الموظف وتراب الميري

إذا كانت «الأرض» و«يوميات نائب في الأرياف» و«القاهرة الجديدة» و«الشوارع الخلفية» و«بداية ونهاية» وغيرها من الأعمال التي تعرض لفترة الثلاثينيات لم تضغط على دور الفن القيادي، بمعنى أن الفنان اكتفى بأن حدَّد أبعاد لوحته جيدًا، وعني تمامًا بكل الظلال والإيحاءات، ثم وضع ريشته مدركًا أن الشعور السلبي للقارئ سيُولِد شعورًا إيجابيًّا يقاضي الظلم والفساد، فإن رواية «زينات» لحسين عفيف، التي صدرت في الفترة نفسها تقريبًا، تُعَد معلمًا على طريق الأحداث التي شهدتها مصر بعد ذلك بعشرات الأعوام.

نحن لو أهملنا المصادفات التي لجأ إليها الفنان في روايته، مثل تحوُّل أول خريجي الجامعة إلى بائع يانصيب، وهروب زينات إلى مشغل تلتقي فيه بعفاف، والتضحية الغريبة التي يبذلها فتحي، ووفاة معظم أبطال القصة بطريقة فجَّة … لو أهملنا ذلك كله، فنحن أمام عمل هو أقرب إلى الوثيقة الفنية ضد وضع سياسي قائم. إن «زينات» صرخة احتجاج ضد البطالة والوساطة والمحسوبية، ثم تأكيد بحتمية القوانين التي أصدرتها ثورة يوليو بعد ذلك: تخفيض ساعات العمل، الضرائب التصاعدية، رفع الأجور … إلخ.

لقد نال مصطفى شهادته الجامعية بتفوق، وانتظر نتيجة التعيين في المنصب الوحيد الخالي بالمصلحة التي كان قدَّم طلبه إليها. فإذا بالذي يظفر به شخص آخر هو زميله عاكف الذي لم يستطع النجاح إلا في الملحق. وعرف مصطفى أن لدى الباشا ابنة دميمة حار كيف يزوِّجها، فجاءه أحد موظفيه بعاكف ليخطب ابنته، على أن تكون الوظيفة ثمنًا لزواجه. وإذا كان حسنين كامل علي في «بداية ونهاية» قد تخلى — ببساطة — عن بهية، بحجة أنها لا تلائم حياته الجديدة، فإن مصطفى — زينات — رفض أن يكون تخليه عن خطيبته عفاف، وزواجه من زينات ابنة الباشا، ثمنًا لحصوله على وظيفة، وأودى به ذلك الرفض إلى مصير مؤلم. قيل: إن بعض البنات أصبحن سلعًا تباع، والزواج بهن صار رشوة.

قال مصطفى: هذا فظيع! وأفظع منه أولئك الذين يتزوجون منهن دون رغبة، ويبذلون رجولتهم لقاء وظيفة، ماذا أغلى من الرجولة حتى نهدرها في مخادع النساء؟١ ولعل حرص الفنان على إبراز تناقضات المصالح الطبقية، يتمثَّل في ذلك الاقتراح الذي أشار به أحد أفراد شلة عاكف بك، عندما قال لرفاقه، تعليقًا على رؤية شحاذ يتسول في الطريق: لست أدري لماذا لا تجمعهم السلطة كما تجمع الكلاب، وتسمِّمهم أو تقتلهم رميًا بالرصاص؟ فاستدرك أحدهم: أصبت يا صديقي، ولكن: أليس الأبدع أن تكون إبادتهم بالفليت أسوة بالحشرات؟! ويأتي الرد من مصطفى الذي كان قد أهمل شهادة الليسانس، واحترف التسول، وهو عيب في بنية الرواية؛ لأن حامل الليسانس لا يمكن أن يتحول — مهما تبلغ قسوة الضغوط — إلى شحاذ يستجدي عابري السبيل. يرفع مصطفى عقيرته، ويقول في غضب: «يا لَلبغي! أتبرمون بفقرنا وقد احتملنا ثراءكم؟ أما كفاكم أن كتبتم علينا هذا المصير بيدكم الآثمة، حتى رحتم تعاقبوننا عليه؟ أعيدوا إلينا حقوقنا، ونحن لا نستجديها منكم، أنصفونا نرقَ في أعينكم، إنكم أنتم الذين خلقتم لأنفسكم هذا القذى في شخصنا، إنكم أنتم الذين جعلتم الإنسانية تغرق في هذا العار، إنكم أغبياء، مجرمون.»٢
ويدين الفنان الحكومة التي اقتصرت على طبقة واحدة، وهو الرأي الذي تبناه — فيما بعد — علي طه في «القاهرة الجديدة»: «الحكومة، أي الأغنياء والأسر، والحكومة أسرة واحدة. الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب. الوكلاء يختارون الموظفين من الأقارب، حتى الخدم يُختَارون من خدم البيوت الكبيرة؛ فالحكومة أسرة واحدة، أو طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي حقيقة بأن تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها.»٣
وإذا كان الفنان قد عني بمظاهر التفسخ الاجتماعي، فإنه جاوز ذلك إلى وضع الحلول التي يجد أنها ستقضي على كل التناقضات. وعلى الرغم من أنه جعل الباشا مبعث تلك الحلول، تحت ضغط ضميره الذي اعتبره مسئولًا عن نكبة زينات، فإن الفنان كان هو الذي يقف — بالطبع — وراء تلك الحلول. لقد جمع الباشا، قبل أن يقدِم على خطوة ما، عددًا من الأدباء والكُتاب للدفاع ضد تخرُّصات المغرضين الذين كانوا لا يكفون عن السعي بالوقيعة بينه وبين الشعب. ثم بدأ العمل «ولما كان هدفه الأول هو أن يفسح مجال العمل لكل راغب فيه، فقد كانت باكورة إصلاحاته أن زاد عدد وظائف الحكومة، بعد أن دبَّر المال اللازم لذلك مما اقتصده من المرتبات الكبيرة. كما حظر الجمع بين أكثر من طريقٍ واحدٍ للكسب، لئلَّا يكون تكدُّس الأرزاق في أيدي البعض سببًا في حرمان الآخرين.» ومن هنا جاء قوله: «كما أن على الفرد واجبًا هو أن تتقبَّل منه ذلك، ما دام الربح لا يُوزَّع إلا على من يعمل، وما دام الفرد بحاجة إليه ليعيش.» وقوله: «لو أن الفرد تُرك وشأنه ولم ينضم إلى جماعة، لأصاب الكفاف على الأقل بمحض جهده، ومن ثَم لا يمكن أن يكون قد تضامن معها لتشجيعه.» ثم كلمته المأثورة: «إن الناس ما تضامنوا إلا ليعيشوا، فيجب أن تكفل لهم العيش ليظلوا متضامنين.» وكلمته التي كانت فصل الخطاب: «إن من حق الجميع أن يعملوا تمهيدًا لأن يأكلوا.»٤
إن تلك الإصلاحات الروائية هي أقرب إلى التخطيط الذي حاول به الفنان أن يستشرف مستقبلًا أفضل. إنه يوتوبيا جديدة يضيفها الفنان إلى عشرات اليوتوبيات التي حاول بها المصلحون أن يضعوا حلولًا للمشكلات التي يعانيها المجتمع البشري، بل إنها تذكِّرنا بيوتوبيا الشاويش فرحات في قصة يوسف إدريس، ولعل الأصوب أن القصة هي التي تذكِّرنا بالرواية باعتبار أن الرواية سبقت القصة بنحو من ربع قرن. الشاويش فرحات في قصة إدريس يحلم بمجتمع متعلم، متقدم، تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والمساواة والرفاهية والأمن.٥ لقد ذهب بعض النقاد إلى أن الحكيم تنبأ بالسد العالي، حين كتب في «عودة الروح» أن شعبًا صنع معجزة الأهرام، لقادر على أن يصنع معجزات أخرى، لكن حسين عفيف لا يهبنا تعبيرًا مجردًا في استشرافه للمستقبل، ولا يتركنا حيارى في الضباب.

