نذر الحرب

بعد أن انطفأت نار الحرب العالمية الأولى، وسكتت المدافع، عاد الجنود إلى بلادهم يلعنون الساسة والسياسة — والتعبير للفنان — ويضمرون في صدورهم أحقادًا، مثَّلت شرارات الحرب التالية.١ ففي عام ١٩٢٠م رفض مجلس الشيوخ الأمريكي التصديق على الاتفاق الثلاثي، وعلى اتفاقية عصبة الأمم، وبدأت العصبة عملها في مقرها بجنيف دون أن تشارك فيها الولايات المتحدة، وأفلحت — في السنوات التي تلت إنشاءها — دون نشوب حروب إقليمية جديدة، وفي تسوية النزاع بين اليونان وإيطاليا بصورة جزئية.٢ وفي عام ١٩٢٣م احتلت فرنسا — في عهد وزارة بواتكاريه — منطقة الروهر بدعوى امتناع ألمانيا عن سداد أقساط ديون التعويضات. لكن الانتخابات الفرنسية في ١٩٢٤م أسفرت عن أكثرية لأحزاب اليسار في جانب الاتفاق مع ألمانيا، فتولَّى بريان الحكم، وجلت القوات الفرنسية من منطقة الروهر، ثم سويت مشكلة التعويضات، ومنحت ألمانيا — في ضوئها — قرضًا كبيرًا، واسترد العالم أنفاسه بصورة مؤقتة. وفي العام التالي بلغ الموقف السياسي ذروة تماسكه في مؤتمر لوكارتو، ثم أتمَّت عصبة الأمم أهم أعمالها السلمية بنجاحها في إيقاف الحرب بين اليونان وبلغاريا، واتجهت — بعد ذلك — إلى الميدان الاقتصادي، فساعدت على تمكين النظام الاقتصادي والمالي العالمي، وبذلت مجهودًا لافتًا لخفض التعريفات الجمركية وتثبيتها، وتوَّجت العصبة جهودها في مجال الاقتصاد بالمؤتمر الاقتصادي الدولي في ١٩٢٧م.٣ وفي عام ١٩٢٨م وُقِّع ميثاق كيلوج-بريان، انطلاقًا لعهدٍ جديدٍ يقوم على مساهمة الولايات المتحدة في شئون أوروبا. فلما حلَّ الكساد الاقتصادي في ١٩٢٩م، وتلته في ١٩٣١م الأزمة المالية العالمية، انكفأت كل دولة — بدرجة أو بأخرى — على ذاتها، وحاولت تحقيق الاكتفاء الاقتصادي؛ الأمر الذي مهَّد للثورة في ألمانيا، وبخاصة بعد وفاة شترسمان السياسي الألماني وداعية الوفاق والسلام فيها. وفي خريف ١٩٣١م والشهور الأولى من ١٩٣٢م اجتاحت اليابان منشوريا، وهاجمت ميناء شنغهاي، وفشلت عصبة الأمم في منع ذلك الغزو، رغم إظهار الولايات المتحدة استعدادها للتعاون في هذا السبيل. وعُقِد — في السنة نفسها — مؤتمر لوزان الذي تقرر فيه إلغاء أقساط التعويضات بصورة جزئية، وسار الاتفاق مع ألمانيا خطوات بشأن التسليح، لكن الانتكاسة حدثت حين أقال الرئيس هندنبرج رئيس وزرائه بردننج. وفي ٣٠ يناير ١٩٣٣م، أصبح أدولف هتلر مستشارًا للرايخ، وتسلَّم الحزب النازي مقاليد الحكم في ألمانيا. وحرصت ألمانيا — منذ ذلك الحين — على الاستزادة من التسلح، وانتهكت — في هذا السبيل — بنود معاهدة فرساي دون أن تواجه رادعًا من أي نوع. وفي خريف ١٩٣٥م بدأت الحملة الإيطالية على الحبشة، وفرضت عصبة الأمم عليها عقوبات خلت من العامل الأهم وهو البترول، فلما أفلحت إيطاليا في الاستيلاء على الحبشة، خضعت عصبة الأمم للأمر الواقع، وتخلَّت عن مبدأ فرض العقوبات، وساعد ذلك على احتلال ألمانيا منطقة الراين — في مارس ١٩٣٦م — وشروعها في تحصينها، تناقضًا مع معاهدة فرساي. وفي يوليو من السنة نفسها اندلعت نيران الحرب الأهلية الإسبانية، وناصرت ألمانيا وإيطاليا الجنرال فرانكو رغم اتفاق عدم التدخل.٤ وشنَّت اليابان حربًا جديدة في ١٩٣٧م ضد الصين، واستولت على شنغهاي ونانكنج في نهاية العام، لكن حكومة الصين الوطنية رفضت الاستسلام، وواصلت الحرب.
في ١٩٣٨م كانت ألمانيا قد تمكَّنت من تسليح نفسها بصورة هائلة، فاجتاحت النمسا في مارس ١٩٣٨م دون أن تواجه مقاومة ما، ثم اختلقت قضية «السوديت» وهدَّدت بإعلان الحرب ضد تشيكوسلوفاكيا، ونتيجة للمفاجأة الفرنسية المتمثِّلة في نقض حكومة باريس معاهدتها مع تشيكوسلوفاكيا، فاضطر التشيك — في مؤتمر ميونيخ — للتنازل لألمانيا عن أراضي السوديت، ثم تنازلوا للمجر وبولندا عن بضع مقاطعات أخرى.٥ وقد شجعت تلك التطورات السلبية اليابان على امتلاك كانتون، فعزلت هونج كونج، القاعدة البريطانية الكبيرة في الشرق الأقصى، ودخلت القوات الإيطالية برشلونة في يناير ١٩٣٩م، وفي مارس من العام نفسه، احتلت القوات الألمانية بقية الأراضي التشيكوسلوفاكية، واجتاحت القوات الإيطالية ألبانيا في ثلاثة أيام.

