القاهرة الجديدة
لأن الفنان بدأ في كتابة أحداث «القاهرة الجديدة» عام ١٩٣٨م، ونشرها عام ١٩٤٣م، تدور
في
الثلاثينيات بين ١٩٣٢–١٩٣٤م، فقد عمد الفنان إلى التقسيم نفسه الذي عبَّر من خلاله عن
متناقضات التيارات الفكرية والسياسية:
ليس ثمة اختلاف — في الأغلب — بين الشخصيات الروائية: عبد المنعم شوكت ومأمون رضوان
يؤمنان بقضية الإسلام والعروبة، وإن عبَّر عبد المنعم عن ذلك بانتمائه إلى الإخوان
المسلمين. أحمد شوكت وعلي طه يؤمنان بالعلم، وبحتمية الثورة. رضوان ياسين ومحجوب عبد
الدايم رفضا كل القيم والمبادئ، واختارا الوصولية سبيلًا لتحقيق أهدافهما. أما أحمد
بدير فهو الرؤية الشمولية للمجتمع التي ربما تملك أن ترى، وأن تسجل، وتحول القوى
القاهرة دون أن تصنع شيئًا.
ولعلنا نتبيَّن مواقف أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت ورضوان ياسين من همسات كلٍّ منهم
إلى
نفسه، وقبالتهم تجلس نعيمة ابنة السادسة عشرة، جميلة، نقية، كوردة بيضاء. قال رضوان
لنفسه: بنت لطيفة وجميلة، ليته كان في الإمكان أن أصادقها وأزاملها، لو مشينا في الطريق
معًا لاحتار الرجال أينا الأجمل. وقال أحمد لنفسه: جميلة جدًّا، ولكنها كأنما هي ملزوقة
في خالتي بالغراء، ولا حظَّ لها من الثقافة. وقال عبد المنعم: جميلة وست بيت، وشديدة
التقوي، لا يعيبها إلا ضعفها، حتى ضعفها جميل!
١
في «القاهرة الجديدة» يجري حديث المرأة على ألسنة الأصدقاء الثلاثة، وتتباين آراؤهم
بمقدار تباين العقيدة التي ينتمي إليها كلٌّ منهم. فمأمون رضوان — الإخواني — يقول: أقول
ما
أقول يا ربي، فإن رغبت في معرفة أسلوبي الخاص، فالمرأة طمأنينة الدنيا، وسبيل وطيء
لطمأنينة الآخرة. وقال علي طه — اليساري: المرأة شريك الرجل في حياته كما يقولون،
ولكنها شركة دعامتها — في نظري — ينبغي أن تكون المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات.
وقال
محجوب عبد الدايم — الذي يرفع حيال كل شيء شعار «طظ»: المرأة، صمام الأمن في خزان
البخار. وقال أحمد بدير — الصحفي: على الصحفي أن يسمع لا أن يتكلم، خاصة في عهدنا
الحاضر.
٢
وحين ينتقل الحديث إلى المبادئ، وهل هي ضرورية للإنسان، أم الأولى أن يتحرر منها.
يقول مأمون: حسبنا المبادئ التي أنشأها الله عز وجل. فيقول محجوب عبد الدايم: لشد ما
يدهشني أن يؤمن إنسان مثلك بالأساطير. ويقول علي طه: أومن بالمجتمع، الخلية الحية
للإنسانية، فلنرع مبادئه، على شرط ألا نقدسها لأنه ينبغي أن تتجدد جيلًا بعد جيل،
بالعلماء والمربين. ويسأل أحمد بدير: ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟ يقول علي طه في
حماسة: الإيمان بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة، ويعلق
محجوب عبد الدايم على ذلك كله بالقول: طظ … طظ … طظ!
٣
كما ترى، فقد كان مأمون رضوان مشغولًا بقضية الإسلام والعروبة، بينما علي طه يساري
يؤمن بالمادية العلمية. أما محجوب عبد الدايم فهو برجوازي صغير، دفعته قسوة الظروف إلى
رفع شعار: طظ، وأما أحمد بدير فهو مستسلم للواقع، وإن جعلته مهنته كصحفي أقرب إلى عين
المجتمع التي ترى كل شيء.
وحين يقول محجوب عبد الدايم: إن علتنا الفقر، يقول علي طه: هو الحق، الفقر الذي يختنق
في جوِّه الفاسد العلم والصحة والفضيلة. إن من يرضى بحال الفلاح حيوان أو شيطان. يقول
محجوب: عرفنا الداء … وهذا شيء ميسور، ولكن ما العلاج؟ فقال مأمون رضوان: الدين.
الإسلام بلسم لجميع آلامنا. فقال علي طه: الحكومة والبرلمان. فقال محجوب: الحكومة؛ أي
الأغنياء أو الأسر، والحكومة أسرة واحدة. الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب، الرؤساء
يختارون الموظفين من الأقارب. حتى الخدم يُختارون من خدم البيوت الكبيرة، فالحكومة أسرة
واحدة، أو طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي حقيقة بأن تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع
مصلحتها.
٤
وقد عبَّر محجوب عبد الدايم عن توزع اتجاهات الأصدقاء الثلاثة بقوله: يا عجبًا! كيف
تجمعنا دار واحدة؟ أنا رأسي هواء، والأستاذ مأمون قمقم مغلق على أساطير قديمة، وعلي طه
معرض أساطير حديثة!
