بداية ونهاية
تعبِّر «بداية ونهاية» عن المرحلة التاريخية نفسها التي تعبِّر عنها «القاهرة الجديدة»،
وتعبِّر
الرواية عن الطبقة الوسطى الصغيرة التي كانت معلمًا رئيسًا في المجتمع المصري منذ ثورة
١٩١٩م، وكوَّنت الرأي العام فيه.
بدأت أحداث الرواية في نوفمبر ١٩٣٥م، عقب اندلاع المظاهرات الطلابية احتجاجًا على
إعلان السير صامويل هور وزير الخارجية البريطانية في ٩ نوفمبر ١٩٣٥م بأن مصر تحتاج إلى
دستور جديد، وأن الدستورَين القديمَين لم يعودا صالحَين للعمل. ففي الأسبوع الأول من
نوفمبر ١٩٣٥م أُجريَت الانتخابات الطلابية في الجامعة المصرية، وكما يقول ضياء الدين
الريس
«فلم تكن الدولة ولا الإدارات تتدخل في ذلك الوقت في انتخابات الطلاب.»
١ وجاء اختيار الطلاب للجنة العليا الجديدة ممثلًا حقيقيًّا لإرادتهم، وبادرت
اللجنة بالفعل إلى تقدم الصفوف، وحمل عبء القيادة بدلًا من الزعماء، ودعت إلى الجهاد،
وكان تصريح السير صمويل هور هو الشرارة التي أشعلت نيران الثورة.
وتعد أحداث ١٩٣٥م نتيجة مباشرة لأحداث ١٩٣٠م، عندما ألغى إسماعيل صدقي الدستور، بحيث
قطعت المفاوضات التي أسفرت — فيما بعد — عن توقيع معاهدة ١٩٣٦م.
•••
كانت وفاة الأب هي البداية والنهاية معًا. وهو ما كانت تعانيه أسر الطبقة الوسطى
الصغيرة بعامة. وفاة العائل تعني انهيارًا مؤكدًا في حياة الأسرة، إذا كانت تنتمي إلى
الطبقة الوسطى وما دونها — من هنا كان صراخ الخالة القادمة من الريف — وهي تودع جثمان
زوج
أختها: «يا خراب بيتك يا اختي!»
٢ ومن هنا أيضًا جاء المثل «موت وخراب ديار». الفنان يرسم صورة للمأزق الذي
واجهته أسرة كامل علي بفقد عائلها: «إنها — الزوجة — تدرك من هول الكارثة ما لا يدركه
أحد، انتهى زوجها، وإنها لتتلفَّت يمنة ويسرة فلا تجد أحدًا تعرفه إلا هذه الأخت التي
لا
يُعقَد بها رجاء، لا قريب ولا نسيب، ولم يخلف الرجل شيئًا، وهيهات أن تأمل في معاش مناسب،
وقد كان مرتبه كله يُستنفَد في ضرورات الأسرة.»
٣ لقد خدم الرجل الحكومة حوالي الثلاثين عامًا، فبلغ مرتبه ١٧ جنيهًا، واستحق
معاشًا قدره خمسة جنيهات.
٤ تقول الأم لأبنائها: ليس لنا من قريب نعتمد عليه.
٥ ويقول حسين لأخيه: تحاش ما يُؤلم أمنا، إذا لم يكن في وسعنا أن نساعدها، فلا
أقل من أن نريحها من منغصات لا داعي لها، واذكر أنها وحيدة، فلا أعمام ولا
أخوال.
٦
والحق أنه لم يظهر للأسرة أقارب — عدا الخالة القادمة من الريف — منذ وفاة الأب حتى
تمنى حسنين رحمة الله. منذ هجر كامل أفندي علي بلدته دمياط إلى القاهرة، لم يعرف أبناؤه
لأنفسهم أقرباء غير تلك الخالة. لم يكن للأسرة في القاهرة قريب ولا نسيب، ولم يكن الرجل
قد خلف شيئًا سوى معاشه الضئيل، حتى قبره المغمور في العراء، تصوَّره حسنين رمزًا لضياعهم
المخجل في المدينة الكبيرة.
٧ ولا يخلو من دلالة سؤال حسنين: «هل يثير موت رجل كأحمد بك — يسري — حزنًا في
نفوس ورثته؟!»
٨ وإذا كان حسين قد استسلم للحقيقة القاسية بفعل عقيدته الثابتة، وسأل الله
أن يلقى أباه في الدار الآخرة وهما على أحسن حال، فإن حسنين كان يشغله ما حدث بنفس
ثائرة متوقدة، لكنه ما لبث أن استسلم في النهاية.
٩
•••
المثل الشعبي يقول: «من مات أبوه ملك رشده». وكان على الإخوة الأربعة — بوفاة أبيهم
—
أن يملكوا رشدهم، أن يقوموا بأمر أنفسهم، وبأمر الأسرة عمومًا. واجهت أسرة كامل علي
الحياة بمعاش الجنيهات الخمسة، تغطي احتياجاتها، أو كان هذا هو المطلوب، في المأكل
والملبس ومواصلة الأبناء تعليمهم، والحفاظ على المظهر الاجتماعي للأسرة. وكان على الأم
أن تقود زورق الأسرة في ذلك البحر المتلاطم الأمواج. لم تكن، والتعبير للفنان «من
النساء اللائي يفضضن همومهن بالدموع»، فقد «كانت دائمًا قوية، وكانت محور البيت الأول،
بل كانت — على الأرجح — تقوم بدور الأب، على حين كان المرحوم — زوجها — أدنى إلى حنان
الأمهات وضعفهن.»
١٠ و«لم تكن تتخلى عن حزمها فقط.»
١١ كان ظاهرها يدل على الحزم والقوة، أما باطنها فقد كان يندَّى رحمةً وعطفًا
على أسرتها البائسة.
١٢ حرمت على نفسها البكاء أمام أبنائها حتى لا تعاودهم حدة الحزن، أصرَّت — على
حد تعبيرها أو تعبير الفنان — أن تظهر بمظهر الرجولة.
١٣ وكانت بأنفها القصير الغليظ، وذقنها المدبب، وجسمها النحيل
القصير، توحي بأنها وهبت الأسرة خير ما فيها، فلم يبقَ من حيويتها إلا نظرة قوية تنم
عن
الصبر والعزم.
١٤
لقد واجهت الأم الموقف نفسه الذي واجهته برنارد ألبا حين مات رب الأسرة، وأصبح عليها
أن تحكم البيت، وتصرف شئونه، لكن برنادر ألبا لم تُرزَق ولدًا، بل كانت أمًّا لخمس بنات.
أما نفيسة فقد كانت هي الأنثى الوحيدة بين ثلاثة ذكور، ومع هذا، فإن الأم في الرواية
والمسرحية تعبِّران عن شخصية واحدة، تملك التأثير والسيطرة. أحكمت برنارد ألبا سيطرتها
على بناتها الخمس، فحوَّلت البيت إلى سجن، أما الأم في «بداية ونهاية» فهي لم تجعل البيت
سجنًا؛ لأن ساكنيه كانوا من الرجال، لكنها استطاعت أن تكبح تطلعاتهم، حتى إنها قهرت
أمومتها، وتركت حسن — لعقوقه — يغادر البيت. ربما لم تتوضح شخصيتها المسيطرة بمثل الوضوح
الذي ظهرت به برنارد ألبا مع بناتها الخمس، لكن الموقف كان يختلف بصورة مؤكدة.
كان الاستغناء عن المصروف اليومي لحسين وحسنين هو أول قرار اتخذته الأم لمواجهة
المصيبة التي حلَّت بالأسرة. وبعد أن كان الشابان يكتفيان من غدائهما المدرسي بلقيمات
معدودة؛ كي يتناولا وجبتهما الرئيسة في البيت، فإنهما قد اضطرا — بعد وفاة الأب — إلى
سماع نصيحة أمهما بألا يتركا نصيبهما من الغداء المدرسي كما يفعلان عادة.
١٥ جعلا من غداء المدرسة وجبتهما الرئيسة، واعتادا المبيت بلا عشاء.
١٦ ثم قررت الأم أن تنتقل الأسرة إلى شقة أصغر بإيجارٍ أقل، وأوصت حسن أن يبحث —
للمرة الأولى في حياته المشردة — عن عمل، وحثَّت نفيسة على أن تتقاضى أجرًا لما تحيكه
من
ثياب لنساء الجيران، واستغنت الأم تمامًا إلا عما يسد الأفواه، ويهَب الأجساد فرصة
الحياة، بالإضافة إلى السعي وراء معاش الراحل الذي كان يستلزم أشهرًا طويلة قبل أن يصل
إلى يدها. ثم بدأت الأم في بيع أثاث البيت؛ بدأت بفراش الأب ولوازمه بحجة ما يثيره
وجوده من الأحزان. ثم باعت المرآة الكبيرة بحجرة الاستقبال، واستغنت عن الخادمة
الصغيرة، وألِفت الأم ونفيسة أن تجلسا في الصالة في شبه ظلام، قانعتين من النور — على
سبيل التوفير — بما يصدر من حجرة الأبناء.
