النوبة
على الرغم من أن أرض النوبة تمتد في مصر، وفي السودان، إلا أنها كانت تحيا في عزلة
عن
البلدَين، الأمر الذي تبدَّى في عاداتها وتقاليدها الموروثة. أما الجزء المصري من النوبة
فقد كان يمتد بين وادي حلفا وأسوان؛ أي بين الشلالَين الأول والثاني لمسافة ٣٥٠ كيلومترًا
على طول النيل، لكن السلطة الإدارية للحكومة المصرية لا تصل إلا إلى أدندان،
لتشرف السلطة الإدارية للحكومة السودانية على الباقي.١ كل شيء يرتبط بالنيل من طريق مرسى قديم.٢ للمنطقة الكنزية لغتها الخاصة، وأساليبها الخاصة في البناء والتطريز والثياب
والفنون التعبيرية.٣ وبعد انتهاء المنطقة الكنزية، تمر سفينة البوستة بالمنطقة العربية العقيلية
مسافة ٤٠ كيلومترًا: السبوع ووادي العرب وشاترمة والمالكي والسنقاري. وأهالي هذه
المنطقة — كما هو واضح من الاسم — يجري في عروقهم دماء بيت النبوة، وتنتشر بينهم النزعات
الغيبية والصوفية، فهي أقرب إلى «لبنة من البادية العربية، نُقلت بعناية وحرص إلى قلب
المنطقة النوبية من غير أن تنسكب من أوعيتها قطرة واحدة.»٤ وقد عوَّدت ظروف الحياة أهل النوبة على الهدوء وطول البال،٥ لذلك فإن ضابط النقطة (شراع أبيض) يعبِّر عن عدم وجود ما يشغله: «أريد حادثة
واحدة تشغل بالي، أريد أن أخط سطرًا واحدًا في صحيفة الأحوال يا عالم، أليس عندكم
مخالفة للنظام؟ ألا ترتكبون — يومًا — حماقة يعاقب عليها القانون؟!٦
وإذا كانت القضية الأساسية في رواية «الشمندورة» هي فزع أبناء النوبة من النتائج
التي
ستُفضي إليها تعلية سد أسوان، عندما ابتلع تيار المياه كل شيء: البيوت والزراعات
والأشجار، تغوص كلها؛ فلا يظهر إلا أطراف خضر من سعف النخيل، أو فروعٌ تترنح من أشجار
الدوم تسبح على سطح واسع من الماء.٧ إذا كانت تلك هي القضية الأساسية، ونعرض لها في مواضع أخرى، فإنها تبين عن
بانوراما متسعة الأبعاد لخصوصية الحياة في هذا الجزء الجنوبي من مصر.
•••
أحمد أمين يعرِّف النوبي في قاموسه الشهير بأنه «البربري».٨ وتقول السيدة معقبة على تصرف عفوي للخادم النوبي «صحيح إن البرابرة عقلهم
ضيق.»٩ التسمية خاطئة، سبق إليها توفيق الحكيم في «عودة الروح»، فضلًا عن أنه لا
توجد لغة بربرية، فإلى جانب اللغة العربية التي يتقنها كل أبناء النوبة، فإن لهم لغتهم
غير المدوَّنة — الرطان — التي تذهب بعض الاجتهادات إلى أنها منحدرة من اللغة المصرية
القديمة.١٠ وللسواد الذي تصطبغ به وجوه أبناء النوبة قصة، يقرؤها أبناء النجع في رواية
«سيف بن ذي يزن»: «في غابر الأزمان، نام النبي نوح عليه السلام في خباء أعمدة في
الصحراء، يسهر عليه ولداه سام وحام، ثم هبَّت الريح، واصطفق باب الخيمة، واصطفقت معه
ثياب
النبي، فترت ساقاه، ثم فخذاه، وبانت عورته. ولا يبالي حام بمقام أبيه، فيشير إلى
