ظواهر في المجتمع

تُعَد الأزمة الاقتصادية العالمية أهم الأحداث التي واجهت المجتمع المصري بعد ثورة ١٩١٩م. بدأت بوادرها تظهر في الأفق منذ ١٩٢٨م، ثم كان انهيار سوق المال في وول ستريت بأمريكا عام ١٩٢٩م منطلقًا لتجسيد الأزمة التي بلغت ذروة ممتدة من ١٩٣٠م إلى ١٩٣٤م. ووقعت جميع دول العالم — باستثناء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية — تحت تأثير تلك الأزمة، التي تمثَّلت في ظواهر ثلاث: زيادة الكساد، تراكم الإنتاج، انتشار البطالة. ولأن مصر كانت تعتمد — بصورة أساسية — على تصدير أقطانها إلى الخارج، فقد عانى المجتمع المصري، والطبقة الوسطى بالذات، ويلاتها. تفشَّت البطالة بعد أن أعلنت الحكومة — تحت ضغط الأزمة — وأصبح الموظفون مهددين بقطع رواتبهم القليلة، التي لم تكن تكفي — في قلب تلك الأزمة — للحصول على القوت. كما أنهكت الأزمة الحانقة التجار والمزارعين والصناع؛ نعرض لهذه النقطة — تفصيلًا — في مواضع أخرى من الكتاب.

•••

يقول زولا: «إن دورة المجتمع تتطابق مع دورة الحياة، فهناك في المجتمع، كما هو الحال في الجسم الإنساني، تضامن يحيط ما بين الأعضاء المختلفة بطريقة ما، حتى إذا ما فسد عضو انتشر الفساد في سائر الأعضاء، وتكون النتيجة مرضًا بالغ التعقيد.»١
«القاهرة الجديدة» صورة دقيقة للحياة المصرية في أوائل الثلاثينيات، حين كان إسماعيل صدقي يحكم بالحديد والنار، بعد أن ألغى دستور ١٩٢٣م، فعاشت البلاد فترة من أقسى فترات حياتها. إن دموع الجدة تتساقط حارة ساخنة، ثم تقول من خلال نشيجها: «وإلى الآن يا ابنتي لم يُرفَع الظلم عن مصر، وإنما ازداد بأس الظالم وعتوه.»٢
إن صيحة محجوب عبد الدايم: يا قناطر يا بلدنا … وزَّعي الحظ على ولادك بالعدل! هذه الصيحة تمتد فتشمل مصر كلها. كان العدل مُفتقَدًا، ثمة المتطلعون إلى ترقيات سريعة، والأحزاب التي تسعى لمكافأة أعضائها ومؤيديها … إلخ، وتطرح الوساطة نفسها جسرًا بين الموظف والصعود إلى الدرجات الأعلى: رشوة أو بذل مديح أو نفاق أو التفريط في العرض والشرف. «فالوظيفة كانت مطلبًا عسيرًا لمن لا وساطة له.»٣ ويقول الفنان (حمدان بك) عن تعيين الموظف حمدان في وظيفة أعلى بصفة استثنائية: «ربما كان شغل حمدان لهذه الوظيفة أول حادث محسوبية في الحكومة المصرية تخطَّى فيها موظفٌ الكثيرين ممن هم أرفع منه درجة وأكثر مرتبًا.»٤ وقد أمضى جلال (الشارع الجديد) فترة حياته الجامعية بكلية الحقوق وهو يتصور نفسه — بعد التخرج — وزيرًا مثل مكرم وأبو علم والطويل، بل والنحاس. لكن الشهور مضت بعد تخرجه وهو يدور على مصالح الحكومة، يبحث عن الوظيفة التي تصلح لخريج الحقوق، ولم يعُد أمامه من أمل إلا أن تساعده واسطة من شخصية كبيرة، ربما — حينئذٍ — تُفتَح له الأبواب.٥ وكانت الرشوة هي الحائل بين الشاب (أنا الشعب) وبين الالتحاق بوظيفة، فلم يكن معه قيمة الرشوة التي طلبها الساعي ليضمن الوظيفة.٦ كانت مشكلة حامد عبد الكريم أنه كان بلا واسطة، فلم يستطع أن ينال — بعد التخرج — إلا وظيفة مدرس بمدرسة المنيرة الابتدائية، ويطالعنا هذا الحوار في «قصر على النيل»:

«المرتشون يملئون المناصب الكبيرة.

