لعل الشخصية الأساسية التي عنيت بها روايات القرن الثامن عشر هي «الوصولي». الشخص
الذي يصل إلى هدفه أو أهدافه، بوسائل يصعب تبريرها أخلاقيًّا. نحن نتعرف إلى تلك
الشخصية — على سبيل المثال — في أعمال فيلدنج ولوساج وماريفو. ليس ثمة فرد — كما يقول
كارلايل — يُوَلد بدون طموح، وقد تصبح الوصولية وسيلة لتحقيق ذلك الطموح، وهو ما فطن
إليه
حمادة بك (على جانب الحكومة)، فالعمل وحده لا يؤهل للترقي، ولكي يضمن المرء ذلك، لا بد
أن يكون على اتصالٍ وثيق بالرؤساء.
٢ ويقول الفنان (المحفظة) إن الترقي في الوظائف الحكومية كان مقصورًا على فئة
تصطنع الملق والزلفى، أو تمت إلى ذوي الحل والعقد بصلات القرابة أو النسب أو صلات
أخرى.
٣ وظني أن حسنين كامل علي ومحجوب عبد الدايم ويوسف عبد الحميد السويفي وعيسى
الدباغ، كل هؤلاء وغيرهم هم جورج دوروا بطل قصة «صديقي الجميل»
Bel
Ami لموباسان (١٨٨٥م)، ذلك الذي استطاع أن يشق طريقه بوصولية جافة
قاسية لا ترحم، حتى حقق لنفسه ما أراد، وإن لم يحققوا جميعًا ما أرادوا. إن كلًّا منهم
يخضع لتعريف علماء الاجتماع بأنه «الوصولي الذي يرتفع في سُلَّم المجتمع.» كان التلويح
لفؤاد الحمزاوي بالوظيفة العالية، ولهفته عليها بأي ثمن، عاملًا في إهمال كل التعهدات
التي أخذها على نفسه حين بدأ الخدمة في البوليس، فضرب وطارد واعتقل، وكشف عن خبيئة نفسه
كوصولي.
٤ أما حسنين كامل علي (بداية ونهاية) فقد تخلى عن أسرته لأنها لم تكن تملك من
أجله شيئًا، بالإضافة إلى أنها قد تشكِّل عقبة في تحقيق ميكافيليته. لم يكن حسنين يستطيع
شيئًا دون معونة أسرته. اتجه بالسخط إلى الشقيقة الخياطة والشقيق البلطجي، لكنه لم يجد
حرجًا في أن يمد يده إليهما؛ ليعاوناه في رحلة الصعود. كذلك فقد قطع حسنين دربًا
مغايرًا للدرب الذي قطعه محجوب. أعطى حسنين ظهره لخطيبته بهية، أملًا في الاقتران بابنة
البك، لكنه ظل على علاقة بأسرته يحاول أن يأخذها معه في رحلة الصعود إلى أعلى، وهو —
في
النهاية — قد أسلم نفسه للموت لما اكتشف استحالة ذلك، بعد مطاردة الشرطة لحسن، والقبض
على نفيسة في البيت المشبوه. أما محجوب (القاهرة الجديدة) فقد قطع علاقته بأسرته نتيجة
لانغماسه في حياة العفن حتى الأذنين. وكان ذلك هو موقف الرفض الوحيد في حياته فلم تكن
«طظ» سوى واجهة لحياة تطمح إلى الصعود دون أن تعرف معنى الرفض؛ ثمة سخط يُرضي عن كل شيء
ما دام يحقق له مطامحه. أما حسنين فهو يسخط ويرفض في آنٍ، يسخط على حياة أسرته في شبرا،
ويضطرها إلى الانتقال لمصر الجديدة، ويرفض استمرار خطبته لبهية، كما يرفض — لولا إصرار
أمه — أن تعمل نفيسة في الخياطة … إلخ، وإذا كانت السياسة — لفترات طالت أو قصرت — هم
حسنين
كامل علي حين خرج مع شباب ١٩٣٥م يهتف ضد هور ابن الطور، وعيسى الدباغ (السمان والخريف)
الذي شهد الحرم الجامعي — فترة الدراسة — مناقشاته المتحمسة للقضية، ثم انضمامه إلى حزب
الوفد ليصبح — فيما بعد — من أبرز قياداته الشابة، فإن محجوب عبد الدايم كان يواجه
مناقشات السياسة بكلمة واحدة هي: طظ. ولم تكن السياسة تعني عند رضوان ياسين سوى تحقيق
الذات بكل الوسائل المتاحة، وبصرف النظر عن أخلاقيتها أو مشروعيتها. وهو ما أقدم عليه
شرارة النحال (المرايا) الذي قفز — بمواهبه الجسدية — من عامل تليفون إلى الدرجة السابعة،
وواصل الترقي.
٥ ولأن الاعتماد على «الجمال» وحده خاصية تفقد قيمتها سريعًا بالتقدم في
العمر، فقد حصل شرارة النحال — من منازلهم — على شهادة الكفاءة، فالبكالوريا، ثم ليسانس
الحقوق. أما يوسف عبد الحميد السويفي، فقد كان مجرد شاهد على الأحداث السياسية، وعندما
فرض عليه عمله الصحفي أن يشتغل بها، فقد كان ذلك باعتباره صحفيًّا، وليس رجل سياسة.
ولعله من المهم أن نشير إلى أن شخصية يوسف عبد الحميد السويفي، الصحفي الوصولي، تجد
شبيهًا لها في شخصيات أخرى، مثل محمد ناجي (الرجل الذي فقد ظله) ورءوف علوان (اللص
والكلاب) … وغيرها. ليس ثمة شخصية صحفية تخلو من نزعة وصولية، فيما عدا أحمد بدير
(القاهرة الجديدة) الذي اتخذ موقفًا محايدًا، فلا يعنيه سوى الرصد والتسجيل، وهو موقف
لا يخلو من سلبية تستوجب المؤاخذة. ومرد النزعة الوصولية في تلك الشخصيات أن الصحافة
— على نحو ما — تعبير عن السلطة، التي يمكن لمن يمتلكها أن يحقق كل ما يهدف إليه من
تطلعات ومغانم شخصية، فضلًا عن أن الصحافة تُعَد صورة مصغَّرة للتفسخ الاجتماعي
آنذاك.
