العمدة والسلطة
لا تثبت الوثائق متى — على وجه التحديد — استُحدِث نظام العمدية، وإن كانت الإشارة
إلى
ذلك النظام مبثوثة في الوثائق الرسمية منذ أواسط القرن الثامن عشر، وأغلب الظن أن منصب
العمدة هو تطور لمنصب شيخ مشايخ القرية الذي كان موجودًا في عهد محمد علي.
١ استحدث الفرنسيون منصب شيخ البلد، إبان احتلالهم مصر في الفترة من ١٧٩٨م إلى
١٨٠١م. وكما يقول الجبرتي، فقد نظم الفرنسيون أمور القرى والبلدان المصرية، ورتَّبوا
على
مشايخ كل بلد شيخًا، ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه. صار «الشيخ» هو همزة الوصل بين
الفلاحين والحكومة، فضلًا عن أنه كان ممثِّل الحكومة في القرية، فهو الزعيم الأبوي للقرية
من ناحية، يحل مشكلات أبنائها، ويبدي المشورة والنصح والرأي، وهو مسئول عن تحصيل
الضرائب، وإرسال أفراد القرعة العسكرية، وإعداد عمال السخرة. ثم جعل الخديو إسماعيل —
إلى جانب المشايخ — فئة أخرى هي العمد الذين كان يتم اختيارهم من أكثر الملاك المصريين
ثراء ونفوذًا في الريف.
٢ وجاوزت وظيفة العمدة — في مرحلة تاريخية تالية — وظيفة شيخ البلد؛ أصبح
العمدة هو الرئيس الإداري للقرية، وتحت رئاسته اثنان أو أكثر من شيوخ البلد، كل منهم
مسئول عن حصة من الحصص التي تقسم إليها القرية، ويعاونه في حفظ الأمن شيخ الخفراء. أصبح
شيخ البلد في مرتبة تالية من حيث وظيفته الإدارية في القرية، لقد ارتبط نظام العمد —
منذ
نشأته — بالسلطة، فوضع نفسه في خدمتها.
٣ كما استطاع العُمد — فيما بعد — ومن خلال اتصالهم الدائب والمباشر برجال
الإدارة، وبالسلطة الحاكمة عمومًا، أن يحققوا مكاسب شخصية، مثل زيادة مساحة الأراضي
التي يملكونها، والحصول على الألقاب التي تميزهم عن بقية مواطنيهم، والمشاركة في الحياة
السياسية بالقدر الذي تحدده الدولة. وكان أبرز معالِم تلك المشاركة اختيار الدولة لأعدادٍ
كبيرة من عُمد القرى المصرية ليكوِّنوا أول مجلس نيابي حديث عرفته مصر، وهو مجلس شورى
القوانين الذي أنشئ في عهد إسماعيل. وكان أول تشريع لنظام العمد أمرًا عاليًا من
السلطان في ١٨٩٥م. وظل هذا التشريع معمولًا به حتى صدر قانون العمد في ١٩٤٧م، وتلته
تعديلات في أعوام ما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م.
٤
•••
العمدة هو ممثِّل السلطة التنفيذية في القرية؛ لذلك فإن مواقفه — في الأغلب — ضد
أهل
القرية، ويبلِّغ عن كل مَن يرفض قرارات الحكومة، أو يتمرد عليها، أو يتهرب من قوانينها،
وفي المقابل، فإن القرية تبادِله الكراهية، وتشمت فيه.
٥ يقول الرجل: لا أحب العمد! يقول الرجل الآخر: ليس في الدنيا أحد يحب
العمد، ولكن لا بد منهم!
٦
قيمة العمدية أنها حلقة الاتصال بين السلطة والمواطنين في القرى، ولأن العمدة من
أبناء القرية، فهو يعلم عن ناسها وأحوالها ما يعينه على أداء مهام وظيفته: الأرض،
والحدود، وتطور الملكية، والمالك الحقيقي والمالك الصوري، وعامل الترحيلة، والمطلوب
للتجنيد، ويؤمن «أنه مسئول عن كل روح في البلد.»
٧ ويتبع العمدة «جيش مصغر» من شيوخ الخفر والخفراء، إنها علاقة بين رئيس
ومرءوسيه.
٨ العمدة هو رمز النظام في القرية، والقرية التي يغيب عنها النظام هي «قرية
بلا عمدة» … والتعبير مَثَل شعبي!
وكان العمدة يتمتع بصلاحياتٍ واسعة، من بينها: صيانة الجسور، ومراقبة عمليات حفر
الترع، وتقسيم أراضي القرية إلى حصص، وتقديم الأنفار للخدمة العسكرية، وتحديد ما يدفعه
الفلاح من الضرائب، وربط العوائد، وحصر التركات، والانتقال إلى مواضع الأحداث،
٩ والإرشاد عن الجناة في قضايا القتل، وإعادة الهاربين من الضرائب والسلطة
بعامة إلى القرية، وعقد مجالس الصلح بين العائلات والأسر المتخاصمة، وتقديم المشتبِه
فيهم إلى السلطات لاعتقالهم في ظل قانون الطوارئ الذي يمثِّل استمرارًا في الحياة
السياسية والاجتماعية، فيما عدا استثناءات الإلغاء التي لا تزيد عن سنوات قليلة. فإذا
حدثت سرقة في القرية، ولم يتوصل العمدة إلى الفاعل، دفع ثمن المسروقات. لذلك فقد كان
العمد والمشايخ يُختارون — عادة — من بين أغنى العائلات في القرية، وأكثرها نفوذًا،
وتميزًا، وقدرة على التأثير، فمن شروط العمدية أن يكون المرء مالكًا لخمسة أفدنة في
الأقل.
