الشوارع الخلفية
تبدأ أحداث رواية عبد الرحمن الشرقاوي «الشوارع الخلفية» في أكتوبر ١٩٣٥م. شخصيات
الرواية من الطلبة والمتعلمين وأبناء الطبقة الوسطى بعامة، والشخصية الرئيسة ضابط وطني.
وبالإضافة إلى الأزمات السياسية بين قوى الاستعمار والسراي والرجعية من ناحية، والقوى
الوطنية من ناحية ثانية، والمظاهرات الطلابية العمالية الصاخبة، فإن الجريدة التي كان
يقرؤها شكري عبد العال ذات صباح من أكتوبر ١٩٣٥م، تعطي صورة لأحوال العالم آنذاك. فحرب
الحبشة قائمة ومشتعلة، والجيش الإيطالي يتقدَّم، وعصبة الأمم لا تبذل أي جهد إيجابي لمنع
حملات الإبادة التي يعانيها أبناء الحبشة، واحتجاجات الفرنسيين والإنجليز واجهة تداري
ما
تفعله الدولتان في شعوب أخرى في آسيا وأفريقيا، والحرب الأهلية في الصين محتدمة،
والعملاق الياباني يتأهب لوثبة غير متوقعة، وثورة الشعب الفلسطيني تُخمَد بالقسوة والعنف.
١
أحداث الرواية تدور في شارع بالذات من شوارع القاهرة، هو شارع عزيز في حي بركة الفيل
بين السيدة زينب والحلمية الجديدة. وكان من المفروض أن يكون شارع عزيز حارة باسم
إبراهيم باشا الكبير، على اسم الدرب المجاور الذي يصل بين المكان ودرب الجماميز. وشاع
الاسم بين أبناء الشارع/الحارة فعلًا، وأبناء الشوارع المجاورة، لولا أن الزوجات
اشتكين وبكين أن انتهى بهن الأمر إلى السكنى في حارة. وحسم شكري عبد العال المشكلة بأن
أحضر لوحتَين من الصفيح الأزرق، عليهما اسم شارع عزيز، وعلَّق واحدة في أول الشارع،
والثانية في نهايته.
٢
يقول الفنان: «الحرب دائرة بين إيطاليا والحبشة، والقوات الإيطالية المعتدية تتقدم
في
جبال الحبشة والرأس كاسا يسلِّم لهم مفاتيح البلاد، ويعدهم برأس الإمبراطور. ولكن: هل
يدخل الجيش المصري ليساعد الحبشة؟ الجيرة لها حقوق، والمتطوعون المصريون يتقدمون
بالمئات لإنقاذ الحبشة، ولكن إذا دخل الجيش المصري هذه الحرب، فهو لا يفعل ذلك؛ لأن
حكومة وطنية فهمت هذه الضرورة، بل لأن حكومة إنجلترا هي التي تريد.»
٣«ما زالت الحرب تشتد في الحبشة، والطليان يتقدمون، وعصبة الأمم لا تفعل
شيئًا كافيًا لتمنع حملات الإبادة هناك، بلد بحالها تسقط في قبضة الاحتلال الأجنبي،
وموسوليني يهدد العالم ويصرخ في وجهه، إن كلمة السلام ترن كالعملة الزائفة، والإنجليز
والفرنسيون يشتمونه، ولكنهم يصنعون مثله في بلاد أخرى استقرت أقدامهم على أنفاسها … ماذا
أيضًا؟! الحرب الأهلية في الصين تشتد، واليابان تتربص على الأبواب! وفي فلسطين ثورة
كاملة، والجنود الإنجليز يقتلون الأطفال والنساء، ويحمون التجار اليهود والمغامرين
الذين جاءوا يغتصبون البساتين والحقول من أهلها العرب، وفي كل يوم يُقهَر عربي فلسطيني
على بيع جزء من أرض الوطن.»
٤
كان لتلك الحرب الدائرة بين إيطاليا والحبشة صداها المباشر في الحياة السياسية
المصرية، حتى إن اليوزباشي المتقاعد شكري عبد العال تصور — حين استُدعي إلى وزارة
الحربية — أن الدولة ستعلن التعبئة لمساعدة الحبشة ضد القوات الإيطالية المعتدية. وكان
الرجل متعاطفًا مع الحبشة مثل المئات من المصريين الذين تطوعوا لدرء الغزو الإيطالي،
لكنه كان يرجو أن يدخل الجيش المصري تلك الحرب، كضرورة لنجدة الأصدقاء، وليس لأن حكومة
إنجلترا هي التي تريد.
ومع أن كل شيء كان إنجليزيًّا لا يزال، العلم على الثكنات، والأسد فوق الكوبري،
٥ فقد سرت موجة لتشجيع كل ما هو مصري: «في تلك الأيام، كان عبد العزيز يأخذك
معه أحيانًا إلى سينما المصرية، ويشتري لك الحلوى من مطعم آمون المصري، تمامًا كما كان
يشتري لك البسبوسة من دكان في الناصرية عندما كنت تجيء إلى مصر مع أمك … ومنذ عامين فقط
شتمك عبد العزيز مرة؛ لأنك أردت أن تشاهد فيلمًا في سينما تريومف التي تملكها شركة
أجنبية. كان عبد العزيز أيامها يربط في عنقه شريطًا أخضر من صنع مصر، بدلًا من
الكرافتة، ويبرزه بزهوٍ واعتزاز … إلخ.»
٦
•••
نصح باشكاتب دائرة عزيز، أمين أفندي أن يبيع بيته الذي انتوت الدائرة مصادرته لصاحبة
بار فرنسية الجنسية تتمتع بالامتيازات الأجنبية، حتى ينجو البيت من نزع الملكية؛ لأن
المحاكم المختلطة هي التي تنظر في الموضوع، ومن ثَم فلن تجرؤ الدائرة على اتخاذ أي إجراء
فيه عدوان على ملكية هذه الفرنسية!
