مصر ١٩٣٥م
كانت الأجيال — حتى أواخر القرن التاسع عشر — تتشابه في ظروفها، ولم تكن ثمة أحداث
اجتماعية أو فكرية هائلة، تغيِّر من وتيرة الحياة التي ألِفها الآباء والأبناء، إنما
هي
صورة واحدة متكررة، تكاد لا تتغير. فلما بدأت مظاهر الحياة الصناعية الأوروبية تغزو
البلاد، تبدَّلت صورة الحياة — إلى حد كبير — كان الحرفيون يعانون سكرات الموت تحت ضربات
التقدم الصناعي.
١ حلَّ وابور الغاز «البريموس» بدلًا من مصادر الطاقة التي كانت موجودة، مثل
الفحم وروث البهائم، وتطالعنا بداية «السكرية» باختفاء الفانوس القديم ذي المصباح الغازي،
وتدلَّى مصباح كهربائي مكانه.
٢ لم يعُد ثمة «فانوس كبير يشغله مصباح غازي في مثل حجمه.»
٣ وبدلًا أن تمسك أمينة المصباح؛ لتستقبل أحمد عبد الجواد في عودته من السهرة
مع أصدقائه، تضيء مصباح السلم.
٤ حلَّ النور الكهربائي بدلًا من مصابيح البترول أو الشموع، وإن رفض البعض
إدخال نظام الإضاءة الكهربائية إلى بيته، بحجة أن البيت يجب أن يحتفظ بطابعه
العتيق.
٥ كما ظل الرجل المُسمَّى «عفريت الليل» يؤدي وظيفته: يرتدي بدلة صفراء، وتغطِّي
رأسه طاقية من الصوف، ويحمل في يده عصًا طويلة جدًّا، في رأسها لهب، يضيء بها المصابيح
في صمتٍ وسرعة.
٦ وحتى أواسط الثلاثينيات، لم يكن الحاج إمام يؤمن بالجرس الكهربائي، ويجد
عصاه يدق بها الباب أقرب للتقوى.
٧ ولم تكن معظم البيوت — إلى أواخر الأربعينيات — قد عرفت الثلاجات، وكانت
الأسر تغلي الطعام في الحلل، ثم تضعه في البلكونة حتى لا يحمض.
٨ وثمة يوم للاستقبال اسمه «المقابلة»، تتقاسمه الأسر، كل أسرة تختص بيومٍ
معين تلتقي فيه عندها باقي الأسر،
٩ مناسبة تقيمها كل سيدة قادرة، وتخصص لها يومًا محددًا ومعروفًا من كل
أسبوع، أو من كل شهر. تجتمع فيه لدى سيدة البيت صديقاتها، ويقضين المساء بين أكداس
الشوكولاتة وأكواب الشربات، ويتحدثن عن بنت فلان التي هربت مع سائق السيارة، أو فلانة
«المسلوعة»، أو عن آخر أنواع العطارة التي تساعد على السمنة، وقد يتهامسن بما لا يصح
أن
تستمع إليه البنات.
١٠ وقد جعلت الست ليلى يوم الاثنين من كل أسبوع، يوم استقبال لصديقاتها في
البيت.
١١
وفي ٢٥ يناير ١٩٣٠م احتُفِل بمجيء أول طيار مصري، وكلَّف مدرس اللغة العربية طلبته
في
مدرسة الفيوم، بكتابة موضوع إنشاء عنوانه: الطيار محمد صدقي أول طيار مصري سيصل إلى
الفيوم بطائرته في الشهر القادم، صف شعورك. وكان رأي الشيخ متولي (الحجر) «أن الطائرة
من
علامات الساعة، يريدون أن يفتنوا الناس عن دينهم بحديدة يزعمون إنها تطير، أكلما فعل
الكفرة شيئًا فعلنا مثلهم؟!»
١٢ وكان القضاء موزعًا إلى محاكم أهلية، ومجالس حسبية، ومحاكم شرعية، ومحاكم
مختلطة، ومجالس ملِّية، وبطركخانات، ومجالس عرب، ومحاكم حدود. وكان معظم المتمصرين
يحرصون على جنسياتهم الأجنبية؛ ليفيدوا من قوانين المحاكم المختلطة. حتى الغانيات
الأجنبيات، مثل سوزي (حياة الظلام) كن يحرصن على جنسياتهن الأجنبية، ويحرصن بالتالي على
ما تعطيه لهن من امتيازات.
١٣ وقد أُلغيَت المحاكم المختلطة بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م.
١٤ وفي أواخر الثلاثينيات، أعلنت خديجة (السكرية) عن تفضيلها لإحضار الداية
التي ولَّدت أبناءها، لكي تولِّد نعيمة ابنة أختها وزوج ابنها عبد المنعم، لكن الشاب
أصر
على إحضار الحكيمة «فهي أنظف وأمهر بلا ريب.»
١٥ وبدأ تعميم التليفون غير اليدوي في أنحاء القاهرة، واستغنت مصلحة
التليفونات عن معظم العاملات.
١٦ أما العيادات النفسية فكانت وافدًا جديدًا على الحياة المصرية.
١٧ ويقول الطبيب النفسي (السراب) إن العيادات النفسية «من نوع حديث، ولا
أحسبها توجد في بلادنا.»
١٨ وربما بلغ ضابط الجيش سن المعاش وهو في أوائل الأربعينيات من العمر.
١٩
وكان مترو مصر الجديدة قد امتد إلى شارع عماد الدين،
٢٠ وثمة إحصائية طريفة — وقاسية! — أوردها محمود كامل عن ركاب قطارات السكك
الحديدية في ١٩٣٥م، فقد بلغ ركاب الدرجة الأولى ٥٢٣ ألفًا، من بينهم عدد كبير من
الأجانب. أما ركاب الدرجة الثالثة، فقد بلغوا ٣٣ مليونًا و١٤٠ ألفًا، كلهم من المصريين
«حُشِروا في عربات تلك الدرجة كما تُحشَر البهائم.»
٢١ وتكلم الحديد ممثَّلًا في الفونوغراف، هذا الكنز العجيب الذي حطمه البعض
ليعرف كيف ينطق. أصبح الفونوغراف هو وسيلة سماع الأغنيات في البيوت، فيما عدا قلة قليلة
من الأثرياء اقتنوا أجهزة راديو، امتنع الكثيرون — لأعوام — عن شراء الراديو، حتى وجَّه
بشأنه استفتاء إلى المفتي الشيخ محمد حسنين مخلوف: هل يجوز شرعًا بيع الراديو وشراؤه
واقتناؤه؟ فأفتى المفتي بجواز ذلك.
٢٢ ثم اقتحم العالم الخارجي معظم البيوت بواسطة الراديو، «ذلك الجهاز
السحري».
٢٣ بدأت الإذاعة المصرية بث برامجها في ٣١ مايو ١٩٣٤م، وأقبل المواطنون على
شراء أجهزة الراديو، وظهرت الأجهزة في المحال العامة والمقاهي. ومنها، كما تذكر، قهوة
زقاق المدق. وأصبحت الإذاعة في النصف الأخير من الثلاثينيات «أهم مؤسسات الحياة
الثقافية المصرية.»
٢٤ وكما قال الباشا (سلوى في مهب الريح) فقد «أصبح الراديو من حاجات العصر
الحديث التي لا غنى لأحدٍ عنها.»
٢٥ وُضِع في بيت «بين القصرين»، بين حجرة الاستقبال وحجرة السفرة، جهاز راديو،
تفتحه نعيمة بين ساعة وأخرى وهي تقول: «ميعاد إذاعة الأسطوانات يا ماما.»
٢٦ وحتى يستمع أحمد عبد الجواد — ذلك الباطش القديم — إلى برامج الراديو، فإنه
يستأذن عائشة التي كانت في حزن لوفاة ابنتها نعيمة منذ عام وأربعة أشهر.
٢٧ أصبح الراديو تسلية الرجل الأولى، بعد أن هدَّه المرض والسن فلزم البيت، لا
يكاد ينتقل من موضعه إلا إلى المشربية يطل منها على الغادين والرائحين.
٢٨ ويقول الرجل: «لا عمل لي طول اليوم إلا الاستماع إلى الراديو، ماذا كنت
أصنع لو تأخر استعماله في مصر عن اليوم؟ كل ما يذيعه يطيب لي، حتى المحاضرات التي لا
أكاد أفهمها.»
٢٩ أما أمينة، قد اعتبرت فضيلة الراديو الأولى أنه أتاح لها سماع القرآن
والأخبار.
٣٠ وكان شوقي — عندما يسمع صوت الشيخ محمد رفعت — يتلو سورة يوسف يكاد يبكي،
ويحس في خشوعه بطعم الدموع!
٣١ وكان الشيخ رفعت هو القارئ الذي يجمع الناس على سماع تلاوته للقرآن الكريم
في مسجد الفاضل.
٣٢ يقول الأب: «سأصلي العشاء في جامع العظام، ثم أذهب إلى مصر العتيقة لسماع
الشيخ محمد رفعت يرتل القرآن.»
٣٣ يصفه كامل زهيري بأن «له صوتَ فنان حساس، كأنه مزيج التقوى والرجولة، يخرج
المعاني الباطنة، فلا تحس أن صوتًا يرتل، أو رجلًا يقرأ، أو كلمات تُتلى، ولكنه نور هادئ
وغامر، معتدل التوزيع، يمس شغاف القلب، ويغسل الأحزان والمواجع برفقٍ ورحمة.»
٣٤ لقد نقل الراديو الأفكار والثقافة والفنون إلى داخل كل بيت دخلت إليه
الكهرباء، وأصبح جزءًا ثابتًا في حياة الأسر العادية، وتطورت السينما إلى حدٍّ مذهل من
الشريط التسجيلي الصامت إلى الفيلم الدرامي الناطق، وتضاعفت أعداد دُور العرض السينمائي،
ونشطت حملات محو الأمية، وظهرت المطبوعات الرخيصة التي كفلت الثقافة للملايين من البشر
الذين لم تُتَح لهم هذه الفرصة قبلًا، وانتشرت المكتبات العامة لتزيد من عمق تلك
الفرصة.
وهُدم بيت السيد محمد رضوان المجاور لبيت أحمد عبد الجواد. أعيد بناؤه عمارة من أربعة
أدوار باسم بيومي الشربتلي الذي جعل فيها دكانًا جديدًا للشربات والدندرمة والحلوى،
وصفتها أم حنفي بأنها كلها مرايا وكهرباء والراديو ليل نهار. وأضافت: «يا عيني على
حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقهى، وهم ينظرون من
دكاكينهم البالية إلى دكان زميلهم القديم وعمارته.»
٣٥
كان الكثير من أسر الطبقات الوسطى وما دونها أميل إلى المحافظة والتشدد، والحرص على
العلاقات الأسرية، فالأخ — مثلًا — لا يتزوج قبل شقيقته مهما تقدَّمت بها السن، استمرارًا
لتقاليد المجتمع القديم، وهو ما فعله حنفي في «زقاق السيد البلطي»، وكانت غالبية الأسر
ترفض دخول التليفون إلى بيتها، وتعتبر دخوله كارثة.
٣٦
وفي المقابل، فقد كان جلوس الزوج في السلاملك المطل على الطريق، وبين يديه منضدة
عليها زجاجة ووعاء ثلج وكأس وطبق مزة، كان ذلك يمثل تحديًا صارخًا لتقاليد الزمان
والمكان.
٣٧ وقد اخترع المجاهد الغيور حضرة عباس أفندي عبد الرحمن وسيلة ناجحة لمحاربة
المنكر «فعمد إلى تصوير نواحي المنكر في لوحات خاصة، يصدرها تباعًا، ويوزعها على
الجمهور بثمن زهيد، لا يكاد يعدل شيئًا من قيمتها العملية في تهذيب النفوس وبث مكارم
الأخلاق، وكانت لوحته الأولى في مكافحة الخمر، وعنوانها من «الحانة إلى المسجد»، وقد
تشرف
برفعها إلى الأعتاب الملكية.»
٣٨
أما عطلة المدارس الصيفية فتمتد حوالي الأشهر الخمسة.
٣٩ وكانت الطبقة العالية تقضي أشهر الصيف في إجازات خارج البلاد، فلا تعود إلى
القاهرة إلا في منتصف أكتوبر، في حين كان نحو ثمانية ملايين مصري يحيا كلٌّ منهم بأقل
من عشرة مليمات في اليوم.
٤٠ كان مجموع أصحاب الحرف والصناعات٥٧١٨١٢٧، من بينهم ٥٩١١١٩ بين عاطلين،
أو أقعدهم المرض، أو دخلوا السجن لجرائم مختلفة، وهي — كما ترى — نسبة مخيفة.
٤١ وبلغ عدد الحجوزات الإدارية عام ١٩٣٥م — في مديرية أسيوط على سبيل المثال —
١٨٥٠٠ حجز، بمعنى أن ما يقرب من ٢٠ ألف أسرة تعرضت للخراب في مديرية واحد.
٤٢ وكان نحو ١٢٪ من مجموع الأيدي العاملة في الصناعة من الأطفال غير البالغين،
وبلغ عدد باعة اليانصيب في القاهرة وحدها أكثر من ثلاثة آلاف، وأُجريَت فحوص طبية على
سكان بعض القرى في شمال الدلتا، فثبت أن ٦٥٪ منهم مصابون بالملاريا!
٤٣ وقارب مرضى السل حوالي نصف المليون، وأدلى وزير المعارف العمومية ببيان أكد
فيه أن ٧٠٪ من تلاميذ المدارس الأولية مصابون بأمراض صدرية نتيجة الجوع. ولم يزِد عدد
الأصحاء من الذين كانوا يقدمون إلى القرعة العسكرية عن ٤٪، ومثَّل عدد الأطفال الذين
تُوفوا قبل العاشرة ٦٥٪ من الوفيات العامة، ورفض القومسيون الطبي نحو ٨٢٪ من المقترعين
لعدم صلاحيتهم للخدمة العسكرية.
٤٤ وكانت الحركة النقابية لا تزال ضعيفة، ومفككة، يتنازع السيطرة عليها
اتحادان عمَّاليان، أحدهما بقيادة عباس حليم، والآخر بقيادة الوفد، لكن القاعدة العمالية
—
رغم ضعفها وتفككها — حاولت أن تظل في منأى عن ذلك الصراع.
وقد حاولت الدولة في ١٩٣٠م وضع نظام جمركي جديد لحماية الصناعة المحلية، وكان للحماية
الجمركية تأثير واضح في زيادة عائد رأس المال المستثمَر في الصناعة، ومجاوزة الخوف الذي
أحجم بتأثيره الكثير من الممولين عن الاستثمار في ذلك المجال. من هنا، وجد البعض في عام
١٩٣٠م تاريخ إرساء الصناعات الحديثة ذات الإنتاج الكبير في مصر على دعامات قوية. لكن
الأحوال الاقتصادية — حتى عام ١٩٣٥م — ظلَّت متأثرة بعض الشيء بالأزمة الاقتصادية؛ ذلك
ما
قاله أحمد عبد الجواد وهو يراجع دفتر تجارته.
