… ثم قامت الحرب

في أواخر الثلاثينيات، أخذت الصورة وضعًا مغايرًا، فبعد أن كان أحمد عبد الجواد يلقم أمينة — في اللحظات التي يبدِّل فيها ثيابه، عقب عودته من سهرته الليلية — بعضًا مما يحدث في الدنيا، مثل تولي السلطان فؤاد العرش، ونفي سعد، وقيام ثورة ١٩١٩م، وحدة الغلاء — حتى ارتفاع الأسعار كانت، وهي سيدة البيت، لا تدري عنه إلا من فم السيد! — أصبح السيد (السكرية) قعيد البيت، بتأثير الشيخوخة والمرض، وأمينة تقضي سحابة يومها في زيارة خديجة وعائشة، وفي التردد على أضرحة الأولياء التماسًا للبركة، ولشفاء الزوج المريض، ثم تروي للسيد بعضًا مما يحدث في الخارج، أو مما يتبادل أمره الناس.

وكان إعلان الحرب العالمية الثانية من بين الأخبار المهمة التي سمع بها أحمد عبد الجواد — لأول مرة — من أمينة:

«يتحدثون في كل مكان عن الحرب، يقولون إن هتلر هجم.

تساءل أحمد عبد الجواد: متأكدة؟!

– سمعتها بدل المرة مائة مرة … هتلر هجم … هتلر هجم.

– كان هذا متوقعًا من لحظة لأخرى.

– بعيد عنا إن شاء الله يا سيدي.

– قالوا هتلر فقط؟ وموسوليني؟ ألم تسمعي هذا الاسم؟

– اسم هتلر فقط.

– ربنا يلطف بنا … إذا سمعتم نداء على ملحق «البلاغ» أو «المقطم»، فاشتروه.

– كأيام غليون وزبلن … أتذكر يا سيدي؟ سبحان من له الدوام!»١
وأقبل الزوج (أحزان مدينة) على زوجته في الإسماعيلية، وهو ينشر أمام عينيها جريدة، ويقول: الحرب قامت … هتلر بدأ يحرق أوروبا … سيحرق العالم!٢

وحملت الصحف المصرية — في اليوم التالي لإعلان فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا الهتلرية — مانشيتات رئيسة تقول: قامت الحرب، فلنصمد لخطوبها، والله معنا — الساعة الحادية عشرة — الهر هتلر بين القول والعمل — اليوم الرهيب، حرب الجبابرة، على أي محور يدور القتال؟ لماذا أعلنت حالة الحرب؟

ويقول محمد صبيح إن الجالية الألمانية بمصر لم تكن تتوقع قيام الحرب في تلك الفترة، بدليل أن كثيرين من أثريائهم الذين سافروا للخارج صيفًا، تركوا منازلهم كاملة، بها أموالهم وأسرارهم، وكثير من الوثائق المهمة.٣

•••

في الحادي والثلاثين من أغسطس ١٩٣٩م أصدر أدولف هتلر أوامره بغزو بولندا، وفي الخامسة من صباح أول سبتمبر ١٩٣٩م أُطلقت الرصاصة الأولى، بداية للحرب العالمية الثانية التي تُعَد أشد الحروب بشاعة في تاريخ الحضارة الإنسانية. أعلنت القوات الألمانية تحركها للدفاع عن حدودها ضد هجوم مفاجئ للقوات البولندية، ولم تكن تلك القوات — البولندية — في الحقيقة سوى العشرات من جنود الألمان، تسللوا — خلال أسابيع سابقة — إلى بولندا، وقد ارتدوا الملابس العسكرية البولندية، ليشنوا — عبر الحدود — هجومًا مسرحيًّا، كان هو الذريعة التي بدأت بها ألمانيا حربًا امتدت ما يقرب من ست سنوات.