٥
•••
بعد أن يعرض الفنان للأصدقاء الأربعة، يسلط بقعة الضوء على محجوب عبد الدايم، يصف
الفنان محجوب عبد الدايم بأنه شاب فقير «بلا خُلق، يرصد الفرص، ويتوثب للانقضاض عليها
بجرأة لا تعرف الحدود.»
٦ كان على يقين من أنه لم يرث عن والديه سوى الهوان والفقر والدمامة، وقد ورث
ذلك كله قبل أن يرى النور.
٧ وكانت له فلسفة، استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما
يفهمها هو، و«طظ» أصدق شعار لها، هي التحرر من كل شيء، من القِيم والمُثُل والعقائد
والمبادئ، ومن التراث الاجتماعي عامة.
٨ «إنه ينكر الخير والشر معًا، ويكفر بالمجتمع الذي صنعهما، ويؤمن بنفسه
فقط.»
٩ وكان يهمس لنفسه: «المال، المال هو السيادة، وهو القوة، هو كل شيء في
الدنيا.»
١٠ ولم يكن يتصور الثراء والعفاف في كائن بشري معًا.
١١ وقد وجد في إبليس مثلًا أعلى باعتباره «الرمز الكامل للكمال المطلَق، التمرد
الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ.»
١٢
يتتبَّع الفنان مسار حياة محجوب عبد الدايم في الأشهر الأخيرة من دراسته الجامعية،
وحين
سقط أبوه مشلولًا، تملَّكه حزن شديد، لا على الرجل، وإنما خوفًا من انقطاع الجنيهات
الثلاثة التي كان يمده بها أول كل شهر.
١٣ كان يحب نفسه — على حد تعبير الفنان — أكثر من الدنيا جميعًا، ويحبها وحدها
دون الدنيا جميعًا، كان على استعدادٍ لأن يضحي بوالديه في مقابل أن يحيا، يحصل على ما
يريد.
١٤«الحياة العالية التي يتآكل قلبه حسرة عليها.»
١٥
وفكر — ذات يوم — ساخرًا، في أن يكتب في الإعلانات المبوبة بالأهرام، عن شاب في الرابعة
والعشرين، ليسانسيه، طوع كل رذيلة، عن طيب خاطر يبذل كرامته وعفَّته وضميره، نظير إشباع
طموحه.
١٦
ثم ألجأته الفاقة إلى أن يمد يده إلى سالم الإخشيدي، ابن قريته الذي كان من قبل
طالبًا ثائرًا، ثم اشترته الحكومة بوظيفة كبيرة. كان الإخشيدي من زعماء الطلبة، ومن
أبطال المقاطعة وموزعي المنشورات ضد الدستور الجديد. واستُدعي — يومًا — لمقابلة الوزير،
ليخرج من المقابلة شابًّا آخر، بأفكار أخرى، ومبادئ أخرى، ولم يعُد يُرى إلا في قاعات
المحاضرات، وأعلن — صراحة — أن ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة هو العلم!
١٧ فلما تخرَّج، عُيِّن قبل أوائل الطلبة سكرتيرًا لقاسم بك فهمي، وكان واسطته
الوزير نفسه «ظفر بوظيفة لأنه خائن، ورُقي لأنه قواد.»
١٨ يسأل محجوب سالم الإخشيدي عن وظيفة، فيعده، وإن أردف قوله: «أرجو أن تكون
رجلًا عمليًّا، وأن تحسن فهم الدنيا، وأن تعلم أن كل فائدة بثمن، لست أسألك شيئًا
لنفسي، فما أنا إلا دليل.»
١٩ ويحصل محجوب على وظيفة محترمة ثمنها الزواج من عشيقة وكيل الوزارة، إحسان
شحاتة التي كانت على علاقة حب بريء بزميله علي طه، ثم ألجأها العوز واستغلال والديها،
بالإضافة إلى قدرٍ غير قليلٍ من الانتهازية في تكوينها، للارتماء في أحضان «البك» الأنيق
وكيل الوزارة.
تدنى محجوب إلى حد أنه تمنى أن تنقله إحسان من حال إلى حال، وأن ترفعه من طبقة إلى
طبقة «قبلة أو رشوة أو تنهدة،
٢٠ تصدر عن إحسان، فينفذ لها قاسم بك ما تريد.»
ولأن محجوب دفع ثمنًا، يجعل الاعتراف بأي فضل للإخشيدي أمرًا مستحيلًا، فقد حاول
استعادة مكانته، بفضح محجوب، والوزير، وكل من نبذوه.
دبَّر الإخشيدي كل شيء، أبلغ الأب، وأبلغ زوجة قاسم بك، وحدد لهما موعدًا واحدًا
هو
الموعد الذي وصل فيه قاسم بك إلى البيت، بحيث يلتقي الجميع، ويثأر من الوزير الذي تنكر
له، ومن محجوب الذي أنكر جميله! ويقول محجوب لأبيه: انتهى كل شيء، انتهت الوظيفة
والماهية، هلمَّ نتسوَّل معًا.
٢١ وإذا كانت فاطمة موسى تشير إلى قول الفنان أن قاسم بك «سيقبع في كلوب محمد
علي سنة أو سنتين، ثم يعود إلى ما كان عليه، أما محجوب فسقطته لا قيام بعدها.»