٤٥ ويقول محمد عفت (السكرية): «هذه موضة جديدة، الشبان الآن لا
يتزوجون.
– ليست موضة فحسب، ولكن بنات اليوم يزحمن الشوارع، فضعفت الثقة فيهن. ألم تسمعوا
الشيخ حسنين وهو يغني: يا ما نشوف حاجات تجنن … البيه والهانم عند مزين؟
– ولا تنس الأزمة الاقتصادية وضيق المستقبل أمام الشبان، إن خريجي الجامعة يتوظفون
بعشرة جنيهات، إن وجدوا وظيفة بطلوع الروح!
٤٦
كانت أزمة الزواج القائمة المحتدمة آنذاك، هي الباعث لأن يوافق محمد أفندي فريد على
خطبة ابنته إلى حسنين الطالب بالبكالوريا، فضلًا عن تعاطفه مع أسرة الشاب.
٤٧
وتعبِّر الأم (بداية ونهاية) عن الظروف الاقتصادية السائدة آنذاك، في ردِّها على
قول
حسنين، تعقيبًا على قرار أمهما — بعد وفاة الأب — بمنع المصروف اليومي: سنكون التلميذين
الوحيدين اللذين تخلو جيوبهما من المصروف … تقول الأم: إنك واهم، المصائب كثيرة،
والتلاميذ المصابون لا حصر لهم، ولو أنك فتشتَ جيوب التلاميذ جميعًا لوجدت أكثرها
فارغًا.»
٤٨ ونشرت الصحف إعلانات قضائية من مثل بيع منقولات منزلية ملك فلان الفلاني،
وفاء لمبلغ ٨٠ قرشًا، كطلب فلان أفندي علان التاجر، فعلى راغب الشراء الحضور.
كانت ملاحظة سيدة (نحن لا نزرع الشوك) لعلَّام أن «الشقق الفاضية على قفا من
يشيل.»
٤٩ ويضيف علَّام في دهشة: «ما من بيت إلا عليه لافتة للإيجار.»
٥٠ كان متوسط إيجار الشقة المكونة من ثلاث غرف وصالة في حي متوسط حوالي ثلاثة
جنيهات.
٥١ وكانت سعادة الأستاذ حسبو (شباب امرأة) كبيرة، لأنه وجد طالبًا يستأجر
الغرفة الخالية في بيت المعلمة، بعد أن ظلَّت تواجهه بسخريتها المريرة وإيذائها، بل
وأنذرته بالطرد إن لم يجد ساكنًا للغرفة.
٥٢
وفي أواسط الثلاثينيات كان العريس يدفع مهرًا قيمته سبعون جنيهًا، يشتري بها أهل
العروس حجرة جلوس وحجرة نوم وحجرة مائدة ومطبخًا كاملًا.
٥٣
سأل كامل رؤبة لاظ أمه (السراب): بماذا تقدِّرين تكاليف المعيشة بما فيها من سكن
وطعام
وخادم وغيرها؟ أجابت: بما لا يقل عن ستة جنيهات.
٥٤ كان مرتب حامل البكالوريا سبعة جنيهات ونصفًا.
٥٥ ويتحدث ياسين (السكرية) عن شابين من حملة الليسانس، عُيِّنا في إدارة
المحفوظات في الدرجة الثامنة بثمانية جنيهات.
٥٦ من هنا، جاء قول عباس فوزي وكيل السكرتارية (المرايا) لأحد مرءوسيه: إن
صافي مرتبك ثمانية جنيهات، وهي تكفي للزواج من اثنتين!
٥٧ وكان حسين يدفع أجرًا للسكن في لوكاندة بريطانيا بطنطا ١٥٠ قرشًا شهريًّا،
بالإضافة إلى مائتَي قرش للأكل: فول للفطور، وطبق خضر باللحم وأرز ورغيف للغداء وحلاوة
طحينية أو جبن للعشاء.
٥٨ وكانت القروش العشرة تشتري قدحَ فول مدشوش ورطل جبنة حلوم ونصف أقة زيتون
وقطعتَي صابون نابلسي، وأشياء أخرى.
٥٩ وكان ثمن فنجان القهوة في المقاهي الشعبية نصف قرش.
٦٠ وأعلنت محلات سمعان صيدناوي عن بيع القميص البوبلين الرجالي بستة عشر
قرشًا، وحذاء السيدات ماركة درمانا بخمسة وخمسين قرشًا، والمايوه (كان اسمه بدلة البحر)
بثمانية عشر قرشًا. ولأن عربات الحنطور كانت وسيلة ركوب رئيسة في المدن الكبرى كالقاهرة
والإسكندرية، فقد كان لها تعريفة ركوب تبدأ بثلاثة قروش ونصف القرش للكيلومتر الواحد،
وتصل إلى ٨٥ قرشًا لليوم الكامل. أما أجور الحمير فكانت ١٢ قرشًا لليوم الكامل من شروق
الشمس إلى غروبها، أما التوجه إلى خارج المدينة — مع عدم العودة — فكانت قيمته ١٨
قرشًا.
وأطلَّت مشكلة الزحام برأسها من خلال وقفة الشاويش بغدادي وسط الميدان، ومن حوله
«جميع
وسائل النقل على تباين أنواعها، واختلاف صورها: من الحمار يرزح تحت أحمال البرسيم،
ذليلًا منكس الرأس، متراخي الآذان، إلى الجمل يسير بأثقال البطيخ والشمام، طويل الجيد،
براق العينين، مستهزئًا ببغال «الأمنبيس» خاصة، ثم عامة، بما أحدثه أهل الحضر حوله من
سيارات ودراجات وتراموايات.»
٦١
وكان رأي الدكتور إبراهيم عقل (المرايا) إنه «عندما يتم بناء الكورنيش سيتغير وجه
الإسكندرية.»
٦٢
•••
لقد طرأ تغيُّر على عادات من ألِفوا ركوب العربات والحمير، وتغيَّر — بالتالي — في
شكل
شوارع القاهرة وأرصفتها وطبيعة رصفها واتساعها.
٦٣ حتى الطريق أسفل بيت «بين القصرين» مُهِّد بالأسفلت، وأضيء بالمصابيح.
٦٤ وسار الترام في الشوارع التي كانت وقفًا على الجياد، وتحوَّل إلى وسيلة
مواصلات مزدحمة، حتى إن الواقفين على الرصيف ينتظرونه يسألون الله في سرهم أن يكون فيه
موضعٌ لقدم.
٦٥ من هنا — ربما — جاء رفض الشيخ ركوب الترام بدلًا من الحنطور: «أتجد يا سيدي
أم تهزل؟ هذه حقارة يا سيدي! هذه بهدلة وتجرمة! ونادي: يا عربجي! يا أوسطى! يا
عربجي!»
٦٦ مع ذلك، فإن النذر السلبية تبدَّت للأسطى حنفي العربجي، ومال لتجنيب مهنته
أبناءه: «بعت جميع ما أملك إلا عربة واحدة، محافظة على سمعة العائلة وشرف الاسم، وحبًّا
في صنعة نشأتُ بين أحضانها، وجدت نفسي على كرسيها، كرسي لا فيه استعفاء ولا مجلس تأديب.
نهايته، لقد بعت الأقفاص — أقفاص العربة — وأجَّرت الإسطبل، وأضفت ذلك إلى ما عندي، فكان
فيه الكفاية وأكثر.»
٦٧ وانتهى الأسطى حنفي بضرورة تعليم ابنه، وإبعاده عن مهنة الحوذي، فهي — في
تقديره: «محتقرَة في هذا البلد، ومن يدري، فربما وصل يومًا من الأيام إلى درجة أن ينادي
عليه بلقب «يا متر» أو «يا دكتور» أو يا حضرة الباشمهندس، ووقتئذٍ يمكنه — بعمله وآدابه
وإنسانيته — أن ينسى من يعرفه أنه نجل الأسطى حنفي.»
٦٨
من هنا، كتب عزيز خانكي متسائلًا: ألا ترى مثلي أن قولك السيد مصطفى خير من قولك
حضرة
الفاضل صاحب العزة مصطفى بك، والسيد عباس خير من قولك حضرة صاحب المجد النبيل عباس بك؟
فما رأي أصحاب النظر والذوق؟
٦٩ إنه يدعو إلى مخاطبة كل المواطنين بلقب «السيد»، وهو ما تحقق عقب ٢٣ يوليو
١٩٥٢م.
•••
في مقدمة «تقويم المصري للمصري» (١٩٣٢م) كتب سلامة موسى، مخاطبًا الشباب المصري:
«أنتم
الآن لا تملكون مصر إلا بالاسم؛ لأن الذين يملكونها أجانب، لا يتكلمون لغتكم، ولا
يلبسون لباسكم، بل لهم وجوه غير وجوهكم، هؤلاء الأجانب هم الذين يملكون الوطن المصري،
يملكون بنوكه المسيطرة على مرافق البلاد، بل يملكون تجارته وصناعته.»
٧٠ وعلى حد تعبير لويس عوض، فقد كان المنتج والبائع أجنبيًّا، وكان المستهلك
مصريًّا.
٧١ وألَّف أحمد حسين في ١٩٢٩م جماعة صغيرة باسم «جمعية الشباب الحر»، تهدف إلى
بعث المجد المصري، وإثارة روح العظمة في النفوس، وكان في ذلك متأثرًا ببعض الحركات
الوطنية الأوروبية مثل حركة «إيطاليا الفتاة».
٧٢ وأنشأ سلامة موسى في ١٩٣٠م جمعية «المصري للمصري» بهدف نشر الوعي بضرورة
تشجيع الصناعات الوطنية كوسيلة من وسائل مهاجمة الاستعمار، ويتصل بفكرة إنشائها مشروع
القرش.
٧٣ وفي ١٩٣١م قامت حركة مشروع القرش لتنشئ أول مصنع يملكه الشعب. ومع أن
الطربوش كان شعارًا للمصريين، فإنه كان يُصنَّع في النمسا، لذلك قرر أحمد حسين أن تكون
البداية إقامة مصنع للطرابيش.
٧٤ وفي ١٩٣٣م قامت حركة الشباب التي أنشأت شركة بيع المصنوعات المصرية كنموذج
اقتصادي للإنتاج الصناعي المصري، وكتبت صحيفة مصر الفتاة «يا شباب عام ١٩٣٣م كن كشباب
عام ١٩١٩م.»
٧٥
والملاحَظ أن ظاهرة شراء البضائع المصرية فرضت نفسها بصورة لافتة: الطربوش والكرافتة
والحذاء، كلها من مصر، والسجاير أيضًا.
٧٦ أصبح ياسين (السكرية) يرتدي بِذلًا من تيل المحلة — أحد مشروعات ما بعد ١٩١٩م —
تتقدمه الوردة الحمراء والمنشة العاجية.
٧٧ وكان عباس البرعي (نحن لا نزرع الشوك) يرتدي بذلة كحلية أنيقة، وطربوشًا
أحمر، مائلًا على أحد حاجبيه، ويمسك منشة في يده، ويضع قرنفلة حمراء في عروة جاكتته،
وفي قدميه حذاء أسود لميع يضع فوقه جترًا رماديًّا.
٧٨ ومال الشبان بعامة إلى الملابس البسيطة، كالقميص المفتوح الجيب، القصير
الكمين، والسروال المرتفع إلى ما فوق الركبتين، وتخلوا — بالطبع — عن اتخاذ
العصا.
٧٩ واستند دعاة إلغاء الطربوش إلى أنه «ليس له أصل مصري أو عربي أو إسلامي،
وأنه لا علاقة له بالدين أو اللغة، وكان لبسه محاكاة للغير.»
٨٠
واستبدلت — في الأحياء الجديدة — البيجاما بالجلباب، والكرة بالسيجة، والجري وراء
عربة
الرش.
٨١
•••
غيَّرت أحداث الثورة من طبيعة الناس والأشياء، حتى المرأة شاركت في وقائع الثورة،
وصار
الحجاب حدثًا ماضيًا، وإن ظل اختلاف الطبقة الاجتماعية — كما يقول الأب جاك جومييه بحق
—
حجابًا أغلظ من حجاب الحريم، يحُول بين كمال عبد الجواد وبين عايدة شداد.
٨٢ يقول الراوي: «كنا نحارب طبقات كثيفة من الماضي العتيق، كلما تلاشت طبقة
برزت تحتها طبقة راسخة تتطلَّب المعاناة والعناء لقهرها. كان علينا أن نقطع خمسة قرون
أو
ستة في ربع قرن.»
٨٣
بدأت السيطرة المطلَقة لأحمد عبد الجواد في الضعف، فهو لم يعُد يصول ويجول كيفما
يشاء،
فرض ذلك تقدُّم العمر وتطور المجتمع. خلا قلب الشابَّين ياسين وكمال — أو كاد — من الخوف
الذي
كان يركبهما قديمًا في حضرة الأب.
٨٤ لم يعُد الأب يملي إرادته على كمال، ودخل الشاب مدرسة المعلمين بدلًا من
الحقوق التي اختارها له أبوه. كما أسفرت نزوات ياسين عن قسماتها في موازاة — أو مقابل
—
نزوات الأب، واضطر أحمد عبد الجواد إلى قبول ما لم يكن يرضاه حتى توافق زنوبة العوادة
على أن تصبح عشيقة له، لكنها واصلت ابتزازه، وإذلاله، حتى يضطر — بما تبقى له من إحساس
بالكرامة — إلى قطع علاقته بها، ليأتيه — بعد قليل — الخبر الصاعق: زواج ياسين من زنوبة!
أما أمينة فقد أصبحت تخرج لزيارة ابنتيها، فلا يسألها السيد: كيف؟ ولماذا؟ وكمال
الصغير — وقد أصبح شابًّا — يسأل والده عن رضوان بن ياسين: متى يستحق شرعًا لأبيه؟ فيجيبه
أبوه: عندما يبلغ السابعة، ولا يصيح به — كما اعتاد في الأيام الخوالي — اخرس يا ابن
الكلب!
٨٥ «الأمر لله، مضى الزمن الذي كان يملي فيه إرادته إملاء، فلا يجد رادًّا
لها.»
٨٦ ويسأل علي عبد الرحيم (قصر الشوق): أتظن أنه يمكن التحكم بالطريقة القديمة
في شبان اليوم؟! هؤلاء الشبان الذين اعتادوا القيام بالمظاهرات، والوقوف في وجه
الجنود؟!
٨٧ بل إن إبراهيم الفار يقول في أسًى: «إذا كانت الثورة هي سبب ما نعاني من
أولادنا، فالله يسامح سعد باشا.»
٨٨ حتى فؤاد بن جميل الحمزاوي العامل بدكان أحمد عبد الجواد، فاجأ الرجل
بكلماتٍ أذهلته، ودفعته إلى التحدث عن الأصل الوضيع الذي تناساه أصحابه. وأضاف الرجل
كلمات الشاب إلى أمراض تقدُّم العمر التي تسللت إلى جسده بعد أن كان يضج صحة وفتوة. ويسلط
الفنان ضوءًا على أحاديث الشباب آنذاك: استغرقت الجميع قضايا محددة، كالقضايا المصرية،
ودستور ١٩٢٣م، ومقاطعة البضائع الأجنبية.
