الطبقات

الكاتب الحقيقي — في رأي جولدمان — لا يخلق عالمًا وهميًّا، بلا جذور في أرض الواقع، لكنه يبلور — في الأعم — الطموحات العميقة واللاشعورية لطبقة اجتماعية معينة.١ ويعرِّف بوخارين Boukharine الطبقة الاجتماعية بأنها «وحدة جماعية من الأشخاص الذين يؤدون دورًا واحدًا في الإنتاج، ويقيمون علاقات واحدة مع غيرها من الوحدات الاجتماعية التي تسهم معها في عملية الإنتاج.»٢ والطبقة — في تعريفٍ — هي «مجموعة من الأفراد يحتلون مركزًا معينًا في عملية الإنتاج، ويتشابهون في مستوى الثروة والهيبة والقوة.»٣ وفي تعريف آخر، فإن مفهوم الطبقة يعني الوضع الاقتصادي، في حين يرى تعريف ثالث أن مفهوم الطبقة يعني «الوضع الاقتصادي والمكانة الاجتماعية في آنٍ.» أما ماركس، فقد حدد الطبقة الاجتماعية بأنها «جماعة من الأشخاص يؤدون نفس العمل في إطار عملية الإنتاج، بغضِّ النظر عن وعيهم بذلك في مرحلة معينة من مراحل التطور الاجتماعي، وأن وعي الطبقة بمصالحها الطبقية أمر حتمي، وهو العامل الأساسي في تشكيل الطبقة.»٤ والوضع الطبقي والطبقة — كما يقول فيبر — ليسا إلا دلالات لمصالح نمطية متماثلة، أو متشابهة، تحتفي بأفراد أو بمجموعة من الأفراد.٥ وبتعبيرٍ آخر، فإن الطبقة ليست «إلا حشدًا، فئة مجردة، مجموعة من الأفراد لهم علاقات متماثلة.»٦

لقد عرف الأدب الإنجليزي قضية الفوارق الطبقية، منذ كتب هنري فيلدنج رواية «توم جونز». كما تعرَّفنا إليها في الأعمال التالية لديكنز وإليوت وترولوب، وهي أعمال تتباين مع إبداعات نجيب محفوظ — على سبيل المثال — التي تخفق شخصياتها — في الأغلب — في الانتقال من طبقة إلى طبقة أعلى، كما حدث لمحجوب عبد الدايم وإحسان شحاتة وحسنين كامل علي وغيرهم. وقد أسهم الطموح اللا محدود — كما يقول إستندال في روايته «لوسيان لوين» — في إثارة شهوات الطبقات الأدنى في المجتمع للتقدم، حتى إن صبي صانع الأحذية صار يحلم بأن يصبح نابليون!

إن تيمور يجد في اختطاف سلوى (سلوى في مهب الريح) لزوج بنت الباشا، نوعًا من الاحتجاج على الوضع الاجتماعي الخالي من التكافؤ.٧ والإحساس الطبقي موجود عند زنوبة (عودة الروح) برغم أنها كانت مهملة فترة إقامتها في الريف، تخدم امرأة أبيها، وتربي لها الدجاج. وكان مبروك — خادم الأسرة — زميلها في كُتاب القرية، لكنها تصر على صفته كخادم وتعايره «أنت كمان يا خدام يا لحاس الأصحن.»٨ وتدفع ابن شقيقها محسن للتردد على حلاق غير الذي يذهب إليه مبروك، وأنه «لا بد أن يحلق عند حلاق الناس المعتبرين.»٩ ولا يفلت محسن (عودة الروح) من نظرات مبروك التي كان يرسلها — خلسة — إلى ثوب محسن الجديد «كانت له نفس من تلك النفوس التي تمج النعمة والترف.»١٠ وتحدد ميمي (الشوارع الخلفية) وضع عبده الاجتماعي في قولها للشيخ عبد الحي: «تاني مرة لما تتعب من الدق على دماغك، ابقى ابعت عبده يكلم الخدامة، مش يكلمني أنا.»١١ وتعلن ميمي — في الوقت نفسه — ما تتصور أنه انتماؤها الطبقي: «هو أنا وش حواري … ما كله من طمعك؛ أنت ضيقت الشارع وخليته زي الزقاق، النبي ما أقعد هنا أبدًا، دانا بيت بابا الملك في أحسنها شارع في المنصورة، جاي تبني لي في حارة.»١٢ والملاحَظ أن عبده قد تعاطف مع مشكلة ألطاف، وظل هو الوحيد الذي يذكرها بعد فرارها؛ لأنها في نفس وضعه، بينما نسيها الكل أو أهملوها.١٣ ويصف محمد فريد أبو حديد روايته «أزهار الشوك» بأنها «تدور حول الفوارق الطبقية، والموانع التي تفصل بين مختلف الطبقات، وكيف أن بعضها مادي، ولكن الموانع النفسانية والمادية أقوى.»١٤ كانت علية من الطبقة نفسها التي ينتمي إليها فؤاد، لكنها كانت تختلف معه في الفكر والمزاج. وأحب فؤاد — الطالب في السنة النهائية بكلية الحقوق — تعويضة، البدوية التي لا يحُول بينه وبين التفكير في الزواج منها سوى الفوارق الطبقية الحادة، والإحساس بتلك الفوارق لا يقتصر عليه، لكن ذلك ما تشعر به هي أيضًا. وتتزوج تعويضة من الشاب الأعرابي «قوية». «إن الفتاة الفلاحة في هذه الرواية أشبه بزهرة البازلاء الجميلة النضرة، ولكنها زهرة في برية، وسط حقل من الأشواك، تتمثل في الفوارق والحوائل الطبقية التي قضت عليها، وعلى زوجها، وحرمتها الحب والسعادة.»١٥ ويعكس مرسي أفندي نظرة بعض الموظفين إلى أبناء القرى، فهو يتقزز من منظرهم، ولا يطيق رائحتهم وأيديهم المقروطة الأصابع، الخشنة، وأقدامهم الحافية الملطخة بالوحل.١٦ وقد عنيت رواية عبد المنعم الصاوي «دولت» بالصراع الطبقي؛ رفضت الست جلسن زوجها، وعايرته، لأنه فلاح وهي تركية، وطردت مريم؛ لأنها جارية، وخانت زوجها — دون مبالاة — لأنه من طبقة أقل، بينما مارست العشق — بلا مبالاة كذلك — مع عشيقها الذي ينتمي إلى طبقتها. لكن الرواية انتهت بانتصار الطبقات الأدنى. عاد حمص إلى بيته، وحصلت مريم على اعتراف بزواجها، وطارد الضياع دولت. وفي قصة محمد صدقي «شرخ في جدار الخوف» فإن لحظة الاكتشاف الإنساني، لما انشغل عزيز بيه بحوار بريء مع الطفل الفقير صلاح، ما تلبث أن تتبدد من نفس عزيز، حين يدخل النادي صديقه عادل بيه، ويقول له: «تعال أما أحكيلك عن سهرة إمبارح وأول إمبارح واللي حصل بعد كده.» يلتفت عزيز إلى صديقه قائلًا: «إيوه … آه … احكيلي … وعملت إيه وياها؟ قوللي م الأول … هي البنت دي لسة؟»١٧

•••

ظهر مصطلح «الطبقة» — لأول مرة — في كتابات لماركس، نشرها بصحيفة Rheinische Zeitung.١٨ وقسَّم ماركس الطبقات إلى خمسٍ هي: مُلاك الأراضي، البرجوازيون، صغار البرجوازيين، الفلاحون المزارعون، العمال الكادحون، ثم أضاف ماركس تقديره أن هذه الطبقات سوف تُختصَر إلى طبقتين.١٩ وذهب ماركس إلى أن هاتين الطبقتين أو الكتلتين، هو ازدواج ينتهي، بنجاح ديكتاتورية البروليتاريا في خلق مجتمعٍ لا طبقي.٢٠
ولعله يمكن القول إن الحدود الطبقية في المجتمع المصري لا تبدو واضحة الوضوح نفسه الذي تبدو به الحدود السياسية بين الفئات والجماعات، واتخذ الصراع، في الأغلب، «شكلًا سياسيًّا أكثر من اتخاذه شكلًا اقتصاديًّا.»٢١ وإذا كانت بعض الآراء قد وجدت في تقسيم المجتمع إلى طبقات، بمعنى التقسيم الثنائي أو الثلاثي، أمرًا تعوزه الموضوعية، وإنما ينقسم المجتمع إلى طبقات اقتصادية ومهنية وثقافية … إلخ،٢٢ فإن تقسيم المجتمع المصري إلى ثلاث طبقات — دنيا ووسطى وعليا —Lower Class, Middle Class, Upper Class هو التقسيم الذي تعامل به الدارسون وعلماء الاجتماع والكُتاب السياسيون مع المجتمع المصري. وهو تقسيم سياسي في الدرجة الأولى، يتفق مع ما ذهب إليه أوليفييه كومويل كوكس Olivier Cromwell Cox من أن كل طبقة هي طبقة سياسية،٢٣ وإن كان من المستحيل تقبُّل تحليل ماركس بأن تاريخ المجتمع ككل هو تاريخ صراع الطبقات «فالإنسان الحر والعبد، الشريف والوضيع، البارون ورقيق الأرض، رئيس العمل والصانع، وبالإجمال الطغاة والمقهورون الذين يواجه بعضهم بعضًا في خلاف مستمر … كل أولئك قد شنوا — فيما بينهم — صراعًا متصلًا لا ينقطع، تارة في خفاء وتارة علانية، صراعًا كان ينتهي في كل مرة بانقلابٍ ثوري يحيق بالمجتمع كله، أو بدمار الطبقات المتصارعة كلها.»٢٤

