معاهدة ١٩٣٦م

في يوم السبت الثاني من مايو ١٩٣٦م توجَّه المصريون إلى صناديق الانتخاب، لاختيار ممثِّليهم في مجلس النواب وفقًا لدستور ١٩٢٣م، وكانت تلك هي المرة الخامسة في تاريخ هذا الدستور تُجرى فيه تلك الانتخابات. وقد جرت الانتخابات في وقتٍ كان الملك فؤاد قد بلغ نهايات ضعفه، سواء نتيجة ظروفه الصحية المتدهورة، (مات الملك قبل إجراء الانتخابات بأيام قليلة، وبالتحديد في الواحدة والنصف من ظهر الثلاثاء ٢٨ أبريل)، أو نتيجة تداعي العهد الملكي بعامة، وهو العهد الذي كان قد أسَّسه صدقي قبل خمس سنوات. وكانت الدلائل تشي بسقوط أعضاء الجبهة الوطنية من الزعامات الحزبية، وهي الجبهة التي ضمَّت كلَّ زعماء الأحزاب التقليدية: الوفد، الأحرار الدستوريون، الوفد السعدي، الحزب الوطني. وكان سقوط تلك الزعامات يعني القضاء على أهم بواعث قيامها، وهو الدخول في جولة جديدة للمفاوضات مع الإنجليز، فلم يكن من المتصوَّر أن يفاوض الجانب الإنجليزي من خذله الشعب، فلم يمنحه ثقته! وفي السابع من مايو أُعلنَت النتائج الكاملة للانتخابات، وأسفرت عن فوز الوفد ﺑ ١٥٩ مقعدًا، الدستوريون ١٧، الشعبيون ٨، الاتحاديون ٥، الوفديون السعديون ٤، الوطنيون ٣، بالإضافة إلى تسعة عشر نائبًا مستقلًّا.

مات الملك فؤاد — بعد مرض استمر عامين، وخلفه ابنه فاروق — قيل إن «فؤاد» أصر — وهو على فراش الموت — أن يرى مصطفى النحاس، وأن يعترف له بأن خطأه الأكبر كان خروجه عن الدستور، وصراعه معه، ووصفه بأنه أخلص الساسة والحكام، وأن الآخرين مغامرون وانتهازيون يتبعون الاحتلال.١ وكان رأي فارس أفندي (ترابها زعفران) أن «النحاس خليفة سعد وزعيم الأمة، وعدو الاحتلال الإنجليزي، وأنه يحمي البلد من جشع هذا الملك الذي ينبح بصوت كلب عندما يتكلم.»٢ وبعد وفاة الملك، تنفَّست مصر الصعداء — على حد تعبير محمد عودة — فقد كان «أبغض الحكام وأكرههم إلى قلوب المصريين من كل الطبقات والفئات، بدءًا بالأسرة المالكة.»٣ مع ذلك، فإن عبد المنعم (قصر الشوق) يعبِّر عن مشاعره بالقول: «لا أدري، الموت رهيب، فما بالك بموت ملك؟ وكان طريق الجنازة مكتظًّا بالناس بصورة لم أشهدها من قبل. أنا لم أشهد جنازة سعد زغلول حتى أستطيع المقارنة بين الجنازتين، ولكن يبدو لي أن أكثر الناس كان متأثرًا على نحوٍ ما، وبعض النساء بكين؛ نحن المصريون قوم عاطفيون.»٤ ويشير التابعي إلى أن الوفديين تصوَّروا أن أسباب الخلاف بينهم وبين الإنجليز قد زالت بعد إعلان المعاهدة؛ فالملك فؤاد — خصمهم العنيد — قد تُوفي، وتولى العرش غلام صغير — هو فاروق — لا يجرؤ على الوقوف أمام الأغلبية الوفدية الساحقة في مجلسَي البرلمان.٥ ويقول عبد المنعم عن الملك فؤاد: «لم أكن أحبه، هذا ما اعتنقناه جميعًا، فأنا لم أحزن — لوفاته — ولكنني لم أُسر كذلك. تابعت النعش بعين من لا قلب له، لا له ولا عليه، غير أن فكرة الجبار في النعش أثَّرت فيَّ، لا يمكن أن يمر منظر كهذا دون أن يؤثر فيَّ، لله الملك جميعًا، هو الحي الباقي، فليت الناس يعلمون. غير أنه لو مات الملك قبل أن تتغير الحالة السياسية التي كانت قائمة، لزغرد كثيرون، وكثيرون جدًّا. ويقول شقيقه أحمد: أنا لا أحب الطغاة أيًّا كانت الحالة السياسية.

– هذا حسن، ولكن منظر الموت؟

– ولا أحب الرومانتيكية المريضة.

– أسررت إذن؟!

– تمنيت أن يمتد بي العمر، حتى أرى العالم وقد خلص من كافة الطغاة على اختلاف أسمائهم وأوصافهم.»٦ وقد امتدت فترة الوصاية التي أعقبت وفاة فؤاد، وتولى فاروق صلاحياته الدستورية من ٨ مايو ١٩٣٦م إلى ٢٩ يوليو ١٩٣٧م.

ولا شك أن مجرد التوقيت الذي تولى فيه الملك فاروق حكم مصر، مثَّل إضافة إلى رصيده الشخصي لدى الجماهير المصرية، فقد كانت وفاة فؤاد، وتولي فاروق، في أعقاب مرحلة بالغة القسوة من الحكم الإرهابي لحكومات الأقلية، مثل توفيق نسيم وإسماعيل صدقي ومحمد محمود، من هنا، حمل تولي الملك الشاب بوادر أمل في عهد جديد، يدين بالديمقراطية والحرية الاجتماعية والسياسية.

•••

في «السكرية» يسأل حلمي عزت: هل اطلعت على المرسوم الصادر بتأليف الوفد المصري؟ يجيب رضوان ياسين: نعم، ولكن كثيرين يلغطون متشائمين بالجو الذي يحيط بالمفاوضة، ويبدو أن إيطاليا التي تهدد حدودنا، هي محور المفاوضة الحقيقي، والإنجليز من جانبهم يهددون في حال فشل الاتفاق.

– إن دماء الشهداء لم تبرد بعد، وعندنا دماء جديدة.

– هذا كلام يقال، لقد سكت القتال وبدأ الكلام، ما رأيك؟

– على أي حال فإن للوفد أغلبية ساحقة في هيئة المفاوضة … إلخ.٧

وبعد أن أسفرت المفاوضات عن توقيع المعاهدة، قال فؤاد الحمزاوي (السكرية): «وقعت المعجزة! وُقِّعت المعاهدة في لندن، أصغيت إلى الراديو يعلن استقلال مصر، وانقضاء عهد التحفظات الأربعة، فلم أصدِّق أذني، من كان يصدق هذا؟

قال أحمد عبد الجواد: إذن أنت من الراضين عن المعاهدة؟

قال الحمزاوي: في الجملة نعم. للمعاهدة أعداء مخلصون، وآخرون غير مخلصين، فإذا تأمَّلنا الظروف التي تحيط بنا، وذكرنا أن شعبنا صبر على عهد صدقي رغم مرارته، دون أن يثور عليه، فينبغي أن نعد المعاهدة خطوة موفقة أزالت التحفظات، ومهدت الطريق لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحددت مدة الاحتلال بعد قصره على منطقة معينة؛ إنها خطوة عظيمة بلا شك.»٨ وفي «بداية ونهاية» يقول حسنين لأمه: «أرأيت أن الأرواح التي زهقت لم تذهب تضحياتها عبثًا؟»٩ وقال الرجل في القطار لحسين (بداية ونهاية): من كان يصدق أن يعترف الإنجليز بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن ينزلوا عن التحفظات الأربعة؟ أتظن أن تُلغى الامتيازات حقًّا؟!١٠ وكتب كامل بولس حنا — في استقبال أعضاء الوفد المصري — تحت عنوان: شعب عظيم «ك»، «من لنا بقلم اللورد بيرون شاعر الإنكليز، واصف عظمة البحر، فيصف لقراء الصحف، في طول وادي النيل وعرضه، حلال الجموع التي كانت تموج في مصر القاهرة كالبحر الزاخر، فتارة تجتمع، وتارة تفترق، حتى ألحمت، فكان منها عبابٌ علا الميادين والشوارع، وغمر الأسطح والشرفات والنوافذ، فلما حانت الساعة، خفتت الألسنة، وخفقت القلوب، ثم باحت الأفواه بما استقر في الضمائر والصدور، وحملت الريح أمواج الهتاف المتصاعد على أجنحة الحبور والسرور، حتى ارتجَّت الأرض واهتزَّت الأسماء، فكأنما الناس في يوم الحشر.»١١

•••

يقول توفيق الحكيم إنه كان ينظر من أعلى المسرح إلى تيارات المصالح الشخصية التي كانت توجه كل مساء وقتذاك. «لذلك أطلقت على نفسي أني ساكن البرج العاجي، ولم يكن بالطبع مفهوم ذلك أني غير مبالٍ بما يحدث في بلادي، على العكس، كان معنى برجي هو الارتفاع به عن أمواج المصالح الخاصة، ورؤية الأشياء بعيدًا عن المنافع والأغراض.»١٢ وفي «نفوس مضطربة» يحدِّثنا الشباب عن إجبار الشباب للشيوخ على الائتلاف في كتلة وطنية واحدة، ثم عودته إلى كلياته ومعاهده يرقب نتائج ثورته «الصغيرة الكبيرة»، والوصف للراوي. ثم اتحد الزعماء بالفعل — أو هكذا كانت الصورة الظاهرة في الأقل — وراحوا يتبادلون المديح والثناء، وتناسى الجميع خلافاتهم الحزبية والشخصية، وشكَّلوا وفدًا للسفر إلى لندن، والتفاوض مع الحكومة البريطانية، وفي صيف ١٩٣٦م وقِّعت معاهدة بين الحكومتين المصرية والإنجليزية.١٣ «لولا الطلبة ما ائتلف الزعماء، من كان يتصوَّر أن يجلس صدقي مع النحاس على مائدة واحدة؟»١٤ وكما يقول شهدي عطية الشافعي، فقد كانت انتفاضة ١٩٣٥م بداية حقيقية لظهور الحركة الطلابية المصرية كقوة متميزة في الشارع السياسي.١٥
لقد صارح صبري زعيم الطلبة (أزهار) رئيس حزب الأغلبية بأن «الصعوبة التي أصبحنا نلقاها في الجامعة، هي أن الكثيرين من الطلاب أصبحوا يهزُّون أكتافهم كلما دعوناهم إلى مظاهرة أو إضراب، بحجة أن الكفاح اليوم لم يعُد موجهًا للإنجليز لتحرير البلاد، بقدر ما أصبح يهدف — في الدرجة الأولى — إلى الوصول إلى كراسي الحكم.»١٦
وفي أواخر عهد الملك فؤاد، تكوَّنت الجبهة الوطنية، وتألَّف الوفد الرسمي لتولي المفاوضات مع الحكومة البريطانية، لعقد معاهدة تحالف بين البلدين. وكان الوفد مؤلفًا من ممثِّلين للأحزاب كلها، عدا الحزب الوطني الذي كان يرفع شعار «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء». وفي ٦ مايو ١٩٣٦م، قدِم الملك فاروق من إنجلترا، وكان — آنذاك — في السادسة عشرة من عمره، وأعلن حافظ رمضان — رئيس الحزب الوطني — تخوفه من قرب توقيع المعاهدة «إن معنى نجاح المفاوضات، بعد وفاة الملك الكبير من ناحية، وتسنَّم الملك الصغير العرش من ناحية أخرى، أن البلاد ستصبح حكرًا لحزب الأغلبية الحاكم، يفعل فيها ما يشاء، دون أن يجد له رادعًا من إنجلترا.»١٧ وكان رأي البعض أنه «إذا نجحت المفاوضات، انقلب الإنجليز أصدقاء، وبالتالي ينقطع التحالف القائم بين السراي والإنجليز ضد الشعب، فلا يجد الملك بدًّا من احترام الدستور.»١٨

•••

وفي ١٦ أغسطس ١٩٣٦م، وفي قاعة لوكارنو بوزارة الخارجية البريطانية، تم توقيع معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا العظمى، وألقى مصطفى النحاس — في الثاني من نوفمبر ١٩٣٦م — بيانًا وجهه إلى مجلس النواب، أعلن فيه أن مسئولية الدفاع عن جميع الأراضي المصرية، أصبحت مسئولية المصريين «وهذا يستدعي طبعًا أن تكون قواتنا في حالة تسمح بهذا الدفاع، ولكنكم تعلمون أن جيشنا في حالته الراهنة لا يحقق هذه الغاية؛ إذ حيل — فيما سبق — بيننا وبين تقويته، أما الآن فقد خلِّي بيننا وبين ذلك، وأصبحنا أحرارًا في زيادة هذا الجيش وتنظيمه، كما نريد من اليوم الذي نتبادل فيه التصديق على هذه المعاهدة ليصبح قادرًا على الذَّود عن حدودنا، والدفاع عن أراضينا.»١٩
يشير حافظ محمود إلى الظروف الدولية التي عُقدت فيها المعاهدة، حدث ذلك بين بداية تحركات النازي في المجال الدولي سنة ١٩٣٣م، وبين بداية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م. ويضيف الكاتب: «لست أدري كيف يصور الخيال لأصحاب النفاق العلمي أنه كان من الممكن أن تسلم بريطانيا لمصر في تلك السنة بالذات أكثر مما جاء في المعاهدة، اللهم إلا إذا كانت مصر إذ ذاك أقوى من بريطانيا، أو ندًّا لها على الأقل.»٢٠ ويجيب حافظ محمود عن السؤال: ماذا كان يحدث لو رفضت مصر معاهدة ١٩٣٦م؟ يقول إن القوات البريطانية كانت ستبقى في مواقعها داخل المدن المصرية، وكانت السيطرة الفعلية على أمور الدولة في أيدي المندوب السامي البريطاني ومستشاريه من الإنجليز. أما القوات المسلحة المصرية فتظل تحت القيادة البريطانية التي يرأسها ضابط كبير اسمه السردار، وأما قوات الشرطة فتخضع لأوامر الحكمدار البريطاني وأعوانه من الضباط الإنجليز.٢١
والواقع أن التكافؤ كان غائبًا بين طرفَي المفاوضات، فقوات الاحتلال منتشرة في المدن المصرية، والمذكرة الشفوية التي وجَّهها المندوب السامي البريطاني إلى الملك والحكومة المصرية — قبل بدء المفاوضات — واضحة وحاسمة «إن الإخفاق في عقد اتفاق قد تترتب عليه نتائج جديدة، وإن إنجلترا تحتفظ في هذه الحالة بحق إعادة النظر في سياستها نحو مصر.» بل إن الامتناع عن قبول الشروط البريطانية معناه إعادة الحماية، أو ما هو شر منها.٢٢ وكما يقول المجاهد التعاوني في مذكراته فإنه «لا يستطيع أحد أن يقول إن مصر قبلت هذه المعاهدة عن طيب خاطر، ولكنها أقرَّتها لِما أحيطت به يومئذٍ من هالة من الدعاية، مقترنة بالضغط الحزبي من جانب الوفد صاحب الأغلبية، وأخيرًا رأى الناس أنها شيء خير من لا شيء، وأنها خطوة نحو الأماني قد تتلوها خطوات من التعديل والتبديل تقرِّب الشعب إلى آماله المنشودة في الاستقلال الناجز والحرية الكاملة.»٢٣