٢٢ فإن ما يتوقع الفنان — والكاتبة بالتالي — حدوثه لقاسم بك يسهل توقعه بالنسبة
لمحجوب عبد الدايم، فهو سيقبع — أستعير تعبير فاطمة موسى — في أسوان سنة أو سنتين، ثم
تتيح له موهبته التسلُّقية إمكانية العودة إلى القاهرة، ربما لا يحصل عليها حالًا، لكن
موهبته التي لا شك فيها ستعوِّض ما فاته من فرصة.
•••
محجوب عبد الدايم هو أصلح الشخصيات تعبيرًا عن اللامنتمي كما وصفه كولن ويلسون، ثار
محجوب على كل شيء، «وود لو يستطيع أن يقذف القاهرة بأحجار الأهرام الهائلة.»
٢٣ واعتبر محجوب سعادة الإنسان مسألة مستحيلة، وكانت نظرته إلى البشر
باعتبارهم يمثِّلون الفشل، ومال إلى إنكار الخير والشر معًا، والكفر بالمجتمع الذي
صنعهما، والإيمان بنفسه إطلاقًا «يوجد لذيذ ومؤلم، ونافع وضار، أما خير وشر فمحض وهم
باطل.»
٢٤
كان الشعور الذي اجتاح محجوب عبد الدايم وهو يواجه المجتمع بمفرده، ويعلن إصراره
على
أن ينتزع حقوقه من قوى السيطرة والظلم «سيدفع العالم ثمن هذه الآلام»
٢٥ كان ذلك الشعور — تقريبًا — هو ما أحس به الراوي في «أيام الطفولة»، وأيقن أنه
يواجه العالم وحده؛ فعليه إذن أن يهاجم ويضرب ويفترس بساعدَيه ولسانه كلَّ من يغتصب ما
يرى
أنه حق له.
٢٦
محجوب عبد الدايم يذكِّرنا بشخصية حمدان في قصة «حمدان بك».
٢٧ نفس الظروف التعليمية تقريبًا، والمسار الانتهازي الذي اضطرته إليه حياته،
وقسوة المجتمع ضده! يقول لنفسه: «المال … المال هو السيادة، وهو القوة، هو كل شيء في
الدنيا!»
٢٨ وكان — كما يصفه الفنان — شابًّا فقيرًا بلا خُلق، يرصد الفرص، ويتوثب للانقضاض
عليها بجرأة لا تعرف الحدود.
٢٩ فهو نموذج لبطل أرسطو الذي وقع في الخطأ نتيجة لنقص خلقي، وليس مجرد عجز عن
تقدير العواقب.
٣٠
•••
محجوب عبد الدايم هو بيجدانوف في رواية «الأرض البكر» لتورجنيف، لكن نقمة محجوب على
المجتمع لا تأخذ أبعادًا متسعة، مثلما فعل بيجدانوف ورفاقه، هؤلاء الذين حولتهم نقمتهم
إلى مخلوقات فوضوية صادمة، تتحدى المجتمع كله.
من ناحية ثانية، كانت مشكلة محجوب عبد الدايم بُعدًا من أبعاد المشكلة التي يتسبب
فيها
انسلاخ «الفرد» عن الجماعة. ثار على نشأته نفسها: «لماذا قُدِّر له أن يُولَد في ذلك
البيت؟
وماذا ورث عن والديه سوى الهوان والفقر والدمامة؟ أليس من الظلم أن يرسف في هذه الأغلال
قبل أن يرى النور.»
٣١ فقد كان ابن الفلاح يخرج من قريته ليتعلم، ويحصل على وظيفة في المدينة، ثم
ينسى أهله الفلاحين، ويتنكر لهم. أذكِّرك بشخصية الفلاح الذي تنكَّر لبيئته في لوحة «عربي
تفرنج»، ويقطع كل الصلات بينه وبينهم بعد أن أصبح من طبقة غير طبقتهم. الأمر نفسه
بالنسبة لابن الطبقة العاملة الذي تتاح له فرص التعليم، والحصول على وظيفة حكومية، فإنه
ما يلبث أن يتغير لبيئته تمامًا. نكران الجميل الذي تصرف به محجوب إزاء أسرته، هو
التصرف نفسه الذي عامل به نصيف (صفاء) أسرته بعد أن أنفقت كل ما تملك من مال حتى حصل
على دبلوم مدرسة التلغراف، وأرسل إليها الشاب في البداية جزءًا يسيرًا من راتبه، ثم لم
يعُد يرسل شيئًا.
٣٢ «ما البنوة؟ أليست عادة سخيفة لاصقة بظاهرة الأسرة؟ بلى … وسيكفر بها كما
كفر بأخوات لها من قبل، ولن يراعي إلا ذاته ومجده ولذته. وتساءل: لماذا يعيشان؟ وما
فائدتهما في هذه الحياة؟ وما معنى الحياة لهما؟ لماذا لا يموتان فيستريحان
ويريحان؟!»
٣٣ أصبح الشاب عضوًا في الطبقة العليا من المجتمع، لا بالكفاءة، وإنما
بالتنازل عن إنسانيته وشرفه.
لقد بدأ سالم الإخشيدي طالبًا ثائرًا، وانتهى — بعد مقابلته مع الوزير — إلى درجة
متقدمة في الجهاز الوظيفي، أما محجوب عبد الدايم فقد كان شلل الأب الذي اضطره لأن يحيا
على جنيه واحد كل شهر، والطبقة الثرية التي تعيش على جوع الشعب المصري، سببًا في
انطلاقه في رحلة الانتهازية إلى مداها. وأما كمال الطبال، فقد كانت الطبقية الحادة التي
تحكم مجتمع القرية، والرشاوى التي كان يدير بها الجهاز الحكومي شئون الفلاحين، هي
الأرضية التي وقف عليها، انطلاقًا إلى رحلة الجريمة.