١٠ بل إن العمدة كان يتحدد — غالبًا — في اثنين، فهو أحد أفراد أسرة إقطاعية
يقيم في القرية، أو أنه أحد أتباع أسرة إقطاعية يقيم كل أفرادها في المدينة، فهي توفر
له النِّصاب القانوني من الأرض، وتعينه في منصب العمدية. ويستعين العمدة في الحالَين
بمشايخ للبلد، وبشيخ للخفراء من العائلة نفسها، أو أقاربها، أو أصهارها، أو ممن يدينون
بالولاء للعمدة ولأسرته، أو للأسرة الإقطاعية المالكة للقرية. وقد تنازلت نبوية
(الساقية) لأخيها عما تملكه من عقار حتى يكتمل له نصاب العمدية.
١١ ويبين الفنان (يوميات نائب في الأرياف) عن المستوى الثقافي الذي يمتلكه
العمد آنذاك، في قول العمدة عندما وعده المأمور — مداعبًا — أن يدخله البرلمان. قال
العمدة في توسل: ليه؟ أنا عملت إيه بس تدخلني البرلمان؟ والتفتَ النائب نحو المأمور
قائلًا: كشوف الانتخابات في جيبه، ومش عارف حضرته البرلمان ده يبقى إيه؟ ويسموهم عمد
ونشتغل معهم.
١٢ وكل قرية في مصر بها عائلتان قويتان أو أكثر تتنافس في العمدية، وكلٌّ منها
ينتمي إلى حزب من الأحزاب التي تتنازع الحكم.
١٣ ومع أن سلطات العمد قد تقلصت — إلى حد بعيد — في ظل الاحتلال، بعد إحداث
تنظيمات فعلية في مجال الإدارة، فإن تسيير الحياة في القرى ظل — على نحو ما — بأيدي
العمد. وكما قال اللورد كرومر: «لا نبالغ إذا قلنا إن الحياة كلها في القرية تعتمد على
العمدة.» ولأن مقياس الكفاءة والسهر على الأمن، يرجع إلى كثرة الجنايات أو قلَّتها، فإن
العمدة يبغض كثرة الجنايات في دائرته، ويحاول مداراتها ما أمكن.
١٤ وحتى يخلع أحد الطامعين في منصب العمدية منافسه، ليحل محله، فقد يعمد إلى
زيادة عدد الجرائم في زمام القرية: إشعال حرائق، سرقة بهائم، إغراق مزروعات، إطلاق رصاص
على أبرياء … بحيث تتحرك وزارة الداخلية في النهاية، وتُهدى إليه عمدية القرية في برام
محشو بالحمام!
١٥ إن أهم ما يشغل المأمور، عندما تتم حادثة قتل، أن يظهر الفاعل بصرف النظر
ما إذا كان هو الفاعل أم أُلصقَت به التهمة. المأمور الجرجاوي بيه (شرخ في جدار الخوف)
يقول للعمدة مهدِّدًا: «قدامك أربعة وعشرين ساعة، تقب وتغطس تشوف لك فاعل والسلام، واحد
يكون هو اللي قتل سليم، وليه قتله … وإيه الدليل كمان … فاهم؟»
١٦ لذلك فإنه إذا ارتُكبَت جناية في دائرة القرية، فإن العمدة لا بد سيزعم حالفًا
بالطلاق أن الجاني ليس من أهل الناحية.
١٧ وحين أذيعت جرائم عصابة الخير (هارب من الأيام) كشف العمدة عن علمه بكل
جرائمهم السابقة، وإن لم يبلغ عنها، حتى تنأى عيون الإدارة عن قريته؛ فالنمرود يبيع
الحشيش، ربما يساعده في ذلك الزهار، ومنصور قتل الفرماوي وغيره، لكن العمدة ظل
ساكتًا!
١٨ وثمة عمدة (البيت الصامت) كان يلقي كل جريمة قتل تقع في القرية على عاتق
رجل ضعيف، أو مشاغب، من أبناء القرية، يلفق له الاتهام، ويدلل عليه، ويسُوق الشهود،
والهدف — بالطبع — ألا يتعرَّض للمؤاخذة فيُفصَل من العمدية.
١٩ يقول الرجل: «أنت لا تعرف ماذا يستطيع العمدة، في ظروف معينة، وفي بلدة
معينة، خاصة إذا كان مؤيَّدًا بنفوذ الحكومة، لا تعرف ماذا يستطيع العمدة أن يفعل؟ وماذا
يستطيع أن يربح؟!»
٢٠
وقد قسَّم الفنان (خليها على الله) العمد إلى ثلاث طوائف؛ الأولى عمدة من أسرة لها
مكانتها الاجتماعية وثراؤها، فهو يستطيع — بمفرده — أن يحل الكثير من المشكلات، والثانية
عمدة من أسرة طيبة، لكنها بلا مكانة اجتماعية كبيرة، ولا حظ وفير من الثراء؛ فالعمدة
هنا أكثر اعتدادًا بمنصبه، يستمد منه مكانته الاجتماعية، وأكثر حرصًا — بالطبع — على
إطاعة الأوامر، وتجنُّب المسئولية. أما الطائفة الثالثة فيمثِّلها عمدة ينتمي إلى عائلة
فقيرة، فهو يقدم إقرارات كاذبة بأنه يمتلك النصاب القانوني من الأرض، نفوذ شيخ الخفر
يفوق نفوذه، وكلمته غير مسموعة بين أبناء القرية، واستغاثاته دائمة بموظفي
المركز.