العورة، ويضحك ساخرًا، فيلاحقه سام وينتهره، فيرتفع صوتاهما باللجاج. ويستيقظ النبي،
فيدرك ما هما فيه، ثم يرشق حامًا الذي لم يرع حرمته بنظرات غاضبة. ويبدو أن الغضب قد
استبد بنوح؛ إذ رفع يديه إلى السماء، وقال: رب يا ذا الجلال، رب يا مَن وهبتني نعمتك،
رب …
ويرتفع صوته حادًّا حانقًا يختلط بالريح المعولة، ويقول: رب، لتجعلن وجه حام، ولدي
الجاحد الأسود، مثل القار، وعلى الفور بدأ وجه الولد يتحوَّل، يربد ويغبر ثم يسود، حتى
أصبح لامعًا مثل الأبنوس. ولم يكن غليل النبي قد شُفي بعد، فقد ارتفع صوته مرة أخرى:
رب
يا ذا الجلال، وليكن أولاده جميعًا سود الوجوه. ثم احتدم وأردف: وليكونوا جميعًا خدمًا
عند سام وأولاد سام، في الحل، وفي الترحال، آمين. فردَّد سام من خلفه: آمين، بينما أطرق
أخوه إلى الأرض كاسف البال، نادمًا على ما بدر منه، ثم طرده النبي من أرضه، فحط به سهل،
وشال به جبل، حتى كان في هذا الوادي الذي توقف فيه سيف بن ذي يزن، يدب في طرقاته، يلمع
تحت وهج الشمس كما يلمع الأبنوس، بين جماعات بيض الوجوه، يحارون في أمره، ويتجمعون
حوله، ثم ينفذ الله أمره، فتقع عينا أميرة البلاد — ابنة الملك — على الأبنوس اللامع
فتُجَن
به وتشغفه، ثم تضمُّه إلى قصرها وتتزوجه. وجاء الابن الأول أسود مثل القار، والثاني
والثالث، وجاء الأحفاد سودًا مثل جدهم، يلمعون في وهج الشمس مثل الأبنوس، حتى امتلأ بهم
الوادي الذي سُمِّي باسم السودان فيما بعد.»١١ وثمة رأيٌ يُرجِع ظاهرة طول العمر في النوبة إلى الطبيعة. الحصانة التي
يكتسبها الأهالي من الطبيعة نفسها. الزمن — في النوبة — يمضي في رتابة وتشابه، حتى يكاد
المرء يَنسى أنه يحيا في الزمن. ينتفي لديه الإحساس به، فهو لا يفكر في الساعة أو
اليوم، ولا يدري حقيقة عمره، والتأريخ بالأحداث لا بالسنين. وُلِد بعد تعلية الخزان
الأولى أو بعدها، وفلان أكبر من فلان سنًّا؛ لأنه وُلِد قبله، وشهد مولده، وفلان وُلِد
أيام
تعلية الخزان الأولى، أو قبلها، ويرتبط بمسألة عدم الإحساس بالزمن مسألة الانتظار،
فالحياة في النوبة يمكن تلخيصها في أنها انتظارٌ دائمٌ: انتظار البوسطة، انتظار الزوج
الغائب، انتظار الرسائل من المدن البعيدة، انتظار عودة فيضان النيل إلى منسوب يطيقونه
«ولا غرو بعد أن يكون الناس هناك مؤمنين في قرارة نفوسهم إلى أبعد الحدود، فهم يعرفون
ويحسُّون ضآلة قدراتهم إزاء المجهول، وعجز حيلتهم إزاءه. ولعلهم — لكثرة الفهم —
وللانتظار، ولإيمانهم بالغيب وعدالة السماء، ثم لبساطة حياتهم ورتابتها، وخلوها من كل
تعقيد؛ قد صفت نفوسهم، فلم تعرف جوانحهم الضغن أو الحسد أو المطامح البعيدة التي تدعو
الناس — عادة — إلى التسابق مع الآخرين، والحيف على حقوقهم، في سبيل تحقيق مطامحهم.»١٢