والملاحَظ أن نشأة يوسف عبد الحميد السويفي ورضوان ياسين وحسنين كامل علي وعيسى
الدباغ، لم تختلف عن نشأة الآلاف من شبان الطبقة الوسطى، بل إن إمكانية تعلم محجوب عبد
الدايم إلى نهاية المرحلة الجامعية — رغم فقر أسرته — يهبه الحق في الوقوف تحت مظلة
الطبقة الوسطى. لكن الحدث المفاجئ يحرك استعدادًا فطريًّا للوصول — هو كذلك في كل
الحالات — وليس موروثًا! بصرف النظر عن الوسائل التي يسلكها. حتى انحراف رضوان ياسين
الجسدي لم يرافقه انحراف انتهازي أو وصولي، وإنما كانت تشغله هناءة اللحظة، بلا توقعات
أو طموحات حقيقية للمستقبل. وثمة وفاة الأب عند حسنين كامل علي ويوسف عبد الحميد
السويفي، وانفصال الأبوين عند رضوان ياسين، وشلل الأب عند محجوب عبد الدايم، وخروج عيسى
الدباغ من الوظيفة … إلخ.
الوصول بالعلم
كانت فرص التعليم — أمام الطبقات الأدنى — معدومة أو تكاد، وكان بعض الآباء يفضِّل
دفع
الغرامة بمقتضى قانون التعليم الإلزامي، بدلًا من إلحاق ابنه بالمدرسة، حتى لا يُحرَم
من
مساعدته له في الزراعة، أو في حرفة أخرى، وإن تعلل بعض الآباء — بصدق — بأنه لا يملك
ثمن
الجلباب الذي يستر به جسد ابنه ليمكنه إلحاقه بالمدرسة.
٨ وكانت فرص الحراك الاجتماعي — بواسطة التعليم العالي — شبه مستحيلة، فيما عدا
استثناءات، بيعت فيها القراريط القليلة أو البهائم، أو غيرها من الاحتياجات الأساسية
للأسرة. لم تكن المساواة الاجتماعية ممكنة، بسبب النفوذ العائلي شبه الإقطاعي، ومن ثَم
فقد لجأت بعض الأسر الفقيرة إلى محاولة التغلب على تلك العقبة بإرسال بعض أبنائها إلى
المدارس، ثم محاولة إكمال دراساتهم العليا ليتخرجوا محامين ومهندسين وأطباء، والإنفاق
على ذلك ببيع الأرض — أحيانًا — حتى يمكن العائلة أن تقف — من خلال بعض أفرادها — أمام
العائلات الأرفع مكانة. نظر الفلاح إلى التعليم من زاوية اقتصادية، فهو يستثمر تعليمهم
بعد التخرج، ومن ثَم فهو لا يجد عيبًا في بيع أو رهن أجزاء من أرضه للوفاء بمطالب تعليم
أبنائه. والقرية — في المقابل — لا تنظر إلى هذا التصرف كخطأ أو عيب؛ إنها
تحترمه.
٩ وكما يقول الراوي (السحر الأسود) «فهذه الفئة من الناس — الطبقة الدنيا — لا
تكف عن محاولة التسلق إلى أعلى، ثم أعلى، في سُلَّم المكانات الاجتماعية عن طريق تعليم
أبنائها.»
١٠ بل إن بعض الأسر الثرية اعتبرت التعليم والعمل من ضروريات
الفقراء.
١١
ولعل أخطر الآراء، وأسخفها، ما ذهب إليه البعض من الخوف أن يؤدي نشر التعليم بين
طبقات الشعب إلى إيجاد عدم رضا بالنظم الحاضرة، وأن «جهل الطبقات الفقيرة هو شرط الثبات
الاجتماعي ودعامته.»
١٢ لقد دلَّت نتائج الإحصائيات التي أجريت على قطاعات مختلفة في المجتمع المصري،
أن هناك ارتباطًا بين درجة التعليم ومستوى الدخل، وأن نوع المهنة يرتبط — إلى حد كبير
—
بمستوى التعليم، ومن ثَم، فإن مستوى التعليم يُعَد تحديدًا لا بأس به للمستوى الاجتماعي
والاقتصادي للأسرة.
١٣ وكما يقول الفنان (خط العتبة) «فمصر مجتمع الشهادات، يقاس الإنسان فيها
بالإجازات العلمية التي حصل عليها، بل بالدور الذي أدى فيه امتحانه النهائي الذي حصل
فيه على الشهادة، وبمقدار ما يحصل الإنسان على مؤهلات مدرسية، يحصل على مال، بغض النظر
عن كفايته في العمل، وحُسن أخلاقه ونفعه للناس، وقد بقي الناس يذكرون له حرمانه من
المؤهل، كأن ذلك الحرمان عاهة من العاهات.»
١٤ إن الدرجات العلمية تحدد — بصورة مؤكدة — الأوضاع الاجتماعية لقطاعات بأكملها
من المجتمع. والملاحَظ أن أكثرية طلبات الإعفاء من المصروفات كانت تقدَّم من الميسورين.
يكتفي أحدهم بالقول ضاحكًا: «ألا يكفينا هبوط أسعار القطن؟ ثم مزاح، فمداعبة،
فموافقة.»
١٥ وظلت مجانية التعليم مقصورة — أو تكاد — على أبناء الأغنياء، حتى إن جلال
أفندي نجيب (مفترق الطرق) الموظف والأب لستة أبناء، لم ترَ وزارة المعارف أنه يستحق —
بالسبعة عشر من الجنيهات التي تشكِّل مرتبه — إعفاء واحدٍ من أبنائه من المصاريف، فتغلب
الحسرة على تساؤله: متى إذن تجوز المجانية؟
١٦ وإذا كان غالبية الأفراد المصريين الطموحين قد أفادوا من القيمة الجديدة
التي أرسى قواعدها محمد علي، وهي التعليم، فإن محاولات صعودهم، ونجاحهم وإخفاقهم،
اتسمت — أحيانًا — بالفردية الخالصة، والأمثلة التي تحضرنا: رفاعة الطهطاوي وعبد الله
فكري وعلي مبارك.
١٧ وفي أعوام دراسة المحامي الكبير (الرجولة قبل كل شيء) في مدرسة الحقوق، كان
يسكن مندرة مظلمة بمنزل متواضع، يقع خلف قصر رفقي باشا. وبعد أن تخرج، وأصبح محاميًا
شهيرًا، استحق إجلال عائلة رفقي باشا، وفخرها بمصاهرته لها.