•••

انتهت المفاوضات إذن إلى اتفاق هو معاهدة ١٩٣٦م، ففي ١٦ أغسطس ١٩٣٦م، وفي قاعة لوكارنو بوزارة الخارجية البريطانية، تم توقيع معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا العظمى. وألقى مصطفى النحاس — في الثاني من نوفمبر ١٩٣٦م — بيانًا وجَّهه إلى مجلس النواب، أعلن فيه أن مسئولية الدفاع عن جميع الأراضي المصرية، أصبحت مسئولية المصريين «وهذا يستدعي طبعًا أن تكون قواتنا في حالة تسمح بهذا الدفاع، ولكنكم تعلمون أن جيشنا في حالته الراهنة لا يحقق هذه الغاية؛ إذ حيل — فيما سبق — بيننا وبين تقويته، أما الآن فقد خلِّي بيننا وبين ذلك، وأصبحنا أحرارًا في زيادة هذا الجيش وتنظيمه كما نريد من اليوم الذي نتبادل فيه التصديق على هذه المعاهدة ليصبح قادرًا على الذود عن حدودنا، والدفاع عن أراضينا.»٢٤
كانت المعاهدة شبه واقع، فرضته الحرب العالمية المرتقبة؛ لقد عُقِدت في ظروف كان الاحتلال البريطاني يواجه فيها تطورات غير مسبوقة: تناقضات الإمبريالية العالمية تشي بنذر حرب عالمية، إيطاليا تغزو الحبشة وتنتصر عليها، والإمبراطور هيلاسلاسي يهاجر إلى إنجلترا، والنازية تصل إلى الحكم في ألمانيا، والحركة الوطنية تشتعل من جديد ضد دستور صدقي. وكما يقول فكري أباظة، فإن الذي دفع الزعماء إلى التشدد في طلب المفاوضة، هو الشباب المصري الذي ضحى بحياته، وأريق دمه في الشوارع، في سبيل البت في المسألة المصرية.٢٥ أعلن ذلك في مجلس النواب، عقب توقيع معاهدة ١٩٣٦م، ورفضه لها، ثم أضاف أن النتائج جاءت بعكس المتوقع، وكان الرجل صبيًّا في العاشرة، حين سقط أبوه مريضًا عقب قراءته لبنود معاهدة ١٩٣٧م.٢٦ وعلى حد تعبير الوزير البريطاني ليندساي: «هذه المعاهدة قد جرت مفاوضتها في جو يشبه الإكراه، وإنها عُقدَت قطعًا، والكل يعلم بأن هناك حربًا على الأبواب، ولم يقصد بها إطلاقًا أن تكون بمثابة الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع.»٢٧
أسقطت المعاهدة كل التحفظات التي تضمنها تصريح ٢٨ فبراير، وأصبح لمصر الحق في رفع درجة هيئاتها الدبلوماسية إلى مرتبة السفارة، كما أتاحت المعاهدة للدول الأخرى رفع درجة هيئاتها الدبلوماسية في القاهرة إلى المرتبة نفسها، ووضعت التمثيل الدبلوماسي في القاهرة في موازاة التمثيل الدبلوماسي المصري في لندن، وصار من حق مصر دخول عصبة الأمم باعتبارها دولة كاملة الاستقلال. مع ذلك، فقد تضمَّنت المادة الخامسة من المعاهدة نصًّا يتعهد فيه كلٌّ من الطرفَين المتعاقدَين بألا يتخذ، في علاقاته مع البلاد الأجنبية، موقفًا يتعارض مع المحالفة، وألا يبرم معاهدات سياسية تتعارض مع أحكام المعاهدة الدولية. وكانت هذه المادة بمثابة فرض وصاية جديدة من الجانب البريطاني على حق مصر في إدارة سياساتها الخارجية، كما قبلت الأحزاب المصرية — في ظل أوضاع غير عادية — إبقاء الثكنات البريطانية في قصر النيل، ودخول الجنود الإنجليز القاهرة حاملين سلاحًا في وقت السلم، أو في وقت الحرب، وهما أمران أبت الزعامات المصرية عام ١٩٠٥م أن يسمحا بها للجنود الأتراك، إبان السيادة التركية! مع ذلك، فقد قال النحاس، فور توقيع المعاهدة: «هكذا ترضى في علياء السماء روح سعد، وأرواح الشهداء المجاهدين.»٢٨ أما مكرم عبيد، ولم يكن قد اختلف مع النحاس، ولا فكر في كتاب أسود ولا أزرق! فقد وضع لحظة توقيع المعاهدة في كفة مقابلة وموازية لكفة نفي أعضاء الوفد المصري إلى سيشل، فإذا كانت كفة النفي مفعمة بالمرارة والألم، فإن كفة الاستقلال دافقة بالفرحة والبهجة.٢٩ ويقول مكرم عبيد: «إذا لم يكن من أثر المعاهدة إلا أنها جعلت الإنجليز يعلنون رسميًّا في وزارة خارجيتهم، وعلى مسمع من العالم أجمع، عكس ما أعلنوه من تصريحات وتحفظات، وأنهم اعترفوا — صراحة — باستقلال مصر، وتحالفها معهم، ومساواتها لهم كأمة في جمعية الأمم، لكان لهذا الإعلان وحده قيمته القانونية والمعنوية معًا … فما بالكم وقد اقترن الإعلان بميثاق هو المعاهدة، وتضمنت المعاهدة مكاسب مادية فعلية، تجمع بين المظهر والجوهر، وتجعل من الاستقلال حقيقة فعلية لا نظرية فحسب.»٣٠ يضيف مكرم عبيد: «إن هذه الاعترافات الصريحة، بعد ما تقدمها من إنكارات صريحة، إنما هي في ذاتها خير حميم لا نزاع فيه، وكسب عظيم لا يصح، ولا يُفهَم، الاعتراض عليه.»٣١ كان رأي مكرم عبيد أن المعاهدة تفضل جميع مشروعات المعاهدات السابقة، حتى تلك التي قدمها المفاوض المصري «فهي تحقق استقلال البلاد، وتضمن للإنجليز مصالحهم التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال.»٣٢ أما أهم سمات هذا الاستقلال فهي:
  • دخول مصر عصبة الأمم كدولة مستقلة ذات سيادة.

  • مجرد التحالف مع دولة مستقلة فيه معنى الاستقلال.

  • إلغاء منصب المندوب السامي في مصر، وتعيين سفير للبلدين في كلٍّ مهما.

  • حق مصر في عقد معاهدات سياسية بغير قيد ولا شرط، اللهم إلا إذا كانت تتعارض مع أحكام هذه المعاهدة.

  • إلغاء وظيفة المستشار المالي، والمستشار القضائي.

  • إلغاء إدارة الأمن العام الأوروبية.

  • إلغاء وظيفة مفتش عام الجيش المصري، ووظائف الضباط البريطانيين في الجيش المصري فورًا، وإلغاء البوليس الأجنبي في مدى خمس سنوات، على أن يُستغنى عن خُمس عددهم في كل سنة.

  • إلغاء التحفظات الأربعة.٣٣

أما بالنسبة للسودان، فقد جاء في المعاهدة:

  • اعتراف صريح بالإدارة المشتركة بين الفريقين.

  • إرجاع الجيش المصري من غير قيد.

  • أن تكون قاعدة التوظف هي المساواة بين الموظفين المصريين والبريطانيين، بحيث يجوز للمصري أن يرتقي إلى أكبر وظيفة.

  • أن تكون الهجرة حرة من غير قيد، إلا فيما يتعلق بالصحة والنظام العام.

  • ألا يكون هناك تمييز في السودان بين الرعايا الوطنيين المصريين والرعايا البريطانيين في شئون التجارة والهجرة والملكية.

  • أن يكون الموظف المصري في شئون الري عضوًا في مجلس الحاكم العام ليُستشار في شئون مصلحته، وأن يكون لمصر الحق في تعيين موظف اقتصادي كبير بالخرطوم، وموظف عسكري يكون سكرتيرًا للحاكم العام.

أما بالنسبة للامتيازات، فقد نصَّت المعاهدة على أن إنجلترا تقبل إلغاء الامتيازات التشريعية والمالية عاجلًا، وبغير إبطاء، وأنها — باعتبارها حليفة ودولة ممتازة — تؤيد سعي مصر لدى الدول بكل ما لديها من نفوذ.٣٤ وكان من نتائج المعاهدة أيضًا، أزمة الديمقراطية الليبرالية، وما يتصل بها من نظام الأحزاب، ثم معركة انتماء مصر إلى العروبة، وتأكُّد نشاط الشيوعية المصرية، رغم أنها كانت تمارس نشاطها بصورة سرية. ومن إنجازات وزارة النحاس الثالثة، إصدار قانون بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي ارتُكبَت في الفترة من ١٩ يونيو ١٩٣٠م إلى ٨ مايو ١٩٣٦م، عدا القتل العمد. وبالإضافة إلى الذين يعفيهم القانون من التجنيد، وهم الابن الوحيد على بنات، أو الحافظ للقرآن، أو طالب الأزهر،٣٥ فإن قوام الجيش كان من الذين عجزوا عن افتداء أنفسهم بدفع ٢١ جنيهًا، والتعبير لسعد زغلول.٣٦ كان نظام «البدلية» سببًا مباشرًا في تحقير مبدأ التجنيد، فهو لا يضم سوى الفقراء وحدهم، أما الموسرون — إلى حد امتلاك عشرين جنيهًا زائدة! — فهم يستطيعون الحصول على الإعفاء. من هنا، جاء الرأي بأن البدلية تأكيدٌ للطبقية في المجتمع المصري بأكثر من أن تكون واجبًا وطنيًّا، فهو واجب مقصور على الطبقة الأدنى في المجتمع. كان متوسط عدد المطلوبين للتجنيد كل عام — في الفترة من ١٩٣١م إلى ١٩٣٥م — ١٨٠ ألف شاب، أُعفي من الخدمة ٤٤٤٩٦ شابًّا، ودفع البدل العسكري ٤٢٦٥ شابًّا، وتخلَّف عن التجنيد ٤٩٨٣٤، وأُعفي لعدم لياقتهم للخدمة ٦٠١٢٣ شابًّا، أما من جُنِّدوا بالفعل، فقد بلغوا ٢٨٤٨شابًّا.٣٧ وكان أشد ما يغيظ إبراهيم (زينب) أنه لا يجد بدلًا نقديًّا يدفع به العبودية من غير معنًى ولا ضرورة، ولا يجد ما يشتري به حريته كما يشتريها غيره ممن يملكون النقدية.٣٨ ويقول حامد (بعد الغروب): «كنت وحيد أبوي، وقد أنجباني على شوق، وأُعْفيت من القرعة العسكرية، فكان ذلك عندهم عيدًا.»٣٩ لماذا كانت الفرحة؟ لأن البلد — في تقدير الفلاحين — لم يكن لهم، لم يكن لأبنائه. ويتساءل منير في رواية «عدالة القدر»: لماذا يفر الشباب المصري من التجنيد؟ ويجيب: «هذا غطاء الجهل قد طبق علينا حتى غشي الأبصار، وأضل العقول، وران على القلوب، فكم نسمع عند تجنيد الشباب المصري بكاء وعويلًا، ونرى المعزِّين يتوافدون على أهله، كأن الشاب لم يذهب للدفاع عن وطنه، وإنما ذاهب لعالم الأموات. ثم لست أدري لماذا يعفى شباب العُمد والمشايخ، أو من يدفع البدل النقدي من التجنيد الذي هو سلاحنا الأول وعدتنا المهمة؟!» ويضيف منير: «ولكن لعل عذر الشباب في ذلك هي السياسة التي أسَّسها الاحتلال، ففيها قسوة وازدراء، فالمرتب للجندي ضئيل، والطعام غير كافٍ للغذاء، والملابس غير لائقة، بل حرمان من الغذاء، وقلة في الكساء، وضآلة في المرتب.»٤٠ وقد تعدَّدت محاولات فرار الشبان من التجنيد بوسائل يقبلها القانون، أو يرفضها، منها: حفظ القرآن الكريم، وطلب العلم في الأزهر الشريف، وهو ما يعلل كثرة الفقهاء في الريف، وزيادة أعداد طلبة الأزهر حتى صدور تعديلات قانون التجنيد التي فرضت المساواة على كل الشبان … فقء عين أو فقء العينين معًا … قطع الإبهام أو السبابة … إتلاف حاسة السمع … قطع جزء من اللسان بالأسنان … الانضمام إلى العصابات وقطَّاع الطرق.٤١ وقد قطع مفيد عبد الرحمن إصبعه يوم طُلِب للجهادية حتى لا يُقبَل، أهوى على الإصبع بساطور وهو يصيح: لماذا أذهب إلى الجيش وأموت هناك؟ لماذا؟ لماذا؟ «هذه الكلمات القليلة هي كل ما استطاع أن يلفظه من داخل كيانه، كالنار، كالمقت، ليس له شيء في هذا البلد، في وطنه كله، حتى يذهب ليدافع عنه، ويبذل نفسه من أجله. حتى الذهاب لمجرد فكرة الدفاع والذود عن الحمى، أي شيء له حتى يدافع عنه؟ لا شيء … لا شيء … ولا حتى لأبيه أو لجده، بل كان شعورًا غامضًا يملؤه في ذلك الحين، وهو أن يأتي هؤلاء الأعداء الذين يدفعون أمثاله كي يقاتلوا، حتى يقتلوا الباشوات، عبودية بعبودية لا مبالاة. لماذا يدافعون عن أرض الوطن؟ لماذا؟ والباشوات يدفعون البدل ليُعفوا من الجيش، ويتركوا الأمر لهؤلاء المضغوطين المطحونين، وطارت إصبعه في ذلك الحين، ولم يحس بأي ألمٍ في نفسه، بل أحس كأنه ينتقم، يتشفَّى.»٤٢ من هنا، تتوضح دلالة تلك الزغاريد التي أُطْلقت في دار مخلوف أبو طرطور لما استُغني عن ابنه علوان في فرز الجهادية لأنه «شُرك»!٤٣ وكانت بداية سير «أبو السباع» في طريق الجريمة لما اختاره أحد الضباط ليكون مراسلة خاصًّا له، لكنه رفض أن يكون خادمًا. وبلغ عنف الضابط ذروته، فاختطف بندقية من يد أحد الجنود القريبين منه، وحاول أن ينهال بمؤخرتها على رأس أبي السباع، لكنَّ أبا السباع كان أسرع منه، فانتزع البندقية، وحطمها فوق ركبته إلى أجزاء متناثرة، وقُدِّم إلى المحاكمة أمام مجلس عسكري بتهمة مخالفة النظم العسكرية، وإتلاف أسلحة أميرية، وصدر الحكم بسجنه تسعين يومًا، كانت هي بداية عناقه للجريمة!٤٤

•••

فتحت معاهدة ١٩٣٦م أبواب الكلية الحربية أمام أبناء الشعب العادي، بعد أن كانت مقصورة على أبناء السراة والإقطاعيين وأصحاب رءوس الأموال. وبتعبير محدد، فلولا المعاهدة ما استطاع عبد الناصر وزملاؤه من أبناء الطبقتَين المتوسطة والفقيرة أن يلتحقوا بالمدرسة الحربية.