يصف الفنان منطقة النوبة بأنها رقيقة، صريحة، كل شيء فيها واضح ومكشوف،١٣ والنيل والشمس، كما يقول الفنان هما العنصران الثابتان في حياة النوبة،١٤ والتعامل مع الزمن في النوبة لا يتم بالأشهر ولا بالأيام ولا بالساعات،
ولكن بأحداث يتذكرونها، فالخال يذكِّر زبونه بأقات السكر التي حصل عليها يوم تنزيلة الذرة
خلف المحراث، وبقطع الصابون يوم تلقيح النخيل، وبأمتار الدبلان يوم تعشير
البقرة.١٥ أما أيام الأسبوع فتبدأ برسو البوسطة القادمة من الشمال، وتنتهي برسو
البوسطة القادمة من الجنوب، القرية كلها تتجه إلى مرسى الباخرة، لا يبقى في البيوت، أو
على المصاطب، إلا العجائز الذين لا يقوون على الحركة.١٦
والصحف مصدر مهم للأخبار، يتابعون — من خلالها — ما يجري بعيدًا عن النوبة، فهم يجلسون
إلى «الأهرام» — مثلًا — يطالعونها في اهتمام، العناوين العريضة في الصفحة الأولى: مجلس
الشيوخ يناقش التعويضات … التعلية تتم بسرعة … أراضٍ جديدة للمنكوبين. وفي الصفحة الرابعة:
تقديرات حكومة الوفد السابقة مبالغ فيها … أزمة البطالة ما زالت شديدة … الحكومة توزع
الدقيق الأسترالي مجانًا على الفقراء في العيد … محاكمة عمال العنابر … صدقي باشا يصرح:
المياه المخزونة ستحوِّل ري الحياض إلى الري الدائم … علي سري باشا يسافر إلى مناطق
التخزين تصحبه عقيلته عند السدة الشتوية الأولى … المستر هيس باشا يعلن … إلخ.»١٧
ومع أن كل البيوت مفتوحة الأبواب، أو مواربة (أديلا يا جدتي)، فإن الأمن الذي تشتهر
به الحياة النوبية يجد نفيًا له في وصف الفنان للبيوت ذات الأسوار المسلحة بقطعٍ من
الزجاج.١٨ والحيوان له وجود واضح في حياة النوبة؛ ثمة ذئاب تعوي، وثعالب بلون الرمل،
وضباع تستدير حول نفسها، وتماسيح تربض في المغارات السوداء على الجرن، وأبقار وكلاب
وقطط، ومعظم رجال النوبة ينامون على الأبراش الخوص، فُرشت فوق المصاطب، وعلى الرمال أمام
البيوت.١٩ وهم يواجهون خطر الذئاب، والعقارب، ولدغات الطربشات العمياء.٢٠ تزحف العقارب والثعابين من بطن الجبل إلى النجوع، فتزيد حوادث اللدغ والموت
المسموم.٢١
والمكانة في النوبة ترتكز إلى الثروة، ممثَّلة في الأراضي الزراعية وأشجار النخيل
والسواقي، أو إلى الأصل الديني إذا كان سلف القبيلة من علماء الدين والذين عُرِف عنهم
التقوى والورع.٢٢ وقد عانى الصغير حامد لفترة طويلة من قرار والده بأن يلتحق بالأزهر، وظلت
أمنيته أن يلتحق بالمدرسة الأميرية «يتراءى لي هذا الأزهر الذي يتحدثون عنه، خرابة
واسعة ذات أعمدة متثلمة مثل اﻟ «كران نوج»، يتحلق فيها جماعات معممة فاغرة الأفواه والكروش،
تلتهم قصاع الفتة في نهم، وتتلفت هنا وهناك، وتهشم ضلوع كلاب ذوات غرة بيضاء في رأسها
مثل «لورد»، جماعات تشبه الرحماني طولًا وعرضًا، في كل لحظة أصرخ صامتًا: لا يا أمي،
لا
يا جدتي، أنا لا أريد الأزهر، بل المدرسة هناك في الدر مثل مصطفى وفوزي ابن عمدة إبريم،
