القرية … مشكلات ثابتة
كان محور أحاديث أبناء الريف في مطالع الثلاثينيات هي كلمات: الحجز، البروتستو،
الحضر، البورصة، البنك، الخواجة، والحديث الغالب هو أسعار القطن، لماذا ترتفع؟ ولماذا
تنخفض؟ وهل الأمر — كما يقول البعض — مردُّه هاتف من السماء يهبط ساعة الفجر، يهمس بما
يقرر
أسعار اليوم؟!١
ولأن العامل الاقتصادي هو أهم العوامل في الهجرة من الريف إلى المدن، بل لعله أهم
العوامل في الهجرة من مكان إلى آخر بصورة عامة، فقد كان الدكتور عبد الفتاح يعتقد أن
الريف المصري لا يمكن أن يتقدم أبدًا، ما دام الموظفون يتركونه إلى المدينة.٢ ولعلنا نجد باعثًا لهروب الخريجين — والموظفين بعامة — من العمل في الريف،
في هذه الصورة الدالة التي يسجلها الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف» عن مساعد النيابة
الذي يعمل في إحدى القرى للمرة الأولى: «لقد سئم الريف، إنه لا يجد هنا قهوة واحدة يليق
أن يدخلها مثله، اللهم إلا دكان ذلك البدال الرومي طناشي، وُضعَت أمامه مائدتان من الخشب
وكرسيان من القش، وقد أطلق عليه الأهالي اسم «الخمارة». وحتى هذا الرومي قد ارتدى
جلبابًا كجلباب الفلاحين، فلم يعُد شيء ينم على أنه إفرنجي، غير لون العينين والشعر …
أين
يتنزه؟ وأين ينفق وقته؟ هذا الشاب الذي جاء من العاصمة منذ أيام، حيث الأنوار والملاهي
والضجيج؟ إنه الآن لا يكاد يرى غير مبانٍ قليلة، أكثرها متهدم، وغير هذه الجحور المسقفة
بحطب القطن والذرة يأوي إليها الفلاحون. إنها في لونها الأغبر الأسمر لون الطين والسماد
وفضلات من البهائم، وفي تكدسها وتجمُّعها كفورًا وعزبًا مبعثرة على بسيط المزارع؛ لأنها
هي نفسها قطعان من الماشية مرسلة في الغيطان … إلخ.»٣ وقد زار الراوي قرية صديقه ليقضي — كما يتصور — يومًا في أحضان الريف، ويتعرَّف
على الطبيعة في جمالها وتألقها، لكنه يفاجأ برؤية الفلاحين أنصاف العرايا وهم مكبُّون
على
الأرض، يعملون فيها الفئوس والمناجل، مكدودين يتصبَّبون عرقًا في أوار القيظ، وللفلاحات
القابعات في ذلة لدى الأكواخ المتخذة من الطين والبوص.٤ لذلك كان عقاب من يهمل في أداء عمله هو النقل إلى الصعيد،٥ حتى وكيل النيابة، حين يفشل في تحقيقاته، يُعاقَب بنقله إلى الصعيد.٦ والمفروض أن الأكفاء هم الذين يجب أن يعملوا في الصعيد؛ لأن الجريمة هناك
منتشرة، لكنه منطق النفي!
لقد بطلت صلاة العشاء في بعض القري، خوفًا من حوادث القتل ليلًا.٧
الفلاح المصري في منتصف الثلاثينيات — كما وصفه عزيز خانكي — أشق الناس عملًا، وأقلهم
رزقًا، وأكثرهم مجهودًا، وأتعسهم معيشة، وأقلهم حماية، وأكثرهم شغلًا.٨ وفي رسالة من فؤاد إلى حسين يصف الريف بأنه جميل، لكنه حزين، إنه حسناء
متشحة بالسواد، حتى أغنيات القطن أصبحت تذكِّر الفلاح بالضرائب.٩ وقد حدد عزيز خانكي بعض الاقتراحات التي يمكن أن تسهم في تربية الفلاح
اجتماعيًّا، وفي مقدمتها تنقية مياه الشرب، باعتبار أن معظم الأمراض التي تصيب الفلاحين
مبعثها تلوث مياه الشرب.١٠
كانت الرأسمالية المصرية تعتمد على كبار ملاك الأراضي، وليس على كبار التجار، كما هو الحال في أوروبا.