فلماذا أصبح أبناء الفقراء — لأول مرة — ضباطًا في الجيش؟

يقول محمد عودة: إن البريطانيين وافقوا على ذلك كمهادنة للوطنية المصرية، واستعدادًا — في الوقت نفسه — للحرب التي كانت قادمة لا محالة، بحيث يصبح الجيش المصري قوة محلية ملحقة بالقوات البريطانية في أثناء الحرب.٤٥ وقد فتحت الكلية الحربية أبوابها لأعدادٍ وفيرة من الطلبة الذين شارك بعضهم في الأحداث السياسية بالمدارس الثانوية التي كان لها دور موازٍ لدور الجامعة المصرية في نضال الطلبة الوطني.٤٦ كانت ميتة عبد الحكم الجراحي دافعًا لإقدام عددٍ كبيرٍ من الشبان على دخول الكلية الحربية، أملًا في أن يتمكَّن أبناء الشعب من قيادة الجيش.٤٧ وقد رفضت الكلية قبول جمال عبد الناصر طالبًا بها، حين تقدم إليها — للمرة الأولى — واستند الرفض إلى أن والد جمال كان موظفًا صغيرًا في مصلحة البريد. ويقول أحد خريجي الكلية الحربية في «مذكرات منسية»: «أنا فخور لأنني أحد الخريجين في أول دفعة في الكلية الحربية، لم يُؤخذ رأي القصر الملكي ولا دار السفارة البريطانية في التحاق أحد أفرادها بالكلية. إنها دفعة ما بعد معاهدة ١٩٣٦م التي قنع بعدها الإنجليز باحتلال قاعدة القناة فقط، وتوارى بعدها ياوران القصر الملكي عن الظهور — علنًا — في شئون الكلية.»٤٨ يضيف الضابط الصغير — حينذاك — أنور السادات: «الإنجليز لما احتاجوا قبل الحرب إنهم يوسعوا الجيش المصري، عشان يساعدهم، اتخلوا عن شروط كشف الهيئة القديمة، وبالشكل ده دخلناه، إحنا ولاد الشعب. أنا جدودي فلاحين بيضربوا الأرض بالفأس، ودخله كتير من ولاد الفلاحين، ما عدش جيش أولاد الشركس والبهوات.»٤٩ وقد أفاد حسنين كامل علي (بداية ونهاية) من قرار وزارة الحربية بتخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الحربية، على أن يتم الخريجون تدريبهم في الفرق التي يلحقون بها، وذلك لمواجهة زيادة عدد الجيش بعد إقرار المعاهدة؛ وهكذا أصبح حسنين ضابطًا بعد دراسة عام واحد.٥٠ وعلى الرغم من أن دفعة حسنين كامل علي في الكلية الحربية كانت هي النواة التي أثمرت — فيما بعد — تشكيلات الضباط الأحرار، كان من بينها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف بغدادي وجمال سالم وحسين الشافعي وزكريا محيي الدين وأنور السادات وصلاح سالم. ثم دخل في الدفعة التالية اثنان هما: كمال الدين حسين وحسن إبراهيم، أما خالد محيي الدين فقد دخل الدفعة الثالثة «وحتى قبل أن يتخرج هؤلاء الشبان من أبناء الطبقات الوسطى والدنيا ليصبحوا ضباطًا، وحتى وهم لا يزالون بعد يمرُّون باختبارات القبول بالكلية لم يتوانوا عن إعلان مواقفهم الوطنية.»٥١ على الرغم من ذلك، فإن وصولية حسنين باعدت بينه وبين الحياة السياسية تمامًا، فهو إذا كان قد خرج في المرحلة الثانوية، يهتف بسقوط هور ابن الطور، فإنه قد تخلى عن كل شيء، ولم يعُد يشغله إلا ركوب الطبقة الأعلى! كان حسنين — في الحقيقة — كما تروي «مذكرات منسية» مِن هؤلاء الطلبة الذين اقتصر تفاخرهم على الزي الرسمي، وبخاصة الشريط الأحمر على جانبَي البنطلون. ونتذكر دندنة عائشة في «بين القصرين»: يا بو الشريط الأحمر … يا اللي أسرتني … ارحم ذلي! كانوا يرتدون هذا الزي من ظهر يوم الخميس، عند خروجهم في الإجازة الأسبوعية، ثم لا يخلعونه أبدًا إلا عند عودتهم من الكلية مساء الجمعة «فكنت ترى هذا الزي في ليلة الجمعة منتشرًا في دور السينما والملاهي، وعلى أبواب هذه الدور. وكان عذرهم في هذا الأسلوب نابعًا من الأغنية القديمة التي كانت تتردد مساء كل خميس في الكثير من دُور الملاهي مبتدئة بقول المغنية: يا بو الشريط الأحمر … يا اللي سحرتني … ارحم ذلي.»٥٢ وقد أضاف توفيق الحكيم رأيًا بأن تحل القبعة في زي الجيش بدلًا من الطربوش، كي لا يبدو في هيئة جيوش المستعمرات، مثل الفرقة الهندية. وتساءل الحكيم: «ما فائدة إصرارنا على أن نضع على رأس جيشنا هذا الشيء الأحمر، الذي يلفت الأنظار لو وضع على رءوس جنودنا المظفرة المسافرة إلى أوروبا لنصرة حليفتها، فليس أحسن من هذا الطربوش — بلونه الأحمر — هدفًا لرصاص العدو وقنابل الطائرات.»٥٣ وبالطبع، فقد تغيَّرت نظرة الفتيات إلى الشريط الأحمر «بعد التحاقهن بالجامعة. حلَّت في الشاب المطلوب صفات أخرى تتصل بشخصية الشاب، بدلًا من مجرد الشريط الأحمر الذي لا يعني شيئًا.٥٤ وكان حسنين (بداية ونهاية) يعتز بالشريط الأحمر، والطربوش الطويل، والحذاء اللامع، والعصا القصيرة ذات الرأس الفضي، والقفاز.٥٥ ويصف ضباط الجيش بأنهم «ضباط الجيش رجال أفراح، نراهم أمام المحمل، وفي الاحتفالات الكبرى.»٥٦ ويقول لأمه: «إذا حان موعد الاحتفال بالمحمل، فسيتاح لك، ولنفيسة، فرصة باهرة لتشاهداني على صهوة جوادي على رأس فرقة الفرسان»!٥٧ كان الشعور بالزهو كذلك هو الذي تملَّك خالد (الشارع الجديد) لمَّا وصل إلى محطة الإسكندرية، وراح يتخيل الأهل والأصدقاء وهم يشهدون أزرار بدلته الصفراء وشريطه الأحمر.٥٨
والحق أن الأثر الأول الذي أحدثته تلك الدفعة يتمثَّل في موقفها في سني الحرب العالمية الثانية، فقد زادت حركة التوسع في الجيش المصري، ومن ثَم أتيحت الفرصة للالتحاق بالكلية الحربية لأعدادٍ كبيرة من آباء الأسر المتوسطة والمتوسطة الصغيرة. وشكَّل هؤلاء الضباط الصغار مقابلًا لكبار ضباط الجيش المصري، الذين كانوا يحرصون على التعاون مع سلطات الاحتلال، مثل إبراهيم عطا الله رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري، وحجازي مدير المخابرات العسكرية، وغيرهما؛ لأن الضباط الصغار — بحكم انتماءاتهم الطبقية — يؤمنون بقضايا بلادهم — الاستثناءات المشابهة لحسنين واردة! — ويبغضون الاحتلال وأعوانه. وكان القسم الأكبر منهم يجد في مبادئ عزيز المصري نبراسًا يهتدي به. من هنا، فلم يكن مصادفة أن تجد خلايا الضباط الأحرار بدايتها في منقباد في ١٩٣٨م، لتصبح حقيقة تمارس دورها في أثناء أعوام الحرب العالمية الثانية. ويقول الضابط أحمد (إني راحلة) بعد تخرجه في الكلية الحربية: «بعد ثلاث سنوات أكون ملازمًا أول، وبعد أربع يحتمل أن أصير يوزباشي، فإن الجيش الآن في زيادة؛ لأن المعاهدة تنص على أنه لا بد أن يكون لنا جيشٌ قادرٌ حتى يستطيع أن يقوم بمهمة الدفاع بدل جيوش الاحتلال، وقد بدأ التوسع فعلًا.»٥٩ ويقول عوني (لعبة ولد اسمه حسن) «معاهدة ١٩٣٦م لم تؤدِّ إلى كسر جيش مصر، رفعت الروح المعنوية بين الضباط، وزاد الجيش، وارتفعت معنوياته، وبدأ يشعر بواجباته الوطنية.»٦٠

•••

أما أخطر نتائج المعاهدة، فهي تصوُّر كثير من المصريين أن معركة الاستقلال قد وصلت إلى مرفأ الطمأنينة والأمان. قال جعفر إبراهيم (الباقي من الزمن ساعة): كيف يتوقعون نتيجة أفضل من هذه؟

قال حسن عُلما: المعاهدة ثمرة صراع مرير بين إمبراطورية طاغية من ناحية، وبلد أعزل من ناحية أخرى، فهي مشرفة لا ريب في ذلك.

قال حامد برهان: على من لا يقتنع أن يزحف على العدو بجيشه.

قال خليل الدرس: انتهت أيام اللعنات وسوف يحكم الوفد إلى الأبد!٦١

ثم تيقن الجميع — بتوالي الأحداث — أن المعاهدة لم تنهِ نضال المصريين ضد الإنجليز.

•••

يقول حامد برهان (الباقي من الزمن ساعة) في ثقة، تعقيبًا على إبرام المعاهدة: «كلل جهاد الوفد أخيرًا بالفوز المبين»!٦٢ ويصف الفنان (أزهار) احتفال المصريين بمصطفى النحاس عقب توقيعه المعاهدة بأن الطبول دقت «وزُفَّت البشائر لمقدم الرئيس ومن معه من لندن، وحُشدت الجماهير من الإسكندرية حتى القاهرة على طول طريق مرور القطار، حتى لقد وقعت مذبحة في إحدى المدن تحت عجلات القطار من فرط الزحام وحماس الجماهير.»٦٣ وتسهيلًا من مصلحة السكك الحديدية للمواطنين كي يشاركوا في مناسبة استقبال الوفد العائد من لندن، فقد جعلت أجور السفر بالمجان أو رمزية، فتدفقت وفود المهنئين تهتف بحياة النحاس، وانتشرت في مدينتَي الإسكندرية والقاهرة أعدادٌ هائلة من ذوي القمصان الزرقاء، وأقيمت معالم الزينة والبهجة ثلاثة أيام متوالية، وكانت الجماهير صادقة في التعبير عن فرحتها، لاعتقادها أن النحاس قد عاد بعد التوقيع على معاهدة تتضمن الاستقلال التام.٦٤ واعتبر أحد الكُتاب زعيم الوفد — في توقيعه للمعاهدة — بأنه محرر مصر «منذ غزاها الفرس، وأهدروا استقلالها، واستعبدوا دولتها، وأذلُّوا شعبها.»٦٥ لكن الفنان (أزهار) يجد أن نشر مواد المعاهدة قد صدم «الأحرار» «بشدة» فلو أن مصر رضيت بمثل هذه المعاهدة منذ عام ١٩١٩م، لوفَّرت على نفسها خمسة عشر عامًا من الآلام والمتاعب ودماء الشهداء. كانت المعاهدة تخلو من الهدفَين الرئيسيَّين اللذين حارب من أجلهما المصريون، وهما الجلاء ووحدة وادي النيل، ولو لم تتضمن المعاهدة نصًّا على تعهد إنجلترا أن تساعد مصر على إلغاء الامتيازات، والانضمام لعصبة الأمم وتطوير جيشها، لما كان في المعاهدة ما يستحق الحبر والورق اللذين أُهدِرا في كتابتها، على أن ما ضاعف البلية، أن رفعة الرئيس، بدلًا من أن يصف المعاهدة بوصفها الصحيح، من أنها خطوة في سبيل الاستقلال، فقد أبى إلا أن يتحدَّى، وأن يعلن على رءوس الأشهاد أنها معاهدة الشرف والاستقلال، ويتهم من لا يقول بقوله بالمروق والخيانة.٦٦ ولأن حسان (الشارع الجديد) كان يعرف لعبة السياسة الدولية جيدًا، فقد كتم ألمه وسخطه عن أبناء شعبه الذين تصوروا بالفعل أن المعاهدة هي خير لهم، وراودته فكرة أن يقف في ميدان عام، ويصيح: «بماذا تستبشرون أيها الغافلون؟ أبقيود الرق والعبودية التي وُضعَت في أعناقكم وأنتم راضون؟ بماذا تحتفلون؟ بتوقيع صك استذلالكم، وبإقراركم أن العدو المغتصب أصبح الصديق الحميم! هيا ثوروا وحطموا هذه الزينات، التي ستدمغكم بالعار إلى الأبد، ثوروا فلا خير في شعب لا يثور، لكنه كبح جماح رغبته، وسار — تدفعه الحرارة المتأججة في صدره — إلى توسيع خُطاه.»٦٧ وأضاف — بعد أن أثملته الخمر: «استبشروا أيها المخدوعون، فقد تحالف الذئب والحمل، وتصادق القط والفأر، ونام الطفل مستسلمًا في أحضان الغول، ارقصوا أيها المختالون، فقد أصبحتم حلفاء الإنجليز، حلفاء الذين ما جاءوا إلى بلادكم، وحملوا خيراتكم إلى بلادهم، ليغتنوا وتفتقروا، ليشبعوا وتجوعوا، ليكتسوا وتهيموا على وجوهكم عراة محطمين، كلكم مغفلون مخدوعون، كلكم بائسون مساكين.»٦٨