ابن عمدة وابن تاجر، أنا لست أقل منهما، وليس مصطفى أشطر مني.»٢٣ وللتاجر قيمة اجتماعية مرموقة في مجتمع النوبة، وكان أشد ما يؤلم الأسرة أن
تلجأ للاستدانة لتولم لضيوفها، رغم أن العائل تاجر!٢٤
•••
على الرغم من اتسام المجتمع النوبي بالتدين العميق، حتى «كان المسجد دائمًا المعْلم
البارز في القرية النوبية.»٢٥ فإن محمد خليل قاسم قد أغفل جوانب كثيرة في البعد الديني، مثل الدور الذي
يؤديه المسجد. مع ذلك، فإن مظاهر الحفاوة بالدين تتبدى في الكثير من المظاهر والعادات
والتقاليد. يعد أهالي النوبة أنفسهم لاستقبال رمضان قبل شهر في الأقل من مجيئه؛ كل
امرأة تتلقَّى طرد قمر الدين، وتفتل الشعرية من دقيق القمح، وترعى حقول الفجل والطماطم
والبصل والرجلة لإعداد السلطات والمشهيات اللازمة، وتفرك بالرمل أغطية القلل لتلمع،
وتدفن حبات الليمون في الطين، تعصر منه قطرات في الماء، وتخمر دقيق الذرة، وتنقعه في
ماء مسكر، تملأ منه سلطانيات بيضاء، وتتركها في الهواء، ثم تقدمه شرابًا
مرطبًا.٢٦ وفي العصاري، يتجمع رجال النجع في الساحة، يسلون صيامهم بقراءة الأوراد
جلوسًا على الأبراش الخوص الملونة، ومن حولهم صوانٍ نحاسية، رُصَّت فوقها القلل القناوي،
بينما تنشغل الزوجات في إعداد الإفطار.٢٧ وفي رمضان يخلو الفضاء من مواكب الجن الذين يحاولون تسلق الملكوت الأعلى،
واختراق السماء؛ إنهم محبوسون في قماقم بأمر الله.٢٨ وفي الأيام الأخيرة من رمضان، يتطلع الناس إلى العيد بأمل، ويراقبون السماء
في لهفة، ينتظرون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فتتحوَّل رءوسهم دائمًا بعد صلاة
التراويح إلى الفضاء، وتحدق العيون في كل نجمة، تتوقع أن تنشق السماء عندها عن القدر
نفسه.٢٩ ويهيئ الأهالي أنفسهم لاستقبال العيد بشراء الدبلان والبفتة والباتستا
والشيشة والطرح الملونة، وقدرًا من السكر والشاي، ويكثر ترددهم على الترزي والجزار،
وتنظف النساء كل ركن في البيت، ويسهرن على ضوء الفوانيس لكشكشة الجلابيب عند الصدر،
وتطويقها بِزيقٍ أحمر، ويجددن تسريحة الشعر بعد بلِّه بمنقوع الشاي.٣٠ ومن معتقدات النوبيين، أن من يقسم بالفاتحة، ثم يحنث في قسمه، يُصاب بالعمى
في حياته.٣١ والعجائز يمتنعن عن رواية الحواديت إلا بعد غروب الشمس حتى لا يصبن بالعمى،
وإلقاء الأظافر في البيت يجلب الخراب، والبومة مشئومة تقتل الجنين في بطن أمه، ومناولة
الصابون من يد ليد باعث على التطير ومجلبة للبغضاء، أما من يحس بدغدغة متصلة في راحة
يده اليمني، فهي أمارة على أنه سيتسلَّم خِطابًا.٣٢ وهم لا يذبحون العصفور، وإنما يقصفون رقبته لأنه أشعل النار في بيت الرسول
ﷺ، بينما يولون «القمرية» محبة وعطفًا لأنها أطفأت النار! وهم يكثرون من استعمال
الأحجبة والرقي والتعاويذ.