•••

«الوظيفة في تاريخ مصر مؤسَّسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربًا أو سياسيًّا أو تاجرًا أو رجل صناعة أو بحارًا، فهو في مصر الموظف.»٦ هذا ما يطالعنا به الفنان في رواية «حضرة المحترم»، والمقصود بالاحترام — على حد تعبير الفنان — هو الموظف.٧

ثمة محجوب عبد الدايم وأحمد عاكف وكامل رؤبة لاظ وياسين أحمد عبد الجواد وكمال عبد الجواد وعيسى الدباغ وأنيس زكي وسرحان البحيري وعثمان بيومي … إن هؤلاء، وغيرهم، هم التعبير عن الحياة الوظيفية في المجتمع.

الراوي (حواء بلا آدم) يتساءل عما إذا كان أولياء الأمر والمفكرون والممولون «قد اكتفوا وأثلجت صدورهم بأن تكد فلذات القلوب، وتجري سنوات إثرها سنوات، وينالون الشهادة بعد الأخرى، لا لغرض إطلاقًا سوى الالتحاق بإحدى وظائف الحكومة؟ حتى إذا ما قفل هذا الباب الأوحد في وجه أحدهم ارتدَّ عاطلًا، وأصبح عالة على أهله، وعبئًا ثقيلًا على نفسه، وعلى المجتمع. والبنات! يتعلَّمن علمًا نظريًّا محضًا، يؤدي بالقليل منهن إلى الحكومة أيضًا، وترجع الغالبية العظمى منهن إلى بيوتهن، فإذا بهن غريبات عن تلك البيوت، غريبات حتى عن أداء أشد الحاجات مساسًا بالحياة المنزلية.»٨ ولعل القيمة المضمونية الأولى لفيلم «العزيمة» أن كمال سليم — مؤلف قصة الفيلم ومخرجه — رفض أن يكون البطل موظفًا حكوميًّا، وكانت الوظيفة هي المطمح. وجعله يؤمن بالعمل الحر، ويحقق نجاحًا مؤكدًا. كان التعيين في وظيفة حكومية وقتذاك يعني بعض الضمان الاجتماعي للفرد وللأسرة.٩ ولم يستطع الشاب فؤاد أن يواصل دراسته في الجامعة، بعد أن بقي عامٌ واحدٌ على تخرجه، سحب أوراقه ليصبح موظفًا في الدرجة الثامنة.١٠
حدد الراوي (شمس الخريف) أمنياته بأنها «عمل حكومي، وحجرة لها نافذة تطل على حارة.»١١ والحق أنه مهما تضاءل الدخل المادي للموظف، فإن مكانته الاجتماعية كانت مرتفعة بالقياس إلى المهن الأخرى في المجتمع؛ إنه الأفندي المتعلم، الذي يرتدي البذلة، ويملك قضاء مصالح الناس. وكان الكثير من موظفي الحكومة يحملون الشهادتين الابتدائية والبكالوريا.١٢ كان الآباء يرسمون مستقبل الأبناء على دعامتَين هما التعليم العالي، والوظيفة بالشهادة العالية.١٣ يسأل الرجل شابًّا حصل — بمؤهله العالي — على وظيفة: وكم جنيهًا سيكون راتبك؟ قال الشاب: ١٢ جنيهًا تزداد إلى ١٥ بعد سنتين. قال الرجل: باسم الله ما شاء الله، ١٤٤ جنيهًا في العام! إن صافي الإيراد المتوسط للفدان الواحد — بعد دفع المال — ليبلغ ثمانية من الجنيهات.١٤ الموظف هو الدخل الثابت، والمعاش عند التقاعد، والمكانة الاجتماعية المتميزة. من هنا نشأ المَثل «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه». أصبحت الوظيفة الميري مطمح الجميع، بصرف النظر عن المؤهلات التي يحصلون عليها.١٥ كانت ميزانية البلاد في ١٩٣٠م، ٢٩ مليونًا من الجنيهات، وقيمة الأجور والمرتبات ١٤ مليونًا، كما أصبح للوظائف سماسرة كزهير كامل والشيخ عبد القادر السهلوبي،١٦ وتحوَّلت تعيينات الموظفين إلى تجارة؛ فالبعض يأخذ ممن يعينه نصف مرتَّبه لمدة عامين بضمان، وثمة من يأخذ مبلغًا على كل درجة … إلخ.١٧ تقول أم حميدة (زقاق المدق) لابنتها «أنت تستحقين موظفًا قد الدنيا».١٨ وعندما قالت أم حميدة للست سنية عفيفي إن الخطيب الذي أحضرته لها يعمل موظفًا، هتفت الست سنية في عدم تصديق: موظف؟! فقد كان «الموظف فاكهة محرمة على زقاق المدق.»١٩ وقالت أم حميدة: أي نعم موظف.