– بل ويحترمهم الجميع وحياتك.

– لأنهم يرجون منهم خيرًا، فهم يُظهِرون لهم الاحترام، ولكن لا يكنُّون لهم إلا الاحتقار.»٧ ويقول عبد الرحمن شعبان (المرايا): حال فتحي أنيس تستحق النظر.

يقول عباس فوزي: العين بصيرة واليد قصيرة.

– أسعفوه بوظيفة يمكن أن تَرد عليه رشوة.

– توجد فرص في المستخدمين والحسابات والمخازن والمشتريات، ولكنه بدون مؤهلات.

– يوجد مديرون بالابتدائية.

– أعني بالمؤهل الوساطة!٨
وعندما يتقدم محجوب عبد الدايم لشغل وظيفة بمكتبة الجامعة، يقول له موظف المستخدمين «الحكومة لا يدخلها أحدٌ بلا مُعين.»٩ ويقول: «اسمع يا بني، تناسَ مؤهلاتك، ولا تضع ثمن طلب الاستخدام، المسألة لا تعدو كلمة واحدة، ولا كلمة غيرها؛ هل لديك شفيع؟ أأنت قريب أحد ممن بيدهم الأمر؟ أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد من رجال الدولة؟ إن أجبت بنعم فمبارك مقدمًا، وإن أجبت بكلَّا فلتُولِّ وجهك وجهة أخرى.»١٠ ويقول له، في مناسبة تالية: «سبق أن أفهمتك إنك يمكن أن تأخذ إذا رضيت أن تعطي!»١١ ويعلن محجوب إن «الشهادة بغير شفاعة أرخص من ورقة اللحم.»١٢ وكان أحمد أفندي عاكف (خان الخليلي) من الموظفين المنسيين؛ ظل — سنوات طويلة — على الدرجة الثامنة، براتبٍ قدره خمسة عشر جنيهًا. أما ياسين فقد تغلَّب على مشكلة نسيانه الوظيفي عندما لجأ إلى ابنه رضوان، فحصل له على الترقية. وقال ياسين لمن عايره بأن ترقيته تمت بالوساطة: «الوساطة مالها؟ هل تتم حركة كبيرة أو صغيرة دون وساطة؟ هل ترقَّى مخلوق في هذه الإدارة، في هذه الوزارة، بما فيهم حضرتك، دون وساطة؟»١٣ ويردف تساؤله: «هل يوجد رزق بدون وساطة في هذه الدنيا؟»١٤ ويقول الموظف (يوميات نائب في الأرياف): «حركة التنقلات في نوفمبر.

– أظن عليَّ الدور لأنتقل لمصر.

– النقل لمصر مش بالدور يا حبيبي، عندك واسطة؟

– لا.

– حا تعيش وتموت في الأرياف.

– وإخواننا اللي قاعدين متمتعين في مصر بقى لهم سنين؟

– تشملهم كذلك حركة التنقلات، لكن على الوجه المفهوم، وعلى الطريقة المعتادة: وكيل نيابة الموسكي ينقل إلى نيابة الأزبكية، ووكيل شبرا إلى نيابة الخليفة، ووكيل السيدة زينب إلى كلية مصر، يعني تنقلات مع مراعاة عدم خروجهم من الجنة؛ أي العاصمة، ومع ذلك تجد حضراتهم غير راضين» … إلخ.١٥

ويطالعنا الضاحك الباكي بهذا الحوار:

– أريد الالتحاق بوظيفة.