•••
مأساة الفتاة النوبية — كما تلخصها شريفة — أنه ما من رجل قال لفتاة: سأتزوجك! إنهم
يفكرون في الزواج ثم يقررون، ولا يقربون الفتاة، بل يتقدمون إلى أهلها، ويستعدون
للزفاف، بينما يقتصر دورها هي على تقديم فنجان شاي بالنعناع، ثم تغيب عن عينيه.٣٣
الفتاة تلتقي بالشاب قبل أن يخطبها، فلا تختفي منه، بل تحييه، وتقدم له الشاي، فإذا
خطبها من أسرتها، اختفت من أمامه كلما صادفها في طريق؛ هكذا جرت التقاليد.٣٤ وطقوس عقد القران في النوبة تختلف عنها في بقية أقاليم مصر؛ فبعد أن يردد
وكيلا العروسين ما أملاه عليهما المأذون، يقول والد العروس/العروس لابنه في زهو:
«وهبتك بنفسٍ راضية عشرين نخلة، ثم يضيف: ويا ولدي … وهبتك بنفسٍ راضية قيراطين في الحوض
القبلي في الجزيرة، لا ينازعك عليها أحد من إخوتك، لا في حياتي، ولا بعد مماتي.»
ويتقدم أعمام العروس/العريس وعماته وأخواله وخالاته، يهبون أشجارًا وشرائح من
الأرض، بينما تتعالى الزغاريد. والفتى النوبي — في ليلة زفافه — يغوص في النيل عاريًا
كما
ولدته أمه، لا يبالي بلسعات البرد في الشتاء، ولا بمخاطر الموج الأحمر أيام
الفيضان.٣٥ ثم يرتدي الثياب الجديدة، وينطلق — من حوله رفاقه — في اتجاه بيت العروس،
تحرسه العصي المشرعة، والكرابيج الصاخبة بفرقعاتها. ويصل الموكب إلى الساحة، فتحيط به
الجموع، ويتقدم العريس إلى أبيه، فينحني على يده يقبِّلها، ويمسح بها جبينه، ويطلب منه
الدعاء. ويتقدم الموكب محاطًا بطقوسٍ وتقاليد ورقصات وأهازيج وزغاريد، وتقدم عجوزٌ للعريس
سطل لبن قائلة: مباركة لك يا ابن أخي، ولتكن حياتكما صافية صفاء هذا اللبن، حلوة حلاوة
هذا التمر، وتدفع إليه بحفنة من التمر. ثم يعاد الموكب سيره، حتى يصل إلى قرية العروس،
ثم — وسط مظاهر الفرحة — إلى بيتها.٣٦ وقبل أن تحل لحظة الزفاف، تخلو الأم إلى ابنتها، توجه إليها النصائح:
«اسمعي يا بنتي … عليك ألا ترفعي صوتك ما دام الرجل قد حلَّ في البيت، لا تطلقي العنان
لصوتك، تمنَّعي في إباء حتى يعرف عزتك. أما حماتك فعامليها كما تعاملين أمك. إخوتك يجب
ألا يزوروكِ إلا لمامًا، ويجب ألا يدخل عشاؤهم على إفطارهم، وليقبلوا عليكِ بهداياهم،
الدقيق والسمن والمؤن التي يظن الزوج أنها تفي أسبوعًا، دبري أمركِ حتى تفي أيامًا عشرة،
والغسيل، الغسيل أهم شيء، فالناس لن يقولوا شيئًا عنه بل عنك، اشبعي قبل أن يشبع،
امرضي — وقاكِ الله شر المرض — دون أن يشعر أنكِ مريضة.»٣٧ والعادة أن تأخذ العروس نقودًا من عروسها، وقد شاغبت «بطة» عروسها طيلة
الزفاف بفنون من الصمت والدلال، حتى وضع في يديها جنيها كاملًا، استنامت بعده لغزله
وتودُّداته، ثم أرسلت صرخة صغيرة أنهت حياتها كعذراء.٣٨ وفي فجر ليلة الزفاف، يغادر العروسان — خفية — بيت أهلها الذي تم فيه الزفاف،
إلى شاطئ النيل — ينحني العريس على الجرف — يغمس يديه في الماء، ويمسح بالماء وجهه، وتميل