•••

والحق أن معاهدة ١٩٣٦م لم ترتكز إلى تأييد كل الأطراف، فبينما كانت جريدة «كوكب الشرق» — على سبيل المثال — تدعو إلى الفوائد التي ستنجم عن عقد تحالفٍ قائمٍ على انسحاب القوات البريطانية من القاهرة، وإلغاء الامتيازات، كما صحب رئيس تحريرها أحمد حافظ عوض وفد محادثات المعاهدة إلى لندن، وكتب عدة مقالات عن الفوائد التي سترِد على البلاد من قيام علاقات اجتماعية وثقافية بين الإنجليز والمصريين … بينما كان أنصار المعاهدة يقومون بالدعوة لتأييدها، كان شباب مصر الفتاة — في المقابل — يستمعون إلى الخُطب التي ترفض المعاهدة على مسرح «برنتانيا». وجاءت جماعات ضخمة من شباب القمصان الزرق التي كوَّنتها حكومة الوفد، ودارت معركة دامية، انتهت بالقبض على أفرادٍ من الفريقين، وتقديمهم إلى المحاكمة.

كان عزت باشا (ثم تشرق الشمس) ممن وجدوا في المعاهدة خطوة أولى إلى الاستقلال، وليست الاستقلال كله.٦٩ أقيمت الزينات — على حد تعبير الفنان (الشارع الجديد) — في كل مكان، ودوت الطبول، وزغردت المزامير، وصدحت الموسيقى، حتى قهوة الصعايدة في الحارة شاركت في التعبير عن الفرحة، فطوَّح الرجال عصيهم، ورقصوا على أنغام موسيقى القِرب والنقرزان. أوحى الزعماء إلى الشعب أن «افرحوا فقد وُقِّعت معاهدة صداقة وتحالف بين مصر وبريطانيا» فاستجاب الشعب لوحي زعمائه، وانطلق نشوانًا!٧٠ وزاد الضاحك الباكي إلى رمادية الصورة، فتحدث عن وقع توقيع المعاهدة على المصريين: «تلقَّت مصر أنباء معاهدة الصداقة والشرف! أي والله معاهدة الصداقة والشرف بعدم اكتراث، وهزَّ الشعب الأكتاف، فلم تنطلق يدٌ بالتصفيق، ولا حنجرة بالهتاف، ولا لسان امرأة واحدة بالزغاريد! وجوم! ولكن الدعاية الحزبية تستطيع — بما لديها من وسائل ومؤهلات — أن تطلق الأيدي بالتصفيق، والحناجر بالهتاف، والألسنة بالزغاريد! وعاد الوفد وحلفاؤه الدستوريون والشعبيون والاتحاديون والمستقلون، وسط المهرجانات، والموالد، و«الزفف»، وحلبات رقص الخيول، والآدميين!»٧١
لقد فرضت المعاهدة على مصر تحالفًا أبديًّا مع إنجلترا، وقيَّدها هذا التحالف بالتزاماتٍ خطيرة في حالتَي السلم والحرب.٧٢ لم تكن مصر تستطيع — في حالة السلم — أن تبرم معاهدة سياسية تتعارض مع أحكام المعاهدة، بل إنه لم يكن بوسعها أن تتخذ موقفًا من دولة أجنبية يتعارض مع أحكام المعاهدة، فهي قد تورطت إذن في تبعية دائمة للحكومة البريطانية.٧٣ وكان أخطر ارتباطات مصر، في ظل أحكام المعاهدة — إذا نشبت الحرب — أن تصبح دولة حليفة لبريطانيا، بصرف النظر عن الدولة العدو! وكانت ملزَمة — في ضوء ذاك الاعتبار — أن تضع موانيها ومطاراتها وطرق مواصلاتها واتصالاتها في خدمة الأغراض الحربية البريطانية، بل لقد أعطت المعاهدة إنجلترا حق احتلال الأماكن الاستراتيجية المصرية في حالة حدوث خطر يُخشَى من أن تمتد آثاره إلى مصر!٧٤
أعلن محمد محمود زعيم الأحرار الدستوريين أن «التزاماتنا العسكرية تتعارض مع استقلال مصر، ولولا ظروف قاهرة بنا في مصر، ولولا ما في المعاهدة من مزايا، ولولا ظروف دولية قائمة في الوقت الحاضر، تحيط بنا وتدعونا لنفكر في الواقع، وألا نقتصر على الحرص على آمالنا ومطالبنا، وتمنعنا من أن نركز جهودنا في تحقيق آمالنا وأمانينا، لما جال قبول هذه المعاهدة بخاطري.» وقال أحمد ماهر رئيس السعديين في مجلس النواب: «إننا مضطرون إلى قبول هذه الشروط، نظرًا للظروف القاهرة التي تحيط بنا، والتي لا مفر منها.»٧٥ ونصح محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ بقبول المعاهدة «على أن تُعدَّل بأسرع ما يستطاع، تعديلًا يزيل ما بها من مساس باستقلال مصر.»٧٦
وإذا كانت أحزاب الأقلية قد حاولت — فيما بعد — إلصاق وزر معاهدة أغسطس ١٩٣٦م بمصطفى النحاس وحده «مع أنهم اشتركوا معه جميعًا في التفاوض والتوقيع.»٧٧ فإن الرجل ظل على قناعته بجدوى المعاهدة حتى إنه قال في عيد الاستقلال، وهي التسمية التي أُطلقَت على يوم توقيع المعاهدة، في ٢٦ أغسطس ١٩٤٣م؛ أي بعد مرور سنوات على توقيع المعاهدة: «كانت المعاهدة خيرًا وبركة، بل رضوانًا ورحمة، ولم تحل بركتها بالطرفين المتعاقدين وحدهما، بل حلَّت بالدنيا كلها؛ لأن الحرب العالمية كلها حرب مبادئ تدور رحاها بين الديمقراطية والديكتاتورية.»٧٨ ويذهب محمد التابعي إلى أن الوفد تصور — بعد توقيع المعاهدة — أن أسباب الخصام والصدام بينه وبين الإنجليز قد زالت بحيث يتيح له ذلك، بالإضافة إلى الأغلبية الوفدية الساحقة في مجلسَي البرلمان، وصغر السن النسبي للملك فاروق، إمكانية الاستمرار في تولي الحكم فترة طويلة قادمة.٧٩

•••

وفي المقابل من إعلان بعض أنصار الوفد أن معاهدة أغسطس ١٩٣٦م تحقق لمصر استقلالها التام وسيادتها الكاملة، فقد كان رأي بعض النواب الوفديين أن المعاهدة نكبة وطنية. وكان قبولهم لها لأن مصطفى النحاس قبلها! وكان قبول عدد آخر من نواب الوفد للمعاهدة حرصًا على النظام الحزبي!٨٠ أما راشد البراوي، فقد ذهب إلى أن المعاهدة كان معناها تصفية الثورة.٨١ اعترفت المعاهدة ببقاء قوات بريطانية في منطقة من الأرض المصرية، وربطت سياسة مصر الخارجية إلى السياسة البريطانية التي هي — بطبيعتها — معادية للأهداف الوطنية للشعب المصري، وأبقت على الوضع الشاذ الذي خلَّفته اتفاقية ١٩ يناير ١٨٩٩م بشأن السودان.٨٢ ووصف أحمد حسين المعاهدة بأنها تحتل مصر عسكريًّا، وتحمل مصر على الاعتراف بهذا الاحتلال، وتصحيح مركز إنجلترا طوال الخمسين عامًا الماضية، وتكلِّف مصر تكاليف ثقيلة، وتُلزِمها ببناء ثكنات وطرق لجيوش الاحتلال، كما أنها تفصل السودان عن مصر، وتجعله مستعمرة إنجليزية، يقف منها المصريون موقف المتفرج، وهي تسلب حق مصر في إلغاء الامتيازات والمحاكم المختلطة.٨٣ وألَّف القطب الوفدي محمود سليمان غنام كتابًا ضد المعاهدة، قال فيه إن هذه المعاهدة الأبدية لا يمكن أن تكون متفقة مع استقلال البلاد، وأن البلاد يجب أن تتربَّص أول فرصة لإلغاء هذه المعاهدة.٨٤ ووصف البعض المعاهدة بأنها خيانة، ورفضها من النواب: عزيز أباظة، مصطفى فودة، محمد عبد الجليل أبو سمرة، محمد بهي الدين بركات، عبد الحميد سعيد، عبد العزيز الصوفاني، فكري أباظة، محمد محمود جلال، حسن شعراوي، هارون أبو سحلي، فكري الصغير.٨٥ وقال عبد الحميد سعيد في رفضه للمعاهدة عندما عُرضَت على مجلس النواب: «إن المعاهدة المصرية الإنجليزية المعروضة علينا هي مجموعة مغانم لبريطانيا، نتولى نحن تنفيذها في الحال، مقابل مجموعة من الوعود البريطانية لمصر، صيغت بطريقة ماهرة، ووضعت في أسلوب حكيم، بحيث أصبح تحقيقها مستحيلًا.»٨٦ والغريب أن بعض النواب الوفديين اعتبروا المعاهدة نكبة وطنية، وكان قبولهم لها لأن النحاس قبلها! وكان قبول عدد آخر من نواب الوفد للمعاهدة حرصًا على النظام الحزبي!٨٧ وأكد عبد الرحمن فهمي — قائد الجهاز السري، والقائد الفعلي لحركة الجماهير في ١٩١٩م — أن المعاهدة لم تحقق آمال البلاد، فضررها أكثر من نفعها، وأن ما بها من نفعٍ مؤجلٌ، وما عدا ذلك فهو تحت رحمة الإنجليز، «فإن سلكوا طريق الختل والمراوغة كعادتهم، فلن يكون في هذه المعاهدة شيء نافع لمصر أصلًا.»٨٨ وفي أغسطس ١٩٣٩م، كتب مصطفى الوكيل مقالًا وصف فيه معاهدة ١٩٣٦م بأنها «عبء ثقيل ألقاه الجيل القديم على أكتاف مصر ليعرقل تقدُّمها ونهوضها.»٨٩ أما عبد الرحمن الرافعي فقد لاحظ أن المعاهدة تسجل الحماية البريطانية على مصر، وتقر الاحتلال الإنجليزي، وتجعله مشروعًا، فضلًا عن أنها تضع على عاتق مصر من التكاليف والأعباء المالية لتحقيق أغراض إنجلترا الحربية ما تنوء به مواردها. وهي بالنسبة للسودان تقر اتفاقية ١٨٩٩م، وتجعل من السودان مستعمَرة إنجليزية يحرسها جنود مصريون. كما تُلزِم الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة مصر بمفاوضة الدول في شأنها، وتمنعها لمدة غير محددة من استعمال حقها المعترف به دوليًّا في إلغاء المحاكم المختلطة،٩٠ وقد اختارت آمال في قصة محمود طاهر حقي «خفقة الفجر» أن تنزل — أثناء حلتها إلى سويسرا — في فندق «مونترو بالاس» الذي شهد توقيع إلغاء المحاكم المختلطة.٩١ وكان من المعارضين للمعاهدة زعامات سياسية وفكرية مهمة مثل عمر طوسون، حافظ رمضان، صبري الهلباوي، علي المنزلاوي، عبد القادر حمزة، العقاد، المازني، محمود عزمي، عبد المقصود متولي، محمد حسين هيكل، أحمد ماهر وغيرهم. وهاجم محمد علي علوبة كلَّ بنود المعاهدة وملحقاتها، واقترح السعي لتعديلها، وأشار إلى أن المفاوض المصري قدَّم تنازلات في المعاهدة تفوق ما رفضه المفاوض المصري في مشروع ملنر، رغم اختلاف الظروف،٩٢ واعتبر وجود الجيش البريطاني في القناة وجودًا دائمًا، وليس مؤقتًا! وأعد محمد علي علوبة خِطابًا ضد المعاهدة لإلقائه في حفل جماهيري بالإسكندرية، فمنعته السلطة الحاكمة، وأُلقي القبض على عدد من المواطنين طبعوا نص الخِطاب، وحاولوا توزيعه.٩٣ وقال حافظ رمضان إنه بعد توقيع المعاهدة فإن: «كل شيء جائز؛ لأنها مصيبة في عنقنا.»٩٤ وأعلنت هدى شعراوي احتجاجها على «التكاليف الباهظة التي ستدفعها مصر بناء على نصوص معاهدة ١٩٣٦م، في الوقت الذي يطالب فيه الشعب النحاس باشا بخفض النفقات.»٩٥ ووصفت هدى شعراوي المعاهدة بأنها مثل زيجة النصارى، تدفع السيدة المهر، فإذا لم تجد راحتها عاشت في فراق إلى الأبد. وقد دفع المصريون المهر لما سُمِّي بالاستقلال، والحقيقة أنه العبودية، والعبودية إلى الأبد، «ندفع ثمنها نحن، ونسجلها بأنفسنا، وعلى أنفسنا، وعلى الأجيال التالية.»٩٦ وشددت هدى شعراوي على أن «هذه المعاهدة غير قانونية، لأننا معشر السيدات لم نشترك فيها، ولم نعلن موافقتنا عليها، ونحن نكوِّن نصف الأمة وزيادة.»٩٧ أما «الميثاق» الذي أصدره جمال عبد الناصر — بعد توقيع المعاهدة بعشرات الأعوام — فقد وجد في المعاهدة التي اشتركت في توقيعها جبهة وطنية تضم كل الأحزاب السياسية العاملة حينذاك، بمثابة «صك الاستسلام للخديعة الكبرى التي وقعت فيها ثورة ١٩١٩م، حيث كانت مقدمتها تنص على استقلال مصر، بينما صلبها — في كل عبارة من عباراته — يسلب هذا الاستقلال كل قيمة، وكل معنًى.»٩٨