– في الحكومة؟!

– في الحكومة.٢٠ وحين تسلَّم عثمان بيومي (حضرة المحترم) وظيفته، قالت له سيدة بإعجاب: أصبحت موظفًا. وأضافت: لم يحظ أحد في حارتنا بذلك. وتوضحت في أعين جيرانه وأصدقائه من الحرفيين نظرات الإعجاب أو الحسد. وقالت سيدة: أنت الأفندي الوحيد!٢١ أما كامل رؤبة لاظ (السراب) فقد استقبل الأب نبأ تعيينه موظفًا في الحكومة برفع كأسه ضاحكًا، وقال: «نخب مستقبلك! ما شاء الله، أسرتنا مجيدة، ولكن ليس بها من موظف واحد، فأنت الذي تشق طريقها إلى الحكومة.»٢٢ ومن بواعث الاعتزاز التي تقدم بها أية فتاة تعد للخطبة، أن يكون والدها موظفًا.٢٣ وكان أحمد عاكف (خان الخليلي) يستكين إلى ما يشبه الاعتقاد بأن التجار والحرفيين يضمرون احترامًا مؤكدًا للموظفين.٢٤ وتتفاخر نفيسة (بداية ونهاية) بالأسر التي سبق لها التعامل معها: «جميعهم جديرون بالإعجاب حقًّا، فهم موظفون محترمون.» وتسأل العروس في دهشة: ألا يكون الإنسان محترمًا إلا إذا كان موظفًا؟ تجيب نفيسة في لهجة متحدية: أعتقد هذا!٢٥ وقد اعتزم مصطفى (عودة الروح) هجر التجارة، والسعي للتوظف في أحد دواوين الحكومة.٢٦ ومع أن أحمد عبد الجواد (قصر الشوق) كان تاجرًا ميسورًا، فإنه تمنى أن يصبح أبناؤه موظفين، فبالإضافة إلى تخوُّفه من مستقبل الأسرة الكبيرة العدد إذا ورث أبناؤها متجره، ويدرك خطرهم ومنزلتهم في الحياة العامة، كما لمس ذلك بنفسه. لاحظ — في معاملاته — أن التجارة لا تحظي بربع ما تحظى به الوظيفة من التقدير في نظر الناس، وإن درت أضعاف ما تدره الوظيفة من أموال.٢٧ وكانت أغلى أمنيات أحمد عبد الجواد أن يجد ابنه كمال وظيفة محترمة، أن يصبح موظفًا مهابًا، يقدِّره الجميع.٢٨ ولعل طبقة الموظفين والمرتبات الثابتة كانت — على حد تعبير الفنان — أكثر الناس توفيقًا مع أولئك العاملات الشابات «اللائي اعتدن المرور أمام ريجينا في طريقهن إلى محال أعمالهن، أو السينما.»٢٩ لم يكن يشغلهم إلا الحديث عن الدرجات والعلاوات، وعن الأقدمية، ويتنافسون على الرئاسة، ويتحدثون عن علاقاتهم النسائية، ويلفظون كلمات نابية.٣٠ وقد عاب الفنان على أحمد أفندي (الموسيقار) أنه جعل همَّه نفاق الرؤساء، والتظاهر بأنه من الواصليين، ثم الشكوى بأنه لا ينال حقَّه، مع أنه لا يعمل!٣١ والموظفون — في تقدير الفنان — خليط من الكهول والشباب، تسيطر عليهم روح الفكاهة، ولا يمنعهم عملهم «الذي يبدو أنه من أهم أعمال الدولة وأخطرها … وأن يتلهوا برواية مغامراتهم العاطفية والجنسية.»٣٢
ولعلنا نجد في الحكومية انعكاسًا لمظاهر الحياة في المجتمع بعامة — مظاهر قديمة في الأغلب — فهي تعاني المحسوبية والرشوة والوساطة والزيف والنفاق (أذكِّرك ﺑ «القاهرة الجديدة»!) ثمة الرئيس الذي يوفد مرءوسه إلى الخارج، ليخلو له — ولزوجة المرءوس — الجو في غيابه، الروتين المعقد، مشكلات الترقي، النسيان الوظيفي، التنافس حول الفرص المحدودة، الإفادة من الصراع الحزبي، المدير الذي ينصب الشباك بحثًا عن عريس ملائم لابنته، الموظف الذي يهب عصارة نفسه ليرتوي بها غيره، فيواجه بالإعراض والنكران … إلخ.٣٣ والعلاقة بين الموظفين نوعٌ من الزمالة الإجبارية.٣٤ إنها «صداقة المكاتب» التي يصفها كامل رؤبة لاظ (السراب) بأنها صداقة إجبارية تفرضها زمالة الموظفين في المكتب الواحد «صداقة لا تستحق الأسف عليها، فهي تبدأ مع الصباح بالتحية والمداعبة، وقد تنقلب عند الظهيرة إلى وقيعة دنيئة، تختم بإنذارٍ أو عقاب.»٣٥ وقد يلجأ الموظف إلى ربط كرسيه بسلك حديدي، حتى لا ينزعه أحد الزملاء في غيبته.٣٦ وعندما يقول الموظف (الحصان) عن زميله: أعتقد إنه سيبلغ الستين خلال هذا الشهر. يضيف زميل ثالث: سنهنئك خلال أيام بشغل منصبه.٣٧ ولم يخفِ الموظفون شماتتهم عقب إحالة المدير المستبد إلى المعاش: «ماذا فعل لنا؟ لم يمد يدًا لأحد، داسنا كأننا حشرات حتى اكتظت ملفات خدمتنا بالعقوبات، ومضى يترقَّى حتى بلغ القمة، ونحن ما زلنا في القاع، عليه اللعنة!»٣٨