وفي سبتمبر ١٩٣٩م نشبت الحرب العالمية الثانية، عقب اجتياح الألمان لبولندا، وما تبع ذلك من اتساع الحرب بدخول إيطاليا والاتحاد السوفييتي واليابان والولايات المتحدة.

تلك بانوراما الحرب، منذ إرهاصاتها إلى تفجُّرها بالاتساع الذي شمل معظم مناطق العالم.

•••

يتساءل حامد (وجهًا لوجه): هل الحرب وشيكة الوقوع؟

تقول سهام: هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم.

يقول: إيطاليا رابضة في ليبيا.

ترنو إليه بنظرة هادئة، فيستطرد: وهي رابضة أيضًا في الحبشة، أتدركين معنى ذلك؟

– ولكن الإنجليز.

– الإنجليز! إما إنهم ضعفاء كما يؤكد موسوليني، وإما إنهم أقوياء كما يدَّعون، وفي الحالين سنتعرض لأهوال الغزو.٦ ويسأل عبده (الشوارع الخلفية) عبد العزيز: «إلا النجاشي هو اللي أَعفَى ولَّا موسوليني؟ يعني مين فيهم اللي يغلب التاني؟ ويضيف «اللي عاوز يتطوع في الحبشة يعمل إيه؟ أنا اتطوعت في فلسطين، لكن بيقولوا إن الحكومة قطعت السكة، الإنجليز خلُّوا الحكومة تقطع السكة، داهية لما تقطعهم من البر كله، لكن أهي السكة سالكة عالحبشة، وآهُم سايبين اللي عاوز يروح يروح» وينفجر متحمسًا: «ما أروح أنا وأخلص، يعني نسيب الحبشة وحدانية كده قدام إيطاليا؟!»٧

لقد زاد من اهتمام المصريين — المشتغلين بالعمل السياسي على نحو خاص — باحتلال إيطاليا للحبشة، ما أثير من تخوفات عن سيطرة إيطاليا على منابع النيل في الحبشة، وهي تخوفات صحيحة، وإن كان من الصعب أن نغفل التحريضات البريطانية وراء ما كانت تنشره «المقطم» من تخوفات.