١٨ وإذا كان وارنر يذهب إلى أنه «من المستحيل — في بعض الحالات — أن ينتمي أي
فرد — تلقائيًّا — لطبقة معينة.»
١٩ فإن صلاح عيسى يرى أن ظهور العصامي — كنمط اجتماعي — كان سببًا في إحداث
هزة في نظرة المجتمع إلى قيمة الفرد، فأصبح «يقيسها بمقاييس نفع الفرد الاجتماعي، وليس
بمقاييس الوراثة والشرف التليد.»
٢٠ وكان التعليم هو الوسيلة التي قدَّر خالد (شجرة البؤس) أنها ستحقق لأبنائه ما
يرجوه لهم من مكانة في المجتمع، لم يدخر جهدًا ولا مالًا في تعليم الأبناء. ينصت إلى
نداء خفي يهمس له: انظر إلى رئيس المصلحة وقاضي المحكمة ومأمور المركز؛ فأما أحدهم
فيعلِّم ابنه ليكون قاضي، وأما الآخر فيريد لابنه أن يكون مهندسًا. فأي فرق بين أبنائكما
وأبناء هؤلاء الناس؟! ووضعت الأم (ليلة القمر) كل آمالها في ابنها، ورجت أن يحصل على
شهادة عليا، ليكون سندًا لها، وعونًا على صروف الأيام.
٢١ وظلت نصيحة الأم (أنا الشعب) لابنها أن يأخذ الشهادة العليا، ويكون رجلًا
محترمًا، وله أن يعمل بعد ذلك ما يشاء.
٢٢ كذلك كانت نصيحة صفوان أفندي لابنه صادق: «اجتهد، أبوك لا يملك شيئًا
ليتركه لك، فاجعل الشهادة وسيلتك إلى الوظيفة.»
٢٣ وقد نجح ابن الحاج رضوان (نحن لا نزرع الشوك) في حياته؛ لأنه دخل المدرسة،
نجح، وأصبح مدرسًا.
٢٤ واستطاع مختار (شمس الخريف) أن يغادر واقعه بالعلم، ليعوض نجاح ابنه كطبيبٍ،
كل المشاق التي عاناها. وإدراكًا من الشيخ حسن بالسُّبل التي يستطيع الإنسان من خلالها
أن
يحقق ذاته، فقد رأى أن يجعل الأرض من نصيب الابن الأكبر، والعلم من نصيب الابن
الأصغر.
٢٥ ولجأت الكثير من الفتيات إلى الحصول على شهادة، لتنال بها وظيفة تعطيها
عريسًا أفضل.
٢٦ ذلك ما كانت تؤمن به نوال الصغيرة (خان الخليلي)؛ لقد انضمت إلى قافلة
العلم «وليس العلم ما تنشد ولا المدرسة بالمأوى الذي يهفو إليه فؤادها؛ فأحلامها لا
تفارق البيت، ولن تزال تعد أمها أستاذتها الأولى تتلقَّى عنها فنون الحياة المنزلية من
طهي وحياكة وتطريز، وما رأت في العلم — يومًا — إلا زينة تحلي بها أنوثتها وحلية تغلي
من
مهرها، فتركزت حياتها في هدف واحد: القلب أو البيت أو الزواج.»
٢٧
ولعل أقسى ما كانت تتعرض له الطبقة الفقيرة — والمتوسطة أحيانًا — هو أن تحرم الأسرة
نفسها من الضروريات سنوات كثيرة، توصُّلًا إلى تحقيق مستقبل أحد أبنائها بالعلم، ومن
ثَم
تحقيق المستقبل الأفضل للأسرة جميعًا، لكن الابن — بعد تخرجه — يواجه مأساة البطالة،
ويصبح عالة على الأسرة، بدلًا من أن يكون عونًا لها، أو ينسلخ عن طبقته تمامًا. أما
القول بأن مَن «يترك طبقته يلقى حتفه ويفقد نصاعته وظهره إلى الأبد»
٢٨ فهو ينطوي على سذاجة بالغة، وإدانة متعسفة للآلاف من أبناء الفلاحين
الفقراء الذين انتزع لهم الأهل حق التعليم، حتى من لقمة العيش، فتخرجوا أطباء ومهندسين
ومحامين وموظفين، غادروا طبقتهم تلقائيًّا، بالفارق الاقتصادي والتعليمي، لكنهم لم
يغادروا بالضرورة نصاعتهم وطهرهم إلى الأبد، ولم يلقوا حتفهم! وكانت المكانة التي
حققها أفراد أسرة «الشارع الجديد» بواسطة التعليم؛ حيث ظلوا في التعليم إلى نهايته، فتغيرت
ظروفهم المادية والاجتماعية تمامًا. والملاحَظ أن التعليم هو الوسيلة التي حقق من
خلالها أبطال نجيب محفوظ انتقالهم إلى الطبقة الأعلى، وكان من المستحيل تحقيق ذلك، لو
لم ينالوا حظًّا متفوقًا من التعليم. وبمعنى أدق، فإن التعليم هو الأداة الوحيدة التي
لجأ إليها أبطال نجيب محفوظ في تحطيم صخرة التركيب الطبقي. وحين دخل فهمي (بين القصرين)
مدرسة الحقوق، رشحته خديجة لأن يتزوج فتاة تكون متعلمة وغنية وبنت بك، أو حتى بنت باشا؛
ذلك لأنه سيصبح قاضيًا في الأفق القريب.
الوصول بالمصاهرة
إن الكثير من وصوليي الأعمال الروائية يصعدون — أو يحاولون الصعود — إلى الطبقة الأعلى
على أكتاف — أو بمعاونة — أحد أبناء الجنس الآخر. وكما يقول الراوي (السراب) فإن الشاب
يتزوج من أسرة لا من فرد.
٣٦ وحين أراد الطبيب الناشئ الفقير (الطائشة) أن يصعد سُلَّم المجتمع دفعة واحدة،
وأن يصل إلى الجاه والثروة بوثبة واحدة، فإنه قرر أن يعتمد في نجاحه لا على نفسه، ولا
على جهاده، ولا على كفايته، بل على المرأة، فاقترن بابنة أحد كبار الموظفين الأثرياء؛
لأن إيرادها يزيد على العشرين جنيهًا في الشهر، ولأن أباها تعهد بأن يمدَّه بالمال كي
ينشئ في بيته عيادة فخمة يستقبل فيها المرضى من أرقى الطبقات.