– عندك إيه؟

– دبلوم.

– بلَّها واشرب ميتها.

– إذن ماذا أفعل؟

– ابحث عن شهادة أخرى.

– ليسانس؟

– لا.

– دكتوراه؟

– لا.

– إذن ماذا؟

– واسطة!١٦
ولعلنا نستطيع التعرف على طبيعة الفترة من قول الرجل (نفوس مضطربة) إنه كان ينظر إلى الغد في قلق؛ «لأنه لا قريب له من ذوي النفوذ يرجو شفاعته؛ ماذا سيفعل؟»١٧ وعلى الرغم من إهمال الموظف (عريس الغفلة) في وظيفته، فإنه لم يواجه جزاءً ولا مجرد لوم أو توبيخ من رئيسه، ذلك لأنه يجيد المحسوبية واللعوقة ومسح الجوخ والاطمئنان إلى «ضهر»!١٨ ويقول الرجل للموظف (شجرة البؤس): «لا تصدق أن موظفًا يعيش براتبه الذي يقبضه في كل شهر، ويقضي للناس حاجاتهم دون أن يأخذ على ذلك أجره منهم.»١٩
إن سالم الإخشيدي ومحجوب عبد الدايم ورضوان ياسين — بدرجة أو أخرى — ضحايا لمجتمع فاسد، مثلما كان الدكتور إبراهيم عقل (المرايا) ضحية للمجتمع الفاسد نفسه، رغم اختلاف صورة الصراع الذي خاضه كلٌّ منهم. يعلق علي طه على مأساة محجوب: «صاحبنا البائس وحش وفريسة معًا، فلا تنسَ نصيب المجتمع من جريرته، فالمجتمع الذي نعيش فيه يغري بالجريمة، بيد أنه يحمي طائفة المجرمين الأقوياء، وينهال على الضعفاء.»٢٠
لويس عوض يخالف مقولة نجيب محفوظ عن انتشار الفساد والمحسوبية، ويؤكد أنه في الثلاثينيات «لم نكن نسمع عن الارتشاء أو استغلال الوظيفة إلا فيما ندر، كذلك لم نكن نسمع عن البلطجة في العمل إلا فيما ندر.»٢١