كان الكساد والبطالة يعمَّان العالم، والأسعار رخيصة في كل مكان.٨ أوشك العالم أن يواجه أزمة اقتصادية أخرى في نهاية ١٩٣٨م، لكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك.٩ يقول فتحي (قصة لم تتم): في الوقت الذي كان فيه نساء العالم مشغولات بنسج التريكو، أو تفصيل الملابس للأطفال والكبار، كان هناك رجل يُعتبَر برميلًا من الخمر الرديئة، هو هتلر، وهذه الخمر عُبئت منها زجاجات صغيرة، هرِّبت إلى بعض أركان الدنيا، هذا الرجل كان يُعِد للخريف والشتاء في ذلك العالم مدافئ جهنمية، غير تلك التي تشغلها السيدات، أو تلك الخيوط ذات الألوان البهية التي نسجتها من أجل الأطفال.»١٠ ويقول الأب (أحزان مدينة): «إن هتلر يعتقد أن رخاء ألمانيا لن يتحقق إلا بالقوة.»١١

•••

لعل أهم ما شهده العالم في مطالع الثلاثينيات، فوز حزب المؤتمر الهندي في الانتخابات العامة، وتوليه السلطة في كل ولايات الهند البريطانية لأول مرة في التاريخ، وأنهى الوطنيون والشيوعيون الحرب الأهلية في الصين، لمواجهة الاستعمار الياباني، في حين كانت العسكرية اليابانية تحاول الاستيلاء على الصين، كمقدمة للاستيلاء على آسيا. تخلَّت اليابان عن حيادها الظاهر من الصراعات القائمة، حين أعلن سفيرها في برلين أن سيادة بريطانيا في الشرق الأقصى انتهت بصورة أبدية، والصين الجديدة ستكون منشوريا أخرى، فتنشأ فيها عدة حكومات مستقلة على طراز الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تتحالف مع اليابان التي تدير علاقاتها السياسية والعسكرية. وكانت النازية قد سيطرت على ألمانيا، وأعدَّت لفرض سيادة الجنس الآري على العالم لمدة ألف عام، وبدأت الفاشية الإيطالية محاولة بعث الإمبراطورية الرومانية بقيادة الدوتشي، وتألَّف محور من ألمانيا وإيطاليا واليابان لإعادة صياغة العالم، واقتسامه.