والملاحظ أن بداية الحرب تزامنت مع مرسوم أصدره هتلر في الأول من سبتمبر ١٩٣٩م بشأن تحسين النسل.٤
قال دحروج (الهارب من الإعدام) في مجلسه داخل الخرابة: إذن هي الحرب!٥ وكان القيظ شديدًا في مصر، والجو مشبعًا برطوبة خانقة، وكبار المصريين يلوذون بالمصايف في الداخل والخارج.٦
زار السفير الألماني وزارة الخارجية المصرية، وأبلغ المسئولين أن دولته في حرب مع بولندا، وعقد مجلس الوزراء المصري اجتماعًا طارئًا، أعلن — عقب انتهائه — الأحكام العرفية، وعيَّن علي ماهر حاكمًا عسكريًّا عامًّا، وفُرضت الرقابة تطبيقًا لمعاهدة ١٩٣٦م، وأرسلت الحكومة المصرية تستدعي مبعوثيها من الخارج.٧
كانت معركة بولندا — كما قال دلادييه — هي التي فتحت أعين الناس على قوة الأسلحة الألمانية المدمرة الهائلة.٨ وأعلن نيفل تشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا الحرب على الألمان «وتحدَّث عن تصميم إنجلترا وعزمها على ألا تضع نهاية للحرب إلا بعد أن تقتلع هتلر.»
«لم يكن بين الإنجليز، سواء القيادات أو المواطنين العاديين، من يتمنى أن تقع هذه الحرب التي لا يمكن أن تكسب إنجلترا من ورائها شيئًا، وإن كان من المرجح أن تخسر كل شيء، لكن الجميع أزمعوا على وجوب إعلانها، إيمانًا منهم أنهم لو نكصوا عن إعلانها لما استطاعوا أن يظلوا — بعد ذلك — دولة من الدرجة الأولى، فضلًا عن أن يكونوا إمبراطورية عظمى، وهكذا وجد الإنجليز أنفسهم في الحرب.»٩
وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي قد شارك — لاحقًا — في الهجوم على بولندا، مما طرح علامات استفهام، لم يحجبها قول تشمبرلن إن الهجوم الروسي كان منتظرًا، فقد برر ستالين ذلك الهجوم — بعد عامين — قائلًا: «ربما عجب الناس من إبرامنا معاهدة مع دولة خائنة مثل ألمانيا، هذا مبلغ احترامها لتعهداتها، ونحن لم نخطئ بهذا العمل لأننا كنا نعلم أنها دولة لا تعرف السلام، وتستطيع متى شاءت أن تنكث بعهدها، ما دام على حكمها رجال أمثال هتلر ورينتروب، ولكننا ربحنا في فترة مسالمتها؛ إذ تمكنَّا من الاستعداد لمجابهة الهجوم النازي الحالي.»١٠
أيَّد جان فيجول رأي ستالين، وأكد أن الخطوة الروسية تنطوي على بُعد نظر «فهم لم يكونوا يسمحون بتقدُّم الألمان في بولندا منتصرين، دون أن يحتاطوا لتأمين حدودهم، ولو أنهم سمحوا لهتلر بمواصلة التقدم حتى الحدود البولندية الروسية، لكان معنى ذلك إخلاؤهم الطريق إلى قلب روسيا، وقد اضطرت الفرق الألمانية المائة والسبعون إلى أن تقاتل الجيش الأحمر طويلًا، بعيدًا عن الأراضي الروسية.»١١
بالإضافة إلى ذلك، فإن المتابعين لم يتناسوا قول هتلر عن الاتحاد السوفييتي: «إن دولة واحدة فقط هي الدولة التي أشمئز من الاتصال بها أية صلة على الإطلاق، تلك الدولة هي روسيا الشيوعية.»١٢
قرأ الراوي (على الحافة) عناوين الجريدة — بالأحمر — على عرض الصفحة الأولى، ونص إعلان الحرب على ألمانيا بتوقيع الملك جورج السادس،١٣ وبادرت الحكومة المصرية — بعد أن أعلنت إنجلترا الحرب على ألمانيا — بتنفيذ شروط المعاهدة؛ قطعت علاقاتها الدبلوماسية ببرلين، وصادرت أملاك الألمان المقيمين في مصر، وقبضت على الرجال منهم، ونشطت في تصفية الإعلام النازي الذي كان قد نجح — من خلال زيارات لجوبلز وفون فرينتش إلى القاهرة — في إقامة بعض الدعائم القومية.١٤

كانت توقعات الناس قد تنبَّأت بهزيمة الحلفاء، وأشار إسماعيل لطيف إلى جماعة كبيرة من الإنجليز، وقال: إلى جهنم! من أين لهم هذا الأمل؟ ترى هل يصدقون أنفسهم؟!