٧ وكانت المرأة تلجأ إلى الامتيازات الأجنبية في حل المشكلات التي يصادفها
المواطنون المصريون: تهريب ملكية منزل، قرض بربا ثم التنازل عن الفائدة، تهريب ملكية
أرض للخلاص من الحجز، أو أية إجراءات قانونية أخرى.
٨ وكان بعض الطلبة يعمل مع البوليس السياسي، جاسوسًا على زملائه، مثل ثروت
المغربي.
كانت عودة الدستور هي الحل لكل المشكلات التي يعانيها سكان شارع عزيز؛ فالدائرة أصرت
على نزع ملكية بيت أمين افندي؛ لأن البلاد بلا قانون، وعندما يعود الدستور لن يستطيع
أحد أن ينزع منه شيئًا يملكه.
٩ الحل العام هو السبيل أمام مشكلة أمين أفندي الخاصة. كان الرجل مهدَّدًا بنزع
ملكية بيته، ذلك لأن الدستور هو الذي يحكم علاقات الناس، فإذا عاد الدستور لن يستطيع
أحد أن ينزع من أمين أفندي — أو أي إنسان — شيئًا يملكه.
١٠ أصبح الدستور هدفًا يمكن — بتحقيقه — مراجعة كل الأوضاع الخاطئة، مثل تهويد
الدائرة بانتزاع ملكية بيت أمين أفندي. إن حكم الدستور يمنع أي أحد من أن يتعرض للرجل،
ولا أن ينتزع حقًّا من بين أيدي أصحابه.
١١«لا انتظار بعد، فموقفك — يقصد نسيم باشا — بالأمس وضَّح كل شيء، لن تستطيع أن تخدع أحدًا
بأنك تريد الدستور، نحن لن نفصل بين الدستور والاستقلال؛ الاستقلال والدستور مطلب واحد
يا نسيم باشا.»
١٢
•••
طاف الطلبة على بيوت الزعماء واحدًا واحدًا، يهتفون بالجبهة الوطنية لتحقيق الاستقلال
والدستور بلا شروط، ووعدهم الزعماء بأن يعلنوا تشكيل الجبهة، واتجهت المظاهرة إلى قصر
عابدين للمطالبة بتشكيل حكومة من الجبهة الوطنية، فاستقبلتهم قوات البوليس وقوات الجيش
بالرصاص، وكان سعد داود واحدًا من الذين صرعهم الرصاص.
١٣ وكما يقول الفنان فقد «بدأت مشاهِد ثورة ١٩١٩م تعود من جديد للظهور، مات عبد
الحكم الجراحي، بعد أن أرسل خِطابًا مكتوبًا بدمه إلى رئيس وزراء إنجلترا، وخرجت
الملايين المصرية في جنازات الشهداء. فيه عشرة طلبة بايتين في الكلية يحرسوا جثث
الشهداء، والبوليس فاكرهم ألف. الحكومة عاوزة تسلِّم جثث الشهداء لأهلهم يدفنوهم من غير
احتفال، لكن ده مستحيل.»
١٤ وشاركت كل الفئات والطوائف في المظاهرات الصامتة والصاخبة، ورغم إغلاق
الجامعة ومعظم المدارس، فقد حرصت الحركة على الاستمرار، ووزعت منشورات على أفراد الشعب
والتجار والعمال لإعلان الإضراب.
١٥
وبالطبع، فقد تسلل إلى المظاهرات عملاء للحكومة، سمَّاهم الفنان باسمين هما: شوكت
المغربي وعطا الله، الأول يطالب بأن تقتصر الهتافات على المناداة بالدستور، والثاني
يطالب بأن تكون الهتافات بالاستقلال وحده. ويكاد الطلبة ينقسمون حول الهتاف الذي ينادون
به، لولا أن ارتفعت أصوات سعد داود وشوقي خليفة وعبد الرافع، تحث الطلبة على أن يتنبهوا
إلى الخلافات التي يحاول العملاء بذرها بين صفوفهم.
١٦
كان لطه حسين تأثيره الواضح في شخصية سعد، حتى إنه كان يحاول التشبُّه به، ولم تكن
ثمة
كلمات تهزُّه، مثلما تهزه كلمات الرجل الذي وقف مرة في وجه صدقي وحكومته، وكتب «أديب»
و«الأيام» و«في الشعر الجاهلي».
مات سعد في ظروف أشبه بظروف مظاهرة السلام التي قُتِل فيها فهمي عبد الجواد، رصاصة
طائشة أردت فهمي صريعًا في مظاهرة السلام، ورصاصة أخرى قتلت سعدًا وهو بين مظاهرة
الطلبة التي قصدت القصر الملكي للمطالبة بتشكيل حكومة من الجبهة الوطنية. كل الفرق أن
فهمي مات برصاص الإنجليز، بينما قُتِل سعد بيد ضابط مصري، وقد مات فهمي في يوم مظاهرة
السلام، وفي يوم وفاة سعد، أُعلنَت الجبهة الوطنية.
•••
رفض شكري عبد العال أن يُطلِق الرصاص على المتظاهرين في أحداث ثورة ١٩١٩م، فعاقبه
الإنجليز بإنزال رتبته من صاغ إلى يوزباشي، ونقلوه إلى السودان. ثم تعمَّدوا تخطِّيه
في كل
الترقيات التالية، فظل — حتى بعد عودته من السودان في ١٩٢٥م — في رتبة اليوزباشي، ثم
واجه
الرجل طلبًا ثانيًا بأن يطلق الرصاص على المتظاهرين في ١٩٢٥م، فرفض.