يصف الفنان (كلمة في الليل) موظفًا بدَّد حياته في الإخلاص المطلَق لعمله الوظيفي، بأنه لم «يتمتع بحياة على الإطلاق، دوسيهات، ملفات، مذكرات. تلك كانت حياته. حتى يوم الجمعة كان يواصل العمل في بيته، وكان يعمل كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وحتى في الأعياد والمواسم الرسمية، ولم يقم في إجازة اعتيادية كلها مرة واحدة، عمل، عمل، عمل.»٣٩ وقد بدأ حسين الضاوي (كلمة في الليل) موظفًا صغيرًا، ثم ارتقى في مناصب الإدارة حتى أصبح مديرًا عامًّا. لم يتورع — في رحلة صعوده — عن ارتكاب ما يشين، وإن اكتشف — بعد فوات الأوان — أنه قد أسرف على نفسه، وعقد النية على أن يبدأ من جديد فيما تبقى له من قادم أيامه.٤٠ حسين الضاوي في القصة القصيرة، هو عثمان بيومي في «حضرة المحترم»، وإن اختلف الضاوي عن عثمان في أنه اعترف بخطأ الوسائل، فضلًا عن أن الضاوي حصل على ما سعى إليه، بينما لم يحصل عثمان إلا على ترقية مظهرية، أطل منها على نهاية حياته! كانت حوادث الاستقالة من الوظيفة الحكومية — كما يقول فتحي رضوان — أندر من حوادث الانتحار بكثير.٤١ تقول الخاطبة (يحكى أن) للشاب الذي يطمح إلى زيجة موفقة: «من جهتي أنا خاطري أخدمك، وأنت عندي كما واحد من أولادي، ومن جهة أهلها ناس حشمة موضة قديمة، والشباب الأيام دي زي ما أنت عارف سُكر وقمار وسهر الليل ونوم النهار، فأبوها غرضه واحد ابن حلال يطمئن على ماله معاه يوم ما يلقى رب كريم، وأنت سيد الناس … شباب وموظف في الميري، وكذلك صحة وعافية الحمد لله يا رب، أنا لازم أهاديك بنيني هانم؛ لم أسمح بها لغيرك.»٤٢ وعلى حد تعبير حسين دياب (الوعي الجديد) «فكم تكون البلدة سعيدة بكثرة الموظفين من بنيها.»٤٣«الوظيفة هي المهنة التي يحترم أهل القرية صاحبها، وينظرون إليه في تبجيل، ويدلفون بالحديث إليه في أدب وتقدير … وهي خاتم الخطبة إذا ما تقدم شاب — يومًا — يطلب يد فتاة من بيت عريق … وهي الطابع الأميري للمرء، وقد جبلت مصر على رهبة الحكومة وخشية ممثِّليها، ورغبة التمرغ في تراب الميري، وهي مظهر الحكم، ومن منا لا يحب أن يظهر أمام الناس حاكمًا، ولو أحس نفسه بنفسه تابعًا محكومًا.»٤٤ حتى المدارس الصناعية، كانت تُخرِج طبقة الأفندية، أما العمال الفنيون فلم يكن ثمة وجود لهم في بيئة لا تحترم العامل. بالإضافة إلى ذلك، فإن مرتب الموظف — كما تقول أم حميدة (زقاق المدق) — ليس إلا بعض رزقه «وبالحذق والشطارة يستطيع أن يربح أضعافه، ولا تنسَي علاوة الغلاء، وعلاوة الزواج، ثم علاوة الأطفال.»٤٥ أما المشكلة الرئيسة التي كان يواجهها الموظف، أو أسرته، عند بلوغه الستين، أو في حالة وفاته، فهي ضآلة المعاش. كانت تلك مشكلة ملايين الموظفين إلى الستينيات من القرن العشرين، حيث سُنَّت قوانين جديدة للمعاشات، بدءًا بإجراءات المعاش التي تستغرق أشهرًا طوالًا، وانتهاءً بقلة المعاش. ونتذكر المأساة التي واجهتها أسرة كامل علي (بداية ونهاية) عندما مات عائلها، وحين يفكر الرجل (السكرية) في التقاعد، فإنه يقول متحسرًا «لو كنا موظفين لأغنانا المعاش في مثل سننا عن الكد والعمل.»٤٦ وعندما أحيل حامد برهان (الباقي من الزمن ساعة) إلى المعاش، لبلوغه السن القانونية، فإن الشعور ساوره بأنه يموت قبل الموت، نزع معطف الوظيفة لأول مرة، فشملته كآبة قاسية، وداخله إحساس بالخجل كأنه ارتكب إثمًا.٤٧ ويتحدث يوسف السويفي (الرجل الذي فقد ظله) عن أبيه الذي أحيل إلى المعاش: «كان قد أحيل إلى المعاش، لم أهتم كثيرًا بذلك، كأن شيئًا لم يحدث له. إنه ما زال أبي، ما الذي يمكن أن يحدث لأبي؟ لم أنتبه إلى ما يشعر به، لم أنتبه إلى ما يدور في رأسه، تصرفاته الغريبة، ضيقه المفاجئ ببيتنا في شارع السد، تأفُّفه من دكان الطرشي، نهاره في البيت كالأسد المحبوس في العرين، كتب الشطرنج التي اشتراها والقلم الأحمر في يده. يضع الخطوط الحمراء تحت السطور كأنه يصحح الكراسات. يقرأ في الكتاب، ويلاعب نفسه بالشطرنج الذي اشتراه، شجاره مع فاطمة الخادمة: اكنسي يا بت، امسحي يا بت، الجرنال فين يا بت، اغسلي الجرجير يا بت، الأكل شاط يا بت.»٤٨ وتعبيرًا عن «خطورة» الوظيفة في الثلاثينيات من القرن العشرين، وضآلة الفرص أمام المتقدمين لها، يبدي إبراهيم شوكت (السكرية) تأثره لشكاوى أصدقائه من أن أبناءهم الذين تخرجوا في جامعات، لا يجدون عملًا، أو أنهم قنعوا بوظائف صغيرة بمرتبات تافهة.٤٩ «صارت الشهادة أرخص من ورقة اللحم.»٥٠