•••

ثمة رأي أن النحاس عاد إلى مصر — عقب توقيع المعاهدة — دون أن يشعر بأنه عندما وقَّع المعاهدة، فقد وضع نهاية لجهاده؛ إذ لم تعد له وظيفة واضحة، بل لم تعُد للوفد كله وظيفة بعد ذلك.»٩٩ وكان رأي حمد الباسل أن الأحزاب القائمة قد حققت الهدف الذي تكوَّنت لأجله بتوقيع المعاهدة، ومن ثَم فإنه يجب أن يعاد تكوينها على مبادئ جديدة تتناول الشئون الداخلية.١٠٠
نحن نجد دلالات مهمة في قول اللورد كيلرن لأعضاء مجلس الوصاية: «على الرغم من أن اسم دار المعتمد سيتحوَّل في المستقبل إلى سفارة، وعلى الرغم من أن الصوت الذي سيرتفع لن يكون صوت المندوب السامي، ولكن صوت السفير، فإني أرجو — من ناحية المبدأ — أن يسمع لهذا الصوت أكثر مما كان يحدث من قبل.»١٠١ وفي «تمساح البحيرة» رقد الأب مريضًا، بعد الحزن الذي أصابه وهو يطالع بنود المعاهدة.١٠٢ ويشير الفنان (أزهار) إلى الهمس الذي بدأ يجري بين صفوف الشباب، سواء في صفوف جماعة «مصر الفتاة» أو «الشبان الأحرار» بوجوب اغتيال رئيس الحكومة الذي أصبح يرمز عندهم إلى الخيانة والتفريط في حقوق البلاد، واستعيدت ذكريات الورداني قاتل بطرس غالي الذي وقَّع معاهدة فصل السودان عن مصر، وشعر فوزي السيد — أحمد حسين — أنهم على وشك الوقوع في كارثة.١٠٣ ويقول وسيم خالد: «إن جيل ١٩١٩م قد أعطى كل ما عنده بتوقيعه معاهدة ١٩٣٦م التي سمَّاها معاهدة الشرف والاستقلال، وتحتم أن يخرج عليه الجيل الجديد، أن يتخلَّى عن كل ما يحمله من ثقة ساذجة بأصنام ١٩١٩م.» وفي ٢٨ نوفمبر ١٩٣٧م، أطلق عز الدين عبد القادر — حفيد أحمد عرابي — أربع رصاصات على سيارة النحاس، وتصور الشاب أنه قد أصاب هدفه، فألقى مسدسه، ورفع يده بتحية «مصر الفتاة»، وهتف: الله أكبر! المجد لمصر!١٠٤ وقال الشاب أمام القضاء: أردت إرهاب النحاس؛ لأنه وقَّع معاهدة ١٩٣٦م، واعترف بأنه عضو في جمعية «مصر الفتاة»، وأنه ارتكب جريمته لأنه قرأ المعاهدة فلم تعجبه. وكان رد فعل تلك المحاولة تعقُّب الحكومة لأفراد جماعة «مصر الفتاة»، حتى جاوز عدد المعتقَلين المئات، وحُكِم على الشاب بالسجن عشر سنوات.١٠٥ وكانت تلك الرصاصات — على حد تعبير وسيم خالد — «هي الإرهاصة التي حددت انتقال الجيل إلى الخروج.»١٠٦ بل لقد اعتُبرَت المعاهدة — في تقدير أعداد كبيرة من الشباب — تصفية لثورة ١٩١٩م من الناحية السياسية، بحيث ناوشهم التطلع — منذ ذلك الحين — إلى الثورة الجديدة، المطلوبة.
وكما يقول لويس عوض، فقد أفضى إفلاس الديمقراطية الليبرالية عام ١٩٣٦م إلى تكشُّف طرفَي النقيض اللذين لا سبيل إلى إيجاد مركب بينهما، فزاد هذا من التصدع العقائدي الذي عرفته مصر حتى ثورة ١٩٥٢م.١٠٧ وقد حاول بعض الكُتاب أن يوفِّق بين وجهتَي النظر المؤيدة والمعارضة، فأكد أن المفاوضين المصريين «لم يأتوا لنا بالاستقلال التام، ولكنهم لم يفرطوا في شيء من حقوق البلاد. لقد حفظت المعاهدة لمصر كرامتها الوطنية، كما ألقت بزمام أمورها بين يديها، وفسحت الطريق أمامها إلى الاستقلال التام، وهي — في الوقت نفسه — قد طمأنت الإنجليز من مخاوفهم، وضمنت لهم كافة مصالحهم، هي معاهدة في صالح الطرفين، معاهدة لا يرفضها مصري إلا وهو متعنت، ولا يرفضها إنجليزي إلا وهو متعنت.»١٠٨

وفي ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧م، أقال الملك فاروق — أو الكارهون للنحاس والوفد من كبار أفراد الحاشية — وزارة النحاس الخامسة، وهو ما لم يكن واردًا في ظل القوة الظاهرة للحكومة عقب توقيع معاهدة ١٩٣٦م، والتي نصَّت على جلاء القوات البريطانية في السنوات التالية، والتخلص من الامتيازات الأجنبية بعد مونترو، وسقطت الجبهة الوطنية التي تألَّفت في أوائل ديسمبر ١٩٣٥م.

•••

أيًّا يكن الرأي في الحفاوة بالمعاهدة، أو رفضها، وتباين القبول والرفض، ما بين اعتبارها معاهدة الشرف والاستقلال، واعتبارها تأكيدًا للوجود الاحتلالي، فقد أصبحت المعاهدة — بالفعل — معلَمًا مؤكدًا في مسار التاريخ المصري المعاصر. ويقول ضياء الدين الريس «مهما يكن الحكم على المعاهدة، فإنه لا شك أنه من بين نتائجها الهامة أنها مهدت لتغيير تاريخ مصر، ولقيام ثورة ١٩٥٢م.»١٠٩
ثمة رأي أنه: «بهذه المعاهدة — مهما بلغ تشاؤم المتشائمين تلقاءها — تجتاز البلاد المصرية حادثًا خطيرًا، ومرحلة حاسمة فاصلة، قلما نجد لها — منذ أن غزا الفرس والإغريق مصر إلى يومنا هذا — نظيرًا، بهذه المعاهدة — مهما بلغ تشاؤم المتشائمين إزاءها — تسير مصر على عجلٍ في طريقها الجديد المرصوف، بلغت نفقاته ما بلغت نحو الدولة ذات السيادة.»١١٠
ولعله يمكن القول إن مصر بدأت تواجه مرحلة جديدة بالفعل، لا بمجرد توقيع المعاهدة، وإنما بالتداعيات التي أفرزتها، والاستشرافات التي أطلَّت عليها. بدأت الطاقات المختلفة تسعى في كل اتجاه، نحو التغيير إلى الأفضل، ربما بتقدير أن المعاهدة انعطافة مرحلية يمكن لمصر أن تحقق فيها تقدمها المطلوب. كان واقع المجتمع المصري في حاجة إلى تغيير جذري؛ ففي عام ١٩٣٦م، لم يكن الواحد من ثمانية ملايين — أي نصف الشعب المصري آنذاك — يكسب أكثر من مائتَي قرشٍ في العام. وكان متوسط ما يملكه المصري من أرض بلاده ٢٫٢٣ فدانًا، بينما كان متوسط ما يملكه الأجنبي ٧٨٥٧ فدانًا؛ أي أن متوسط ما كان يملكه الأجانب من ملاك الأراضي الزراعية المصرية يزيد عن ثلاثة أضعاف ما يملكه المصريون. ويحدد محمود كامل مساحة تلك الأراضي بما مجموعه ٤٩٧٠٢٨ فدانًا؛ أي نحو عُشر مجموع الأراضي الصالحة للزراعة.١١١ وقد ارتفع عدد من يملكون أقل من فدان، من مليون في ١٩١٦م يملكون ٤٢٩٥٣٢ فدانًا، بمعدل ٤٢٪ من الفدان لكل مالك، إلى ١٦٧٧٠٠٠ مالكٍ مجموع ملكياتهم ٦٦٨٦٠٠ فدان، بمعدل ٤١٪ من الفدان لكل مالك في ١٩٣٦م. ومن هؤلاء ١٣٠٠٠٠٠ مالك، متوسط ملكية كل منهم تقل عن ثلث فدان، فضلًا عن ذلك، فقد زاد عدد العمال الزراعيين من ٦٥٩٨٨٣ عام ١٩٢٧م، إلى ١٤٥٧٢٦٧ عام ١٩٣٧م يعانون تدهور الأجور، وتفشي البطالة الموسمية.١١٢ ووفقًا للدراسات والإحصائيات التي أُجريت عن السنوات من ١٩٣٧–١٩٣٩م، كان ٢٨٪ من مجموع الدخل القومي يذهب إيجارًا لملَّاك الأراضي، و٣٧٪ أرباحًا وفوائد، و٤٪ إيرادًا للحكومة، والباقي — ٣١٪ — للمرتبات والأجور. وعلى الرغم من مرور حوالي عشرين عامًا على قيام ثورة ١٩١٩م، فإن «طبقة المعيشة لم ترتفع بين سواد المصريين في قرى الريف، وصحة الفلاح لا تزال على ما كانت عليه من الوهن والتعرض لآفات الجراثيم الشائعة في الأرض والماء.»١١٣ وعلى الرغم من الحماية التي قُدِّمت للصناعات المصرية في صورة قوانين وقرارات منفذة لها، فإنها واجهت أزمة ضارية في ١٩٣٩م، كادت تودي بغالبية المصانع والشركات إلى الإفلاس، حتى بنك مصر أوشك على إعلان إفلاسه وإغلاق أبوابه، في بداية أعوام الحرب.١١٤ وتكدس مخزون الإنتاج بشركة المحلة، في الوقت الذي عقدت فيه حكومة محمد محمود اتفاقًا مع مصانع لانكشير الإنجليزية، يقضي بزيادة حصة مصر من واردات النسيج البريطانية.١١٥ مع ذلك، فقد كانت الصناعة تنتج سنويًّا ما لا يقل ثمنه عن ثمن محصول القطن المصري، أما ما كانت تدفعه هذه الصناعة سنويًّا من مرتبات للموظفين وأجور العمال، فقد قاربت الملايين الستة من الجنيهات.١١٦ وقدَّر حافظ عفيفي عدد المصريين الذين يعيشون بما لا يزيد عن ١٢ جنيهًا شهريًّا؛ أي بما يقرب من ١٥٠ جنيهًا في السنة، ما لا يقل عن الملايين العشرة،١١٧ وكان نحو أربعة ملايين شخص يعيشون بإيرادٍ يقل عن جنيه؛ أي بنحو ثلاثة قروش يوميًّا.١١٨
وذهب الكاتب إلى أنه إذا استثنيت مشروعات الري من مشروعات الإصلاح المتفق على ضرورتها منذ زمن طويل، فإن الحكومات المصرية لم تعمل شيئًا يُذكَر في سبيل الإصلاح منذ الحرب العالمية الأولى.١١٩ ويقول فؤاد الحمزاوي (السكرية) لكمال عبد الجواد: كلانا يجري نحو الثلاثين دون أن يتزحزح، جيلنا مكتظ بالعزاب، جيل الأزمة!١٢٠ وكان عدد الأطباء — ١٩٣٨م — ٣٥٢٤ طبيبًا، بمعدل طبيب واحد لكل ٤٦٠٠ نسمة.١٢١ وكان نظام القضاء — في عام توقيع المعاهدة — موزعًا ومتناقضًا؛ ثمة محاكم أهلية، ومجالس حسبية، ومحاكم شرعية، ومحاكم مختلطة، ومجالس ملية، وبطركخانات، ومجالس عرب، ومحاكم حدود، ومحاكم قنصلية.١٢٢