١٧ وألِفت الأسرة كلها أن تبيت بلا عشاء، ثم هبَّت نسائم رخاء متمثِّلة في عرض
الجار فريد أفندي أن يدرِّس حسين وحسنين لابنه سالم التلميذ بالثالثة الابتدائية مقابل
مكافأة شهرية تعوِّض المصروف الشهري الذي أمسكته الأم عنهما. وأصبح أفراد الأسرة لا
يشبعون إلا في الأعياد «شأن المساكين الذين كانوا يقصدونهم فيمن يقصدون من أهل
الخير.»
١٨ فبعد أن كانت الأسرة تحتفل بالعيد بذبح خروف، وتوزيع بعض أجزائه على
الفقراء كالكناس وصبي الفران وغيرهما، فإنها انتظرت صبيحة العيد الأول الذي قضته بلا
عائل، حتى أهداها فريد أفندي نصف خروف، صدقة أو شحاذة كما أسماها حسين، لكن الظروف
القاسية دفعت الأسرة إلى تجاهل كل الاعتبارات، وقبول الهدية، الصدقة.
١٩ وحملت العطلة الصيفية معها متاعب جديدة للأم تتعلق بغداء الشابين، فقد كانت
تكتفي وابنتها بأبسط الطعام، اتكالًا على أن الشابين يتناولان طعام غدائهما في المدرسة،
وأصبح عليها أن تعيد النظر في هذا النظام، وقلَّل ذلك من فرحة الأسرة بأن الشابين نجحا
بتفوق. ثم صار البيت خاليًا من كل ما يمكن الانتفاع بثمن بيعه، ومع توالي الأحداث
القاسية، فإن وعي الأم لم يستقر إلا على شيء واحد، هو أكبر أبنائها حسن: ماذا صنعت به
الأيام؟!
٢٠
•••
إذا كان هافر
C. Haffer يذهب إلى أن الأم هي أحسن
راعٍ لأطفالها؛ حيث إن «الصدمة الناتجة عن الانفصال عن الأم تُعتبَر أشد وأقسى من صدمة
الانفصال عن الأب»
٢١ فالمؤكد أن الأم — في «بداية ونهاية» — كانت هي محور البيت، أو «قلعة الأسرة» كما وصف
شتاينبك الأسرة في «عناقيد الغضب». كان حزمها وشدتها بديلَين لرخاوة الأب
وتدليله، وبتعبيرٍ آخر، فقد كانت تقوم بدور الأب بالنسبة لأبنائها في الوقت الذي كان
زوجها يقوم فيه بدور الأم، إن لم يكن الجانب السلبي في حنان الأمهات وضعفهن. وكان حسن
ثمرة لتربية الأب، بينما كان حسين وحسنين ثمرة حزم الأم وتشددها.
٢٢ وكما يقول الفنان، فإن الشعور برابطة الأسرة كان قويًّا في آل كامل «بفضل
الأم قبل كل شيء.»
٢٣ ويقول المَثل الشعبي إن «الأم تعشش، والأب يطفِّش.» وهو ما طرحته الرواية.
كانت الأم تحرص أن تقنِّع وجهها بجهامة وصرامة، أن تظهر أمام أبنائها بمظهر الرجولة.
٢٤ رغم ما يعتورها من رغبة كظيمة في ألَّا تكف عن البكاء.
٢٥ يقول حسين: «يا لها من امرأة عظيمة، شاء الله أن يبتلي أسرتنا بمصيبة
قاصمة، ولكن سبق لطفه، فقدَّر أن تكون هذه المرأة أمنا. ماذا يكون مصيرنا لولاها؟ كيف
غذَّتنا وكستْنا؟ كيف سيطرت على توجيهنا؟ كيف نهضت بضرورات أسرتنا في هذه الظروف
القاسية؟ يا لها من معجزة تحير العقول.»
٢٦
وطبيعي أنه لو كانت أمينة «بين القصرين» هي الأم التي فقدت عائلها في «بداية ونهاية»،
لاختلفت الصورة، واختلف المصير تمامًا. فالأبناء لن يصلحوا أن يكونوا بديلًا عن «السيد»
الذي رحل، أما الأم في «بداية ونهاية»، وقد تعمَّد الفنان إغفال اسمها تأكيدًا لوجودها
المعنوي، فإنها تذكِّرنا بالمرأة في مسرحيات إبسن، تلك التي تمسك دائمًا بزمام الأمور،
وتبدو أقدر على السيطرة عليها من الرجل، وهي دائمًا الجهة التي تتخذ القرار في اللحظة
الحاسمة، وترسم الخطط المدروسة، أو المفاجئة، للوصول إلى ما تريد. لقد أظهرت «رجولة»
في
مواجهة الموقف — وإن كان السؤال يطرح نفسه: ألم تحفظ أمينة — في صمتها واستسلامها — بيت
أحمد عبد الجواد؟ — ولجأت إلى بعض الحلول السريعة التي تضع الأسرة في إطار حياتها
الجديدة، مثل السكنى في البدروم بدلًا من الأدوار العليا، ومنع المصروف، وامتناع حسين
عن مواصلة تعليمه ليلتحق بوظيفة متواضعة، والموافقة على اشتغال نفيسة رغم المعارضة
الشديدة التي قابل بها الأبناء هذه الخطوة. وبلغت مواجهتها للأزمة حين وافقت على مغادرة
أكبر أبنائها للبيت — ولأكبر الأبناء مكانته الممتازة في الأسرة المصرية — حتى يعول
نفسه.
•••
من الخطأ القول إن محجوب عبد الدايم بُعِث في «بداية ونهاية» باسم جديد هو حسن.
٢٧ ربما كان حسنين — بتطلعه الانتهازي — أقرب إلى محجوب برغم حرصه على بقاء
واجهة حياته نظيفة. ولكن: ألا يدين ببدلة الضابط — على حد تعبير شقيقه حسن — «لهذه المومس
والمخدرات؟!» أما حسن، فإن ضياعه الذي ألجأه إلى احتراف القوادة وتجارة المخدرات لم
يشغله عن مصير أسرته، وكان يزورها ومعه هدايا. وعندما حاصرته الظروف تمامًا، فضَّل أن
يهجرها حتى لا تواجِه أسرته الفضيحة بسببه، بينما أسقط محجوب أبوَيه من حياته تمامًا
فور
توليه الوظيفة الجديدة كمدير لمكتب الوزير وزوج لعشيقته. حسن يقول: «ليست أمي وحدها هي
التي تكابد من حياتها المرَّ في سبيل العيش.» ويقول لنفسه مواسيًا: «لم أسمع عن إنسان
مات
جوعًا.» وهو ما يشي باتكالية في طبعه، لا يشغلها المستقبل، بصرف النظر عن قساوة
الظروف.
كان حسن هو مشكلة الأسرة حتى من قبل وفاة الأب. وجد نفسه — بعد وفاة والده — يواجه
مسئولية الحياة وتبعاتها، دون أن يكون له سند من علم أو حرفة، وأدرك خطورة الحال. لم
يكن حسن يرغب إلا في مجرد العيش، مجرد الحفاظ على حياته واستمرارها، دون أن تشغله أي
تطلعات أو أحقاد طبقية.
ولعل تدليل الأب — في الحقيقة — هو بداية المشكلة، فقد حرص على تدليله باعتباره أول
من
أيقظ أبوَّته، ثم تأخر في إلحاقه بالمدرسة، فلم يتحمَّل الصبي الصدمة بين فارق التدليل
في
البيت والمعاملة الجادة في المدرسة، وتكرر هروبه، وتكرر بالتالي رسوبه، حتى توقف عن
الدراسة قبل أن يجاوز السنة الثالثة. ثم أسهم الأب — من حيث أراد تقويمه — في إفساده،
فقد
غيَّر من معاملته له، وبدأ في طرده من البيت، مما أتاح للصبي الفرصة كي يتعرَّف إلى دنيا
جديدة فاسدة؛ أصبح ابن الشارع بالفعل، كما كان يدعوه أبوه أحيانًا. فهو لم يتأثر بتربية
ما مهما تكن ضئيلة أو متواضعة، وأعلن رفضه للعقيدة، بل وسخر منها.
٢٨ وألحقه أبوه بمهن بسيطة فشل فيها جميعًا، ثم بدأ الشاب — وقد كبر — يفرض نفسه
على البيت،
٢٩ فهو لا يأبه بسخط الأب ولا تهديداته، صار — كما وصفه الفنان — ابن الشارع، لم
يتأثر بأي نوع من التربية أو التهذيب.
٣٠ ثم غيَّرت وفاة الأب المفاجئة من كل شيء؛ أدرك حسن — بدرجة موازية تقريبًا
لإدراك الأم — ماذا يعنيه رحيل الأب. كان الرجل يصرخ في وجهه، ويهدده بعدم الإنفاق عليه،
ويطالبه بأن يجد لنفسه عملًا، لكنه — في نهاية الأمر — كان يئويه.