العروس على الماء كذلك، وتشرب جرعة، ثم تمسح على وجهها، ثم تدعو لزوجها ولنفسها ولأهلها
أيضًا، يشاركها الدعوات أقرب الأهل مَن رافقوهما إلى ضفة النهر. ويبدأ الموكب رحلة
العودة عندما يهمس العريس بالقول: حسبنا، فالشمس تكاد تظهر! ويتوافد الناس — في الأيام
التالية — مهنئين، ويقدمون الهدايا. ويغادر العريس بيت أهل العروس في اليوم السابع، يطوف
النجوع، ويتلقَّى التهنئات والهدايا. أما العروس فهي تغادر البيت بعد انقضاء أربعين
يومًا، لتستقر في بيت أسرة زوجها، أو البيت الذي ربما خصَّصه الزوج لهما.٣٩
الحدث الأهم هو استقبال عودة الرجال العائدين. يجتمع الشمل، وتبدأ حفلات الزفاف
(الرحيل إلى ناس النهر). ويحرص النوبيون على زواج بناتهم في الأيام الزوجية من الشهر،
اعتقادًا بأن الأيام الفردية لا تحمل الخير للعروس، والزواج فيها لا ينجب إلا
إناثًا.٤٠ والعرس النوبي يستغرق — في العادة — أربعين يومًا، لكل يوم أغانيه وطقوسه
ورقصاته. والغناء بعامة ظاهرة نوبية، إنهم يغنون في المناسبات السعيدة، وفي المناسبات
الحزينة أيضًا، في الأعراس والمآتم وحفلات الختان والأعياد والموالد، ويغنون في الحقول
والبيوت. ويذهب إبراهيم شعراوي إلى أن العرس النوبي ليس مجرد لقاء جماعي لتبرير علاقة
جنسية، ومنحها المشروعية والإلزام العام، شأن كل أعراس بني الأرض، إنه شيء مغاير تمامًا
لهذا التعريف.٤١
أما من يخالف تقاليد النوبة، ويتزوج من غير بنات قومه، يزدريه الجميع، ويرفضونه من
حياتهم. فإذا ألمَّت به مصيبة، لا يجد من يقف إلى جانبه، وحتى إذا مات قريب له — أمه
مثلًا — لا يأذنون له بتلقي التعازي في جمعية القرية في عابدين.٤٢ وحين تزوج ابن العمدة فتاة من الوجه البحري، حزن الجميع، واعتبروه
ميتًا.٤٣ غير النوبي يُسمَّى «جورباتي»، صفة تحمل التهوين أو التحقير.٤٤
وأحاديث الجنس في الشمندورة تتسم بالصراحة، فهل هي كذلك بالفعل، أو أنها توابل
روائية؟ وهي لا تجري فحسب بين الرجال والرجال، ولا بين النساء والنساء، لكنها تجري
أيضًا بين الرجال والنساء، وفي حلقات تضم الكثيرين. مع ذلك، فإن أزمة الجنس تبين عن
ملامح لها في مجتمع النوبة في بعض المواقف والتصرفات، وبين الشباب بخاصة. حين دفعت
سعدية — على سبيل المثال — بالصغير حامد إلى داخل «الحاصل»، وطوَّقته بذراعيها، ثم رفعته
إلى صدرها، وراحت تضغط على صدره بنهديها، وتحتك به وهي تلهث، وتحاول أن تنشب أظافرها
في
عنقه، ولأن الصبي لم يكن يفهم شيئًا، فقد كان السؤال الذي يشغله: متى تنتهي المجنونة
من
لعبتها السخيفة هذه؟!٤٥ وختان البنات عند النوبة «فرعوني»؛ أي لا يبقي شيئًا، فيضمن الرجل عفاف
امرأته حتى لو غاب أكثر من ٣٥ يومًا، وهي المدة التي يقضيها الشاب في الجيش، قبل أن
يعود في الإجازة.٤٦ وعندما تبتلع المرأة الحامل بعض كرات صغيرة من الطين، فإن ذلك يزيد من سعة