١٧ ويصرخ الرجل بأعلى صوته: «افهموا يا ناس! أنا عمري ما ضربت مظاهرات، وعمري
ما حاضرب مظاهرات. أنا عمري ما قتلت مصري. هو يعني الواحد منكم لازم يموت له ابن في
مظاهرة علشان يفهم يعني إيه ما يضربش المظاهرات بالرصاص؟!»
١٨ وكان ابنه قد استُشهد في ربيع ١٩٢٥م، حين خرج مع مظاهرة المدرسة الخديوية،
ولم يكن جاوز الرابعة عشرة من عمره.
١٩ وكان الشعور بالارتياح هو رد الفعل الذي استقبل به شكري قرار إحالته
للاستيداع، ووضع القرار في إطار ذهبي، وعلَّقه في أبرز مكان من حجرة الصالون، بعد أن
أطلق عليه تسمية حرص على ترديدها في كل المناسبات: وسام البطولة والشرف! والمؤكد أن
الثأر للابن الشهيد، قبل أيام ستة من رفض شكري عبد العال أن يُطلِق الرصاص على
المتظاهرين، ثم ثورته على الضباط الإنجليز، وما تبعها من إحالته إلى الاستيداع … كان
ذلك كله عاملًا مباشرًا في إحساس شكري عبد العال بالارتياح، وبأنه قد فعل شيئًا من أجل
ابنه رشيد.
٢٠ ووهب الرجل — من يومها — معظم وقته لأبناء شارع عزيز، فهو يشعر دومًا أنه
مسئول عن كل الذين قدمِوا إلى الشارع من بعد، يحل مشكلاتهم، ويبذل العون والمساعدة، ويجد
في ذلك لذة حقيقية،
٢١ جرى وراء معاش الست سعاد، بعد وفاة زوجها، حتى حصل عليه من بين أنياب
البيروقراطية التي تفرض الإتاوات المادية والجسدية، وساعد أمين أفندي صاحب البيت
المقابل لبيته في مشكلته مع مصلحة التنظيم، وعني — في الدرجة الأولى — بالشباب، فهم —
في
رأيه — أمل الأمة في مستقبلها، فإذا لمح أحدهم يسير منحنيًا، أو يتكلم بصوت خفيض، صاح
فيه: «شد نفسك … وافتح صدرك … ارفع رأسك كده واتكلم برجولة … البلد عاوزة رءوسكم مرتفعة
وأصواتكم عالية.»
٢٢
والحق أنه لا يوجد في الوازع الشخصي الذي حرك مشاعر شكري عبد العال، بحيث امتنع عن
ضرب جنازة الشهداء، هذا الوازع المتمثِّل في أنه رأى ابنه الشهيد في وجوه الطلبة
المتظاهرين.
٢٣ لا يوجد في تصرف الرجل ما يتنافى مع المشاعر الوطنية في نفس الرجل، فهي
مشاعر إنسانية في الدرجة الأولى.
•••
ظل السؤال الزافر والملح الذي كان يطارد شكري عبد العال: «أمخطئ هو أم مصيب في قبول
العودة إلى الجيش؟!»
٢٤ كان ينشد الإجابة في ابنته، وفي تصرفات الناس من حوله، وكان يعاني شعورًا
هو أشبه بالتمزق!
ثم طرح شكري عبد العال كل المخاوف التي كانت تؤرقه في تساؤلاته لعبد العزيز، بعد
أن
اتهمه ناظر المدرسة الخديوية بأنه يدَّعي البطولة، وأنه كان يضرب الطلبة الوطنيين: «هل
أنا غلطت يا ابني لما قبلت الرجوع إلى الجيش؟ جاوبني بصراحة … بكل صراحة. سيبنا من كلام
الناظر! أنا عارف إنه بردعة من برادع الإنجليز، لكن هل أنا غلطت في رجوعي؟ أنا لم
أساوم، أنا لم أقبل أي شرط للرجوع، بل بالعكس أنا اشترطت أن يكون رجوعي غير مربوط
بالاستعداد لضرب أي مظاهرات يمكن أن تقوم.»
٢٥
لم ينسَ شكري عبد العال إحساسه الوطني، حتى وهو في طريقه إلى مغامرة جنسية. توقف
عند
منعطف شارع، ومشى خطوتين، ثم استدار وهو يبصق على الأرض، واتجه إلى شارع قائلًا: «بلاش
الشارع ده … ده فيه بيت نسيم باشا.»
٢٦
بعد المظاهرات … أحس بأنه يواجه — فجأة — عالمًا جديدًا لا يعرفه، لكنه عالم لا يتبيَّن
ملامحه بصعوبة بعد طول اغتراب.
٢٧
في ١٩٣٥م استُدعي شكري عبد العال مرة أخرى لمقاومة المظاهرات، واتجه إلى وزارة الحربية
ليتلقَّى الأوامر بمنع الاحتفال بتشييع جنازة الشهداء مهما يكن الثمن! وغادر مبنى
الوزارة، وكلمات زملائه ترن في سمعه: «اسكت بقى، وخليك تاكل عيش … دي أوامر السراي،
أوامر قصر الدوبارة. دي أوامر لاظوغلي، أسفنكس باشا القائد الإنجليزي بنفسه موجود على
رأس قوة بتحرس قصر عابدين، أولادك كبروا يا شكري، اعقل بقى، بلاش طيش زمان.»