٣٧ وكان فؤاد (أزهار) زعيم الطلبة في مدرسة المنيا، وكان هو الذي يقود
المظاهرات، ويقذف البوليس بالحجارة، ثم أصبح ضابط شرطة. لقد حدد فؤاد طريقه: «فلا بد
من
الوصول إلى المراكز العالية، والعالية جدًّا، ولا سبيل لذلك إلا أن يدع جانبًا هذه
الأوهام الريفية، وأن يتحلى بأخلاق المجتمع الجديد، مجتمع الكبار والحكام، حيث الوصول
والنجاح بأي ثمن هو الفضيلة التي لا تعدلها فضيلة.»
٣٨ اعتبر فؤاد كل القيم التي عاش عليها في الماضي منكرًا بغيضًا، يجب أن يكفِّر
عنه بفعل المحرمات في الدنيا، باعتبارها مفتاح السعادة والنجاح.
٣٩ وأصبح فؤاد في نظر صديقه محيي أسوأ نموذج للشباب الوصولي الذي باع
ضميره.
٤٠ وتواجه أزهار صديقها فؤاد بالقول: «لا تحاول يا فؤاد أن تخدعني وتخدع نفسك،
أفتحسب أنني لم أشعر بالتبدل الذي طرأ عليك منذ بدأت صلتك بهذا الباشا؟ لقد أصبحت تنقم
على كل شيء في هذا البيت الذي كنتَ سعيدًا به، وتعتبره جنة الله في الأرض، أنسيتَ أحاديثك
عن حياتنا، وكيف بدأت تصفها بالفقر والضنك، مع أننا كنا سعداء عندما لم يكن راتبك إلا
جنيهات قليلة، فكيف يكون ضنكًا وقد تحوَّل الراتب إلى عشرات الجنيهات؟! لا يا فؤاد، إنك
لم تعد فؤاد المجاهد المكافح، لقد أدارت رأسك الترقية تعقبها الترقية، لقد اشتعل طموحك
ولم تعد تعرف أين تقف.»
٤١ ولما غادرت أزهار فؤاد، بكى، لكنها كانت دموعًا حلوة يمليها الأمل في أن
يصبح زوجًا لميرفت ابنة الباشا!
٤٢ وحين ترافع فوزي السيد عن فؤاد — بعد أن قتل زوجته — أعاد مأساته إلى الطبقة
الحاكمة التي صاهرها فؤاد. يقول في مرافعته: «فإذا قلتم عن فؤاد إنه سكير عربيد أدمن
الخمر، فقد وصل إلى ذلك بفعلكم، وإذا تحوَّل إلى لاعب قمار محترف فإنما كان يلعب بورقكم،
وبمالكم، وفي قصركم. وإذا تمرغ في حمأة الرذيلة فعلى فراشكم، وبحكم تقاليدكم. وإذا
انتهى به المطاف إلى أن يصبح قاتلًا، فليس ذلك سوى جني زرعكم، فإذا بكيتم — أو بالأحرى
تباكيتم — على الجمال الجسدي الذي ذوى، فابكوا قبل ذلك على جمالنا الروحي الذي خبا.
اضربوا بشدة على اليد الآثمة المجرمة، ولكن ابحثوا عنها في غير صفوفنا، فقد كنا نحن أول
ضحايا هذه اليد المجرمة، يد البطالة والفراغ، يد الثراء والغنى الفاحش، يد السلطة
المطلقة التي لا تعبأ بقانون أو عُرف أو تقليد أو دين.»
٤٣ وحين فاضل سليم باشا طويلًا بين ابنة محفوظ باشا، وابنة عبد الستار باشا،
فإنه اختار الأولى زوجة لابنه؛ لأن أباها ألمع من أبي الثانية، وكان يريد لابنه زوجة
يشرفه أبوها إذا ما وقف إلى جواره في المناسبات، ابنة باشا له وزنه في الحياة
الاجتماعية.
٤٤ وقد وصل المدير العام (حضرة المحترم) إلى منصبه، بفضل اشتغاله بالعمل
السياسي، ومصاهرته لأسرة ذات شأن. أما الوكيل الأول للإدارة، فقد ترقَّى بفضل أسرة
زوجته.
٤٥ ولأن خليل أفندي (عريس الغفلة) أحسن اختيار زوجه، فهي ابنة رئيسه في العمل،
فقد زاد مرتبه ثلاثة أضعاف، ونُقِل إلى وظيفة مرموقة.
٤٦ ولعل فسخ يوسف السويفي لخطبته من سامية حتى لا يعوقه زواجه عما يتطلع إليه
من مجد وثروة، يجد تطابقًا له في فسخ حسنين كامل لخطبته من بهية ابنة الجيران، تطلعًا
للزواج من ابنة يسري بك التي ربما تفيده في رحلة الصعود. وعندما تكون للرجل المهم فتاة
في سن الزواج، فإنها تصبح «جسرًا ممهدًا لوظيفة محترمة.»
٤٧ وتزوج معتز (الحل والربط) من ابنة الباشا وكيل الوزارة، رغم أنها قد تكبره
في العمر، ولم تخلف له ولدًا؛ لأن والدها يسَّر له أرفع المناصب التي جنى منها خيرًا
وفيرًا.
٤٨ وعندما خطب فؤاد (رجال ونساء ذلك الزمان) ابنة وكيل الوزارة، قال صديقه إنه
خطب طبقة يسعى لأن ينتمي إليها.
٤٩ وكانت وصولية يسري (ثم تشرق الشمس) هي دافعه للتفكير في الزواج من فايزة
الصماء ابنة عزت باشا «ماذا عليه لو تزوجها، وعاش في هذا القصر خلت حياته من الفقر،
وفرغ إلى الغنى والبلهنية، الوحيد الذي سيدرك الدوافع التي حدت به إلى هذا الزواج هو
خيري، بل وقد تدركها أمه أيضًا، ولكن ماذا عليه أن أدركا؟ ومنذ متى أقام لرأيهما أو
إدراكهما وزنًا؟! إنها حياته، وإنها فرصته، وما كان ليتركها.»
