حقيقة الحزب الوطني
ومن المهم التأكيد على أن الحزب الوطني الذي أشار إليه عرابي في التحقيقات، وفي
مذكراته، لم يكن هو حزب شريف باشا ورفاقه من طبقة الأعيان المصريين، والمتمصرين. ولم
يكن هو أيضًا حزب القادة العسكريين المصريين، لكنه مجموع الشعب المصري: «إن أهل البلاد
هم حزب قائم بذاته، يُعتبَر عند الآخرين منحطًّا عنهم، ويطلقون عليه لفظ فلاحين، إذلالًا
وتحقيرًا، أولئك هم الحزب الوطني، وهم أهل البلاد حقيقة.»
١ ويشير النديم إلى أنه بعد أن أصبح عرابي «زعيم الأمة الأوحد» انضم إليه
الزعماء السياسيون، وتلاقت الأهداف، ووحَّد ساسة المصريين كلمتهم مع كلمة الزعماء
العسكريين، وشكَّلوا ما سُمِّي الحزب الوطني تارة، والحزب المصري تارة أخرى، وكثيرًا
ما أُطلِق
عليه اسم «حزب الفلاحين».
٢ ويقول بلنت: «اجتمع سرًّا في حلوان — سبتمبر ١٨٧٩م — عددٌ من الوجهاء والكبراء
والذوات، من بينهم شريف باشا وشاهين باشا وعمر لطفي باشا وسلطان باشا، وقرروا تكوين
الحزب الوطني.» أصدر الحزب في نوفمبر ١٨٧٩م أول منشور بالعربية والفرنسية، طبَع منه عشرين
ألف نسخة، ليتم تداوله في داخل البلاد وخارجها، «وقام الحزب لكي ينقذ مصر من الهُوة
السحيقة التي تردَّت فيها تحت وطأة الربا والاستبداد، وقد استولى السماسرة والمرابون
على
أكثر من ستين مليون جنيه من ديون مصر الحقيقية واختلسوها. وإن الحزب ليعلن أن مصر عازمة
وقادرة أن تتخلص من ديونها، ولكن بشرط أن تتركها الدول حرة في تنفيذ الإصلاحات العاجلة
التي تقررها، وأن تتركها حرة في اختيار حكومتها، وألَّا تفرض حكومة مثل الحالية، والتي
لا تمتُّ إلى مصر بأي صلة، لأن الدول هي التي فرضتها، ولا إرادة للأمة في ذلك.»
٣ ويقول عبد العزيز جاويش إن الحزب الوطني تألَّف قبيل الثورة العرابية من
الرجال الذين تزعَّموها بعد ذلك.
٤ وثمة رأي أن الأفغاني هو الذي كوَّن الحزب الوطني المصري الحر، كجمعية سرية
في البداية، ثم ظهر نشاط الحزب علنًا في أثناء ثورة العرابيين.
٥ وقد تبلور الحزب في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الثوري الذي تمثَّل في ضباط
الجيش من المصريين، الاتجاه الثوري الشعبي، الذي قاده — بجدارة — عبد الله النديم، الاتجاه
الإصلاحي بقيادة الإمام محمد عبده.
٦ ويذهب رأي مغاير إلى أن عرابي هو زعيم هذا الحزب، والقوة المحرِّكة فيه، رغم
أنه كان يضم مَن هم أعلى منصبًا من عرابي، مثل شريف باشا وسلطان باشا وإسماعيل باشا راغب
وعمر باشا لطفي، وهم جميعًا من المصريين الذين ضاقوا ذرعًا وصدرًا بالسيطرة الأوروبية
من ناحية، وبصلف الأتراك والجراكسة من ناحية، فاتفقت كلمة هؤلاء جميعًا على إنشاء
«الحزب الوطني» الذي كان أول حزب سياسي في مصر، وربما كان أول حزب سياسي في الشرق كله،
ويسبق كثيرًا أقدم الأحزاب السياسية في العالم الديمقراطي.
٧ وقد وصف عرابي نفسه بأنه «رئيس الحزب الوطني، وناظر الجهادية، وقائد الأمة
المصرية في الدفاع عن الوطن.»
٨ وحين انقلب شريف باشا على الثورة، فإنه قال في حديث له مع بلنت: «إن
المصريين أطفال، ويجب أن يُعامَلوا معاملة الأطفال، وقد قدمت لهم الدستور، وإن لم يرضوا،
فعليهم أن يعملوا بدونه. إني أنا الذي أنشأت الحزب الوطني، وسيجدون أنهم لا يستطيعون
العمل بدوني، ولا شك أن هؤلاء الفلاحين في حاجة دائمًا إلى الإرشاد.»
٩ واللافت أن شريف باشا ظل واحدًا من الصفوة الحاكمة التركية، التي كانت تنظر — بعين الاحتقار
— إلى أبناء البلاد من المصريين، وتعاملهم معاملة السادة للعبيد، ويصف لطفي
السيد الحزب الوطني بأنه قد ظهر «بإيعازٍ — في بادئ الأمر — ثم غلا في مقاصده، وطاش سهمه
عن القصد.»
١٠
والواقع أن تعريفات الحزب تتعدَّد باختلاف المفاهيم والنظريات، وربما الأيديولوجيات،
فالحزب — في رأي — هو «مجموعة من الرجال، اتفقوا على مبدأ يحققون من خلاله المصلحة
الوطنية.» وهو — في رأي آخر — «مجموعة منظمة من الأشخاص، تسعى للاستيلاء على السُّلطة،
لتجني ثمار هذا الاستيلاء.» وهو — في رأي ثالث — «تحالف مجموعة من المصالح لفئة أو
لفئات اجتماعية معينة.»
١١ ومع تعدُّد التعريفات، فإنها تلتقي في العديد من العناصر التي لا يصح بدونها
تشكيل حزبي، وفي مقدمتها: الهيكل الحزبي، البرنامج الحزبي، الفلسفة الحزبية. أما الهيكل
الحزبي، فيعني البناء الهيكلي، تنظيم كوادر الحزب من القاعدة إلى القمة. القاعدة تضم
جميع أعضاء الحزب الذين انخرطوا في عضويته، إيمانًا بأهدافه ومبادئه المحددة، المعلَنة،
وساهموا باشتراكاتٍ مادية قابلًا لعضويتهم، وليمارس الحزب — بواسطة تلك الاشتراكات —
نشاطه. وتتعدَّد المستويات القيادية في الحزب، بدءًا باللجان الفرعية، ولجان الأقاليم
أو
الأحياء، فالهيئة المركزية، فاللجنة التنفيذية، فرئيس الحزب، وأما البرنامج، فهو يصدر
عن الأحزاب المشتغلة بالقضايا الوطنية. وأما الفلسفة، فهي التعبير عن الجماعات أو
الأحزاب ذات الالتزام والتوجُّه العقائدي. والبرنامج — أو الفلسفة — ضرورة لتحديد ملامح
الحزب وقسماته، وهويته، بحيث يصعب بدون البرنامج، أو الفلسفة، أن يكتسب تسميته.