٢٨ واقتربت العربة التي تنقل شكري وعددًا من الضباط من شارع قصر العيني، ووصلت
الهتافات إلى أذنيه: نموت وتحيا مصر … رفعت العلم يا عبد الحكم … الدستور والاستقلال
…
تحيا الجبهة الوطنية. ولاحت النعوش ملتفة بالأعلام الخضراء، وبالورود، وعليها صور
الشهداء «ودمعت عيناه وهو لا يشعر، ورنَّ في أذنه — فجأة — نحيب امرأته حين قُتِل ابنه
منذ
عشرة أعوام، وتخايلت أمامه صورة ابنه ووجهه الباسم، حين قبَّله في ذلك الصباح البعيد،
ليعود إليه بعد ذلك شهيدًا.»
٢٩
لقد استرد شكري نفسه، بعد أن دُعي — مرة أخرى — إلى مقاومة المظاهرات، واندفع في
الشارع،
فوجد أمامه سعد وشوقي، وحيَّاهما بسرعة. ربما كانوا في وزارة الحربية يدعونه إلى أن يقتل
واحدًا من هذين، أو ربما كانوا يريدون منه أن يذبح عبد الحي أو عبد العزيز أو عبد
اللطيف! المجانين! ماذا يحسبون؟! مرة أخرى يجب أن يتعرض للاستيداع والمصائب والمعاش
القليل، بعدما بدأت الدنيا تحلو … وتهافتت نفسه، ولكنه ظل يسير مشدود القامة … وطلع ونزل
في وزارة الحربية، ودخل مكاتب من لقيه من الرؤساء، وسمع كثيرًا … وخرج من وزارة الحربية
والكلمات التي سمعها ترن في أذنه: اسكت بقى وخليك تاكل عيش، دي أوامر السراي، أوامر قصر
الدوبارة، دي أوامر لاظوغلي … ووصلت الهتافات إلى أذنيه: نموت وتحيا مصر، رفعت العلم
يا
عبد الحكم، الدستور والاستقلال وتحيا الجبهة الوطنية … ولم يعُد شكري عبد العال يرى من
كل
ما أمامه شيئًا، ولم يعُد يسمع شيئًا، وهزَّه أحد الضباط قائلًا بخوف ولهفة: يا أفندم
احنا
سيبنا المظاهرة تمر على خلاف الأوامر؟! وأخذ شكري منديله فمسح به دموعه، ووقف الضابط
ينظر إليه مذهولًا وهو يرى بدنه يرتعد، كأنه يتهشم، ونداء الطلبة يرج الآفاق: نموت وتحيا
مصر! وعندما رفع شكري رأسه كان يبتسم وهو يقول للضابط: يا ابني، نموت وتحيا مصر!
٣٠
وأحيل شكري عبد العال إلى الاستيداع للمرة الثانية، ومجَّدت بعض الصحف موقفه، وعبَّرت
عن احتجاجها لموقف الحكومة من وطنية الرجل.
ومنذ بدأت سميرة تُعِد نفسها للزواج من كمال الصفطاوي، بدأ شكري عبد العال يسعى من
أجل
مستقبله، يسعى وراء الوعد بإعادته للخدمة في وظيفة بمصلحة الحدود «بعيدًا عن وجع
الدماغ.»
٣١ وهو يرجو ويتشفع لنفسه، يصنع هذا الشيء الذي لم يصنعه أبدًا، من أجل ابنته،
من أجل إلقاء الفرحة في قلبها.
٣٢ ثم قرر شكري عبد العال أن يبيع أرض بيته، بعد أن يرتفع ثمنها نتيجة لتوسيع
الشارع، ويشتري مكانها أرضًا في العباسية بجوار مصلحة الحدود التي سيعمل بها.
٣٣
والواقع أن البُعد السلبي في شخصية شكري عبد العال لا «يضيف إلى هذه الشخصية خطوطًا
زائدة تقلل من قدرها وتفسد مثاليتها.»
٣٤ ذلك لأن الشوارع الخلفية هي تلك الجوانب التي يصعب تبينها في مسار الحياة
العادية. وكان شكري عبد العال إنسانًا فيه كل خصائص البشر، والجانب الوطني فيه يقابله
حياة جافة يعانيها منذ وفاة زوجه الراحلة، التي رفض فكرة الزواج بعدها، حرصًا على
ذكراها، وعلى مشاعر ابنتيه. وكانت وطنية الرجل حقيقة من قبل أن يستشهد ابنه، فهو إذن
لم يضرب الطلبة لأنه كان يرى وجه ابنه الشهيد في كلٍّ منهم، وليس لأن وطنيَّته منعته
من
الإتيان بهذا العمل الشائن. حتى اشتهاؤه لأنيسة، زوجة العامل عبد المعبود، وهو الموقف
الذي أخذه الناقد على الفنان، تعبير عفوي وحقيقي عن النفس البشرية في لحظات ضعفها.
وكانت إيماءات المرأة للرجل عاملًا في إفاقته وإحساسه بالخجل من المشاعر التي كانت تمور
في داخله. إن البطل الإنساني يمارس حياته، بكل ما في الإنسان من أبعاد سلبية وإيجابية.
من هذه الزاوية ينبغي أن تتحدد نظرتنا إلى أحلام الرجل الشخصية وطموحه الذي ربما تحدد
في ترقية إلى رتبة أعلى. ومع أنه هو الذي رفض الترقية برفضه إطلاق الرصاص على
المتظاهرين، فإنه يخاطب نفسه قائلًا: «يا سلام عليك لما تبقى لواء يا شكري باشا عبد
العال … اللواء شكري.»
٣٥ وإذا كان شكري عبد العال قد حرص على ألا يلتفت إلى امرأة في الشارع منذ
وفاة زوجته، فإنه لم يستطع أن يكتم الجوع الجنسي الذي يتحرك في داخله، وكان التعبير عن
ذلك إحساسه بالخوف لما وجد نفسه — فجأة — في جلسة منفردة مع ميمي!