٣١
مشكلة حسن أنه لم يحتمل أن يبدأ من جديد صانعًا بسيطًا، أو عاملًا، أو صبيًّا في
متجر. أراد أن يبدأ من «فوق» ليتحقق له المركز المرموق بين رفاق يجمعهم الخوف
والرهبة.
٣٢ لقد واجه مسئولية الحياة وتبعاتها دون أن يكون له سند من علم أو حرفة،
وأدرك خطورة الحال، خاصة وأن أمه وشقيقته لا عائل لهم. كان يشفق على أسرته، وكان العطف
على الأسرة هو الشعور الوحيد، الشريف، الذي يخفق في قلبه، لكنه لم يكن يملك شيئًا، ومن
ثَم فقد اختار أهون الحلول، وهو أن ينقذهم من شر إعالتهم له. لاذ بحياة الشارع، فاشتغل
سنِّيدًا في تخت المطرب الفاشل علي صبري، وألقت به الأيام في ظروف قاسية. أصبح حاميًا
للقهوة التي يعمل فيها تخت علي صبري، يدافع عنها ضد المغيرين من الفتوات، ثم إذا به
مهرب حشيش خطر في طريق السويس، واتخذ لنفسه عشيقة، وزجَّ بنفسه — أو هو اضطر لذلك — في
متاهات المغامرة، بعد أن أُغلقَت في وجهه سُبُل الحياة الشريفة، حتى قال لعلي صبري يومًا
«إني أعيش في هذه الدنيا على افتراض أنه لا يوجد بها أخلاق ولا رب ولا بوليس!»
٣٣ صارحه علي صبري، لما طلب منه أن يعمل معه سنِّيدًا في الفرقة التي كانت
تحيي ليالي مقهاه بدرب طياب، أن ذلك العمل هو ثانوي بالقياس إلى ما يُنتظَر منه.
– وماذا يُنتظر مني؟
– إنك أدرى الناس بهذه الأحياء … ففي كل متر مربع بلطجي أو برمجي أو سكير عربيد،
فمن
لهؤلاء؟ أنت! وهناك المخدرات وتجارتها … فن هائل يتطلب مهارة وقوة وجرأة، فمن لها؟ أنت!
٣٤ وصارح حسن نفسه بأن «هذه هي الحياة حقًّا، حياة تدب تحت مهاوي النبابيت
ومساقط الكراسي، وفي دهاليز الغرز، حيث السماء ذهب، والأرض أشواك، والطريق مسارب شتى،
يفضي بعضها إلى اللذة والعزة، وبعضها إلى السجن والموت، فها هنا وطنه ومُراحه، وما هو
بالغريب في هذا الدرب المتعرج المتلاطم الشرفات.»
٣٥
دخل حسن معركته الأولى ضد الفتوة محروس الزنجي، وكان يدرك أن مستقبله — وربما مستقبل
أسرته — يتوقف على نتيجة هذه المعركة. ودارت المعركة عنيفة، قاسية، ضارية، أنهاها حسن
لصالحه بضربة رأس فغاب الزنجي عن الوجود، وأطلق عليه سكان الدرب اسم «الروس»، واختارته
المعلمة زينب الخنفاء رفيقًا لها، تقديرًا لفتوته، فهو يذكِّرنا بكابتن فريق الكرة الذي
«لضم» مع إحداهن، وفضَّلها على الدراسة، بعد أن وجد أنها أربح وأمتع!
٣٦ وتحددت مهنة حسن — كما وصف نفسه لأخيه حسنين — في أنه فتوة قهوة بدرب طياب،
وعشيق مومس، وبائع مخدرات. والواقع أن حسن المطرب كان واجهة لحسن البلطجي، فهو لم يكن
ذا صوت على الإطلاق، لكنه كان يفرض نفسه على أصحاب الأفراح، مثلما فعل مع عم جابر
سليمان: «أحب أن أذكِّرك بالفوائد التي تقترن بإحيائي ليلة الفرح، وأهم هذه الفوائد في
نظري أن شخصًا مهما بلغ من القوة والشر، لن تحدِّثه نفسه بالاعتداء على الحفلة كما يحدث
كثيرًا.
– لا تخلو ليلة من حفلة فرح تمر بأمن وسلام.
– يوجد كثيرون لا هَمَّ لهم إلا الشر والاعتداء، وهم يتصيَّدون الأفراح عادة للنهب
والاعتداء.
– كان هذا في الزمن الغابر، أما الآن فلعلهم يخافون الشرطة.
– إنهم لا يحسبون للشرطة حسابًا، وينتهون من عدوانهم عادة قبل حضور الشرطة. وما أيسر
عملهم الذي يتوجه بادئ الأمر إلى تحطيم المصابيح، فإذا انقلب الفرح ظلامًا، وركب الخوف
النفوس، أتمَّ المدعوون عملهم وهم يتخبطون في الظلام لا يدرون أين تقع أرجلهم، فتنهار
الزينات، وتنقلب المقاعد، ويندلق الطعام، وتُسرَق الملابس، ويصاب أهل العروسين بجروح
خطيرة.»
٣٧ وذات ليلة، صاح فيه رجل يتمرغ من السكر: والله لو لم تكن فتوة لقلت لك
اسكت!
٣٨ ولعل حسن هو البلطجي في قصة «العالم الآخر» لمحفوظ، يقول: إني أكره العالم
الذي جئت منه، هجرته بلا أسفٍ عليه، وإذا ذكرته فإنما أذكر عنف أبي وغباءه، وسجن المدرسة
الرهيب، وهراوات الشرطة، وما إن اهتديت إلى هذا المكان حتى أدركت أنني ولجت أبواب
الجنة.
– الجنة … أي جنة؟!
– هنا يتقرر مصيرك بقوة رأسك، ويتحدد مركزك المالي بجرأتك، وتتقرر سعادتك بطاقة
حيويتك، لا زيف على الإطلاق. اعتبرني الآن رئيس وزراء يعترض طريقه رجل خطير، فإذا تغلبت
عليه يومًا، تُوجت ملكًا.
٣٩ وعلى الرغم من أن حسن قد أسلم نفسه تمامًا لحياة البطالة والشر، فإنه حرص —
مدفوعًا بذلك الحب العميق الذي يحمله لأسرته — على أن يقوم بزيارات مفاجئة، ومعه زاد
يخفف
به عنها قسوة العيش. كما أعطى أخاه حسين أساور عشيقته ليبدأ حياته العملية بعد حصوله
على شهادة البكالوريا، ودفع لحسنين كل ما كان معه لتسديد أقساط الكلية الحربية. وقد
استطاع حسن أن يفيد من حياته الجديدة، الملوثة، في مساعدة أسرته على الحياة، ومساعدة
أخويه بالتحديد في صنع مستقبلهما.
٤٠ وعندما يقول حسنين لأخيه: ليس أحب إليَّ من أن تبدأ حياة جديدة شريفة، يضحك
حسن عاليًا، ويقول بسخرية: «بفضل حياتي غير الشريفة أمكنني أن أدفع عن أسرتنا غائلة
الجوع، وأن أزوِّد أخاك حسين بما كان في حاجة إليه كي يباشر عمله الحكومي، وأن أهيئ لك
قسط المصروفات الذي جعلك ضابطًا والحمد لله. ثم ما هي الحياة غير الشريفة؟ ليس ثمة إلا
حياة فحسب، وكلنا نسعى للرزق.»
٤١ كان رأي حسن في مجتمعه أنه ليس فيه أخلاق ولا دين ولا بوليس، واستندت كل
أفعاله إلى ذلك الرأي، فلم يقم حسابًا لوازعٍ ولا لشخص، واتجه ما بداخله من مشاعر طيبة
نحو أسرته وحدها، فهو يرعى أفرادها، ويبذل لهم الود والعون. لذلك جاء رأي علي الراعي
بأن حسن هو «الشريف الوحيد بين أفراد أسرته الملتحفين بشرفٍ ظاهري لا يجاوز السطح.»
٤٢
•••
على مستوى الرمز، فإن حسين هو صوت الشعب المصري الذي يكتم آلامه ويضحِّي، ترقبًا
ليومٍ
تتبدَّل فيه الأوضاع، ويتغيَّر كل شيء إلى أفضل. يصفه الفنان بأنه «أشبه الأبناء بأخلاق
أمه
في صبرها وعقلها وإخلاصها للأسرة.»
٤٣ وكان من بين قراءاته الكثيرة كتاب عن الاشتراكية لماكدونالد، تعلَّم منه أن
النظام الاشتراكي لا يتعارض مع الدين ولا الأسرة ولا الأخلاق، وصار من بين أحلامه مجتمع
خير من المجتمع الذي يعيش فيه.
٤٤ حتى مشكلة حسن، لم يعتبر أخاه مسئولًا عنها؛ اعتبر والده مسئولًا عن
المشكلة في الدرجة الأولى، مثلما كان الأب ضحية ضيق ذات اليد. وكان الحل الذي يهجر حسن
حياته من خلاله هو «أن نهيئ له رأس مال مناسبًا كي يبدأ حياة جديدة.»