•••

بدأت الدعوة إلى الجامعة الجرمانية في أوائل القرن التاسع عشر، بواسطة الفيلسوفَين هردر وفيخته اللذين أكدا على مزايا الجنس الجرماني، وفضله على الأجناس البشرية، وأنه هو شعب الله المختار، وأن لغته — دون غيرها — هي لغة الحكمة والفلسفة والعلم بحقائق الأشياء، وأن حكومته — دون غيرها — هي الحكومة التي قدَّرتها عناية الله لقيادة الأمم، سواء كان ذلك بالإغواء، أم بالترغيب، أم بالقوة.١٢ أما الحركة النازية، فقد تبنَّاها رجلٌ اسمه «فاترجون»، نظَّم فرقًا للقمصان الرمادية، ودعا إلى صيانة الدم الجرماني — بكل السُّبل — من أوشاب الأمم الأجنبية، وكان يؤكد على أن الشرف هو السلاح، وأن من لا سلاح معه فلا شرف له، وأن «العنف أساس الخُلق والكرامة، ومناط الحكم والسياسة.»١٣ في ٢١ مارس ١٩٣٣م عقد البرلمان الألماني الجديد أولى جلساته، وعند ضريح فردريك الأكبر، قال هتلر مقولته الشهيرة: «استيقظت ألمانيا، لتعود إلى تقاليدها الشرقية القديمة.»١٤
وقد جاء هتلر إلى الحكم في الوقت الذي كان فيه المجتمع الألماني بأسره يطلب التغيير. ثمة أصحاب المصانع والإقطاعيون والقادة والضباط، وكل الذين كانت تملأ أدمغتهم أحلام السيطرة الجرمانية على العالم جميعًا. وثمة — في المقابل — أبناء الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى الذين كانوا يحلمون بمجتمعٍ جديدٍ يوفِّر الرفاهية لكل أبنائه.١٥ ويقول وليم شيرا في كتابه «قيام وسقوط الرايخ الثالث» الذي جاء خلاصة دراسة متعمقة لكل الوثائق السرية الألمانية والأمريكية «إن المساعدات الأمريكية والبريطانية كانت العامل الحاسم في وصول النازي إلى السلطة في ألمانيا.»١٦ أنفقت دول الغرب ملايين الجنيهات لبناء الحزب النازي، ولتصبح ألمانيا «حاجزًا صحيًّا» يقي غرب أوروبا خطر الشيوعية.١٧ وقد أحرق النازي — منذ استيلائهم على السلطة في ١٩٣٣م — مئات الكتب لعشرات الأدباء الألمان.
وإذا كان هتلر قد أصبح أمل الرأسمالية الغربية في القضاء على الشيوعية الدولية، وفي هزيمة الاتحاد السوفييتي على وجه التحديد، فإن الرجعية المصرية حاولت أن تجد في الفاشية سبيلًا لصد تيار اليسار، وبدأت الصحف تكتب عن موسوليني الذي أصبح «حديث أوروبا بأسرها، بل العالم أجمع، وهو — في الحقيقة — من أعظم رجال هذا العصر، إن لم يكن أعظمهم طرًّا، وقد أتي منذ توليه زمام الأمور في إيطاليا أعمالًا مجيدة، وجعل الشعب الإيطالي يقلع عن كثير من العادات القديمة التي كادت تؤدي بإيطاليا إلى الثورة والخراب.»١٨
أفلح موسوليني في غرس الإيمان بمجد إيطاليا القديم «ووجوب وصله بحاضرٍ يتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا، وكوَّن بالفعل جيشًا قويًّا، اكتسح به إمبراطورية الحبشة — عن طريق أريتريا والصومال — في أكتوبر ١٩٣٥م، ورفع العلم الإيطالي على أديس أبابا.»١٩ ولم تفلح معارضة عصبة الأمم — آنذاك — في رد الغزو الإيطالي، وعلا صوت موسوليني — للمرة الأولى — مطالبًا بجزيرة كورسيكا الفرنسية، وزاد فطالب بمستعمرة تونس الفرنسية، ثم بالمقاطعتَين الفرنسيتَين: نيس، والسافو العليا.٢٠ وبالنسبة لمصر، فقد أفلح ذلك الغزو في حصار مصر من ناحيتَين: الصحراء الغربية والسودان، فضلًا عن تهديد منابع النيل.٢١ ويقول حافظ إسماعيل إن أوروبا تخلَّت عن تأييد إثيوبيا «خشية ما يمكن أن يترتب على انتصارها — وهي الدولة الأفريقية المتخلفة — من متاعب لبريطانيا وفرنسا في مستعمراتها.»٢٢

•••

في أوائل ديسمبر ١٩٣٥م، قال ونستون تشرشل: «إن اللحظة الحرجة سوف تأتي في غضون ١٨ إلى ٢٠ شهرًا من الآن، عندما تصبح ألمانيا — من جانب — مسلحة تسليحًا حسنًا كافيًا، ومن جانب آخر، يصبح موقعها الداخلي، وخاصة المالي والاقتصادي، مشدودَ التوتر إلى أقصى حد، وعندئذٍ يستطيع هتلر بسهولة أن يرى السفلة في برميل البارود، ويبدأ حربًا.»٢٣

كان شعار الاشتراكية الوطنية قد اجتذب أعدادًا كبيرة من المثقفين، نتيجة لتردي الأوضاع في أوروبا عمومًا، وفي ألمانيا بوجه خاص، واعتبر هؤلاء الاشتراكية الوطنية ملاذًا منقذًا، أخيرًا، وإلى عام ١٩٣٨م لم يكن معروفًا على وجه اليقين: مَن يحارب مَن؟

وقد انعكس الإعجاب بالنازية في تشكيل الأمير عباس حليم فِرقًا خاصة من الشباب، أطلق عليها اسم «جيش الإنقاذ»، تلقَّت تدريبًا عسكريًّا أشبه بنظام الكشافة، وضم إليها طلبة المدارس، وفرض على أفرادها تحية خاصة برفع اليد، تمامًا مثلما كان يفعل النازيون، وأقيمت تشكيلات مماثلة في مصر الفتاة (القمصان الخضر) والوفد (القمصان الزرق)، والحزب الوطني كذلك.