١٢
ومن الصعب اعتبار البرنامج الذي صدر باسم «الحزب الوطني» برنامجًا حزبيًّا بالمعنى
المفهوم، لعدة اعتبارات:
-
إن البرنامج لم يصدر عن هيئة حزبية، بل إنه لم يرِد له ذكر سوى في كتاب بلنت عن
الثورة العرابية، وعندما أراد عرابي الحصول على مساندة الشعب في صراعه مع الوزارة
الرياضية، فإنه لم يلجأ إلى الكوادر الحزبية، وإنما حمل عبد الله النديم منشورًا بتوقيع
عرابي، يدين فيه سياسة رياض، وتوكيلات «لتوقِّعوا على هذه الكتابة المرسلة، وهي الكتابة
المقصود بها أن أكون نائبًا عنكم في كل ما يتعلق بأحوال البلاد» (الملاحَظ خلو المنشور
والتوكيلات من أية إشارة إلى الحزب). أما قول شريف باشا «إني أنا الذي أنشأت الحزب
الوطني»، فالمعنى واضح في سياق ردِّه على رفض النواب لقانون التأسيس الذي يمنع النواب
من
الإشراف على الميزانية، شريف يزعم — بصرف النظر عن عدم صحة ذلك الزعم — أنه هو الذي
أوجد التيار الوطني في البلاد.
-
إن البرنامج أشار إلى الحزب الوطني باعتباره تيارًا «يضم كل من يحرث أرض مصر ويتكلم
بلغتها.» كان — كما أسلفنا — بلا هيكلٍ، ولا كوادر، ولا انتماءات حزبية بالمعنى التقليدي،
١٣ ولم يكن ثمة وكيل، ولا سكرتير، ولا هيئة مكتب، ولا مكاتب رئيسية أو فرعية
في القاهرة، أو في الأقاليم، مما ينأى به عن صورة الحزب.
-
بل إن تسمية الحزب الوطني لم تكن وحدها هي التسمية التي أُطلقَت على ذلك الحزب، فقد
سُمي حينًا باسم «الحزب المصري» بمعنى مجموع الشعب المصري، مقابلًا للقوى الأجنبية، وسُمي
حينًا آخر باسم «حزب الفلاحين»، مقابلًا للأوتوقراطية الخديوية، والأرستقراطية التركية،
والنفوذ الأجنبي. وسُمي كذلك «الحزب العرابي» نسبة لأحمد عرابي قائد الثورة.
-
وعندما سئل عرابي: كيف يوقِّع بصفته رئيس الحزب الوطني، في إحدى رسائله، مع أنه لا
يجوز وجود أحزاب في الممالك المنتظمة، ووجود الحضرة الخديوية … أجاب عرابي: «من المعلوم
أن مصر مسكونة بأجناسٍ مختلفة، وكل جنس منهم يُعتبَر حزبًا، كما أن أهل البلاد حزب قائم
بذاته، يُطلَق عليه لفظ الفلاحين إذلالًا لهم.» ولأن هؤلاء الفلاحين أنابوا عرابي عنهم
بمقتضى التوكيلات التي جمعها عبد الله النديم، فقد اعتبر أن من حقِّه التوقيع عن الحزب
الوطني، أي أبناء البلاد من المصريين.
-
وفي خُطبته بمحطة القاهرة، يقول النديم للجموع التي كانت تودِّع آلاي عرابي الذي خرج
ليعسكر في رأس الوادي: «فكلكم وطني، وإن اختلفت المقاصد، وتباينت الذوات.»
-
يقول محمد عبده: «إن السبعة أشهر التي كانت بين مسألة قصر النيل ومظاهرة سبتمبر،
كانت مفعمة بالنشاط السياسي الذي شمل جميع الطبقات، فقد صار عرابي محبوبًا عند الأمة،
واتصل بالحزب الوطني.»
١٤ وهو ما يعني أن عرابي لم ينشئ الحزب، وأن الحزب — في تقدير الإمام — هو
جماعات الوطنيين المصريين الذين يسعون إلى التخلص من التدخل الأوروبي، والأوتوقراطية
الخديوية، والأرستقراطية التركية الشركسية.
-
يقول بلنت — تعقيبًا على المذكرة الثنائية الإنجليزية الفرنسية إلى مصر: «… هنا
وجد المصريون أنفسهم متحدين لأول مرة، ليس فيما يتعلق بالحزب الوطني وحده، بل فيما
يتعلق بجميع الأحزاب والطبقات، وانضم الشيخ محمد عبده والأزهريون المعتدلون إلى الحزب
المتطرف بكل قوتهم.»
١٥ ولأنه لم تكن ثمة أحزاب آنذاك، فإن القول بالحزب المتطرف في المقابل من
بقية الأحزاب والطبقات، يجعل الحزب بمعنى الاتجاه، أو بتعبيرٍ آخر: الجماعة ذات الاتجاه
الموحد.
-
ويبعث القنصل البريطاني في القاهرة ببرقية إلى حكومة يقول فيها: «أصبح واضحًا أن
الحزب العسكري ينوي عزل الخديو، ونفي أسرة محمد علي، وتعيين محمود سامي البارودي باشا
حاكمًا عامًا بناء على رغبة الأمة.» ويقول في برقية أخرى: «ما لم تتحطم قوة الحزب
العسكري، فإن الخديو بلا قوة، ولن يقبل أحد تشكيل الوزارة حتى يتحقق ذلك.»
١٦
-
كان العرابيون يسمُّون — أحيانًا — «حزب الجهادية»، بمعنى «جماعة العسكريين»، فليس
ثمة حزب للعسكريين، إنما هو تعبير عن الجماعة والمعنى نفسه ينطبق على «الحزب الوطني».
وتسمية الجيش بالحزب الجهادي، أو العسكري، في المقابل من تسمية الساسة المدنيين بالحزب
الوطني، دليل على أن الحزب الوطني لم يكن حزبًا بالمعنى المفهوم، وإلا لكان الحزب
الجهادي حزبًا كذلك! ونشير إلى قول محمد عمارة: «لم يعُد الحزب الجهادي مجرد حزب عسكري،
كما كانت حاله عند بدء تحركه في يناير ١٨٨١م، وإنما استطاع، بالتحامه بتيار النديم
الثوري، وبالتوكيلات التي جمعها له النديم من الأمة، أن يقف في ساحة عابدين في ٩
سبتمبر، كممثِّل للأمة كلها.»
١٧
-
ويقول بلنت تعليقًا على تصاعد المواقف الوطنية، في المقابل من المؤامرات الدولية:
«وهنا وجد المصريون أنفسهم متحدين لأول مرة، ليس فيما يتعلق بالحزب الوطني وحده، بل فيما
يتعلق بجميع الأحزاب والطبقات، وانضم الشيخ محمد عبده والأزهريون المعتدلون إلى الحزب
المتطرف بكل قوة.» ونسأل: كيف وضع محمد عبده برنامج الحزب الوطني قبل أن ينضم
إليه؟
-
وتكتب «التايمز» — ١٦ / ٤ / ١٨٧٩م — تقول: «هناك حزب وطني جديد في مصر، عدو لكل حكومة
من
الخارج، وعامل على تحقيق مبدأ مصر للمصريين، وهو يبدو واضحًا في مجلس النواب.» ومعنى
الحزب هنا واضح، وهو التيار، أو الرأي العام، وإلى غير ذلك من التسميات التي تنأى عن
تسمية الحزب بمعناها الذي نعرفه الآن، يؤكد المعنى أن «الحزب الوطني» لم يكن أعلن عن
برنامجه بعد.