٨٩ وتناولت الأحاديث أيضًا: السينما وتهديدها للثقافة الحقة والفن الرفيع،
الويسكي والحشيش وأيهما أمتع، هل يعود دستور ١٩٢٣م، مَن صاحب الفضل الأكبر في إنشاء
الجامعة: الملك أم سعد زغلول؟ وكانت الأربعون نذير التعنس بين الذكور، بينما كانت
الثلاثون نذير التعنس بين الإناث.
٩٠ وكان العيب في الذات الملكية يُعَد درجة لا بأس بها من درجات الجهاد، يضمن
لصاحبه موضعًا في صفوف المجاهدين.
٩١ وكان الشرطي الذي قبض على ذراع سيد زهير في طريقه إلى السجن، تعبيرًا عن
رجل الشرطة الذي كان يؤدي واجبه دون أن يكون بينهما ما يدعو إلى الخصومة أو الكراهية
«أنا آسف، ولكن ما حيلتي؟»
٩٢ «إنهم يأتمرون بأمر آلة ضخمة، لا يملكون لي معها ولا لأنفسهم شيئًا.»
٩٣ ويقول وكيل النيابة فؤاد الحمزاوي: «إن النيابة في عهود الانقلاب تنكمش إلى
الوراء، على حين يحتل البوليس المقدمة؛ إذ إن عهود الانقلاب عهود بوليسية، فإذا عاد
الوفد إلى الحكم رُدَّت للنيابة مكانتها، ولزم البوليس حدوده، ففي عهد الحكم الطبيعي
يكون
القاضي هو الكلمة العليا.»
٩٤
بدأ جيل جديد يأخذ طريقه إلى الحياة، وكانت جامعة القاهرة هي الأرض التي نما فيها،
وصلب عوده. وقد نشأ هذا الجيل وازدهر في ظل جمود الحركة الوطنية، وتحوُّلها من ثورة شعبية
إلى قضية سياسية. يصف الفنان شباب الفترة بأنهم يعشقون الحرية، وينزعون إلى السفور
التام «سفور الفكر وسفور الروح.»
٩٥
لقد تقهقر الجيل الأول في أسرة «بين القصرين»، وأفسح المجال لجيلٍ جديد، لم تستقر
المفاهيم الوطنية لديه بصورة متكاملة، فهو يعيش فترة الصراعات الحزبية، والتكالب على
كراسي الحكم، والتصارع على كسب ودِّ السراي أو السفارة البريطانية بقصر الدوبارة، وثمة
من كان يحمل على الأحزاب المختلفة «كلهم مهرجون، ماذا فعلوا للبائسين؟»
٩٦
وظهرت رواية توفيق الحكيم «عودة الروح»، تبشِّر بظهور البطل الذي يقود الشعب نحو الحرية
الحقيقية والاستقلال الحقيقي، ويقضي على الخلافات غير المبرَّرة بين أبناء الأسرة المصرية
الواحدة، وافتتن العشرات من الشباب برواية الحكيم، وما بشَّرت به، وكان من بين هؤلاء
الشباب جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو، الذي اعترف — صراحة — بمدى تأثُّره برواية
الحكيم.
وبالطبع، فقد تغيَّرت نوعية الحوار بين الآباء والأبناء، حتى إن إبراهيم أفندي لا
يجد — أمام إصرار ابنه محمود على الاشتغال بالسياسة — إلا أن يحذِّره: ابعد عن السكة
دي أحسن لك!
– ومين يدافع عن البلد؟
– كان غيرك أشطر!
– معلهش … الحكومة لازم تسقط يابا!
٩٧
•••
تغيَّرت معالم الخريطة الاجتماعية؛ أصبح الخروج على القديم ظاهرة: «إن أنباء كالأساطير
تترامى إليه عن شباب اليوم، منهم تلاميذ قد اعتادوا التدخين، وآخرون يعبثون بكرامات
المدرسين، وغير هؤلاء وأولئك قد تمردوا على آبائهم.»
٩٨ وكان الكوكايين قد تسلَّل إلى أنوف الشباب وأدمغتهم بصورة رهيبة، وارتفع سعر
الجرام من قرش ونصف إلى خمسين قرشًا.
٩٩ «وأصبحت زجاجات الكوكو مع أغلبية شبابنا ألزم من رباط الرقبة، من المنديل،
بل من زر الطربوش.»
١٠٠ وكان بعض الشبان يوافق — حتى يحصل على شمَّة — على أن يقطع زر طربوشه أمام
الناس، مجرد محاولة للسخرية منه.
١٠١
ويصف الراوي تلك الفترة بأنها «فترة انهيار في الأخلاق والقيم لا نظير لها، حتى خُيِّل
إليَّ في أحيان كثيرة، أنني أعيش في بيتٍ كبير للدعارة لا في مجتمع.»
١٠٢ تقول الفتاة: «إنني أسمع من صديقاتي أمورًا يشيب لها الشعر، شبان لا يتورع
الواحد منهم عن أن يدعو صديقته إلى نزهة في سيارته إلى الهرم، ويؤكد لها أنه يحبها
ويعبدها، وأن قلبه لم يخفق من قبل بحب غيرها، ولا يمكن أن يخفق بحب أخرى، فإذا أوصلها
إلى منزلها أسرع ليقابل راقصة كانت — إلى عهدٍ قريب — تتخذ مكانها المنزوي على دكة المخدِّم
في أحد أزقة البغالة.
١٠٣
وكان الإلحاد موضة بين طلبة الجامعة.
١٠٤ يقول يسري (ثم تشرق الشمس) في غضب: أنا لا أعرف لأحدٍ فضلًا علينا.
تسأله الأم: أبدًا؟
يجيب: أبدًا.
– يا أخي لا تنسَ فضل الله علينا.
– ولا الله!
– ماذا؟ ماذا قلت؟
يقول خيري: لا تخافي يا نينا، لا تخافي. إنها موجة في هذه الأيام … ولكنها كلام لا يدل
على ما في القلب!
١٠٥ وبعد أن كانت تلاوة الشيخ رفعت تملأ نفس عبد العزيز بجلال القرآن، لم يعُد
يطرب لغير رخامة صوت الشيخ رفعت وإعجازه. أما القرآن نفسه، فهو يقول لشكري عبد العال
ضاحكًا: إيه رأيك في حكاية
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا
أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ؟ (يوسف: ٢٤) حكاية برهان ربه دي مش داخلة
المخ قوي يا عم شكري بيه! يعني لو برهان ربه دا اتأخر دقيقة، كان حا يجرى
إيه؟!»
١٠٦ بل إن العالمة جليلة (السكرية) تعبِّر عن سخطها على الزمان الجديد في قولها
لكمال: «أفٍّ من زمانكم أفٍّ، كانت فلوسنا من الذهب، وفلوسكم من الحديد والنحاس، وطَربنا
كان من لحم ودم وطربكم راديو، وكان رجالنا من صلب آدم ورجالكم من صلب حواء.»
١٠٧
ويعرض لنا الفنان ثكنات قصر النيل، والعلم الإنجليزي يرفرف عليها، والجنود الإنجليز
يروحون ويجيئون في الداخل، وبعضهم يسرع من على النيل مودِّعًا صديقته الفتاة المصرية
التي كان يصحبها، ويهرول نحو الثكنات.
١٠٨
أما المرأة، فقد كانت سيدات العباسية يلبسن المعطف الأسود فوق الثوب و«التيربون»
أو
«التوك» فوق الرأس، في حين كانت سيدات باب الشعرية والحسين يرتدين الملاءة
اللف.
١٠٩ وكانت حكمت تدخل محل شيكوريل، وتقلِّب في القبعات حتى تختار واحدة في
النهاية.
١١٠ أما سميرة فكانت ترتدي ثيابًا قصيرة، لثقتها أنه «ما من فتاة في هذا الزمن
تستطيع أن تصل إلى شيء بغير ساقين جميلتين.»
١١١ وتغيَّرت النظرة إلى السمانة تمامًا، أصبحت — على حد تعبير عائشة — من العيوب
«خاصة في البنات.»
١١٢
•••
كان الدكتور الكرماني (أزهار) صورة متطورة للأب أعوام الثلاثينيات، كان يؤمن بأن
التعليم فرصة يجب أن تُتاح للولد والبنت على السواء. مبعث ذلك الإيمان تعاليم قاسم أمين
التي استوعبها الرجل جيدًا. وأدرك أنها لا تخالف تعاليم الإسلام، فضلًا عن عامل يصعب
إغفاله، وهو أن الرجل رُزِق بعشر بنات، وكان التعليم هو الضمان الأقوى
لمستقبلهن.
١١٣ وكتبت الأهرام (٣٠ مايو ١٩٢٩م) عن «النظرية العتيقة التي تقول إن المرأة
خُلقَت للبقاء في المنزل تحت حماية الرجل؛ لأن طبيعة خلقها تستلزم ذلك، أصبحت نظرية
تاريخية لا أساس لها.» لم يعُد بعض الأزواج يجد حرجًا في أن يصحب زوجته إلى المجتمعات
العامة، ولا أن يجلس إليهما صديق يشاركهما الحديث.
١١٤ وبعد أن أثار ذهاب ياسين وزينب إلى كشكش بك في العشرينيات ضجة لم تغادر بيت
«بين القصرين» لفترة طويلة، فإن أحمد شوكت يقول لأمه في الثلاثينيات: سأدعو العروسين
— شقيقته وزوجته — ووالدي وخالتي إلى لوج في الريحاني الخميس القادم. وتسأل الأم:
الريحاني؟ فيقول لها الأب مفسرًا: كشكش بيه. فتضحك قائلة: كاد ياسين يُطرَد من بيتنا
وهو
عريس بسبب أخذ رضوان ليلة إلى كشكش. فيقول أحمد باستهانة: كان زمان وجبر، جدي الآن لا
يمانع في ذهاب جدتي إلى كشكش بيه!
١١٥
وحين تظهر الفتاة (إني راحلة) موافقتها على الزواج بمن لا تحب، يحرِّضها فتاها على
الرفض: «هذه حياتك، أتتركينها تذهب سدى؟ إننا لم نعد بعد في زمن الاستعباد، كيف تُرغَمين
على زوج لا تريدينه؟»
١١٦
وإلى جانب حياة التزمت التي كانت تعيشها الفتيات الجامعيات العشر في رواية «السكرية»،
فإن سعد وهبي (المرايا) قدمت مثلًا مغايرًا «كأنها نجم هبط علينا من الفضاء، كانت أجمل
الفتيات وأطولهن وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، ولم تقنع بذلك، فلوَّنت بخفة الوجنتَين
والشفتين، وضيَّقت الفستان حتى نطق، وتبخترت في مشيتها إذا مشت، وكانت تتعمَّد أن تدخل
القاعة متأخرة بعد أن نستقر في مجالسنا، ويتهيأ الأستاذ لإلقاء محاضرته، ثم تهرول
كالمعتذِرة فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة في الصفوف، وتند عنها همهمات كطنين
النحل.»
١١٧ ويقول الرجل (حواء بلا آدم): «بنات اليوم، ما فيش غير الدلع
والفرنجة.»
١١٨ وكانت مشكلة الزوجة في «بنت البك» كثرة ترددها على المسارح برفقة صديقاتها.
يبدي زوجها ملاحظة، فتقول: «إن هذا كان سلوكي قبل أن أتأهل بك، ولا أحسب أن الزواج
سيفقدني شيئًا من الحرية التي كنت أنعم بها، أتريدني حبيسة؟ أتستكثر عليَّ ارتياد
المسارح؟ أترغب أن أضع مئزر الخادم، وأهبط إلى المطبخ لأنظف الأطباق والأواني.»
١١٩
ويقول الفنان (حمار الحكيم) لصاحبه: «أرأيت حرم الباشا وحرم البك؟ تركن عملهن هنا،
عمل السيدات، وأقمن في القاهرة ليذهبن كل ليلة إلى السينما، هذا ما عملته نساؤنا اليوم
بعد أن خرجن من قفص الجواري البيض!»
١٢٠ لقد «أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور.»
١٢١ وتتساءل الفتاة: لماذا لم يهبني الله حرية الإفرنجيات، فأخرج كيف أشاء، دون
رقيب؟!
١٢٢
ويتحدث الفنان (السكرية) عن بنات اليوم (١٩٣٥م) اللائي زحمن الشوارع، فضعفت الثقة
بهن،
ويقول: ألم تسمعوا الشيخ حسنين وهو يغني يا ما نشوف حاجات تجنن، البيه والهانم عند مزين؟!
١٢٣ يضيف الفنان (الرباط المقدس) أن الكثير من البنات عُرِف عنهن ما يُعَد فضيحة في
نظر الأمهات والعمات، مثل الخفة في السلوك، والمغالاة في الملبس والمظهر والتحرر، إلى
حد قبول مغازلة الشبان في الطريق، أو في التليفون.
١٢٤ وفي مسرحية المرأة الجديدة يقول سليمان: «وهو الرجل يقدر يلاقي صديق
بالمعنى الصحيح غير المرأة؟ أنهي صاحب ولا صديق بس إن قلت هات، يكبش ويديني إلا إذا
كان امرأة؟! إن احتجت أو اتزنقت تعطيني في الحال إسورة، كردان، ولا جوز حلقان؟ هي
المرأة ما فيش غيرها! فتش عن المرأة!»
١٢٥
لقد أصبحت الفتاة، كما تقول الجدة (أحاديث جدتي)، تتبرج، وتكشف عن أعظم جزء ممكن
من
جسمها، وتسير في الطريق العام لفتًا للأنظار.
١٢٦ وكانت عايدة شداد في أواسط العشرينيات «تسعد بالحديث عن عشاقها».
١٢٧ وكانت العادات — كما تقول الراوية — تجعل من الزواج صفقات كصفقات اليانصيب
«فلا الزوج بالذي يدري بين يديه، ولا الزوجة بأوفر حظًّا في الاختيار.»
١٢٨
•••
أما حق العمل، فالبديهي — وهو ما يحدث بالفعل — وبالذات بين الأسر المحدودة الدخل،
أنه
حين تخرج المرأة إلى العمل، فإن الزوج يساعدها — على نحو وآخر — في الأعمال المنزلية
ورعاية الأبناء. هي مشاركة تفرضها الظروف التي تهمل، بالضرورة، نظرة الرجل إلى مكانته،
ونظرته إلى مكانة المرأة، بل ونظرة المرأة المتدنية — أحيانًا — إلى نفسها، إنهما شريكان
في إدارة البيت بالضرورة. وصار المثل الأعلى للزواج — في الأربعينيات — أن تتمسك المرأة
بمن تحب، وتكافح معه لبناء البيت.
١٢٩ لم يعُد الخروج إلى العمل عيبًا. حتى زوجة عبد المعبود (الشوارع الخلفية)
غير المتعلمة، تقول لشكري عبد العال حين ينصحها بالقعود في البيت: ستنا خديجة مرات
النبي كانت بتَّاجر، الشغل للستات مش عيب ما دام الوحدة مفتحة لنفسها!