٢١
•••
في «العودة إلى المنفى» يطالعنا الفنان بصورة نمطية لأحد العمد، الشيخ أحمد أبو سعدة
عمدة بدواي: «قصير وبدين، وجلدُه مثل جلود الفلاحين في بدواي، لوَّحته الشمس، ويداه مثل
أيديهم قوية وصلبة، وعيناه مثل عيونهم تختبئان في محجريهما، وتحتميان دائمًا بالرموش
والحواجب بسبب من شمس الريف الساطعة، فترتسم على الوجه تلك التقطيبة المميزة لوجوه
الفلاحين، ولكنه يختلف عنهم بعد ذلك في كل شيء؛ فهو الذي يحدد لكل واحد من الذين يزرعون
في أرضه نصيبه من الأرض، ومن العمل، ومن المحصول، ولأنه يعيش معهم في بدواي فإنه يعرف
عنهم كل شيء.»
٢٢ ويشبه الراوي (يوميات نائب في الأرياف) العمدة بأنه مثل الجرادة، يتخذ شكل
الأرض التي يُولَد فيها؛ فالأرض الخضراء تُخرِج الجراد الأخضر، والأرض القحلاء تُخرِج
الجراد
الأغبر.
٢٣ وكان العمدة (للزمن بقية) يدفع مَن حوله إلى شهادة الزور، وكان أهل القرية
يعرفون أن كل الذين حول العمدة لا يخالفونه في الرأي، ولا يرَون الحق إلا في اتجاهه
الشخصي.
٢٤ وقد استغل بعض العُمد وضعهم الوظيفي، فساقوا أبناء خصومهم إلى الخدمة
العسكرية، بينما أعفوا المنتمين إليهم أسريًّا وعائليًّا، أو من يدفع الثمن.
٢٥ حتى فيضان النيل الذي كان يُعَد — في بعض الأحيان — نكبة على الأرض والفلاح،
كان — بالنسبة للعمد — نعمة كبرى، فُيظهِرون نفوذهم، ويساومون الفلاح على ثمن حريته وعدم
ترحيله إلى حراسة جسور النيل.
٢٦ إن فلاحي القرية يتولَّون نقاوة الدودة في أرض العمدة بلا مقابل، وهم مكلفون
بري أرض العمدة قبل أن يأذن لهم بري أراضيهم، وهم مطالبون بجني محاصيل العمدة قبل
محاصيلهم.
٢٧ حتى الخفراء يدفعهم العمدة للعمل في أرضه. يسأل العمدة زيدان (هارب من
الأيام): أين الخفراء؟ وتأتيه الإجابة: في الغيط!
٢٨ وكان العمدة في قرية كوم النحل (البوسطجي) يرمز إلى السلطة الغاشمة التي
تسيطر على مقاليد الحياة.
٢٩ ويقول العمدة (هارب من الأيام): «إن هؤلاء المجرمين الذين سُلِّطوا علينا،
يعلمون أن القوة هي القانون.»
٣٠ وكان تصوُّر الأعرج في رواية «العودة إلى المنفى» أن عبد الله النديم لم يكن
سوى أذنٍ للعمدة على أبناء قريته بدواي. من هنا، فقد ظل حريصًا على أن تظل حكايته في
مكانها من أعماق نفسه الحزينة. فلما تكررت الأسئلة، صرخ الرجل دون أن يتدبَّر العواقب:
«العمدة هو سبب مصائبي»، وانفجر يقذف في كلمات متشنجة بقصته مع العمدة.
٣١ وبإمضاء «الفلاح المسكين» تكتب الأهرام: «لو وقف شقاء الفلاح عند هذا الحد —
فداحة الضرائب — لكان الأمر أسهل مما تظن الحكومة، ولنادَى الفلاح بعالي صوته. الفلاح
الصغير في حاجة ملحة إلى حمايته من اضطهاد حضرات العمد ومشايخ وأعيان القرى، فدافعو
أجور الخفر هم الفلاحون والفقراء، ورجال تنقية الدودة في زراعات العُمد والأعيان هم
الفلاحون الفقراء، وواضعو فوانيس الإنارة أمام منازلهم في القرى هم الفلاحون الذين لا
يتمكنون من إنارة مساكنهم، وتذاكر التمثيل والجمعيات التي يتبرع حضرات العُمد والأعيان
بتوزيعها، تحصَّل أثمانها من فقراء الفلاحين، وتطهير مساقي الأعيان، وتسهيل الطرق
لسياراتهم في داخل قراهم، وفعلة مبانيهم، وخدمة منازلهم ومزارعهم هم الفلاحون البؤساء
التعساء، الذين إن اشتكوا أُهينوا، وإن صرخوا عُذِّبوا.»
٣٢ وكان الشيخ زيدان عمدة قرية السلام (هارب من الأيام) يبدأ يومه بالتوضؤ
لصلاة الفجر، لكنه لا ينسى في أثناء الوضوء أن يسأل الخادمة: «ألم يُحضِر صالح أبو سعد
الله فراخًا؟
– يا سيدي … إننا ما زلنا في الفجر.