٥٠ وثمة بيومي الشربتلي (السكرية) الذي خدع امرأة، وأصبح مالك أحدث عمارة في
الحي.
٥١ ومع أن كمال عبد الجواد (قصر الشوق) رفض التصور بالتفاوت الطبقي الحاد بين
طبقات المجتمع، فإنه لم يمنع نفسه من التعليق بما يشي بإحساس الطبقية في داخله، عندما
استفزته وصولية فؤاد الحمزاوي الذي قرر في بساطة طرد فكرة الزواج حتى يرقى قاضيًا،
فيصاهر أحد الوزراء. قال كمال في سرِّه: «يا ابن جميل الحمزاوي! عروس من صلب وزير،
وحماتها من الميضة!»
٥٢
الرجل الذي فقد ظله
إن الفرد الذي ينسلخ عن طبقته — بأساليب ملتوية — يفقد هويته، ويتردى في هاوية الضياع.
هذا هو المعنى الذي يعبِّر عنه نجيب محفوظ في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية»، وهو
المعنى
الذي يعبِّر عنه فتحي غانم في «الرجل الذي فقد ظله».
الرواية محاولة جادة للبحث في جذور الوصولية في مجتمعنا، وبؤرة هذه المحاولة هي
الصحفي الشاب يوسف عبد الحميد السويفي الذي نرقبه وهو يصعد سُلَّم الوصولية منذ أن كان
تلميذًا صغيرًا، وأعانه على الصعود إلى درجة من السلم — بعد أن أُلقي من حالق — أكثر
من
شخصية: مبروكة وسامية ومحمد ناجي، وشخصيات أخرى «أستطيع أن أفعل ما أريد، أنا قادر قوي،
أمرت محمد أن يموت فمات.» يوسف عبد الحميد السويفي مَثل لكل الوصوليين، فلا عقيدة سياسية
أو دينية، ولا محاذير من أي نوع: «قد أكون سافلًا، قد أكون يائسًا، ولكني أريد أن أعيش،
لا بد أن أعيش مثل الآخرين.»
٦٨
•••
ولعله يجدر بنا أن نعرض لتلك اللحظات التي بدأ فيها يوسف السويفي يضع قدمَين ثابتتين
في أرض الوصولية، فهو يطلب لقاء محمد ناجي رئيس تحرير الأيام، «وبعد لحظات كنت أطرق
بابًا وسكرتيرة تفتح لي بابًا آخر، فأدخل حجرة واسعة فخمة، وأرى محمد ناجي بقامته
الطويلة، ووجهه الهادئ، وسيجارته في فمه، يقف في منتصف الحجرة، ابتسم ابتسامة شاحبة
وقال في برود: حريقة إيه يا أستاذ؟
– الأوبرا بتتحرق.
– دلوقت؟
– أنا لسة جاي من هناك.
كان ينظر إليَّ في حذر، كأنه لم يرني من قبل، فأسرعت أقول: أنا كنت جاي أقول لشوقي،
حضرتك شفتني مرة معاه في مكتبه، مالقيتوش، فقلت أتصل بحضرتك.
حدق في وجهي، وابتسم، تذكرني، سألني وهو يوليني ظهره ليدق أحد أجراس مكتبه: إيه اللي
شفته؟
٦٩ وبعد أن روى له ما شاهده، سأله محمد ناجي وهو يتأمله: «بتشتغل
محامي؟
– أيوه.
– ما فكرتش تشتغل بالصحافة ليه؟»
٧٠
كان يوسف يحصل على أخباره بأسلوبٍ يتفق مع شخصيته: «آه لو علم محمد ناجي كيف كنت
أحصل
على أخباري. إني لا أعرف أحدًا في هذه الدنيا سوى أبي والمقهى الذي يجلس فيه، وسعد
وشوقي، ومع ذلك استطعت — من خلال هذه الدائرة المحدودة — أن أوهِم محمد ناجي أن صلاتي
ضخمة
لا حدود لها.»
٧١
حتى الجنس كان يوسف يهدف — من خلال تحقيقه — إلى الانتصار على المرأة، وأن يعاملها
بلا
زواج، بلا هدف، سوى أن يشعر بأنانيته، وبقدرته على أن يبهرها ويسيطر عليها، ويجعلها
«كيف أنتصر على الحياة إذا لم أنتصر على امرأة؟»
٧٢
لقد ذهب يوسف السويفي إلى لقائه الأول مع شهدي باشا، وفي ذهنه حوار قرأه في مسرحية
«ماجور بربارا» لبرناردشو، بين شاب لقيط ومليونير. وكان الشاب يحاول أن يؤكد للمليونير
أنه أصلح الناس لإدارة أعماله، لأنه بلا خُلق، ولا يعرف العاطفة. واقتنع المليونير
بالشاب فعلًا، وعهد إليه بإدارة أعماله، وحرم ابنه الشرعي؛ لأنه يقيم معاملاته على أسسٍ
أخلاقية. وسأله شهدي باشا: أنت عايز حديث؟
– أيوه.
– تعرف تكتبه؟
– أظن كده.
– اشتغلت هناك إزاي؟
– ضحكت على ناجي بك.
– ضحكت عليه إزاي؟
– فهمته إني غني، وليَّ اتصالات اجتماعية واسعة، فصدقني، شغلني، وبعدين أثبت له إني
باشتغل كويس.»
٧٣
بدأ الباشا يحرك يوسف كأنه لعبة، وقال له يومًا: «أنا عايزك تتخانق مع محمد.
– أتخانق؟
– اتخانق … اشتمه … خلي كل واحد في الجرنال يعرف إنك شتمته.
– حاضر.
– أنا حاعتمد عليك، وح تكون مسئول أمامي عن الجرنال.
ويقول يوسف لنفسه: «ما أسهل الوصول! ما أغرب الوصول! كل ما هو مطلوب مني هو أن أقتحم
مكتب محمد ناجي وأشتمه بأعلى صوتي، وأدوسه بقدمي، أظهر أمام المحررين بأني شجاع وجريء
وصاحب نفوذ، أهذا ممكن؟ مستحيل، لا فرق بيني وبين أي قاتل محترف يستأجرونه للقتل، ما
الذي يعده شهدي باشا لمحمد ناجي؟ يريد أن يذلَّه، يريد أن ينتقم منه، وأنا السلاح، أنا
مخلب القط، هل أجرؤ؟!»