-
ويكتب أديب إسحاق في جريدة «مصر القاهرة» التي أنشأها في باريس عام ١٨٧٩م مقالًا
بعنوان «الحزب الوطني في مصر» يقول فيه: «نعم، إن الأمة المصرية فريقان، يُعرَف أحدهما
بالوطني، والآخر بما لا نجد لتعريفه حدًّا، فإنه ليس بالغريب فيوصف بالأجنبي، ولا
بالفاتح الدخيل فيُعرَف بذلك، وإنما هو مصري وليس بمصري، ووطني وليس بوطني.»
١٨
-
ولعل التأكيد على أن «الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي
الاعتقاد والمذاهب، ومن يحرث أرض مصر، ويتكلم بلغتها، فهو منضم لهذا الحزب.» هذا
التأكيد يعني أنه لم تكن هناك عضوية حقيقية، يتقدم مواطنون بطلبات، فتُقبل عضويتهم،
وإنما كل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها، فهو منضم لهذا «الحزب»، هو منضم دون حاجة لأن
يتقدم بطلب عضوية. والفعل ماضٍ.
-
إذن فقد كانت تسمية الحزب الوطني تُطلَق على ذوي الاتجاه الوطني من المصريين، بل إنها
كانت — في الحقيقة — تُطلَق على كل المصريين، ونتذكَّر كلمات عرابي: «ومن يحرث أرض مصر،
ويتكلم بلغتها، فهو منضم لهذا الحزب.»
-
أما برنامج الحزب الوطني الذي تضمنه كتاب بلنت، فهو «ميثاق» وضعه قادة الرأي العام
المصري، ليلتزم كل المهتمين بالحياة السياسية ببنوده، فهو إذن ليس برنامجًا حزبيًّا،
بقدر ما هو برنامج وطني، يعبِّر عن مصالح الملايين المصرية، وليس مصالح فئة، أو طبقة،
بالتحديد.
-
من هنا، فإنه من الخطأ العلمي تصور أن كلمة «حزب» — آنذاك — كانت تعني غير الائتلاف
المصلحي بين جماعات قليلة في الأمة، أو بين مجموع الأمة ذاته … فلم يكن ثمة تنظيم حزبي
بالمعنى المفهوم، فلا رئاسة — بالمعنى التنظيمي للأحزاب — ولا هيئة مكتب، ولا أعضاء
منتخبون أو معينون، وإنما العضوية متاحة لمن يجد تطابق مصلحته مع مصالح الآخرين:
الجماعة، أو الحزب، ويروي عرابي في رسالة ليعقوب صروف حلمًا كان توفيق جالسًا فيه مع
رجال «حزبه» بين المؤيدين لسياسة الخديو، وأعوانه.
-
ويشير أحمد شفيق باشا في مذكراته إلى أن الحزب الوطني لم يكن حزبًا بالمعنى
المفهوم، وإنما كانت هناك جماعة تنزع إلى تحرير البلاد.
١٩
-
إن الحزب الوطني القديم هم جماعة الساسة وكبار الملاك المصريين، الذين وجدوا في
سياسة رياض، ذات التوجه الأوروبي، ما يناقض مصالحهم … ولأن هؤلاء الساسة كانوا يعقدون
جلساتهم في حلوان، فقد أطلق البعض عليهم اسم: جمعية حلوان، ومعظم قيادات ذلك الحزب، أو
الجمعية، ممن خانوا الثورة، أو انقلبوا عليها، مثل محمد سلطان ومحمد شريف وإسماعيل راغب
ومحمد لطفي وغيرهم. أما الحزب العسكري، فهم جماعة العسكريين — عرابي ورفاقه — الذين
كانوا يسعون للتخلص من النفوذ التركي، وإتاحة الفرص للعناصر المصرية في الجيش، وفي
الحياة المصرية عمومًا، وأما الحزب الوطني، فهم مجموع أبناء الشعب المصري في مدنه
وقراه، ويؤكد النديم هذا المعنى في قوله: «إن أهل البلاد قد وحَّدوا كلمتهم، وكلمة
الجنود، ونادوا بصوتهم العلني، وتسمَّى المجموع بالحزب الوطني.»
٢٠
من هنا أيضًا، فإن الأحزاب لم تعرف طريقها إلى الحياة السياسية المصرية قبل ١٩٠٧م،
حين
أنشئ الحزب الوطني — بزعامة مصطفى كامل — وحزب الأمة، وحزب الإصلاح على المبادئ
الدستورية، وما تلا ذلك من أحزاب.
واللافت أن اسم الحزب الوطني، الذي أعطى زعامته لمصطفى كامل، كان يُطلَق على جماعات
الوطنيين الذين ينادون بالحرية والاستقلال، قبل أن يتألَّف الحزب الوطني كتنظيم، بمبادرة
من مصطفى كامل. وظل الحزب — قبل تكوينه رسميًّا في ١٩٠٧م — «فكرة» يلتف حولها المصريون
الذين يطمحون لتحقيق الاستقلال، وهم الذين يصح أن نطلق عليهم — ضمنًا — اسم: أعضاء الحزب
الوطني. كان مصطفى كامل — إلى إعلان قيام الحزب — يعتبر مصر كلها حزبًا وطنيًّا يرأسه
الخديو عباس، ويطالب بالجلاء. بل إنه حين كان يتحدث عن الحزب الوطني، أيام عرابي، أو
حزب العرابيين، فإنه لم يكن يتحدث إلا عن مجموعة تآلفت آراؤها وتوجهاتها ومصالحها.
•••
كان عرابي والخديو والاستعمار، محور الأحداث التي شغل عرابي بتأريخها، أما النظرة
البانورامية لقلعة الأبطال، فهي تضع ذلك كله في صفٍّ خلفي من الشخصية العملاقة التي تصنع
وتحدد وتحسم: الشعب. إن شخصيات الرواية تعبير بالغ الدلالة عن «الأمة المصرية التي كانت
تحارب بمالها وأنفسها.» الشيخ إبراهيم الذي يمتلك فدانَين يعاونه في زراعتهما حفيده
حامد، وخديجة الأرمل التي تواجه المستقبل المظلم، فتنشد الزواج لتختلس من الزمن ساعات
الهناءة، وسعدية الصبية الساذجة التي ينبض بحبها كل البشر، ويوسف الشاب الأزهري الذي
يردد أفكار الأفغاني والإمام، وعمار الذي خاض غمار الحرب في الحبشة، لا يدافع عن قضية
بقدر ما يفكر في النجاة بنفسه، لكنه يخرج — بكل الشوق — ليحارب جيش الاحتلال الذي يهدد
بلاده، كان الشعب هو البطل، والفلاحون بالذات، ولم يكن ثمة أوسمة ولا مكافآت تستحث
أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، بل إن عاطفة الوطنية، والثورة على الفظائع التي
استهدفوا لها، كانت تستثير الحماسة في صدورهم، وهم أولئك الشجعان الذين لم يفكر أحد في
«آلامهم» ويقول عرابي في مذكراته: «جاءت الأمة على اختلاف مذاهبها ونحلها بالمال
والغلال والخيل والجمال والأبقار والجواميس والأغنام والفاكهة والخضراوات، حتى حطب
الحريق … ومن الأهالي من تبرع بنصف ما يمتلكه من الغلال والمواشي، ومنهم من خرج عن جميع
مقتنياته، ومنهم من عرض أولاده للدفاع عن الوطن لعدم قدرته على الدفاع بنفسه …
٢١ إن النفقات التي تكلفها ١٠٠ ألف جندي مصري أثناء الحرب، قد وفتها كلها هبات
اكتتبت بها الأمة المصرية على اختلاف طبقاتها. وعند ابتداء الحرب لم يكن ثمة أكثر من
١٠
آلاف جندي تحت السلاح، ولا أكثر من ١٢ ألف بذلة في المخازن، ولم تكن جاهزة، ولم يكن
هناك أيضًا غير ١٥٠٠ بشل من القمح، ولكن عند انتهاء الحرب كان في خزائن الجيش
والمديريات، وفي المخازن، ما تزيد قيمته على مليون جنيه من النقود والحاصلات والماشية
والغنم والأقمشة، وكانت الأمة قد تبرعت بها للجيش الذي يدافع عن بلادها.»