•••

كان التصنيع والرأسمالية عند ظهورهما في القرن السابع عشر، هما البيئة التي نشأت فيها البرجوازية والبروليتاريا، طبقتان وصلتا إلى حد إدراك دورهما القوي في الإنتاج ومصالحهما المتقاربة.٢٥ أما الطبقة العاملة، أو البروليتاريا، فهي التي «لا تملك شيئًا، ولا تستطيع أن تستمر في الحياة إلا بقوة عملها.» ويقول الراوي (أيام الطفولة): «تلقيت في طفولتي أول درس عن نظام الطبقات، وعرفت أن هناك عددًا محدودًا من الأغنياء يملكون القصور والأراضي والمصانع، وفي مقدورهم شراء كل شيء. وعرفت أن هناك عددًا ليس له حصر من الفقراء لا يملكون شيئًا، ويتحايلون على الحياة بالعمل والعرق، وأحيانًا بالسرقة، للحصول على ما يمكنهم انتزاعه منها. لم يُلق عليَّ هذا الدرس أساتذتي في المدرسة، ولكني تعلَّمت من الحياة، ومن الأحداث التي كانت تواجهني وتدور من حولي؛ أحداث جعلتني وأنا في سن التاسعة، أومن بأني فقير، وأن العالم لم يُخلَق لي.»٢٦ وفي بعض التقديرات، فإن الطبقة المقهورة «هي الشرط الحيوي لوجود مجتمعٍ قائمٍ على تنازع الطبقات، وعلى ذلك يقتضي تحرر الطبقة المقهورة بالضرورة خلق مجتمع جديد.»٢٧ وقد ناقشت «زينب» مأساة التفاوت الطبقي التي حالت دون اقتران شاب وفتاة، لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين مختلفتين. وإذا كان رأي الفنان أن الله «سلب الفقراء الثروة، لكنه عوضهم عنها الحرية.»٢٨ فإن الحاج مسعود (البلد) يعبِّر عن استحالة التقارب الطبقي في عدم تصوره للعلاقة بين محمد البرنس وإسماعيل مسعود: «ماذا يربط بين عامل نساج في الشركة، وواحد يملك مائة فدان، إلا النساء والعربدة؟» وحين يدافع محسن عن الحلاق بأنه «المزين بتاعنا كلنا … أنا وأعمامي و… كلنا»، تضيف زنوبة بلهجة ذات مغزى: «ومبروك الخدام؟»٢٩ ويعبِّر حسين شاكر (شيء في صدري) عن رأي الطبقة الأعلى في مخاطبته لنفسه: «هل تعتقد أن الفقراء سيحمدون فضلك ويكتفون؟ إنهم سيطالبون بالمزيد لو استسلمت لهم، فسيبتزون كل أموالك إلى أن تصبح فقيرًا مثلهم.»٣٠ وقد حاولت الشركات أن تضع بين الموظفين والعمال حاجزًا طبيعيًّا، وأن تقنع الموظفين بأنهم طبقة أرقى من العمال، «إنهم أفندية يرتدون البذلة والطربوش، ويجلسون فوق مقاعد مريحة، وراء مكاتب أنيقة، ولا يغمسون أيديهم في التراب، ولا يخوضون بأقدامهم في التراب، ولا يملئُون صدورهم بذرات التراب، إنما التراب من نصيب العمال وحدهم.»٣١ بالإضافة إلى ذلك، فقد لجأت بعض الشركات — لتفتيت الحركات العمالية — إلى خلق طبقة أرستقراطية عمالية، ترفع أجور أفرادها، وتعيِّنهم رؤساء على بقية العمال. وكان الهدف هو تقسيم العمال إلى طبقات، تحارب كل طبقة الأخرى.٣٢ وكان بعض الشركات يلجأ إلى بث الجواسيس بين العمال، وقد يكون للشركة خمسة جواسيس، لكن الشكوك ترفع عددهم إلى خمسين، ويشك كل عامل في زميله، ولا يطمئن إليه، ولا يشركه في سره وأمانيه، ولا يتعاون معه في هدف، وبذلك تتفتت وحدتهم، وتسكت الهمسات، ويضعف تبادل الآراء بينهم، وتصبح الشركة هي الأقوى.٣٣ وكان عزوف حامد (زينب) عن الزواج بزينب مبعثه اليقين أنه من جنس أرفع، وأنها من جنس أدنى. وقد نشأ كمال عبد الجواد (بين القصرين) في أسرة تجد في الانتماء، أو التقرب إلى الطبقات الأعلى، شرف لا يدانيه شرف، وتسلك في تحقيق هذا الشرف سبلًا عديدة، منها الصداقة أو المصاهرة، وخسر كمال قضية حبه لعايدة شداد، لأنه ابن تاجر من الطبقة الوسطى، أما غريمه — الذي فاز بها — فقد كان ابن مستشار من السراة «فلندعها توازن بين ما قال ابن التاجر، وما قال ابن المستشار!»٣٤ لكن كمال عبد الجواد لم تشغله كثيرًا قضية الطبقات، بل إنه — في الحقيقة — لم يتنبه إليها، يذكِّرنا بقول الصحفي في «الخادمة»: «أنا شخصيًّا لا أرى ذلك الفارق الذي يحسبه الناس، ويعدونه فاصلًا بين الطبقات العليا والسفلى، سوى خطأ، وهو خرافي لا وجود له إلا في أذهان السذج الجهلاء، وهم جميع الناس عدا أفراد يعدون على الأصابع. ولا أكون مبالغًا إن قلت إن ما يسميه الناس الطبقات العليا لتحتوي من أهل الفسق والفجور والإجرام والرذيلة أضعاف ما تحتويه الطبقات المسكينة المنكوبة التي يسمونها السفلى.»٣٥ وعندما يستنكر أحمد عبد الجواد رغبة كمال في الالتحاق بالمعلمين العليا بقوله: «فؤاد بن جميل الحمزاوي، وهو مَن كنت تخلع عليه البالي من بدلك، سيلتحق بمدرسة الحقوق، ولد ذكي متفوق، ولكنه ليس أذكى منك، وقد وعدت أباه بالمعاونة في تسديد مصروفاته حتى تتحقق له المجانية، فكيف أنفق على أولاد الناس في المدارس المحترمة، وابني يتعلم بالمجان في المدارس الحقيرة؟! فقد كان هذا التقرير الخطير عن المعلم ورسالته — على حد تعبير الفنان — مفاجأة مزعجة لكمال.٣٦ ويقول الشاب لنفسه: «لم هذا التحامل كله؟ لا يمكن أن يرجع ذلك إلى عمل المعلم الذي هو تلقين العلم، فهل يرجع إلى مجانية المدرسة التي تخرِّجه؟ لم يكن يتصور أن يكون للغنى والفقر دخلٌ في تقدير العلم، أو أن يكون للعلم قيمة خارجة عن ذاته.»٣٧
مع ذلك، فإن رفض كمال لبنت صاحب المقلى، ورفض عايدة شداد لحبه دليلٌ على الفوارق الطبقية التي كانت تحد العلاقات، حتى العاطفية منها. وافقت عايدة على الزواج من حسن سليم الطالب بمدرسة الحقوق، والذي كانت بُنوته للمستشار سليم بك صبري «ميزة يفوق أثرها كل ما للذكاء والاجتهاد من أثر.»٣٨ ويواجهه حسن سليم بأنه — حسن — ذو آداب أرستقراطية «أين أنت من إدراكها؟!»٣٩ ولعلنا نجد إرهاصًا بذلك في قصة الفنان «الذكرى» (١٩٣٨م): ابن الرجل الفقير الذي يحب ابنة سادته، لكنها — عندما تصور أنها منحته قلبها — ما لبثت أن خضعت لإرادة أهلها، وأنكرت حبه.٤٠ والحق أن فكرة الزواج لم تخطر في بال كمال؛ لأن الرومانسية الشفيفة التي تعانق الحلم والخيال والأسطورة كانت هي نبض كمال لعايدة. وكانت الصدمة التي واجهها كمال عبد الجواد هي الصدمة نفسها التي واجهها يوسف عبد الحميد السويفي (الرجل الذي فقد ظله) لما أحب ابنة أحد البكوات، لكن الفوارق الطبقية حالت دون زواجها منه. وحين فقد كمال حبَّه لعايدة فقد عانى الإحساس بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات.٤١ ولعل حب كمال لبدور — شقيقة عايدة الصغرى — أقرب إلى محاولة لغسل الإهانة التي لحقت به على يد شقيقتها منذ سنين.٤٢ ثم خرج كمال — وأحمد شوكت من بعد — بالثورة على الطبقة في صورة إحساس طبقي شامل، لا مجرد شعور فردي. وكان الفارق الاجتماعي/الطبقي بين الراوي وسميرة (الحاجز) هو الصخرة التي تحطم عليها حبهما. ولم يكن لأي منهما دخل في النهاية القاسية التي انتهى إليها حبهما، لكن الأهل الذين كانوا يمثِّلون تقاليد المجتمع وأعرافه، استطاعوا أن يحطموا العلاقة بين الحبيبَين.٤٣ ذلك ما عانت الفتاة (صرخة ضمير) تأثيراته، حين تقدَّم الشاب لخطبتها، فرفض غالبية أفراد الأسرة لأنه من وسط غير وسطها، و«أقل منها».٤٤ وبعد أن خاض الراوي (لاعب الكرة يحب) تجربة الزواج من فتاة من غير طبقته، فإنه قد ثبت له — متأخرًا — أن الأنسب له أن يتزوج من طبقته، أو من «صنفه»، على حد تعبير الراوي.٤٥ وإذا كان أحمد عبد الجواد (قصر الشوق) قد أبدى رغبته في وصل ما انقطع من مصاهرة محمد عفت، فلمكانة الرجل من نفسه، ومكانة أسرته من المجتمع،٤٦ وقد تخلى جابر البقال (بداية ونهاية) عن علاقته بنفيسة، وتزوج من ابنة زميل أبيه التاجر «لاعتبارات هامة جدًّا»، كما أصيب مختار (شمس الخريف) في عاطفته، عندما تزوجت فتاته شخصًا تافهًا، لكنه غني.٤٧ ولما حصل أمين عباس (الدرجة السادسة) على ليسانس الحقوق، طالبته أمه بأن يتزوج واحدة أخرى غير زوجته «لقد زوجتك هذه البنت عندما كنت صغيرًا، وعندما كان مرتبك صغيرًا، ولكنها الآن لم تَعُد تليق بك أبدًا.»٤٨ ومع أن حامد أفندي عبد الكريم (ثم تشرق الشمس) ظل في قاع الطبقة البرجوازية، فإنه رفض زواج أخته من عامل. قالت الأم: والله إنه ابن حلال.

– وهل قلت إنه ابن حرام؟

– فما عيبه؟

– يا ستي اتركي هذا الموضوع.

– ولماذا أتركه؟ رجل يا بني ويستر على أختك.

– وهل هي بائرة؟!

– لا، لا قدَّر الله، ولكني لا أرى فيه عيبًا.