وفاة العائل

كانت الوفاة المباغتة لكامل أفندي علي، الموظف بإحدى الإدارات الحكومية (بداية ونهاية) مأساة بالغة الفداحة، بحيث كادت الأحداث المتوقعة، بما تضفيه من ظلال قاتمة حول مستقبل الأسرة، أن تُنسي أفرادها الحدث القائم بالفعل، وهو وفاة الأب والعائل. تقول الزوجة لنفسها: «يحز في نفسي ألا أجد فراغًا للحزن عليك يا سيدي وفقيدي، ولكن ما الحيلة؟ حتى الحزن نفسه محرَّم على أمثالنا من الفقراء.»٢٢ والحق أن موت كامل أفندي علي لم يكن مصادفة بقدر ما كان ضربة مذهلة من ضربات القدر، كانت بداية لنهاية تلك الأسرة في صراعها مع نظام اجتماعي لا يتيح لأسرة الموظف الذي خدم الحكومة ثلاثين عامًا — بعد رحيله — حياة آمنة ومستقرة. ولعل ذلك هو باعث المثل: موت وخراب ديار. وربما ننكر عنف الصورة الدرامية لموت الأب — بمقاييسنا الحالية — حيث تتوافر ضمانات أكثر لاستمرار الحياة، لكن موت الأب في الثلاثينيات من القرن العشرين كان مأساة لها عواقبها الوخيمة. فماذا يفيد المعاش الضئيل في مواجهة متطلبات الحياة؟ فضلًا عن عدم وجود ضمانات من أي نوع؛ فالأب — هنا — يمثِّل الأساس الاقتصادي الذي يقوم عليه البناء الأسري، وهو في انهياره يترك الأسرة لمصيرٍ مؤلم، يتخلَّى فيه المجتمع عن كل مسئوليته تجاهها. وباختصارٍ، فإن الموظف الذي كان يفاجئه الموت، كانت أسرته تتعرض من ثَم لأن تموت معه، وكما يقول الفنان، فإن تأثير وفاة العائل يجور على البيت، وأهل البيت، وكل ما في البيت.٢٣ لم يكن ثمة معاش ولا تأمينات ولا أي نوع من الضمان، وكما كانت وفاة الوالد في «بداية ونهاية» هي المنطلق لكي تغيِّر الأسرة نظام حياتها، فإن إصابة الوالد بالشلل (القاهرة الجديدة) كانت هي الباعث لأن يرحل محجوب عبد الدايم من بيت الطلبة إلى غرفة متواضعة. الأمر نفسه بالنسبة لإحالة والد أحمد عاكف (خان الخليلي) إلى المعاش؛ توقف عن الدراسة، ولحق وظيفة بالبكالوريا. كما تدهورت أحوال أسرة زينب (السرير النحاس) بعد وفاة أبيها، وعانت أمها في تزويجها. وعندما تُوفي الأب (من النافذة) اضطرت الأم لبيع حُليها، والإنفاق على ابنتها الوحيدة، وعلى البيت. فلما نفدت الحلي، باعت الأم ما غَنى عنه من أثاث البيت، ثم اتخذت الخياطة لكسب الرزق، وإن ظلت تلك المهنة سرًّا لا يعرفه إلا القلة، حتى لا يأنف أهلها، أو أهل زوجها — طبع المصريين! — ويستنكفوا، أو يعيبوا، أو يشهروا، وإن كانوا لا يعينونها بشيء ما.٢٤ وتقول سعدية (الجدران): «كنت على وشك الحصول على الابتدائية، لو لم تعاجل أبي المنية. بعدها لاحت أمانيَّ وأحلامي ضربًا من المستحيلات.»٢٥ أما عزيزة (قم في الفجر) فقد وجدت نفسها — بعد أن مات أبوها — عند الحاجَّة زبيدة، تسرِّحها مع مجموعة من البنات، يبعن أوراق اليانصيب.٢٦