٤٥ سُئل: هل سمعت عن شخص واحد بمصر مات جوعًا؟ فأجاب مبتسمًا: أصل شعبنا اعتاد
الجوع.
٤٦ وقال لنفسه: «إننا نأكل بعضنا بعضًا. ينبغي أن نُسَر بتهريج حسن وعبثه، ما دام
يجيئنا كل شهر بفخذ خروف، وينبغي أن نُسَر بأختنا الخياطة ما دامت تُعِد لنا لقمتنا الجافة.
وهذا الشاب المتذمر — حسنين — ينبغي أن يُسَر بانقطاعي عن التعليم ما دام سيتم تعليمه
هو.
يأكل بعضنا البعض، أي وحشية! أي حياة! لعلِّي لا أجد إلا عزاء واحدًا، وهو أن قوة أكبر
منا جميعًا تطحننا جميعًا، وتلتهمنا التهامًا، وأننا نصمد ونقاتل.»
٤٧ سأله حسنين يومًا: هل نعد أنفسنا شرفاء؟
قال بدهشة: ولم لا؟
قال: كنا في موقف دفاع عن النفس، والدفاع عن النفس قد يحل القتل!
٤٨ وقال لنفسه: «يا للعجب! إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة، ومع هذا يُقال عنا
إننا شعب راضٍ، هذا لَعمري منتهى البؤس، أجل غاية البؤس أن تكون بائسًا وراضيًا، هو الموت
نفسه. لولا الفقر لواصلت تعليمي، هل في ذلك من شك؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في
بلدنا هذا وراثية، لست حاقدًا، ولكني حزين، حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردًا
ولكنني أمة مظلومة.»
٤٩ وقال: كان حسن ضحية للمرحوم والدنا، وكان والدنا ضحية لضيق ذات
اليد.
٥٠ وعندما تذكَر الموقف القاسي الذي تعانيه أسرته، وحسن يعطيه أساور رفيقته
سناء ليفك بقيمتها أزمته، قال لنفسه: «إني أدرك الآن ماذا ساق أخي إلى هذا الوكر: أسرة
ضائعة، وحياة قاسية.»
٥١ بل إنه واجه حسنين يومًا: «إني أعجب، كيف تسخط على سلوك حسن وله من الأعذار
ما ليس لك؟!»
٥٢ ولما أحس بنبرة الغضب تتخلل سؤال حسنين عن حسن الذي تطارده الشرطة: أين
تظنه هرب؟ قال: من لي بأن أعلم. ثم بلهجة لا تخلو من تأنيب: تذكر أنه أخونا.
– بعد هذا كله؟
وحين قام رجال البوليس بتفتيش البيت بحثًا عن حسن الهارب، كانت الفضيحة هي الزلزال
الذي دمَّر أعماق حسنين. أما حسين فإنه «كعادته قرن آلام أسرته بآلام الناس.»
٥٤ وقال: «لو لم يكن الاحتلال لما تُركَت أسرتنا بعد موت أبي بلا معين.» ورفض أن
يكون الموت وحده هو المسئول عن المأساة التي واجهتها الأسرة، فإذا كان الله «مسئولًا
عن
موت والدنا، فليس مسئولًا بحالٍ عن قلة المعاش الذي تركه.»
٥٥ وحتى في لحظات مقارنته بين وضع أخيه الوظيفي ووضعه هو، فإنما كان يتأمل في
الحقيقة تلك الفوارق الطاغية التي تفصل بين الموظفين، والفوارق التي تفصل بين الناس
بعامة، لكنه كان أبعد ما يكون عن أي إحساس بالحسد أو المشاعر الشريرة. وعلى النقيض من
حسين الذي كان يؤثر إسكات طموحه ليحصل على السلامة والسعادة، فإن حسنين كان يؤثر الطموح
على السلامة والسعادة. كذلك فإنه في المقابل من اكتفاء حسنين بالإصرار على أن يهجر
شقيقه الأكبر حسن حياته في عطفة جندف، كان رأي حسين أن تغيير شقيقهما لحياته غاية في
الصعوبة ما لم يتهيأ له رأس مال مناسب يبدأ به حياة جديدة.
٥٦ وقد أفصح حسين — متأخرًا — عن حبه لبهية، ذلك الحب الذي قتله في اللحظة التي
أعلن فيها أخوه رغبته في التقدم لخطبة الفتاة. والحق أن حسين كامل علي يرمز للطبقة
الوسطى التي رضخت للأقدار، إلى حد القيام ببعض التنازلات. فهو قد أخفى حبه لبهية، ولم
يعلنه إلا بعد أن تخلى عنها حسنين، ثم امتنع عن مواصلة تعليمه، ليهب فرصة المواصلة
لحسنين، وليتيح لأسرته فرصة الحياة. إنه يذكِّرنا بأحمد عاكف (خان الخليلي) الذي تنازل
لأسرته ولشقيقه عن كل شيء، واكتفى بأن يمضغ الوهم في قناعة ورضا. بل إن حسين يكتم شوقه
لحياة زوجية هانئة تمثِّلها ابنة باشكاتب المدرسة التي حرص والدها على أن يُسكِنه في
غرفتين
بسطح منزله، ويحيطه برعايته وكرمه، لكنه ما لبث أن خنق كل أحلامه لما رأى أن زواجه
سيصرفه عن إعانة الأسرة، فأسرع بمغادرة البيت إلى فندق. حسنين كامل علي رمزٌ لتطلع بعض
أبناء الطبقة الوسطى، في حين أن حسين كامل علي وأحمد عاكف وغيرهما تعبير عن السحق الذي
رضي به معظم أفراد هذه الطبقة. يقول حسين في مرارة: «لولا الفقر لواصلت تعليمي، الجاه
والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية، لست حاقدًا، ولكني حزين … حزين على نفسي
وعلى الملايين، لست فردًا، ولكنني أمة مظلومة.»
٥٧ والواقع أن «حسين» لم يضح بمستقبله لمجرد إرضاء طموح أخيه الأصغر،
٥٨ فلم يكن التحاق حسنين بالكلية الحربية واردًا قبل إتمامه لمرحلة الدراسة
الثانوية، وكان اشتغال حسين بالكفاءة محتمًا لإنقاذ أسرته من الدمار الذي كان يحيق
بها.
ومع أن المجتمع كان شاغل حسين، إصلاحه، وتغيير الفاسد فيه؛
٥٩ فإنه لم يشارك في المظاهرات التي شهدتها مصر آنذاك،
٦٠ ولم تكن له تطلعات طبقية ولا حسِّية، ولا تطلعات من أي نوع «إني أحب بطبعي
الحياة المستقرة.»
٦١ وكان كل ما يتمناه لاستقرار حياته — واستمرارها — أن يتزوج فتاة طيبة، ومن
أصل طيب، وحين أذن لنفسه — للمرة الأولى — أن ينظر إلى بهية، بعد أن فسخ حسنين خطبته
لها،
قال في نفسه: «ما أجملها! كيف يعمى بعض الناس عن هذه المزايا المكتملة؟ إنها الوداعة
والفضيلة اللتان ترويان الحنان الظامئ إلى حياة البيت السعيد.»
٦٢ وبعكس حسنين، فإن حسين كان ينظر إلى الماضي بتعاطفٍ وحنين، وعقب عودته إلى
بيت الأسرة من طنطا، ملكه ارتياح مَن اهتدى إلى مأواه بعد أن تخبط ضالًّا لفترة طويلة،
وأحس بالسعادة لعودته إلى منبته الأول «حتى هواء عطفة نصر الله الفاسد، وجد له ميل ألفة
ورقة مودة، فكأنه الصحة والعافية.»
٦٣ كان حسين يلجأ إلى عقله دائمًا، بينما كان حسنين يلجأ إلى جسارته وفتوته
الزائدة. مع هذا، فلم يكن أحد الأخوين يستغني عن صاحبه.
إن حسين كامل علي تجسيد لشخصية الأخ الأكبر في الأعمال الإبداعية، فهو ينظر إلى زرقة
عيني بهية وصفائهما، ويقول في نفسه: «ما أجملهما، كيف يعمي بعض الناس عن هذه المزايا
المكتملة؟ إنها الوداعة والفضيلة اللتان ترويان الحنان الظامئ إلى حياة البيت السعيد.»
ثم يخنق الشاب أحلامه بيده، ولا يفصح عن هواه حين يرى رغبة شقيقه الأصغر في خطبة
المحبوبة، وهو ما فعله أحمد عاكف (خان الخليلي) عندما تخلَّى عن حبه لنوال — وهو حب كاد
يغيِّر حياته جميعًا — لما صارحه شقيقه الأصغر بأنه يحبها.