– ولكنه مدين يا فاطمة … الدين يا بنتي … أينسى أحد دينه؟
– وهل اقترض صالح منك يا سيدي؟
– نعم.
– هل اقترض منك فراخًا يا سيدي؟
– نعم … يا مغفلة، أرأيتِ أحدًا يقترض من العمدة؟
– أنا الأخرى أتعجب يا سيدي؟!
– لقد حكمت له في قضية أمس، فأقسم أن يحضر لي فراخًا اليوم، اليوم فجرًا، وها هو
ذا
الفجر يولي وهو لم يجئ … كم أنت ثرثارة يا فاطمة! الفجر سيفوتني، الله أكبر، الله أكبر،
أصلي الصبح ركعتين فرضًا حاضرًا لله العلي العظيم، الله أكبر.»
٣٣
ثم يخرج العمدة إلى شرفة بيته، فيستقبله شيخ الخفراء بالتحية، ويسأله العمدة: هل
أرسلت أحدًا يحرث الفدانَين كما قلت لك أمس؟
– نعم يا حضرة العمدة، لقد ذهب إليهما عبده أبو مسعود بعد صلاة الفجر مباشرة.
– وهل اتفقت معه على الأجر؟
– خيرك سابق يا حضرة العمدة.
– لا، أنا لا أقبل هذا أبدًا.
– لا تقبل ماذا يا حضرة العمدة؟
– أيريد أن يرشوني أبو مسعود؟
– لا، ومن قال هذا لا سمح الله؟ إنما هو يقدم خدمة صالحة لوجه الله.
– آه … إن كان هذا فلا بأس.
– وسيزورك الليلة إن شاء الله.
– زيارة لوجه الله أيضًا؟
– طبعًا، طبعًا يا حضرة العمدة، لكن فقط …
– ماذا؟
– له مسألة بسيطة.
– ما هي؟
– عبد الحميد جاره منع عنه المياه.
– ابن الكلب! والله لأمنعه هو أن يروي أرضه، وأجعلن الماء يمر في أرضه إلى عبده أبو
مسعود … ألم يأت صالح حتى الآن؟
٣٤ ويشكو الحاج من أن الشيخ زيدان يفرض أسعارًا مرتفعة، فيقول الشيخ رضوان: يا
رجل اتقِ الله! أغلب العُمد على هذه الحال!
٣٥ ويهمس عبد السلام (سقوط رجل جاد) لنفسه: «فهل يُعقَل ألا يكون العمدة الآن
بين ذراعَي زوجة إبراهيم؟ فهل هناك بعد العمدة رجل ترغبه النساء؟ وهل لو طلب العمدة،
يُقابَل طلبه بالرفض؟ هذا ما لا يصدقه عبد السلام. وما أكثر ما طلب العمدة، وما أكثر
ما
بات عبد السلام يحرس الضحية، ويرقبها، ويده على بندقيته ليفعل المستحيل.»
٣٦ وقد يبين غياب فهم المبدع لمجتمع القرية عن تصور ساذج للعلاقة بين ابن
العمدة وفتيات القرية ونسائها، فهو «ابن العمدة وتقاليد القرية، التقاليد المستقرة،
تتيح له الحق في كثير من النساء، حق في الفلاحات اللاتي يترددن على الدوار لمساعدة أمه
في العجين وجلب الماء، وحق في الفلاحات اللائي يعملن في الحقول في مواسم الحصاد، وفي
جني القطن وتنقية الدودة، وحق في نساء الغجر ضاربات الرمل اللاتي يترددن على العزبة من
حين إلى آخر.»
٣٧ وفي تقديري أن هذه «المعلومات» تخضع للتصور بأكثر مما تخضع للواقع.
فالعمدة — مهما يعظم شأنه — رجل من القرية، ومن المهم أن يرعى تقاليدها ومُثُلها، ونساء
القرية لسن مستباحات، حتى لو كان «الفاعل» هو ابن العمدة!
•••
كان عمدة قرية السلام (هارب من الأيام) على علمٍ بالمنتدى الذي يلجأ إليه مجرمو
القرية، لكنه كان يغض عنه عينًا مشغولة بالمأمور والمعاون والرشاوى الصادرة عنه أو
الواردة إليه.
٣٨ العمدة — على حد تعبير الفنان — مشغول دومًا بالمحافظة على التاج القروي
المصنوع من الطين!
٣٩ وإطعام العمدة لموظفي الحكومة الذين ينزلون ضيوفًا عليه درجات، كل درجة
بقدر الوظيفة وأبهتها. فصغار الموظفين يقدم لهم قطعة جبن وبصلًا، فإذا أراد إكرامهم سلق
لهم بيضتين. ولطبقة أعلى من الموظفين يقدم طبقَي البامية والملوخية القرديحي، وعليهما
أشبار من السمن والمرق الأحمر، أما المأمور — ومن في مستواه — فإن مقامه دجاجة في الأقل،
وأما المدير فله خروف.
٤٠ ولعلنا نذكر أنه نتيجة للدمار المادي الذي لحق بالعمدة، في الإسراف المفروض
عليه، فقد قال وكيل النيابة متصعبًا: آه لهؤلاء العمد!