٣٦ كان للرجل حياته الخاصة، لكنه كان حريصًا على ألا تصل أسرار تلك الحياة إلى
شارع عزيز، فهو يعود من السهرات التي قد تطول أحيانًا، في صمت وهدوء، ويحرص أن يملأ فمه
بحبات النعناع؛ ليخفي رائحة الخمر، ويتعمد أن تكون الجدية سِمة ملامحه وتصرفاته.
ويفرض السؤال نفسه: هل يُعَد شكري عبد العال، حقيقة، «نموذج البطل الثوري في أدب
عبد
الرحمن الشرقاوي»؟
٣٧ فما هو تقييم الناقد إذن لشخصية عبد المعبود وعبد الحي، وعشرات غيرهم من
شخصيات الشرقاوي؟
•••
يقول الأسطى عبد المعبود: «إحنا بنشوف إن وجود صدقي في الجبهة الوطنية هو والناس
اللي
دوخونا، وكانوا طول عمرهم مع الإنجليز دا خطر كبير … يا ما عملوا جبهات، وبييجوا ساعة
الزنقة، ويعملوا عملة تهد كل اللي اتبنى وتأخر البلد!»
٣٨ ويسأل عطا الله الأسطى عبد المعبود: «أنت يا اسطى بتتكلم باسم مين؟ باسم
العمال بتوع الوفد، أو العمال بتوع عباس حليم؟» يجيبه عبد المعبود: «باسم العمال وبس
…
باسم العمال بتوع العمال يا حضرة لفندي.»
٣٩ بمعنى أن العمال كانوا يرفضون الوفد وعباس حليم في آن.
«… جهادنا كله تُوِّج بالنجاح، والإنسان منَّا نفسه طابت، والبلد تولَّاها رئيس حكومة
مصلح، ووفد المفاوضات اتألف.»
٤٠ وعاد عبد المعبود إلى مطبعته، وانزاحت الوزارة الإنجليزية، وجاءت الوزارة
الوطنية لتصلح الأحوال، وأنقذ بيت أمين أفندي من الهدم، وعُيِّنت رجاء صدقي في الفرقة
القومية، حتى شكري عبد العال أثيرت أقاويل إنه سيعود إلى الجيش في وظيفة كبيرة بمصلحة
الحدود.
٤١
ولكن بعد أن ظهرت انتصارات الثورة، اتضح أن كل شيء على ما هو عليه، وأن ما حدث ليس
سوى زيف. يرمز الفنان بذلك بالخبر المفاجئ في ختام الرواية، يحمله شوقي لعديلة هانم:
«كان فيه عمال الصبح بيهدُّوا بيت الدايرة اللي قدامكم … حضرتك شفتيهم؟ بيقولوا إن
الشارع كله حا ينهدَّ.»
٤٢ وصرخ أمين أفندي: «الله! هو ده الدستور!»
٤٣
الفساد إذن — مع تحفُّظنا على ما يشوب الرمز من جهارة! — قائم، ولإزالته فلا بد من
ثورة
أخرى.
•••
كانت الضغوط الاقتصادية هي الدافع الوحيد لأن يظل في منصبه، الضابط الشاب كمال
الصفطاوي، ذلك الذي كان يقاوم الإنجليز — وهو طالب — بمظاهرات صاخبة، ويخشى رسل باشا
حكمدار العاصمة، ويخدم الإنجليز … كان مسئولًا عن أمه وإخوته.
٤٤ ويقول كمال الصفطاوي لعبد العزيز: «الحالة حرجة جدًّا، والداخلية مقلوبة،
واحنا بنشتغل ليل نهار، خايفين جدًّا من ١٣ نوفمبر السنة دي. كل التقارير إن
الاستعدادات له في منتهى الخطورة. اسمع، أنا اتأخرت وخايف العساكر يلاحظوا حاجة. ما أنت
جايز تلاقي منهم واحد بيشتغل مخبر عليَّ! أنا كنت عاوز أسألك على تلميذ في الخديوية
اسمه «شوقي خليفة»، مش ده أخوك الصغير؟» يرد عبد العزيز بالإيجاب، فيحذره الصفطاوي من
تلامذة الخديوية الذين كانوا رهن الاعتقال، ومن سيفرج عنهم «دول اعترفوا وجابوا سيرته،
اعمل حسابك إنه هو مراقَب من امبارح، بس ما تقولش إني أنا اللي قلت لك! هاتها بأي
طريقة، وابقى خلينا نشوفك يا عم.»
٤٥ أقدَم الموظف محتشمي زايد (يوم قتل الزعيم) على تحريض بعض الطلبة على
الإضراب، ففُصِل من عمله بتلك التهمة، واضطر إلى الاشتغال بوظائف صغيرة حتى ينفق على
أسرته الكثيرة العدد — يوم قتل الزعيم، ٤٥ — ويضبط كمال الصفطاوي الضابط كمال شوقي
ورفاقه وهم يفرُّون من بيت عبد الرافع، لكنه يتابع سيره وهو يهز رأسه صائحًا في الجنود:
«مش هم دول، مش معقول يهربوا من هنا! حا يطلعوا إزاي من الباب الورَّاني ده، يظهر إنهم
لسة في الشقة ما لحقوش يهربوا، قدامي يا عسكري أنت وهوه على شقة عبد الرافع.»