ولا شك أن توقيع المعاهدة قد أسهم في تحويل نضال العمال — مؤقتًا — إلى المطالبة بتحسين ظروف العمل وشروطه. وقام العمال بعددٍ من الإضرابات في ١٩٣٦م، كان أبرزها إضراب عمال النسيج والسكر والنقل، وقامت تلك المظاهرات بدافعٍ من سوء الأحوال الاقتصادية التي كان العمال يحيَون في ظلها، نتيجة لتحالف الرأسمالية المصرية والرأسمالية الأجنبية، والمتمثل في قيام مؤسسات وشركات ذات رأسمال مشترك، وخاصة في صناعة النسيج. ثم اتخذ سخط العمال على الأوضاع السيئة مظهرًا عنيفًا، يعكس سوء تنظيم تلك الإضرابات. فقد لجأ العمال إلى تحطيم الآلات والمرافق، مما أدى إلى مواجهة السلطات لهم بالقوة، فأطلِق الرصاص على عمال مصانع السكر بالحوامدية، وعمال الترام بالإسكندرية، وأُلقي القبض على الكثيرين، ووُجِّهت إليهم تهمة الشيوعية. وفي ١٩٣٨م، قامت مظاهرة كبرى، لكنها لم تأتِ بثمارها المرجوة، وهي صدور التشريعات العمالية العادلة، وأهمها الاعتراف بنقاباتهم، وإعادة النظر في قانون إصابات العمل، ووضع حدٍّ أدنى للأجور، وحل مشكلة البطالة. وفي العام نفسه تكوَّن اتحاد عمال المملكة المصرية، لكنه لم يستطع أن يحصل للعمال على أية مكاسب، فقد اقتصر معظم نشاطه على الأعمال النقابية الاجتماعية. ولعل الفائدة الوحيدة التي حققها هذا الاتحاد، هي تيقن زعماء العمال — آنذاك — بأن وسائل الاستجداء التي يتبعونها في المطالبة بالحقوق العمالية، لن تجني سوى وعودٍ زاهية خلابة، لكنها عقيمة وغير مجدية، وأدركوا وجوب تغيير أساليبهم النضالية. وعقد عددٌ من القادة العماليين اجتماعًا بمقر نقابة المحال التجارية بالموسكي، وناقشوا السبل الإيجابية للمطالبة بالحقوق العمالية، ونشأت فكرة الإضراب عن الطعام حتى الموت، أو إصدار التشريعات العمالية. واتفق القادة العماليون في أواخر مايو ١٩٣٩م على أن يتم الإضراب على طريقة الأمواج المتعاقبة، ما إن تنحسر كل موجة، وبتعبير أدق ما إن يستشهد أفراد كل مجموعة، حتى تبدأ الجماعة التي تليها بالصوم، وهكذا حتى تصدر التشريعات المطلوبة، أو يواجِه كل المعتصمين خطر الموت. وأرسل العمال بيانًا بقرارهم إلى مجلس الوزراء والديوان الملكي والوزارات ومجلسَي الشيوخ والنواب، لكن جهات تغاضت عن الرد، لاعتقاد المسئولين أن العمال لن يقدِموا — بتأثير الخوف — على هذا العمل. لكن العمال حدَّدوا موعد إضرابهم بالفعل، وهو ١٢ يونيو ١٩٣٩م، كما أعلنت أسماء المجموعة الأولى التي ستقوم بالإضراب، وهم: محمد يوسف المدرك رئيس نقابة المحال التجارية، لبيب زكي سكرتير نقابة المحال التجارية، عباس يوسف رئيس نقابة التجاريين، علي ريحان سكرتير نقابة التجاريين، عبد المقصود يوسف رئيس نقابة عمال زخرفة الحرير، لبيب تادرس رئيس نقابة الترزية، صالح يوسف رئيس نقابة سائقي السيارات، عبد الوهاب محمد علي رئيس نقابة السروجية. واجتمع العمال في ليلة ١٢ يونيو ١٩٣٩م بمنزل يوسف المدرك بشارع السيدة سكينة، وتناولوا آخر وجباتهم قبل الإضراب، ثم أدوا صلاة الفجر، وتوجَّهوا إلى مكتب أحمد كامل قطب المحامي، ورئيس حزب الفلاح — آنذاك — حيث قرروا اتخاذه مقرًّا لتنفيذ إضرابهم، لكن قوات البوليس داهمت المكتب وطردتهم خارجه، فافترشوا الطريق أمام المكتب، وبدءوا يكتبون بالطباشير على الجدران: «العمال المصريون يُضرِبون عن الطعام حتى تصدر التشريعات العمالية.» والتقت الجماهير — التي كانت تحتفل بمولد الحسين — أمام ذلك المشهد، مما اضطر البوليس إلى إعادتهم لمكتب كامل قطب، ومنعوا الاتصال بهم تمامًا. لكن مظاهر التأييد توالت، فلم ينه العمال إضرابهم إلا بعد أن رضخت الحكومة لمطالبهم، وقدمت إلى البرلمان مشروع قانون الاعتراف بالنقابات، ووافق عليه مجلس النواب. لكن مجلس الشيوخ اعترض عليه، فتوقف صدوره، حتى أصدرته حكومة الوفد في سبتمبر ١٩٤٢م، وإن جاء ناقصًا؛ فقد قيَّد أعمال النقابات، وجرَّدها من كل الوسائل التي تيسَّر لها النضال في سبيل العمل النقابي.

كذلك فقد علت الأصوات المنادية بضرورة العناية بالريف، وبمشكلاته، وبدأت دراسة مشكلات الأحداث المنحرفين — لأول مرة — في عام ١٩٣٨م، وقام الأخصائيون الاجتماعيون بأول دراسة اجتماعية علمية لمشكلة الفقر في المجتمع المصري،١٢٣ وعُقِد مؤتمر الطفولة في نوفمبر ١٩٣٦م، ودعا طلعت حرب إلى إنجازات اقتصادية جديدة، وتألَّفت الجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية، والجمعية النسائية لتحسين الصحة، وأنشئت مدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة، وصدرت في ١٩٣٦م كذلك جريدة «المصري»، بعد انضمام محمود أبو الفتح إلى حزب الوفد في العام نفسه، واشترك معه في تمويل إصدار الجريدة محمد التابعي وكريم ثابت. وكان رأس المال الإجمالي تسعة آلاف جنيه، دفعها الشركاء الثلاثة بالتساوي، ثم استقل أبو الفتح بملكية الجريدة بعد أن دفع للتابعي وثابت مساهماتهما. وأنشئت — في ١٨ أغسطس ١٩٣٩م — وزارة للشئون الاجتماعية، وتقدَّمت ثالث فتاة مصرية — زهرة رجب — لأداء امتحان الحصول على إجازة الطيران من مدرسة شركة مصر للطيران. وصدرت «سارة» رواية العقاد اليتيمة. وفي كتاب «اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال» دعا زكي مبارك إلى: الاكتفاء بالكلمات العربية في جميع المصالح والدواوين الحكومية — صياغة المصطلحات العلمية باللغة العربية — أن تكون العربية هي لغة الرسائل الجامعية، اختراع حروف جديدة مشكولة، والاكتفاء بصورة واحدة لكل حرف. إيجاد أدب جديد، يبث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل. الحفاظ على الدين، باعتباره ثروة قومية، رفض الانقسامات التي قد تحدثها المذاهب الدينية والصوفية، مضاعفة الأزهر لدوره في خدمة اللغة والدين، محاولة التقليل من أسباب الخلاف بين الجامعتين المصرية والأزهرية، اختيار زي موحد، يقضي على أصل الخلاف بين مذاهب التقاليد في الحياة المصرية، الإقبال على تقاليد العصر بلا خوف، إلا أن يكون فيها ما ينافي الأدب الحق، والدين الصحيح. ونشرت «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها سلامة موسى — نوفمبر ١٩٣٦م — مقالًا لروسل جولت عميد كلية الآداب بالجامعة الأمريكية، يدعو فيه إلى تبسيط اللغة العربية إلى حد السماح لطلبة المدارس بكتابة مذكراتهم باللهجة العامية، واستشهد بتقرير جاء فيه: «لقد شرح لي مفتشو التعليم ونظار المدارس الصعوبة التي يلاقيها تلاميذ الفصول الابتدائية، حتى العليا منها، وتلاميذ مدارس المعلمين في كتابة اللغة العربية الفصحى، وتساءلوا: إذا كان الأنسب أن يُسمَح لهؤلاء التلاميذ أن يكتبوا مذكراتهم الخاصة باللغة العامية.»

•••

فرض إعلان المعاهدة على الأحزاب القائمة، أن تعيد النظر في برامجها؛ كان توقيع قياداتها على المعاهدة اعترافًا بأن الاستقلال تحقق، ولأن السعي إلى الاستقلال كان شبه برنامج وحيد لغالبيتها، فقد كانت أمام خيارَين: إما أن تقدم برامج جديدة تُعنى بالنواحي الداخلية، أو أن تلغي نفسها.١٢٤ كان ينبغي على الأحزاب أن تطور نفسها، فتعقد البرامج الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تناسب احتياجات مصر في مرحلة ما بعد المعاهدة، لكن ذلك لم يحدث. وفي مبادرة من الشباب، كانت محاولة لجنة «واجبنا بعد المعاهدة» التي تألَّفت من عدد من طلبة الجامعة المصرية، لاستشراف مستقبل البلاد من خلال أقوال قادة الرأي آنذاك. وكما قالت اللجنة في تقديمها للكتاب الذي جمعت فيه هذه الأقوال، فإنه إذا كانت السيطرة للفكرة السياسية وحدها منذ قدوم الاحتلال، فإن الفكرة الاجتماعية يجب أن توازيها «فلا شك أن المعاهدة كانت حادثًا فريدًا له أثره وقوته في تاريخنا المصري الحديث، كانت فاصلًا بين عهدَين، أو قنطرة بين شطَّين، إن صح هذا التعبير، أما أولهما فقد سيطرت فيه الفكرة السياسية على النفوس، واتجهت الجهود كلها ناحية السياسة، ونحو مكافحة الغاصب، ومحاربة نظم الطغيان، وإثارة كوامن النفس المصرية الثائرة، وتوجيهها ناحية الثورة والفداء، فكانت السياسة تستغرق جهودنا، وتحد من تفكيرنا، وكان مثلنا الأعلى أن نسعى لنيل الاستقلال ومحاربة الطغيان في شتى الصور والمعالم. أما الثاني، وهو العهد الجديد، فهو عهد قد استقر فيه نشاطنا السياسي إلى حدٍّ ما، واتجه إلى وجهة معينة واضحة المعالم، مرسومة الخطوات، عادت إلينا فيه روحنا المعنوية بخلقٍ وبعثٍ جديدين، فأصبحنا نجتهد في الإنتاج والابتكار، ونحن على ثقة أن الخيرات تعود إلينا وحدنا، لا على فرد آخر ليس من أهلنا. لذا وجب أن يتجه تفكيرنا ناحية جديدة، ناحية من يعمل لنفسه، وهو حر غير مقيد ولا مكبل، ومن يجاهد في سبيل وطنه، واثقًا أن الجهاد والبذل والفداء لمصر وحدها دون غيرها من الأوطان.»١٢٥ أما لطفي السيد فقد أيَّد اشتغال طلاب الجامعة بالسياسة النظرية، لكنه تحفَّظ على اشتغال الطلاب بالسياسة العملية.١٢٦ ودعا أحمد نجيب الهلالي إلى حرص الشباب على الوحدة «لقد اكتوينا بنار الفرقة حتى أطفأها الشباب، فواجبهم أن يتحفظوا في كل كلمة، وفي كل خطوة، حتى لا تتأجج بينهم النار التي أطفئُوها في غيرهم.»١٢٧ وتحدَّث عزيز المصري عن واجب الحكومة في منع المحاباة في اختيار طلبة المدرسة الحربية، وعن ضرورة تنشيط الصناعات القومية؛ لأن تجهيز الجيوش يستلزم مبالغ طائلة، وضرورة التفكير في إعداد ملابس الجيش في مصانع مصرية.١٢٨ وطرح عزيز المصري اقتراحًا — لا يخلو من دلالة — بأن يوجه الطلبة مشروع القرش من صناعة الطرابيش إلى صناعة الكمامات الواقية.١٢٩ وعدَّد حسن نشأت جملة اقتراحات، أهمها فرض التجنيد الإجباري على كل من يبلغ سن التجنيد، بلا تمييزٍ بين الطبقات، وإنشاء قرى حديثة بدلًا من القرى القديمة، وإعطاء الفتاة المصرية حقها الكامل في التعليم، وتوحيد الزي الوطني.١٣٠ أما علي مصطفى مشرفة فقد دعا إلى نشر الكتب العلمية التي ألَّفها مصريون أو عرب، وعقد المؤتمرات العلمية التي تناقش العلوم الطبيعية والهندسية وغيرها، والإكثار من إيفاد البعثات إلى الخارج، بدلًا من استيراد الأساتذة الأجانب.١٣١ وأشارت بنت الشاطئ إلى أنه إذا كانت المعاهدة قد ألغت الجهاد مع الإنجليز، فإن الجهاد يجب أن يبدأ مع الانحطاط الريفي، والذلة التي فُرضَت على الفلاح «إن الوضع المعقول لنمو الثروة، هو أن نصلح الفلاح لتنمو تلك الثروة، وأن ننهض بحياته ليزداد إنتاجه.»١٣٢ وأجاب طه حسين عن أسئلة الطلبة إجابات سريعة ومقتضبة، ثم ما لبث أن أعاد كتابتها بالتفصيل في مؤلَّفه المهم «مستقبل الثقافة في مصر» الذي دعا فيه إلى تواصل الثقافة المصرية بثقافات دول البحر المتوسط. ذكر طه حسين أن مصر تبدأ عهدًا جديدًا من حياتها «وما كان أشد تأثري بهذه الحركة التي دفعت فريقًا من الشباب الجامعيين في العام الماضي إلى أن يسألوا المفكرين عما يرون من واجب مصر بعد إلغاء المعاهدة.»١٣٣ كان التعليم — في رأي طه حسين — هو السلاح الذي تستطيع مصر أن تدافع به عن نفسها حتى «ننشئ لمصر الحديثة أجيالًا من الشباب كِرامًا أعزاء، لا يتعرضون لمثل ما تعرَّض له بعض أجيالنا السابقة من الذلة والهوان، سبيل ذلك واحدة لا ثانية لها، وهي: بناء التعليم على أساس متين.»١٣٤ وكان رأي طه حسين أن مشروعنا المستقبلي للثقافة يجب أن يرتبط بالحضارة الغربية؛ يتجه إليها، يتلاحم في نسيجها، وأن تلك كانت هي الصورة الأوضح من ارتباطه بصور أخرى، مع حضارات أخرى «وإنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية.»١٣٥ وأكد طه حسين الدعوة إلى النهل من الحضارة الغربية وثقافتها «خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما نحب منها وما نكره، ومن زعم غير ذلك فهو خادع ومخدوع.»١٣٦ ولعله يجدر الإشارة إلى أن طه حسين كان من بين المتفائلين بالمعاهدة، فقد كتب يقول بعد عام من توقيعها: «اطمأنت قلوب المصريين؛ لأن حلفاءهم الإنجليز قد وفوا لهم بما عاهدوهم عليه من احترام الاستقلال، والاعتراف بالكرامة، والاحتفاظ لهم بالمودة والحب على أساسٍ من الحق والعدل والمساواة.» ولمناقشة أوضاع مصر — عقب المعاهدة — ألَّف محمود كامل كتابه «مصر الغد»، وقال في تقديمه له إنه قد خطرت له فكرة وضع الكتاب عقب الانتهاء من توقيع المعاهدة، التي اشتركت في التمهيد لها والموافقة عليها وإنجازها — على حد تعبيره — كافة الأحزاب المصرية، «وذلك لأنني أحسست أن نضال المصريين لانتزاع استقلالهم قد طال أمده.»١٣٧ وفي ٢١ يناير ١٩٣٧م ألقى محمود تيمور محاضرة في رابطة موظفي الحكومة، بعنوان «حاجتنا إلى الفن»، طرح فيها السؤال: أنحن في حاجة إلى الفن؟ ثم أجاب تيمور عن سؤاله بأن الفن يجب أن يسبق التعليم «الفن أولًا، ثم التعليم ثانيًا، لنبدأ بتهذيب الطباع، وترقية المشاعر، وتحسين الأذواق، وصقل النفوس، ثم نعلِّم بعد ذلك حروف الهجاء. وهل نكون في هذه الطريقة مخالفين الطبيعة في عملها؟ إن الطبيعة وهبتنا الفن أولًا، ثم عنيت بعد ذلك بأمر العقل والعلم.»١٣٨ وطالب علي مشرفة بنشر كتب التراث العلمي لابن الهيثم والخوارزمي، وتشجيع التأليف العلمي بالعربية، والإكثار من المؤتمرات العلمية، وإيفاد البعثات إلى الخارج. كما طالب عبد الرزاق السنهوري بمصرية القضاء وتوحيده، والرجوع في الثقافة القانونية إلى الفقه الإسلامي.١٣٩ ودعت بنت الشاطئ إلى إصلاح نظم الإدارة في القرية المصرية، وفي مقدمتها نظام العمد، وإنهاء مبدأ الديمومة في العمدية «وهو مبدأ لا يتمتع به رؤساء الجمهوريات والوزراء وأعضاء البرلمان، كأن نزاهة العمدة فوق كل شك، وعدالته تسمو على الظنون.»١٤٠ وتحدَّث حسن نشأت عن توحيد الزي، وتعميم التعليم بين طبقات الشعب، وفرض التجنيد الإجباري — بلا تمييز — بين الطبقات.١٤١ وطلب عزيز المصري توجيه مشروع القرش من صناعة الطرابيش إلى صناعة الكمامات الواقية، توقعًا لنشوب حرب جديدة.١٤٢ وزادت بنت الشاطئ فأصدرت كتابًا عن الريف المصري، دعت فيه المسئولين وغير المسئولين إلى مناصرة قضايا الفلاح، وقدمت لكتابها بالحديث عن «العطف السامي النبيل الذي يغمر به جلالة الملك المعظم فلاحنا المصري العامل، هذا العطف الذي يعرفه كل من تشرَّف بمعرفة جلالته، أو سعد برؤية حال المزارعين في مزارع الخاصة الملكية.»١٤٣ أما توفيق الحكيم فقد طرح العديد من الأسئلة — ١٩٣٧م: «إلى متى تظل مصر — ونحن نملك نظامًا ديمقراطيًّا — تعتقد أن إصلاح شئون الطبقة الفقيرة معناه التصدق والإحسان؟ وإلى متى، ونحن لدينا برلمان، لا نجد فيه ممثلين لملايين من أباء الطبقات الفقيرة، يدافعون عما تراه هذه الطبقات منهضًا مصلحًا لحالها؟ ما معنى الديمقراطية إذا لم تكن هي تمكين طبقات الشعب كلها — على اختلاف مراتبها ومطالبها — من الدفاع عن نفسها بنفسها تحت قِباب المجالس النيابية».١٤٤ ودعا حافظ عفيفي — حافظ عفيفي بالذات، فتصور! — إلى وجوب الاشتغال بالصناعة «يجب أن يستقر في أذهاننا أننا لن ننجح في زيادة ثروتنا العامة نجاحًا كبيرًا، ولا في تحسين مستوى المعيشة لأهل بلادنا تحسينًا بيِّنًا، إذا حصرنا مجهوداتنا في الزراعة وحدها، وأغفلنا شئون الصناعة، أو قصرنا — حكومة وشعبًا — في العمل على إنمائها وتقدُّمها.»١٤٥ وحذَّر حافظ عفيفي من أن «من الممكن والمعقول أن يصل عدد سكان مصر إلى ٢٠ مليونًا في ١٩٦٠م.»١٤٦ وهو توقُّع جاوزته الأرقام الفعلية. وتحدَّث الرجل عن «هذه الدنيا العجيبة التي يخطب فيها النساء في المحافل العامة، ويهدد التلاميذ معلميهم بالإهانة والضرب، ويغنيها عبد الوهاب بعد عبده الحامولي ومحمد عثمان، ويُباع فيها قنطار القطن بريالَين.»١٤٧