٧٥
ثم واجه محمد ناجي المأزق نفسه الذي واجهه الإخشيدي (القاهرة الجديدة) فكلاهما قد
اختار شابًّا طحنه الفقر، وعانق اليأس، حتى يسهل أن يسيطر عليه، ويستغل ضعفه. فإذا كبر
لا يخشاه، فيظل ذليلًا إلى الأبد، لعبة صنعها، ويحركها كما شاء … لكن اللعبة تتحرك
بإرادتها، وتتمرد على خالقها؛ تلك هي لعبة الوصولية!
ويعبِّر شوقي عن وصولية يوسف بقوله: «باشك دايمًا في الناس الطيبين اللي بيستفيدوا
من
طيبتهم.»
٧٦
•••
يقول محمد ناجي عن نفسه: «أنا أستاذ الوصول.»
٧٧
محمد ناجي يعتز بأنه حارب كل لحظة من عمره ليكون ممتازًا ومتفوقًا، ونجح، وتفوق.
ويعترف في صراحة: «لم أحب أحدًا، لم أصادق أحدًا، صرعتهم جميعًا، ما أسهل
خداعهم!»
٧٨ من هنا كانت سعادة شهدي باشا البالغة، لتصوره أن يوسف يأخذ سامية من محمد
ناجي؛ ذلك ما فعله محمد ناجي في زوجة الباشا، أخذها منه، الباشا يريد أن ينتقم.
٧٩ ويصارح الباشا يوسف بالفعل بسبب تحريضه له على محمد ناجي «لأنه عشيق زوجته.»
٨٠
وفي صراحة مخيفة، يحدد محمد ناجي طبيعة الصراع بينه وبين يوسف: «طبعًا أنت عارف الوضع
اللي بيننا إحنا الاتنين، أنت عايز تقعد وتبقى رئيس التحرير، وشهدي باشا وراك، عايز
يعملك رئيس تحرير … وطبعًا أنا من ناحيتي عايز أفضل مكاني، بأدافع عن نفسي، ويمكن لو
فكرت أقول لنفسي إن ما فيش عندي فرصة أحسن من الفرصة دي، إنك تتجوز سامية سامي — عشيقة
شهدي باشا — بعد جوازك ح أقدر أطعنك، أطعنك من ألف ناحية.»
٨١ ويدق محمد ناجي بيده على مكتبه ويقول: «يوسف عايز العرش ده … عايز يقعد
هنا!»
٨٢
لقد تنبَّأ محمد ناجي — وهو يشهد نهايته — بأنها ستكون النهاية نفسها التي سيشهدها
تلميذه
يوسف عبد الحميد يوسف وغيره من تلاميذ الوصولية: «لا أحد يواصل الصعود، كل من وصل إلى
فوق لا بد أن يتدحرج إلى تحت.»
٨٣
وفي حوار مع الفنان قال: «أردت أن أقول إن الوصولية تأكل نفسها، وإن محمد ناجي هو
نهاية يوسف موضوعة أمام عينيه، فمهما وصل الشخص إلى المجد والشهرة بطرق وصولية، فلا بد
أن يأتي وصوليٌّ جديدٌ بطرقٍ جديدة يقضي بها عليه. والحقيقة أن محمد ناجي هو امتداد ليوسف
مكي بطل قصة «من أين»، كما كان يوسف مكي امتدادًا لشخصية العمدة في رواية «الجبل». وقد
اكتشفت أنني كررت هذه الشخصيات عندما وجدت أن محمد ناجي — في لحظة انهياره — قد قتل
كلبًا، وأن يوسف مكي — في وقت انهياره — قد قتل فأرًا.»
٨٤
•••
والملاحَظ أن وصوليي الأعمال الروائية يتفقون جميعًا في عشق المظهرية، رضوان في جنازة
جده، يذكِّرنا بحسنين كامل علي في جنازة أبيه، وإن اختلفت المشاعر تمامًا. كان رضوان
(السكرية) مزهوًّا بالمشيعين حتى كاد يغطي زهوه على حزنه.
٨٥ وكانت المظهرية هي شغل حسنين (بداية ونهاية) الشاغل حتى من قبل وفاة الأب
والعائل، وهي مظهرية تهدف إلى تحقيق الذات، والصعود — بالكذب أحيانًا، وبخداع النفس
أحيانًا — إلى الطبقة الأعلى. فهو — كما أشرنا — لا ينشغل عن الحزن على والده بمظهر
الجنازة، ويغتم كثيرًا؛ لأن الراحل دفن في مقبرة بالعراء كأنها من مقابر الصدقة، ويثور
على اشتغال نفيسة بالخياطة، ويكذب على زملائه في المدرسة، ويقول إنه من حسن الحظ أن
تركتنا عقارًا، فليست أراضي زراعية تيسر سُبُل الخداع للوصي. ومع علمه بمصدر المساعدة
التي
أمده بها حسن ليدفع أقساط الكلية الحربية فإنه لم يفتح فمه، ويطلب من حسن ترك حياة
الرذيلة إلا بعد أن يتخرج، ويصبح ضابطًا، يخشى على سمعته. ثم إنه يتخلى — في بساطة —
عن
الفتاة التي خطبها لما تبين له أنها لن تليق بمركزه الاجتماعي. ورغم افتتان حسنين
بالمظاهر، فإنه لم يتردد في محاولة تقبيل يد أحمد بك يسري، بعد أن وعده بالسعي لإلحاقه
بالكلية الحربية.
٨٦ وهو ما فعله محجوب عبد الدايم حين وقف موقف الذل بين يدي سالم
الإخشيدي.