•••
كانت الزوجة التي اقترن بها محجوب عبد الدايم هي إحسان شحاتة، صديقة زميل الجامعة
التقدمي علي طه.
من الصعب القول إن إحسان شحاتة هي المقابل الأنثوي لشخصية محجوب عبد الدايم.
٣٤ محجوب توعد القاهرة، وانشغل بنفسه، وأهمل أسرته حتى بعد أن جرت النقود في
يده، كان سافلًا بكل معنى الكلمة، وكان شعاره «طظ». أما إحسان فقد حاولت المقاومة من
خلال حبها لعلي طه. وحين دفعتها الظروف إلى الخطيئة، فقد كان الدافع الأهم ما وصلت إليه
أسرتها من ظروف مادية قاسية. وكان والد محجوب تعبيرًا عن المواطن المصري البسيط الذي
يدفع من عرقه لينفق على تعليم أبنائه، ويجعل من «الستر» شعارًا يحرص على تطبيقه. أما
إحسان فقد كانت — فضلًا عن طبيعة عملية غير منكورة — ضحية أب يمتهن القوادة! وأما القول
بأن الباعث لانحراف إحسان شحاتة هو الطمع في مال قاسم بك،
٣٥ فهو يحتاج إلى مراجعة شديدة؛ لأن إحسان حاولت أن تبقي على حبها لعلي طه،
وإنما الذي دفعها إلى التخلي عنه، أنه لم يحاول — أو أنه لم يستطع — انتزاعها من ظروفها
المادية القاسية، بالإضافة إلى إلحاح أبيها في أن تقبل بالسقوط لكي تنقذ أسرتها!
وعندما رأت الشاب — صديقها قبل أن تتعرَّف إلى علي طه — يجالس أباها في الدكان، أدركت
أنه
يساومه على عرضها، فثار غضبها، وشعرت بالخزي والعار، ثم قاطعت الشاب بقسوة لم تدَع له
أملًا!
٣٦
ظلَّت إحسان شحاتة على علاقة حب بريئة مع علي طه، لم تكن تخلو من تطلعات، وكان العيش
السعيد — في رأيها — شبابًا وثيابًا، وكانت ترى علي طه كفيلًا «بأن يهيئ لها مهنة محترمة،
وأن يحقق لها أحلام قلبها.»
٣٧ وكانت إحسان قد أحبَّت — قبل علي طه — شابًّا موسرًا من مدرسة الحقوق، أدركت من
سلوكه أنه يريدها للهو والجنس، فقطعت علاقتها به.
٣٨ ثم أنقذها الشاب ذو الميول اليسارية — بحبه — من مأزق الحيرة والخوف، وأعاد
إليها شعور الاحترام والكبرياء، فعقدت عليه آمال مستقبلها.
٣٩ لكن والدَيها لم يسكتا عن الإلحاح، وجعلاها في حلٍّ من عُرف أو قيمة أو قيد،
«ولولا علي لهوت وانتهت من زمن بعيد.»
٤٠ واجهت إحسان من والديها معارضة عنيفة لعلاقتها بعلي طه، لا لأنها تحب، بل
لأن الأوفق تكون العلاقة بشاب ثري. كان الأبوان يغضَّان النظر تمامًا عن النواحي
الأخلاقية، «وكانت شركتهما عشقًا قبل أن تصير زواجًا.»
٤١ تحوَّلت إحسان — في نظرهما — إلى سلعة حاولا الإفادة منها ما أمكن، وحاولا
دفعها إلى السقوط. قال لها أبوها: إنه شاب فقير، حتى السجائر لا يدخنها.
٤٢ وقال لها: «إنك مسئولة عنا جميعًا، وخصوصًا إخوتك السبعة.» وظلت الفتاة على
تماسكها لفترة طويلة، وكان غاية ما تأمله أن يتمسك والدها بالصبر حتى تنتهي تعليمها
بمعهد التربية، وتلتحق بوظيفة شريفة.
٤٣
كان رأي علي طه أن «الحياة فكرة وعاطفة»، وأن وظيفة المرأة أخطر شأنًا من عمل
الجارية،
٤٤ وأنها هي الحبيبة والزميلة والند المحترم. وقد حاول أن ينشئ إحسان شحاتة
على نحوٍ مغاير لما ألِفته، فهو يتبادل معها الأفكار والقبلات، ويهوِّن من تأثير الملابس،
ويحاول عمومًا أن يرتقي بفطرتها. وعندما أخفقت كل محاولات قاسم بك في استمالتها، بعث
مدير مكتبه إلى والدها الذي قال لها: رجل لا يقل مقامًا عن وزير، وأعظم جاهًا وثروة …
ألا ترين سيارته؟ ألا ترين قصره؟ فماذا ترين؟
٤٥ فلما أخفقت في مقاومة الضغوط، ضرعت إلى علي طه أن يفترقا، ولا يضاعف لها
العذاب.
٤٦ وبررت لنفسها تناسيها حب علي طه، وقبولها بالعلاقة مع البك، بأنها إذا كانت
تحب عليًّا، فإنها تحب إخوتها كذلك، ولا يجوز من ثَم أن يذهب إخوتها ضحية
لأنانيتها.