٢٢
أما الإمام، فقد تساءل: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيًّا صرفًا، بعد أن
آزره
رجال من جميع الأجناس والأديان، فكان يتكالب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته
بحماسٍ غريب، وبكل ما أوتوه من قوة، لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنكليز.» ثم
يضيف الإمام: «إن الشعب المصري في جملته قد قام بكل ما يجب عليه من الحقوق الوطنية، فقد
بذل كل ما استطاع من المال والرجال في سبيل الدفاع عن بلاده، وإنما خانه بعض كبار رجاله
كسلطان باشا وبعض الضباط وبعض الهمج من البدو.» وقد اتصلت الحركة الاشتراكية الأوروبية
بقيادات الثورة العرابية، ووفد منها ممثلون إلى مصر، وظل أحدهم — وهو جان نينيه —
ملازمًا لعرابي حتى نهاية الثورة، وألَّف عن قائد الثورة — فيما بعد — كتابًا جيدًا.
٢٣
لم تبدأ الثورة إذن بالتعبير عن المطالب العسكرية، ثم زادت فأصبحت تعبيرًا عن الأماني
الشعبية، بل كانت — في واقعها — شعبية خالصة، وكان تسمية جموع الفلاحين لعرابي بال «وحيد»
دليلًا على إيمانهم بذلك الفلاح المصري الذي وصل إلى مرتبة عسكرية متقدمة، لكنه لم
ينفصل عن قضايا شعبه، ومحاولاته لتغيير واقعه. ومن هنا، يختلف دوره عن دور مصطفى كامل
—
مثلًا — فقد حاول مصطفى كامل في خُطبه ومقالاته، أن يثير الشعور الوطني ضد الاحتلال
الأجنبي، ويضع المصريين أمام مسئولياتهم في تحرير بلادهم. أما عرابي، فقد وجد مناخًا
طيبًا لكل دعواته في الإصلاح والتغيير. وكان يمثِّل — في بعض الأحيان — تيار الاعتدال
في
الثورة، عندما يرفض فكرة عزل الخديو، ويهادن العناصر الرجعية، ويرى «الإصلاح بالتي هي
أحسن!» وليس من شكٍّ في أن ظهور «البطل» في حياة الأمة، يحوِّل سلبية التطلع لتغيير الواقع
المجحف، إلى إيجابية ثورة شاملة، تحدد الهدف وتنظمه وتسعى إلى تحقيقه. وقد عبَّر عرابي
عن الإرادة الشعبية، لأنه أدرك ارتباط القضايا بعضها ببعض، ولم يفصل قضية عن أخرى، ووضع
كل القضايا في سلة واحدة هي: حتمية التغيير. وبقدر ما كانت ثورات الفلاحين في بهوت
وكفور نجم وكمشيش — إرهاصًا بثورة الثالث والعشرين من يوليو — فإن ثورات الفلاحين ضد
الجُباة في قرى الريف المصري كانت مقدمة لأحداث الثورة العرابية. إن ذلك التجاوب بين
الحركة العرابية، ومجموع الشعب المصري، لم يكن وليد ذاته ولا مصادفة، بل كان نتيجة مخاض
أسطوري لانتزاع الخلاص من بطن آلاف السنين الحبلى بالثورة على الظلم.
•••
إن محمد أحمد عرابي الهراوي الشرقاوي المصري — هذا هو اسمه الكامل — ليس وحيدًا
بالمعنى الذي تحدده الكلمة، فهو مواطن مصري، وضعته الظروف في مواجهة أقسى المسئوليات،
فاستطاع أن يواجهها بمصريته التي تعوَّدت مقاومة كل صور الظلم، وأن تنتصر عليها. لقد
وصفته الجماهير بأنه «الباشا بتاعنا»
٢٤ و«الزعيم الوحيد»، وأصبحت «الحكومة بتاعتنا»، وأطلقت عليه صحف الغرب
«جاريبالدي مصر»، وراجت شائعة أن دجاجة باضت بيضة كُتِب عليها «نصر من الله وفتح قريب»،
وقيل إن كبار الأولياء: الدسوقي والبدوي وعبد العال، أهدوا قائد الثورة ثلاثة مدافع،
لتعينه على منازلة قوات العدو. ولاتجاهه القومي، فقد ذهب بعض مناصري دولة الخلافة إلى
أن «الزعيم أحمد عرابي كان بداية الانحراف في التاريخ المصري الحديث عندما تمرد على
السلطان عبد الحميد.»
٢٥ لكن العديد من الوفود من الدول العربية والإسلامية قدِمت لتحية زعيمٍ قام
لتحرير الشرق والإسلام، واعتبره المسلمون في السودان والمغرب والشام والحجاز وتونس
وطرابلس، حتى سالونيك، اعتبروه بطل الإسلام، ووصفه مواطن من سيلان بأنه «أحسن نموذج
شرقي أخرجه القرن التاسع عشر للزعيم الثوري.»
٢٦ وأعلن سكان الأناضول أنهم سينتقمون من المسيحيين إذا ما احتل الإنجليز مصر،
وأقبل أعداد من مواطني الآستانة على الانضمام لصفوف الجيش المصري.
وعلى الرغم من الملابسات التي أحاطت بالثورة منذ بدايتها، حتى أودت بها الخيانة إلى
مصيرها المؤلم، فإن أحمد عرابي مواطن مصري، صاغ إرادة عصره، وعبَّر عنها، بل إنه لم يصنع
أحداث الثورة، بقدر ما كان ظاهرة اجتماعية، تفاعلت فيها تلك الأحداث: كان يدين بالولاء
لمصر وحدها «والله الذي لا إله إلا هو، فالق الحب، وبارئ النسمة، إني ما خدمت بذلك
دولة إنجلترا ولا فرنسا، ولا كنت آلة لدولة ما، ولا للخديو إسماعيل باشا، ولا لحليم
باشا، ولا أوصيت بمساعدة الدولة العلية، وإنما كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي، مع نيل
الحرية والعدل والمساواة لأهل بلادي المساكين، وأنا خادم لهم، وناديت سرًّا وعلنًا
بتأييدها، ولكن المقادير الإلهية غالبة، فانعكست المرئيات، وتوالت الصعوبات، لنفاذ ما
هو كائن في علمه أزلًا، سبحانه وتعالى.»