البطن، ويترك براحًا للجنين يتحرك ويتنفس فيه.٤٧
ويرتدي النوبي جلبابًا طويلًا أبيض، وعمامة مزهرة، ومداسًا أحمر لامعًا، وسبحة، وعصا
ذات مقبض نحاسي.٤٨
وحلاق الصحة يتولى علاج أبناء القرى النوبية بدلًا من الطبيب.٤٩ وكان حسن المصري هو الذي علَّم التحطيب لبعض شباب النجع، فأتقنوه فيما بعد.٥٠
وعادة الأطفال أنهم يقتطفون شواشي الذرة ويجفِّفونها، ويلفُّونها، ثم يدخنونها كما
يفعل
الكبار.٥١
والميت عند النوبيين لا يفنى؛ إنه ينتقل إلى حياة أخرى، وله قرين بنفس جسمه وحجمه
وعيونه، يستأنف نوعًا آخر من الحياة بعد أن يغادر الميت هذه الحياة.٥٢
•••
النخلة — كما يقول عمدة قتة — هي حياة أبناء النوبة.٥٣ والذرة الرفيعة هي المحصول الذي يعتمد عليه النوبي في غذائه، إلى جانب
الشعير واللوبيا العفين، وعلى ضفتَي النهر كان يزرع الترمس الذي لا يحتاج الري، وكانت
الفأس هي أداة النوبي لتقليب التربة، ولا يستخدم المحراث أو النورج. وربما استخدم
الشادوف في المناطق التي ترتفع كثيرًا عن منسوب النهر. أما الحيوان في النوبة فهو
القليل من البقر والضأن والماعز. في موسم حصاد البلح، اعتاد الأطفال أن يحملوا فوانيسهم
المضاءة، يهبطون بها إلى غابات النخيل، فيجوسون خلالها، ويجمعون من تحتها الثمار التي
نضجت وتيبَّست، فأسقطتها الأشجار، ويعود الأطفال مع الشمس، وقد ملئُوا بالثمار سيالاتهم
وطواقيهم.٥٤ والثمار المتناثرة تحت النخيل في السحر ملك لكل الأطفال — عُرف احترمه
الجميع — وليس من حق أحد أن يحُول دون التقاط الأطفال للثمار من تحت نخيله.٥٥ والبلح أنواع: الإبرتموده، القنديلة، الحجازي، القرقودة،
السكُّوتي.٥٦ وقبل أن يتم تشوين البلح، تغطَّى الأرض بكوماتٍ من الرماد، تحُول بين السوس
والبلح.٥٧ وحين يشرع النوبيون في تصريف المحصول، فإن المتاجر تزدحم بالرجال والنساء،
وتُفتح الدفاتر وتُطوى كثيرًا، والديون المؤجَّلة تُدفع بأقداح التمر، إنهم لا يتعاملون
بالنقود. كيلة الذرة بكيلة بلح، القمح بكيلتين، فإذا لم يفِ المحصول بما حصلت عليه
الأسرة، فإن بعض الإجراءات تُتخذ مثل كتابة كمبيالة، أو تقديم حوالة مالية من التي يبعث
بها الابن أو الزوج الغائب، حتى نجار السواقي وحلاق الصحة والمأذون وشيخ الكُتاب والمؤذِّن
وجزار الأغنام، يتوافدون جميعًا على الأجران، ينشدون من كل مزارع كيلة أو كيلتين!٥٨
وإفطار النوبي يتألف — في الأغلب — من شرائح الخمريد — العيش المخمر — وسلطانية لبن
رائب
ممزوجٍ بقليلٍ من عسل البلح.٥٩ وبدلًا من الجرة في حمل الماء، يستخدمون «الكوبية» وهي وعاء نحاسي
كبير.٦٠ وجلسة الشاي بالحليب في الصباح والعصر طقس مهم، يستغني النوبي عن الغذاء،
لكن يصعب أن يفوته شاي الصباح أو العصر.٦١
هوامش
(١) محمد محمود الصياد، النوبة والنوبيون، الفنون الشعبية، يناير ١٩٦٥م.