٤٧ وإذا كان انحراف إحسان شحاتة نتيجة مباشرة لقول أبيها: «إنك مسئولة عنا
جميعًا، وخصوصًا إخوتك السبعة.»
٤٨ فإنها — بالإضافة إلى إحساسها بالحرية، وأنها تملك اتخاذ خطواتها — كانت، كما
وصفها الفنان، ذات طبيعة عملية، فقد أسقطت الماضي من حياتها تمامًا، وأزمعت أن تعنى
بالحاضر، وتتجه إلى المستقبل.
٤٩ اضطرت إلى قطع علاقتها البريئة بعلي طه، واستبدلت بها زواجًا صوريًّا من
محجوب، لتقيم علاقة آثمة مع قاسم بك الذي تولى الإنفاق عليها، وعلى أسرتها. وعلى حد
تعبير الفنان فقد «كان الجو خانقًا، والرئتان سليمتين، فدلَّت الظواهر على أن النهاية
محتومة ما منها مناص.»
٥٠ إن خطيئة إحسان شحاتة نبعت — في الدرجة الأولى — من إحساسها بالمسئولية حيال
إخوتها، الإحساس نفسه كان سببًا في تردي عزيزة — امرأة الترحيلة — في «الحرام»، وهي تبحث
لزوجها المريض عن بعض ثمار البطاطا. وإذا كانت إحسان قد لبَّت دعوة سيارة قاسم بك التي
سارت بجوارها في بطء، فإن عزيزة لم تُصدِر صرخة استغاثة، وإنما فوجئت هي نفسها باستسلام
غريب مبعثه يأس قاتل.
وقد أوشكت إحسان شحاتة أن تحتقر «محجوب»، ولكنها تنبَّهت إلى أنه — مثلها — ضحية
للعوز
والطمع «كلاهما ضحية لشر واحد، فما أجدرهما بالتصافي والتعاون.»
٥١ لقد وصَّاها أبوها بعشيقها، ولم يوصِّها بزوجها.
٥٢ وكانت الكآبة تداخلها — أحيانًا — إذا خلت إلى نفسها بعد الزواج من محجوب،
وربما وجدت حنينًا إلى الآمال المشرقة الأولى في الحب والحياة الشريفة، لكنها كانت
تتغلَّب على حالها بتلك «الواقعية التي اشتهرت بها النساء» والتعبير للفنان.
٥٣ وعلى الرغم من ظروف النشأة القاسية، فقد قاومت إحسان كل ما تعرضت له من
ضغوط، ومنها إلحاح الأب بالقول: إنك مسئولة عنا جميعًا، وخصوصًا إخوتك السبعة! وظلت
على صدق عواطفها نحو علي طه، قبل أن ترضخ لقسوة الظروف في النهاية. ولعل ما عانته إحسان
شحاتة من سوء تربية أبويها، يذكِّرنا بمعاناة المرأة في قصة عز الدين حمدي «من أعماق
السجون». تقول: «كيف تنتظر أن أكون فتاة شريفة، وكل فرد من أفراد عائلتي كان منحطًّا،
مستهترًا، عابثًا بالأخلاق؟ كيف أعرف العفة وأبي كان يلقنني دروس الإثم برجوعه بعد مطلع
الفجر إلى منزله؟ وأنا أبصر أمي تحتسي الخمر مع أصدقاء والدي في المنزل، وتمكث معهم
تضحك وتلهو حتى منتصف الليل؟ وأنا أشاهد أختي تلاقي كل شاب مستهتر، دنيء النفس، وضيع
الخلق، دون أن يؤنِّبها أبي أو أمي على ذلك، أو يحُولان بينها وبين المُضي في هذا
الطريق.»
٥٤ وقد أعاد ثروت أباظة قصة قاسم بك وإحسان شحاتة ومحجوب عبد الدايم … أعاد تلك
القصة — بحذافيرها — في روايته «ثم تشرق الشمس»، فيسري بك يزوِّج عشيقته دولت إلى طالب
الوظيفة صبحي الملواني. أما نازك — الاسم الروائي لسيدة كانت وظيفتها ستارًا شفافًا
لعلاقتها بالملك فاروق — فقد قررت — ذات يوم — أن تنهي تلك العلاقة:
– ما لي ولكل هذه الدوشة … لقد تعبت.
فقال الزوج — القواد — في هدوء: أجننتِ؟ سلامة عقلك! أهذا وقت الهزل؟!
– من الذي قال إنني أهزل؟ إنني في تمام عقلي. لقد ضقت ذرعًا بمولاك هذا الذي لا تنتهي
طلباته الشاذة، وأصبح يعاملني كما لو كنت إحدى جواريه.
– سبحان الله يا نازك، ألسنا نعيش في خيره؟ أنسيتِ أنه رب نعمتنا؟!
– رب نعمتك أنت يا أخي، وليس رب نعمتي، وعلى رأي المثل، ماذا يهمك أنت، إنني أنا
الذي
اضطر لاحتمال سماجته وثقل دمه.
٥٥
وإذا كان سالم الإخشيدي قد رأى في محجوب زوجًا، صوريًّا، صالحًا لعشيقة البك، فإن
عبد
العظيم (شيء في صدري) اضطر لأن يعقد قرانه على حرم محمد أفندي السيد، وإن لم يتزوج
بها!
•••
كان علي طه الماركسي
٥٦ قد بدأ مطاف روحه من مكة أولًا، ثم انتهى إلى موسكو.