كانت ألمانيا تستعد للحرب بدعوى إعادة أجزاء سليبة من أراضيها، وحوَّلت اقتصادها إلى اقتصاد موجَّه، خُصِّص — في معظمه — للإنتاج الحربي. وكانت فرنسا — كالعادة — في الجانب المعادي، بحيث إنه كان من المتوقع أن تحارب في التحالف الذي يحارب ألمانيا. أما إيطاليا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة فإنها إذا كانت قد أعدَّت نفسها للقتال، فهي لم تكن قد استقرت بعدُ على تحالفاتها، ولا عرفت طبيعة الدور الذي ستؤديه في الحرب القادمة.٢٤
وفي مارس ١٩٣٨م، أعلن هتلر ضم النمسا إلى الرايخ الثالث، أو ألمانيا الكبرى، وتلا ذلك — في خريف ١٩٣٨م — اقتطاع أجزاء من أغنى وأهم أجزاء تشيكوسلوفاكيا، بزعم أن سكانها من الألمان. كما طالب الزعيم الألماني بإعادة المستعمرات الألمانية التي نُزعت عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، في سويسرا ورومانيا وروسيا وبولونيا.٢٥ خالف هتلر بذلك شروط معاهدة فرساي؛ توصلًا إلى تحقيق حلم الرايخ القديم بالسيطرة على العالم.٢٦

•••

كانت الفاشية قد تنامت في أوروبا، من مظاهرها: اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا، ومساعدة إيطاليا وألمانيا للجنرال فرانكو زعيم الفاشية في إسبانيا، وغزو إيطاليا للحبشة، وتحويلها إلى جزء من الإمبراطورية الإيطالية، ثم إعلان إيطاليا أن البحر المتوسط بحيرة إيطالية، وأن هدفها استعادة الإمبراطورية الرومانية، وتأكيد موسوليني أنه سيدخل القاهرة على صهوة جواد أبيض.٢٧ وزاد من تفاقم الأوضاع خروج إيطاليا عن الشرعية الدولية بانسحابها من عصبة الأمم، واستقرار الأوضاع للنظام النازي في ألمانيا.

وفي ١٥ مارس ١٩٣٩م أعلن وزير الإعلام النازي جوبلز أن تشيكوسلوفاكيا أصبح لا وجود لها، وتلا منشورًا من هتلر يشير فيه إلى أن تشيكوسلوفاكيا في حالة انحلال، ويوجد في بوهيميا ومورافيا إرهاب مروع يعامَل به المواطنون الألمان. وأكد المنشور أنه من ١٥ مارس ستدخل قوات من الجيش الألماني ومن سلاح الطيران الألماني أراضي تشيكوسلوفاكيا، لتضمن لجميع أهالي البلاد أملاكهم وأرواحهم على قدم المساواة. وفي المقابل، فلعله لا يخلو من دلالة ذلك الخِطاب الذي وجهه الرئيس الأمريكي روزفلت (١٩٣٩م) وقال فيه: «حدث في غضون الشهور الأربعة الأخيرة، أن أصبح من المحتمل، عن طريق أبحاث دوليو في فرنسا، وكذلك فيرمي وزيلارد في الولايات المتحدة، أنه في الإمكان إحداث تفاعل نووي متسلسل في كتلة كبيرة من اليورانيوم، ليتولَّد — عن طريق ذلك — كميات هائلة من الطاقة، ومقادير كبيرة من عناصر جديدة مشابهة للراديوم، ويبدو من شبه المؤكد الآن أن هذا أمر يمكن إنجازه في المستقبل القريب، وسوف تؤدي هذه الظاهرة الجديدة كذلك إلى إنتاج قنابل، ومما يقبل التصور، وإن كان ذلك على نحوٍ أقل تأكيدًا بكثير، أنه ربما يمكن أن تكون هذه القنابل من نوع جديد له قوة قصوى.»