٤١ وفي قصة «صالح الأمن» يأخذ العمدة خروف العجوز أم علي ليضعه على المأدبة التي
أقامها للمأمور ومعاون البوليس ومعاون الإدارة، الحكام الثلاثة في أي مركز في الريف.
وتشكو العجوز إلى ضابط شاب حديث الخبرة والتجربة، فتأخذه النخوة، ويصر على تحرير محضر
ضد العمدة الذي سلب المرأة خروفها، ويركب جواده، وخلفه أحد الجنود، وتعروه الدهشة لما
دخل إلى مندرة بيت العمدة، فوجد المأمور ومعاون البوليس ومعاون الإدارة، ومعهم العمدة،
حول المائدة التي كانت رائحة الشواء اللذيذ تتصاعد منها، وشرائح الضأن متراصة عليها
«وحسب التقاليد، أدَّى حضرة الضابط التحية العسكرية لسعادة البيك المأمور، وحسب التقاليد
أيضًا أمر المأمور حضرة الضابط بالجلوس على المائدة ومشاركتهم الطعام. وأطاع الضابط
النشيط الأمر الصادر إليه، وجلس ليأكل. وبعد الغداء، مال الضابط على حضرة معاون
البوليس، وأسرَّ إليه أشياء، ثم مال حضرة معاون البوليس على حضرة الضابط، وأسرَّ إليه
أشياء. وفي المساء، كانت أم علي تتوكأ على عصاها السنط الطويلة، في طريقها إلى سجن
المركز، ريثما تُعرَض في الغد على سعادة البيك المأمور، بعد أن حرر لها ضابط النقطة محضر
جنحة بتهمة البلاغ الكاذب ضد حضرة عمدة الناحية الساهر على صالح الأمن.»
٤٢ لقد ذاب الضابط الشاب في خضم الواقع، لأنه كان خيطًا في نسيجٍ متآكل ومتعفن،
فلم يكن أمامه بالتالي سوى أحد حلَّين: أن يواجِه التيار فيجرفه، ويعرضه لعواقب وخيمة،
الفصل إحداها، أو يصبح قطرة في الموجة التي لم تكن قد عرفت الجزر بعد، وذلك هو ما اضطر
الضابط الشاب إلى فعله.
•••
أما عمدة «الجبل» في رواية فتحي غانم، فلعله يمثِّل نموذجًا مناقضًا لعشرات العمد
الذين
تناولتهم الأعمال الإبداعية: «كنت أقول لنفسي: لو سألني أحد: ما هو تعريف الرجل الحقيقي
في هذا العالم؟ لأجبته على الفور: إنه عمدة هذا الجبل.»
٤٣ كان الرجل أبًا لكل أبناء الجبل، حتى الكبار منهم، وكان يحرص على أن يضع
نفسه دائمًا في المقدمة من الأحداث التي يحياها الجبل. وعندما أقام المدرس حفل افتتاح
القرية النموذجية، أصر أن ينزل إلى القرية بمفرده، ويقابل الأميرة يشرح لها وجهة نظر
أهل الجبل، فلمَّا لمح في عينيها سخرية، هزَّها من كتفيها وشتمها، ووقف يرقبها وهي تلجأ
إلى
شاطئ النيل مع أصدقائها. ولما علا الرنين الغريب المرتقب الذي يشي بوجود الكنز، فإن
الرجل أحس بأن اللحظة الحاسمة قد حانت. التهاون أو التردد؛ أي فقدان للسيطرة على
الأعصاب، وعلى الرجال من حوله، سيؤدي إلى كارثة؛ ستضيع هيبته، وتضعف كلمته، ويقتتل
الرجال، وتدور بينهم معركة رهيبة، ربما لا ينجو منها أحد. وقال الرجل: «أنا رايح يا
رجالة أحرس الكنز، ح اجعد على بابه، محدش يجرَّب منه، لحد ما اجمعكم كلاتكم بعد صلاة
العشا
الليلة الجاية، ونفتحه بإذن الله.»
٤٤ وبصرف النظر عن تكشف الرنين عن بئر مهجورة، فمن المؤكد أنه لولا شخصية
العمدة القوية الحنون، لارتفعت رءوس الرجال على الأعناق من قبل أن تهوي على الصخر بحثًا
عن الكنز، إنه يختلف تمامًا عن ذلك العمدة النمطي الذي يخيفه ذكر اسم المأمور، وتقوم
حياته على الرشوة والضغط والابتزاز.
•••
ولأن العمدة — كما أشرنا — هو الممثِّل الرسمي في القرية لسلطة الحزب الحاكم، فإن
كل
وزارة جديدة كانت تتخذ قرارات — عقب توليها الحكم — بفصل العُمد والمشايخ الذين ينتمون
إلى
الأحزاب المناوئة، وتحل — بدلًا منهم — عمدًا ومشايخ يدينون بالولاء لها، أو للأسر
الإقطاعية المالكة للقرية، والتي تتصل مصالحها مع هذا الحزب أو ذاك. يقول رئيس لجنة
التطهير لعيسى الدباغ (السمان والخريف): «هل من سبب — غير الحزبية — يمكن أن يفسر لنا
عزل
وتعيين العمد؟»
٤٥ القرية — كما يصفها الفنان — (يوميات نائب في الأرياف) مصغر الدولة، فهي قد
تخضع لتنافس عائلتين قويتين، كلٌّ منهما تنتمي إلى حزب من الأحزاب التي تتنازع الحكم.