كان أكثر من نصف ملاك الأراضي الزراعية في مصر يحيون في المستوى الذي يحيا فيه
الفلاحون الأُجراء، فقد بلغ عدد الذين يملكون أقل من فدان ١٦٧٥٦٢٣، متوسط ما يملكه
الواحد منهم ٤١٪ من الفدان، أما الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة فقد بلغ عددهم ٥٦٣٢٣٧
فلاحًا، متوسط ما يملكه الواحد منهم فدانان وثلاثة في المائة من الفدان.١١
وقد وضع محمود كامل برنامجًا لمصر، كدولة رأسمالية تتفق مصلحتها مع النظام الرأسمالي،
بمعنى تحقيق التقدم دون تغيير في نظام الحكم أو صورته، بل إن ثراء الدولة لا يتعارض مع
ثراء الأفراد، ولا يتحقق دائمًا على حساب هؤلاء الأفراد، ولعله يمكن أن يتحقق بسبب
ثرائهم، إن نفَّذ ما سمَّاه الكاتب «الاستعمار الداخلي لمصر»، على المستويين الزراعي
والصناعي بصورة موسَّعة «ولأننا نؤمن بأن الظروف الخاصة التي أحاطت بمصر، بسبب نظام
الامتيازات الأجنبية، تجعل من واجب الدولة — حتى في ظل النظام الرأسمالي — أن تتولى
بنفسها ترقية وتنسيق ومراقبة وتوجيه نوع واحد من أنواع النشاط الوطني، وهو الذي يؤدي
خدمات عامة كشركات النقل والنور والماء، وأن تترك للأفراد باقي نواحي النشاط الوطني —
وهي عديدة — استغلالًا حرًّا، لا يقيده إلا حرص الدولة على نمو ذلك النشاط
واضطراده.»١٢ أما مريت بطرس غالي فقد طالب في كتابه «سياسة الغد» بتأسيس المعهد الوطني
للبناء والتجديد؛ لكي يعمل على إعادة بناء القرى التي قد تدمرها الحرائق، فكل سنة تحترق
قرية أو اثنتان، وعلى المعهد أن ينتهز هذه الفرصة لإعادة إنشائها بأسلوبٍ عصري يتفق مع
ما ننشده من تقدم. وقد سخف قليني فهمي باشا ذلك بالاقتراح في قوله: «أما الفلاحون
الصغار، أو الأجرية، فأهم شيء يلزم عمله لإصلاح حالهم وتحسين معيشتهم، هو ردم البرك
والمستنقعات المحيطة بمساكنهم، إنقاذًا لصحتهم من الأمراض التي تتولَّد بها، كذلك يجب
إنشاء دورات مياه صحية في كل قرية، وإمدادهم بمياه نقية صالحة للشرب. هذه هي أهم
المطالب. أما النغمة القائلة بتشييد القرى النموذجية، وتزيينها بالمقاهي وأماكن اللهو
والتسلية، فهذه مظاهر لا تفيد الفلاح بل تفسده؛ لأنها تؤخره عن عمله، وتدعوه إلى النفور
من طبيعته الخشنة التي ألِفها وتعوَّد عليها آباؤه وأجداده.»١٣
فقط، ردم البرك والمستنقعات!