إن تلك الحوادث «الفردية» مثَّلت الضربات القاصمة التي وجَّهها النظام الاجتماعي العاجز إلى قطاعاتٍ بأكملها من أبناء المجتمع؛ فالبدايات التي ترتبت عليها أحداث الروايات الثلاث، لا تمثِّل مشكلات شخصية بقدر ما تعكس صورة نظام اجتماعي فاسد، لا يتيح لأبنائه أي نوع من الضمانات. فلو أن المجتمع أتاح لأسرة الموظف المُتوفَّى، أو للموظف الذي تعرض لمحنة مرضية مزمنة ما يتيح له استمرار الحياة الكريمة، لما كانت هناك مشكلة، أو في الأقل لتغيَّرت طبيعة الأحداث تمامًا في معظم أعمال نجيب محفوظ، بل وفي معظم الأعمال الأدبية المصرية بعامة. يصور الفنان حياة الموظف الصغير بأنها أشبه بطريقة الكتابة في لوح الأردواز، لا بد من مسح القديم قبل الكتابة الجديدة، فإذا توقف عن الدفع أو أي شهر توقفت كل هذه المعاملات مع الجزار والترزي والبقال وغيرهم (ثمن المسئولية). قد لحق الأب مرض شديد أقعده عن الكسب، فاضطر أكبر الأبناء إلى ترك الدراسة، والعمل موظفًا لوزارة الصحة (الأكثر سعادة). وهذا ما حدث للابن (خبايا الصدور) عندما مات أبوه، فقد انقطع عن الدراسة، والتحق بإحدى الوظائف الكتابية؛ إذ كان عليه أن يحصل على المال؛ لأن أباه لم يترك لأسرته شيئًا.٢٧ وقد مات الأب يوسف المعناوي في أوائل الثلاثينيات، ففقدت الأسرة كل شيء، وبدأت تواجه ظروفًا متغيرة.٢٨ المشكلة نفسها واجهتها أسرة الصحفي محمد السمادوني (نحن لا نزرع الشوك) بعد وفاته، لقد أصبحت ضرورات الحياة — التي كانت تُمارَس بغير عناء — أملًا عسيرًا، يحتاج إلى تفكير دائم، وجهد مستمر.٢٩ واستطاعت الأم أن تقوم بعمل الساحر الذي يدبِّر من الجنيهات القليلة حياة الأسرة ومطالبها.٣٠ ولعله يمكن القول إن وفاة والد فؤاد عبد السميع (أزهار) المفاجئة، مثَّلت عاملًا مؤكدًا في تغيُّر مسار حياته. كان المعاش ضئيلًا، ومن ثم فضَّل فؤاد أن يختصر الطريق، والتحق بالقسم الجديد في مدرسة البوليس لتخريج كونستبلات، بينما عادت الأم إلى مسقط رأسها في إحدى قرى المنوفية، وأذعنت الأخت لمشيئة القدر بالزواج من فلاح صغير من أقاربها.٣١ والراوي (شمس الخريف) يرجع الأحداث التي ألمَّت بالأسرة إلى وفاة الأب: «كان من الممكن أن تعيش أمي بمنجاة من الأمراض؛ لأنها اعتامتها بعد موته مباشرة، وكان من المؤكد أن تعيش هي بمعزلٍ عن مشاكل البيت، وبخاصة الاقتصادي منها، وكان من الجائز ألا أكون بليدًا في المدرسة … لم لا؟!»٣٢ وقد استقبلت الأم موت أولادها الثلاثة بالكثير من الرضا بقضاء الله، لكن وفاة الزوج والعائل أصابها بنوعٍ من الشرود، كاد يقضي عليها. «لم تكن تعرف أحدًا، حتى نحن أولادها، جفَّت في مآقيها الدموع، فلم تجد طريقًا تطهِّر به عيونها من قسوة المحنة.»