٥٧ يقول عن نفسه: كنتُ فاضلًا بدينٍ وبغير عقل، وأنا اليوم فاضل بعقل وبلا
خرافة.
٥٨ وثاب إلى مُثُله العليا آمنًا مطمئنًا، ممتلئًا حماسة وقوة، وشغف بالإصلاح
الاجتماعي، وحلم بالجنة الأرضية، فدرس المذاهب الاجتماعية حتى طاب له أن يدعو نفسه
اشتراكيًّا. وطالت حيرة علي طه بين الأحزاب، فلم يكن ثمة حزب واحد له مبادئ اجتماعية
محددة، وفضَّل أن ينتظر قليلًا حتى تنشأ الأحزاب الاجتماعية، ثم يشترك فيها، وكان رأيه
أن
ما تحتاج إليه حياتنا هو الحكومة والبرلمان،
٥٩ وأن «الحاجة ماسَّة حقًّا إلى وُعَّاظ من نوع جديد، من كليتنا — الحقوق — لا من
الأزهر، يبيِّنون للشعب أنه مسلوب الحقوق، ويدلُّونه إلى سبيل الخلاص.»
٦٠
كانت مبادئ علي طه هي «الإيمان بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية
بدل المنافسة.»
٦١ وقد تخلَّى علي طه عن عمله بمكتبة الجامعة، وبدأ مع زملائه في إصدار مجلة
أسبوعية للدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، ورفض أن يواصل الإعداد لرسالة الماجستير
كذلك.
٦٢ قال: «لندع البحث للباحثين، ولنركِّز همَّنا فيما هو أجمل، وليكن جهادنا
كله لمصر، وكيف تحوَّل من أمة عبيد إلى أمة من الأحرار.»
٦٣ وكان اسم مجلة علي طه «النور الجديد».
٦٤ اسم له دلالة.
مع ذلك، فإن علي طه لم يكن يخلو — وهو ما كان يضايق إحسان شحاتة — من تناقض بين الفكرة
والتطبيق، بين المبدأ والحياة، فهو يستهين بالملبس والمأكل ونظام الطبقات، لكنه يتأنق
في ثيابه، ويأكل فاخر الطعام، وينفق عن سعة.
٦٥ من هنا جاء القول إن الفنان أراد بزواج محجوب عبد الدايم تحديدًا، بإحسان
تحديدًا، أن يشير إلى أن «الكلمات الثورية وحدها لا تستطيع أن تنقذ فتاة مثل إحسان من
السقوط في وهدة الرذيلة، وكان لقاؤهما المصادفة — إحسان ومحجوب — معنى من معاني وحدة
المصير وضرورته.»
٦٦
•••
كان مأمون رضوان ينكر الأحزاب، ويرفض الاعتراف بالقضية المصرية، ويقول بحماسة: إن
هناك قضية واحدة هي قضية الإسلام عامة، والعروبة خاصة.
٦٧ كان رأيه أن «الله في السماء، والإسلام على الأرض.»
٦٨ وأن «الإسلام بلسم لجميع آلامنا.»
٦٩ وحين خطب مأمون رضوان فتاته، فقد كان ذلك بعد ثورة أبيه، وتم الاتفاق على
أن يعقد عليها عقب الانتهاء من دراسته. وصار يتردد على بيتها كل خميس، فيجالس الأسرة
مجتمعة، ويمضي بضع ساعات في سمر لذيذ، ولم يخطر له على بالٍ قَطُّ أن يدعو فتاته إلى
السينما، أو أن يدبر حيلة للانفراد بها، ذلك أنه كان من الكافرين بالبدع الحديثة — على
حد تعبيره — الثائرين عليها، فلقي سلوكه من أسرة الفتاة — أسرة حافظت على تمسكها
بالتقاليد القديمة — كل إعجاب وتقدير.
٧٠
•••
كان تحوُّل محجوب عبد الدايم إلى قواد، وتحوُّل إحسان إلى عاهرة، ثم اقتران العهر
بالقوادة، ضمانًا لاستمرار علاقة قاسم بك فهمي بإحسان، نتيجة مباشرة لطبيعة الحياة في
المجتمع. كان محجوب ينشد الوظيفة، وكانت إحسان تطمح إلى تجاوز الضغوط المادية القاسية،
أما قاسم بك فلم يكن يشغله إلا استمرار علاقته بإحسان. أما سالم الإخشيدي فهو فوتران
الذي أشار على الطالب الجامعي الفقير أوجين دي راستنياك — في رواية بلزاك «الأب جوريو»
— باتِّباع السبيل السهل قائلًا له: ينبغي أن تلوِّث يديك لكي تشبع … تلك هي أخلاق
عصرنا!
إن علي طه — ذلك اليساري المتشدد — يلتمس العذر لمحجوب في النهاية: «فليست الحقيقة
ما
ترى، وصاحبنا البائس وحش وفريسة معًا، فلا تنسَ نصيب المجتمع من جريرته.»
٧١ وعلى الرغم من وصف الفنان لمحجوب بأنه يحب نفسه «أكثر من الدنيا جميعًا … أو
يحبها وحدها دون الدنيا جميعًا.»
٧٢ فإن محجوب عبد الدايم هو ضحية المجتمع بلا جدال، كانت «طظ» رفضًا مباشرًا
لنظام المجتمع، بأكثر مما هي تعبير عن اللامبالاة التي لا يعنيها سبيل الوصول:
«– هل المبادئ ضرورية؟
– طظ!
غير ضرورية إذن؟
– طظ!