٢٧ ويقول أحمد رفعت في مذكرة دفاعه: «قليلون من الناس كانوا على صلة وثيقة
بعرابي مثلي، وإنني لأعلن الآن من هذه الزنزانة أنني لم أجد فيه في أي لحظة من اللحظات،
وفي كل الظروف السعيدة أو العصيبة سوى الزعيم، والرجل المثالي الأمين الذي نذر حياته
كاملة لوطنه ولعقيدته، وربما لم يكن القائد العسكري الذي يمكن أن يحارب بريطانيا
ويهزمها، ولكن عرابي كان المصري الزاهد في كل شيء سوى حقوق البلاد، والعاكف على هدف
واحد هو قيادة شعبه في مسيرة مقدسة من أجل العدل والحرية، وكان أصلح المصريين لهذه الرسالة.»
٢٨ ويشير بلنت إلى أنه كان لمظاهرة عابدين «كل ما يرجح أنها كانت سلمية، فلكي
يقلل عرابي من خطر ما قد يكون من سوء الفهم، كتب إلى الخديو ينبِّئه بما اعتزم هو وزملاؤه
من خطة، ويقولون إن الدليل على أنهم لا يبغون بها عداء لشخصه أنهم لم يذهبوا إليه في
قصره بحي الإسماعيلية، وأنهم قصدوا مقره الرسمي في عابدين، وتوسَّلوا إليه أن يلقاهم
هناك
ليستمع إلى شكواهم.»
٢٩ وفي اللحظات التي كان توفيق يجادل فيها عرابي، في الإرث الذي ورثه عن
أجداده، كان عرابي يشير إلى الجماهير المصرية التي استمد منها ثقة وقفته، والتي كانت
قد
ملأت ميدان عابدين، ويقول بلنت: «لم أشهد في الماضي، ولن أشهد في المستقبل، شعبًا كهذا
الذي رأيته يوم ٩ سبتمبر والأشهر التالية. اتَّحدت مصر كلها، كل القوى السياسية فيها،
وسرت رنة فرح وسعادة بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وكان الناس يحتضنون بعضهم بعضًا في الطريق،
وكانوا يوزِّعون أكواب الشربات فرحًا بعهد الحرية الرائع، وقد طلع عليهم طلوع الفجر
المشرق بعد ليلٍ طويلٍ مخيف.» وبعد سقوط الإسكندرية، دعا عرابي إلى اجتماع بالقاهرة،
ضم
أكثر من ٤٠٠ شخص، في مقدمتهم البابا كيرلس الخامس، والشيخ الإنبابي شيخ الجامع الأزهر،
والمفتي، وأعداد من علماء الأزهر ووكلاء البطريركيات، ووقَّع الجميع على قرارٍ بالاستمرار
في الحرب ضد قوات الغزو، وإبقاء عرابي في منصبه وزيرًا للحربية ليقود النضال ضد
الاحتلال. وعندما عزل الخديو عرابي من منصبه كناظرٍ للجهادية، توجَّه العلماء وبطريرك
الأقباط والأعيان والتجار، إلى منزل سلطان باشا، وطالبوه بأن يعيد عرابي إلى منصبه،
تأكيدًا على أن الحركة قد اتسمت بصبغة شعبية خالصة.
٣٠
-
في تحقيقات الثورة التي كانت تجري تحت ظل المشنقة، رفض — في إصرار — أن
يعترف بأنه هو الذي أمر برفع البيرق الأبيض على الطوابي، وإنما «رفع البيرق
الأبيض عند إطلاق مدافع من المراكب الإنجليزية، كان بناء على قرارٍ من مجلس
النظار وغيرهم من الذوات، تحت رئاسة الحضرة الخديوية، بحضور دولتلو درويش
باشا رئيس الوفد العثماني، وكان رأي عرابي — وهو رأي لا يخلو من ثقة مفرطة
— أن الإنجليز قوم يشبهون السمك الذي يهلك إن خرج من البحر، وإنهم إذا
تغلَّبوا بقذائف سفنهم على الطوابي المصرية، فلن يستطيعوا منازلة الجنود
المصريين في البر.»
٣١ وقد أخفقت — كما سبق أن ذكرنا — كل المحاولات التي بُذلَت لدفع
عرابي إلى مغادرة البلاد، بل لقد كرر الرفض، حين عُرِض عليه الذهاب إلى
الآستانة، وقال: «إني ولدت في بلاد الفراعنة، وستظل الأهرام قبري.»
-
ثمة اعتراف من اللورد كرومر بأنه «لو تُرك هذا الثائر وشأنه في ثورته، لما
كان هناك أدنى شك في انتصاره.» لكن لطفي السيد يعرض لعرابي ورفاقه بأنهم ما
ثاروا لمصلحة البلاد، «ولكنهم ثاروا ليدفعوا عن أنفسهم البلاء، وكان ما كان
من الاحتلال الإنجليزي.» ولو أن ذلك صحيح، لكان عرابي قد وافق على فكرة حرق
الإسكندرية — مثلًا — لكنه كان حريصًا — كما قال في التحقيقات — «على عدم
تسويد تاريخ المصريين»، بل إنه رفض رتبة الباشوية حتى لا يسيء إلى سمعته،
«وحتى لا يقال بأني إنما أشتغل لمصلحتي الخصوصية لا للمصلحة القومية» …
«إننا لا نريد شيئًا سوى العدل الشامل وضمان حياتنا وأشخاصنا وأملاكنا
وحقوقنا، نريد برلمانًا مستقلًّا يُنتخَب على أساس الحرية ووزارة مسئولة وخديو
يملك ولا يحكم، نريد الاقتصاد الدقيق في الإدارة دون مراقبة سياسية، ودون
موظفين أجانب على رأس الوزارة ينالون مرتبات ضخمة. نريد مصر للمصريين مع
الحرية والسلامة لكل الأجانب، إذا خضعوا مثلنا للضرائب والرسوم» … «البلاد
محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات، وإلا ضاعت
مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه» … «وقد فتحنا باب الحرية
في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين، على شرط أن يلزم
الهدوء والسكينة.»
٣٢ وقد وسَّط «مالت» سلطان باشا والأزمة في ذروتها، والأسطولان
الإنجليزي والفرنسي يتهددان الإسكندرية، وسَّطه لكي يعرض على عرابي أن يغادر
البلاد بصحبة ثلاثة من رجاله، ولم يكد سلطان يبدأ حديثه، حتى طلب منه عرابي
— في غضبٍ — أن يكفَّ عن الحديث، وأكد إصراره على عدم ترك مصر مهما تتأزم
الأمور، وهو ما حدث بالفعل. وحتى اللحظة الأخيرة، فإن مصير عرابي كان بيده،
بمعنى أنه لم يُقتَل، أو يُؤسَر، وكان في استطاعته أن يذوب في الجماهير المصرية
التي آمنت بزعامته، لكنه عاد إلى القاهرة بعد هزيمة قواته في التل الكبير،
فحاول الدفاع عنها.