– كيف هذا يا أمي … أين هو منا؟٤٩
وظل الراوي (أيام الطفولة) يتذكر النظرات التي كان يحيط بها المدرسون ابن المأمور وابن مفتش الصحة وأبناء ملَّاك الأراضي. وكانوا يكتفون — إذا أخطئوا، أو أهملوا في أداء الواجبات — بتهديدهم بإبلاغ آبائهم دون أن تمتد إلى أجسادهم كفٌّ أو عصا، وهو عكس ما كان يحدث مع بقية التلاميذ.٥٠ ورغم أن الرجل كان — كما يصفه الراوي (بقية الليل) — على الحدود بين طبقتين: قمة الطبقة الدنيا، وتحت أقدام الطبقة المتوسطة، فإن أبناء القرية كانوا يستغربون حرصه على تعليم ابنه في المدارس الثانوية، كانوا يرون فيه رجلًا يريد أن يصعد السماء على سلالم من لعاب الشمس، أو نسيج العنكبوت.٥١
ولعلنا نستطيع أن نتفهم — في ضوء ذلك — شرط تحرر الطبقة العاملة — كما يراه ماركس — وهو إلغاء جميع الطبقات، مثلما كان شرط تحرر المرتبة الثالثة والنظام البرجوازي محور جميع المراتب والأنظمة.٥٢

•••

لقد تركز الصراع الطبقي في مصر — في صورته الأساسية — على محورَين أساسيَّين: كبار الملاك الزراعيين، وسواد الشعب من الطبقتين الوسطى والكادحة. وقد توضح ذلك الصراع في موقف «الكتلتين» من الاحتلال، فقد اتجه مجموع الشعب إلى مقاومة الاحتلال، بينما آثر كبار الملاك مهادنته. ولا شك أن اكتناز القمة واتساع القاعدة، في البناء الطبقي للمجتمع المصري، كان يجعل منه شيئًا أبعد ما يكون عن الهرمية التي يتصورها علماء الاجتماع. ثمة من يؤمنون (الباب المفتوح) أن «كل واحد له مكانه في الدنيا دي، لو عرفه ما يتعبش.»٥٣ وعندما سرق سيد (السقا مات) الجوافة من السراي الكبيرة، دار حوار بينه وبين أبيه، يشي — ربما — بنظرة الفنان إلى الفوارق الطبقية:

– وأول رأسمال السقا هي الأمانة.

– ولكن ما فعلته ليس سرقة.

– ما هي السرقة إذن؟

– هي أن تأخذ ما للمحتاج لغير المحتاج.

– ما شاء الله … مَن قال لك هذا؟

– شيء بالعقل.

– السرقة هي أن تأخذ ما ليس لك!

– من قال هذا؟

– ربنا.

– لا أظن ربنا يقول هذا!

– استغفر!

– أستغفر الله العظيم، ولكني مع ذلك أصر على أنه لا يقول هذا.

– ماذا يقول إذن؟

– أعتقد أن أخذ ما للغير — إذا كنا في حاجة إليه أكثر منه — لا تعتبر سرقة، إنها مساعدة منا لله في توزيع نعمه، وإقرار عدالته، فنحن في الواقع لا نأخذ مما للغير، ولكنا نأخذ ما لله الفائض عن حاجة الغير؛ إنها معاونة لله لا أكثر ولا أقل، أفيُغضِب ذلك الله؟

– الله ليس في حاجة إلى معاونة أحد، وهو أدرى بتوزيع ماله على عبيده، ونحن أعجز عن أن نحكم على حاجات سوانا. إن فينا من الأنانية ما يعمينا إلا عن حاجتنا، فما من بشر يحس بحاجة غيره، وما من بشر يحس بالفائض عن حاجته، فهو أبدًا في حاجة، وغيره في غير حاجة.

– على أية حال، لا أظن أهل السراي في حاجة ماسَّة إلى الجوفاية التي كنت تأكلها.

– ولا أنت أيضًا في حاجة ماسَّة إليها، ولكن المسألة أن الله وهبها لهم، ولم يهبها لك، ولكل ما وهبه الله، وواجبنا في هذه الحياة هو أن نخلص في عملنا، ونتقبَّل بعين قريرة نتيجة هذا العمل.٥٤
وقد حل أحمد شوكت (السكرية) مشكلة الطبقية في رفض علوية صبري دعوة الحب التي قدمها لها، بأن اتجه إلى فتاة من طبقة اجتماعية أخرى، هي سوسن حماد ابنة عامل المطبعة. ورغم إصرار زينب (الوصية) على مجاوزة طبقتها، والاقتران بزوجٍ من طبقة أعلى، فإن كل ما بذلته واجه الفشل، وتزوجت — في النهاية — من يوائمها طبقيًّا.٥٥ وتقول الخادمة (الساعة تدق العاشرة): «سمعت أمي تقول يومًا: إذا أردت لنفسك السعادة، فانظر دائمًا إلى من هو دونك، أو إلى من هو مثلك، أما إذا أردت لنفسك الشقاء، فانظر إلى من هو أعلى.»٥٦ وقد عبَّر عن المعنى محرر مجلة «كل شيء» الذي وجد في اختلاف الطبقات مسندًا يشحذ العزائم، ويستفز مطامح البشر. وأكد الحكمة البالغة في أن تكون أنت كما أنت، وأنا كما أنا؛ فالشكوى من هذه الحال لا يستند إلى شيء من الحق.٥٧ وثمة رأي أن الفنان قد لا يحاول أن يتعاطف مع الطبقات الفقيرة، لأنه يعتقد أن مثل هذا التعاطف قد يفقدها الرغبة في تطويرها وتحسينها؛ لذلك فهو يتناولها بالنقد الساخر والكوميديا اللاذعة حتى يرفعها إلى رؤية عيوبها الاجتماعية.٥٨

•••

إذا كانت نشأة الطبقة الوسطى «من أخطر حقائق التاريخ البشري في كل مراحله عبر مئات الألوف من السنين منذ الإنسان الأول والقديم والبدائي إلى الإنسان العاقل وتطوره في التاريخ حتى العصور الحديثة.»٥٩ فإن لينين يرى أن الطبقة الوسطى تتشكَّل أساسًا من الحرفيين وصغار التجار بالمدن من ناحية، والفلاحين المتوسطي الثروة من ناحية ثانية. ويؤكد لينين أنه بالإمكان ضم الطبقتين الأخيرتين إلى طبقة البروليتاريا وطبقة فقراء الفلاحين «حيث إنهما لا يخسران شيئًا في تغيُّر النظام.»٦٠ وفي المقابل من ذلك الرأي، فثمة مَن يعين البرجوازية الصغيرة بأنها «تضم جميع المراتب التي تملك رأس مال صغيرًا، أو قطعة صغيرة من الأرض، أو مهارة معينة، أو مستوى من الثقافة، بحيث تستطيع أن تعيش من عملها — في الإطار التاريخي الموصوف — فتستمر وسيلة عملها المالية أو الفنية أو الثقافية، دون أن تكون بحاجة إلى بيع قوة عملها، ودون أن تشتري قوة عمل الآخرين إلا أحيانًا، في نطاقٍ ثانوي. والبرجوازية الصغيرة — في مجموعها — خاضعة للقهر الوطني، ولأشكالٍ غير مباشرة من الاستغلال الاقتصادي، من قبل الاحتكارات الأجنبية والطبقات المحلية المسيطرة، وعلى نطاقٍ أضيق، من قبل البرجوازية المتوسطة.»٦١ وقد حدد راشد البراوي الطبقة الوسطى في مصر — قبل الخمسينيات من القرن العشرين — في المتعلمين بالمدن، والمشتغلين بالصناعة والتجارة والحرف اليدوية. وكانت — في مجموعها — تمثِّل عددًا قليلًا بالنسبة إلى مجموع عدد السكان.٦٢ أما المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فيحدد الطبقة الوسطى في مصر — في الفترة ما بين قيام الثورة وبعد قيامها — بأنها «هي التي تتكوَّن من الموظفين والحرفيين المهرة أصحاب الأجور، وفئات الإدارة في المصانع والشركات، ومعظم الذين يعملون في قطاع الخدمات كالمدرسين والمهندسين والأطباء وعلماء الدين والفنانين وأصحاب الورش والمتاجر — أقل من ٥ عمال — ومتوسطي الملَّاك.»٦٣ إن المثقفين ينتمون — بعامة — إلى الطبقة الوسطى؛ من هنا يأتي القول إن «الطبقة الوسطى هي العمود الفقري للمجتمع.»٦٤ إنها أداة امتصاص أية هزة تصيب الوطن، فتجنِّبه الانكسار، وتسهِّل له تجاوز الصدمات، دون أن ينكفئ أو ينهار.٦٥ وهي — إلى ذلك — همزة الوصل بين طبقة العمال الكادحين والسادة المترفين، بل لعلها الطبقة القلقة المعذبة التي لا تريد أن تطمئن إلى الحياة، كما تطمئن الطبقة الدنيا، لتأخذ منها ما تستطيع منحه من ملذات ومباهج في غير تذمُّر ولا سخط، كما لا تستطيع في سهولة أن تُشبِع طموحها، فترتفع إلى مستوى الطبقة العليا؛ أي البرجوازية الكبيرة، وتدخل في صفوفها لتتمتع بما تنعم به تلك الطبقة من مال وجاه وسلطان. وهي — إلى ذلك — تنفرد دون غيرها بطائفة من الفضائل التي ترفع قيمة الإنسانية، وأهم تلك الفضائل الإحساس الصارم بالمسئولية العائلية، والتضحية في سبيل الأسرة، والتفاني في سبيل الأهل والإخوة.٦٦ ومن هنا جاء قول الفنان إن الطبقة الوسطى هي أكثر الطبقات تأمينًا على حياة أفرادها.٦٧

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا كان نجيب محفوظ قد قصر أعماله على الطبقة البرجوازية الصغيرة، فإلى ماذا ينتمي — مثلًا — زيطة صانع العاهات، وجعدة الفرَّان، والدكتور بوشي، وغيرهم؟

•••

يأخذ رئيس التحرير (رأس الشيطان) على المحرر تحقيقه عن نقابات العمال؛ لأن «كلمة عمال وحدها كفيلة بأن تلصق بك تهمة التطرف والفوضوية.»٦٨
إن الطبقة الوسطى — في المجتمع المصري تحديدًا — هي الأشد وضوحًا. إنها رمانة الميزان، وهي الأشد تأثرًا بأحداث المجتمع، وتأثيرًا في أحداثه. واللافت أن الطبقة الوسطى ليست وليدة الثورة الصناعية كما حدث في الغرب، إنما هي وليدة الوظيفة الحكومية. إن أساس الطبقة الوسطى في مصر — آنذاك، وفيما بعد — هم الموظفون. ويقول نجيب محفوظ: «الطبقة الوسطى، وأغلبها — في تقديره — من الموظفين والأفنديات وقتها، كانت تكابد مشاكل من لون مختلف عن ذلك الذي تعانيه ذات الطبقة الآن. كانوا يفتقدون العدالة في المعاملة الإدارية، ويعانون الطبقية الشديدة، والتمييز، والتحيز الإداري، فتجد موظفًا يجلس في مكتب واحد مع أحد زملائه، ويعمل مثله، وربما أكثر، ثم يجده قد مرق فجأة ليحتل مراكز أعلى وأكبر لمجرد أنه قريب لأحد الباشوات، أو زوج لابنة أحد الوجهاء.»٦٩
ولعل أهم ما تعنى به الطبقة الوسطى هو الحفاظ على المظهر، وإن خالف الباطن.٧٠ «إنها طبقة محافظة، تحرص على أن تأخذ أكثر مما تعطي، تتطلع إلى أعلى، وتخشى أن تنحدر إلى أسفل، لا تحب المغامرة، وتخشى أن تنحدر إلى أسفل، لا تحب المغامرة، وتخشى الفضائح، وتتستر على ما يقع فيها.»٧١ من هنا، فإن الحدث الجنسي في الطبقة الوسطى مرتبط بالخطيئة والله والجحيم،٧٢ لكن هذه الطبقة نفسها «تحتوي على عناصر جريئة تتمرد على الأوضاع التقليدية بحيث تشارك في تطوير المجتمع والحياة.»٧٣ وإذا كان فلوبير قد حدد الطبقة البرجوازية بأنها «طبقة فقيرة تفكر بحقارة» فإن بطل رواية «خادمك المليونير» لعثمان نويه، يحدد أوساط الناس بأنهم الزراع والتجار والموظفون.٧٤
من هنا، جاءت إشارة الفنان إلى أن العقيدة التي سادت أغلب الحكام، أن وظائف الدولة تركة آل إليهم ميراثها دون شريك، وكان طبيعيًّا أن يحصروا تقسيمها بينهم، ضاربين حولها نطاقًا يحُول دون تسرب الطبقات الأخرى إليها.٧٥ وهو ما يفسر تناسي أحمد بك حمديس — قريب أسرة محجوب عبد الدايم — صلته بها، منذ تبوَّأ مركزه المرموق.٧٦