– الدين أم العلم؟
– طظ.
– في أيهما؟
– طظ.
– أليس لك رأي ما؟
– طظ.
– وهل طظ هذه رأي يرى؟
– هي المثل الأعلى … إلخ.»
٧٣
وكانت الحفلة الخيرية التي حضرها محجوب للمرة الأولى في حياته، هي الخطوة الأولى
في
الطريق التي استقرت عليها خطواته. تعرَّف إلى المجتمع على حقيقته: قوادين وأجانب ومومسات
في ثياب فاخرة ومخنثين … إلخ، وأدرك محجوب أنهم جميعًا يعملون بمبادئه، دون حاجة إلى
تفلسف، ولن يمتاز دونهم باستهتار ولا جرأة.
٧٤ وقد لخص محجوب التعفن الذي سري في المجتمع بقوله: «لا يدهشني شيء … اختيار
الموظفين تزييف … رسو العطاءات تزييف … الألقاب والنياشين تزييف … الانتخابات نفسها
تزييف!»
٧٥ لم يعُد الشاب يتصور الثراء والعفاف في كائن بشري معًا.
٧٦ وحين اتصل محجوب عبد الدايم بالطبقة العالية، فقد كان في مقدمة ما لاحظه
أنه لم يلق بين شباب تلك الطبقة من يتحدث عن العروبة، ولا من يناقش في الاشتراكية أو
أوجست كونت.
٧٧ ويقول الإخشيدي: شيء لا يصدق! أتعلم أن أكثرية طلبات الإعفاء من المصروفات
مقدَّمة من ذوي اليسار! ويتساءل محجوب في دهشة: شيء لا يُصدَّق حقًّا! وكيف يسوِّغون
التماساتهم؟ لا حاجة ماسَّة إلى التشريع. حسب أحدهم أن يقهقه ضاحكًا، وأن يقول: ألا
يكفينا هبوط أسعار القطن، ثم مزاح فمداعبة فموافقة!
٧٨
وقد زار محجوب والده المشلول في القناطر الخيرية، ولأن الفقر كان قد أمات في نفسه
كلَّ
شعور إنساني، فقد تساءل وهو يشاهد والده المشلول أمامه: «لماذا لم يتأخر هذا الشلل؟»
ثم همس لنفسه: «إنه لو كان وريث أحد تلك القصور، وأشفى أبوه — الباشا — على الموت، لانتظر
موته بفارغ الصبر.»
٧٩ مع ذلك، فإنه نظر إلى المدينة في ألم، وهتف: يا قناطر يا بلدنا … وزعي الحظ
بين أبنائك بالعدل! ويتبدى إيمانه بالمجموع في قوله: النائب الذي ينفق مئات الجنيهات
قبل أن يُنتخَب، لا يمكن أن يمثِّل الشعب الفقير، والبرلمان في ذلك شأن المؤسسات الأخرى.
انظر إلى قصر العيني مثلًا، فبالاسم مستشفى الشعب الفقير، وبالفعل حقل تجارب لإجراء
اختبارات الموت على الفقراء. ويتأمل قصور شارع الفسطاط متسائلًا: «هل يمكن أن ينفذ
الشقاء من هذه الجدران الغليظة؟ أحق ما يقول مدَّعو الحكمة، أم أنهم يخدرون القلوب
الملتاعة؟»
٨٠ فهو يستنكر المثل العامي «الفقر حشمة، والعز بهدلة.»
•••
كان لمحجوب كبرياؤه التي حاول أن يحرص عليها، حتى في أشد لحظات حياته انهيارًا.
فعندما يستقبله بائع الفول، عند عودته إليه للمرة الثانية في يوم واحد، بقوله: أهلًا
وسهلًا، فإن هذه التحية تؤذيه، وتنال من كبريائه.
٨١ ولما اضطر محجوب إلى نقل أثاثه البسيط من غرفته مع زملائه، إلى غرفة أخرى
على سطح إحدى العمارات؛ لم يذكر السبب الحقيقي، آثر الكذب على إذلال كبريائه، وقال
لزملائه إنه سينتقل إلى حجرة بعمارة جديدة. وأضاف وهو يغمز بعينه، إن أسبابًا خاصة دعت
إلى ذلك. قال ذلك وهو يعلم إنه سيعجزه غدًا وصال جامعة الأعقاب، لكنه آثر كذبًا من هذا
النوع على إذلال كبريائه.
٨٢ وعندما حاصرته الظروف تمامًا، راودته فكرة أن يسأل زملاءه أن يطعموه «لو
سأل علي طه ما تأخر أو تردد، ولو سأل مأمون رضوان لنزل له عن طعامه، ولو كان كسرة خبز،
فما الذي يمنعه؟ الكرامة! الكبرياء! … إلخ.»