٣٣ ولو أن عرابي أراد الفرار، فمن المؤكد أنه لم يكن سيعدم
الوسائل، وإذا كانت الجماهير المصرية قد احتضنت النديم طيلة تسع سنوات،
فإنها كانت تستطيع الأمر نفسه بالنسبة لقائد ثورتها: أحمد عرابي. وكان بوسع
عرابي أيضًا — بمعونة أتباعه — أن يفرَّ إلى خارج البلاد، فضلًا عن أنه كان
باستطاعته الفرار من المصير القاسي، لو أنه وافق على الهجرة من مصر والحياة
في الخارج، بشروطٍ غاية في السخاء. وفي المذكرات التي أودعها عند بلنت، يعلن
عرابي عدم تذكُّره لعرض روتشيلد معاشًا سنويًّا قدره أربعة آلاف جنيه، مقابل
الهجرة إلى خارج مصر، لكنه يروي عرضًا آخر قدَّمه القنصل الفرنسي بأن يتقاضى
عرابي ٥٠٠ جنيه في الشهر، بشرط السفر إلى باريس والحياة هناك، مثلما كان
يعيش الأمير عبد القادر. ورفض عرابي، وقال إن واجبي يقضي عليَّ أن أدافع عن
بلادي، وأموت في الدفاع عنها، لا أن أهجرها!
٣٤ وكان معاوية القليوبي (حديث الصباح والمساء) واحدًا من أبطال
الثورة العرابية. وبفضل تلك البطولة، جعلت ابنته راضية من عرابي وثورته
«أسطورة ذات كرامات وخوارق، تداخلت في كرامات البدوي وأبي العباس وأبي
السعود والشعراني، وامتزجت بعنترة ودياب وإناث الجن وذكورهم والسحر
والتمائم والأحجبة والبخور والرقا.»
٣٥ لكن بلنت يذهب إلى أن عرابي لم يكن رجل سياسة على النحو الذي
يعرفه الأوروبيون، الرأي نفسه قيل في جمال عبد الناصر فيما بعد، موقعه
القيادي في الجيش المصري، وطبيعته الريفية الوطنية، وشجاعته، دفعته لأن
يتكلم علانية، وشجع الآخرين على أن يفعلوا مثله «إلا أن هذه الشجاعة
اقترنت بذكاء فطري فلاحي، لا يقوى على مناورات الدهاء الأوروبي»، ولو أن
عرابي كان «أقل شرفًا وأكثر مكرًا لتيسَّر له أن يقود دفة سفينته بين تلك
العواصف والزوابع الهائجة دون أن يعرِّض نفسه لمصادرة أوروبا.»
٣٦ وقد حدد مصطفى كامل أربعة أخطاء، وجد أن عرابي تورط
فيها:
-
رفض عرابي الخروج من مصر، تلبية لطلب قناصل الدول الأوروبية،
وإلحاح سلطان باشا.
-
انسحابه من موقعة التل الكبير، وكان عليه أن يواصل قيادة
المعارك حتى اللحظة الأخيرة.
-
ما أعلنه من ثقة — غير مبرَّرة — بسلطات الاحتلال، بعد هزيمة
الثورة.
-
عودة عرابي إلى الوطن في ظل الاحتلال، وهو الذي كان يشكو من
سلطة الجراكسة.
٣٧ وتساءل مصطفى كامل: «كيف يقبل عرابي أن يعود إلى
وطن أسيف تعيس، تحتله دولة قاهرة غادرة قاسية؟ كيف يعود ويرى
الجنود البريطانية تتمشى في شوارع القاهرة؟ وكيف لا تفضِّل
نفسه آلام النفي على هذا الألم الجسيم والبلاء العظيم؟»
٣٨
كان رأي مصطفى كامل أنه كان يجب على عرابي أن يبتعد عن مصر، عملًا بنصيحة سلطان باشا
«لتطمئن الخواطر، وتزول أسباب التدخل الأجنبي.» والواقع أن رأي سلطان باشا استند إلى
الإنذار البريطاني الفرنسي في ٢٥ مايو ١٨٨٢م بإبعاد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي،
واستقالة وزارة البارودي، وإن اتُّهم سلطان بأنه هو الذي كان وراء وضع بنوده. وكتب
مصطفى كامل — عقب عودة عرابي من منفاه: «إذا كانت الأمم تفتخر برجل، وتعيَّر برجل، فلا
عجب إذا كان التاريخ يعيِّر الأمة المصرية بهذا القادم المشئوم الذي جرَّ على وطنه وبلاده
المصائب الجسام، وباع استقلالها بجهله وجبنه وغباوته، وقضى عليها أن تعيش ذليلة حقيرة،
وأن تسير إلى الوراء في وقتٍ تخطو فيه الأمم والدول خطوات التقدم والحياة إلى الأمام.
ولا غرابة إذا كان الناس أجمعون ينظرون إلينا الآن نظرة الساخرين، ويحملون على أخلاقنا
وأميالنا بأخلاق ذلك الذي يستحي من أن يلقِّب نفسه بخادم الوطن الأمين، وهو علَّة مصائبه،
ومصدر نوائبه، وسبب بلائه، وأصل شقائه، وما عار الاحتلال، وعار الجهالة والتأخر، وعار
الفقر، بشيء يُذكَر إذا قورن بالعار الذي يحمله عرابي، ويقرؤه الناس على وجهه أينما سار،
وحيثما حلَّ. وأي عار أكبر من عار رجل تهور جبانًا، وأنفع جاهلًا، وساق أمته إلى صهوات
الموت الأدبي، والاستعباد الثقيل، ثم فرَّ هاربًا من ميادين القتال، وتوسَّل إلى عدوه
المحارب أن يعفو عنهم وينعم، وأبت عليه نفسه، التي لا أكيِّف شعورها، أن يموت في منفاه،
وإلا أن يرجع إلى وطن هو مرجع شقائه.» وكتب مصطفى كامل في «اللواء» يصف رحلة عربي من
السويس إلى القاهرة بقوله: «قام عرابي على الطائر الأسود من السويس صباح أمس، ووصل إلى
القاهرة في مسائه، يحفُّه الصغار، ويلازمه الاحتقار، ويتقدمه طالع نحسه، ويتعقَّبه نذير
شؤمه، كأنه راجع من واقعة التل الكبير. كان ذوو العواطف التي تؤثِّر فيها الذكرى يظنون
أنه إذا مرَّ على ملاعب طيشه ومعاهد خذلانه ومسار فراره ومصارع شهداء وطنيَّته الكاذبة
وحميته الباردة، كالقصاصين أو التل الكبير، ذابت نفسه حسدًا، واحترقت روحه من الزفرات،
ولكن هيهات … هيهات … فالرجل إن عدَّ جسمه في الأحياء، فروحه وعواطفه من الأموات. مرَّ
على
تلك المصارع، فلم يخجل أن يسرح لمحاته في ساحاتها، حتى إذا وقع نظره على عظام شهداء
غروره البالية، البادية، حوَّل وجهه عنها، وصرف نظره إلى قبور الإنجليز في رياضها
الغنَّاء، فسلَّم عليها تسليم الصديق المشوق على الصديق المشوق، ونهض واقفًا، وقامت
الفاتحة»، وأضاف لواء مصطفى كامل — كذبًا — أن اللورد كرومر جاء بنفسه إلى محطة القاهرة
لاستقبال عرابي، بعد عودته من المنفى، ليلقي في روع الناس أن عرابي من صنائع الإنجليز.