•••
لعله مما يأخذنا في تمرد شخوص الروايات الإنجليزية أنهم يمارسون تمردهم من موقع
«البطولة»، رغم أن المجتمع يقف لهم بالمرصاد، ويسعى إلى إخضاعهم إن هم حاولوا الفكاك
منه، أو الخروج عليه. يتحلى هؤلاء «المتمردون» بميزات تجعل تمردهم على مجتمعهم محبَّبًا
إلى النفس؛ لأن نضالهم الفردي يعبِّر عن نضال طبقة بأكملها. أما الشخصيات الروائية
المصرية التي تقوم برحلة الصعود إلى الطبقة الأعلى، فهي تترك — في الأغلب — انطباعًا
سيئًا؛ لأنها تحارب من أجل قضية فردية، هي — في معظم الأحيان — قضية فاسدة. ومن ثَم،
فإن
فقد يوسف عبد الحميد السويفي لنفسه — أو لظله على حد تعبير الفنان — وانتحار حسنين كامل
علي، وافتضاح محجوب عبد الدايم، وكل النهايات القاسية التي بلغها وصوليو الأعمال
الروائية المصرية، لا تترك في النفس إحساسًا بالتعاطف. إن انتحار حسنين تعبير بالغ
الدلالة عن موقف الرفض الساخط الذي اتخذه شعارًا لحياته، فقد أسلم نفسه للموت حين اكتشف
الحقيقة الأليمة التي تنتظره في طريق الصعود، من تحوُّل نفيسة إلى بغي، وحسن إلى تاجر
مخدرات تطارده الشرطة، لم يستطع أن يفصل حياته عن حياة أفراد أسرته، فانتحر. أما محجوب
فقد زيَّن له سخطه الراضي حياة الهوان والانحطاط المعنوي في سبيل تحقيق ميكافيليته، أهمل
أسرته، وقطع صلته بها تمامًا، ورضي بأن يصبح زوجًا لعشيقة الوزير الذي يعمل سكرتيرًا
لمكتبه. و«القاهرة الجديدة» تنتهي نهاية مفتوحة، فنحن لا نعلم ما الخطوة التالية التي
قام بها
بعد أن انكشفت حياته لوالده، ولزوج الباشا. وأغلب الظن أنه واصل حياته: أليست «طظ» هي
شعاره؟ ومتى كان عليه أن يعبأ باحترام الناس أو احتقارهم؟ وهو ما دام قد ارتضى أن يقطع
صلته بأسرته تمامًا، فماذا عليه لو أن هذه الأسرة قد علمت بما انتهت إليه
حياته؟
وعلى الرغم من حرص حسنين المعلَن على كبريائه، فإنه لم يتردد في محاولة تقبيل يد
أحمد
بك يسري، ومع أن محجوب كان قد تخلَّى عن كل مبدأ، فإنه اختلق كذبة لانتقاله من بيت
الطلبة حتى لا يَذل كبرياءه.
٨٧ بل إنه رغم ثقته بأنه لو سأل زملاءه أن يُطعِموه ما تأخروا، لكن كبرياءه رفضت
ذلك، وعنَّف نفسه: «متى يصير رجلًا حقًّا؟ متى يفرِّط في كرامته وعرضه كأنه ينفض ترابًا
عن حذائه؟»
٨٨ وعلى الرغم من قول سعد عبد الجواد: «أنا باروح أقف مكان أخويا في الدكان،
وأبيع بقرش زتون وبقرش جبنة رومي وبقرش سبرتو، بالبس الجلابية والقبقاب علشان أجيب فلوس
آخر النهار أوكِّل بيهم أمي وأخواتي البنات، كلهم مجوَّعين نفسهم عشان أتعلم، أنا لازم
أطلع الأول، وإلا أموت نفسي عشان آخد المجانية.»
٨٩ على الرغم من ذلك، فإن سعد عبد الجواد وصولي، سار مع الشيوعيين؛ لأنه فقير،
فلما انفتح المجال أمامه ليصبح غنيًّا، هجر الشيوعية، ولم يفكر إلا في نفسه.
٩٠
واللافت في غالبية المحاولات التي تبحث في أصول الانتهازية، أنها تدور بين طرفَين:
باشا أو وزير من ناحية، وشاب من الطبقة الوسطى الصغيرة من ناحية ثانية. الشاب يريد أن
يحقق لنفسه شيئًا بأية وسيلة، مثل محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) الذي أصبح مديرًا
لمكتب الوزير بينما زوجته تضاجع الوزير في فراش الزوجية، ورضوان ياسين (السكرية) الذي
أتاح له الباشا فرصة تحقيق مواهبه الجسدية، ويوسف عبد الحميد السويفي (الرجل الذي فقد
ظله) وانتصار الباشا له ضد محمد ناجي، وغيرها. وكان كلٌّ من رضوان ياسين ومحجوب عبد
الدايم ضحية ظروفه الأسرية؛ محجوب ضحية الفقر ومرض الأبوين، ورضوان ضحية انفصال
الأبوين. وإذا كان رضوان ياسين قد تنازل عن شرفه ممثلًا في جسده، في عفَّته الشخصية،
فإن
محجوب عبد الدايم تنازل عن شرفه ممثَّلًا في جسد زوجته، اقترن بها لتكون عشيقة
للآخرين.
ويثور السؤال: هل فقدت فتحية ما فقدت تأكيدًا لإخفاقها في محاولة الصعود إلى أعلى؟
هل
كانت محاولة الصعود هي الباعث لكي تواجه المصير نفسه الذي واجهه حسنين كامل علي في
«بداية ونهاية»، ومحجوب عبد الدايم في «القاهرة الجديدة»، وحميدة في «زقاق المدق»،
وغيرهم؟
•••
وكان المظهر الاجتماعي هو منطلق محجوب عبد الدايم وحسنين كامل علي إلى الحياة التي
يريدها، من هنا جاء البحث عن المركز المناسب، والزوجة المناسبة، والسكن المناسب،
والطبقة الاجتماعية المناسبة. حسنين — مثلًا — يتخلى، بعد تخرجه في الكلية الحربية، عن
بهية التي لم تعُد تناسب وضعه الاجتماعي الجديد، ويطمح للزواج من ابنة يسري بك، ليركب
الطبقة التي تنتمي إليها، ثم يصر على أن تهجر نفيسة الخياطة، وأن تهجر الأسرة شبرا
جميعًا، لتحيا في وضعٍ اجتماعي جديد في مصر الجديدة.
لقد وجد محجوب عبد الدايم امتدادات له حتى الستينيات، وربما ستظل هذا الامتدادات
موجودة إلى غير نهاية. إن سرحان البحيري في «ميرامار» هو محجوب عبد الدايم وحسنين كامل
علي ويوسف عبد الحميد يوسف وغيرهم، سواء تعرَّوا تمامًا، أو تخفَّوا وراء بعض الشعارات
الزائفة. وفي رأيي أن محجوب عبد الدايم لو فسَّر «طظ» لما خرجت عن شعار سرحان البحيري
«حدِّثني عن الحاضر من فضلك، وخبِّرني عن معنى الحياة بلا فيلا وسيارة وامرأة!»