لقد اضطر فؤاد (أزهار الشوك) أن يترك كلية الحقوق قبل أن يصل إلى السنة النهائية، تحت ضغط الظروف الاقتصادية، ليُعيَّن موظفًا في الدرجة الثامنة في مديرية المنيا. أما أسرة كامل علي (بداية ونهاية) فقد واجهت المأساة بالمعاش الشهري الذي بلغ خمسة جنيهات، مما ألجأ الأسرة إلى الانتقال من الشقة التي أمضت فيها حياتها في ظل الأب الراحل، وبيع أثاث الشقة قطعة قطعة، وتحوُّل حسن إلى بلطجي وقواد، واحتراف نفيسة الخياطة، ثم العهر، والاستغناء عن كماليات الحياة، ومعظم ضرورياتها أيضًا … وإذا كانت الجنيهات الخمسة قد دفعت الأسرة إلى مواجهة المأساة، فلعله يجدر بنا أن نناقش مستوى الدخول آنذاك، وكيف كان وضع المواطن الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى الصغيرة.

كانت الشهادة الجامعية رخصة للوظيفة من ناحية، وتحدد وضع صاحبها في الهيئة الاجتماعية من ناحية ثانية.٧٧ إن حصوله على الشهادة النهائية هو جواز صعوده إلى الطبقة الأعلى، وانفصاله تدريجيًّا، فنهائيًّا، عن طبقته. وقد استطاعت الطبقات الشعبية أن تدفع الكثيرين من أفرادها — بواسطة التعليم والحصول على مؤهلات عليا — في السلم الاجتماعي، وشغلوا مناصب مهمة في الدولة. كان مرتب حامل الليسانس أو البكالوريوس بين خمسة جنيهات و١٢ جنيهًا شهريًّا، وحامل الماجستير ١٨ جنيهًا. أما حامل الدكتوراه فقد كان راتبه ٢٥ جنيهًا، وكان ضباط البوليس والجيش يتساوون مع حملة الليسانس والبكالوريوس.٧٨ ولم يكن الكثير من موظفي الحكومة يحملون إلا البكالوريا.٧٩
وكان الذهب هو وسيلة أبناء الطبقة الوسطى والطبقة الأدنى لمواجهة الغد واحتمالاته. وقد حرصت الست فاطمة (نحن لا نزرع الشوك) أن تشتري للخادمة سيدة — بمجموع مرتبها لعدة أشهر — حلقًا ذهبيًّا، ثم مجموعة من الغوايش ليفيدوها «وقت الحاجة»،٨٠ «الذهب يا سيدة مضمون، وقيمته محفوظة دائمًا.»٨١
وفي محاولة للظهور الاجتماعي — بديلًا حقيقيًّا أو زائفًا للحراك الاجتماعي — فإن الأسرة تسعى إلى تغيير الشقة التي تسكن فيها إلى شقة أخرى أوسع، وفي موقع أفضل، وهو ما فعلته — على سبيل المثال — أسرة كامل علي في «بداية ونهاية»، مقابلًا لتنازل الأسرة نفسها — في بدايات الأزمة — عن شقة الطابق العلوي إلى شقة البدروم لمواجهة المتغيرات الجديدة.٨٢ وأتاح الحراك الاجتماعي Social Movement للدكتور جميل (أتت تجرجر أذيالها) أن ينتقل من درب عجوة إلى الطابق الرابع والعشرين المطل على النيل، والطابق الثامن المطل على البحر في الإسكندرية.٨٣ وحتى يوفر الراوي (كنا ثلاثة أيتام) أفضل ظروف زواج لأختيه، فقد سحب كل نقوده المودعة بصندوق التوفير، وانتقل من شقته بدرب الحجر إلى جاردن سيتي.٨٤ وكان أحرص ما عني به حسين شاكر باشا للارتفاع بأسرة محمد أفندي السيد (شيء في صدري) إلى الطبقة الأعلى، هو مغادرة الأسرة لحي شبرا الذي أقامت فيه طيلة حياتها إلى حي الزمالك، وهو الشيء نفسه الذي حرص عليه حسنين كامل علي في رحلة صعوده من طبقته إلى الطبقة الأعلى، وانتقلت الأسرة في «الطريق المسدود» من شارع الروضة إلى شقة فخمة في الجيزة،٨٥ وهي الرحلة ذاتها التي قام بها كل من حاول الانفلات من طبقت بالانفلات من البيئة التي شهدت بدايات حياته. وقد تحرص الطبقة الوسطى على إظهار المكانة الاجتماعية المتفوقة، فتأخذ معها — على سبيل المثال — خادمتها إلى الأسر الصديقة «دليل الغنى والسيادة».٨٦ بل إن الأسرة ربما تتناسى ماضيها الذي يتباين مع الواقع الذي تحياه، فقد رفضت تحية وشقيقها صلاح (باب الخلق) رفع دعوى أحقيتهما في ميراث جدهما؛ لأن الجد كتب في حجة الوقف اسمه، ووظيفته أيضًا: صاحب صالون اللطافة بباب الخلق.٨٧ ومثلما طلب حسنين من نفيسة أن تلزم البيت، ولا تعمل بالخياطة، حفاظًا على مظهر الأسرة، ومظهره هو شخصيًّا، بعد أن أصبح ضابطًا، فإن الابن في قصة «الفوانيس»، بعد أن أصبح موظفًا، طلب من أبيه صانع الفوانيس أن يلزم البيت لا يغادره إلا إلى الجامع «مكسوف مني، مكسوف من صنعتي.»٨٨ ويقول المعلم حنفي (مذكرات عربجي) «كم في البلد، أيها القارئ، من كراسي تحمل فوقها من ينتهي نسبه إلى معلم عربيات، أو خفير، أو سقاء، أو بلانة.»٨٩ وقد أصر الحوذي أبو كامل على أن يدخل ابنه المدرسة، وأن يصبح موظفًا كالأفندية «الذين يكلمونه بأطراف أصابعهم»، واستطاع بالفعل أن يحقق أمنيته، لكن الابن ما لبث أن تمرد على صورة أبيه ذي الكرباج والعربة الكارو، ثم على أبيه نفسه، حتى ترك بيت الأسرة، وتزوج من زميلة له في العمل بعد أن أسقط كل ما يتصل بحياته السابقة، حتى لقب أسرته. والابن في قصة «الفوانيس» يشعر بالاشمئزاز من مهنة والده الحرفي صانع الفوانيس، رغم أن الفوانيس هي التي «خلَّته أفندي نضيف كده.»٩٠

وربما حاول البعض أن ينتسب إلى الطبقات الأعلى بحيلٍ كالاحتيال، فالخالة الفقيرة تقيم في جرجا، وتبيع القصب للأطفال، لا تتصل بأحد، ولا يتصل بها حتى ابن أختها الذي هجرها تمامًا، وحين يبلغه نبأ وفاتها، يقيم لها سرادقًا فخمًا ينفق عليه مئات الجنيهات، ويدعو الكبراء والوجهاء؛ لتشييع الجنازة.

•••

إذا كان جوبلو Goblot يرى أنه «من المستحيل أن تكون طبقة ما صفوة الطبقات، ومن المستحيل كذلك أن تكون الصفوة نفسها طبقة.»٩١ فإن الطبقة الأرستقراطية، ويمثِّلها — إلى حدٍّ كبير قيادات الأحرار الدستوريين — كانت تسمي نفسها أصحاب المصالح الحقيقية، كان أبناء هذه الطبقة يتوارثون السيادة بتوارث ملكية الأرض.٩٢ ويقول الراوي (مذكرات منسية) إنه كان يتعين على شاغلي المناصب الوزارية أن يكونوا من الأثرياء، وكان من التقاليد أيضًا أن يتولى منصب الوزير من أحيل إلى المعاش من وكلاء الوزارات أو المستشارين.٩٣ ويشير الفنان (الضباب) إلى أن ملكية الطبقة الأرستقراطية من الأرض الزراعية لها حدها الأدنى الذي تصعب الحياة بدونه، فزين الدين لم يعُد يستطيع أن يبيع أكثر مما باع، فقد تضاءلت أرضه — والتعبير للفنان — فأصبحت أربعين فدانًا، وما يستطيع بعد ذلك أن يبيع منها شيئًا.٩٤ والواقع أنه كان من الصعب تحديد استثمارات الطبقة الأرستقراطية أو تصنيفها، فكبار ملاك الأراضي هم أنفسهم الذين كانوا يمتلكون العمارات في المدن، والأسهم في الشركات، والأرصدة النقدية في البنوك. وفي المقابل، فقد كان كبار الرأسماليين يحرصون على شراء الأراضي الزراعية والعقارات السكنية.

والحق أن السقوط إلى القاع لم يكن وقفًا على الطبقة الوسطى وحدها، فقد كانت الطبقة الثرية عرضة للسقوط أيضًا، نتيجة لكوارث مالية مفاجئة تصدر عن النظام الرأسمالي المتفسخ الذي يحكم أوضاع البلاد الاقتصادية. كانت البورصة هي الباعث الوحيد — أو يكاد — لانهيار تلك الأسر، مثل خسارة همام بك وفواز بك، نتيجة خسارة الثاني في البورصة، وضمان الأول له، وهو ما أدى إلى موت الرجلين، وانتقال أسرتيهما إلى طبقة أدنى.

