بالولاء لفكرة الجامعة الإسلامية التي عبَّرت الحركة العرابية عن نقيضها.
والحق أن عرابي لم يضرب بفأسه في أرضٍ مجدبة؛ فقد كانت كل التوقعات تنبض باحتمال الثورة، بداية من ريادة العطار والطهطاوي وتعاليم الأفغاني وكتابات النديم ومحمد عبده، إلى الصحوة الهائلة التي شملت البلاد جميعًا، ورفْض المصريين للواقع المجحف، التفاتًا إلى الغد النابض بالحرية والكرامة والعدل. وكان دور عرابي أشبه بمن ينفض الرماد عن النار لتشبَّ وتعلو، فلم يكن قد ظهر عندما كان الفلاح المصري يثور ضد الجُباة، فتخمد ثوراته بالعنف والقسوة، لكنه يعاود الثورة، بل لقد سكت صوت الثورة، ولم يسكت مدفع طابية صالح الذي وقف وراءه رجلان اختارهما الفنان — بصدقٍ وذكاء — من بين عامة الشعب، خلت الطابية من الضباط الشراكسة والأرناءوط، ولم يبقَ فيها سوى جنديَّين من الفلاحين المصريين، دافعا — إلى آخر طلقة مدفع — عن استقلال الوطن. ويلخص محمود عبد المنعم مراد الثورة العرابية بأنها «كانت ثورة وطنية، طبقية، مكتملة العناصر، فيها جموع شعبية توجهها قيادة، وتثيرها مختلف وسائل الإثارة، وفيها شعارات يهتف بها المواطنون، كما كان فيها أيضًا خيانة وانتهازية ودعوة هزيمة، شأنها في ذلك شأن كل ثورة حدثت في كل زمان ومكان.»٥٥

إن التاريخ جهد الجماعة، وليس جهد الفرد، مهما تتفرَّد عبقريته. سدى التطور التاريخي: حركة المجتمع، وتفاعلات تياراته، وتطوره، أما دور الفرد، فلن يجاوز — على حد تعبير علم الكيمياء — دور العامل المساعد.

هوامش

(١) سهير القلماوي، أحاديث جدتي، ٤٠.
(٢) عمر طوسون، الجيش المصري البري والبحري.
(٣) محمود كامل، حضرة الباشمعاون، لوحات وظلال، مؤسسي المطبوعات الحديثة.
(٤) سعيد بكر، وكالة الليمون، هيئة الكتاب، ٧٤.
(٥) تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل، ١١٨.
(٦) محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ١٨٥.
(٧) محمد أنيس، صفحات مجهولة من التاريخ المصري، ٤١.
(٨) المرجع السابق، ١٧٦.
(٩) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، كتاب الهلال، ٧٧.
(١٠) صفحات مجهولة من التاريخ المصري، ١٦٢.
(١١) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي.
(١٢) ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ت. سيد الناصري، المجلس الأعلى للثقافة، ١٨٩.
(١٣) المرجع السابق، ١٨٧.
(١٤) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، ١٠٤.
(١٥) المرجع السابق، ١١٥.
(١٦) المرجع السابق، ١٠٤.
(١٧) المرجع السابق، ١٠٥.
(١٨) المرجع السابق، ١٠٤.
(١٩) روز اليوسف، ١٣ / ١١ / ١٩٧٨م.
(٢٠) كراسة بعنوان «المسألة الزراعية»، نقلًا عن «فكر»، ٣٤.
(٢١) صباح الخير، ٢٥ / ٢ / ١٩٨٢م.
(٢٢) صلاح عيسى، الثورة العرابية، ٧.
(٢٣) علي الحديدي، عبد الله النديم، أعلام العرب، ١٥٣.
(٢٤) فصول من المسألة المصرية، ٦٤.
(٢٥) محسن محمد، أسرار الثورة العرابية، الجمهورية، ٧ / ٩ / ١٩٨١م.
(٢٦) محمود الخفيف، أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ٢٠٠.
(٢٧) مذكرات الإمام، ١٥٠.
(٢٨) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ١٣١.
(٢٩) محمد حسين هيكل، تراجم مصرية وغربية، ٧٩.
(٣٠) حسين فوزي النجار، أحمد لطفي السيد، ٢١-٢٢.
(٣١) ز. ل. لفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسورية ومصر، ت. بشير السباعي، دار ابن خلدون، ١٧٨.
(٣٢) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ٣١-٣٢.
(٣٣) إبراهيم محمد الفحام، العربي، أبريل ١٩٧٢م، وهذه الفتوى تأكيد للعديد من المواقف الإيجابية التي اتخذتها القيادات الدينية في المراحل المتعاقبة من التاريخ المصري.
(٣٤) مصر والمسألة المصرية، ٢٣٠.
(٣٥) عبد الله النديم ومذكراته السياسية، ٤: ٨٦.
(٣٦) الهلال، مارس ١٩٧١م.
(٣٧) الطليعة، يوليو ١٩٦٦م.
(٣٨) الهلال، مارس ١٩٧١م.
(٣٩) الطليعة، نوفمبر ١٩٦٦م.
(٤٠) عبد الرحمن الرافعي، الزعيم أحمد عرابي، ١٤.
(٤١) المرجع السابق، ١٥.
(٤٢) أكتوبر، ٣٠ / ٩ / ١٩٨٤م.
(٤٣) أحمد حمروش، مصر والعسكريون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١: ٥٥.
(٤٤) نعمان عاشور، بطولات مصرية، روز اليوسف، ١٥٦-١٥٧.
(٤٥) فاروق منيب، زائر الصباح، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٤م، ٢١.
(٤٦) العودة إلى المنفى، ١: ١٩٠.
(٤٧) المسألة المصرية والوفد، ١٦٤.
(٤٨) كرومر، الثورة العرابية، ت. عبد العزيز رفاعي، ٢٢٨.
(٤٩) روز اليوسف ١١ / ١٠ / ١٩٨٢م.
(٥٠) من التحقيقات مع العرابيين، الطليعة، ديسمبر ١٩٦٦م.
(٥١) سعد زهران، المجلة، ديسمبر ١٩٥٦م.
(٥٢) مذكراتي في نصف قرن، ٣: ١٧.
(٥٣) عبد الرحمن الشرقاوي، دخول الظافرين، أرض المعركة، مطبعة الاعتماد بالقاهرة، ١٩٥٣م.
(٥٤) والملاحظ أن بعض مَن خانوا الثورة، وانقلبوا عليها، كانوا من قيادات ذلك الحزب، أو تلك الجمعية، مثل محمد سلطان ومحمد شريف وإسماعيل راغب وعمر لطفي.
(٥٥) محمود عبد المنعم مراد، طريق الحرية، كتب للجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