٤٦
وفي المقابل من رضوخ كمال الصفطاوي للضغوط الاقتصادية، وافق المخبر عبد العال في
قصة
يوسف إدريس «الكنز» على خصم نصف راتبه، ونقله من المباحث، وإنذاره بالفصل، حتى يحتفظ
بالشيك المزوَّر، ولا يسلِّمه ضمن الأحراز، وكان يهرب — أحيانًا — من زحمة الناس، ويخلو
إلى نفسه، ويتمعَّن في صورة الشيك، ويتحسَّسه بأصابعه ويقرأ: «ادفعوا لحامل هذا مبلغ
مائة ألف جنيه مصري لا غير. كان راتب عبد العال عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله، وما
لم ينله من علاوات.» ويستمر يحدق في الشيك، حتى تهجع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه
بعناية، ويعيده إلى جيبه الخاص في المحفظة، ويتنهَّد كأنما قد انتهى من اعتراف أو
صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس وزحمتهم، يعود كما كان عسكريًّا طويلًا وأسمر، وعلى
ظهر يده اليمنى سمكة، فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
٤٧
•••
جمع عبد العزيز كثيرين من أهل شارع عزيز في بيت شكري عبد العال، وأخذ يحدِّثهم عن
مشروع
القرش، ودور القرش الذي سيدفعه كل مواطن في بناء الاقتصاد الوطني، ووضع شارة في عروة
الجاكتة، ومضى يجمع القروش من أهل الشارع، وتطوَّع الأسطى عبد المعبود للمشروع أيضًا،
وحتى عندما ذهب إلى البلد في إجازة العيد، مضى عبد العزيز يشرح المشروع لأبيه ولأمه،
ولرجال آخرين في القرية، وخطب في الناس بعد صلاة العيد، وأرسل أبوه الخفراء يجمعون
القرش ويوزعون الطوابع.
٤٨ وكان أحمد حسين — الداعي إلى المشروع — قد طرح السؤال: لماذا اخترنا الطرابيش
لتكون أول حجر في بناء استقلالنا الاقتصادي الذي يسعى لأجله مشروع القرش؟ هل كنا في ذلك
نطيع عاطفة فحسب، أم أن ذلك كان نتيجة تفكير وإمعانٍ؟
٤٩ وأجاب عن السؤال «إن الأمر لو كان وحي عاطفة، لكان ذلك سببًا للبدء به؛
فالعاطفة هي كل شيء في حياة الأمم، وما الاستقلال والمجد والعزة إلا مجموع عواطف الشعب
متخذة هذه الصور المادية، أَوَليس من العار أن شعبًا ناهضًا مجاهدًا يُصاغ له شعاره القومي
في الخارج، فلا بلاد لا تعرف الطربوش، ولا يلبسه أهلها. والله لو لم يكن هناك إلا هذه
الفكرة تحفزنا لإنشاء مصنع طرابيش لكفى بها مبررًا، فما بالكم وقد تضافرت الظروف
والحيثيات لتدفعنا في هذا التيار؟ سنجاهد أيها السادة، ونفتح المصنع إن وفقنا الله،
وسيوفقنا لأننا مخلصون، ثم نسلمه وديعة لكم، والكلمة يومئذٍ لكم أيها الشباب.»
٥٠
وبعد أن أصبح عبد العزيز طبيب امتياز، بدأ أهل قريته يترددون على المستشفى بصورة
لافتة: «مشغِّلين المستشفى لحساب أهل البلد.»
٥١ ويقول عبد العزيز: «كل يوم والتاني ينط لي واحد من أهل البلد يقول لي: حضرة
العمدة باعتني … أمال قبل ما اتخرج كانوا بيعملوا إيه؟ أبويا بس عمال يبعت.» فيقول عبد
الحي: «ما هم أهل الريف كلهم مرضى، وفي حاجة إلى رعاية طبية. يجب يا دكتور — بعد أن زالت
حكومة الأقلية — ونحن الآن في عهد حكومة الإصلاح، يجب، وأنت سيد العارفين، توفير العلاج
لكل مريض، والخبز لكل جائع، والعمل لكل عاطل.»
٥٢
•••
يقول عبد المغني سعيد إن حركة نوفمبر ١٩٣٥م اقتصرت على الطلاب والمثقفين،
٥٣ فماذا عن الأسطى عبد المعبود والخادم عبده؟
الإحساس بالجماعة هو الذي كان يملي على عبده أقواله وتصرفاته. فبعد أن أحيل شكري
عبد
العال إلى الاستيداع — للمرة الثانية — لأنه رفض أن يضرب مظاهرة الاحتفال بتشييع الشهداء،
غلبه الانفعال وهو يصفق في إعجاب وفخر: «بعد غلب عشر سنين في المعاش رجَّعونا … رجعنا
وقعدنا شهرين، ورفسناها برجلينا من عزم شهامتنا … يحيا الوطني الجريء شكري عبد العال!»
٥٤
إذن، ﻓ «نحن» الذين حدث بنا، ولنا، ما حدث. وعندما تسأله ميمي هانم عن صحة إشاعة
زواج
عبد العزيز من درية، يقول لها في حسم: «لا يا ستي لا! إحنا ما بنتجوزش دلوقت! وكمان
ما بنتجوزش من الشارع ده! هه، خللي اللي يقولوا يقولوا … لكن إحنا حناخد الشهادة ونغور
من هنا! حنروح نفتح عيادة على وش الدنيا! وآديني باقول لكم بعِلو حِسِّي أهه … ومستعد
أكتب الكلام ده في الجرانين كمان … والحاضر يِعلم الغايب، ما بنتجوزش من هنا … هه!»
٥٥
وعندما أحس عبده أن الجلسات التي يحضرها الطلبة الغرباء في شقة عبد الحي، إنما تستهدف
إعادة الدستور، أصبح يأتي متطوعًا ليعد لهم الشاي، ويحرس الطريق، ويدعو لهم
بالتوفيق.