فإذا
جاءت إلى الحكم وزارة يشارك فيها الحزب الذي تنتمي إليه إحدى العائلتين، استعدت لتسلُّم
مقاليد العمدية بدلًا من العائلة التي تنتمي إلى الحزب الآخر.
٤٦ كانت العادة — عقب كل انتخابات — أن تفصل الحكومة الجديدة كل العمد والمشايخ
المنتمين إلى أحزاب أخري، وتنصب — بدلًا منهم — عمداء ومشايخ ينتمون إلى حزب الحكومة.
وكان انتقال التليفون الحكومي وسلاح الخفراء من دار العمدة القديم إلى دار العمدة
الجديد، هو رمز التغيير السياسي في القرية. وقد أجاد الفنان (يوميات نائب في الأرياف)
تصوير انتقال التليفون من بيت العمدة المفصول إلى بيت العمدة الجديد: «… وركنَّا السيارة
عائدين، ومررنا في طريقنا بالقرية، فإذا أصوات حزن وولولة نساء ترتفع من دوَّار العمدة،
فقلت وأنا أوقِف السائق بإشارة: العمدة مات؟ وأطللت من نافذة السيارة، فإذا أنا أمام
منظر لم أفهمه أول الأمر. رأيت شيخ الخفر ووكيله وبعض الخفراء يحملون شيئًا في أيديهم،
ومن حولهم جموع الرجال والنساء والصبيان يهللون ويكبِّرون، والنساء يزغردن كما يفعلن،
وفي
أيديهن الدفوف يضربن عليها، وتأملت جيدًا ما يحملونه، وتأمل معي الطبيب الشرعي دهشًا،
فرأينا آلة تليفون حكومية من طراز تليفونات المراكز، فصاح الطبيب في عجب: التليفون له
زفة كأنه زفة عروسة! ومرَّ بقربنا خفير نظامي، فأشرت إليه، فاقترب، وسألته عن الخبر
فأجابني أنه قد صدر اليوم أمرٌ برفت العمدة الحالي، وتعيين آخر مكانه من الأسرة المنافسة
في القرية، ففهمنا كل شيء، ومال عليَّ الطبيب يقول ضاحكًا: يظهر أن تليفون الحكومة عند
العمدة في مقام الصولجان.»
٤٧ وقد اعتبر الراوي (قابيل يخنق القمر) نقل التليفون من بيت أبيه إلى بيت
العمدة الجديد، شيئًا أشبه بالفضيحة!
٤٨ ولاحظ الراوي (عمدة الناحية) أن القرية كأنها انتقلت إلى بيت والده في مساء
اليوم الذي ظفر فيه الوالد بمنصب العمدية، وأدرك الراوي — وكان وقتها حدثًا صغيرًا —
بخطورة المنصب الذي تولاه أبوه، لما رأى شيخ الخفراء وهو يعدد لأبناء القرية حسنات
العمدة الجديد، لاعنًا أجداد سلفه الراحل الذي يرقد في مكان ما من الآخرة. ونسي الرجل
في فورة حماسته أن العمدة الراحل هو شقيق العمدة الجديد، وأنه كان يحمل على كتفيه أبناء
العمدة الراحل، ويلعب مهم لعبة عسكر وحرامية، ويرفض أن يشارك ابن عمهم — الراوي — في
اللهو. وانتهت السهرة الصاخبة، الحافلة، بمصرع طفلة من رصاصة طائشة، وكان دهشة الراوي
بالغة عندما رأى الرجل يتناول الورقة المالية من فئة خمسة الجنيهات التي أعطاها له
العمدة مقابلًا للابنة المقتولة، وهو يقول في لهفة: فداك ستميت بنت يا حضرة العمدة!
وكانت العمدية بداية تغيُّر واضح في حياة كل أفراد الأسرة. فالأم تلقى المعونة التي
تريدها من نساء القرية، من تنظيف البيت إلى إعداد الطعام، والأب يستيقظ في الضحى، ويتخذ
مجلسه في الدوار، بدلًا من الذهاب إلى الحقل؛ أصبح الخفراء يعملون بدلًا منه. بين الشيخ
محمد عامل التليفون، وفودة شيخ الخفراء، وسالم فتوة القرية الذي يتزعم عصابة ترتكب
الجرائم المختلفة لقاء أجر معلوم. أما الراوي، فقد أحاطه الجميع بالرعاية والمحبة
والاحترام، وتسابق الجميع للتطوع في توصيل ابن العمدة إلى المدرسة. ويقول الراوي (سرُّه
الباتع) عن أهل قريته: «كنت أعرفهم تمامًا، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلا بينهم
وبين أنفسهم. أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلامًا كثيرًا، ويحلفون الأيْمان المرتفعة
المغلظة، وإذا سألهم الغريب عن شيء، قالوا عكس ما يضمرونه، هم لا يخرجون ما في أعماقهم
إلا رغمًا عنهم، في كلماتهم المتناثرة، في همساتهم الخافتة وراء ظهور موظفي
الحكومة.»
٤٩
شيء واحد ذلك الذي كان ينغص على العمدة حياته، ويؤثر بالتالي على حياة أفراد الأسرة.