•••

في ١٩٣٧م اجتمعت هيئة المفاوضات لبحث إلغاء الامتيازات الأجنبية. سافر الوفد الرسمي في أبريل من العام نفسه، وفي مايو، وقَّعت مصر مع الدول صاحبة الامتيازات «اتفاقية مونترو»، وكانت — على حد تعبير الضاحك الباكي — نجاحًا ساحقًا لمصطفى النحاس.١٤٨ ويقول رضوان ياسين (السكرية): أُلغيَت الامتيازات، فدع الذين انتقدوا المعاهدة يتكلمون!١٤٩ ويضيف حلمي عزت: «أما وقد أُلغيَت الامتيازات، فستُفتَح الأبواب.»١٥٠ وفي مايو من العام نفسه أصبحت مصر عضوًا في عصبة الأمم، وعادت القوات المصرية إلى السودان، بعد سحبها في ١٩٢٤م، واستُقبِلت بحفاوة شعبية دافقة، وبدأ تطوير الجيش المصري، وعُيِّن اللواء محمود شكري باشا قائدًا للجيش المصري بعد سفنكس باشا، الذي خرج من قوة الجيش المصري هو وجميع الضباط البريطانيين. وأُلغيَت — كما أشرنا — وظيفة المفتش العام الإنجليزي للجيش المصري، وكان من مهامه استعراض الطلبة في حفلات التخرج.١٥١
ظلَّت القيادة تنتقل — بعد اللواء محمود شكري باشا حتى وصلت إلى اللواء إبراهيم عطا الله باشا — وكان ضابط الجيش إذا وصل إلى رتبة القائمقام، يحصل على لقب بك، وإذا وصل إلى مرتبة اللواء يحصل على لقب باشا. وكما يقول يوسف صديق، فقد بدأت قيادة الباشوات تفرض ضرائب على الضباط. الضابط الذي يأتي عليه الدور للترقية إلى رتبة اللواء ليصبح في زمرة الباشوات، كان عليه أن يدفع مبلغًا معينًا، وإلا تخطته الترقية.١٥٢
والواقع أن الجيش أصبح بُعدًا مهمًّا في قضية الاستقلال؛ لأن المعاهدة كانت تحدد موعد جلاء القوات البريطانية ببلوغ الجيش المصري «درجة الأهلية اللازمة للدفاع عن قناة السويس وحده.»١٥٣ وفي عام ١٩٣٨م، كان يلتقي — كل ليلة — في تبات الشريف بمنقباد، عددٌ من الضباط صغار السن، حديثي التخرج، يناقشون ما تحياه بلادهم في ظل الوجود الاحتلالي. وقال واحد من هؤلاء الشبان — جمال عبد الناصر — إنهم الإنجليز أصل بلائنا كله! وتحدد التغيير هدفًا، وإن لم تُطرَح الوسائل نفسها؛ لقد كان اللقاء حول فكرة، لكنه لم يجاوز ذلك إلى إمكانات تحقيق تلك الفكرة.

•••

أما بالنسبة للسلطات البريطانية، فقد كتب السفير البريطاني لحكومته — بعد أيام من توقيع المعاهدة: «إن تغيُّر الوضع لا يعني تغيُّر دورنا، وأنا لا أعتزم في المستقبل أن أغيِّر السياسة الموجودة، وذلك بالاتصال مباشرة برئيس الوزارة في كافة المسائل الكبرى، أما المسائل الروتينية الصغيرة، فيجري الاتصال بشأنها مع وزير الخارجية.»١٥٤ ولعل تلك الحقيقة، التي فرضت نفسها — فيما بعد — على تطورات الأحداث، كانت هي مبعث المرارة في حلوق المثقفين الوطنيين؛ فقد اكتسب الاحتلال البريطاني الصفة القانونية، بعد ٥٤ عامًا من وجوده في الأرض المصرية. أكدت المعاهدة جزئية الاستقلال، رغم إيجابياتها المتمثلة في إلغاء الامتيازات الأجنبية، وتكوين الجيش الوطني المستقل، والانضمام لعصبة الأمم.
وكما أشرنا، ففي مؤتمر مونترو عام ١٩٣٧م أُعلِن زوال الامتيازات الأجنبية، وانتهى نظام المحاكم المختلطة، ثم أعقب ذلك دخول مصر عصبة الأمم بجنيف، في ٢٦ مايو ١٩٣٧م. ومع أن الاحتلال كان قد أُنهي رسميًّا مرتين: الأولى بتصريح ٢٨ فبراير، والثانية بتوقيع معاهدة ١٩٣٦م، فقد ظل الجنود الإنجليز يملئُون شوارع القاهرة والمدن الكبرى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. سعد (الشوارع الخلفية) يشده صوت النفير من ثكنات قصر النيل، ويلتفت الشاب إلى العلم الإنجليزي الذي يرفرف على الثكنات، والجنود الإنجليز يغادرون المعسكرات، ويدخلون إليها، ويودِّع بعضهم صديقاته من الفتيات المصريات قبل أن تغيبهم أسوار المعسكرات، ويهمس سعد لنفسه: «المسألة وصلت إلى نسائنا أيضًا، لعنة الله على النساء أجمعين، كل شيء هنا إنجليزي، العلم على الثكنات، والأسد فوق الكوبري.» وفي ١٠ فبراير ١٩٣٦م عاد أحمد حسين إلى مصر، ليتحدث عن انطباعاته في لندن، فأعلن أن الإنجليز خصوم شرفاء معقولون.١٥٥ وكان الأجانب — في ظل نظام الامتيازات — يحاكَمون من قِبَل قناصلهم الذين يبرئونهم في معظم الأحيان، بدون الاستناد إلى أصول قانونية حقيقية.١٥٦

•••

بلغت المساحة المنزرعة ٨١٠١٠٦٨ فدانًا، إذا قورنت بعدد السكان، فإن متوسط المساحة للفرد هو نصف فدان تقريبًا.١٥٧ وكانت مساحة الأراضي الزراعية التي نُزعَت ملكيتها بسبب الديون في ١٩٣٦م، و٣٤١٥ فدانًا، بلغ ثمنها ١٤٢٩٥٢٦ جنيهًا، ومجموع أثمان الأراضي الزراعية وأراضي البناء والبنايات التي نُزعَت ملكيتها في ذلك العام وحده ٢٠٨١٢٨٣ جنيهًا.١٥٨
وفي كلمات تقريرية مباشرة، يصوِّر الفنان واقع الفلاح في قرى الصعيد: «إنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء، إنهم مخلوقات ذليلة تعسة، لُصِقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها، حتى استنفدت قوتهم، واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشقى الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة، فقدت بهجة الحياة ونعيمها، واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.»١٥٩ كان عدد المشتغلين بالزراعة نحو ثلاثة ملايين، متوسط أجورهم الشهرية ثمانون قرشًا.١٦٠ فالعامل الزراعي يتقاضى أجرًا يوميًّا يتراوح بين قرشَين ونصف وثلاثة قروش، ولا يشتغل في العام أكثر من مائتَي يوم.١٦١

•••

عانى اتحاد نقابات عمال القطر المصري — في ١٩٣٦م — ضعفًا واضحًا، أول ملامحه مرسوم ألغى به الملك فاروق حرمان النبيل عباس حليم من امتيازات أفراد أسرة محمد علي، وأعاد له لقب «النبيل». وكانت النتيجة المباشرة لذلك انصراف عباس حليم عن الحركة العمالية، وتعرَّض الاتحاد — من ناحية ثانية — لمطاردات رجال القلم المخصوص، واعتُقِل الكثير من قياداته، وحرَّض البوليس الشركات والمصانع على فصل النقابيين من أعضاء الاتحاد، وأغلق دور النقابات، واستولى على أوراق وأموال الاتحاد المركزي بالإسكندرية، مما اضطر النقابات إلى التركيز على النواحي الاجتماعية، كل نقابة فيما يخص أعضاءها. وعلى الرغم من توقف نشاط الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري، فإن الإضرابات العمالية شكَّلت ظاهرة في كل أرجاء البلاد، وكان أبرزها إضرابات عمَّال النسيج والسكر والنقل.١٦٢ وفي ١٢ سبتمبر ١٩٣٧م تأسست «هيئة تنظيم الحركة العمالية» بهدف إعادة نشاط النقابات، وتنظيمها، وبث الدعاية لإعادة حزب العمال كهيئة سياسية تحمي العمال من الوقوع بين براثن الأحزاب السياسية، وتحذير العمال من الأشخاص والجماعات التي تعمل باسمهم لأهدافٍ خاصة. سعت الهيئة الوليدة لإقامة اتحاد عام للنقابات، يجمع شمل النقابات، ويعيد تنظيمها. لكن عباس حليم العائد من رحلة أوروبية في ٢ نوفمبر ١٩٣٧م، فرض نفسه على التطورات بعد أن كان قد أوقف نشاطه ثمانية عشر شهرًا «حتى يتمكن الوفد من عقد معاهدة الصداقة مع إنجلترا، وللحصول على قرارٍ بإلغاء الامتيازات الأجنبية في جوٍّ مفعم بالسلام.» ونظم مؤيدو عباس حليم استقبالًا عماليًّا هائلًا له بالقاهرة والإسكندرية، مما وضعه في موضع رئاسة الهيئة.١٦٣
وفي الأول من مارس ١٩٣٨م أعلن عن تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية من ٣٢ نقابة برئاسة عباس حليم. ثم أسندت رئاسة الاتحاد — بعد شهر واحد — إلى محمد الدمرداش الشندي، وهو عامل فني من عمال النسيج بالإسكندرية.١٦٤ وقد بلغ عدد المشتغلين بالصناعة في ١٩٣٨م، ٢٧٢٤٦٧ عاملًا، بينما كان عدد المشتغلين بالصناعة في ١٩٣٠م، ٢١٥٤٣٨ عاملًا، وهو ما يدل على أن الصناعة الآلية — وإن أفلحت في القضاء على نظام الحرف والطوائف الذي كان يستخدِم أعدادًا كبيرة من العمال — فإنها لم تنجح في استخدام مثل تلك الأعداد؛ بدأت الآلة تحل — بالتدريج — محل العامل اليدوي.١٦٥