كانت قيمة الموظف بالشهادة التي يحملها، وليست بالعمل الذي يؤديه، لذلك تكالب الشبان على الشهادات، لا لمجرد الاستزادة من العلم، وإنما للالتحاق بالكادر العالي بصرف النظر عن الوظيفة التي يشغلونها. مع ذلك، فثمة حملة ليسانس حقوق، قبلوا العمل كأنفار بوليس ملكي في أقسام البوليس بمرتب شهري أربعة جنيهات، وحملة بكالوريوس عملوا في وظائف كتابية صغيرة، وحملة دبلوم زراعة عليا عملوا في حدائق مصلحة التنظيم بالقاهرة، باليومية.٥١ وكان يقين أحمد عاكف (خان الخليلي) أن الوظائف الكبرى في مصر وراثية.٥٢ وقد حرص إبراهيم شوكت (السكرية) على نصح ابنه بعدم الالتحاق بكلية الآداب، وتفضيل كلية أخرى عليها: «إن بعض أصحابي يشكون مُر الشكوى من أن أبناءهم الجامعيين لا يجدون عملًا، أو يعملون كتبة بمرتبات تافهة، وأنت حر بعد ذلك فيما تختار.»٥٣ ويقول صبحي (ثم تشرق الشمس) ليسري في لحظة يأس: أي وظيفة يا يسري … يا يسري بك … لا يهمك أنني أحمل شهادة عالية، فقد أصبحت الشهادات اليوم عقبة أمامنا … وضاق بي أبي، وأصبح في كل يوم يصبَّحني ويمسِّيني بقوله: ها قد تعلمت، فهل جئت بالسبع من ديله؟٥٤ ويقول عبد العزيز (الشوارع الخلفية) لعبد الرافع: تلاقيك بتفكر تخش الحقوق وتطلع تعمل وزير؟ يرد عبد الرافع: «لا أبدًا … أنا ناوي أدخل الحربية، وأطلع ضابط بس … ثم أكمل متحرجًا: أصل الحقوق مدتها طويلة ومصاريفها كتير. كويس الواحد يطلع ضابط … وطني يعني.»٥٥ وبرغم أن مجنون سعاد — في قصة زكي مبارك — كان طبيبًا، فإنه كان يخشى مجرد فكرة أن يجد نفسه — يومًا — خارج خدمة الحكومة، «فقد يكون من العسير أن أظفر الحياة الحرة بنصف ما أكسب من الحكومة، ومرتبي في الحكومة هو عشرون جنيهًا، وهو مبلغ ضئيل، ولكن من أين أكسبه إذا فتحت عيادتي في شارع الغورية، أو شارع المغربلين.»٥٦ لكن البعض كان يعلن رفضه تمامًا لتوظيف ابنه في الحكومة.٥٧ وكانت الشهادة العليا لعنة على حاملها، لما تثيره من حنق في صدر الرؤساء من حملة الشهادة الابتدائية القديمة،٥٨ وإن اتجهت نظرات الموظفين الثلاثة إلى الموظف الجيد في تقديس وإكبار، وهو يعلن أنه حصل على البكالوريا، وقضى في الحقوق سنتين؛ ذلك لأن كل مؤهلاتهم هي أنهم يفكون الخط.٥٩ وتعدَّدت إضرابات طلبة الكليات والمعاهد العليا، طلبًا للتوظف أو تحسين الرواتب. والواقع أنه كثيرًا ما غابت عن التعيين قواعد واضحة — والكلام لمريت بطرس غالي — وإذا كانت هناك قواعد، فكثيرًا ما أُدخِل عليها الاستثناء، وأضحت مما يُحفَظ ولا يُقاس عليه، كأن الإدارة أصبحت ملكًا للأحزاب، تتصرف فيها متى وصلت إلى كراسي الحكم، وتتخذ من الوظائف الحكومية مكافآت طبيعية لأنصارها وأعوانها. وكثيرًا ما رُفِت الموظفون أو نُقلوا في افتتاح المواسم الانتخابية المتتالية، مما ملأ قلوب رجال الإدارة رعبًا، وبعد بهم عن الاطمئنان والهدوء. وكان ضعف الموظف — أي موظف — في تقدير فؤاد أفندي، يرتكز إلى شعور الخوف الذي أصبح سِمة للعلاقة بين الكبير والصغير في كل مجال. وكانت ظاهرة الموظفين المنسيين مشكلة خطيرة. وحتى أواخر الحرب العالمية الثانية، كان كمال عبد الجواد (السكرية) لا يزال على الدرجة السادسة منذ أربعة عشر عامًا، رغم الشائعات المتكررة عن تفكير الوفد في إنصاف الهيئات المظلومة.٦٠ ويقول رشدي عاكف (خان الخليلي): «أخبرني صديق من الموظفين أن الحكومة تفكر في إنصاف الموظفين المنسيين.»٦١ وفي المرايا: «لو أنصفوا لولَّوا المنسيين مقاليد الحكم، فهم — في الواقع — أشرف الموظفين.»٦٢ ومات الموظف كامل علي (بداية ونهاية) بعد خدمة ثلاثين عامًا، وكان مرتبه ١٧ جنيهًا، أما معاشه فقد بلغ خمسة جنيهات.٦٣ ثم أصبح من المألوف أن يقدم الموظف استقالته، بعد أن يجاوز الخمسين، ليبدأ حياة جديدة بعيدًا عن أثقال الوظيفة، كأن يبدأ مشروعًا تجاريًّا، أو يشتري قطعة أرض يفلحها، أو يشيِّد فوقها مزرعة ألبان أو دواجن. يقول عن أيام الوظيفة (تقاطع الطرق بداية النهاية): «كنت أشعر أنني نقطة في بحر، وجودي مثل غيابي، أؤدي عملًا غير مميز يمكن أن يؤديه أي شخص آخر؛ لهذا فرحوا يوم استقلت لأني سأحرك طابور الدرجات المنتظِر بعدي.»٦٤ ويصف المعلم طرزان (اللص والكلاب) رجاله بأنهم «تنابلة، كأنهم موظفو الحكومة.»٦٥ وقد رفضت سهير (قصر على النيل) الزواج من الموظف هناء؛ لأنه «ولد ضائع فقير لا يملك شيئًا.»٦٦ ويلتمس فؤاد (في الدرجة الثامنة) العذر للموظفين في الإقبال على شرب الخمر ولعب القمار، فالأعزب يعاني الوحدة، والمتزوج يعاني أعباء الأسرة وهمومها.