٨٣ ثم اضطر محجوب لأن يعلن أن «المال هو السيادة، وهو القوة، هو كل شيء في
الدنيا.» وتلاشت «طظ» أو كادت، وآمن محجوب بالميكافيلية أسلوبًا لحياة العفن في مجتمعه،
محتذيًا خُطى سالم الإخشيدي، ابن بلدته الذي بدأ حياته طالبًا ثائرًا، يقود المظاهرات
الصاخبة ضد وجود الاحتلال وفساد الحكم، ويتزعم لجان المقاطعة، ويوزع المنشورات ضد
الدستور الجديد، ثم استدعاه الوزير — يومًا — ليخرج من مكتبه شخصًا آخر، أهم ما يؤمن
به
أن الطالب لا شأن له بالعمل السياسي حتى يتخرج. وبعد التخرج، يعمل — في العلن — سكرتيرًا
لقاسم بك، ويعمل — في السر — قوادًا له (نجد تكرارًا لشخصية سكرتير الوزير القواد في
الرجل الذي فقد ظله، ٢: ١٣٤). وافق محجوب على زواجه من إحسان، وقال لنفسه: «اقتل الشك،
امح الكرامة من قاموسك، احذر الغيرة، افرغ شهوتك، توثَّب للطموح، واذكر أن ما أنت فيه
هو
الامتحان الأول والأخير لفلسفتك، فقل الآن «طظ»، قلها بلسانك وبقلبك وبإرادتك.»
٨٤ ولعلنا نلحظ أن «محجوب» لم يكن يخلو من لحظات استعادة للنفس، ومراجعة،
وبالذات حين يجلس إلى إحسان شحاتة. وقد ذكر محجوب والدَيه في طريقه، فانقبض صدره على
رغمه، وفرَق، وتفصد جبينه عرقًا. تمثَّلت له أمه التي تؤمن بأنه لا يخطئ أبدًا، وتمثَّل
له
أبوه، الرجل الريفي بطيبته وتقواه وغيرته.
٨٥ وشكَّل امتناعه عن مد المعونة لوالدَيه جدارًا صلدًا بينه وبين الراحة، حتى
«صدقت نيته على مد يد المعونة إليهما حتى ينفض عن حياته أي ظلٍّ للكدر.»
٨٦ وحتى بعد أن باع نفسه تمامًا، رأى الدولاب الخاص بقاسم بك في غرفة نومه،
فتورَّد وجهه غضبًا! وشعر برغبة قوية في أن يركله بما أوتي من قوة.
٨٧
•••
انتهت «القاهرة الجديدة» بضربة قاسية إلى الوصولية، لكنها بعد لم تكن ضربة قاتلة،
بل
إنها خرجت من المأزق الطارئ مستفيدة إذا لاحظنا أن محجوب عبد الدايم الذي كان ينشد مجرد
فرصة التعيين في الدرجة السادسة، مثل آلاف الخريجين الذين كانوا يطوفون على المصالح
والدواوين، قد عُيِّن في الدرجة الخامسة. وكانت مذكرة ترقيته إلى الرابعة معروضة على
مجلس
الوزراء لولا أن سحبها الوزير بعد «الفضيحة». أما عقاب الوزير، فقد تمثَّل في إجباره
على
الاستقالة، وأما عقاب محجوب عبد الدايم فهو النقل إلى أسوان باعتبارها «المنفى»
للموظفين المغضوب عليهم. وطبيعي أن الوزير لم يكن ليعدم فرصة — فيما بعد — للعودة إلى
الحياة السياسية، وكما قال أحمد بدير: «إن مجتمعنا يستطيع أن يهضم هذا الوزير وأمثاله
إذا أساغه بشيء من النسيان. وسوف يقبع عامًا أو عامين أو أكثر في نادي محمد علي، وعسى
أن تخرجه المظاهرات الوطنية عن عزلته، وتحمله كالأبطال إلى الوزارة مرة أخرى، فيعيد
سيرته الأولى، أو يلعب دورًا جديدًا، ومن يعش يرَ.»
٨٨ لم يكن الوزير قاسم فهمي حالة متفردة، لكنه كان تعبيرًا عن ظاهرة عامة في
الجهاز الحكومي المصري. أما محجوب عبد الدايم فقد كانت ستتاح له — بوصوليته التي تنازلت
عن كل شيء، حتى عن الزوجة — فرصة العودة إلى القاهرة، أولًا، ثم الترقي في الجهاز
الوظيفي، ثانيًا، بل إنه وإذا كان عثمان بيومي (حضرة المحترم) — في تعريف علي الراعي
— هو
الوصولي الأكثر بروزًا، بحيث يُعَد محجوب عبد الدايم بالقياس إليه «نموذجًا بدائيًّا
في
الوصولية»
٨٩ فإن محجوب لم يُعاقَب بما يوازي جريمته، بل إنه ظل على وضعه الوظيفي رغم
انتدابه إلى أسوان، أما عثمان، فقد رأى — بعينيه — نهاية طريق الوصولية في حياته.
كان الطبيعي أن يُعتقَل أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت (السكرية) — أقصى اليسار وأقصى
اليمين — بتهمة العمل ضد النظام، وأن تلقى مبروكة (الرجل الذي فقد ظله) الهزيمة في رحلة
رفضها للمهانة الطبقية، حتى تتحوَّل إلى مومس، وأن يصادف محجوب عبد الدايم بعض العقبات
التي تعوقه عن الانطلاق — حينًا — في درب الوصولية. لكن تجاوز تلك العقبات، وتحقيق
النجاحات الرخيصة، كان هو المحصلة النهائية. كان ذلك كله تعبيرًا عن صورة العصر
الحقيقية، وما عداها أقرب إلى الأمنيات المثالية التي تكتفي بالتحليق فوق أرض الواقع.
وكما يقول الفنان «فلم يكن يعنى المجتمع إلا أن يحافظ على ذاته، ويعادي في ذلك حتى
عشَّاقه الذين ينشدون له الكمال أمثال علي طه ومأمون رضوان، إن نصيب هؤلاء هو التعب
والكفاح، وربما السجن.»
٩٠
هوامش