ومع اختلاف تفصيلات المصير الذي واجهه وصوليو الأعمال الأدبية، فإن إلحاحَ ما يصح
تسميته بالضمير فرض نفسه على النهاية. لم تكن النهاية التي واجهها محجوب عبد الدايم
حاسمة تمامًا؛ احتمالات العودة من أسوان، واستئناف رحلة الانتهازية، كانت قائمة. أما
حسنين كامل، فقد واجه حائطًا مسدودًا، تسلَّم نفيسة من قسم البوليس، بعد أن ضُبطَت في
بيت
للدعارة؛ ضاعت وضيعت مستقبله. الأدق: أنها ضيعته تمامًا، وكان الانتحار هو خياره
الوحيد، وليرحمنا الله! شغل محجوب عبد الدايم نفسه، من البداية إلى فضحه، ونقله إلى أسوان،
وحسنين كامل علي قرر الانتحار، ولعله أقدم عليه بالفعل. أما يوسف السويفي فقد ظل يعاني
عذابًا قاسيًا في ختام «الرجل الذي فقد ظله». إن الشر لا ينتصر حتى في نفوس أصحابه.
النهاية كذلك تكاد تكون واحدة، بدءًا بمحمد ناجي الذي تساءل وهو يشهد بنفسه «كيف حدث
ذلك مع أنني أستاذ الوصول»، إلى عيسى الدباغ الذي يشهد في لجان التطهير محاولة جادة
لاجتثاث جذور الوصولية، مرورًا بحسنين كامل علي ورضوان ياسين وفؤاد الحمزاوي ومحجوب عبد
الدايم والكونستابل فؤاد الذي يعترف في مرارة: «لقد تطلعت إلى فوق بأكثر مما ينبغي حتى
خلعت رقبتي من فرط التطلع!»
٩١ وغيرهم.
محمد ناجي يجد واقعه في كلبه «توني»، فهو يتساءل: ما الذي جعل هذا الكلب يعيش بعده
كل
هذه كل هذه السنوات؟ لقد مضت أيامه، الدنيا تغيرت، البلد ليست هي البلد، والناس ليسوا
هم الناس، وأنا لست أنا. ما الذي يبقيه، أهو شاهد من الماضي على تعاستي؟ لا أريد أن
أراه.
٩٢ وقرر أن يقتل الكلب، وأطلق عليه رصاصة، فارتفع الكلب في الهواء، وقفز قفزة
صغيرة، وهوى على الأرض، ثم حاول أن ينهض «إنه لا يريد أن يموت، العجوز، القذر، لماذا
يقاوم الموت؟»
٩٣ الكلمات نفسها تقريبًا، يتحدث بها عن نفسه: «لم يبقَ لي شيء، أنا مطرود من
بلادي، من عملي، لا فائدة مني، عجوز لا قيمة له.»
٩٤ ثم يلخص مأساة الوصولية جميعًا في قوله: «لا أحد يواصل الصعود، كل من وصل
إلى فوق لا بد أن يتدحرج إلى تحت.»
٩٥
•••
والحق أن الوصولية لم تكن هي وحدها واقع المجتمع المصري في تلك الفترة، ولا هي
التعبير الوحيد عن الحراك الاجتماعي، إن يوسف السويفي وحسنين كامل علي ومحجوب عبد
الدايم وغيرهم، إنما هم — فنيًّا — أبناء شرعيون لجورج دوروا
Duroy بطل قصة موباسان «صديقي الجميل»
Bel Ami ١٨٨٥م، الذي كان تجسيدًا لوصوليي الحياة الصحفية والسياسية في فرنسا آنذاك. وهم — اجتماعيًّا
— أبناء شرعيون للتفسخ الذي كان
يحياه المجتمع المصري في الثلاثينيات، بتأثير الأزمة الاقتصادية من ناحية، وبتأثير
التناحر الحزبي من ناحية أخرى، وبتأثير الفوارق الطبقية التي بدأت تأخذ شكل الهوات
الواسعة.
وفي المسار الموازي، كان ثمة تيار ثوري عانى لفترة طويلة من خفوت الصوت، لكنه حرص
على
تعهد بذور الثورة حتى نمت، وطرحت ثمارها فيما بعد. ويعبِّر نجيب محفوظ عن ذلك بقوله إن
المجتمع الذي كان الكاتب يتابعه لم تكن شخصياته الأساسية من الثوريين، ولكن من الممزقين
والانتهازيين، وهم الذين أراد بتحليلهم، الوصول — قدر الإمكان — إلى فهم الأزمة. ثمة
الآلاف من الشباب المصري كانوا يرون — بعينَي السخط والأسف — تكالب الأحزاب على اقتسام
غنيمة وهمية، بينما الاستعمار يسيطر على كل شيء. ويُعَد علي طه (القاهرة الجديدة)
امتدادًا أكثر إيجابية لشخصية حسين كامل علي (بداية ونهاية). إنه لا يكتفي بترديد آرائه
الساخطة الحزينة، لكنه يحاول أن ينشر الأفكار الاشتراكية، وأن يقضي على مظاهر الفساد
الطبقي. وينجح جهاز الدولة — بإداراته وأجهزته وموظفيه — أن يقضي على كل مجهودات علي
طه،
وأن يبدِّدها تمامًا. حاق الدمار بجسد علي طه، ولحقه التشويه على أيدي القوى السوداء،
لكنَّ
أفكاره ظلَّت باقية، أملًا للجيل التالي، وتمثَّل ذلك الأمل في شخصية أحمد شوكت (السكرية)
الذي أعلن — ببساطة — أنه من الخطأ الكبير أن يكون للإنسان والدان:
– كيف هان عليك أن تقول ذلك؟
– لا أعني حرفيته … ولكن ما يرمز إليه الوالدان من تقاليد الماضي؛ فالأبوة على وجه
العموم فرملة، ما حاجتنا في مصر إلى الفرامل ونحن نسير بأرجل مكبَّلة
بالأغلال؟!
٩٦ وعمومًا، فإن الثوريين — على حد تعبير محفوظ — كانوا جميعًا من صغار
البرجوازيين الذين تلقَّوا مبادئ الثورة عن طريق الثقافة العقلية لا المعاناة
الطبقية.