•••

لماذا يحرص الموظف — رغم قسوة ظروفه في معظم الأحيان — على أن يتمرغ في تراب الميري؟

إن الموظف يلفُّه شعور بأنه لا يعمل لحساب أحد، بينما يواجه العاملون في الشركات والمحال الصغيرة خطر الطرد، لسبب ولغير سبب؛ الموظف الصغير هو ورئيسه سواء، كل منهما يؤدي عملًا، ويتناول راتبه من الحكومة.٦٧ وتسأل العروس نفيسة (بداية ونهاية): «ألَا يكون الإنسان محترمًا إلا إذا كان موظفًا؟! تجيب نفيسة: أعتقد هذا.»٦٨ كان الموظف يجد في الراتب الذي يبلغ العشرين جنيهًا كل شهر، ما يكفل له الحياة الهانئة المستقرة.٦٩ وتقول الخاطبة أم حميدة (زقاق المدق): «… وما مرتب الموظف إلا بعض رزقه، وبالحذق والشطارة يستطيع أن يربح أضعافه، ولا تنس علاوة الغلاء، وعلاوة الزواج، ثم علاوة الأطفال.»٧٠ ورغم يقين أحمد عبد الجواد (بين القصرين) أن التجارة تخلِّف أضعاف ما تدره الوظيفة من مال، فإنه كان يثق في المكانة المتفوقة للموظف في أعين الناس. كان «يكبر الوظيفة والموظفين، ويدرك خطرهم ومنزلتهم في الحياة العامة، فأراد أبناءه أن يكونوا موظفين، وأعدَّهم لذلك.»٧١ ويضيف الرجل التحسر على ضياع العمر في العمل بالتجارة: «لو كنا موظفين لأغنانا المعاش في مثل سننا من الكد والعمل.»٧٢ ومع أن «جمال» كان ابنًا لتاجر ثري، فإن والد سعاد رفض تزويجه منها، لأنه تاجر وابن تاجر، وليس موظفًا يذهب إلى الديوان، وليس له مرتب معلوم.٧٣ والبدانة والكهولة والأناقة تضفي على المرء وقارًا يعتز به موظفو الحكومة، والكتبة منهم خاصة.٧٤ ولم تكن الحياة اليومية للموظف تختلف عن حياته في عهود سابقة أو لاحقة؛ فهو يقضي حياته في الديوان، ثم يعود إلى بيته ليخرج منه — في المساء — إلى القهوة، يقرأ «المقطم»، ويلعب الطاولة أو الدومينو مع أصدقائه، ويعود في الثامنة مساء للعشاء، ثم للنوم المبكر.٧٥ واللافت أن غالبية الأسر كانت تحاول تزويج بناتها لشبان يقيمون في البيت نفسه. تلجأ الأسرة إلى حيلة واحدة، تتكرر، فهي، بعد أن تنشد صداقته بواسطة الأب، أو الأخ الأكبر، تطلب منه أن يترك مفتاح شقته، أو غرفته، لتقوم الابنة بترتيبها، ويتبيَّن للشاب سهولة حياته إذا امتدت إليها يد «المرأة» بالتنظيف والغسيل والطبخ، فيتقدم — من بعد — إلى أسرة الفتاة، أو هذا ما تأمله الأسرة، بطلب مصاهرتها. تلك هي الظروف التي عاشها حسين كامل علي (بداية ونهاية) لما استأجر غرفة بالقرب من عمله في طنطا، وهي الظروف نفسها التي عاشها بطل قصة حسن فتحي خليل «سي محمود»،٧٦ وهي أيضًا ظروف كثيرين من الشبان الذين دفعتهم الوظيفة — فجأة — بعيدًا عن أسرهم، فصادفوا الحيرة، لفترة طالت أو قصرت، قبل أن يجدوا في الزواج منفذًا للخروج من حيرتهم.