٥٦ وكانت أسعد أيام عبده تلك التي كان يفرُّ فيها كالنحلة، يحمل المنشورات من
المطبعة إلى شقة عبد الرافع؛ كان مزهوًّا بأنه يؤدي عملًا وطنيًّا مهمًّا، وأنه يطوي
صدره على أسرار لا يسمح لمخلوق — أيًّا كان — بأن يعرفها!
٥٧
تحددت أمنيات عبده في أن يفتح عبد العزيز عيادة؛ ليعمل ممرضًا فيها، أو أن يعمل
ساعيًا في إدارة المجلة التي كان الأسطى عبد المعبود ينوي العمل فيها، أو أن يعينه
المهندس عبد اللطيف في هندسة الري.
٥٨
وقد كتم شكري عبد العال شعورًا بالضيق والنفور من أن يؤجر شقة في بيته لعامل، مع
ذلك،
فقد وافق على أن يسكن الأسطى عبد المعبود في الدور الأرضي، ثم تحوَّل شعور الضيق والنفور
إلى تعاطف ومشاركة لمَّا صارحه الرجل بأنه كان عاملًا في المطبعة الأميرية، ثم فُصِل
منها،
وحُبِس احتياطيًّا بعد أن شارك في مظاهرات ١٩٣٠م. وعندما خرج من السجن، افتتح مطبعة صغيرة
في درب الجماميز أطلق عليها «مطبعة الحرية والاستقلال». إذن، فالعامل البسيط وطني،
ومناضل، وقد فقد وظيفته ودخل السجن مقابلًا لتحديه للإنجليز. وشيئًا فشيئًا، أصبح الحب
هو الشعور الوحيد الذي يحمله شكري عبد العال لجاره الأسطى عبد المعبود «وأدرك أنه ظلمه
ذات يوم، وتعالى عليه بغير حقٍّ عندما هجس في ذهنه خاطر بأنه ليس من اللائق أن يؤجر له.»
٥٩
ويسأل عطا الله عبد المعبود: «أنت يا اسطى بتتكلم باسم مين؟ باسم العمال بتوع الوفد
أو العمال بتوع عباس حليم؟
أنتم مين؟
– باسم العمال وبس … باسم العمال بتوع العمال يا حضرة لفندي.»
٦٠
كان عبد المعبود يطبع المنشورات للحركة بنفسه، بعد أن يغلق باب المطبعة من الداخل.
تدعو لإسقاط وزارة نسيم باشا، وإعادة الدستور. وعندما يفرغ من طبع المنشورات، يكدِّسها،
الكومة إلى جوار الكومة، ويخبِّئها في بيته، ويرفض أن يتناول أجرًا عن كل هذا. حتى ثمن
الورق يرفض أن يأخذه، حتى إذا جاء اليوم الموعود، غمرت المنشورات القاهرة، والدنيا
كلها، دون أن يعلم أحد من أين جاءت، أصبح العامل عبد المعبود من أبطال ثورة ١٩٣٥م.
٦١
ولولا عبد المعبود، لأمسك البوليس بعبد الحي وعبد الرافع وعبد اللطيف. فقد قرر الرجل
أن يقتحم الخطر وحده لما هاجم البوليس مطبعته — ذات صباح — وكان في داخلها الشبان
الثلاثة، فاتجه الرجل إليهم قائلًا: «حل عنِّي بقى يا أفندي أنت وهوه … إيه هوه اللي
كل
شوية ينط لي واحد عايز يطبع كارت معايدة؟ المطبعة مش فاضية دلوقتي لطبع
الكروت.»
٦٢ وتصرَّف كمال الصفطاوي تصرفًا وطنيًّا مماثلًا، حين ترك الشبان الثلاثة
ينصرفون، واتجه إلى عبد المعبود يسأله عن المنشورات. ولما أراد عبد الرافع أن يعود
لإنقاذ الرجل همس له عبد المعبود: «يا أخي، إن لقوا المنشورات عندي وأنا صاحب المطبعة
…
حاروح ست أشهر من غير كلام! وجودكم مش نافعني، وكل اللي حايزيد على إنكم حا تتحبسوا
معايا … زوَّغوا أحسن، وكملوا أنتم، وشوفوا مين اللي فتن علينا.»
٦٣ وكان القبض على عبد المعبود تأكيدًا لتضامن العمال والطلبة.
وتقول زوجة الأسطى عبد المعبود، بعد أن أعادت — عقب اعتقاله وسجنه — فتح المطبعة،
وأشرفت على إدارتها: «ستنا خديجة مرات سيدنا النبي كانت بتاجر، الشغل للستات مش عيب
ما دام الوحدة مفتَّحة لنفسها.»
٦٤
•••
أما الست ميمي فقد تطوعت بأن تغسل ملابس عبد الحي.
٦٥ كما ساعدت ورجاء صدقي (الشوارع الخلفية) في إخفاء المنشورات، وفي توزيعها.
ويقول شوقي لسعد داود: «تعرف يا سعد؟ الحركة أثبتت إن فيه أبطال وطنيين ما نعرفهمش …
الشيخ حمزة اللي بيشتري الكتب المسروقة … وشكري بيه اللي كلنا كنا افتكرناه خسر خلاص،
أما الراجل ده بموقفه الأخير أصبح بطل وطني خالد، وحتى البنت رجاء اللي ظلمناها … وميمي
…
تصور؟! وشوف عبده متحمس إزاي؟»
٦٦
كما طبخت الست ميمي بنفسها طعام الطلبة الذين قضوا ليلتهم في مستشفى قصر العيني
لحراسة جثث الشهداء، حتى لا تسلِّم الحكومة الجثث إلى أهل الشهداء ليدفنوهم دون
احتفالات.