١٣٠
وأما حق المرأة في التحرر من سيطرة الرجل، فلعلنا نذكر ملاحظة محمود أمين العالم
بأن
نجيب محفوظ فاته أن يقدم نموذجًا مثل فهمي بين النساء في «بين القصرين»؛ ليعطي للمرأة
في
الرواية معنًى جديدًا، ويتيح لونًا خصبًا للصراع الاجتماعي، فلا تقتصر الرواية على تقديم
مفهوم محدد للمرأة، وللعلاقات بين الرجل والمرأة، وبين المرأة والحياة.
١٣١ إذا كان الفنان قد فاته ذلك الأمر في «بين القصرين»، فلعله نجح في تقديم
المقابل لفهمي — وربما أشد إيمانًا بالثورة والتطور — في شخصية سوسن حماد، في السكرية
(١٩٣٤–١٩٤٤م). الفارق بين أمينة «بين القصرين» وسوسن «السكرية» هو الفارق بين التبعية
والمشاركة، بين العبودية والاستقلال، بين التأمين على الرأي الواحد وتعدد الآراء أيًّا
يكن اختلافها. لم ينطق الحب بين سوسن حماد وأحمد شوكت، لكن حبهما كان مؤكدًا وواضحًا،
إذا نوَّه بجمالها، حملقت في وجهه محتجة، وزجرته مقطبة، كأن الحب شيء لا يليق بهما،
فيبتسم ويعود إلى ما كانا فيه من عمل.
١٣٢ ولم يكن في وجه سوسن زواق، لكنها كانت تُعنى بمظهرها وأناقتها بما لا يقل
عما يفعله سواها من بنات جنسها.
١٣٣ وقد اعترف أحمد شوكت أن العالم الذي زامل فيه سوسن قد غيَّره كثيرًا،
وطهَّره، لدرجة محمودة، من أدران البرجوازية المستوطنة في أعماقه.
١٣٤ ويمثِّل قول أحمد شوكت لزميلته في كلية الآداب: هل تسمحين لي بالتقدم
لخطبتك؟
١٣٥ يمثِّل هذا القول تقدمًا في طبيعة العلاقات بين الرجل والمرأة. لم يعُد الشاب
يجد حرجًا في مخاطبة الفتاة مباشرة للاقتران بها، ولم تعد الفتاة تجد حرجًا بالتالي في
تلك المخاطبة. وتقول سناء (الباب المفتوح): «العقلية قطعًا اتغيَّرت، بالنسبة لأمهاتنا
الجواز كان مكتوب على الجبين؛ لا الواحد يقدر يغيَّره، ولا يهرب منُّه، ضروري يتقبَّله
زي
ما هو. وبالنسبة لنا الوضع اتغيَّر لأن عقلية الحريم اتغيَّرت؛ البنت النهاردة ما تقبلش
الوضع اللي كانت أمها بتقبله.»
١٣٦ وفي مقابل قول الرجل للفتاة «سنك اليوم بلغ السادسة والعشرين، ولم تتزوجي
بعد، يا للمصيبة! سوف تمضين حياتك وأنت عذراء.»
١٣٧ في مقابل هذا القول، يتبدى إصرار والد إقبال (أوائل الثلاثينيات) أن يزوِّجها الشاب
الذي اختاره لها، «نحن في الشرق، وليس من حق الفتاة أن تعارض أو ترفض الزوج الذي تقدمه
أسرتها، بل إنها
خُلقَت لتكون زوجة وأمًّا.»
١٣٨
وقد تعمَّدت نعمات رفض مَن تقدَّموا لها، كي لا يقيِّد الزواج حريتها.
١٣٩ وإذا كانت أمينة (بين القصرين) قد تركت بيتها — مُرغَمة — إلى بيت أمها، عقابًا
لها على ترك البيت بدون إذن في غيبة زوجها، فإن أحلام (المستنقع) كانت على يقين أن
البيت بيت المرأة وليس بيت الرجل «فإذا وقع بين الزوجين جفوة، وكان لا بد أن يغادر
أحدهما البيت حتى تهدأ العاصفة، فعلى الرجل أن يتركه لا المرأة.» ولعل سعاد هي النموذج
اللافت لفتاة الثلاثينيات، فهي تردد الأغنيات العاطفية في حضور والدها، دون أن تخشى
لومًا أو زجرًا، وهي تُقبِل على الصداقة التي تصل إلى حد تسليم الجسد، وعندما ينهي الصديق
علاقتهما، ويعيد إليها صورتها، فإنها تستقبل الأمر بابتسامة سخرية.
أما القول بأن المرأة لا تصلح للحكم لأنها «قريبة الانفعال، سريعة الخوف والتأثر،
لا
تتحمَّل متاعب الاشتراك مع الرجل في ميدان التنازع الحيوي … هذا القول وجد تفنيدًا له
في
أن تلك الصفات التي يعيبونها على المرأة يمكن التغلب عليها، وإزالتها بالتعليم؛ لأن
المسألة مسألة تربية وأخلاق، وليست طبيعية فيها»
١٤٠
•••
كان رأي زكريا (الشارع الجديد) أن «زواج الحب لا يدوم».
١٤١ وحتى عام ١٩٣٠م، كان يحيى حقي يدعو إلى تناول تأثير اختفاء المرأة على
المجتمع وأخلاقه «وهذه مهمة ليست قليلة الخطر».
١٤٢ كانت الفتاة المصرية قد أسفرت، لكنها كانت لا تزال محجبة نفسيًّا
واجتماعيًّا؛ فالشاب — على سبيل المثال — يُقبِل على ممارسة حرياته على نحوٍ مطلَق، ولا
يتصور
أن أخته يمكن أن تمارس حريتها بالقدر نفسه، أو بالقليل منه. كان الوقوف في الشرفات
حينذاك محرمًا على البنات إلا إذا وقفن يشيِّعن ميتًا من أهل البيت، أو يستقبلن عروسًا
وافدة، أو إذا كان في الطريق حادث، أو مناسبة تستحق المشاهدة.
١٤٣ وعلى الرغم من الخطوات التي قطعتها المرأة المصرية في درب تحريرها — عقب
الثورة — فإن بعض الأصوات ارتفعت تنعى تلك الحرية التي أسفرت عن نقيض النتائج المتوخاة،
«فلا معنى لأن نكذِّب نفوسنا، أو نخدع أبصارنا. وفي كل يوم نرى أثر الإفلاس الخُلقي يظهر
كالقرحة الدامية في وجه هدوئنا وسكينتنا، ويمرح بيننا في ثوبٍ كان لا يضم غير الطهارة
والصون، فإذا به لا يتسع لغير الرذيلة.»
١٤٤ وعندما بعث الدكتور الكرماني (أزهار) بابنته إلى إنجلترا، هاجت الدنيا لأنه
بعث بالفتاة إلى بلاد الكفار!
١٤٥ وفي ١٩٣٢م، قدَّم المعارضون استجوابًا في مجلس النواب، بدأ بشكر وزير المعارف
على «موقفه في رعاية العلم والدين وتقاليد البلاد، وقد بدأ ذلك فعلًا، فأغلق معهد
التمثيل والرقص التوقيعي الذي كان لوجوده مساس بآدابنا العامة وتقاليد الدين.»
١٤٦
•••
كان رأي لطفي السيد أنه من الصعب تدارك إحجام الشبان عن الزواج إلا بتعليم البنات،
بحيث يقترب مستواهن العقلي والعلمي من مستوى الشبان «حتى يكون الزواج مرجحًا فيه جانب
السعادة على جانب الشقاء.»
١٤٧ القول انعكاس لتناول جون ستيوارت مل قضية تعليم المرأة من زاوية النتائج
الضارة التي يمكن أن تُحدِثها الصحبة المثمرة لزوجة غير متعلمة، طائشة، وتافهة، على
الرجل، حتى لو كانت له في السابق اهتمامات عقلية جادة.
١٤٨ وكان رأي علي طه أن وظيفة المرأة أخطر شأنًا من عمل الجارية «محال أن أخون
مبادئي، أو أن أرضى بحرمان المجتمع عضوًا جميلًا نافعًا مثلك.» يقصد إحسان
شحاتة.
١٤٩ والحق أن الكثير من الآباء لم يكونوا يرفضون تعليم الفتيات بقدر ما غابت في
أذهانهن العبرة من هذا التعليم وجدواه. ظل الهدف من التعليم — لفترة طويلة — محدودًا
للغاية؛ إنه التمكُّن من تربية أولاد صالحين. وعندما بلغت حنان مصطفى (المرايا) الثانية
عشرة من عمرها، منعها أهلها عن الطريق والمدرسة معًا.
١٥٠ وفي ١٩٣٨م يقول إبراهيم شوكت (السكرية): «أنا أشفق على البنات من جهد الدراسة،
ثم إن البنت في النهاية لبيتها.»
١٥١ وتقول له زنوبة: «هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي، أما اليوم فالبنات
كلهن يذهبن إلى المدارس.»
١٥٢ وتقول نعيمة (السكرية): وددتُ لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلَّمن اليوم
كالصبيان!
١٥٣ وتقول نعيمة (السكرية) لأمها: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي
في الابتدائية، وستقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا. تقول الأم في امتعاضٍ: لو
سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقتِ عليها، ولكنه لم يسمح! وفطنت أمينة للمعنى
الاحتجاجي في جملة «ولكنه لم يسمح»، فقالت: جدها له آراؤه التي لا ينزل عنها، ترى أكنتِ
ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من تعب، وهي العزيزة الرقيقة التي لا تحتمل
التعب؟! فقالت عائشة: وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلمن اليوم
كالصبيان.
١٥٤ حتى ياسين (السكرية) الذي نال قسطًا من التعليم، لم يتحمس لمواصلة المرأة
تعليمها، وكان رأيه — في العام نفسه — أن الفتاة يجب ألا تتعلم أكثر من
الابتدائية.
١٥٥ وكان تعليم الفتيات في المدرسة السَّنية بالمجان، لمواجهة عدم إقبال الأهالي،
خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والأولى من القرن العشرين، على تعليم البنات.
١٥٦
وعندما أصرَّت أمينة (أنا حرة) على دخول الجامعة، قالت عمتها: إذا دخلت الجامعة تخرج
من
بيتي، إحنا عشنا وكبرنا وبنات العيلة كلهم بيتجوزوا، البنت اللي تخش الجامعة ما تبقاش
بنتنا!
١٥٧ وقد اشتدت ثائرة الرجال على الإذن للفتيات بدخول الجامعة، والاختلاط
بالشبان، قال لطفي السيد في حسم: «إن القانون أمامي يقول: إن كلَّ حاصلٍ على التوجيهية
—
الثانوية العامة الآن — يحق له دخول الجامعة، ولم يقل القانون إن الذين يحق لهم دخول
الجامعة هم الذكور فقط من الحاصلين على التوجيهية. مع ذلك، فقد لجأ لطفي السيد إلى
حيلة؛ لتيسير دخول الطالبات جامعة فؤاد الأول أيام توليه رئاستها؛ أصدر إلى سكرتارية
الجامعة تعليمات بتقييد اسم كل طالب يحمل شهادات تؤهله للتعليم العالي، دون إشارة إلى
جنس الطالب، وهكذا قُبِلت الفتاة في الجامعة.
١٥٨
•••
يقول الفنان (أين صديقتي اليهودية): «كان العمل محرمًا على البنت، فضيحة،
عيب.»
١٥٩ وكان رأي الزوج أن اقتحام المرأة لميادين العمل «مما تلجأ إليه بنات اليوم»
ليس إلا «ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة على أمر الله وما خلقنا له.»
١٦٠ وتحدَّث الأب عن العالم الذي فسد بسبب فجر النساء، فبعد أن كانت المرأة تغادر
بيتها بالحجاب، صارت تخرج بدونه، بل وخرجت إلى العمل مثل الرجل، وزاد التبجح ببعضهن إلى
حد جعل أكمام الثياب قصيرة، فيظهر نصف الذراع، وربما الذراع كلها.
١٦١ بل إن الشيخ أبو العيون الذي وجد تخريجًا لسفور المرأة، وخروجها إلى الحياة
العامة، ما لبث أن اعتبر سعي المرأة إلى الوظيفة من أعظم النكبات على سلامة المجتمع؛
لأنها ستفقد — على حد تعبيره — وظيفتها الجنسية، وتعطل أنوثتها، وتهدم بيدها أساس حياتها
النوعية.
١٦٢ وتروي المدرسة في مذكراتها المنسية أنها — قبل أن تحصل على الليسانس — كانت
تسمع بأذنيها في الطريق إلى بيتها بالسيدة زينب، مَن يقول: البنت المدرسة دي فاهمة إنها
حاجة؟! إيه يعني معلمة بثمانية جنيهات؟ من أين تأتي بهذه الفساتين؟! طبعًا تعود إلى
البيت بعد المغرب، تدَّعي أنها كانت في المدرسة؛ كلام فارغ!
١٦٣ وقد حطَّم مصطفى (في قافلة الزمان) تقاليد العائلة عندما خرج مع خطيبته
بمفردهما لمشاهدة موكب الملك فاروق بعد عودته من إنجلترا، في طريقه إلى قبر
والده.
١٦٤ وعندما استأذن حسنين (بداية ونهاية) في أن يصحب معه بهية إلى السينما، وافق
والدها قائلًا: أظن العالم الحديث يستسيغ هذا السلوك بين خطيبين!
١٦٥ ويهبنا الفنان هذه الصورة الموحية عن شابين في حوالي الخامسة والعشرين
«يعجزان أن يقضيا أوقات فراغهما فيما يُسكِن ثائرهما، ويجلب السرور، أو يُذهِب الكآبة،
فإن
تنزَّها فهما يجوبان الطرقات المزدحمة، فيأخذ لبَّهما منظر السيدات، وخاصة الأجنبيات،
حيث
برزن سافرات، تلمع وجوههن، وأذرعهن عارية، وأجسامهن وقد بدت فاتنة داخل لباس رشيق، وهما
يقضيان الساعات وقوفًا في محطة الرمل، يتطلعان إلى الرائحات والغاديات في سكون ظاهر
ودأب جمٍّ وثورة داخلية تودُّ لو تحطم هذا السكون، وهذا الأدب.»
١٦٦ ويبيِّن وضع المرأة عن بُعدٍ سلبي في الشبان الذين كانوا يقفون في الترام، أمام
باب الحريم «كلوح اللتزانة لا أكثر ولا أقل، يبرم شنبه تارة، ويلعب حواجبه تارة أخرى،
ويلف سلسلة ساعته الدوبليه على أصابعه، ثم يتنهد ويعدل طربوشه، وباختصارٍ ناقص يطبِّلوله
يرقص.»
١٦٧ وكانت مفاجأة الحوذي الأسطى محمود (مذكرات عربجي) — ذات يوم — حين طلبت سيدة
أن يذهب بها إلى «تيرو» روض الفرج: «التيرو؟ أقسم لك — أيها القارئ — أني غالطت سمعي،
وسألت مرة ثانية قائلًا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟
– شيء غريب، على التيرو، أنت مبتسمعش؟!