إنه مأمور المركز الذي كان يعامِل العمدة بصلافة واستعلاء، وكان يستغل سلطته لأغراض،
وكثيرًا ما حصل على مواد غذائية من بيت العمدة دون أن يدفع مقابلًا. وإذا كانت أحاديث
العمدة قد نجحت في إضفاء ظلال على المغزى الحقيقي لتصرفات مأمور المركز، فإن الرجل لم
يفلح في أن ينال من ماهر أفندي ضابط المباحث الذي كان يجاهر بعدم ثقته في العُمد
والمشايخ، ويتهمهم بأنهم أعداء للعدالة، وأنهم وراء كل الكوارث التي تحدث في الريف.
والحق أن سالم الفتوة كان هو سبب سوء العلاقة بين العمدة وبين المأمور وضابط المباحث.
لقد اشتهر أمر عصابته، وامتد نشاطها إلى الإقليم كله، واشتهر أيضًا أن العمدة يتستر على
نشاط العصابة. وفي اليوم التالي للقضاء على سالم وعصابته، بعد تبليغ العمدة الذي خشي
ضياع منصبه. بدأت سلسلة من الجرائم ضد العمدة، في بيته وأقاربه ومزروعاته وبهائمه، ولم
يعد أمام الرجل إلا أن يطلب من المأمور استدعاء رجال الهجانة لفرض النظام على القرية
المتمردة، وفي مساء اليوم الذي أنهت فيه الهجانة مهمتها، هاجم ثلاثة من الفلاحين العمدة
وهو جالس في الدوار، فقتلوه برصاص بنادقهم.
٥٠
القصة تشابِه رواية «هارب من الأيام» في الضغط على الدور السلبي الذي يؤديه العمدة
— في
معظم الأحيان — في حياة القرية المصرية: الرشاوى، واستغلال الجهد الإنساني، والتستر على
الجرائم. وإذا كان عمدة قرية السلام قد انعزل عن حياة قريته بالاستقالة، فإن عمدة
الناحية قد اعتزل الحياة كلها بالموت. أما العصابتان، فقد اختفى أفرادهما بالاعتقال أو
بالموت. ولعل ثورة أبناء قرية الناحية لاعتقال سالم، والمقابل فرحة أبناء قرية السلام
لمصرع كمال الطبال وعصابته. أن «سالم» لم يكن يمارس شروره في قريته، بل كان يبسط عليها
حمايته، ومن هنا أحبه الناس. أما شخصية مأمور المركز، فإن ضابط المباحث الشاب يجاوز بنا
النمطية التي تبين في الرواية والقصة. ونتذكر أيضًا مأمور المركز في «يوميات نائب في
الأرياف»، إنه استشرافة المستقبل لقرية جديدة، تخلو من العمد ومشايخ الخفر، وكل الأسباب
التي تغزل خيوط التخلف المهترئة في نسيج القرية المصرية.
٥١
كان رأي ابن السيد عوض الله (أخبار الدراويش) أن نظام العمد لا معنى له، وكان يجب
أن
تحل نقطة في كل قرية بدلًا منه.
٥٢ وقد أنشئ الكثير من نقط الشرطة بالفعل، في الكثير من القرى، فسلب ضابط
النقطة عمدة القرية ما كان لديه من سطوة ونفوذ.
٥٣ وقد عاد هنداوي إلى قريته من المدينة، وقاد أهلها في ثورة ضد سيطرة العمدة
وجبروته وسيطرته وظلمه لصغار الملاك والأُجراء. وامتدت ثورة القرية، بدءًا بالقول «لا
للعمدة»، وانتهاءً بالصفعة التي هوى بها هنداوي على وجه العمدة. ثم ألقى به في الطين،
وضحكات الفلاحين تتعالى، مؤيِّدة، منتشية.
٥٤
سلطة الإدارة
يصف الراوي (الرماد المشتعل) السلطة الإدارية بأنها حارسة الإقطاع: ضابط النقطة،
مأمور المركز، مدير الإقليم، مصلحة الأملاك، مصلحة الري، بنك التسليف.
٥٥ بالإضافة — طبعًا — إلى المعاون، والعمدة، وشيخ البلد، والدلال، حتى عامل
التليفون جاوز التسمية — أحيانًا — فأصبح قابضًا على زمام الأمر في البلدة.
٥٦ وإذا كان العمدة لا يخفي خوفه من المأمور، فإن المأمور الذي يهز الدنيا
يرتجف أمام الحكمدار، والحكمدار يرتجف أمام المأمور، والمدير يعمل ألف حساب لمسئولي
القاهرة الذين يزورن — أحيانًا — عاصمة الإقليم.
٥٧ وكان يقين عم أمين (اللافتات في الحكومة) أن الاتصال برجال الإدارة بلاء
يمتحن الله به عباده.
٥٨ وقد طالما مارس الخفير أبو سريع (الساقية) الإرهاب على أهالي القرية،
لمصاهرته العمدة من ناحية، ولاقترابه من رجال الإدارة والمجرمين في آنٍ معًا من ناحية
أخري، وهو إرهاب امتد فشمل الاعتداء على الحرمات والأعراض.
لقد جعلت الانتخابات من رجال الإدارة «أصحاب سلطة مخيفة».
٥٩ إن كلمات مأمور المركز لعُمد القرى التابعة له قبل إجراء أي انتخابات، لا
تكاد تخرج عن «فتَّح عينك يا عمدة أنت وهوه، مرشح الحكومة في الانتخاب لازم ينجح، أنا
نفضت يدي، وانتم أحرار … مفهوم؟»
٦٠ كان المألوف، كما أشرنا، أن تجري الوزارة الجديدة حركة تغيير وتبديل بين
المديرين ورجال الإدارة.