وتشي قصة ثروت أباظة «أستغفر الله» بأن مجتمع الريف تحكمه الجريمة، فسعد الله يضطر
للعودة إلى الإجرام عندما لاحظ أن احترام الناس له قد ذوى إلى حدِّ إقدام البعض على
سرقة ماشيته.١٤
وفي ١٩٣٨م أعلن عن إنشاء حزب الفلاح برئاسة أحمد كامل قطب المحامي، واتخذ الحزب فأس
الفلاح شعارًا له، وجعل هتافه: الله أكبر والله معنا. كما أصدر جريدة باسم «النضال»،
لكن لم يستمر إصدارها طويلًا، ورويَ أن جهات مجهولة، معروفة، أغدقت على رئيس حزب الفلاح
حتى صار في فخامة لورد.١٥ وقد أدرك صلاح النجومي (للزمن بقية) من خلال اقترابه من أداء حزب الفلاح،
ومن قياداته، أن الحزب لا يقل رفاهية عن نادي اللوردات، وأن زعيمه النبيل عباس حليم
الذي يدَّعي صداقة الفقراء، ويرعى حزب العمال، أشبه بالنعام الذي يحضن بيض العصافير.١٦
الغريب أن الذين أسرفوا في طلب منع المرأة من العمل، أهملوا عمل المرأة الفلاحة في
قرى الريف المصري. كان عدد سكان الريف المصري في ١٩٣٧م حوالي ١٥ مليونًا، نصفهم من
النساء، من بينهن ٧٠٣١٢١ امرأة عاملة في الزراعة،١٧ بالإضافة إلى النساء اللائي ينشغلن بالعمل في البيت والعمل مع أزواجهن في
الحقل.١٨ كانت المرأة الريفية («كانت»؛ لأن الصورة شهدت تغيُّرًا واضحًا) تعمل أكثر
من أربع عشرة ساعة كل يوم، إلى جانب الأب أو الأخ أو الزوج، وربما الابن أيضًا، وعملها
يمتد فيشمل الحرث والبذر والجمع والري والحصاد والرعي والعناية بالماشية والدواجن، هل
أهملت المرأة — وهي تصنع ذلك كله — بيتها وزوجها وأطفالها؟١٩ لم تنشغل المرأة الريفية بقضايا السفور والحجاب والنزول إلى العمل؛ لأنها
كانت سافرة، وتعمل في الحقل، وتبيع في الأسواق وتشتري، بل إن نعناعة تقول لزوجها: «إلا
ليه ما اطلعش معاك الغيط زي مرات محمود أبو سماعين؟ زي كل الناس اللي زينا؟ هه؟ رد يا
علوان، دا المشي كويس عشان الواد.»٢٠ ونحن نلحظ في قصة المرأة الريفية عزيزة (الحرام)، قبل أن تقع الحادثة التي
دمرت حياتها، أنها كانت — في ظل مرض الزوج الذي حال بينه وبين الحركة — تقوم بكل أعمال
رب
الأسرة من عمل، وإنفاق على البيت، ورعاية للأبناء، وتمريض للزوج المقعد. وتقول الهانم
(قبل أن تفيض الكأس) للسيدة الفلاحة: «عندكم في الفلاحين، المرأة تحمل الفأس، وتدير
الطنبور، ماذا بقي؟ رأسها برأس الرجل.»٢١
إن معظم رجال القرية يتزوجون حتى يفيدوا من عمل المرأة، ومن الأولاد الذين
تنجبهم.٢٢ قليلة هي حكايات الحب التي يتقدم فيها الشاب لخطبة فتاة، لمجرد أن كلًّا منهما
أحب الآخر، ويهملان أعرافًا اجتماعية واقتصادية! وبلغت التطورات — التي فرضتها الظروف
الاقتصادية القاسية، كما في «الحرام» — أن المرأة أصبحت هي المسئولة عن الزوج.٢٣
المرأة في الريف هي الأشد كدحًا، وهي — في الوقت نفسه — الأقل مكانة. تقول الأم (دعاء
الكروان): «إن المرأة لا تستطيع أن تعيش، ولا أن تأمن، لا أن تستقيم أمورها، إذا لم
يحمِها أب ولا أخ ولا زوج.» وتقول: «فالمرأة عورة يجب أن تُستَر، وحرمة يجب أن تُرعى،
وعرض
يجب أن يُصان.»٢٤ أذكر من رؤى صباي — لا أدري إن استمر ذلك حتى الآن! — قدوم الزوج والزوجة من
قريتهما لمهمة ما في الإسكندرية، تحرص المرأة — احترامًا للرجولة في زوجها — على أن تسير
وراءه، ولا تسير إلى جانبه!