والله ما كان يخطر لي على بالٍ، أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم،
إنه يقصد سيداتنا عمدًا، مع توفر سوء القصد والنية، وفي عصرية من رمضان، هذه البؤر التي
أولها «أونطة»، وآخرها موت وخراب ديار، مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار
يسدل الستار — أخيرًا — على بيع و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.
١٦٨ ويشير الفنان إلى حوادث الفتيات مع سائقي السيارات الخاصة التي انتشرت في
أواسط الثلاثينيات.
١٦٩
لقد تربَّت المرأة ونشأت على عشرات القيم والعادات والتقاليد، قابلها سماع وقراءة
ومشاهدة في وسائل الإعلام والثقافة المختلفة، عن العلاقات العاطفية والجنسية التي تتم
بين أطرافٍ متكافئة. وكان ذلك التناقض بين الموروث والواقع مبعثًا لحيرة دارت في دوامتها
غالبية فتيات الطبقة الوسطى اللائي أتيحَت لهن فرص الدراسة والعمل. فالزوج — في الأحلام
—
فارس يمتطي جوادًا، والزوج — في الواقع — موظف مستور، يسبق طلبه يد فتاته مساعي الخاطبة،
أو مجيء أفراد أسرته للمعاينة وإبداء الرأي. والواقع أن الشاب المصري كان يساعد على
استمرارية تلك الحيرة، بسعيه إلى إقامة علاقة، فإذا أراد الزواج تزوج من فتاة أخرى؛
لأنه — في أعماقه — يرفض التحرر إلا فيما يتصل بالعلاقة العابرة، وإن طالت. أما العلاقة
الأسرية فإنه يلجأ — لإقامتها — إلى كل القيم والتقاليد والعادات الموروثة! وقد أعلنت
الفتاة (فتاة صامتة) أن خروج الفتاة مع الشاب منفردة قبل الزفاف ليس من الأمور المستحبَّة
إطلاقًا.
١٧٠ وكان وصفي (قصر على النيل) يقابل ابنة عمه، ثم تزوج غيرها، لأنها — في
تقديره — قد تسعى إلى غيره كما سعت إليه.
١٧١ واتسق ذلك التصرف مع كراهية وصفي لأم وديدة التي حددت لوصفي موعد اللقاء
الأول، ثم أصبحت رسولًا بين الحبيبين: «إنها هي، هي وحدها التي فرقت بينه وبين هواه،
إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.»
١٧٢ وذهب نظيم باشا (حواء بلا آدم) إلى أن المرأة — أيًّا يكن مستواها، ومهما
يكن علمها — ناقصة عقلًا وحنكة وتجربة، والواجب عليها شرعًا ولياقة، أن تنصاع إلى الرجل
لا أن تجري في رعونة وراء عواطفها.»
١٧٣ وكانت «المرأة الجديدة» أولى مسرحيات الحكيم التي يبدي فيها معارضته الشديدة
لحرية المرأة، واشتغالها بالوظائف العامة، حتى لقِّب — فيما بعد — باسم «عدو المرأة».
وكتب فكري أباظة في «اللواء» (٥/ ٩/ ١٩٢١م) يعقب على خطة الحزب الديمقراطي بمساواة
الرجل بالمرأة في الوظائف وسائر الأعمال: «… بمعنى أنه ما دام هناك وزير ومدير وشيخ جامع
وحكمدار وباشجاويش وخفير من الجنس الخشن، وجب — حتمًا — أن يكون هناك — مقابل ذلك — وزيرة
ومديرة وشيخة جامع وحكمدارة وباشجاويشية وخفيرة من الجنس اللطيف. وما دام أن هناك نايبًا
أو نوابًا عن كل مركز في الجمعية الوطنية، وجب أن يكون هناك «نايبة» أو «نوايب» من الجنس
اللطيف أيضًا! وما دام أن هناك حوذيًّا وكمساريًّا وكنَّاسًا من الجنس الخشن، وجب أن
يكون هناك
حوذية وكمسارية وكناسة من الجنس اللطيف كذلك! فكرة جميلة وعملية سهلة، ولكن نسي
«الحزب» مسألة جديرة بالنظر، وهي أن الوظائف والأعمال الإدارية لا تتفق وطبيعة النساء
أبدًا.»
١٧٤ أضاف فكري أباظة في «الأهرام» (٢٥/ ٦/ ١٩٢٢م): «تريد الآنسات والسيدات أن
يكون لهن حق التصويت، ولعمرك هل حرمهن الجنس الخشن من أن يصوتن ما شاء لهن الصوات، في
جميع الأوقات. إنهن يتمتعن بهذا الحق من بدء الخليقة للآن: في الجنازات، والمشاجرات،
والعمليات، وفي كل ما يستفز الشعور، بالنسبة لربات الخدور. نعم، لم تُخلَق الآنسة أو
السيدة لتسمعنا «صوتها» الجذاب في معارك الانتخاب، وإنما لتسمعنا صوتها الجهوري في
التدبير المنزلي، صوتها الفعَّال في تربية الأطفال، صوتها الحنون في الهموم والشجون،
صوتها الرنان في توقيع الأنغام والألحان.»
١٧٥
•••
إن اختلاط الجنسين، ونزول المرأة إلى العمل، ومشاركتها في الحياة العامة، ظواهر
إيجابية، تؤكد المرأة — من خلالها — قدرتها على المشاركة في حياة المجتمع. وقد كان غريبًا
أن تعطي الحكومة رخصة للمرأة؛ لكي تشتغل بالبغاء الرسمي، أو رخصة للاشتغال خادمة في
البيوت، بينما تغلق في وجهها أبواب العمل في البنوك والمحال التجارية، وتستند إلى العرف
والتقاليد في الاقتصار على استخدام الأجنبيات.
١٧٦ وكانت نوال (توبة نوال) واحدة من المصريات القلائل اللائي عملن في الشركات
الكبيرة، إلى جانب عدد كبير من اليهوديات والمتمصرات.
١٧٧
تقول السيدة سوزان (سكون العاصفة): «المسألة اليوم حرية وعمل معًا، لكن الرجل لا
يريد
أن ينسى ماضي الجنسين، والمرأة تمسك بيدها باب الحريم المفتوح حتى لا يُقفَل مرة أخرى.»
١٧٨
كان أغلب عمل المرأة في مهن محددة، مثل صناعات الغذاء، وصناعة الملابس، والصناعات
الصغيرة، والأعمال الكتابية، والتدريس، والتمريض، والعمل البيتي. وجميعها مهن يُفترَض
أنها تتطلب مهارة أقل، وبقدرة أقل، من الحرية، مقارنة بأعمال الرجل (كانت وزارة المعارف
العمومية، إلى أوائل الثلاثينيات، تفصل كل مدرسة تتزوج شابًّا يعمل في نفس عملها! (أزهار،
٢٠١)).
ثم لم يعُد عمل المرأة يقتصر على المهن التي اعتُبرَت تقليدية بالنسبة لها. ثمة مهن
ووظائف أخرى تولَّتها المرأة في معظم المجالات التي بدت مغلقة الأبواب أمامها. وأكد
المعنى كُتاب كبار انطوت مقالاتهم على معانٍ كثيرة، ليست السخرية أشدها! أذكر — على سبيل
المثال — مقالات فكري أباظة وتوفيق الحكيم. والملاحَظ أن تطور الوسائل والأدوات المنزلية
قد ساعد على توفير جهد المرأة، وهيَّأ لها بالتالي فرصة الخروج إلى العمل. وبعد أن كان
عمل المرأة مقصورًا — إلى نهايات الحرب العالمية الأولى — على الزراعة، فقد بلغ عدد
النساء المشتغلات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ٨٤٠٠٧٨ امرأة في ١٩٢٧م،
ثم قفز العدد إلى ١٣٦٣٧٥٦ امرأة في ١٩٣٧م.
١٧٩
وبالطبع، فإن عمل المرأة خارج بيتها، لم يحُل بينها وبين دورها الأساس في البيت،
كزوجة
وأم، واتجهت آراء كثيرة إلى أن دور المرأة الأكثر أهمية هو دور الزوجة والأم.
١٨٠ ولم يجد الأب (كفارة الحب) خيرًا للمرأة من الزواج وتدبير مملكة البيت
وإنجاب البنين، وتربيتهم «ليكونوا لنا في الحياة عونًا، وبعد الحياة ذكرًا، وللعالم
عمرانًا. أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم، فلم يكن عنده إلا
ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة على أمر الله، وما خُلِقن له.»
١٨١ وكانت أمينة زوجة سليم باشا (الحصاد) على يقين بأنه «على الرجل أن يسعى،
وعلى الزوجة أن ترعاه، وترعى بيته وأولاده.»
١٨٢ وقد استقرت سميحة (نحن لا نزرع الشوك) في البيت، بعد حصولها على الابتدائية
من مدرسة السَّنية، وجدت أمها أن من الخير لها أن تمارس شغل البيت، استعدادًا للزواج.
كان
رأي الأم أنها مهما تعلمت، فمصيرها إلى بيت الزوجية، ومن الخير أن تُؤهَّل له.
١٨٣ وكانت سعاد (رائحة الورد وأنوف لا تشم) أمًّا لثلاث بنات، تؤمن بأنه ليس
هناك مستقبل لأي بنت إلا الزواج، مهما تطورت حياة البنات، ومهما بلغت من مكانة علمية
واجتماعية، فإن البنت لا يمكن أن تستكمل كيانها أو شخصيتها الاجتماعية إلا
بالزواج.
١٨٤ ويتحدث الراوي عن هدى، الفتاة التي بلغت الثانية والثلاثين «سن اليأس
القاتل للفتيات المتطلعات للزواج.»
١٨٥
واللافت أن إقبال الفتيات — بعد التخرج في الجامعة — على وظيفة المدرسة، كان له تأثيره
في تخريج أفواج من الفتيات المتعلمات.
١٨٦ «لِمَ تُقبِل الفتيات على كلية الآداب؟ لأن وظيفتهن التدريس هي أوسع الوظائف
صدرًا لهن.»
١٨٧ وحين قال كامل رؤبة لاظ (السراب) لأمه، إنه ينوي التقدم لخطبة فتاة تعمل
مدرسة، قالت في استياء: مدرسة؟! إن بنات الأسر الطيبة لا يشتغلن مدرسات … والمدرسة إما
أن تكون عادة دميمة، أو مستهترة مسترجلة!
١٨٨ ولم تخفِ الأم (توبة نوال) تأثرها لزواج ابنها الوحيد من فتاة زميلة لها في
الشركة التي يعمل بها، يعني فتاة تعمل مع الرجال.
١٨٩ ويقول عم صقر الساعي (المرايا): «لا تصدق أن فتاة شريفة تقبل أن تعمل وسط
الرجال»!
١٩٠ وتقول إحدى السيدات لجارة لها: أما سمعت بالخبر العجيب؟ وتضيف: توحيدة بنت
أم علي ابن عم رجب.
– ما لها كفي الله الشر؟
– توظفت في الحكومة.
– توظفت في الحكومة؟!
– أي والله! موظفة! تذهب إلى الوزارة، وتجالس الرجال!
– لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها من أسرة طيبة، وأمها طيبة، وأبوها رجل صحيح!
وتحاول المرأة أن تجد تبريرًا لاشتغال الفتاة، فتقول: يمكن لأن البنت غير
جميلة؟
تقول الجارة: كانت ستجد ابن الحلال على أي حال!
١٩١ وكان رأي خديجة (السكرية) أنه لا تسعى إلى الوظيفة إلا الفتاة البائرة، أو
القبيحة المسترجلة.
وقد ظل الأب على رأيه في أنه لا يوجد للمرأة خيرٌ من الزواج، وتدبير مملكة المنزل،
وإنجاب البنين، وتربيتهم «ليكونوا لنا في الحياة عونًا، وبعد الحياة ذكرًا، وللعالم
عمرانًا. أما هذا الاقتحام لميادين العمل، مما تلجأ إليه بنات اليوم، فلم يكن عنده إلا
ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة على أمر الله وما خلقنا له».
١٩٢ وفي قصة «لن أقرأ الصحف» يبين الفنان عن رفضٍ مؤكدٍ لاشتغال المرأة، فبعد طول
تردد، وافق الأب على تعليم ابنتيه، ثم على اشتغالهما. لكن أكبر البنتين حملت سفاحًا من
علاقة مع رئيس لها، وتموت الفتاة، ويحبس الأب أختها في البيت حتى لا تلقى المصير
نفسه.
١٩٣ ونحن نجد الشك — شك الرجل في المرأة، وليس العكس — في العديد من القصص
القصيرة لعبد الحليم عبد الله. ثمة — على سبيل المثال — قصص: «أفكار الليل»، «نافذة في
الدور
الثالث»، «حصاد المطامع» … وغيرها.
١٩٤
وفي المقابل، فقد دافع البعض عن نزول المرأة إلى العمل، بالتأكيد على أنه «كما قد
توجد منحرفة بين ستات البيوت، فقد توجد مستقيمة بين الموظفات.»
١٩٥
والحق أن تعليم البنات كان هو الإرهاصة، البداية، لتغيُّر وضع المرأة؛ كان معظم الأسر
يكتفي بتعليم البنات الكتابة والقراءة والحساب والفرنسية وفنون التطريز والطهي في
البيت.
١٩٦ أما الذكور، فإنهم كانوا يواصلون التعلم في المدارس، وربما الجامعات فيما
بعد، سواء الأزهر أو الجامعات المدنية. وكانت دار العلوم مرحلة متقدمة بالقياس إلى
التعليم الأزهري، وإن بدا تخلفها — بعد إنشاء كليات الجامعة المصرية — بالقياس إلى
التعليم الجامعي المتطور. يقول الراوي في «الأيام»: «ولم ينسَ الفتى يومًا خاصم فيه ابن
خالته الذي كان طالبًا في دار العلوم، ولجَّ بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما
أنت والعلم؟ إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قَط درسًا في تاريخ
الفراعنة. أسمعتَ قَط باسم رمسيس أو إخناتون؟ وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين، وحين
سمع
ذكر هذا النوع من التاريخ. واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها، ولكنه
يرى نفسه — ذات ليلة — في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال — رحمه الله
—
يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وإخناتون وغيرهما من الفراعنة، ويحاول
أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها
اللغة العربية. ويستدل على ذلك بألفاظٍ من اللغة المصرية القديمة، يردُّها إلى العربية
مرة، وإلى العبرية مرة، وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل حين يسمع كل هذا
العلم، وهو أعظم دهشة وذهولًا حين يلاحظ أنه يفهمه ويستسيغه في غير مشقة ولا جهد، وهو
يعود إلى بيته ذلك المساء وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع
كتفيه ساخرًا منه، ومن دار علومه التي كان يستعلي بها عليه، وهو يسأل ابن خالته:
أتتعلَّمون اللغات السامية في دار العلوم؟ فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تُدرَّس في
المدرسة، أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية، ثم ذكر الهيروغليفية، وحاول أن يشرح
لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون، وتنقلب الآية، ويصبح المغلوب غالبًا، والغالب
مغلوبًا.»