٣٣ وكانت وفاة والد ناجي مرقص عاملًا مباشرًا في القضاء على «أنبغ تلميذٍ في جيلنا» — على حد تعبير الفنان — فقد عجز الشاب عن مواصلة التعليم، فاضطر الشاب إلى قبول التعيين في وظيفة صغيرة خارج الهيئة بالكلية الحربية.٣٤ وقد انشغل الأب عامل بلوك السكة الحديد بتعليم ابنته القراءة والكتابة؛ لتجاوز قسوة الظروف المادية، لكن وفاته المفاجئة — بعد مرض قصير — كانت عاملًا حاسمًا في انقطاع لواحظ عن المدرسة، ومواجهتها للجوع والحرمان.٣٥ وكانت وفاة والد سيد زهير (أنا الشعب) هي المنطلق للمأساة التي استطاع أن يعبرها بعد مكابدة عنيفة. أحدثت الصدمة المفاجئة تغيُّرًا كاملًا في حياة سيد زهير؛ هجر التعليم، وقنع بوظيفة بسيطة، حتى أتاحت له موهبته أن يسلك — فيما بعد — سبيلًا آخر، مغايرًا. وكان التصور الوحيد الذي طرأ في بال الراوي (من النافذة) حين رأى فتاته التي داوم على مراقبتها من نافذة بيته، وقد تخلَّت عن زي التلميذات وحقيبة الكتب، وارتدت ثوبًا أسود، وشيئًا ملفوفًا في جريدة قديمة، وتركب ترام ٢٣ المتجه إلى إمبابة. كان التصور الذي طرأ في باله إنها لا بد تركت المدرسة، بعد أن فقدت عائلها، فلا قِبَل لها بنفقات التعليم، ومن ثَم فقد اضطرت لأن تكف عن التحصيل، ثم دفعتها الحاجة إلى العمل «من كان يظن أن فتاة مصرية في مثل هذه السن الغضة تسد مسد الرجال، وتعول أسرة أُعسرت بموت أبيها.»٣٦ بل إننا نجد مشكلة فقد العائل في «ليالي سطيح»: الصحفي الذي رزئ بفقد والده «قبل أن أبلغ الغاية التي إليها مدى أملي وأمل الأهل والأقارب، فانقطعت عن الدرس في مدارس الحكومة لقصر يدي عن بلوغ نفقة التدريس التي اشتطت فيها، فأصبحت عيالًا على أهلي.»٣٧ وقد تولى الخال (غربة) رعاية الأسرة بعد وفاة الأب.٣٨ وكانت وفاة العائل هي بداية المتاعب في روايتَي إحسان عبد القدوس «شيء في صدري» و«الطريق المسدود». غزل الباشا شِباكه حول أسرة الموظف الصغير محمد أفندي السيد بعد وفاته (شيء في صدري)، وظل المجتمع ينهش في الأسرة بعد وفاة العائل (الطريق المسدود). تقول فايزة لمنير حلمي: «ما تقدرش تتصور إن فيه ناس غير اللي بتكتب عنهم في قصصك … ناس يموت الراجل بتاعهم، فيموت معاه شرفهم وسمعتهم.»٣٩ وكانت أم عثمان بيومي (حضرة المحترم) هي عائله الوحيد، فلما ماتت، اضطر إلى هجر الدراسة — رغم تفوقه — والعمل بالبكالوريا.٤٠
وبعكس النتائج التي تمخضت عن أحداث تلك الأعمال جميعًا، فقد تحدد تأثير وفاة الأب في قصة «قلب كبير» على ارتداء الأم لثوب أسود عامين متتاليين، فلجأت الابنة إلى مصروفها الذي كانت قد ادَّخرته مع مربيتها، واشترت لأمها ثوبًا جديدًا زاهيًا بدلًا من ذلك الثوب الأسود القديم، حتى تطرد الأم أحزانها، وتمارس حياتها من جديد.٤١