•••

كانت نذر الحرب تلُوح في الأفق، لكن اقترابها بدا أمرًا صعب التصديق بعد. ربما تنطلق رصاصة طائشة، فتفتح الجحيم أبوابها، وقد يهبط السلام على القلوب، ويعيش الناس على الأرض في إخاء وسلام.٢٨ وكما يقول التابعي، فقد كان هتلر يدق طبول الحرب في صباح، وموسوليني يخطب في كل يوم عن حرابه التي تبلغ ثمانية ملايين، والتي تنتظر إشارته بالهجوم.٢٩ كان الأمل الوحيد لإنقاذ السلام — كما يقول الفنان في «أزهار» — أن ينجح الحلفاء في عقد محالفة مع الاتحاد السوفييتي لوقف المد الهتلري، ولكن هتلر سبقهم فيما فشلوا فيه، فعقد ميثاق صداقة وعدم اعتداء مع الاتحاد السوفييتي. وكان ستالين قد أظهر عداءه للنازي قبل إعلان الحرب في قوله لإيدن: «إذا قالت هذه الجزيرة الصغيرة — بريطانيا — لألمانيا: إنني لن أعطيك أية أموال أو مواد خام أو معادن، فإن السلام في أوروبا سيتأكد.»٣٠ واهتزَّت ثقة أعداد من المثقفين — حتى ذوي الاتجاهات التقدمية — عندما وقَّع الاتحاد السوفييتي ميثاق عدم الاعتداء مع ألمانيا النازية.٣١ وزاد من استيائهم أن عام ١٩٣٨م مثَّل ذروة تسلُّط حكومة ستالين على الحكم في الاتحاد السوفييتي، بواسطة القمع والقهر للمفكرين والأدباء والمواطنين العاديين، والتصفية الجسدية لمن سُموا أعداء النظام.٣٢