وظني أن موافقة أسرة بهية على خطبته لها، كانت بداية إحساسه بأنه مقبل في حياته —
لأول
مرة — على وقت حصاد. ولعله يمكن القول إن حسين — من بين إخوته — هو الذي لم يحصد سوءًا
في
أقل تقدير. اختفى حسن، وانتحر حسنين — ألم ينتحر؟! — ونفيسة، وأمضَّه الحزن — بالطبع
—
زمنًا، لكن الحياة لا بد أن تواصل سيرتها، ولا بد أنه قد تزوج بهية يومًا. فإذا لم تكن
الضربات المتوالية قد قضت على الأم، فمن المؤكد أنه قد رعى أيامها الأخيرة في بيته،
وسارت الحياة.
إن حسين — رغم سلبيته المعلَنة — تعبير شاحب عن البُعد النضالي، أو الثوري، في جيل
الثلاثينيات الذي يضم من الشخصيات الواقعية جمال عبد الناصر وعبد الحكم الجراحي ونور
الدين طراف ومحمد عبد المجيد مرسي وإسماعيل عبد الخالق. كما يضم من الشخصيات الروائية
علي طه وأحمد شوكت وعبد المنعم شوكت. إنه الجيل الذي ثار على تصريح هور، وأشعل مظاهرات
١٩٣٥م حتى تم توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وهو الجيل الذي قاد الحياة السياسية في مصر فيما
بعد.
إن التمرد هو طلب المنفعة الخاصة ضد منفعة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، أما
الثورة فهي محاولة تغيير النظام إلى ما هو أفضل في تقدير الثائر، التمرد ظاهرة سلبية
مرفوضة، أما الثورة فهي ظاهرة إيجابية، مشروعة.
•••
لقد أفادت الأسرة من اشتغال حسن وحسين ونفيسة، الأول بالبلطجة، والثاني بالتدريس،
والثالثة بالخياطة؛ خفَّفت مساعداتهم من الظروف المادية للأسرة. أما حسنين، فقد كان تخرج
ضابطًا في الجيش بداية مأساة جديدة في حياة الأسرة. تسلَّط على أفرادها غروره وأنانيته
ووصوليته؛ فسخ خطبته لبهية، وتنكَّر لأخيه حسن، ورفض اشتغال نفيسة بالخياطة، وأصر على
أن
تنتقل الأسرة من بيتها القديم إلى بيت جديد، لإرضاء مكانته الاجتماعية وليس لتحسين
أوضاعها، بل إنه لم يكتفِ بمحاولة تغيير الحاضر فحسب، وإنما حاول طمس صورة الماضي
أيضًا!
يقول كارلايل: «ليس ثمة فرد يُولَد بدون طموح لأمان دنيوية.» كما يذهب شيشرون إلى
أن
«أعظم وأشهر الرجال هم الذين يحفزهم الطموح.» لكن حسنين لم يكن طموحًا بالمعنى الدقيق
للكلمة، وإنما كان وصوليًّا، أو انتهازيًّا، وكان حسين يدرك أن شقيقه مشغول بنفسه عما
عداها.
٦٤ فهو — حسين — يحرص دائمًا على تحويل الخاص إلى عام، أما حسنين، فيحرص على
تحويل العام إلى خاص، وإن كانت أنانيته تتوارى خلف ما يظنُّه الصالح العام. كان أخشى
ما
يخشاه — لحظة تشييع الجنازة — أن تكون أقل مما يليق بمقام أبيه ومكانته، وراح يقلِّب
عينيه في المشيعين، ولم تهدأ نفسه إلا حين وقفت سيارة فارهة أمام السرادق، ونزل منها
أحمد بك يسري صديق والده، ليشارك في تشييع الجنازة.
٦٥ وعندما أبدى بعض المشيعين رغبتهم في اصطحاب الجثمان إلى مقره الأخير، طلب
حسنين من أخيه ألا يسمح لأحدٍ بالذهاب مهما كلَّفه ذلك، حتى لا تقع عين على القبر حفظًا
لكرامة الأسرة،
٦٦ وفي الوقت الذي كان فيه حسين يبكي ولسانه يتلو — بطريقة آلية — بعض السور
القصيرة استنزالًا للرحمة، كان حسنين يبكي في جوٍّ من الخوف والذهول والإنكار؛ وقف أمام
الموت محتجًّا ثائرًا، ووقف ضائعًا يائسًا أيضًا.
٦٧ وكانت تشغله آراء الآخرين إلى حد أنه غيَّر نظرته إلى بهية، وفسخ خطبته لها،
بعد أن وصفها زملاء الكلية الحربية بأنها «بلدي، ودقة قديمة.»
٦٨ وميل حسنين إلى الحياة المترفة، هو الذي أملى عليه كذبته الهائلة على
زملائه بأن أباه خلف عقارًا.
٦٩ من هنا جاء وصف الفنان للأخوين بأن حسين كان أعقلهما وحسنين أقواهما.
فالأول يقوم بمهمة الإرشاد والتوجيه فيما يعرض لهما من مشكلات، بينما يحمل الآخر عبء
الدفاع الأكبر فيما ينشأ من عراك بينهما وبين الآخرين.
٧٠ ورغم المأزق الذي واجهته الأسرة، فإن «حسنين» واجه اقتراح الأم بأن تعمل
نفيسة خيَّاطة بغضبٍ هائل، وصاح: «لن تكون أختي خياطة، كلا، ولن أكون أخًا لخياطة.»
٧١ وقد وجد حسنين في اعتزام الحكومة زيادة عدد الجيش فرصة للالتحاق بالكلية
الحربية.
٧٢ والحق أن بواعث دخول حسنين الكلية الحربية كانت ذاتية تمامًا؛ فالدراسة
فيها عامان فقط، ثم يتخرج ضابطًا، والنجاح مضمون لأن الدراسة فيها — كما كان يقدِّر —
أشبه
باللعب، والوظيفة في النهاية مؤكدة، بالإضافة إلى رغبة — لم يفلح في مقاومتها — بأن يرتدي
البذلة ذات الشريط الأحمر.
٧٣ كانت الكلية الحربية هي جسر وصوله إلى حياة تختلف عن الحياة التي يحياها.
وكما يقول الفنان، فقد طمح «إلى المدرسة الحربية مدفوعًا بنفسه الظمأى إلى السيادة
والقوة والمظهر الخلاب.»
٧٤ وطبيعي أن خوف حسنين من أن تنحصر حياته — مثل حياة حسين — فيما بين الدرجتين
الثامنة والسادسة، بلا أمل حقيقي، كان دليلًا على إدراك الشاب للتضحية التي بذلها شقيقه
عن طيب خاطر.
٧٥ مع ذلك، فعقب تخرجه في الكلية الحربية «بدت له عطفة نصر الله أشد كآبة من
عهدها، زكمت أنفه رائحتها التي يختلط بها التراب بالدخان بمواد شحمية كثيرة، فقطعها
برمًا خافي العينين.»
٧٦ ومنع نفيسة من احتراف الخياطة، وأعدَّت الأسرة نفسها لمغادرة عطفة نصر الله،
وتحددت في شقيقه الأكبر حسن مشكلته الأولى.
٧٧ وطالب حسنين أخاه بالعودة عن حياته، صارحه حسن في قسوة: «إنك يا حضرة الضابط
تريد أن تطمئن على نفسك لا عليَّ أنا.»
٧٨ أضاف في سخرية: «كنت قبل عام في حاجة جنونية إلى النقود، فلم تهتم بالنصح
والإرشاد، أما الآن، وقد أصبحت ضابطًا، فلا يهمك إلا الدفاع عن هذه النجمة
اللامعة.»
٧٩ وقال: «بفضل حياتي غير الشريفة أمكنني أن أدفع عن أسرتنا غائلة الجوع، وأن
أزود أخاك حسين بما كان في حاجة إليه كي يباشر عمله الحكومي، وأن أهيئ لك قسط المصروفات
الذي جعلك ضابطًا والحمد لله.»
٨٠ حتى الأم، على الرغم من أنه كان أحب أبنائها إليها، لم تكن ترجو من ورائه
خيرًا كثيرًا، وكان أقصى ما تأمله أن يؤجل زواجه بعد تخرجه عامين، تتمكَّن خلالهما من
إعادة ترتيب أوضاع الأسرة المنكوبة.
٨١ وبعد أن انتقلت الأسرة إلى شقة مصر الجديدة، تساءل في بساطة: هل تصلح أمه
وأخته لمخالطة الوسط الجديد الذي انتقلوا إليه؟
٨٢ فلما قدمت الأحداث بما لم يكن يتوقعه، نسي بُنوته وأُخوته، وتناسى أنه وضع
النجوم اللامعة على كتفيه رأس بلطجي وفخذا مومس، وقال لنفسه في غضب: أما من حياة غير
هذه الحياة، ومخلوقات غير هذه المخلوقات؟!
٨٣ لم يعُد يخشى حاضره فحسب، لكنه خاف ماضيه أيضًا: «ليتنا نستطيع أن نمحو
الماضي من صفحة الوجود، أخاف أن يعيِّرنا قوم بما كان.»
٨٤ وقال: «أود أن أسدل على الماضي ستارًا كثيفًا.»