(٢) عبد المنعم الصاوي، شراع أبيض، دار عالمية للنشر، ١٨.
(٣) إبراهيم شعراوي، مناشدة من أجل إنقاذ الشعر العربي، الشعر، العدد الثاني عشر،
السنة الأولى.
(٤) المرجع السابق.
(٥) شراع أبيض، ٦٨.
(٦) المصدر السابق، ١٤٢.
(٧) المصدر السابق، ١٤.
(٨) قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، ٨٣.
(٩) عبد العزيز عمر ساسي، شريعة الحب، من الأعماق، جماعة نشر الثقافة بالإسكندرية
١٩٣٣م.
(١٠) الفنون الشعبية، يونيو ١٩٧٠م.
(١١) محمد خليل قاسم، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ٢١٢-٢١٣.
(١٢) عز الدين إسماعيل، ٢٠ يومًا في النوبة، كتاب الجمهورية، ١٩-٢٠.
(١٣) شراع أبيض، ٢٢.
(١٤) يحيى حقي، سلام اللقاء، صفحات من تاريخ مصر، هيئة الكتاب.
(١٥) الشمندورة، ٦٧.
(١٦) يحيى مختار، الطرد، عروس النيل، أخبار اليوم، ١٩٩٠م.
(١٧) الشمندورة، ٢٣٣.
(١٨) المصدر السابق، ٨.
(١٩) حجاج حسن أدول، ثنائية الكشر، هيئة قصور الثقافة، ٧٨.
(٢٠) حجاج حسن أدول، الرحيل إلى ناس النهر، ليالي المسك العتيقة، الحضارة للنشر
والتوزيع.
(٢١) المصدر السابق.
(٢٢) مجلة «العلوم الاجتماعية»، العدد الأول، المجلد الثالث عشر.
(٢٣) الشمندورة، ١٨٤-١٨٥.
(٢٤) المصدر السابق، ٩٢.
(٢٥) الفنون الشعبية، يناير ١٩٥٥م.
(٢٦) الشمندورة، ٢٠٦.
(٢٧) المصدر السابق، ٢١٠.
(٢٨) نفسه، ٢١٧.
(٢٩) نفسه، ٢١٤.
(٣٠) نفسه، ٢١٥.
(٣١) نفسه، ٣٩٧.
(٣٢) نفسه، ٧.
(٣٣) نفسه، ١٧.
(٣٤) نفسه، ٨٨.
(٣٥) نفسه، ٢٤٨.
(٣٦) نفسه، ٢٥٠–٢٦١.
(٣٧) نفسه، ٢٤٤.
(٣٨) نفسه، ٣٩٤.
(٣٩) نفسه، ٢٦٥.
(٤٠) عثمان خيرت، قُلة السبوع، الفنون الشعبية، سبتمبر ١٩٦٩م.
(٤١) الشعر، ديسمبر ١٩٦٤م.
(٤٢) الشمندورة، ٧٦-٧٧.
(٤٣) الرحيل إلى ناس النهر.
(٤٤) حجاج حسن أدول، أديلا يا جدتي، ليالي المسك العتيقة، الحضارة للنشر
والتوزيع.
(٤٥) الشمندورة، ١٤٩.
(٤٦) يحيى حقي، سلام اللقاء، صفحات من تاريخ مصر، هيئة الكتاب.
(٤٧) الشمندورة، ٨٣.
(٤٨) المصدر السابق، ٨.
(٤٩) نفسه، ٣٥.
(٥٠) نفسه، ٢٤.
(٥١) نفسه، ١٨.
(٥٢) شراع أبيض، ١٧٠.
(٥٣) المصدر السابق، ٢٤٠.
(٥٤) نفسه، ٥٨.
(٥٥) نفسه، ٥٩.
(٥٦) نفسه، ١٠٢.
(٥٧) نفسه، ١٠٢.
(٥٨) نفسه، ٨١.
(٥٩) نفسه، ١٦.
(٦٠) نفسه، ٢٩.
(٦١) أديلا يا جدتي.