قال كمال عبد الجواد: يُخيَّل إليَّ أن نتيجة الحرب قد تقررت غايتها الربيع القادم.

قال رياض قلدس: النازية حركة رجعية غير إنسانية، وسوف يتضاعف شقاء العالم تحت أقدامها الحديدية.

قال إسماعيل لطيف: ليكن ما يكون، المهم أن نرى الإنجليز في نفس الموضع الذي فرضوه على العالم الضعيف.١٥

•••

إذا كانت الحرب قد بدأت فعليًّا في سبتمبر ١٩٣٩م، فإنها بدأت قبل ذلك بسنوات، بل إنها — في الحقيقة — امتداد للحرب الأولى، وليست الفترة الفاصلة بينهما سوى فترة هدنة واستعداد لمواصلة القتال.

أسفرت الانتخابات البرلمانية في ٦ مارس ١٩٣٣م عن حصول الحزب النازي الذي يترأسه أدولف هتلر على ٢٨٨ مقعدًا في البرلمان، بينما لم يحصل الاشتراكيون، الذين تلوهم في الترتيب، إلا على ١٢٠ مقعدًا.

كانت تلك هي البداية الحقيقية لقيام الحرب العالمية الثانية. توالت التطورات، وتحوَّلت البلاد إلى ما يشبه المعسكر الهائل الذي جعل هدفه سيادة الجنس الآري على سواه من شعوب الأرض، وهو ما تبدَّى في شعار «ألمانيا فوق الجميع»، وسيادة الشعور بالتفوق الجرماني، والمطالبة بأن يكون كل مواطن جنديًّا، وأن تتعلم الأمة كلها الفنون العسكرية، وتوضحت معالم الصورة في إعلان هتلر اعتزامه استعادة الممر الأرضي الذي حصلت عليه بولندا عبر الأراضي الألمانية، ونقل الإعلام الأوروبي عنه قوله بضرورة محو فرنسا من خريطة القارة الأوروبية.

واللافت أنه على الرغم من تغير نظام الحكم في ألمانيا، فإن المهزوم كان يمتص مرارة الهزيمة، ويعاني تصدعًا نفسيًّا رهيبًا، لم يكن أمامه — لرأبه — إلا الانتقام، ليس من المنتصرين فحسب، وإنما من الجنس البشري كله، فهو — الآري — أرقى الأجناس وأقواها وأذكاها، ومن حقه أن يفرض سيطرته عليها — كذلك فقد كانت نصوص معاهدة فرساي التي عُقدَت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تعاني التهرؤ الذي ما لبث أن تبدَّل تمامًا بعد عشرين عامًا، إلى جانب التناقضات الضخمة القائمة — آنذاك — بين الدول الكبرى، توصلًا إلى فرض مصالحها الاحتكارية، واستلاب الموارد الأولية، ثم مواجهة الخطر الأكبر المتمثِّل في المعسكر الاشتراكي، بما يحمله من تهديدٍ للاحتكارات الإمبريالية، ومطامع التوسع.

كان وصول الحزب النازي إلى الحكم — في رأي غالبية المؤرخين — محاولة من قوى الاستعمار الغربي لبعث القوة العسكرية الألمانية، التي خرجت — من الحرب العالمية الأولى — مهيضة الجناحين، وكان الهدف دعم القوة الألمانية الفاشية، واستخدامها في القضاء على الاتحاد السوفييتي الذي كان تجسيدًا مؤكدًا لنجاح الفكرة الاشتراكية، وجد الاستعمار الغربي في الاتحاد السوفييتي أخطر ما يتهدد مصالحه وأحلامه التوسُّعية، وكان هتلر «صناعة غربية» دفعه التناقض الإمبريالي الذي أصبح يمثِّله، مقابلًا للاحتكارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، إلى شن عدوانه ضد القوى التي كان لها الفضل الأول في خلقه وتقويته وإعداده لمقاتلة عدوها الأكبر، لذلك فقد اعتبر البعض باعث الحرب هو الصراع بين أحزاب اليمين من المحافظين وبين أحزاب اليسار من الاشتراكيين والشيوعيين.