•••

يشير الرجل إلى أن مشروع خزان أسوان أحيل من الأشغال للمالية، لأنه قد ثبت بالمستندات التي لا يتطرق إليها شك، أن وزير الأشغال ضالع مع الشركة التي ستقوم بالمشروع.١٦٦
وتدل إحصائيات عام ١٩٣٧م أن عدد المصريين الذين يتلقون العلم في المدارس المختلفة ٩٠٢٦٨٠ مصريًّا ومصرية؛ أي نحو مليون، بينما بلغ عدد الذين استقبلتهم السجون المصرية في العام نفسه ١٣١٦٣٨ من المصريين قضت المحاكم بإدانتهم.١٦٧ كان البنك العقاري المصري يدين الفلاحين المصريين بما يقارب الأربعين مليونًا من الجنيهات، وكانت رءوس الأموال الأجنبية في مصر ٣٠٠ مليون جنيه، بينما لا تزيد حصة مصر في هذه الشركات عن أربعة ملايين جنيه، هي مقدار هذه الشركات التي أنشأها بنك مصر آنذاك.١٦٨ وكان نحو أربعة ملايين من المصريين يعيشون بأجرٍ لا يزيد عن ثمانين قرشًا في الشهر.١٦٩
كان الشعب المصري — كما يصفه أحمد (إني راحلة) — يئن تحت وطأة البلهارسيا والإنكلستوما وماء الترع والبتاو الحاف.١٧٠ واعتمدت وزارة الصحة في ١٩٣٨م مبلغ ٩٠٠ جنيه لإنشاء ١٥ حنفية مجانية للمياه بمدينة القاهرة. ويقول الطبيب الشاب (السراب) بحدة: «من الخير لهذا البلد أن تحكمه حكومة فاسدة، ذلك أن الحكومة الصالحة لا تستطيع أن تفعل شيئًا ذا بال في حدود الأوضاع القائمة، فالخير أن تستبد الحكومة الفاسدة حتى تعجل بالنهاية، النهاية المحتومة.»١٧١

هوامش

(١) محمد عودة، كيف سقطت المَلكية في مصر؟، مكتبة الأسرة، ٨.
(٢) إدوار الخراط، ترابها زعفران، ١١٦.
(٣) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ٢٦.
(٤) السكرية، ٩٥.
(٥) محمد التابعي، مصر ما قبل الثورة، دار المعارف، ١٥٧.
(٦) السكرية، ٩٥-٩٦.
(٧) المصدر السابق، ٧٨.
(٨) المصدر السابق، ١١٣-١١٤.
(٩) بداية ونهاية، ١٧٧.
(١٠) المصدر السابق، ٢٠.
(١١) الأهرام، ٢٠/ ٧/ ٢٠٠٦م.
(١٢) توفيق الحكيم، وثائق من كواليس الأدباء، ١٠٠.
(١٣) أحمد زكي مخلوف، نفوس مضطربة، ٩٤.
(١٤) بداية ونهاية، ١٩٩.
(١٥) شهدي عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية، ٥٦.
(١٦) أزهار، ٣١٠.
(١٧) المصدر السابق، ٤٦٢.
(١٨) السكرية، ٩٦.
(١٩) الأهرام، ١١/ ٨/ ٢٠٠٥م.
(٢٠) حافظ محمود، الجمهورية، ٢٦/ ٨/ ١٩٧٦م.
(٢١) المرجع السابق.
(٢٢) محمد مظهر سعيد، نحن والإنجليز، ٤٨.
(٢٣) مذكرات مجاهد تعاوني، ١٧٧-١٧٨.
(٢٤) الأهرام، ١١/ ٨/ ٢٠٠٥م.
(٢٥) السفر الخالد، ٢٥٦.
(٢٦) إقبال بركة، تمساح البحيرة، ميدلايت، ١٩٩١م، ٤٨.
(٢٧) نحن والإنجليز، ٥٠.
(٢٨) عهد الاستقلال، ٣٠.
(٢٩) محاضرة معالي الأستاذ مكرم عبيد باشا في الجامعة المصرية، دار النشر الحديث، ١١.
(٣٠) المرجع السابق، ٢٣.
(٣١) المرجع السابق، ٢٣.
(٣٢) المرجع السابق، ٢٩.
(٣٣) المرجع السابق، ٥٥–٥٧.
(٣٤) المرجع السابق، ٦٥–٦٧.
(٣٥) سليمان فياض، الهجانة، الأعمال الكاملة، هيئة المصرية العامة للكتاب.
(٣٦) الأسرار السياسية، ١١١.
(٣٧) سياسة الغد، ١٣٠.
(٣٨) زينب، الطبعة الأولى، ٢٩١.
(٣٩) محمد عبد الحليم عبد الله، بعد الغروب، مكتبة مصر، ٨٥.
(٤٠) عبد الله عطية، رجب عبد الفضيل، عدالة القدر، مطبعة التوكل، ١٩٤٨م، ٩٩-١٠٠.
(٤١) كل شيء والدنيا، ٢١/ ٦/ ١٩٣٦م.
(٤٢) ضياء الشرقاوي، قصة «يقظة»، مجلة «القصة»، يوليو ١٩٤٦م.
(٤٣) محمد صدقي، البقرة، الأنفار.
(٤٤) لطفي الخولي، سماعين، رجال وحديد، دار النديم.
(٤٥) محمد عودة، قصة ثورة، ١٤.
(٤٦) مذكرات محمد نجيب، ١٩.
(٤٧) الكفاح السري، ١٤٣.
(٤٨) حافظ محمود، مذكرات منسية، روز اليوسف، ١٦.
(٤٩) الكفاح السري، ١٣٨.
(٥٠) بداية ونهاية، ٢٧٥-٢٧٦.
(٥١) تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٢٢٩–٢٣١.
(٥٢) مذكرات منسية، ١٧.
(٥٣) الأهرام، ١١/ ٨/ ٢٠٠٥م.
(٥٤) مذكرات منسية، ١٧.
(٥٥) بداية ونهاية، ٢٥٨.
(٥٦) المصدر السابق، ٢٤١.
(٥٧) المصدر السابق، ٢٧٦.
(٥٨) الشارع الجديد، ٢٢٥.
(٥٩) يوسف السباعي، إني راحلة، مكتبة مصر، ٦٥.
(٦٠) عبد المنعم الصاوي، لعبة ولد اسمه حسن، كتاب الجمهورية، ٣٧٨.
(٦١) نجيب محفوظ، الباقي من الزمن ساعة، ١٩٧٧م، ١١.
(٦٢) المصدر السابق، ١٠.
(٦٣) أزهار، ٥١١.
(٦٤) السفر الخالد، ١٤١.
(٦٥) عبد الحليم إلياس نصير، إهداء كتاب «عهد الاستقلال»، مطبعة عبد الحليم حسني.
(٦٦) أزهار، ٥١٠.
(٦٧) الشارع الجديد، ٢٩٤.
(٦٨) المصدر السابق، ٢٩٥.
(٦٩) ثروت أباظة، ثم تشرق الشمس، دار المعارف، ١٧٧.
(٧٠) الشارع الجديد، ٢٩٣.
(٧١) الضاحك الباكي، ٣٢١.
(٧٢) قضية وادي النيل، ٤٨.
(٧٣) المرجع السابق، ٤٨.
(٧٤) المرجع السابق، ٤٩.
(٧٥) نحن والإنجليز، ٥٠.
(٧٦) المرجع السابق.
(٧٧) جريدة «العمال»، ٢٣/ ٣/ ١٩٧٢م.
(٧٨) محكمة جنايات مصر، ٨٠.
(٧٩) مصر ما قبل الثورة، ١٥٧.
(٨٠) السفر الخالد، ١٩١.
(٨١) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ١٣٢.
(٨٢) المرجع السابق، ١٢٦.
(٨٣) أحمد حسين، الحركات الجديدة، ٧٦.
(٨٤) مذكرات إبراهيم طلعت، ٢٨٣.
(٨٥) السفر الخالد، ٣٠٣.
(٨٦) المرجع السابق، ٢٩٢.
(٨٧) المرجع السابق، ١٩١.
(٨٨) المرجع السابق، ١٢٧.
(٨٩) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٢٥.
(٩٠) السفر الخالد، ١٧٦-١٧٧.
(٩١) محمود طاهر حقي، خفقة الفجر، غادة حمانا، كتب للجميع.
(٩٢) السفر الخالد، ٧٢.
(٩٣) المرجع السابق، ١٠٨.
(٩٤) المحاكمة الكبرى، ١٥٤.
(٩٥) الحركة النسائية المصرية، ٥٩.
(٩٦) السفر الخالد، ١٣٩.
(٩٧) المرجع السابق، ١٤٠.
(٩٨) الميثاق، ٣٥.
(٩٩) دراسات في ثورة ١٩١٩، ٢٦٩.
(١٠٠) تطور الحركة الوطنية المصرية، ٤٢.
(١٠١) محسن محمد، التاريخ السري لمصر، المكتب المصري الحديث، ٧٤.
(١٠٢) إقبال بركة، تمساح البحيرة، ميدلايت، ٤٨.
(١٠٣) أزهار، ٥١٢.
(١٠٤) الكفاح السري، ١٩.
(١٠٥) أحمد حسين، الحركات الجديدة، ٧٥.
(١٠٦) الكفاح السري، ١٩.
(١٠٧) الأهرام، ٢٠/ ٣/ ١٩٦٤م.
(١٠٨) صلاح الدين كامل، سيكولوجية المعاهدة، المجلة الجديدة، ديسمبر ١٩٣٦م.
(١٠٩) أخبار اليوم، ٢١/ ٨/ ١٩٧٦م.
(١١٠) أمير بقطر، المجلة الجديدة، ديسمبر ١٩٣٦م.
(١١١) محمود كامل، مصر الغد تحت حكم الشباب، ٢٠.
(١١٢) تطور الحركة الوطنية المصرية، ٧٣.
(١١٣) عباس محمود العقاد، ١٣ نوفمبر بعد ٢٠ سنة، الهلال، ديسمبر ١٩٣٨م.
(١١٤) تطور الحركة الوطنية المصرية، ٦٨.
(١١٥) المرجع السابق، ٦٩.
(١١٦) حافظ عفيفي، على هامش السياسة، مطبعة دار الكتب المصرية، ١٩٣٨م، ١٨٩.
(١١٧) على هامش السياسة، ١٦٦.
(١١٨) المرجع السابق، ١٦٥.
(١١٩) المرجع السابق، ١٦٠.
(١٢٠) السكرية، ١١٧.
(١٢١) نشأة تاريخ الخدمة الاجتماعية، ٥٢.
(١٢٢) مصر الغد تحت حكم الشباب، ١٥.
(١٢٣) سيد عويس، الخدمة الاجتماعية ودورها القيادي في مجتمعنا الاشتراكي المعاصر، دار المعارف، ١٣.
(١٢٤) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ٤٢.
(١٢٥) اتحاد الجامعة المصرية واتحاد كلية الحقوق، مقدمة كتاب «واجبنا بعد المعاهدة»، دار النشر الحديث.
(١٢٦) المرجع السابق، ٢٠.
(١٢٧) المرجع السابق، ٣٧.
(١٢٨) المرجع السابق، ٦٩.
(١٢٩) المرجع السابق، ٧٠.
(١٣٠) المرجع السابق، ٩٦-٩٧.
(١٣١) المرجع السابق، ١٢٦-١٢٧.
(١٣٢) المرجع السابق، ٢٢٦–٢٥١.
(١٣٣) طه حسين، مقدمة «مستقبل الثقافة في مصر».
(١٣٤) نقلًا عن «الفن في حياتنا»، ٣٦.
(١٣٥) مستقبل الثقافة في مصر، ٢٧.
(١٣٦) المرجع السابق.
(١٣٧) مصر الغد تحت حكم الشباب، ٤.
(١٣٨) محمود تيمور، حاجتنا إلى الفن، دار النشر الحديث، ٢٩.
(١٣٩) واجبنا بعد المعاهدة، ١٨٩.
(١٤٠) المرجع السابق، ٢٣٩.
(١٤١) المرجع السابق، ٨٢.
(١٤٢) المرجع السابق، ٧٠.
(١٤٣) الريف المصري، ٣.
(١٤٤) توفيق الحكيم، تحت شمس الفكر، مكتبة مصر، ١٨٩.
(١٤٥) المرجع السابق، ١٨٣.
(١٤٦) المرجع السابق، ١٦٥، وفي تعداد ١٩٣٧م، كان عدد الأقباط المصريين يربو على المليون، بينما بلغ عدد المسلمين ١٤ مليونًا ونصف المليون.
(١٤٧) نجيب محفوظ، حياة مهرج، همس الجنون، مكتبة مصر.
(١٤٨) الضاحك الباكي، ٣٣٥.
(١٤٩) السكرية، ١٥٧.
(١٥٠) المصدر السابق، ١٥٨.
(١٥١) مذكرات منسية، ١٧.
(١٥٢) محمد توفيق الأزهري، يوسف صديق منقذ ثورة يوليو، مكتبة مدبولي، ٢٧.
(١٥٣) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ٦٦.
(١٥٤) التاريخ السري لمصر، ٧٤-٧٥.
(١٥٥) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ٢٠١.
(١٥٦) فوزية أسعد، بيت الأقصر الكبير، ت. منى قطان، المجلس الأعلى للثقافة، ٢١.
(١٥٧) سياسة الغد، ٤٥.
(١٥٨) مصر الغد تحت حكم الشباب، ٣٦-٣٧.
(١٥٩) محمود البدوي، الأعمى، رجل، المطبعة الرحمانية، القاهرة، ١٩٣٦م.
(١٦٠) مصر الغد تحت حكم الشباب، ٢٥.
(١٦١) المرجع السابق، ٢٥.
(١٦٢) الحركة العمالية في مصر، ١٠٥.
(١٦٣) المرجع السابق، ١٠٦.
(١٦٤) المرجع السابق، ١٠٧.
(١٦٥) التطور الاقتصادي، ٣٩.
(١٦٦) الحصاد، ٢٧.
(١٦٧) محمود كامل، يوميات محام مصري، ٩٠-٩١.
(١٦٨) مرافعات الرئيس أحمد حسين في عهد حكومة الوفد، ٢٦-٢٧.
(١٦٩) مصر الغد تحت حكم الشباب، ١٦.
(١٧٠) يوسف السباعي، إني راحلة، ٦٨.
(١٧١) نجيب محفوظ، السراب، مكتبة مصر، ٢٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