٨٥ حتى قبر والده المكشوف، شغله، وتخوَّف من أن يسيء إلى مكانته كضابط، بات يتمنى
ماضيًا جديدًا، وبيتًا جديدًا، وقبرًا جديدًا، وأهلًا جددًا، ومالًا موفورًا، وحياة وضاءة
لامعة.
٨٦ إن حسنين هو حسين كرشة (زقاق المدق) مع اختلاف الظروف. سعى حسين إلى تغيير
واقعه بالهجرة إلى منطقة القناة، والعمل في معسكرات الإنجليز. وشيئًا فشيئًا بدأ يثور
على الزقاق وأهله: «هذا الزقاق لا يحوي إلا موتًا، وما دمت فيه فلن تحتاج يومًا للدفن،
عليك رحمة الله.» وكانت المظهرية التي تحكم تصرفات حسنين هي المظهرية نفسها التي كانت
باعث سعيِ حسين الدءوب لتغيير واقعه، فهو لم يكن يعنيه — مثلًا — شذوذ أبيه كمرضٍ أخلاقي،
بقدر «ما يثيره حولهم من فضيحة وجرسة.»
•••
حين التقى حسين وحسنين ببهية للمرة الأولى، غضَّ حسين بصره في وقاره المعهود، في
حين
رماها حسنين بنظرة وقحة، فخفضت عينيها في حياء.
٨٧ ولم يكن شعور حسنين إزاء بهية — منذ البداية — حبًّا؛ فعندما التقى بها للمرة
الأولى، صارح نفسه بأنه في حاجة إليها كي «نذهب إلى السينما معًا، ونلعب معًا، ونتحدث
كثيرًا، وما من بأس في أن أقبِّلها وأعانقها.»
٨٨ ثم كان تخرُّج حسنين في الكلية الحربية — كما أشرنا — بداية حياة جديدة، له،
ولأسرته … فهو — كضابط — لا يليق أن تكون شقيقته خيَّاطة، ولا أن يكون شقيقه الأكبر بلطجيًّا
وتاجر مخدرات، فضلًا عن عطفة نصر الله لم تعُد تليق بالبداية الجديدة. حتى بهية التي
شغف
بجسدها الممتلئ، أصبحت «دقة قديمة» — على حد تعبير صديق له شاهدها معه في السينما — ولم
تعد ملائمة للحياة العصرية التي يطمح لها. سخر صديقه من بهية، فأصبح لا يجد الشجاعة
للظهور معها مرة أخرى. وبعد أن كان يتحين الوسائل كي تصحبه في نزهة، أصبح يتحين الوسائل
للفرار منها؛ ساوى بينها وبين عطفة نصر الله وعطفة جندف، أصبحت جزءًا من الماضي الذي
تطلع للتخلص منه.
٨٩
والحق أن سعي حسنين إلى الزواج من ابنة يسري بك يذكِّرنا بعقدة أبطال الرواية
الإنجليزية عقب الحرب العالمية الثانية، وهي الزواج من مستويات اجتماعية أعلى، لتتحسَّن
من
ثَم أقدارهم الاجتماعية. لم يكن الجنون الذي يتحرك في دمه شهوة فحسب، بل لم يكن شهوة
على
الإطلاق، بل ولم يكن ركوب ابنة أحمد يسري — إن تحقق — عملًا جنسيًّا، لكنه «غزو كامل
وفتح
مظفَّر.»
٩٠ وكانت أمنيته أن يملك فيلا والد الفتاة، تسبق أمنيته بأن ينام فوق الفتاة
نفسها. يقول لنفسه: «ما أجمل أن أملك هذه الفيلا، وأنام فوق هذه الفتاة، ليست شهوة
فحسب، ولكنها قوة وعزة، فتاة مجد تتجرد من ثيابها، وترقد بين يدي في تسليم مسبلة
الجفون، كأن كل عضو من جسدها الساخن يهتف بي قائلًا: سيدي … هذه هي الحياة … إذا ركبتها
ركبت طبقة بأسرها.»
٩١
زاد ألم حسنين حين علم من صديق له، على صلة بأسرة يسري بك أن سبب رفض الأسرة له هو
أخته الخياطة والسمعة السيئة لأخيه حسن، وتمنى من أعماقه أن يفرَّ حسن إلى بلد غريب،
فيختفي إلى الأبد!
٩٢
عالِم الاجتماع جنزبرج يرى أن قبول التزاوج هو العلامة المؤكدة التي تدل على أن
الزوجين ينتميان إلى طبقة واحدة. وكان رفض الفتاة لحسنين، رغم أنه كان قد أصبح ضابطًا،
دليلًا على أن أسرتها لم تجد فيه «فردًا» يصح انتماؤه إلى طبقتها.
•••
كان حسنين يردد لنفسه دائمًا أن ما ينشده هو الحياة «النظيفة» السعيدة.
٩٣ فماذا كانت تعني الحياة النظيفة لديه؟ يقول لحسين عن أحمد بك يسري: «خبِّرني كيف صار
البك غنيًّا؟
– لعله وجد نفسه غنيًّا.
– يجب أن نكون جميعًا أغنياء.
– وإذا لم يكن هذا؟
– إذن نثور.»
وبالطبع، فإن الثورة التي تحدَّث عنها لم تكن تعبيرًا عن نظرة رافضة للنظام الاجتماعي،
بقدر كانت إلحاحًا في تأكيد الذات. وكان فسخه لخطبته من بهية، وتقدُّمه إلى أحمد بك يسري،
محاولة للمصالحة، أو لتحقيق الذات داخل تلك الطبقة، فبهية «فتاة طيبة، ولكنها ليست
أهلًا لأن تكون زوج ضابط مثلي.» أما ابنة أحمد يسري ﻓ «لم تكن فتاة بقدر ما كانت طبقة
وحياة.» كان يتفجر في أعماقه دومًا بركان من الطموح والسخط والتلهف على متع الحياة
النظيفة المحترمة، يذكِّيه تعرُّفه إلى ما قد ينعم به الآخرون مثل أحمد بك يسري. واللافت
أن أهم ما عني بسؤال نفيسة عنه — بعد أن ضُبطَت مع شاب في بيت دعارة بالسكاكيني: أكان
يعرفني؟
٩٤ وبعد أن استقر جسد نفيسة النحيل في قاع النيل، تبدَّت له الحقيقة: «أي حق
اتخذت لنفسي؟! أحقٌّ أني الثائر لشرف أسرتنا؟! إني شر الأسرة جميعًا. حقيقة يعرفها
الجميع. وإذا كانت الدنيا قبيحة، فنفسي أقبح ما فيها. ما وجدت في نفسي دومًا إلا تمنيات
الدمار لمن حولي، فكيف أبحتُ لنفسي أن أكون قاضيًا وأنا رأس المجرمين؟! لقد قُضي
عليَّ!»
٩٥ وأدرك حسنين — متأخرًا — أن لحظة الشجاعة الوحيدة في حياته هي تلك التي يقدِم
فيها على أن يغيب عن الوجود. وفي تقديري أن ذلك الموقف الختامي للرواية يناقض الرأي بأن
الفنان لم يناقش الميول الاستعراضية في شخصية حسنين، بدءًا بتطلعه إلى مشيعين كثيرين
لجنازة أبيه، ثم انتماء هؤلاء المشيعين إلى طبقة الوجهاء، وإحساسه بالخزي للمقبرة
المتواضعة، واستنكاره لاشتغال أخته بالخياطة، وحرصه على الزواج من كريمة أحمد بك يسري
… إلخ، لم يخفِ حسنين فرحه بحظه الذي يتيح له استكمال دراسته، ثم التوظف — فيما بعد —
والزواج أيضًا، واختار المدرسة الحربية «مدفوعًا بنفسه الظمأى إلى السيادة والقوة
والمظهر الخلاب.»
٩٦ أشفق على نفيسة وحسين أنهما يتصديان — وما زالا — للزوبعة في نبالة وتضحية،
لكن هذا لم يمنعه من «الفرح بحظه.»
٩٧ الرأي يذهب إلى أنه كان ينبغي على الفنان أن يناقش هذه النزعة في نفسية
حسنين، أو يجعل أحدًا من الأشخاص يناقشها بحيث يتبين ما فيها من خطأ.
٩٨ القيمة الأهم للعمل الإبداعي هي الأثر الذي يحدثه في وجدان المتلقي، وهو
الأثر الذي أتصور أنه قد تحقق في تناول الفنان لشخصية حسنين.
•••
كانت نفيسة أقرب — في طبيعتها — إلى حسنين؛ فهي تحرص — ربما بلا مناسبة — على تذكير
الناس
بأن ما تحياه أسرتها — بعد وفاة العائل — ظروف طارئة لم تكن تتهيأ لها. فعندما تسألها
العروس التي كانت تخيط لها ثيابها: لماذا ترتدين السواد؟ لا تكتفي بالجواب: تُوفي والدي
من شهرين، لكنها تضيف: وكان رحمه الله موظفًا في وزارة المعارف، ثم تضيف: «نحن من بنها،
وخالتي تقيم هنالك مع زوجها الذي يملك محلجًا للقطن.»