•••

الإدانة هي موقف نجيب محفوظ من الطبقة العليا، أو الطبقة الأرستقراطية، فهي مشغولة بالإثراء السريع، وتوفير الحياة المرفهة لأبنائها، ولو على حساب المجموع. يقول عفت (القاهرة الجديدة) — متباهيًا — إنه لا تجري في عروقه نقطة دم مصرية واحدة. ويقول له أحد زملائه: فما قولك في خطبة الباشا والدك في مجلس الشيوخ عند مناقشة الميزانية التي دافع بها عن الفلاح دفاعًا وطنيًّا مجيدًا؟ فيقول عفت ساخرًا: هذا في مجلس الشيوخ. أما في البيت، فكلانا نتفق — أنا ووالدي — على أن أنجع سياسة مع الفلاح هي السوط.٩٥ ولم تكن ميرفت (أزهار) تخفي ضيقها وتبرمها من الناس العاديين، وتعتبر المصريين شعبًا همجيًّا أو بربريًّا.٩٦ وإذا كان فارق السن بين عايدة شداد وكمال عبد الجواد قد جعل الزواج غاية مستحيلة، فإن التفاوت الطبقي كان عاملًا أشد أهمية.٩٧ ويقول الرجل (في الطريق): «ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه، ويروحون يكنزونه، ويدفنونه في خرابات، أو في قدور يدسونها تحت الأرض؟»٩٨ ويتساءل يوسف (الرجل الذي فقد ظله): «ما الذي جعل راتب بك أحد البكوات، وجعل أبي أحد الأفندية؟ لماذا لا ينادون أبي بلقب بك؟»٩٩ كانت عائلة حسن بك راتب هي وسيلة يوسف للتعرف إلى عالم الأرستقراطية، وكانت حياة سالم الإخشيدي وسيلة محجوب للتعرف إلى تلك الحياة، وكانت زميلات حميدة، ثم فرج إبراهيم هي الوسيلة، وكان قاسم بك وسيلة حسنين. كانت حياة كل واحد من هؤلاء هي الباعث لسخط البطل/البطلة، ورغبته في الوصول.
كانت المشكلة — كما أيقن فوزي بذلك في «أزهار» — هو هذا الفارق المخيف بين السواد الأعظم من الشعب، وما هو عليه من فقر مدقع، وبين الغنى المفرط للقلة الحاكمة وأصحاب النفوذ، التي تجعلهم من حيث لا يشعرون أو يشعرون، حلفاء طبيعيين للإنجليز.١٠٠ وإذا كانت عايدة شداد قد استخدمت كمال عبد الجواد لإثارة ابن مستشار واسع الثراء؛ كي يتقدم لخطبتها، فإن دولت (دولت) قد تزوجت من يحبها، لتخونه — فيما بعد — مع ابن طبقتها! بل إن الفنان (الأسطى شحاتة يطالب بأجرته) يعري نساء تلك الطبقة من خلال شخصية إقبال هانم التي تعطي الأسطى شحاتة الحوذي جسدها، مقابلًا لأجرة ركوبها حنطوره!١٠١ لذلك تمنَّت عايدة (إني راحلة) أن تصبح — ذات يوم — حاكمة في هذا البلد، فتجمع كل هؤلاء الرقعاء المرفَّهين المنعمين الملتوي الألسن، وتشد وثاقهم، وتلقيهم عرايا في أحد ميادين القاهرة، وتأمر بجلدهم كل واحد مائة جلدة حتى تجعلهم لا ينطقون بالضاد فحسب، بل يتأوَّهون بالضاد، ثم تضع في أرجاء الميدان ميكروفونات تذيع أغنيات محمد العربي والشيخ محمود صبح، فيخشوشن مزاجهم، وتنسيهم كل ما يعلمون من أغنيات أجنبية، ويغنون — بدلًا منها — يا حلوة يا ريه، يا عم دانا غريب، يا نحيف القوام، ثم تتركهم — بعد ذلك — يعيشون خمسة أيام على العيش الحاف، حتى يشتهوا الفول والطعمية.١٠٢

•••

الطبقات الاجتماعية — في تعريف باريتو — تعبير عن ظاهرة «اللاتجانس الاجتماعي»: «الحقيقة، سواء أرضت العلماء أم لم ترضهم، أن المجتمع البشري ليس متجانسًا.»١٠٣ والطبقة — كما يقول هاليفاكس: «لا يمكن أن تعيش دون وعي طبقي، ومن المتناقضات أن نفترض أن الطبقة يمكن أن تعيش دون أن تعي نفسها.»١٠٤ ويذهب ج. أ. شومبتير J. A. Schumpeter إلى أن «الطبقة شيء أكبر من مجموعة أعضائها المتفرقين، الطبقة تشعر بكيانها، باعتبار أنها تشكِّل كُلًّا، وتتسامى بهذا الوصف، وتمتلك حياتها الخاصة وروحها المميزة.»١٠٥ يضيف شومبتير أن الأفراد كثيرًا ما تتلاقى أمانيهم مع أماني الجماعات، وأن الفكرة التي تؤكد بأن أكفأ الأفراد يتمتعون إلى اليوم بكل الإمكانيات التي تتيح لهم الصعود إلى الطبقات العليا لتبدو ضربًا من السخرية في أوروبا على الأقل.»١٠٦ وهي وجهة نظر يصعب أن تكون مطلقة.
ولعل المدرس (في بيوت الناس) الذي غرس في نفوس طلبته بذور البغض للأغنياء، هو بعض الإرهاصات الأولى في تأكيد البُعد الاجتماعي في حياتنا.١٠٧ والرأي الذي يذهب إلى أن الطبقية حجاب أغلظ من حجاب الحريم، يشحب في حقيقة أن الفواصل والحدود بين الطبقات — في المجتمع المصري بخاصة — ليست حاسمة، والحاجز الذي يفصل فصلًا تمامًا بين طبقات المجتمع ليس له وجود. الطبقات ليست حلقات مسلسلة، لكنها أقرب إلى الألوان التي تتداخل أطرافها: بداياتها ونهاياتها. ومما يثير التأمل — والدهشة في الوقت نفسه — وسم الفنان لمن يمتلك ثلاثين فدانًا بأنه فقير!١٠٨ وصفة «ابن ناس» التي يطلقها الفنان على يسري،١٠٩ لا تعني المستوى المادي ولا الاجتماعي، وإنما تعني أن يكون المرء من «أصل طيب»؛ أي من عائلة حسنة السمعة. ويروي حسين شاكر باشا (شيء في صدري) مراحل انتقال تفيدة، حرم محمد أفندي السيد من طبقتها إلى طبقة أعلى: «كنت ألاحظ كل تطور يطرأ على والدتك، وعليك، بدقة … كأني أرقب تجربة كيمائية مثيرة … لاحظت أن كعب حذاء والدتك قد ارتفع قليلًا، ولاحظت أول مرة سقطت فيها طرحتها عن رأسها، ثم لاحظت أول ثوب ملون ارتدته، وكان لونه رماديًّا، ثم لاحظت أول مرة عادت فيها أمك من عند الحلاق الذي صحبتها إليه خيرية، ولاحظت أول مرة نثرت فيها قليلًا من «أربنج»، ولاحظت ضحكتها وهي تتسع يومًا بعد يوم.»١١٠ وقد تنبهت سيدة (نحن لا نزرع الشوك) إلى أن الأصول تتطور مع الزمن؛ فالذي يحقق ثروة من خلال أحقر المهن، سيصبح أبناؤه وحفدته أصلاء، ومن كان له أصل فسيُفقِده العطل ثروته الموروثة، ويصبح ابنه غدًا بلا أصل.١١١ والملاحَظ أن سيدة جابر في «نحن لا نزرع الشوك» هي مبروكة في «الرجل الذي فقد ظله» من حيث التمرد على التكوين الطبقي، والظروف الاجتماعية، لكن الهزيمة ترصدت لكل منهما في نهاية الطريق.

•••

بعد أن كبر محسن (عصفور من الشرق) وطار إلى باريس ليستكمل تعليمه الجامعي، فإنه لم يكن يجد نفسه إلا في الأماكن التي يرتادها العمال «السواعد العارية، والجِباه المتصبِّبة عرقًا، والثياب التي تقطر بؤسًا» وهو يوم يدفعه الرخاء إلى مطعم فاخر، فإنه يدخله «دائمًا خائفًا كالغريب.»١١٢ وكان الأستاذ (نحن لا نزرع الشوك) صديق الجميع من أهل الحتة، صديق البقال وصبيه وبائع الغازوزة والدندرمة والبسكويت الفانيليا وسعيد العجلاتي ومحمد البواب وحسونة بائع الجوزية. كان يحدِّثهم ويسايرهم بغير تكلُّف ولا ادعاء، فلم يكن الرجل يرى الناس بمراكزهم أو بأموالهم أو أصلهم، وإنما بخفة دمهم ولطفهم وبشاشتهم وطيبتهم، وكانت علاقته بهم تقوم على مدى قدرتهم على مبادلته النكتة ومشاركته المزاح.١١٣ وقد لاحظت سيدة أن مضاحكة السمادوني للناس وتباسطه معهم، لم تكن تصل حد مشاركتهم ما يحمله من أكياس الفاكهة والطعام. كانت «حنية بالبق» كما يقول المثل العامي. وكما تقول سيدة فإن «ألفاظ الحنان لا تكفي، يجب أن تصحبها القدرة على تقديم الدواء لا حنية بالبز، والذي يقول لك لاقيني ولا تغديني إنسان شبعان، لكن الجائع لا يهمه تلاقيه أو لا تلاقيه، المهم أن تغذِّيه.»١١٤ وبعض فتيات الطبقة الأرستقراطية، أو البرجوازية الكبيرة، كن يتمردن على الطبقة التي ينتمين إليها. وكان أهم ما يعيب أهل إلهام شوكت (الكهف) عليها ذلك الاحتقار الذي لم تكن تخفيه لطبقتها، وما يقابله من عطف على الفقراء، ورفض لكل مظاهر الثراء، رغم محاولات والدها المليونير صاحب محلج القطن لاستمالتها وإقناعها بالعدول عن تلك الآراء.١١٥ بل إن بعض أفراد الطبقة الثرية كانوا يطمحون للزواج من فقراء، ليبدءوا معهم حياتهم من جديد.١١٦ وفي المقابل من موقف التخلي عن «البيئة» الذي يتخذه بعض من ترفعهم الظروف إلى طبقة أعلى، فإن «البيئة» تأخذ موقف المستنكر، بل الرافض. وعندما رفض حامد عبد الكريم (ثم تشرق الشمس) خطبة شقيقته دولت إلى العامل فهمي الفهلوي، كان رد الفعل لدى أبناء الحي هو الزراية والاحتقار، حتى التحية التي يرددها بأحسن منها، كانت تخرج من أفواههم همهمات لا تكاد تبرح الشفاه.١١٧ وإذا كان الشعور بالإشفاق هو الذي سيطر على كمال عبد الجواد (قصر الشوق) حين تلقَّى نبأ مأساة أسرة شداد بك، رغم رأيه في الطبقات وفوارقها، فذلك — في الحقيقة — تعبير عن موقف الشعب المصري من الطبقات الموسرة التي قد تقسو عليها الظروف. إن الإشفاق — وليس الشماتة — هو الشعور الذي استقبل به كمال ما حدث. لقد طالما عيَّره أفراد الأسرة، وعايدة بالذات، وحتى الخدم، بأصله، وسخروا منه. قال له حسن شداد: «فلندعها توازن بين ما قال ابن التاجر وما قال ابن المستشار.»١١٨ بل إن كمال فقدَ ثقته تمامًا في أبناء الطبقة الأرستقراطية لمَّا وشى به حسن سليم، وأوقع به مع محبوبته «لم أقل عنكِ كلمة أخجل من إعادتها الآن على مسمعك، لم أتفوَّه عنك بكلمة سوء في حياتي، وما كان ذلك في وسعي لو تعلمين، وإذا كان بعضهم قد أبلغك عني ما أغضبك، فهو واشٍ حقير لا يستحق ثقتك، وإني على استعداد لمواجهته أمامك لتري بنفسك مبلغ صدقه، أو بالحري مدى كذبه، ماذا بك من عيب حتى أتحدث به؟! لشد ما أسأت بي الظن!»١١٩ مع ذلك، فلم تداخل كمال أية مشاعر شامتة. وقد تنشأ الطبقية حتى بين الأشقاء.١٢٠ ولم يكن لفقر سليمان (قصر على النيل) أي أثر في ضيق الباشا به، فهو ابن أخيه، وكان أخوه محببًا إلى نفسه، لكن ماذا لو كان ذلك الفقير إنسانًا آخر غير ابن الأخ؟١٢١