والأبناء في القاهرة يتلقَّون من الأمهات في القرى رسائل الأرز والسمن والبيض
والطيور.٢٥ فإذا حلَّت الإجازة التي تمتد ما يزيد على ثلاثة أيام — مثل إجازة عيدَي الفطر
أو الأضحى — تزاحم أبناء القرى الذين يعملون في المدينة على محطات القطار والأوتوبيس؛
ليقضوا أيام الإجازة مع ذويهم، وفي يد كل منهم حقيبة أو سلال «تحتوي غالبًا على هدية
العيد لأهله، وربما أيضًا على ملابسه المتسخة إذا كان طالبًا.»٢٦
ونحن نتعرف إلى إيقاع التطور عندما يصر الأب على أن تخرج ابنته العروس من بيتها وهي
تركب السيارة بدلًا من الجمل «بقى بنتي تخرج على جمل؟ أبدًا، لا بد من الكومبيل.»٢٧
ومن المواويل التي كان يستمع إليها أبناء القرى: م العصر للعصر بالطَّلَّع
عالْمَرادَاه … ألْقَى جميع النسا من طيبين ورداه … شبه القطا في الخطا، والميه ماء
ورداه.٢٨
هوامش
(١) زكي نجيب محمود، حياتنا بين الأمس واليوم، الفكر المعاصر، أغسطس ١٩٦٧م.
(٢) محمود البدوي، المنارة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٣) يوميات نائب في الأرياف، ٥٥-٥٦.
(٤) محمود طاهر لاشين، حديث القرية، الأعمال الكاملة، المجلس الأعلى
للثقافة.
(٥) يوميات نائب في الأرياف، ١٣٠.
(٦) أزهار الشوك، ١٢٢.
(٧) حزقيال بسطورس، متاعب الفلاحين، المجلة الجديدة، أغسطس ١٩٣٨م.
(٨) عزيز خانكي، أحاديث جديدة، ١١٤.
(٩) صلاح ذهني، رسائل، في الدرجة الثامنة، الطبعة الأولى.
(١٠) أحاديث جديدة، ١٠٠.
(١١) محمود كامل، مصر الغد تحت حكم الشباب، ٢٨-٢٩.
(١٢) محمود كامل، أهداف العمل لمصر، مكتبة النهضة المصرية، ١٥.
(١٣) اليسار المصري ١٩٢٥–١٩٤٠، ٤٥.
(١٤) ثروت أباظة، أستغفر الله، ذكريات بعيدة.
(١٥) محمد عبد الحليم عبد الله، للزمن بقية، مكتبة مصر، ١٩٦٨م، ١١٣.
(١٦) المصدر السابق، ١٣٩.
(١٧) نحن النساء المصريات، ٥٠.
(١٨) المرجع السابق، ٥٠.
(١٩) نفسه، ٤٠-٤١.
(٢٠) محمد صدقي، ابتسامة القمر، شرخ في جدار الخوف، دار الكاتب العربي للطباعة
والنشر، ١٩٦٣م.
(٢١) كامل سعفان، قبل أن تفيض الكأس، مطبعة حسان، ١٣٠.
(٢٢) يوسف إدريس، حادثة شرف، دار الآداب ببيروت.
(٢٣) إحسان عبد القدوس، رائحة الورد وأنوف لا تشم، مكتبة مصر، ١٤.
(٢٤) طه حسين، دعاء الكروان، دار المعارف، ٣٣.
(٢٥) عبد الحميد جودة السحار، نخوة، في الوظيفة، مكتبة مصر.
(٢٦) محمد أبو المعاطي أبو النجا، حق، الابتسامة الغامضة، دار الكاتب العربي
للطباعة والنشر.
(٢٧) يوميات نائب في الأرياف، ٣٩.
(٢٨) الشوارع الخلفية، ٢٢٢.