٩٩ فهي تلجأ إلى الكذب لتؤكد للعروس عراقة أصلها، وحين تعرض عليها العروس أن
تتقاضى بعض أجرها مقدمًا تقول بعجلة، ودون تنبُّه إلى ما يعنيه قولها: لا داعي مطلقًا!
١٠٠ والحق أن نفيسة لم تقبِل على عملها كخياطة إلا مضطرة، وحتى تساهم في سد
احتياجات أسرتها. لذلك فقد أضمرت لحسن — شقيقها الأكبر — مرَّ اللوم، لأنه «لو وجد لنفسه
عملًا، لما وجدت نفسها في الوضع الذي هي فيه.»
١٠١ وفي اللحظة التي رجت فيها الأم أن تدفع صاحبة البيت ثمنًا لما تخيِّطه نفيسة
من ثياب، أحسَّت أنها تهوي من علٍ، وأنها لم تعد فتاة محترمة، وتضاعف حزنها على
أبيها.
١٠٢ وكانت نفيسة هي التي صنعت حسنين «لذلك أحبَّته أكثر مما أحبَّت إخوتها، وقتلت
نفسها لإنقاذ سمعته ومستقبله»
١٠٣
كان أشد ما يُقلِق الأم مستقبل نفيسة. تقول: «أخوف ما أخاف أن أموت قبل أن أطمئن
عليها، أنتم رجال، أما هي فمن الولايا اللائي لا نصير لهن.»
١٠٤ ويقول الفنان: «أنا أعتقد أن نفيسة لو كانت من الطبقة الأرستقراطية، لما
كانت هناك مشكلات جنسية ولا انحرافات، ولما كانت هناك صراعات، ولم يكن هناك مبرر لقصة
أو رواية. فالأرستقراطية تحل مشكلاتها في هذا الميدان بالتحرر، والطبقات الشعبية تحل
مشكلاتها بالزواج المبكر؛ أما الطبقة الوسطى فلها من الظروف ما يؤدي إلى التعقيد الشديد
والمشكلات المختلفة في هذا الميدان.»
١٠٥ من هنا جاء وصف يوسف الشاروني للطبقة الوسطى بأنها «طبقة محافظة، تحرص على
أن تأخذ أكثر مما تعطي، تتطلع إلى أعلى، وتخشى أن تنحدر إلى أسفل، لا تحب المغامرة،
وتخشى الفضايح، وتتستر على ما يقع.»
•••
إذا كان وضع المرأة في المجتمع هو الذي جعل الأم في خوف دائم على ابنتها نفيسة، دونًا
عن بقية أبنائها: «أنتم رجال، أما هي فمن الولايا اللائي لا نصير لهن.»
١٠٦ فلعل سبب سقوط نفيسة لا يرجع إلى العوامل الأسرية وحدها، لكنه يعود — في
الدرجة الأولى — إلى شهوة الفتاة للجنس، إنها أشبه بألما سلوفا فتاة «البعث» لتولستوي،
تلك
التي كانت تعلم جيدًا أنها لو ذهبت لميعاد الضابط، فإنها ستفقد عذريتها، لكنها وجدت
نفسها — مسوقة بدافع الشهوة — لأن تذهب، ولأن ترتمي في أحضان الضابط الشاب بالرغم من
هتافها الخائف: كن أقوى مني! ولعلي أوافق صوفي عبد الله بأن نفيسة أقبلت مفتوحة العينين
«على مغامرة نظير أجر، وهي تُوهِم نفسها أنها تفعل ذلك لمجرد التوسعة على أسرتها، وهي
في
الواقع تتذرع بهذه الحجة لتستر موقفها أمام نفسها؛ لأنها إنما تلتمس منفسًا لطاقتها
المكبوتة، ورد اعتبار أنوثتها المهيضة الجناح لدمامتها، لكن الضرورة النفسية الجسدية
هنا، فعلت فعلها، واضطرت — تحت ضغط العرف والبيئة المحافظة — إلى التماس قناع تتنكر تحته
للوصول إلى هدفها.»
١٠٧
كانت الظروف الاقتصادية هي السبب المباشر في سقوط إحسان شحاتة (القاهرة الجديدة)
وحميدة (زقاق المدق)، أما نفيسة فقد كانت الضغوط الاقتصادية عاملًا في سقوطها، ثم
أقنعتها دمامتها، وعنوستها، وشبقها الجنسي، بالإضافة — طبعًا — إلى العامل الاقتصادي،
بأن
الأمر لا يعدو رضوخًا للحالة الاقتصادية. ومن يدري؟ ربما لو أن ظروفها اختلفت عما كانت
عليه في «بداية ونهاية» لكانت أقرب إلى بطلات إحسان عبد القدوس اللائي ينشدن الجنس لذاته،
أو لتزجية الفراغ، «تستطيع، نفيسة — إذا شاءت — أن تنتحل لسلوكها الأعذار، وأن تقول لنفسها
إني إنما ارتضيت تلك الحياة للحصول على النقود التي أقامت بها أود أسرتها في أكلح ساعات
حياتها، كانت تثق أن حال أسرتها لا ترحب بزواجها الآن.»
١٠٨ فضلًا عن ثقتها من أنها ستظل — بعد وفاة أبيها — عانسًا إلى الممات، وعلا
الهاجس في داخلها: «لا فائدة! لا فائدة! سوف أظل هكذا ما حييت.»
١٠٩ وقالت: «بلغتُ الثالثة والعشرين بعين الإشفاق والرجاء، وبموته — الأب — مات
الرجاء.» وقالت: «إني ميتة كأبي، وهو في باب النصر، وأنا في شبرا.»
١١٠ وقالت: «طالما انتظرت العريس، ولكنه لم يأت، ولن يأتي.»
١١١ وحين ظهر جابر سلمان ابن البقال في حياتها، حاولت أن تناقش الأمر باعتبارها
ابنة أسرة طيبة، أما سلمان فما هو إلا ابن بقال بسيط. لكنها ما لبثت أن وأدت النقاش
داخل نفسها «لا تقرري بنفسك، ولا تسمحي لكواذب الآمال أن تعبث بعقلك، ارتضي اليأس،
واقنعي منه بالراحة، وهي السلوى الوحيدة لفتاة مثلك، لا مال ولا جمال ولا أب
لها.»
١١٢ حتى عندما لمَّح سلمان جابر سلمان إلى أنه قد يتزوج — بأوامر أبيه — من فتاة
أخرى، فإنها رفضت أن تبدي تخوفها له من أن يتقدم لخطبتها أحد «فمن عسى أن يتقدم لي في
هذه الأيام التي لا يتزوج فيها أحد.»
١١٣ واختلط الحب في حياتها بالجنس، فبدا لها سلمان جابر — على دمامته وحقارته —
فتًى رائعًا لحرارة عاطفته وشدة انكبابه عليها، وكانت لهذا تحبه من أعماقها، بل باتت
مجنونة به.
١١٤ بل إن سلمان جابر بدأ في ابتزازها، وهي تعطيه، بعد ممانعة بينها وبين
نفسها: «بيد أنني أحبه وأريده، إني له جسدًا ونفسًا، ليس لي سواه.»
١١٥
•••
كانت نفيسة دميمة، أو كما وصفها الفنان «بعيدة عن الوسامة، وأدنى إلى
الدمامة.»
١١٦ وحين باعت الأم مرآة حجرة الوالدين، قالت لنفسها: «ينبغي أن تكون المرآة
آخر ما أحزن عليه؛ لن تعكس لي وجهًا أُسَرُّ به، الخفة أنفس من الجمال.»
١١٧ لكن الظروف أجادت حصارها، ودفعتها إلى السقوط، فضلًا عن أن «غريزتها
الأنثوية كانت هي الشيء الوحيد الذي سلِم من النقص والضعف، واستوى ناضجًا حارًّا، فلم
يخلُ
صدرها من عذاب سجين وقفت له تربيتها وكرامتها وأسرتها بالمرصاد.»
١١٨ وحين أعطت لجابر سلمان أول موعد، أكدت لنفسها أن «هذا بدء الحب الذي طالما
تلهفت عليه.»
١١٩ وانساقت إلى تشجيع جابر سلمان بدافعٍ من عواطفها المشبوبة المكبوتة، ويأسها
الخانق، والرغبة في الحياة التي لا تموت إلا بالموت.
١٢٠ وعلى حد تعبير الفنان، ﻓ «لم يكن بوسعها أن تنفر من إنسان أيًّا كان، إذا
أبدى نحوها ميلًا، لا يسعها إلا أن تحب من يحبها.»
١٢١ وعندما روى لها سلمان مشكلة إصرار أبيه على أن يزوِّجه من ابنة بقال مجاور،
أحسَّت بشبه راحة، فمن الواضح أن أسرتها لا ترحب بزواجها الآن لأسبابٍ مادية خالصة، وكان
الانتظار أفضل على أي حال.