•••

نحن نلحظ أن القلة من شخصيات نجيب محفوظ هم الذين رفضوا الوظيفة الحكومية، وفضَّلوا العمل الحر. قال أحمد شوكت: الوظيفة خليقة بقتل أمثالي، مستقبلي في العمل الحر،٧٧ واتجه — بالفعل — إلى الصحافة. الأمر نفسه أقدم عليه علي طه بعد أن تخرج في الجامعة، أصدر مجلة اجتماعية تنقل أفكاره. أما حسين شداد (قصر الشوق) فقد أعلن أن الوظيفة شيء ثانوي عند الأهداف البعيدة.٧٨ ويصف الفنان (قصر الشوق) مصر بأنها «بلد تفتنها المناصب إلى حد التقديس.»٧٩ وقد أعلن بعض الشبان — في فترة تالية — رفضهم لمبدأ التوظف. قال أحمد شوكت (السكرية): لن أتوظف.٨٠ وأكد عبد المنعم شوكت (السكرية) أن الوظيفة لم تعُد بالمطلب السعيد.٨١ مضى الزمن الذي كان المرء يقول فيه: أنا موظف، فتُفتَح له الأبواب.٨٢ وثمة حوار (الوعي الجديد) يضغط على الأحوال التي انتهى إليها العمل الوظيفي:

«هل تعرف أن الجامعي الذي يُعيَّن في الدرجة الثامنة براتب قدره ستة جنيهات لا يصل إلى عشرة جنيهات شهريًّا إلا بعد ١٦ عامًا.

– لا تمزح!

– ليس مزاحًا ما أقول، إن علاواته بمعدل نصف جنيه كل عامين.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك يقف مرتبه عند هذا الحد لأنه يكون قد بلغ نهاية مربوط الدرجة الثامنة.

– وهل من المعقول أن يظل الجامعي ١٦ سنة في الدرجة الثامنة؟ لا بد أن يرقى إلى الدرجة السابعة، أو يُعيَّن في أي وقت بالدرجة السادسة.

– إني أعرف منهم من قضى حوالي عشرين سنة بتلك الدرجة، كما أنه إن رُقي أحدهم إلى الدرجة السابعة، فستقف ماهيته عند عشرة جنيهات؛ لأن العلاوات موقوفة. ثم إنه لا يمكن أن يرقى إلى السابعة إلا بعد مُضي سنوات عديدة، على أن تكون هناك درجة خالية، وهكذا قد يحال بعض الجامعيين إلى المعاش في الدرجة السادسة، في الوقت الذي يبدأ فيه زملاؤهم العمل بالحكومة بهذه الدرجة مباشرة، وينفسح أمامهم السبيل إلى النعيم، إلى الجنة.»٨٣ ويذهب الفنان (أزهار الشوك) إلى أن «الوظائف تتدرج صاعدة، حتى تئول آخر أمرها إلى ما يكاد يكون فراغًا بديعًا، وما جدوى الوظيفة الكبيرة إذا لم يصاحبها زيادة الأجر وزيادة الفراغ.»٨٤
وقد برر الدكتور خالد — الرواية — رفضه للوظيفة بالقول: «أما لماذا كافحت حتى أصل إلى نهاية التعليم؛ فذلك لكي أدافع عن نفسي مظنة العجز أو التقصير، منذ قررت أن أهب نفسي للكفاح من أجل بلادي، فقد أصبحت أخشى أن أُوصَف بأنني لم أفلح في التعليم، فاتجهت هذا الاتجاه، فكان لا بد أن أنتصر أولًا في هذه المعركة. أما لماذا أرفض الوظيفة، فذلك لكي أجنبكم — أفراد أسرته — مرارة الألم الذي ستعانونه يوم أن أُفصَل منها؛ ذلك أن أي حكومة لا يمكن إلا أن تفصلني كما فصلتني حكومة الأغلبية من البعثة، فخير لي ولكم أن أجنِّبكم وإياي مرارة الفصل من الوظيفة، ولكي أجرد الحكومة من هذا السلاح الذي تهددني به إذا ما كنت تحت رحمتها.»٨٥ وكانت مشكلة سعيد (باب الخلق) رفض زوجته أن يترك وظيفته بمصلحة الضرائب، ويفتتح مكتبًا للمحاسبة «بس يا سلام لو طاوعتني توحة، يا سلام لو هاودتني وما جابتش سيرة تراب الميري اللي عايزاني طول عمري أتمرغ فيه.»٨٦

ويسأل الباشا: ما صناعتك؟

يجيب الشاب: موظف.

– هذا يعني أنك صعلوك!

– صعلوك؟!