١٩٧
ثم ارتفع — فيما بعد — ونتيجة مباشرة لتعليم الإناث — شأن المرأة؛ لم تعُد — في نظر
نفسها،
وفي نظر الرجل أيضًا — مجرد وسيلة للإنجاب، وجاوزت وظيفتها رعاية الأبناء والزوج. وثمة
—
في المقابل — من أعلن معارضته لتعليم المرأة، فالمرأة المتعلمة ليست أحسن حالًا في البيت
من المرأة غير المتعلمة «وأخجل أن أصرح بأن الأمر قد جاء بالعكس، فإن الثانية قد تكون
أدرى بشئون منزلها، وإطاعة لرب بيتها، وأكثر هدوءًا وسكونًا في حياتها من
الأولى.»
١٩٨ ثم أصبح حصول الفتاة (حلم الصبا) على الشهادة العليا يساوي بيت
الزوجية.
١٩٩ وكان أهم ما يشغل أزهار — منذ صباها — أن تتم تعليمها، وتصبح طبيبة، بل من
أولى فتيات مصر اشتغالًا بالطب.
٢٠٠
ومن النماذج اللافتة لإيجابية المرأة تلك المرأة البدينة الحلوة التي أتاحت لعبد
الرافع وزملائه (الشوارع الخلفية) سبيل الفرار من مطاردة البوليس.
•••
يشير محمود كامل إلى قضية في غاية الأهمية، هي أن السلطات الإنجليزية كانت تحرص على
اختيار الوزراء المصريين من بين مستشاري محكمة الاستئناف العليا. ولم يكن ممكنًا —
عمليًّا — أن يصل إلى منصب المستشار بهذه المحكمة إلا رجال القضاء الذين أمضوا حوالي
الثلاثين عامًا في وظائف النيابة والقضاء، وقضاء ذلك العمر الطويل في كراسي القضاء،
والتشبُّع بفكرة النظام والطاعة وحرفية القانون لم يكن يسمح بأن يبرز من بين أفراد تلك
الفئة إلا في المصلح المدرك لما يحس به رجل الشارع العادي.
لكن تلك الصورة تغيرت تمامًا بعد إعلان دستور ١٩٢٣م، ووصول العديد من المعاونين الشبان
إلى مناصب الوزارة، ولم تعُد محكمة الاستئناف العليا «معهد» تخريج الوزراء الجدد.
٢٠١
وينصح الشاب أخاه: قلت لك ألف مرة أن من الخير لك دراسة الحقوق، ما الذي ستستفيده
وتفيده من الآداب وكلية الآداب في هذا البلد؟
٢٠٢ المعنى نفسه يؤكده رضوان ياسين في قوله: كلنا من القسم الأدبي، فليس أمامنا
من كلية جديرة بالاختيار إلا الحقوق.
٢٠٣ ونتيجة لتأكد مهنة المحامي، فضلًا عن تزايد عدد المتعلمين، فقد تقلص نفوذ
«العرضحالجي»، حتى إن الشاويش صقر عندما سأل العرضحالجي الواقف أمام باب القسم عن محام،
وحاول العرضحالجي أن يعرض عليه خدماته، رفض «كان يريد اختصاصيًّا في حالته، لا مجرد طبيب
صغير.»
٢٠٤
ولم تكن الصحافة قد تحققت لها المكانة التي أصبحت لها فيما بعد؛ فغالبية الصحف يصدرها
أفراد. وقد عانى صالح (الوشاح الأبيض) من البطالة بعد أن شتم رئيس تحرير الجريدة التي
كان يعمل بها.
٢٠٥ وكان ثمن الجريدة خمسة مليمات، وصفحاتها من أربع إلى ثماني صفحات، وموادها —
حتى العناوين — بالجمع اليدوي. مع ذلك، فقد أعلن أحمد عبد الجواد أن الكتابة في الصحف
«كانت — ولم تزل — الوسيلة إلى الحياة، والحظوة عند الكبراء.»
٢٠٦ وأعلنت الحكومة — بعد أعوام قليلة — أنها بدأت في إعداد مشروع قانون خاص
لهيئة الصحافة «ينظم مالها ورجالها من حقوق وامتيازات، وما عليها من تكاليف وواجبات.»
مع ذلك، فثمة من ظل على رأيه في «تلك اللجاجة الأصيلة في نفوسنا نحن رعايا صاحبة
الجلالة الصحافة!»
٢٠٧
وعاد الشاب المثقف من باريس — بعد أن أنهى دراسته القانونية هناك — يحمل رسالة التمرد
والثورة، ليقود الفلاحين نحو الإصلاح والتغيير.
٢٠٨
كانت نظرة المصريين إلى الحضارة الغربية تحمل وجهات نظر مختلفة: ثمة مَن وجد أنه
لا
سبيل لنهضة الشرق إلا بأن يأخذ بالحضارة الأوروبية، وما تقوم عليه من علوم وفنون
وصناعات، وما يترتب على ذلك كله من أنظمة في السياسة والاجتماع. وفي المقابل فقد ذهب
رأيٌ إلى أن العلوم والصناعات قد نشأت كلها في الشرق، وتلقَّاها عنه الغرب، فإذا اقتبس
الشرق من الغرب فهذه بضاعتنا رُدَّت إلينا، والعلم بعامة يصعب نسبته إلى الشرق أو الغرب؛
لأنه إنساني، والخطورة هي في الأخذ بروح المدنية الغربية من إيمان بالمادة، وإهدار كل
القيم الروحية والدينية، وتحويل الحياة بين البشر إلى صراع وحرب إفناء، وتلك هي المدنية
الأوروبية.
٢٠٩
لقد تغيرت نوعية الطالب من ذلك المتجه صوب الغرب للدراسة، كما في «زينب» و«عصفور
من
الشرق»، إلى البطل المثقف الذي يعاني في وطنه، المنكسر من الجماعة، المنفي عنها. وهو
ما
يبين في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» و«قصر الشوق» … إلخ، وكان معظم أساتذة الجامعة
من
الأجانب؛ إنجليز وفرنسيين وألمان وإيطاليين.
٢١٠
كانت الشهادة العليا لعنة على حاملها، لما تثيره من حنقٍ في صدور الرؤساء من حملة
شهادة الابتدائية القديمة.
٢١١ ويقول الأب (أسعد الله مساءك) ضاحكًا: على أيامنا كانت الابتدائية هي
العليا.
٢١٢ ويقول المدير العام (حضرة المحترم): العالم يتقدم، كل شيء يتغير، ها هي
البكالوريا تحل محل الابتدائية.
٢١٣ وعلى الرغم من قول الجد: «إن بكالوريا اليوم لا تعادل
ابتدائية الأمس.»
٢١٤ فإن الفنان يذهب إلى أن البكالوريا كانت حينذاك شهادة ذات شأن، وحين قال
فؤاد (إكبار) لزملائه الجدد، إنه حاصل على البكالوريا، ارتفعت الرءوس التي وخطها الشيب،
واتجهت الأنظار إلى الموظف الجديد في تقديس وإكبار!
٢١٥ أما نسبة عدد الأشخاص الذين يعرفون القراءة فهي حوالي ١٩٫٨ من مجموع
السكان، أما عدد حملة الشهادات — بما فيها الشهادة الابتدائية — فهو نصف في المائة، وإن
زاد عدد الطلبة في المدارس من ٣٢٤ ألفًا عام ١٩٢٣م إلى ٩٤٢ ألفًا في ١٩٣٣م؛ أي بما يبلغ
ثلاثة أضعاف خلال عشرة أعوام.
٢١٦ ومع أن التعليم كان بمصاريف، فقد كانت المجانية متاحة «لأبناء ذوي النفوذ
من القوم، أما الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة، فإن مكانهم الدائم هو الطريق العام،
حيث حوانيت ذوي الحرف والصناع ومن إليهم.»
٢١٧ وقد عرض بعض النواب التعليم الإلزامي، بدعوى أنه يحيل أصحاب الجلابيب
الزرقاء إلى أصحاب جلابيب مكوية، فضلًا عن أنه يجعل من المتعذر على أبناء الفلاحين أن
يمسكوا الفأس لممارسة الفلاحة.
٢١٨ وأعلن النائب وهيب دوس — عند طرح مشروع قانون التعليم الأوَّلي في مايو ١٩٣٣م —
أن تعليم أولاد الفقراء «يُعَد طفرة كبرى؛ لأنه خطر اجتماعي هائل لا يمكن تصوُّر مداه،
لأنه
لن يؤدي إلا إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدي إلى ثورات نفسية حين يتعلم ابن
الصراف وابن الساعي.»
٢١٩ وطالب النائب بقصر التعليم على أبناء القادرين.
٢٢٠
•••
في أول مايو ١٩٣٤م أصدرت الحكومة قرارًا ينذر أصحاب محطات الإذاعة الأهلية بالكف
عن
الإرسال، وإغلاق محطاتهم، واعتبار المخالفة جريمة تستوجب العقاب. ثم بدأت الإذاعة
الحكومية إرسالها في ٣١ مايو ١٩٣٤م. كان الراديو قد بدأ يأخذ سبيله إلى الحياة المصرية،
فقلَّت — بالتدريج — عادة إحضار الفقهاء للقراءة كل صباح في البيوت.
٢٢١ لم يقتصر تأثير الراديو على رواة السيرة الشعبية، لكنه امتد إلى مهن أخرى
كقارئ القرآن الكريم على سبيل المثال. يقول الشيخ طه: «جرت مشيئة الله بأن يقطع الراديو
أرزاقنا، ولكنه الله لا ينسى عبده.»
٢٢٢ كما أضير عدد كبير من العاملين بالفن بإنشاء محطة الإذاعة الرسمية، وكان من
بينهم الأستاذ علي صبري الذي حيل بينه وبين إحياء الحفلات فيها، إلى جانب الغناء في
الأفراح، بعد أن كان قد أذاع العديد من الحفلات من المحطات الأهلية.
٢٢٣ يقول: «انتهى زمان الأفراح، ولا نسمع إلا عن حفل عائلي اقتصر على آل
العروسين … احتكرته أم كلثوم وعبد الوهاب وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، وهيهات
أن يكون لنا عيش في هذا البلد.»
٢٢٤ وقد حاول علي صبري أن يعوض حظه التعس بإنشاء فرقة عوالم، بالإضافة إلى طلبه
موارد جديدة تتمثَّل في مقهًى بكلوت بك والاتجار في المخدرات.
٢٢٥ وفي ٦ فبراير ١٩٣٥م غنى محمد عبد الوهاب — للمرة الأولى — في محطة الإذاعة
المصرية.
ويستعرض أدهم (الشوارع الخلفية) نجوم العصر في الحياة الفنية: «بقى كل واحدة تغني
لها
كلمتين تبقى أحسن من أم كلثوم … وأي جورنالجي هلفوت يكتب له كلمتين يبقى أحسن من طه
حسين … وإن طلع واد يمدح له الملك ببيتين شعر مكسورين يبقى أحسن من شوقي بك … وأي سنكوحة
بقت أحسن من فاطمة رشدي!»
٢٢٦
وفي غروب شباب أحمد عبد الجواد (السكرية) استمع — مستسلمًا — لصوت المعلمة جليلة
تغني،
وتظاهر «بالانسجام، وذهب مع النغمة برأسه وجاء، كأنما يريد أن يخلق الطرب بتمثيل
حركاته. والحق أنه لم يَعُد له من عالم الغناء إلا ذكريات، فقد ذهب الحامولي وعثمان
والمنيلاوي وعبد الحي، كما ذهب شبابه.»
٢٢٧ كان الرجل يحب منيرة المهدية، وعندما غنَّت زبيدة العالمة أغنية المهدية:
ارخي الستارة اللي في ريحنا، راح عبد الجواد يرقص مع النغمة وبيده الكأس التي لم يبقَ
فيها إلا الثمالة! ونشرت «المصور» في ٢٤ يناير ١٩٣٠م: «علمنا أن السيدة منيرة المهدية
تفكر في حل فرقتها الحالية؛ لأن صحتها لا تساعدها في الوقت الحاضر على مواصلة العمل،
وأنها قد تنفِّذ هذا العزم قريبًا، ونحن نأسف لتلك النتيجة، ونرجو ألَّا يطول زمن احتجاب
سلطانة الطرب عن المسرح.» ويعيد عبد العزيز (العاشق المتنقل) تحت الدش، ما غنَّته أم
كلثوم في سهرة الأمس، في صوتٍ يصفه الفنان بأنه «زوبعة غنائية، بل نشازية، لو سمعتها
تلك
الآنسة — أم كلثوم — لأحالته فورًا على النيابة، بتهمة تشويه الفن وسمعة أميرته ورافعة
لوائه.»
٢٢٨ ويقول الراوي (المحاكمة): «وليلى مراد، التي كنت أعشق صوتها، وأتخيل أنني
سألتقي بها ذات يوم وتحبني، مع أغانيها كانت روحي تجد دنياها.»
٢٢٩ كان ظهور ليلى مراد قد بدأ في عصر ما قبل الميكروفون؛ لم يكن يستطيع الغناء
سوى أقوى الأصوات، فضلًا عن جمالها. وكان عليها أن تؤدي بلا وساطة من ميكروفون أو غيره،
وغنَّت — لأول مرة — على مسرح رمسيس في يونيو ١٩٣٢م، في حضور الشاعر أحمد شوقي ومجموعة
من
مثقفي القاهرة، ومن أغنيات الفترة: يا وردة الحب الصافي لعبد الوهاب،
٢٣٠ وله أيضًا: أحب أشوفك كل يوم،
٢٣١ وكلنا نحب القمر، وخايف أقول اللي ف قلبي،
٢٣٢ وعادت ليالي الهنا،
٢٣٣ ويا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي.
٢٣٤ ولأم كلثوم: إن كنت أسامح، أفديه إن حفظ الهوى، وحقك أنت المُنى
والطلب.
٢٣٥ وكذلك أغنية: والله زمان زمان والله،
٢٣٦ وأغنية: آه يا أسمر اللون حبيبي الأسمراني.
٢٣٧
أما «فاكرة» فقد كانت واحدة من المغنيات اللائي يتنقلن على دواب بين القرى، لترديد
المواويل والأغنيات في الساحات والأجران،
٢٣٨ وهو ما يذكِّرنا ببدايات أم كلثوم. وكان عوض المكوجي يغني لخادمات الحي ما
ينطبق على كل واحدة منهن. ثمة واحدة يغني لها: يا دنيا يا غرامي، يا دمعي يا ابتسامي
…
وأخرى يغني لها: الحب، حد يعرف إيه معنى الحب؟ وكان يغني لمبروكة أغنية فريد الأطرش:
باحب من غير أمل، وقلبي راضي وسعيد.
٢٣٩ ومن الأغنيات الشعبية آنذاك: من فوق شواشي الجبل باسمع نغم بالليل … عشق
البنات البكار هد من الحيل … من فوق شواشي الجبل.