٦٧ ولم تعُد تكتفي بذلك، بل أصرَّت على أن تتولى حمل حقيبة الطعام إلى داخل
المستشفى، متظاهرة بأنها قريبة واحدة من الحكيمات فتفلت من الحصار الذي ضربه البوليس
حول المستشفى.
٦٨ وحين أخذ منها شكري الحقيبة قائلًا: «روحي أنت لجوزك وأولادك»، فإن عبد
اللطيف همس معترضًا: «لا لا يا شكري بيه، الترتيب كده، لازم واحدة ست هي اللي تخش
بالشنطة؛ لأن الحصار هناك قوي، ولا يمكن السماح لأي راجل بالدخول. المفروض إنها قريبة
واحدة من الحكيمات المقيمات في المستشفى. لا، لا يا شكري بيه، ميمي هي اللي ممكن تدخِّل
الأكل.»
٦٩ وعلى الرغم من إنكار ميمي لشخصية زوجها أمين، وأنها كانت تمارس تصرفاتها في
ضوء ما تملك من جسد جميل، وأنها قد وجدت في شخصية عبد اللطيف، وما تتسم به من وطنية،
ما
يتناقض مع شخصية أمين الذي لا تعنيه إلا مصلحته وحدها، فإنها — لما أوشك عبد اللطيف في
لحظة مؤثرة أن يحتضنها — همست في ألم: «حرام يا عبد اللطيف … حرام نعمل كدة في
أمين.»
٧٠ ولما أعلن زوجها شكَّه في علاقتها بعبد اللطيف، لم تثُر، ولم تقذفه
— كعادتها — بأي شيء؛ ليئد — كعادته — مقاومته في نفسه، بل راحت تقول وهي تبكي: «كدة
يا
أمين؟ إذا كنت عاوز تطلقني أنت حر؛ أنا والعيال لنا رب يرزقنا. لكن ورحمة بابا أنا
عمري ما غشيتك يا أمين، وعبد اللطيف ده اللي بتقول عليه، هو أشرف واحد دخل بيتنا، وعمر
ما حصل بيني وبينه حاجة تسيئك، أنا حاقول لك كل حاجة يا أمين، أخص عليك، كدة بعد العشرة
دي كلها؟!»
٧١ لقد واجهت ميمي اتهامًا في شرفها، من زوجها الذي لم تأذن لنظراته إليها أن
تتجاوز ذاتها إلى التفكير في خيانته، زلزلها الاتهام الجائر.
•••
من هو عبد الحي؟
يقول الضابط كمال الصفطاوي: «والله يا جماعة الحقيقة إن عبد الحي ده شاب كويس جدًّا،
رغم إنه انضرب واتعذب كتير في المحافظة، فهو لم يعترف باسم واحد من اللي نظموا الاجتماع،
ولا باسم اللي دعاه، حتى عنوان بيته رفض يقول عليه، وقال إنه ساكن في بيت الله، وربط
على كده!»
٧٢ كان عبد الحي يحلم بالتغيير الذي يغيِّر من طبيعة كل شيء، وكان يسعى مع
رفاقه إلى ذلك. ومن هنا جاءت قولته الوحيدة عندما حدَّثه شوقي عن تصرفات ناظر الخديوية:
«تتعدِّل، بكره الطقم ده كله يغور.»
٧٣ كان أحد عناصر الحركة التي تُعِد للإطاحة بحكومة نسيم وإعادة الدستور، المهم
عنده هو «الحصول على الدستور، وعندما يسود حكم الدستور فلن يستطيع أحد في دائرة البرنس
عزيز، ولا البرنس عزيز نفسه، أن يتعرض لبيت أمين أفندي، ولا أن ينتزع حقًّا من بين أيدي
أصحابه.»
٧٤ ويشير عبد الحي إلى الثورة المرتقبة في قوله لأمين أفندي الذي أفزعه إنذار
الدائرة بنزع ملكية بيته: اصبر ما صبرك إلا بالله، بكره تتعدِّل! ما يهمكش الدايرة ولا
غيرها، ولا حتى نسيم باشا رئيس الحكومة نفسه. ويقول: «إن ثورتنا هذه في سنة ١٩٣٥م يجب
ألا تقع فيما وقعت فيه ثورة ١٩١٩م، وهكذا سيذكر التاريخ أن الطلبة والعمال قادوا بحكمة
ثورة
١٩٣٥م.»
٧٥
تناسى عبد الحي انشغاله بالتلصص على سعاد هانم، ومحاولة خطب ودِّها، أعطى اهتمامه
لتوالي الأحداث، وتغيَّر أسلوب حياته تمامًا، فهو يتردد أكثر من المألوف على مطبعة عبد
المعبود في درب الجماميز، وهو يستقبل في بيته طلبة غرباء يقضون عنده ساعات طويلة قبل
أن
يغادروه في المساء المتأخر، وهو يبدو دائم الاشتغال بأشياء مهمة، وخطيرة.
٧٦
وقد انتهت ثورة ١٩٣٥م بالنجاح: عاد الدستور، وسقطت وزارة نسيم، وتألَّفت الجبهة الوطنية،
وأعيد المدرسون المنفيون من الصعيد، وأُفرج عن الطلبة الذين ألقي القبض عليهم، فيما عدا
عبد المعبود؛ ذلك لأنه «ليس العمال كالطلبة؛ إنهم يخافون من العمال، ويعاملونهم معاملة
خاصة، وبوحشية خاصة.»
٧٧ وأعلن أمين أفندي (الشوارع الخلفية) اطمئنانه إلى المستقبل بعد أن أُعلنت
عودة الدستور.
٧٨
هوامش