•••

يرى شمولر أن الطبقات هي «تقسيم المجتمع إلى عدد معين من جماعات كبيرة، هم الأفراد أو الأسر التي لها ظروف واحدة متشابهة، وهي جماعات مغلقة إلى حدٍّ ما، تتكوَّن لا بحسب روابط القرابة أو الإقامة، وإنما بحسب المهنة، ونوع العمل والحيازة والثقافة، بل وكثيرًا بحسب الحقوق السياسية. وليس ذلك للاشتراك في مزاولة عمل واحد، وإنما لاكتساب الشعور بجماعتهم بصورة جدية، وإقامة علاقات اجتماعية فيما بينهم، والسعي إلى تحقيق مصالح مشتركة.»١٢٢ وغالبًا فإن الإحساس بالهوة الفاصلة بين طبقة وأخرى، يُعَد دافعًا أساسيًّا لثورة الطبقة الأدنى، بشرط أن يكون هذا الإحساس طبقيًّا شاملًا، جمعيًّا، وليس مجرد شعور فردي. وكان طابور «المتمردين»: حسنين كامل علي، يوسف عبد الحميد السويفي، محجوب عبد الدايم، وعشرات غيرهم … كان ذلك الطابور يمثِّل — في كل فرد منه — ذلك الإحساس الفردي، دون أن يصل إلى الإحساس بالطبقية الشاملة.

•••

وقد وجد نظام الطبقات تأييدًا له من بعض الكُتاب — صلاح ذهني — على سبيل المثال، يشيد بالحكمة العليا التي يحملها الفلاح المصري، فيظنها البعض ضعفًا واستسلامًا، وهي «الإيمان بوجود التفاوت بين الناس، بوجود درجات للمجتمع.» وكما يقول الفنان، فإن «المناصب العليا — في المجتمع المصري بالطبع — شبه وراثية.»١٢٣
نظريات كارل ماركس التي طبَّل لها العالم، والتي آمن بها ملايين الفقراء والضعفاء في أنحائه، ومحو التفاوت بين الطبقات فلا فقير ولا غني … تلك النظريات البراقة التي خلبت لب فلاسفة الروس، والتي ظلت تخلب ألباب غيرهم إلى عهد قريب، والتي أكب على دراستها آخرون، فقضوا العمر في البحث والدراسة؛ لكي يؤمنوا أخيرًا بفسادها وبتضليلها … هذه النظريات آمن الفلاح المصري ببطلانها منذ الأزل، وما زال مؤمنًا، علم بقلبه منذ فجر الإنسانية ما توشك الإنسانية أن تعرفه الآن من فساد الشيوعية، والتساوي بين الناس … ذلك هو شعور الإنسان المتمدين يشعر به الفلاح المصري لأنه متمدين حقًّا، في نفسه كل عناصر المدنية والرقي والاستقرار، وحب السلام والإيمان بنظام التفاوت.١٢٤
كانت أسرة شداد (قصر الشوق) تؤمن بأن أي نشاط لا يؤدي إلى زيادة في الثروة ضرب من العبث الباطل، ويحلم أفرادها بالألقاب كأنها الفردوس المفقود، وطالما قالت الأم لابنها: لو بقي أفندينا على العرش لنال أبوك الباشوية من زمن بعيد. والمال العزيز يهون ويُنفَق بلا حساب في استقبال أمير إذا شرَّف الأسرة بزيارته.١٢٥ ويقول حسين شداد: «القاعدة المتبعة في أسرتنا هي العمل على زيادة الثروة ومصادقة ذوي النفوذ، فتأمل من وراء ذلك في رتبة البكوية، وعليك بعد ذلك مضاعفة الجهد لإنماء الثروة ومصادقة النخبة الممتازة حتى تنال الباشوية، وأخيرًا أن تجعل غايتك العليا في الحياة التودد إلى الأمراء والقناعة بذلك ما دامت الإمارة لا تنال بالعمل أو باللباقة، أتدري كم كلفتنا زيارة الأمير الأخيرة؟ عشرات الألوف من الجنيهات ضاعت في ابتياع أثاث جديد، وتحف نادرة من باريس.»١٢٦

والفنان في «هارب من الأيام» يوضح أن الأغنياء يجب أن يظلوا في غناهم، وأن الفقراء يجب أن يظلوا كذلك. الأغنياء يستخدمون الفقراء، لكنهم يوسعون عليهم بما يعطونهم من أموال ووسائل حياة.

حواء بلا آدم

إن حواء في رواية محمود طاهر لاشين «حواء بلا آدم» ضحية بالكامل — إن جاز التعبير — لنظام الطبقات؛ فعلى الرغم من فارق السن النسبي بينها وبين رمزي، ابن اللواء نظيم باشا السيد، إلا أن السر الحقيقي وراء مأساتها هي فقرها الشديد بالنسبة لثراء مَن وهبته قلبها، وانشغال رمزي نفسه بالطموح المادي الذي يطوِّع المبادئ وفق المكاسب الخاصة التي يمكن تحقيقها. لم يكن يعيب شخصية حواء شيء؛ فهي قد رفضت — بداية — ما يحيط بها من أجواء السذاجة، والاتجاه إلى الشياطين والأسياد، وأصرت أن تغادر أسوار الحريم، وأن تجعل لحياتها قيمة ومعنى، وحققت ذاتها في التعلم حتى تخرجت — بتفوق — من المدرسة السَّنية. وكادت تسافر إلى إنجلترا للتخصص في الرياضيات، لولا أن الطبقية كانت تترصد لها في بداية الطريق. تقول في رسالة إلى صديقة لها: «هذا العداء لا يُرى، ولكن يُشعَر به خصوصًا من كان مثلي ومثلك، فهو يدل تمامًا، وبوضوح، على البغضاء الكامنة بين الطبقات. قولي لي: لماذا اختاروا سنية بدلي؟ وبماذا فضَّلوها عليَّ؟! لا غرو في ذلك حين أكتب إليك أنت، ولكن يجب أن نفهم الموقف، لنفهم عقلية الأوساط التي سنعمل معها. إنهم فضَّلوها يا عزيزتي، لأنهم يظنون أنها من طبقة أفضل من طبقتنا، طبقة لها الحول والطول والأمر النافذ أيضًا، أما نحن الفقراء المساكين، فيجب أن نحتفظ بمستوانا، فإذا رفعنا رءوسنا خفضوها، وكلما تقدمنا بجهودنا أخَّرونا.»١٢٧ والتحقت حواء مدرسة للرياضة بمدرسة للبنات، لكنها أصرت ألَّا تكون مدرسة عادية. ولم يرض طموحها عن تماثل الحياة بين البيت والمدرسة، فانضمَّت إلى إحدى الجماعات النسائية، وحققت ذاتها في فترة قصيرة، حتى أصبحت «شخصية جريئة حاسمة، لها مكانتها في أرقى الأوساط النسائية.»١٢٨ وكانت حواء تتساءل أحيانًا: الجمعية … والمشغل … وذلك الهراء المضني الذي أفنى وقتي، بل شبابي، أجل شبابي. لماذا لا أكون كباقي زميلاتي مرحة طروبة، آخذ الحياة على علاتها؟ المثل الأعلى! العمل من أجل العمل! العمل للمجموع.١٢٩ وكانت ترى أن عينيها قد غلبهما جد الرجولة على فتور الأنوثة، وأن منظرها يوحي بأكثر من السنوات الاثنتين والثلاثين. ثم أحبَّت حواء رمزي ابن نظيم باشا. وكانت تقوي أخته الصغرى في موادها الدراسية، وتعلِّمها البيانو. والحق أن رمزي لم يكن مساويًا — في شخصيته — لحواء، فهو — كما يصفه الفنان «لم يتعمَّد أن يثقف نفسه ثقافة خاصة، وإن كان يشتري الكتب، غثها وسمينها على السواء. إذا تساوت في أناقة الشكل وجمال الطبع، فمكتبته إذن عامرة باهرة، وإنه ليُمضي الساعات في ترتيبها وإعادة ترتيبها، ويداخله من عرفان أسماء المؤلفين شعور بأنه يتمشَّى مع الحركة الأدبية. بيد أنه يقرأ أهم الصحف اليومية، وكافة المجلات الأسبوعية، وللأخيرة عنده مجموعات ينفق على تجليدها بسخاء. من ثَم لم يخل من سفسطة الطبقة التي هو منها، فهو يجلس في غرفة الاستقبال الفخمة من منزله الفخم، ويتكلم برخاء عن فقر الفلاحين، ويظهر علمه بجهلهم، وحسن نيته حيال سوء حالهم.»١٣٠ وكانت حواء تشفق — في البداية — من تفكير الشاب، وإسرافه في العناية بمظهره، وكانت تتساءل: أي عمل جدِّي يمكن أن تضطلع به هذه الدمية؟ لكنها ما تلبث أن ألِفت شخصية رمزي، والتمست له العذر عن صبيانيته بعدم حنكته، وأنه لم يعرك الحياة بعد. وتحوَّلت الألفة، فالصداقة، إلى حبٍّ، تغذِّيه اثنتان وثلاثون عامًا من الحياة التي يغيب عنها «الرجل» في أية صورة، حتى في صورة الأب أو الأخ. وحين بدا أن الشاب قد كوَّن شخصيته التي تناقش وتحلل وترفض، إلى حد التحدث مع والده في مشكلة المزارعين الذين قدِموا للشكوى من قلة المحاصيل وهبوط الأسعار، ويتلمسون تخفيض إيجار الأرض. وانتهر الرجل ابنه، ووصف الفلاحين بأنهم أخبث من الذئاب، وأمكر من الثعالب، وأن الفقر وسوء الحال وأزمة أشد من هذه الأزمة، لهي أنجح علاج لترويض نفوسهم الشريرة. لكن الشاب لم يقتنع بكلمات أبيه. يقول لحواء: «تصوري إن فيه قرى لو جمعت كل ما عند أهلها تجدينه لا يتجاوز جنيه واحد.» ويضيف: «تجديش في الدنيا أعجب من كون الغلابة دول ما يناموش في أودة مبنية بالطوب أو الدبش إلا إذا ماتوا.» وتصورت حواء — بالطبع — أن التغيُّر الذي كانت تأمله في شخصية الشاب قد تأكد، وراحت تنظر إلى المستقبل من نافذة وردية. الأماني تتبدَّد كضبابٍ حين يوافق رمزي على طلب أبيه بخطبته إلى ابنة المرحوم القائم مقام ذهني بك عبد الفتاح التي ورثت عن أبيها عزبة كبيرة، بل إنه يوافق على رأي والده بأن الفلاحين أمكر من الثعالب، وأخبث من الذئاب، وأنه يجب ألا يرثي لهم، أو يرأف بهم. وكانت تلك هي الضربة الثانية التي وجَّهتها الطبقية إلى حواء. وإذا كانت قد عالجت أثر الضربة الأولى بالاشتغال في الحياة العامة، وبالمشاركة في خدمة الجماهير، فإن رد الفعل في الضربة الثانية، المميتة، كان رفض الحياة ذاتها.