٢٤٠
•••
دفع التحرر النسبي عائلات كثيرة إلى السماح لنسائها بالتردد على المسارح، وانتشرت
دور
السينما، وظهر الراديو، ومال الكثيرون إلى الأخذ بالأساليب الأوروبية في الحفلات
الخاصة. ومثَّل ذلك كله عاملًا في شحوب الفرصة أمام «العوالم»، وانصراف الكثيرات إلى
حرفٍ
ومهن أخرى؛ فرض العوالم وجودهم على الحياة الفنية وسهرات المجتمع بظهور بمبة كشر
«سلطانة العوالم، بها تفخر الأفراح، وتعتز.»
٢٤١ ولعل موقف دخول زبيدة العالمة (بين القصرين) على أحمد عبد الجواد، يذكِّرنا
بالموقف ذاته الذي وجد فيه الراوي (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين) نفسه، لمَّا
دخلت عليه السيدة التي أرادت شراء البضائع منه، ومعها الخادمة. هي هي زبيدة العالمة،
منذ نزولها من المركبة، حتى صعودها.
٢٤٢ ولم تكن زنوبة (بين القصرين) مجرد مومس، إنما هي — كما يقول الفنان — صبية
عالمة، فنانة بلغة العصر.
٢٤٣ ولأن السمنة كانت هي مقياس جمال المرأة، فقد كان أغلب نساء العوالم من
البدينات: جليلة وزبيدة وزنوبة في «الثلاثية»، والأسطى إحسان في «السقا مات»، والأسطى
شخلع في «عودة الروح». ثم بدأت فئة العوالم تضع أقدامها أعلى سُلَّم الهبوط إلى مصير
محزن في
بداية الأربعينيات. يقول إسماعيل لطيف (قصر الشوق): «آل شداد نصف باريسيين، ينظرون إلى
تقاليد الأفراح بازدراء غير قليل، ولا يسمحون لعالمة بأن تحيي حفلة في بيتهم، ولا
يعترفون بمطرب من مطربينا.»
٢٤٤ لقد اعتزلت جليلة العالمة (السكرية) مهنتها، واحترفت الدعارة، تاجرت بجمال
نساء تختها، حتى أصبحت الدعارة مهنتها الوحيدة، وحققت بها دخلًا كبيرًا، وعلى حد تعبير
الفار فقد «صارت معلمة قد الدنيا، بيتها شغَّال ليل نهار، ويموت الزمار وصباعه
يلعب.»
٢٤٥ ثم أعلنت جليلة — أخيرًا — توبتها! أما زبيدة، فقد ترهَّل جسدها، وتقنع وجهها
بالأصباغ، ولم يعُد للحلي من أثر في عنقها أو أذنيها أو ساعديها.
٢٤٦ أنفقت كل ما ادَّخرته على الشرب والمخدرات.
٢٤٧ ثم أقامت في حجرة على سطح بيت سوسن العالمة «في حالٍ من الاضمحلال يُرثى
لها.»
٢٤٨ وقد انتهى بها الحال إلى احتراف التسول.
٢٤٩ تقول: «ليست الدنيا وحدها هي التي تغيرت، ولكن الناس تغيروا أكثر. سامح
الله الناس، في أيام العز كانوا يستبقون إلى تقبيل حذائي، والآن إذا لمحوني في جانب من
الطريق، مالوا إلى الجانب الآخر.
٢٥٠ وربما استلهم الفنان النهاية القاسية التي واجهتها زبيدة، من النهاية التي
واجهتها العالمة القديمة شفيقة القبطية، فبعد أن كانت تحيا في رغدٍ لا حدَّ له، انتهت
بها
الشيخوخة إلى احتراف التسول. أما بالنسبة للطبقات الشعبية، فقد ظلَّت الحفلات — كالزفاف
والختان وغيرها — مقتصرة على العوالم. وتعبِّر فردوس عن واقع العوالم آنذاك في قولها:
«ربنا يتوب علينا من الشغلة اللي مسرَّحانا كل ليلة زي القرداتية، نرقص للناس، ونهز
بطننا، وبعدين ناخد بالأقلام آخر الليل. اللي يقف لي ورا الباب ويقول لي: يا فزدق، تيجي
ياللا يا فزدق، مكتوب علينا الشقا والضنا، وبرده نطلع ولاد حرام في الآخر، محدش بيقدَّر
شقانا أبدًا، كل الناس بيمسحوا عارهم فينا.»
٢٥١ ويقول الأستاذ علي صبري (بداية ونهاية): «أما الأفراح فربنا يجعلها مآتم،
انتهى زمان الأفراح، ولا نسمع الآن إلا عن حفل عائلي اقتصر على آل العروسين، والراديو
احتكرته أم كلثوم وعبد الوهاب، وشرذمة من المطربين المتخصصين بالنشاز، وهيهات أن يكون
لنا عيش في هذا البلد.»
٢٥٢ وكانت أم إحسان شحاتة (القاهرة الجديدة) من عوالم شارع محمد علي، قبل أن
تعتزل، وتتزوج المعلم شحاتة تركي.
٢٥٣ وبينما كانت سيدة (نحن لا نزرع الشوك) تحلم بأن تصبح — ذات يوم — بمبة كشر
التي سمعت عنها من قبل،
٢٥٤ فإن عبد اللطيف (الشوارع الخلفية) كان يتحدث عن راقصة جديدة اسمها تحية
كاريوكا.
٢٥٥ وكانت رقصة الشارلستون ما زالت شيئًا جديدًا.
٢٥٦
•••
شاهد الناس — للمرة الأولى — صورًا تتحرك في صالة سانتي بحديقة الأزبكية، وقد غيَّر
ذلك
كله، وغيره، من وتيرة الحياة الاستاتيكية لتحل — بدلًا منها — ديناميكية مستجلبة، متمثلة
في إنجازات الصناعة الأوروبية التي بدأ المجتمع المصري يفيد منها. وحتى عام ١٩٣٥م كانت
الدعوة قائمة لمقاطعة السينما الأجنبية.
٢٥٧ وكان عبد العزيز يصحب معه — أحيانًا — شقيقه عبد اللطيف، إلى سينما رمسيس
المصرية، ويشتري له الحلوى من مطعم آمون المصري، وكان يربط في عنقه شريطًا أخضر من صنع
مصر بدلًا من الكرافتة، ويبرزه بزهوٍ واعتزاز.
٢٥٨ وفي ١٤ مارس ١٩٣٢م عُرض أول فيلم مصري ناطق «أولاد الذوات»، وأهدى حمدي حلاوة
النجاح لأخته سميحة دعوة لمشاهدة فيلم «الوردة البيضاء» لمحمد عبد الوهاب.
٢٥٩ وكان اسم فيلم «العزيمة» هو «في الحارة»، لكن المسئولين في استديو مصر
رفضوا هذا الاسم، لتصورهم استحالة نجاح فيلم تجري أحداثه في حارة، وكانت القصور هي
البيئة التي تتحدث عن أصحابها الأفلام المصرية آنذاك.
وتألق نجم توفيق الحكيم بعد النجاح الهائل الذي أحرزته مسرحية «أهل الكهف»، أما يوسف
وهبي فقد كتب في إعلانات مسرحيته «الفاجعة» (١٩٣٤م) أنها حملة على القديم! ولعله يمكن
القول إن بعض المسرحيات كان لها تأثيرها غير المباشر — وربما المباشر — في قطاعات
المترددين على المسارح. شوقي خليفة يخرج من مسرحية «بيومي أفندي» وهو يقول: «يا أخي
يوسف وهبي ده بيخلِّي كل واحد يشك في أمه، بعد رواية زي دي، كل واحد لازم يشك في
أمه.»
٢٦٠ كان عزيز عيد يختار الوجوه الجديدة من فريق التمثيل بالخديوية الثانوية،
ويدفع بهم إلى أدوار البطولة.
٢٦١ وكان نجوم مسارح روض الفرج: علي الكسار وفوزي منيب ويوسف عز الدين.
٢٦٢
•••
يقول رفعت السعيد: «والذي لا شك فيه أن كثيرين من المثقفين الاشتراكيين المصريين
قد
وصلوا إلى الاشتراكية عبر ميدان الأدب، والأدب الروسي على وجه التحديد.»
٢٦٣
يعد لوكاتش الرواية ملحمة الطبقة الوسطى في البحث عن هُوية لها. وعلى الرغم من القول
بأنه حتى أواسط الثلاثينيات «لم يكن لفن القصة على وجه عام شأن يُذكَر في المجتمع الأدبي
المصري إذ ذاك، وكان عاشقوه في آخر الصف.»
٢٦٤ وعلى حد تعبير نجيب محفوظ فإن «الجانب المحترم في الحياة الأدبية كان هو
المقال، أما القصة فغير محترمة.»
٢٦٥ على الرغم من ذلك، فإن الراوي يتساءل: «والقصة؟ ألم ترَ تلك القصص المكدسة
في واجهات المكتبات، وعلى أرصفة الشوارع؟ ألا تعلم أن كل مَن هبَّ ودبَّ يكتب اليوم
القصة؟!»
٢٦٦ وقد وجد شوقي (الشوارع الخلفية) في قصة شقيقه عبد العزيز مع الجارة رجاء ما
ذكَّره ببطلة قصة محمود تيمور «قلب غانية»؛ كانت بطلة تيمور غانية من الفجالة، أوقعت
في
هواها طالبًا في كلية الطب!
٢٦٧
وينظر شوقي (الشوارع الخلفية) إلى درية وهي تصفف شعرها في المرآة، وتسكب قطرات من
زجاجة عطر على مفرقه، ويتساءل: ما اسم هذا العطر يا ترى؟ أليست هذه التي تقف أمامك الآن
يا شوقي هي نفسها ريري بطلة قصة محمود كامل الأخيرة؟ ولكن الأخرى تسكن في الروضة، وهي
تلميذة في «المير دي دييه» … لا يهم! والأخرى بنت ضابط كبير في المعاش، آه يا عم شكري!
وبطلة قصة محمود كامل طويلة سمراء مكحولة العينين، في نهديها كبرياء وشموخ، وبعينيها
حزن جليل، كأميرة هندية. درية أيضًا تملك نفس الأشياء، تملك من الجلال والفتنة والهدوء
الحزين ما لا تملكه كل الأميرات الهنديات» … إلخ.
٢٦٨ لقد صدر لمحمود كامل — قبل أن يتجاوز الثلاثين — سبع مجموعات قصصية، ضمَّت أكثر
من مائة قصة، بالإضافة إلى مسرحيتين. ويتبدى تأثير مجلة «الجامعة»، وقصص محمود كامل
بخاصة، على الشباب المصري آنذاك، في قول عبد اللطيف لعبد العزيز (الشوارع الخلفية):
اسمع يا عبد العزيز، عندك مجلة الجامعة، يالَّا اقرأ لنا بقى قصة محمود كامل بتاعة
الأسبوع ده، «ويقرأ عبد العزيز قصة محمود كامل في جو مشحون بالصمت والتطلع.»
٢٦٩ كانت قراءة قصص محمود كامل تقليدًا أسبوعيًّا عند أفراد أسرة «الشوارع
الخلفية»: «الجلسة المعتادة الحلوة بعد غداء كل خميس على سرير عبد العزيز، يقرأ لهما
قصة
محمود كامل في جو مشحون بالصمت والتطلع، دائمًا يوم الخميس، وهو اليوم الذي خصَّصه أبوهم
ليستريحوا فيه من المذاكرة، وأصبح هذا جزءًا من تقاليدهم.»
٢٧٠
•••
أصدر محمود كامل مجلة أسبوعية للقصة اسمها «الجامعة»، ومجلة «اﻟ ١٠ قصص» التي أصبح
اسمها «اﻟ ٢٠ قصة»، ثم اندمجت في مجلة «الجامعة»، ثم أصبحت «الجامعة» مدرسة، أساتذتها،
وتلامذتها في آن، إبراهيم المصري ومحمد أمين حسونة ومعاوية نور ونزيه سعد وإبراهيم ناجي
ومحمود عزت موسى وحسن صبحي. وكتب إسماعيل أدهم: «نالت قصص محمود كامل من الذيوع
والانتشار، ما لم تنله قصص أي أديب آخر من أدباء العربية المعاصرين في مصر. والحق أن
محمود كامل لم ينَل زعامة مدرسة قصصية في الأدب المصري اعتباطًا، فإنتاجه الكبير، وما
يتسم به هذا الإنتاج من السِّمات الفنية هما اللذان مهدا له سبيل هذه الزعامة.»
٢٧١
أصدر محمود كامل مجموعته الأولى «المتمردون» في ١٩٣٢م، وتلاها بمجموعته الثانية «في
البيت
والشارع» في مارس ١٩٣٣م، وفي ١٩٣٤م أصدر مجموعة «٨ يوليو»، وتضم ثماني قصص، ثم صدرت «حياة
الظلام» و«بائع الأحلام» (صدر لإحسان عبد القدوس — فيما بعد — مجموعة باسم «بائع الحب»)
و«أول يناير» و«المجنونة» و«الربيع الآثم» و«زوبعة تحت جمجمة» و«عيون معصوبة» و«أنت وأنا»
و«حطام امرأة» و«فتيات منسيات» و«القافلة الضالة» و«الهاربون من الماضي» و«آبار في الصحراء»
و«اللاعبات بالنار». ولفتت قصصه الأنظار بصورة واضحة، وسُمِّي موباسان مصر، وأصبح له
قراء ومريدون يحاولون محاكاة قصصه.
٢٧٢ بلغ في الأدب المصري منزلة الرائد ذي المكانة التي تُفرض على نقاد
الأدب.
٢٧٣ وكما يقول سيد النساج فإن محمود كامل يقف «مؤثرًا في جيل كامل من أبناء هذه
المرحلة، فيحاكيه في كل شيء، ويكاد في قصصه لا يخرج عن الدائرة التي حصر محمود كامل
نفسه في أبعادها وزواياها المحددة.»
٢٧٤ وعندما تطل عينا شوقي (الشوارع الخلفية) على درية ابنة شكري عبد العال في
نافذة بيتها، يسأل نفسه: «أليست هذه التي تقف أمامك الآن يا شوقي، هي نفسها ريري بطلة
قصة محمود كامل الأخيرة؟ ولكن الأخرى تسكن في الروضة وهي تلميذة في «المير دي دييه» …
لا يهم! والأخرى بنت ضابط كبير في المعاش، آه يا عم شكري! وبطلة قصة محمود كامل طويلة
سمراء مكحولة العينين في نهديها كبرياء وشموخ، وبعينيها حزن جليل كأميرة هندية. درية
أيضًا تملك نفس الأشياء، تملك من الجلال والفتنة والهدوء الحزين ما لا تملكه كل
الأميرات الهنديات.»
٢٧٥
•••
يحدد الفنان (حياة الظلام) الطبقة التي تنبض بها قصصه بأن «كل الجهود التي بُذِلت
حتى
اليوم في كتابة القصة، انصرف معظمها إما إلى تصوير شخصيات ريفية بحتة تعيش في جو ريفي
بحت، أو شخصيات أبناء البلد ونساء الحواري والأزقة. وهذه الجهود لها قدرها الأدبي
وقيمتها الفنية، ولكن أردت بكتابة «حياة الظلام» أن أعطي صورة صادقة عن طبقة أخرى، لا
هي
بالغنية ولا بالفقيرة، وقد تكون أدنى إلى الفقر منها إلى الغنى، وأن أجعل بطل القصة
يتخضرم بين عهدَي الدراسة العالية والحياة الحرة، وهي فترة دقيقة غاية الدقة من فترات
الحياة التي يجتازها الجيل الجديد من شبابنا، من حقها أن تُسجَّل.»