٣٩
ومقابلًا لذلك الهجوم الضاري من مصطفى كامل ضد عرابي، فقد أدلى أحد أبناء عرابي بحديثٍ
إلى «الأهرام» قال فيه إن مصطفى كامل قد أرسل إلى والده في منفاه رسائل يسأله فيها
أشياء كثيرة «أبت ذمة والدي أن تطاوعه فيها، على أن هذه الرسائل لا تزال بأيدينا، وإن
كنا لا نود إظهارها» وقد نشر «المقطم» نصَّ أحد هذه الخطابات: «إلى الشهم محب وطنه العزيز
سعادتلو أحمد عرابي باشا الحسيني المصري. بعد تقديم واجب الاحترام، إني سحت في عواصم
أوروبا، فوجدت أفكار سياسيي تلك العواصم ضد سعادتكم على خطٍّ مستقيم، فدافعت عنكم يا
سيدي
كل جهدي، ولكن من غير سلاح أفحم به الخصوم، فأرجو من سعادتكم أن ترسلوا لي سلاحًا أدافع
به عن شهامتكم وشرفكم، وأنا في الختام رهن إشارتكم في كل وقت.» — محبكم: مصطفى كامل.
٤٠ أما التهور والاندفاع والخيانة، وغيرها من الصفات التي أطلقها عليه قادة
الحزب الوطني، فلعل الخِطاب الذي بعث به عرابي إلى جلادستون، كمحاولة أخيرة للحيلولة
دون
تنفيذ المخططات البريطانية، أو لإرجاء تنفيذها في أقل تقدير، ما يدل على «العقلية» التي
كانت تملي على عرابي تصرفاته، فهو يؤكد في بداية خِطابه أن الدين الإسلامي علَّم أتباعه
ألَّا يسعوا إلى الحرب أو يبدءوها، وإن كان يحثُّهم — في الوقت نفسه — على مقاومة العدوان
إن فُرضَت الحرب عليهم. وأكد عرابي أنه «لدى أول طلقة تقذف بها مصر، فإنها ستحل المصريين
من كل الالتزامات والاتفاقات والمعاهدات، وأن أملاك الأوروبيين في مصر سوف تُصادَر، وأن
القنوات سوف تُردَم وتهدم، وأن المواصلات سوف تُقطَع، وأن المسلمين جميعًا في الشام
والجزيرة العربية والهند سوف يُستنفَرون للجهاد.» وإذا كانت تصورات عرابي — حين بدأ
العدوان — لم تتحقق لأسبابٍ معظمها خارج إرادته، فإن التأمل في هذه التصورات يبين —
كما قلت — عن عقلية قائد يعلم جيدًا أبعاد الظروف التي تحيط بمعركته. وفي ١٥ يوليو أرسل
عرابي قطارًا إلى الخديو ليعود به إلى القاهرة، لكنَّ توفيق أسرع إلى قصر رأس التين،
فاستقبله الأميرال الإنجليزي، وأمر الجنود بإحاطة السراي، وأصبح الخديو — من لحظتها —
تحت رحمة الإنجليز، وقد بعث توفيق — من سراي رأس التين — رسالة إلى عرابي يطلب منه فيها
إلغاء التجهيزات العسكرية، والحضور إلى السراي لتلقِّي التعليمات. وكان اعتقال عرابي
—
بالطبع — هو الهدف الحقيقي، وردَّ عليه عرابي ببرقية مطوَّلة شرح فيها تطورات الموقف،
ثم
أنهاها بالقول: «وإنني كنت أتمنى أن أمثل بين يدي عظمتكم لإبداء هذه الملاحظات لو كنتم
في عاصمة بلادكم، ولكن من الأسف أن تحقَّق عندنا تحيُّز سموكم إلى العدو المحارب لبلادكم،
بدليل رفضكم العودة إلى العاصمة وقت إرسال القطار الخديوي لسموكم، واختياركم الذهاب إلى
رأس التين ومعكم النظَّار وغيرهم من الذوات، بعد علمكم بأن المدينة مشغولة بعساكر
الإنجليز إجابة لرأي المستر كلفن.»
٤١
لقد أكدت «الطان» الفرنسية أن عرابي قام بواجبه العسكري كأكمل ما يكون القائد، وأنه
كان من المفروض — حسب القواعد العسكرية — أن تؤدي مقاومة العرابيين للغزو، إلى دحر
القوات البريطانية «لولا المؤامرات حوله في العالم، والخيانة في داخل معسكره.»
٤٢ وكما يقول الفنان: «فقد تساقط العرابيُّون من هول الغدر والخيانة.»
٤٣ وثمة عامل آخر مهم، وهو أنه «إذا كان العرابيُّون قد هُزِموا، فليس من المشكوك
فيه أنهم كانوا على أبواب النصر، لولا أن واجههم الغزو البريطاني بقوة ما كان في مقدور
مجتمعٍ شرقي وقتها أن يقاومها.»
٤٤ والمؤكد أن عرابي كان إلى جانب ردم القناة، لكنه تنازل عن رأيه أمام ضغط
المجلس العرفي الذي رفض سدَّ القناة حتى لا تثور الدول ضد مصر، فسهَّل غزو البلاد من
ناحية
الشرق. مع ذلك فإن وثائق الثورة تؤكد أن عرابي ورفاقه كانوا يعدُّون لاستمرار المقاومة،
رغم هزيمة التل الكبير، وقد طرح بالفعل العديد من الأفكار والخطط لمقاومة قوات الغزو.
٤٥ ويقول لوسون في رسالة إلى بلنت: «إني أشك كثيرًا فيما إذا كانوا سيسمحون
لعرابي بأن يُحاكَم محاكمة نزيهة، لأنهم يعرفون تمام المعرفة، إنهم، إذا فعلوا ذلك،
سيحكمون على أنفسهم، والسياسيون أحذق من أن يقعوا في هذا الفخ.» وحتى بعد أن عاد عرابي
من منفاه فإنه تجاوز الاتهامات والشتائم، والبصقات أيضًا! وقال في إصرارٍ وهدوءٍ
واستشرافٍ للمستقبل: «فأما ما تقوَّله المتقوِّلون، وما يتشدَّق به المتشدِّقون، فإنا
لا نبالي،
ولا يثني عزمنا عن مبدئنا الأساسي الذي هو «مصر للمصريين» إن لم يكن اليوم فغدًا،
والأمور مرهونة بأوقاتها.»
٤٦ وقد حاول عرابي — وإن جاء ذلك متأخرًا — تمصير كوادره المختلفة، وبالذات في
الرُّتب الأعلى، فأُحيل ٣٠٠ من الضباط الشراكسة والأتراك إلى المعاش، لتجاوزهم السن
القانونية، ثم تلتها حركة ترقياتٍ هائلة لأعدادٍ كبيرة من الضباط المصريين، من بينهم
بعض
قادة الثورة، مما أنهى — بصورة شبه كاملة — السيطرة الأجنبية على الجيش، فلم يبقَ من
الضباط
الشراكسة سوى ٨١ ضابطًا فقط.