٦١ ولعل مجرد إعلان استقالة الوزارة يعني أن رجال الإدارة لن يكون لهم عقل ولا
فكر في غير تنسم هواء الوزارة الجديدة، حتى يعدوا أنفسهم للميل معها، أو
ممالأتها.
٦٢ وكما يقول الراوي، فقد كانت العادة في القرى أن تبعث كل قرية برقيةً تأييدًا
للوزارة الجديدة.
٦٣
وقد أفاد إسماعيل صدقي من رجال الإدارة في تثبيت حكمه، وفي إفساد الحياة السياسية،
من
خلال مصادرة الحريات، وتكميم الأصوات المعارضة، وتزوير الانتخابات، والتنكيل بالأبرياء،
والاعتداء على الحريات، حتى إن محكمة النقض وصفت ما ارتكبه مأمور مركز البداري — آنذاك
— بأنه إجرام في إجرام!
٦٤
واللافت أن المأمور كان ينتمي — دومًا — إلى الحزب الحاكم، ولم يكن عمدة قرية السلام
يتصور أن هناك مأمورًا شريفًا؛ كيف يكون مأمورًا وشريفًا؟! فإذا كان مأمورًا قديمًا،
فإن استمراره في وظيفته معناه أنه قد تنازل عن الشرف منذ مدة طويلة، وإلا لكان قد فُصِل،
أو نُقِل — في الأقل — إلى وظيفة أخرى. أما إذا كان صغير السن، ويعتقد في الشرف، فإن
الأيام
كفيلة بأن تعيده إلى صوابه! تقول زوجة عمدة قرية السلام، حين تأتي الأنباء بأن المأمور
الجديد سيزور القرية، وهو — كما تؤكد الروايات — بالغ الشدة والصرامة: «إنهم في كل مرة
يقولون إن المأمور الجديد شديد، ثم يأتي، وما إن تصل إليه الفراخ والسمن والديوك، حتى
يصبح لينًا لطيفًا كالخراف التي تذهب إليه تمامًا.»
٦٥ ولما زادت جرائم عصابة الخير (هارب من الأيام) اضطر المأمور لأن يسقط كل
الرشاوى والهدايا، فقد كانت الجرائم التي ارتكبت أكبر من الهدايا، وهدد العمدة بالإيقاف
إن لم يقبض على الفاعل.
٦٦ ويروي لطفي السيد أن العُمد — في طفولته — كانوا يتعرضون للضرب بالفلقة إذا
تأخر أهالي قُراهم في دفع الإيجار.
٦٧ والملاحَظ أن الأسر الثرية لم تلجأ في مشكلاتها إلى العمدة؛ إنها تفضِّل
اللجوء إلى المركز مباشرة، حتى في مشكلاتها الصغيرة. ولما أراد منير بن مختار بك
(عدالة القدر) أن يشكو أبناء الشيخ بهاء، نصحه العبد مرجان أن يقابل العمدة، فقال منير
ثائرًا: لا تقترح عليَّ شيئًا … هل هزلت مكانتي حيث أذهب إلى العمدة؟!
٦٨ وقد أثار الرجل في «عاصفة فوق مصر» إمكانية الحصول على منصب العمدية
بالانتخاب، لمدة قصيرة. فقال الشيخ مصطفى: «هذا تفكير سديد من الوجهة النظرية، ولكنه
لن
يؤدي عمليًّا إلى النتيجة المقصودة ما لم يشعر الفلاحون أن لهم شخصية وكرامة، فلو أنك
أجريت الآن انتخابًا للعمدية في هذه البلدة لفاز العمدة الحالي رغم كراهية الجميع، أو
لفاز أي شخص يرشحه الباشا. أما السبب في فساد العُمد، فليس مقصورًا على طريقة تعيينهم،
بل يعود قبل كل شيء إلى فساد الإدارة عامة، ولو كان الوزير صالحًا لصلح المدير، فصلح
المأمور، فالعمدة، فالخفير، ولاستتبَّ الأمن.»
٦٩ واللافت أن استبدال نقطة الشرطة بالعمدة مطروح في حياتنا، ربما من قبل
أعوام الحرب العالمية الثانية. يشير مرسي — في أواخر الحرب — إلى نية الحكومة إقامة نقطة
بوليس في القرية، فيقول الشيخ متولي مشيرًا إلى العمدة: «إياك يا سيدي ينصاب بريح
النقطة علشان البلد تستريح من رزايا العمدة ده راخر، مش كانوا بيقولوا حيغيَّروا نظام
العمدية، وحيخلوها بالانتخاب؟»
٧٠ وقد حاولت حكومة الوفد — في ١٩٥١م — إلغاء نظام العمد تدريجيًّا، فيمتنع شَغل
مناصب العمد الحالية، وإخلاء مناصب العمد التي تقع في دائرة قطرها ثمانية كيلومترات من
قاعدة المركز أو البندر أو مقر نقطة بوليس دائمة، لكن القانون لم يقدر إصداره بعد أن
قاومه النواب، وغالبيتهم من أعضاء الوفد!
٧١
وللضعف الجسدي الذي اشتُهِر به خفراء القري، تحوَّلوا إلى تشبيه للنسوة اللائي يعانين
النحافة أو السقم.
هوامش