٢٧٦ وينقل الفنان عن محرر الأكتولتيه
Actualtes
قوله «إن هناك طبقة من الخاصة قد تكونت تدريجيًّا منذ نحو ثلاثين عامًا، تستحق التنويه،
وهذه الطبقة يتزايد ثراؤها يومًا بعد يوم، وتلعب دورها في جميع نواحي الحياة، مدركة
لواجباتها. ألم تقدِّم مصر حتى الآن ما يكفي من الأدلة سياسيًّا واجتماعيًّا لكي يُنظَر
إليها نظرة أشمل وأعم على حساب ما جرت العادة على وصفه من بيئات شعبية لها جمال يخطف
البصر ويثير النفس؟ لقد أزف الوقت الذي يجب فيه أن تحتل الأسرة المصرية مكانها الشاغر
حتى اليوم في الإنتاج الأدبي.»
٢٧٧ هذه الطبقة هي الطبقة الوسطى، وقد عني الفنان بتصوير الجانب العاطفي من
حياة هذه الطبقة وكان — كما قال في تقديمه لمؤلفاته — «لونًا جديدًا غير مسبوق بصفة
عامة.» وثمة رأي أن الكُتاب الذين سبقوا محمود كامل كانوا يخشون التعرض للحب؛ لأنهم
اعتقدوا أن قصص الحب توافق الغرب، حيث يجوز أن يكون الحب موضوعًا أدبيًّا، لكنه صور
حياة الطبقة الوسطى التي تعيش في تجاوب نسبي مع العادات الغريبة، وتأثر بها.
٢٧٨ ولعل قصة «لوحات وظلال» — تحديدًا — هي أول قصة مصرية تتناول حياة الطبقة
الوسطى.
٢٧٩ ثمة مشكلات الطلاق، الخيانة الزوجية، فراق الحبيبين، موقف الآباء من الحب،
رغبتهم في تزويج بناتهم من شبان أغنياء، فضلًا عن التعبير عن المجتمع شبه الإقطاعي الذي
يتحوَّل — تاريخيًّا — إلى مجتمع صناعي، وما تبِع ذلك من انتشار المبادئ الديمقراطية،
وخروج
المرأة للعمل والدراسة، وكذلك اختفاء الفتاة المحجبة، وظهور الفتاة المتحررة.
٢٨٠ «فالمرأة المصرية التي كانت — منذ عهد قريب — تعيش وراء الحجاب محرومة من
العلم، قد تحررت وتطورت بسرعة مذهلة، فحققت في مدى عشرين عامًا ما لم تحققه في ثلاثة
أو
أربعة قرون، وأصبحنا نراها تعمل محامية وطبيبة، وتسافر مع زوجها إلى أوروبا وأمريكا،
فإذا هي عنوان لتطور المرأة في وطنها.»
٢٨١ تقول الزوجة في «الرباط المقدس»: «الطلاق اليوم أصبح موضة، وبدعة، شأنه شأن
المغامرات.»
٢٨٢ وتشير الإحصاءات أنه في سنة ١٩٣٩م حدث ٥٢٤٢١ طلاقًا في مقابل ١٨٣٨٢٣ زواجًا،
وفي سنة ١٩٤٠م حدث ٥٤٢٢٨ طلاقًا في مقابل ١٩٩٨٣١ زواجًا، وفي سنة ١٩٤٢م حدث ٦٨٠٥٥ طلاقًا
في مقابل ٢٢٦٥٧٦ زواجًا.
٢٨٣ وكما يقول الفنان فإن الرجل يستطيع أن يقطع ما بينه وبين المرأة من صلة
بكلمة تخرج من فمه، أو يتعسف معها بحقوقه الشرعية، فيذيقها الأمرين، فلا هي بالزوجة ولا
هي بالطليقة.
٢٨٤
•••
تهبنا قصص محمود كامل «أولئك الفتيات اللائي تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشرة
والثانية أو الخامسة والعشرين، والفتيات اللائي يقضين النهار جالسات على «تختة» مدرسة،
أو واقفات خلف واجهة محل تجاري، أو متنقلات بين أقسام مخزن من مخازن الملابس، حتى تسأم
أرواحهن الشابة، وتتسرب إليها كآبة مضنية، فتظمأ تلك الأرواح إلى غذاء من العاطفة لا
يجدنها في جو الدراسة أو العمل … إن النفوس والأرواح الشابة تروي ظمأها في ظلام قاعات
السينما.»
٢٨٥ وثمة الحبيب الذي يصفح عن ماضي حبيبته: «إن ذلك الماضي تملكه هي دون سواها،
ومن العنت أن أحاسبها عليه.»
٢٨٦ وفي قصة «حياة الظلام» يعتبر الشاب قصة رومان كولوس إقرارًا لمبدأ إباحي
عجيب، هو اتصال السادة الشبان بخادماتهم، ويتساءل: ما هذا التردي؟ أي انحراف ملوث أصاب
تفكير هؤلاء المؤلفين؟
٢٨٧ تذكرت الآن أن سوزي أرسلت لي قلمًا أزرق رشيقًا كهدية بمناسبة حصولي على
الليسانس، لم لا أزور سوزي؟ أليست أفضل من خادمة؟ إنها سارت في الطريق لما شك أحد في
أنها سيدة من أسرة كريمة، ألم تخدع محمود الشيمي؟ أستطيع إذن أن أراها خارج منزلها، ليس
في هذا ضير، فإن اسمي لم يدرج إلى الآن في الجدول.»
٢٨٨
كان لبطل «حياة الظلام» مطالبه الاجتماعية التي تنهض على أساس مختلف؛ فهو يضيف إلى
الرأي بأن توزيع الثروات غير عادل، رأيًا آخر بأن طريقة استغلال الثروات غير عادلة
أيضًا. فهو يحلم — على سبيل المثال — بأن يستقل اليخت الذي يملكه زميله الثري لمدة يوم
واحد، يدعو فيه صديقه إلى قضاء يوم على ظهره «إنني أفكر في أشياء غريبة، أشبه بخيالات
المجنون. يقولون إن توزيع الثروات غير عادل، ولكنني أقول أيضًا إن طريقة استغلال
الثروات غير عادلة أيضًا، بل إنها ظلم كبير، فهذا اليخت الراسي مهجور نحو تسعة أشهر في
السنة لا يستخدمه أحد، لم لا يُسمَح لي باستخدامه فأدعو زهيرة — مثلًا — لقضاء يوم بديع
على
ظهره؟ أغلب الظن أنها لن ترفض الدعوة ما دامت على ظهر هذا اليخت، ثم يستخدمه شاب آخر
مثلي، وثالث، ورابع، حتى يعود صاحبه فنسلمه له.»
٢٨٩
•••
كانت قصص محمود كامل — كما يقول محرر «المقتطف» — تمثِّل الجو المصري في صفات أشخاصها
وعبارات حوارها، وإن كانت حوادث معظمها مما يصح أن يقع في أية عاصمة من العواصم، وقد
سررنا بنوعٍ خاص بقصة «الدرجة السادسة» فإنها تحتوي على وصفٍ بارعٍ لطبقة من سكان العاصمة
وطائفة من موظفي الحكومة وعاداتهم المنزلية لا يمكن أن تكون في مدينة أخرى غير القاهرة،
أو ما يماثلها من المدن المصرية، وحبذا لو زاد عنايته بالقصة القروية التي يتجلى فيها
خُلق الفلاحين وحكمتهم ومآثرهم وتقاليدهم، وفي القصص الأخرى تقع على لمحات من حياة بعض
الأطباء المصريين والمحامين المصريين والسيدات المصريات تقنعك بأن في المجتمع المصري
تحولًا كبيرًا واسع النطاق بعيد القرار.
٢٩٠ وكتبت «الجورنال ديجيبت»: «إذا كانت «زينب» لمحمد حسين هيكل تُعَد خير صورة
لحياة الريف المصري. وإذا كانت قصص محمود تيمور تصف لنا حياة الأغوات والشراكسة، وإذا
كان توفيق الحكيم قد استطاع أن يصف لنا حياة موظفي الأرياف بقدرة ونبوغ، وإذا كان محمود
طاهر لاشين قد رسم لنا على الأخص الأوساط العمالية في المدن الكبيرة، فإن محمود كامل
يُعَد في مقدمة من استطاعوا رسم مصر الحديثة رسمًا صادقًا واقعيًّا خاليًا من كل تكلُّف.»
٢٩١
والواقع أن ذلك الرأي لم يخلُ من تعميم، من الصعب القول بأن قصص محمود كامل كانت
لونًا
جديدًا، وأنه «لم تكن قصة الحب العربية القصيرة قد ظهرت بعد.»
٢٩٢ ثمة الكثير من القصص التي تصور العواطف الهادئة والمشبوبة، الطاهرة
والدنسة. قصة «خلف الستار» لمحمود تيمور — على سبيل المثال — عن الزوج الأنيق الذي يبيع
زوجته لأصدقائه بأن يدعوهم إلى بيته، ثم يستأذن في مهمة عاجلة، ليمر في اليوم التالي
على صديقه الذي يكون قد قضى الليلة السابقة في أحضان الزوجة، ويدَّعي أنه في حاجة إلى
مبلغ عاجل، ثم يميل على أذن صديقه ويدعوه لأن يكرر الزيارة.
٢٩٣
•••
كانت القصة — إلى عام ١٩٣٢م — مثل شم الكوكايين، على حد تعبير محمود تيمور، وكان
شيوخ
الأزهر يقولون إن القصة خيال من صنع الشيطان.
٢٩٤ وكتب فكري أباظة في مجلة «الجامعة» «لا يزال فن القصص في مصر عديم الأبطال
والفرسان.»
٢٩٥
ولم تكن القصة المصرية — إلى أواخر الثلاثينيات — قد تحددت صورتها بعد، ولا احتلت
المكانة التي هي عليها الآن.
٢٩٦ وإن أرجع البعض إلى الطبقة الوسطى فضلًا مهمًّا لها على القصة القصيرة: «فهذه
الطبقة تكاد تكون الفئة الوحيدة من بين فئات الأمة التي ساعدت على ذيوع القصة القصيرة
وانتشارها، فهي — من ناحية — تمثِّل الغالبية العظمى من أبناء الأمة، كما أنها — من ناحية
أخرى — تُعَد الطبقة القارئة التي تتناول الصحيفة أو المجلة فتلتهم ما بها من أخبار
وحوادث، ثم تركن وترتاح إلى ما تقدمه لها الصحيفة أو المجلة من قصص، ولو افتقدت الجريدة
هذه القوة الشرائية الكبرى لنال ذيوعها ورواجها نقصان كبير، وبالتالي ينال ذيوع وانتشار
القصة القصيرة النقصان نفسه.»
٢٩٧ وأشار محمود تيمور إلى وفرة إبداعات الشباب في القصة «فهو من المواضيع التي
تحتل المكان الأول في مجالس الأدب في وقتنا الحاضر.»
٢٩٨
وأما ابتعاد الرواية عن أقلام الكُتاب، فقد ذهب البعض إلى أن ذلك الانصراف يعود إلى
جملة أسباب، عدا «زينب» هيكل، والقليل من الروايات التي «لا تصور من حياتنا إلا النزر
اليسير.»
٢٩٩
والاتجاه إلى الرواية التاريخية يشابه — إلى حدٍّ كبير — اتجاه الرواية الأمريكية
في مطلع
هذا القرن، وكانت تتلمس خطواتها الأولى بعد. بل إن بعض الكُتاب الذين يعانون انعدام
الموهبة التاريخية، اتجهوا إلى كتابة هذا اللون من القصص، ربما مسايرة للون أدبي فرض
نفسه آنذاك. ويذهب الناقد الأمريكي ويلارد ثورب إلى أن الأمريكيين قد أغرموا بالروايات
التاريخية منذ كتب روايته «الجاسوس» (١٩٢١م) في محاولة لمنافسة الأسكتلندي ولتر سكوت،
وأن
تلك الرومانسيات التاريخية التي ظهرت في السنوات العشر ما بين ١٩٠٠م و١٩١٠م، لم تكن إلا
نتاجًا للعصر الذي كُتبَت فيه، فقد تخللتها روح القومية الجديدة، وظهرت بين سطورها. وقد
كتب محمد لطفي جمعة روايته مختارة عن العصر المملوكي، نُشرت منجَّمة في ٦٥ بجريدة
«الدستور» (١٨/ ١/ ١٩٤٢م– ١٣/ ٤/ ١٩٤٢م).
وقد لاحظ بعض الكُتاب أن «الكاتب المصري القصصي أخذ يشعر بوحي البيئة، ولكنه لم يحس
— حتى الساعة — بوحي العصر. إن في معظم القصص المصرية الحديثة ألوانًا مختلفة من حياتنا
المحلية، وملاحظات صادقة منتزَعة من صميم أخلاقنا وعاداتنا، ورغبة واضحة في دراسة نفسية
هذه الأمة، ولكن ليس في واحدة منها أية صورة تدل دلالة بالغة على التأثير العميق الذي
أحدثته روح هذا العصر ومشكلاته وتطوره الجبار السريع في عقليتنا، وفي عقلية الكاتب
القصصي نفسه. إن عصرنا عصر صناعة واقتصاد، والكتلة العاملة ذات مركز خطير فيه. فهل فكر
روائي مصري في هذه الناحية من ناحيتنا؟ هل فكَّر — مثلًا — في دراسة حياة الكتلة العاملة
المصرية من فلاحين وعمال، ورسم أخلاقها وعاداتها وكفاحها اليومي المجيد، وحاجاتها
ومطالبها، في أية قصة؟ إن مثل هذا العمل الذي توحي به النزعة الاقتصادية الشائعة في
عصرنا، والذي يدل على تمكُّن روح العصر من نفس المؤلف، لا وجود له، ولا لأشباهه في
قصصنا.»
٣٠٠ وكان «تاريخ الجبرتي» — حتى منتصف الثلاثينيات — ممنوعًا، يقول الشيخ حمزة
(الشوارع الخفية): «كتاب الشيخ الجبرتي كتاب مش موجود زي ما أنت عارف … وبيعه كمان
ممنوع … قال إيه فيه سب في محمد علي الكبير والأسرة المالكة؟!»
٣٠١ وثمة صورة سلبية للحياة الثقافية آنذاك؛ فالمازني سارق جريء لا يرعى لكُتاب
الغرب حرمة، والريحاني بهلوان المسرح ودجال الفن، والحكيم كاتب محظوظ، وعزيز عيد
انتهازي أكثر منه مخرجًا مسرحيًّا، وفاطمة رشدي أمية جاهلة لا علم لها بأصول الفن،
والوسط الفني والأدبي كله مستنقع قذر من الانحلال والموبقات والدعارة السافرة.
٣٠٢
هوامش