١٢٢ وكان تزويج عم جابر لسلمان من ابنة بقال غني بشارع شبرا، مدخل السقوط
الحتمي لنفيسة؛ فقدت عذريتها ومستقبلها كفتاة وزوجة، ولم يكن ضربها لسلمان في الزقاق
المظلم الخالي سوى تعبير عن الضياع الذي ينتظرها. فإذا أضفنا إلى غريزتها الأنثوية التي
كانت مشبوبة جامحة، وأنها — على حد تعبير الفنان — كانت هي الشيء الوحيد الذي «سلِم من
النقص
والضعف، واستوى ناضجًا حارًّا.»
١٢٣ إذا أضفنا إلى تلك الغريزة إدراكها أن سلمان جابر قد أعاد إليها بعض الثقة
بنفسها، والطمأنينة والأمل، فسَّرنا تغاضيها عن الفارق الطبقي الذي كانت تلح على وجوده،
وكان يمنعها من أن تساعده في التقرب إليها، «ولم تعد تذكر أنه ابن بقال، وأنها ابنة
موظف، فاهتمامه بها أنزل من نفسها منزلة أثيرة، رفعته فوق مقام أفضل الناس في نظرها،
وانساقت إلى تشجيعه بدافع من عواطفها المشبوبة، المكبوتة، ويأسها الخانق، والرغبة في
الحياة التي لا تموت إلا بالموت.»
١٢٤ ولعله يمكن القول إن عالم الجنس الذي اقتحمته نفيسة لم يكن ذا صلة على
الإطلاق بظروفها المادية، أو رغبتها في مساعدة أسرتها، فقد صرفت النظر عن الزواج من
سلمان. مع ذلك، فإنها دفعت له أجور المواصلات إلى بيته؛ لأن إرواء ظمئها الجنسي كان هو
الهدف الذي أعماها عن كل شيء. ولما ناقشت نفسها، وأن الشلن الذي تهبه لسلمان أحق به أحد
أفراد أسرتها، تعالى من داخلها صوت «بيد أنني أحبه وأريده، إني له نفسًا وجسدًا، وليس
لي سواه، من أين لي هذه النفس التي تسيمني هذا كله؟!»
١٢٥ والحق أن سلمان كان أبعد ما يكون في تفكيره عن كل تلك العُقد والأفكار التي
تمور في داخل الفتاة، فهو — برغم غبائه البادي — لا يستطيع أن يعتبرها جميلة، لكنه كان
يجد فيها أنثى تنتسب لذلك الجنس المحبوب العزيز المنال، وكان يتصور أنه يستطيع أن ينال
منها شيئًا، أي شيء، بعيدًا عن سطوة أبيه المستبد، الذي لا يرحم.
١٢٦ ثم ساعدت دمامة نفيسة على تقبُّلها لفكرة التنازل عن جسدها، بصرف النظر عن
المقابل المادي، شغلها الجنس في ذاته، وإن اقترن — مصادفة — بالمقابل الذي ألِفت الحصول
عليه. ونتيجة لمعاناتها في رغبة جسدها الذي لم يهدأ يومًا، فإنها كرهت جسدها مثلما كرهت
الفقر.
١٢٧ ونحن نلحظ أن محمد الفل صاحب الجراج الذي كان أول من أقام علاقة مع نفيسة،
نظر إليها — من البداية — كمومس؛ فهو قد عرض عليها أن تستقل سيارته لتحملها إلى أي مكان
شاءت، فلما استسلمت، قدَّم لها مقابلًا عشرة قروش باعتبارها مومسًا!
١٢٨ بل إن الرجل — بعد أن نال ما أراده منها — لم يتكلف موعدًا آخر؛ اكتفى بمرة
واحدة، وانصرف.
١٢٩ ومن ناحيتها، فإن نفيسة «قدَّرت» في الرجل أنه لم يحاول خداعها كما فعل
سلمان، بدا مطلبه واضحًا وصريحًا، وبالإضافة إلى اليأس الذي سيطر على نفسها، فقد كانت
الرغبة المحمومة تشتعل في دمها.
ومع أنها لم تكن تذهب مع رجل إلا بعد أن تمهد لذلك بعلاقة من أي نوع، تعارف طويل
أو
قصير، وهو ما حدث — مثلًا — مع جابر سلمان ومحمد الفل، فإنها استسلمت — فيما بعد — لعابر
سبيل، مدفوعة بالطمع وحده، وبلا أدنى رغبة.
١٣٠ وعندما خصَّها الرجل الستيني بنظرته الغريبة، التي أصبحت تفهمها جيدًا،
تولَّتها دهشة، وتساءلت: حتى هذا؟ واقترب منها الرجل بالفعل، وهمس: اتبعيني إلى
سيارتي.
١٣١ وقد اعترفت نفيسة — بينها وبين نفسها — أنها لم تنغمس في تلك الحياة لمجرد
الحصول على نقود، تقيم بها أود أسرتها في أكلح ساعات حياتها، لكن كانت الرغبة المعذبة
تصرخ في أعماقها، وظلت تزداد رغبة وانحدارًا ويأسًا، ثم تمردًا واستسلامًا؛
١٣٢ لذلك فإني أوافق على أن نفيسة «التمست من البغاء رزقًا نفسيًّا قبل أن
تلتمس الرزق المادي.»
١٣٣ ثم اختلط المعنيان، حتى كانت النهاية الأليمة. وكما أشار الفنان، فقد عانت
نفيسة — بعد أن تخلَّى عنها سلمان — من شعورَين متناقضَين: رغبة في التمرد والجموح، ورغبة
في
الاستزادة من الظلم والتعذيب حتى الموت.
١٣٤ اختلفت نفيسة عن المرأة في قصة «البائنة» لشحاتة عبيد التي حُرمَت من المال
والجمال، وحين تأطَّر زواجها بالمستحيل، لم تر وسيلة إلا الاستسلام «إنها لا تود أن
تظل حياتها عذراء، أَوَ ليس لها قلب يحب كغيرها؟»
١٣٥ تزاوج الطمع والرغبة في نداءات تالية، وكانت تدرك — وهي تمارس البغاء — أن
قوة يائسة، مدمرة — في داخلها — تدفعها، فلا تستطيع رفضها. وقد طالما راجعت تصرفاتها،
وأزمعت — في أكثر من مرة — أن تئد رغباتها التي كانت تمضي بها إلى مصير لا تدري ما هو،
وإن كان مصيرًا بشعًا قاسيًا في كل الأحوال، لكنها ما تلبث أن تنسى كل شيء إلا الرغبة
والشهوة والدم والجنون، وتعانق اليأس من الحياة، وتفضِّل أن تقتل نفسها بنفسها، وتسير
بخطوات غائبة، لا تلتفت، إلى الدروب المظلمة.
١٣٦
والواقع أن نفيسة لم تمت منتحرة، لكنها ماتت مقتولة. كان إلقاؤها لنفسها في قاع النيل
بديلًا لما كان ينتويه حسنين، وربما أبشع منه. تحددت النهاية أمامها منذ تَسلَّمها حسنين
في قسم الشرطة، وكان إدراكها لتلك النهاية هو الدافع لأن تلقي نفسها بنفسها، يحرضها على
ذلك إشفاق، لم تستطع أن تتخلص منه حتى في لحظات حياتها الأخيرة، على شقيقها الذي أصم
أذنيه عن كل العواطف، ولم يشغله إلا أن يقتلها. وإذا كنت أختلف مع الرأي بأن نفيسة
قتلت نفسها، وإنما قتلتها — في ظني — قسوة أخيها حسنين، فإني أختلف معه أيضًا في أن
انحراف نفيسة عن طريق الشرف لتمارس الخطيئة كان ضمانًا للقمة العيش، ذلك لأن الرغبة
الجنسية الخالصة كانت هي الدافع الأول لأن تقدِم نفيسة على احتراف الخطيئة، وهو ما يتبدى
لنا في أكثر من موضع.
١٣٧
•••
ألم يكن من الممكن أن تجاوز الأسرة ظروفها، وتصل إلى يابسة الاستقرار، دون أن يضيع
حسن، وتسقط نفيسة وتقتل نفسها، وينتحر حسنين؟ وهل كان الاحتلال هو سبب مأساة الأسرة
— على حد تعبير حسين: «لو لم يكن الاحتلال لما تُركَت أسرتنا بعد موت أبي بلا معين.»
١٣٨
في تقديري أن «نرجسية» حسنين كانت هي المسئولة — إلى حد كبير — عما انتهى إليه حال
أسرته. إصراره على مواصلة دراسته ليصبح ضابطًا، جعل شقيقته تواصل عملها بالخياطة،
لتنحرف فيما بعد، وتجاهل حياة حسن ليعاونه في حياته هو، وحرص على أن تنتقل الأسرة إلى
مصر الجديدة مما زاد من أعبائها المالية.
النهاية تذكِّرنا بقول أوسكار وايلد إنه لكي تكون حياة ما جميلة، فمن الأوفق أن تنتهي
بلون من الإخفاق.
هوامش