•••

وفي الثلث الأخير من عام ١٩٣٨م بدأت نذر الحرب تلوح: آلاف من جنود الاحتياط الفرنسيين هرعوا إلى خط ماجينو ومناطق الحدود … هتلر يعلن في بساطة: «فليعطِ السيد بنيش الحرية لمقاطعات السوديت، وإلا ذهبنا نحن وأعطيناهم إياها.» فرنسا وإنجلترا والاتحاد السوفييتي تهدد بدخول الحرب إذا تعرضت تشيكوسلوفاكيا للغزو النازي. كان جو العالم السياسي — كما يقول الفنان (حمار الحكيم): «قد اكفهر اكفهرارًا ينذر بالويل، فقد طغت شهوة الاستعباد في نفوس شعوب تُسمي أنفسها راقية، فنبذت تعاليم أولئك الذين عرفوا أنفسهم فكشفوا للإنسانية عما في نفسها من جمال وصفاء، وسلَّمت أمورها لأولئك الذين جهلوا أنهم جهلاء، فأيقظوا فيها غرائز الجشع والظلم والدماء.»٣٣
خيم على العالم شبح الحرب، وترددت أسماء هتلر وتشمبرلن على كل لسان في الشرق والغرب، وتأهب الجنس البشري لمقتلة قذرة، ولمد صفوف القبور إلى ما لا نهاية، والملك فاروق مستسلم لشهواته، والزعامات الحزبية تخوض ضد بعضها البعض صراعات ضارية، و«الحرب على الأبواب، حرب القتلى والجثث والفرص.»٣٤ ويضيف الراوي: «حرب أم سلام؟ أسينتصر المقامر المجنون، أم الشيخ المسالم ذو المظلة السوداء والشاربَين المرتخيين؟»٣٥
أما صحف الفترة — قبل نشوب الحرب مباشرة — فمنها: مجلس شيوخ وانزج يقرر بالإجماع عودة وانزج إلى الرايخ الألماني، الوطن الأم … هتلر يوجه إنذارًا نهائيًّا لبولندا … بولندا تعلن التعبئة العامة … الجيوش الألمانية على أهبة الزحف في أي لحظة … إنجلترا تعلن حالة الطوارئ في الجيش والأسطول.٣٦
وعلى الرغم من إعلان إنجلترا وفرنسا أنهما ستدافعان عن بولندا إذا ما اعتدت عليها دولة أخرى — تعنيان ألمانيا بالطبع — فإن الفوهرر واصل إعداده لغزو بولندا، وحشد جنوده على حدود بولندا التي أعلنت حالة الطوارئ، وحشدت قواتها المسلحة. وكان توقيع ميثاق عدم الاعتداء بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا في ٢٩ أغسطس ١٩٣٩م حافزًا لهتلر على شن هجومه على بولندا فجر الأول من سبتمبر ١٩٣٩م.٣٧ ففي مارس وأبريل ١٩٣٩م قدَّم هتلر إلى بولندا طلبًا بضم وانتزج إلى الأراضي الألمانية، وبالتنازل عن طريقٍ، وعن وصلة من السكك الحديدية، عبر إقليم بومورز Pomorze البولندي. وبعد الرفض البولندي المتوقع، اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا في الصباح الباكر للأول من سبتمبر ١٩٣٩م، من أربع جهات دون إعلان سابق للحرب.٣٨ ورغم المقاومة الضارية، فإن القوات البولندية لم تستطع الصمود أمام الهجوم الهتلري، وتلا ذلك إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا بعد أن كانت قد ضمنت في مارس الدفاع عن بولندا، ثم أعلنت فرنسا الحرب ضد ألمانيا أيضًا، وكانت هي الأخرى قد ضمنت الدفاع عن بولندا.٣٩ وحين اخترقت القوات الروسية حدود الاتحاد السوفييتي وبولندا بهدف استرداد الأراضي التي اقتُطعَت من الاتحاد السوفييتي في معاهدة «برست ليتوفسك» توضح أن ميثاق الاتحاد السوفييتي الألماني كان — في حقيقته — اتفاقًا بين الدولتين على تقسيم بولندا بما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى.٤٠
كان مؤتمر فرساي — بالدول العديدة التي اصطنعها، والتقسيمات الجغرافية التي توصَّل إليها، دون مراعاة لعوامل القوميات المختلفة — سببًا مباشرًا في التعجيل بالحرب العالمية الثانية. فقد ضُمَّت مناطق إلى دول تختلف عنها في اللغة، وخصت المناطق الصناعية دولًا، بينما انتُزعت من دول أخرى. وعمومًا، فقد كانت حسابات كل دولة — في الأغلب — خاسرة، ومن ثَم بدأت الحروب المحدودة لاستعادة الأجزاء السليبة من الوطن، أو قضم أجزاء مهمة، فهاجمت اليونان تركيا، وغزا الرومانيون واليوجوسلاف المجر، واستولت بولونيا — عنوة — على إحدى المدن الليتوانية، وضمَّت ليتوانيا إليها — في المقابل — «ميمل» التي كانت جزءًا من ألمانيا، وابتلعت يوغوسلافيا دولة «الجبل الأسود»، واندلعت الحرب بين الاتحاد السوفييتي وفنلندا، وبين الاتحاد السوفييتي وبولونيا.٤١

•••

كان الخطر على مصر متوقعًا، بحكم موقعها الجغرافي الدقيق، ووجود قوات أحد الأطراف المتنازعة على أرضها. وفي ١٩٣٨م كثَّفت القوات المسلحة المصرية استعداداتها للحرب، فصدرت الأوامر إلى الأورطة الثانية مشاة بتوزيع قواتها على خزانات ومنشآت وكباري الوجه القبلي. كما رابطت قوات عند خزان أسوان، وتم تحصين السد، ومنع مرور الأفراد والمركبات والسيارات على الخزان، فيما عدا موظفي إدارة الخزان الذين حصلوا على تراخيص تخول لهم المرور إلى مكاتبهم. واشترت حكومة محمد محمود باشا مليون كمامة للوقاية من الغازات، تحسبًا لتطورات الأحداث المقبلة. وفي ١٤ سبتمبر ١٩٣٨م تفقَّد الملك فاروق خطوط الدفاع في الصحراء الغربية، كما أعلنت الدولة إشرافها المباشر على كافة المرافق الاقتصادية بصورة صارمة.٤٢
وقد حاول الألمان والإيطاليون اكتساب مساحات ودٍّ بين الرأي العام المصري، فتسلَّم موسوليني في مدينة بنغازي الليبية سيف الإسلام، وأعلن أن إيطاليا ستحمي الإسلام في العالم. وزار الماريشال بالبو القاهرة مرتين، وأكد — في كل مرة — تأييد بلاده لاستقلال مصر، وزار رئيس الغرفة التجارية المصرية برلين، فاستقبله هتلر بنفسه، وأقام حفلًا لتكريمه، ومنحه وسامًا.٤٣ ويتحدث الرجلان (إني راحلة) عن أسعار البورصة والقطن والحرب القادمة، وعن موقف تشمبرلن مع هتلر، ونجاحه في إقرار السلم المؤقت.٤٤