لقد تخلَّت الدول الغربية عن تشيكوسلوفاكيا، وسلَّمتها إلى ألمانيا الهتلرية كتعويضٍ لها عن تعهدها بمحاربة الاتحاد السوفييتي، بدلًا من بريطانيا وفرنسا، ثم كان استخدام تشيكوسلوفاكيا — كمصدر لتعزيز طاقات ألمانيا العسكرية — قد عزز مركزها الاستراتيجي، وضاعف من مواردها العسكرية، كما أحدث تبدلات كبيرة في علاقات القوة بين الدول الرأسمالية، ومكَّن ألمانيا من التفوق على بريطانيا وفرنسا في جميع المجالات الرئيسة.

وفي مارس ١٩٣٨م زحفت القوات الألمانية على النمسا، واحتلتها دون مقاومة، فإذا أضفنا إلى ذلك كله طموحات السيطرة والتملك في ذهن ديكتاتور نصف مجنون، فلعلنا نجد نيران الحرب العالمية الثانية قد اضطرمت من قبل نشوبها بسنوات، وبالتالي فإن الاكتفاء بمناقشة أحداث عام ١٩٣٩م، كمنطلق للحرب، خطأ.

الحرب العالمية الثانية — في تقدير الفنان — «ولدت يوم توقيع هدنة الحرب العالمية الأولى في عربة سكة حديد في غابة كومبيين بفرنسا، في ١١ نوفمبر ١٩١٨م، كانت نهاية الحرب بداية حرب جديدة.»١٦
ومنذ بدأت الحرب العالمية الثانية في ١٩٣٩م بضرب العاصمة البولندية وارسو، على مدى ستة وعشرين يومًا، وحتى انتهت بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، ثم على نجازاكي في ١٩٤٥م، شهد العالم الكثير من الأحداث المثيرة: «أوغلت الحرب، فلم تعف أحدًا، ولم يستطع أحد — مهما يُتَح له من اطمئنان أن يباعد ما بينه وبينها.»١٧ وكما يقول الفنان، فقد كان زعماء العالم آنذاك يضعون الحقد والكره في القلوب، ويصنعون القنابل والطائرات في المصانع، ثم مزجوا ذلك كله معًا، وصنعوا منه حريقًا عالميًّا كبيرًا.١٨
ويذهب محمد زكي عبد القادر إلى أن هتلر كان «يحظى بعطفٍ كبير، من الإنجليز أنفسهم» حين كان يجاهد لينهض ببلاده، ويعيد لها مكانتها. وتحدَّث الكاتب عن فضل ألمانيا على العلوم والفنون والآداب، ولم ينكروا عليها قَط أن تعود إلى مكانتها كدولة عظيمة، تشارك في بناء الحضارة … وتتالت الحوادث، فلم يخسر هتلر ما كان يحظى به من عطف فحسب، لكنه ساعد على أن ينقلب هذا العطف إلى حقد مرير، فقاد بلاده — من حيث يدري أو لا يدري — إلى معاداة العالم كله.١٩
توالت انتصارات الألمان … سقطت دول أوروبا الواحدة بعد الأخرى: بولندا، الدنمارك، النرويج، هولندا، بلجيكا، وكان الناس يتخاطفون الصحف: سقوط الضبعة … الغارات تدمر لندن … الألمان في سهوب روسيا … اليابان تدك الصين، وقال الرجل (الأعشاش المهجورة): «العالم أصابه الجنون، في كل مكان قتال، الكل يذبح الكل.»٢٠ قُتِل خمسة ملايين بولندي خلال شهر واحد.٢١ وفي ١٩ أبريل أُعلن من أوسلو نزول القوات الألمانية في مواني النرويج، واستيلاؤها على الدنمارك بعد مقاومة قصيرة، ولم تجد القوات الإنجليزية والكندية والفرنسية التي أرسلت لمساعدة الجيش النرويجي ما تدافع عنه،٢٢ واستسلمت هولندا «لأنه لا فائدة من المقاومة»٢٣ وألقى الجيش البلجيكي سلاحه بأمر من الملك ليوبولد.٢٤