أنا الشعب

«أنا الشعب» رواية طويلة متفرعة الأحداث، لكنها تُعَد صورة متكاملة للصراع بين الشعب وحاكميه، من خلال قصة سيد زهير الذي عاش حياته طولًا وعرضًا وعمقًا، حتى أصبح — ذات يوم — صحفيًّا لامعًا، ومع حرصه — في رحلة صعوده — على تلك المكانة، فقد حرص — في الوقت نفسه — على أن تظل صفحة حياته بيضاء من الفساد السياسي والاجتماعي الذي كان ميسمًا للعصر، وكان حريصًا كذلك على أن يشعر بالانتماء إلى الشعب في صراعه الضاري ضد فساد الحكم. وثمة قصة أخرى موازية للقصة الأساسية، هي قصة العلاقة بين عبد الحميد ومنيرة شقيقة سيد، التي انتهت بزواج عبد الحميد من منيرة.

الرواية عن شاب من أسرة كبيرة، فقدت عائلها، ولم يكن الشاب قد حصل على البكالوريا بعد، وواجه مسئولية ضخمة وهو لا يزال في تلك السن الصغيرة، مسئولية الأسرة، ومسئولية نفسه. وربما كان يشعر كذلك بمسئوليات أخرى حيال أشخاص كان يصادقهم على مضض. وهو يلاقي في صداقته لهم شيئًا من العنت، لكنه يحاول أن يفرض شخصيته على هؤلاء الأصدقاء. ويظل من هؤلاء شخصان يكون لهما دورهما في القصة فيما بعد. أحدهما مصطفى عجوة، والآخر حمادة الأصفر. ويحاول سيد الكتابة في الصحف متوهمًا أنه أديب بارع، لكن محاولته تبوء بالفشل، فينتقل إلى محاولة أخرى هي احتراف التمثيل، لكنه ما يلبث أن يتخلى عن محاولته، لعدم رضائه أن يصفعه ممثل آخر، بصرف النظر عن أن الصفعة تمثيل وليس حقيقة. ثم يعينه أحد أصدقاء والده القدامى — السيد أحمد جلال — في محلجه، لتقوم علاقة بينه وبين منى ابنة السيد جلال، وتجتاز هذه العلاقة العديد من العقبات، قبل أن تبلغ النهاية المنشودة، وهي اقتران سيد بمُنى.

لقد وجد سيد زهير نفسه — فجأة — مسئولًا عن أسرته قبل أن يحصل على شهادة البكالوريا، (الملاحَظ أن بطل «أنا الشعب» له نفس طبيعة وظروف بطل «شمس الخريف»، كلاهما انقطع عن مواصلة تعليمه، وكلاهما كانت له ميول أدبية. وكان يخرج إلى الريف الملاصق للمدينة، يفرج عن نفسه بالنزهة بين الحقول، وربما كتب بعض المحاولات الإبداعية)، وحاول سيد أن يجاوز وضعه الاجتماعي بوسائل عديدة؛ فكر في التقدم لنيل شهادة البكالوريا، لكن أزعجه حاجة أسرته إليه بحيث لن تقوى على الصبر حتى ينهي تعليمه الجامعي.

وعلى الرغم من الاستقرار الظاهري لسيد في عمله بمحلج أحمد جلال، فإن سيد يجد نفسه — ذات يوم — مفصولًا من عمله، ففي الوقت الذي بدأ يناقش العمال في وجهات نظرهم، ويدافع عن رأي الإدارة، بل ويحُول دون تدمير العمال للمصنع، فوجئ بأن أحمد جلال يفصله قائلًا في هدوء: «لم تكن لك علاقة بأعمالهم يا سيد أفندي، ومع ذلك فلماذا لم تدع العمال وشأنهم؟ لم تكن لك علاقة بأعمالهم يا سيد أفندي، دعهم يا أخي يثوروا إذا شاءوا ويدمروا المحلج، وأنا أعرف كيف أعاملهم، كنت دائمًا أعرف كيف أعالجهم قبل أن تشرِّف المحلج!»١٣١ ويدرك سيد أن ما حدث نتيجة وشاية من صديقه القديم مصطفى عجوة لدى السيد جلال، ويلتقي سيد بصهره في محاولة لتصفية الخلاف، لكن اللقاء ينتهي بمشادة كلامية، فلم يكن الشاب يؤمن بالفوارق التي يصطنعها المال؛ لذلك فقد واجه السيد جلال بندية أغضبت الرجل منه، وقطعت أمله في الزواج من منى. ويدرك الشاب خطأه في التخلف عن الدراسة، ويقرر أن يعود إليها من جديد. ويذهب بالفعل إلى صديقه عبد الحميد عياد المدرس ليعاونه في التقدم إلى شهادة البكالوريا، وينجح في الحصول على الشهادة، لكنه يجد ذاته في مجال آخر هو التجارة، فقد عزم — منذ فصله السيد جلال — أن يبدأ من جديد، وفي التجارة تحديدًا، ليصبح منافسًا خطيرًا للسيد جلال، يحمل موازينه وعشرين جنيهًا كان قد ادَّخرها في أثناء عمله بالمحلج، ويمضي إلى السوق، ويلتقي في الطريق بصديقه القديم حمادة الأصفر الذي تفوق خبرته التجارية أضعاف خبرة سيد، فيتفقان على تكوين شركة. أقدم على التجارة في الطريق العام، وإن أطلق على ميزانه وقناطير القطن المحدودة اسم الشركة.

ثم يعرِّضه إيمانه بقِيَم ومُثُل لمحنة قاسية، يقرر بعدها أن يتجه إلى العمل في الصحافة باعتبارها المجال الأنسب الذي يمكن أن يعري فيه أوضاعنا الاجتماعية، وتفضي به حملاته المتوالية ضد التعفن والفساد إلى السجن أكثر من مرة.

يقول الضابط المحقق لسيد زهير: هذه الشكوى تقول إنك اعتديت على الذات الملكية.

– خبر أسود!

– وأهنتَ الحكومة، وحرَّضتَ على قلب نظام الحكم، وفرَّقت بين الطبقات.١٣٢ وقد استخرج ذلك من خُطبة انتخابية له بطريقة «ويل للمصلين».
الرواية — في تقدير عباس خضر — «تمثِّل الكفاح والصراع بين الشعب، وبين ما اصطلح عليه من المظالم والمفاسد، أو من تألبوا عليه من الظالمين والمفسدين.»١٣٣

•••

قُدم الفنان سيد زهير في صورة «المصري المثالي»، فهو يرفض مظاهر الفساد في المجالات المختلفة، ويناصر البسطاء من المواطنين، يؤلمه الثمن الذي يدفعه لقاء مبادئه وقناعاته، لكنه يصر على السير في الطريق إلى نهايتها، فهو التعبير عن الشعب، أو هو الشعب كما تسميه الرواية. وعندما يُسجَن في مركز البوليس؛ لأنه تجرَّأ على الباشجاويش، يثور قائلًا: افتحوا أيها المجرمون … أنا الشعب! ويكتب مقالاته تحت عنوان «أنا الشعب». ويسأل نفسه: هل أنا الشعب الذي يخطب السادة ودَّه في دعاياتهم الانتخابية، ومن أجله ينشئون مقالات التمجيد في الجرائد اليومية؟ وكان الجواب إصرارًا من سيد زهير على أن يواصل طريقه، دون أن تبهره المظاهر الفارغة الجوفاء التي صادفها في صعوده، ثم تقوم الثورة، وتتحقق كل الأماني والأهداف التي نادى بها سيد زهير في كتاباته.

وفيما عدا شخصية سيد زهير، فإن بقية شخصيات الرواية تلفُّها الظلال، وتعاني انعدام الوعي، ولا تخلو من نزعات فردية لتحقيق الذات، ولو بالسطو على حقوق الآخرين. لم يكن العمال — على سبيل المثال — يشعرون نحو السيد جلال بما يضعه في موقف فاعل الخير، ذلك لأنه كان يأخذ من أجورهم مقابلًا للطعام الذي يمن به عليهم. كان حرصه أن يظل في المجتمع رجلًا كريمًا، يعنى بإقامة المآدب لعماله، بصرف النظر ما إذا كانت تكاليف تلك المآدب محسومة من أجور العمال أنفسهم. وقد توسَّط السيد جلال بنفسه لإطلاق سراح سيد زهير، بعد أن وشَى به هو نفسه بتهمة العيب في الذات الملكية، مما يدفع سيد إلى القول في سخرية: أنا الشعب!

•••

«أنا الشعب» تذكِّرنا — في بعض مواقفها — برواية محمد المويلحي «حديث عيسى بن هشام» من حيث تناولها للجوانب السلبية في المجتمع، في أقسام الشرطة، والمستشفيات، والمكاتب الحكومية، والمصانع، والمعاملات التجارية، والقصور، والشوارع، ولعلي أوافق على الرأي بأن الرواية «أقرب إلى دراسة موضوعية لحياة المجتمع المصري قبل ثورة يوليو.»١٣٤

سيد زهير يريد أن ينال حقه في الحياة الطيبة، لكن الأوضاع الفاسدة تحُول دون ذلك، فيخوض حربًا قاسية ينهزم فيها أحيانًا، وينتصر أحيانًا أخرى، حتى يتحقق له النصر كاملًا، أو شبه كامل، في النهاية.