•••

وبالنسبة لواقع العمال، فقد كان أليمًا، حتى إن محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) يبدأ التعامل مع بائع المدمس بميدان الجيزة، بعد شلل والده المفاجئ، واضطراره أن يضع لنفسه خطة تقتيرٍ شديدة «ووجد جماعات العمال يقتعدون الإفريز أمام المكان، يلتهمون طعامهم، ويتحادثون، ويتضاحكون، فقال لنفسه: أصبحت واحدًا من هؤلاء العمال الذين يرثي لهم علي طه.»٤٢

وفي ١٩٣٥م صدر قانون عقد العمل الفردي الذي حدد مكافأة تُمنَح للعامل عند نهاية الخدمة، وقد أدى ذلك إلى قيام أصحاب الأعمال بنقل العمال، وإعادة تعيينهم كل بضعة أشهر، تهربًا من تنفيذ القانون. كما اتجه معدل الأجور إلى الانخفاض، رغم أن الأسعار كانت آخذة في الارتفاع، وظلت ساعات العمل لا تعرف حدودًا.

ويذهب رءوف عباس إلى أن أقوى ضربة وُجِّهت إلى الاتحاد العام لنقابات العمال، هي تلك التي سددها الوفد في فبراير ١٩٣٥م، حين أقام المجلس الأعلى للعمال في شكل اتحاد للنقابات، نجح في اقتناص عددٍ كبيرٍ من النقابات التي كانت منضمة إلى الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري. كان المجلس الأعلى للعمال إسفينًا شقَّ الحركة العمالية إلى قسمَين، شايع أحدهما الوفد، وانضم الآخر إلى عباس حليم، فكانت فرصة ذهبية، اهتبلها البوليس السياسي للقضاء على الاثنين معًا.٤٣ وقد نشرت «الديلي تلجراف» إن «قرار الوفد بإنشاء مجلس أعلى لتنظيم اتحاد العمال، يُعَد — في نظر المعارضين — سبيلًا لتحقيق نتائج خطيرة. إن هذه الخطوة — من جانب الوفد — تمثِّل أهم تطور سياسي وقع في مصر منذ عام ١٩٢٢م. لقد أنشأت الحكومة مكتبًا للعمل والعمال، وقام هذا المكتب بتنظيم حالة العمال تدريجيًّا على قاعدة سياسية؛ ولهذا يُعَد ما قرره الوفد من إنشاء مجلس أعلى للعمال بمثابة سعي منه لاغتصاب سلطة الحكومة، وبعبارة أخرى، يمكن أن يقال إن الوفد يتحدى وزارة نسيم باشا.»٤٤

هوامش

(١) دراسات في الواقعية الأوروبية، ١١٠-١١١.
(٢) سهير القلماوي، أحاديث جدتي، ٤٩.
(٣) المرايا، ٢٧٦.
(٤) محمود طاهر حقي، حمدان بك.
(٥) الشارع الجديد، ٤٣٠.
(٦) أنا الشعب، ١٧.
(٧) قصر على النيل، ١٠٠.
(٨) المرايا، ٣٣٣.
(٩) القاهرة الجديدة، ٨٠.
(١٠) المصدر السابق، ٨١.
(١١) نفسه، ١٠٤.
(١٢) نفسه، ٨٣.
(١٣) السكرية، ١٩٩.
(١٤) المصدر السابق، ١٩٥.
(١٥) يوميات نائب في الأرياف، ١٦٦.
(١٦) مقالات فكري أباظة، المجموعة الثالثة، ٤٣-٤٤.
(١٧) نفوس مضطربة، ٩٧.
(١٨) أحمد خيري سعيد، عريس الغفلة، الفجر، ١٤/ ٩/ ١٩٢٥م.
(١٩) شجرة البؤس، ١١٠.
(٢٠) القاهرة الجديدة، ٢١٤.
(٢١) لويس عوض، حوار الأجيال، الأهرام، ٢٥/ ٢/ ١٩٨٩م.
(٢٢) بداية ونهاية، ٤٤.
(٢٣) محمود طاهر لاشين، قصة زواجه بسعاد، الأعمال الكاملة.
(٢٤) إبراهيم عبد القادر المازني، من النافذة، دار المعارف، ١٠.
(٢٥) محمد سليمان، الجدران، دار المعارف، ٥٩.
(٢٦) لطفي الخولي، قم في الفجر، ياقوت مطحون، الكتاب الذهبي.
(٢٧) يوسف السباعي، خبايا الصدور، ٨٢.
(٢٨) الأقدار، ٦٥.
(٢٩) نحن لا نزرع الشوك، ٣٥٨.
(٣٠) المصدر السابق، ٣٠٣.
(٣١) أزهار، مطبعة مصر، ١٩٦٣م، ١٦.
(٣٢) شمس الخريف، ١١.
(٣٣) دولت، ٢٧.
(٣٤) المرايا، ٣٨٥-٣٨٦.
(٣٥) الرصيف، ٤١.
(٣٦) من النافذة، ٩.
(٣٧) ليالي سطيح، ٢٠.
(٣٨) حميدة قطب، غربة، الأطياف الأربعة، مكتبة مصر.
(٣٩) الطريق المسدود، ٣٥.
(٤٠) حضرة المحترم.
(٤١) محمود تيمور، قلب كبير، مكتوب على الجبين.
(٤٢) القاهرة الجديدة، ٤٩.
(٤٣) الحركة العمالية في مصر، ١٠٢.
(٤٤) رفعت السعيد، اليسار المصري ١٩٢٥–١٩٤٠، دار الطليعة ببيروت، ١٩٧٢م، ٣٢-٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