– نعم، إن الكاتب الحقير الذي لا يجد له وظيفة تشرِّفه، يطبع على بطاقته كلمة «موظف»، وهي لا تعني في الواقع إلا أنه كاتب حقير!٨٧

هوامش

(١) حسين عفيف، زينات، طبعة هيئة قصور الثقافة، ٢٠٠١م، ١١٥.
(٢) المصدر السابق، ٢٠٠.
(٣) القاهرة الجديدة، ٤٧.
(٤) زينات، ٢٩٠-٢٩١.
(٥) يوسف إدريس، جمهورية فرحات، الكتاب الذهبي.
(٦) نجيب محفوظ، حضرة المحترم، مكتبة مصر، ١٣٠.
(٧) المصدر السابق.
(٨) محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم، الطبعة الأولى، مطبعة الاعتماد، ٥٠.
(٩) سيد عويس، نشأة مهنة الخدمة الاجتماعية في مصر، ١٦.
(١٠) صلاح ذهني، في الدرجة الثامنة.
(١١) شمس الخريف، ١٥٩.
(١٢) السراب، ٧٣.
(١٣) فتحي غانم، الغبي، روايات الهلال، ٢٢.
(١٤) حسين دياب، الوعي الجديد، مكتبة مصر، ٣٠.
(١٥) المجلة الجديدة، ديسمبر ١٩٣٦م.
(١٦) المرايا، ١٢٥؛ السمان والخريف،١٥٧.
(١٧) القاهرة الجديدة، ٨٤-٨٥.
(١٨) زقاق المدق، ٢٦.
(١٩) المصدر السابق، ١٤٧.
(٢٠) نفسه، ١٤٨.
(٢١) حضرة المحترم، ١٦.
(٢٢) السراب، ١٤٤.
(٢٣) خان الخليلي، ١٨٢.
(٢٤) المصدر السابق، ٤٣.
(٢٥) بداية ونهاية، ١٤٠.
(٢٦) عودة الروح، ٢: ١٠٨.
(٢٧) قصر الشوق، ٦٣.
(٢٨) المصدر السابق، ٥٩.
(٢٩) محمود كامل، حياة الظلام، لوحات وظلال، مؤسسة المطبوعات الحديثة.
(٣٠) سعد حامد، البحث عن النسيان، روايات الهلال، ٣٧.
(٣١) صلاح ذهني، الموسيقار، في الدرجة الثامنة.
(٣٢) يوسف الشاروني، الزحام، ٨٣-٨٤.
(٣٣) عبد الحميد جودة السحار، في الوظيفة، مكتبة مصر.
(٣٤) القاهرة الجديدة، ١٥٥.
(٣٥) السراب، ١٠٠.
(٣٦) محمود كامل، صوت زينب، أرواح بين السحب، هيئة الكتاب، ١٩٧٦م.
(٣٧) حسن نور، الحصان، أنا الموقع أدناه، كتاب المواهب.
(٣٨) نجيب محفوظ، كلمة في الليل، دنيا الله، مكتبة مصر.
(٣٩) المصدر السابق.
(٤٠) نفسه.
(٤١) فتحي رضوان، عصر ورجال، ٢٣.
(٤٢) محمود طاهر لاشين، يُحكى أن، ١٢.
(٤٣) الوعي الجديد، ١٨.
(٤٤) المرجع السابق، ١١.
(٤٥) زقاق المدق، ١٤٩.
(٤٦) السكرية، ١٨.
(٤٧) الباقي من الزمن ساعة، ١٩.
(٤٨) فتحي غانم، الرجل الذي فقد ظله، روز اليوسف، ٤: ٨٢.
(٤٩) السكرية، ٣٠.
(٥٠) القاهرة الجديدة، ٣٨.
(٥١) مصر الغد تحت حكم الشباب، ٧٥.
(٥٢) خان الخليلي، ١٩.
(٥٣) السكرية، ٣٠.
(٥٤) ثم تشرق الشمس، ٣٠٨.
(٥٥) الشوارع الخلفية، ١٥٨-١٥٩.
(٥٦) زكي مبارك، مجنون سعاد، كتاب الهلال، ٤٤.
(٥٧) محمود طاهر لاشين، الفخ، الأعمال الكاملة، المجلس الأعلى للثقافة.
(٥٨) المرايا، ١٧٦.
(٥٩) صلاح ذهني، دكتور، في الدرجة الثامنة.
(٦٠) السكرية، ٣٣٥.
(٦١) خان الخليلي، ١٧٧.
(٦٢) المرايا، ٣٣٤.
(٦٣) بداية ونهاية، ٢٥.
(٦٤) يوسف الشاروني، تقاطع الطرق بداية النهاية، العربي، أبريل ١٩٨٥م.
(٦٥) اللص والكلاب.
(٦٦) قصر على النيل، ٢١٠.
(٦٧) عبد الحميد جودة السحار، موظف حرب، في الوظيفة.
(٦٨) بداية ونهاية، ١٤٠.
(٦٩) عبد العزيز عمر ساسي، بنت البك، من الأعماق، جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية.
(٧٠) زقاق المدق، ١٤٩.
(٧١) قصر الشوق، ٥٩.
(٧٢) السكرية، ١٨.
(٧٣) نقولا ميخائيل التاجي، غرام العذارى، المكتبة الملوكية، ١٤.
(٧٤) بداية ونهاية، ١٢.
(٧٥) نقولا يوسف، إلهام، ٤٦.
(٧٦) حسن فتحي خليل، سي محمود، إغراء، دار المعارف.
(٧٧) السكرية، ٢١٠.
(٧٨) قصر الشوق، ١٦٧.
(٧٩) المصدر السابق، ٢٢١.
(٨٠) السكرية، ٢١٠.
(٨١) المصدر السابق، ٢٤٢.
(٨٢) محمد كمال محمد، الحب في أرض الشوك، ٥٩.
(٨٣) الوعي الجديد، ٧٨.
(٨٤) أزهار الشوك، ١٥٥.
(٨٥) الدكتور خالد، ٧٦-٧٧.
(٨٦) محمد صدقي، باب الخلق، الأيدي الخشنة، دار سعد مصر.
(٨٧) نجيب محفوظ، هذا القرن، همس الجنون، مكتبة مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