إن الوضع الاجتماعي الأدنى لا يمثِّل وحده عقبة في سبيل التحقق؛ ثمة من ينتزع مكانته ووضعه الاجتماعي من ظروف قاسية، بحيث يجاوز — بنجاحه — عقبة الوضع الأدنى. والملاحَظ أن الحراك الاجتماعي كان يتحقق بواسطة التعلم والحصول على الشهادة الجامعية التي تتيح وظيفة ذات راتبٍ ثابت، أو عن طريق الأعمال الحرة التي لا تحتاج إلى شهادات ولا تعليم، أو عن طريق وسائل أخرى سنحاول أن نعرض لها في الفصل التالي.

هوامش

(١) محمد علي الكردي، ألوان من النقد الفرنسي المعاصر، هيئة قصور الثقافة، ٥٦.
(٢) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ٨٤.
(٣) أوراق عربية، ٢: ١١٩.
(٤) المرجع السابق.
(٥) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ١٣٧.
(٦) المرجع السابق، ١٢٩.
(٧) محمد عبد الحليم عبد الله، لقاء بين جيلين.
(٨) عودة الروح، ١: ٤٠.
(٩) المصدر السابق، ١: ٧١.
(١٠) نفسه، ١: ٤٥.
(١١) الشوارع الخلفية، ٢٠٥.
(١٢) المصدر السابق، ١٠.
(١٣) نفسه.
(١٤) فؤاد دوارة، عشرة أدباء يتحدثون، كتاب الهلال، ١١٦.
(١٥) المرجع السابق، ١٣٧.
(١٦) أحمد رشدي صالح، مرسي أفندي والشمعدان، ألوان من القصة المصرية، دار النديم، ١٩٥٦م.
(١٧) محمد صدقي، شرخ في الجدار الخوف، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٣م.
(١٨) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ٢٩.
(١٩) المرجع السابق، ٤٢.
(٢٠) المرجع السابق، ١٠٢.
(٢١) إبراهيم عامر، مصر النهرية، الفكر المعاصر، العدد الخمسون.
(٢٢) علم الاجتماع، ٧٦.
(٢٣) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ٥.
(٢٤) المرجع السابق، ٢٣.
(٢٥) نفسه، ٢٢.
(٢٦) إبراهيم عبد الحليم، أيام الطفولة، دار الفكر، ٣٣.
(٢٧) دراسات في الطبقات الاجتماعية،٤١.
(٢٨) دولت، ٧٥.
(٢٩) عودة الروح، ١: ٧٩.
(٣٠) شيء في صدري، ٢٤٣.
(٣١) المصدر السابق، ٤٥٤.
(٣٢) نفسه، ٤٥٨.
(٣٣) نفسه، ٤٧٨.
(٣٤) قصر الشوق، ٢٤٩.
(٣٥) محمد السباعي، الخادمة، مكتبة مصر.
(٣٦) قصر الشوق، ٥٥. وإذا كانت أعمال نجيب محفوظ قد ركزت — بعامة — على طبقية المجتمع المصري، ووضع الطبقة الوسطى بخاصة، حتى اعتُبِر — في تقديرات كثيرة — أديب الطبقة الوسطى، فإن الأديب يصور البيئة التي اختبر الحياة فيها، لا الطبقة التي ينتمي إليها، وإلا غاب الصدق عن معظم الكتابات الروائية والقصصية؛ لأن أصحابها كانوا من أبناء الطبقة الوسطى، الذين سمحت لهم ظروفهم بالتعلم والتثقف.
(٣٧) قصر الشوق، ٥٦.
(٣٨) المصدر السابق، ١٦٢.
(٣٩) نفسه، ٢٣٢.
(٤٠) نجيب محفوظ، الذكرى، الهلال، مايو ١٩٧٧م.
(٤١) قصر الشوق. ٣٤٧.
(٤٢) السكرية، ٣٢٦.
(٤٣) محمود البدوي، الحاجز، الأعرج في الميناء.
(٤٤) جمال التلاوي، صرخة ضمير، البحث عن شيء ما، المطبعة الفنية.
(٤٥) إحسان عبد القدوس، لاعب الكرة يحب، بنت السلطان، مكتبة مصر.
(٤٦) قصر الشوق، ١٠.
(٤٧) شمس الخريف.
(٤٨) محمود كامل، الدرجة السادسة، لوحات وظلال.
(٤٩) ثم تشرق الشمس، ٢٣.
(٥٠) أيام الطفولة، ٨-٩.
(٥١) محمد عبد الحليم عبد الله، بقية الليل، النافذة الغربية.
(٥٢) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ٤١.
(٥٣) لطيفة الزيات، الباب المفتوح، مكتبة الأنجلو، ٢٩.
(٥٤) السقا مات، ٤٤-٤٥.
(٥٥) إحسان عبد القدوس، الوصية، شفتاه، الناشرون العرب.
(٥٦) أمين يوسف غراب، الساعة تدق العاشرة، مطبوعات الشعب، ٩٩.
(٥٧) كل شيء، ٢٠/ ١٢/ ١٩٣٠م.
(٥٨) نبيل راغب، فن الرواية عند يوسف السباعي، ٢٣٧.
(٥٩) عبد المنعم تليمة، من محاضرة في المؤتمر الرابع لأدباء الأقاليم بدمياط، ١٢/ ٩/ ١٩٨٨م.
(٦٠) دراسات في الطبقات الاجتماعية.
(٦١) محمود حسين، الصراع الطبقي في مصر، ٤٥.
(٦٢) راشد البراوي، حقيقة الانقلاب في مصر.
(٦٣) الأهرام، ٢١/ ١٢/ ١٩٨٩م.
(٦٤) عاطف الغمري، أزمة الطبقة الوسطى في مصر، الأهرام، ٢٣/ ٣/ ١٩٩٤م.
(٦٥) المرجع السابق.
(٦٦) محمد مندور، قضايا جديدة في أدبنا الحديث، ٦٦.
(٦٧) يوسف الشاروني، الناس مقامات، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٦٨) نجيب الكيلاني، رأس الشيطان، ٢٨.
(٦٩) الأهرام الاقتصادي، ٣١/ ١٠/ ١٩٨٨م.
(٧٠) يوسف الشاروني، دراسات في الأدب العربي المعاصر، المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ٦٨.
(٧١) الخوف والشجاعة، ٦٦.
(٧٢) يوسف الشاروني، الوباء، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٧٣) الخوف والشجاعة، ٦٦.
(٧٤) خادمك المليونير.
(٧٥) زينات، طبعة هيئة قصور الثقافة، ١٢١.
(٧٦) القاهرة الجديدة، ٤٠.
(٧٧) لويس عوض، الأهرام، ٢٥/ ٢/ ١٩٨٩م.
(٧٨) المرجع السابق.
(٧٩) السراب، ٧٣.
(٨٠) نحن لا نزرع الشوك، ١: ٢٧٥.
(٨١) المصدر السابق، ١: ٢٧٦.
(٨٢) في حوار مع نجيب محفوظ، أشار الكاتب أن أسر أحمد عبد الجواد وأحمد عاكف وكامل علي، هي أسر متقاربة من حيث طبيعتها الاجتماعية وهمومها العامة، الاختلاف بينها مرده إلى الظروف الخارجية التي تواجهها كل أسرة.
(٨٣) فتحي غانم، أتت تجرجر أذيالها، الرجل المناسب، هيئة الكتاب.
(٨٤) يحيى حقي، كنا ثلاثة أيام، قنديل أم هاشم.
(٨٥) الطريق المسدود، ١٨.
(٨٦) ذكريات بعيدة، ٨٢.
(٨٧) محمد صدقي، باب الخلق، الأيدي الخشنة.
(٨٨) محمد صدقي، الفوانيس، الأيدي الخشنة.
(٨٩) مذكرات عربجي، ٧٨.
(٩٠) الفوانيس.
(٩١) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ١٣١.
(٩٢) إحسان عبد القدوس، في وادي الغلابة، مكتبة مصر، ١٢٦.
(٩٣) مذكرات منسية، ٤٢.
(٩٤) ثروت أباظة، الضباب، ١٠١.
(٩٥) القاهرة الجديدة، ١٩٠.
(٩٦) أزهار، ٣٣٦.
(٩٧) قصر الشوق، ٢٣.
(٩٨) إبراهيم عبد القادر المازني، في الطريق، ٦٧.
(٩٩) الرجل الذي فقد ظله، ٤: ٥٠.
(١٠٠) أزهار، ٤٠٣.
(١٠١) محمود تيمور، الأوسطى شحاتة يطالب بأجرته، الشيخ جمعة.
(١٠٢) يوسف السباعي، إني راحلة، مكتبة مصر، ١٠٥-١٠٦.
(١٠٣) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ١١٩.
(١٠٤) المرجع السابق، ١٦١.
(١٠٥) نفسه، ١٤٧.
(١٠٦) نفسه، ١٥٩.
(١٠٧) محمد لطفي جمعة، في بيوت الناس.
(١٠٨) قصر على النيل، ٦٧.
(١٠٩) ثم تشرق الشمس، ٢٤٥.
(١١٠) شيء في صدري، ٢٢٥-٢٢٦.
(١١١) نحن لا نزرع الشوك، ٦٤٩.
(١١٢) عصفور من الشرق، ٨٣.
(١١٣) نحن لا نزرع الشوك، ٣١٠–٣٢١.
(١١٤) المصدر السابق، ٨٢٣.
(١١٥) الكهف، ٣١-٣٢.
(١١٦) قصر على النيل، ١٥٢.
(١١٧) ثم تشرق الشمس، ٣٢.
(١١٨) قصر الشوق، ٢٤٩.
(١١٩) المصدر السابق، ٢٤٥.
(١٢٠) محمود البدوي، دعوة إلى عرس، الجمال الحزين.
(١٢١) قصر على النيل، ٦٧.
(١٢٢) دراسات في الطبقات الاجتماعية،١١٠.
(١٢٣) إني راحلة، ١٥٣.
(١٢٤) صلاح ذهني، فن القصة في الأدب المصري الحديث، ١٠٦-١٠٧.
(١٢٥) قصر الشوق، ٢٠٨.
(١٢٦) المصدر السابق، ٢١٠.
(١٢٧) محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم، الطبعة الأولى، مطبعة الاعتماد، ٤٦-٤٧.
(١٢٨) المصدر السابق، ٤٩.
(١٢٩) نفسه، ٥٨.
(١٣٠) نفسه، ٦٦-٦٧.
(١٣١) أنا الشعب، ٧٢.
(١٣٢) المصدر السابق، ١٥٦.
(١٣٣) عباس خضر، أنا الشعب، القصة، العدد ٧٤.
(١٣٤) عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ١٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