هوامش

(١) حبيب زحلاوي، يقظة ضمير، الأنجلو المصرية، ١٩٦٠م، الطبعة الثانية.
(٢) عصب الحرب، ٥.
(٣) المرجع السابق، ٥-٦.
(٤) المرجع السابق، ٦-٧.
(٥) عصب الحرب، ٧.
(٦) نجيب محفوظ، وجهًا لوجه، بيت سيئ السمعة، مكتبة مصر.
(٧) عبد الرحمن الشرقاوي، الشوارع الخلفية، الشركة العربية للطباعة والنشر، ١٩٥٨م، ١٨٣-١٨٤.
(٨) محمود البدوي، قصة القصر، قصص من روسيا، مكتبة مصر.
(٩) التطور الاقتصادي في مصر، ٥٣.
(١٠) محمد عبد الحليم عبد الله، قصة لم تتم، مكتبة مصر، ١٨٦.
(١١) محمود دياب، أحزان مدينة، هيئة الكتاب، ١٠٦.
(١٢) هتلر في الميزان، ٢٦.
(١٣) المرجع السابق، ٢٧.
(١٤) اليسار المصري، ٥١.
(١٥) هتلر في الميزان، دار الكتاب العربي ببيروت، ١٤.
(١٦) «الاتحاد» الإماراتية، ١٠/ ٢/ ١٩٨٣م.
(١٧) لويس عوض، العنقاء، دار الآداب ببيروت.
(١٨) اللطائف المصورة، ٢٨/ ٢/ ١٩٢٧م.
(١٩) عز الدين حمدي، كأسا، دموع، مطبعة عباس عبد الرحمن، ١٩٣٩م.
(٢٠) محمود كامل، مصر الغد تحت حكم الشباب، ١١١-١١٢.
(٢١) قضية وادي النيل، ٣٩.
(٢٢) الأهرام، ١٠/ ١٠/ ١٩٨٧م.
(٢٣) العصر الحديث، ١٢/ ٢/ ١٩٧٤م.
(٢٤) المجلة الجديدة، ٥/ ٥/ ١٩٣٨م.
(٢٥) مذكرات عبد المغني سعيد، العمال، ١٠/ ٢/ ١٩٧٢م.
(٢٦) مصر الغد تحت حكم الشباب، ١١١.
(٢٧) محمد عودة، كيف سقطت الملكية في مصر؟، روز اليوسف، ٣١.
(٢٨) نفوس مضطرة، ١١٤.
(٢٩) محمد التابعي، مصر، سنوات ما قبل الثورة، ١٨٢.
(٣٠) العصر الحديث، ١٢/ ٢/ ١٩٧٤م.
(٣١) العنقاء، ٢٤.
(٣٢) ناتاليا فيكو، موزاييك الحب والموت، ت. علي فهمي عبد السلام، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٦م، ٢٠.
(٣٣) حمار الحكيم، ١٤٣.
(٣٤) سعد مكاوي، الزمن الوغد، هيئة الكتاب.
(٣٥) نفوس مضطربة، ١٥٠.
(٣٦) الدكتور خالد، ٥٧.
(٣٧) مذكرات عبد المغني سعيد، العمال، ١٠/ ٢/ ١٩٧٢م.
(٣٨) مصر والحرب العالمية الثانية، ٣.
(٣٩) تاريخ العالم، ٢٠٩.
(٤٠) العمال، ١٠/ ٢/ ١٩٧٢م.
(٤١) محمد خطَّاب، المسحراتي، الطبعة الأولى، ٤١-٤٢.
(٤٢) مجلة ماتش الفرنسية، ١٦ فبراير ١٩٣٨م.
(٤٣) التاريخ السري لمصر، ١٢١.
(٤٤) يوسف السباعي، إني راحلة، مكتبة مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