٤٧ كذلك فقد حاول عرابي — منذ تولي نظارة الحربية، التي كانت مثلًا للفوضى —
أن يستعد للطوارئ. فعُني بإصلاح حصون السواحل، ونظم احتياطي المدفعية، وأمر بزيادة
التدريبات وتحسينها، وفي مذكرات عرابي: «وصلنا محطة أنشاص، فوجدنا هناك قطارًا،
فركبناه، وأسرعنا إلى القاهرة لاتخاذ الوسائل اللازمة لحفظها من الأعداء قبل وصولهم إليها.»
٤٨ لكن القاهرة كانت خالية من الجنود تمامًا، فيما عدا ألفًا من الخفراء بدون
ضباط، ونحو ٤٠ من جنود السواري «فلما شاهدنا كلَّ ذلك رأينا أن الأولى حقن الدماء، وحفظ
القاهرة من غوائل الخراب والدمار، كما حصل في الإسكندرية، ما دامت المقاومة لا تجدي
نفعًا، وفضَّلنا تقديم أنفسنا فداءً عن الأمة المصرية سيئة البخت.»
٤٩ واتجه عرابي وطلبة إلى معسكرات العباسية، وسلَّما سيفيهما للقائد البريطاني
باعتبارهما أسيرَي حرب.
٥٠ وفي ظلام السجن، يسمع عرابي (خديجة وسوسن) صوتًا يخاطبه: «يا عرابي …
– ماذا تريد؟
– أتدري من أنا؟
– لا، أعلمني باسمك، وماذا تريد في هذا الوقت؟
– أنا إبراهيم أغا يا ابن الكلب يا خنزير.
ثم يبصق على عرابي، ويكيل له الشتائم.»
٥١ لكن عرابي يقول للمستر برودلي، حين يزوره في السجن: أتحب أن أريك برهانًا
على أن شعب مصر كان معي؟ انظر هنا، ويقوده إلى النافذة، فيرى من خلال ثقوبها عددًا
من النساء والصبية يبكون على الرصيف المقابل والحراس يبعدونهم بالقوة. وإذا كان أحمد
شوقي قد هجا عرابي عند عودته إلى مصر — بقصيدته الشهيرة — وواجه الرجل — عرابي — معاملة
سيئة من بعض مواطنيه إلى حد البصق عليه، فإن معظم المواطنين لم يكن لهم الرأي نفسه.
وكما يقول إبراهيم رشاد في مذكراته، فقد كانت سيرة عرابي تملأ حي السيدة زينب «بعدما
وصل إليه أخيرًا من جزيرة سيلان، وتلهب وطنية شبابه، وكنَّا نحييه أثناء ذهابه إلى مسجد
السيدة ليؤدي صلاة الجمعة.»
٥٢
والثابت أن عرابي لم يرشح نفسه للزعامة، فقد اختاره زملاؤه لقيادتهم، وحين حاول
مراجعتهم، أصرُّوا على اختيارهم، وأقسموا على المصحف أن يلتزموا بما يشير به، وبالإضافة
إلى أن الثورة كانت ضد النفوذ الأجنبي بعامة، فمن المؤكد أنها لم تكن بوحي من الباب
العالي، وإنما جاءت مفاجأة خالصة للسلطان التركي، حتى لقد أزمع السلطان إرسال حملة
لإخماد الثورة، وصدرت الأوامر بالاستعداد فعلًا، لكن أحد مسئولي الدولة رفع تقريرًا إلى
السلطان، يحذِّره من إخلاء العاصمة من الجنود، حتى لا يخلعه الشعب، فاستعاض عن الحملة
العسكرية بإرسال مبعوثه درويش باشا، للوفاق بين العرابيين والخديو.
٥٣ ولا شك — والكلام لبرودلي — أن عرابي وأصحابه كانت لديهم القدرة على أن
ينهضوا بحكم أمتهم حكمًا شعبيًّا، وأن ينفِّذوا — بكل جدارة — كلَّ التغييرات والإصلاحات
التي
نادوا بها،
٥٤ ويؤكد كرومر «إن حركة عرابي كانت — في كثيرٍ من الوجوه — حركة قومية خالصة.»
وفي التحقيقات مع العرابيين، قال محمود باشا فهمي: «لما صدر الأمر بعزل عرابي أرسل
لوكيل الجهادية، وصار عقد مجلس عمومي من المديرين والأعيان والرؤساء الروحانيين وغيرهم،
نحو ٨٠٠ نفر، وقرروا بقاءه، وعدم سماع أوامر الخديو والنظَّار.»
٥٥ حتى الخائن سلطان باشا، قال في كلماتٍ محددة: «إننا نحترم عرابيًّا لأننا
نعرفه وطنيًّا ورجلًا ذا فطنة سياسية، لا لأنه جندي.»
٥٦ بل إن القنصل البريطاني في لبنان بعث برقية إلى عرابي يبدي فيها إعجابه به
«كبطلٍ يدافع عن الإسلام.»
٥٧ مع ذلك، فإن الوصول إلى المصلحة السياسية العامة من منطلق المصلحة الشخصية،
هو تعبير عن وعي اجتماعي متميز، وثورية صادقة، مقابلًا لتحويل العام إلى خاص، تحويل
قضية المجموع إلى قضية خاصة، بالسطو عليها، واستلابها. من هنا، فإن عرابي يعبِّر عن ثورية
مؤكدة حين يحوِّل قضية ظلمه الشخصي، على يد الأوتوقراطية الخديوية، إلى قضية الدستور
الذي
يجب أن يكون أرضية تقف عليها مصالح الجماهير المصرية.
ثم يبقى السؤال الذي تفرضه الموضوعية: هل كانت الطريق ممهدة إلى تحقيق القوة العسكرية
المصرية، وسط الأطماع الأوروبية، ومؤامرات الباب العالي، والأوتوقراطية الخديوية، وضآلة
الإمكانيات؟
إذا كان تحديد الجيش المصري بما لا يزيد عن ١٨ ألف جندي، عقبة عانى منها المصريون
طويلًا في سبيل تنمية قدراتهم العسكرية، فإن فرمان مايو ١٨٦٦م كان قد أعطى مصر حقَّ زيادة
جيشها إلى ٣٠ ألف جندي، بدلًا من ١٨ ألفًا، ثم منحها فرمان يونيو ١٨٧٣م حقَّ زيادة الجيش
إلى أي عددٍ تريد، ومن ثَم فقد كان تدعيم الجيش المصري أمرًا مطلوبًا ومتاحًا، فضلًا
عن
أن تمصير وتسليح وتدريب القوات المصرية — أيًّا يكن عددها — كان سيغير تمامًا من نوعية
الصورة، من قبل أن تسفر الأطماع الإنجليزية عن نفسها صراحة.
٦١ وقد أثبتت معارك الثورة العرابية أنه — برغم الفرق النوعي والكمي بين سلاح
القوات المصرية والقوات الإنجليزية — فإنه لولا خيانة بعض العناصر التركية والشركسية
والبدو، وغلبة السلبية الدينية على تصرفات القادة المصريين، ومن بينهم عرابي نفسه،
فربما كانت الحملة الإنجليزية قد واجهت المصير الذي واجهته حملة فريزر من قبل.
هوامش