وبعد أن اقتحمت القوات الألمانية أراضي هولندا وبلجيكا ولكسمبورج، خلَّف تشرشل تشمبرلن في حكومة ائتلافية،٢٥ وطرح السؤال نفسه: هل يدخل هتلر باريس؟ هل تسقط أجمل مدينة في العالم؟٢٦
وبالفعل، بدأ الهجوم الألماني على فرنسا صبيحة ١٣ مايو ١٩٤٠م، وقبيل نهاية النهار كانت قوات الألمان قد احتلت التلال التي تتحكم في ميدان المعركة، تبدَّد الأمل في خط ماجينو الذي تصوَّر الفرنسيون أنه حائط صد من المستحيل اختراقه، حطمته القوات الألمانية، وأذهلت فرنسا العالم كله بانهيارها التراجيدي، مع أن استعدادات قواتها المسلحة كانت قوية للغاية — بالقياس إلى استعدادات القوات الألمانية الغازية — كان الجيش الفرنسي يتألف من ٥٨ فرقة مسلحة تسليحًا جيدًا، في حين كانت القوات الألمانية تتألف من ٣٤ فرقة غالبيتهم من جنود الاحتياط، فيما عدا ١١ فرقة فقط.٢٧
دخلت الفرقة التاسعة المدرعة الألمانية باريس صباح ١٤ يونيو ١٩٤٠م، وكان سقوط باريس تأكيدًا لمكانة الجنرال الفرنسي لاميل، الذي أصر على المقاومة، وعلى حد تعبير الفنان فقد نطقت باسمه كل شفة، ولهج بذكره كل لسان فرنسي وهو مخلوع اللب،٢٨ ودخل هتلر باريس، وإلى جانبه جورنج مارين، ومر الموكب من تحت قوس النصر في ميدان «الأتوال».
لم يكن الفرنسيون — قبل الغزو النازي — يجدون في هتلر أو موسوليني خطرًا حقيقيًّا، وإذا ظهر أحدهما في نشرات الأخبار، فإن الفرنسيين كانوا يكتفون بالضحك، وبالقول: إنهم حواة!٢٩
ألَّف المارشال بيتان حكومة جديدة في فرنسا، ألقت سلاحها، وأعلنت الاستسلام في ١٧ يونيو ١٩٤٠م، لكن ديجول أعلن في اليوم التالي (١٨ يونيو) من الإذاعة البريطانية رفض الاستسلام، وخاطب الشعب الفرنسي بالقول: «هل يجب أن نفقد الأمل؟ هل الهزيمة أمر نهائي؟ لا، إن هذه الحرب حرب عالمية، أنا الجنرال ديجول، أدعو الضباط والجنود الفرنسيين أن يتصلوا بي، ومهما يحدث، فإن شعلة المقاومة الفرنسية يجب ألا تخمد، ولن تخمد» وقال ديجول: «لقد خسرت فرنسا معركة واحدة، ولكنها لم تخسر الحرب نهائيًّا، وقد يستسلم بعض رجالها الرسميون للآلام، ويتساهلون في حق بلادهم، واستعباد وطنهم، غير أن الحرب التي تخوضها فرنسا حرب عالمية، لم تلعب قواتنا العديدة، المنتشرة في أجزاء الإمبراطورية دورها بعد، فعلى جميع الفرنسيين أن يضحوا ويشاركوني الأمل، فالوطن في خطر، لا سبيل إلى إنقاذه إلا بالدفاع المجيد عنه.»٣٠
والواقع أن شخصية بيتان كانت عاملًا حاسمًا في قبول قسم كبير من الفرنسيين فكرة الاستسلام، برغم نجاح ديجول النسبي في تفنيد آرائه وتكذيبها، وإحياء روح المقاومة في نفس المواطن الفرنسي، بل إن جان ليجول يؤكد أنه لولا بيتان ما كانت حكومة فيشي،٣١ و«الشخصية التي كان يتمتع بها بيتان هي التي جعلت منه رئيسًا للدولة الفرنسية في المدة بين إبرام الهدنة وانهزام ألمانيا.»
اضطرت بريطانيا والولايات المتحدة والفاتيكان إلى الاعتراف بحكومة فيشي «لأسباب سياسية بحتة»٣٢ لكن تطورات الحرب دفعت فيشي إلى قطع علاقاتها مع لندن، مما أحدث ثغرة عميقة بين الفرنسيين في الداخل، وفي الخارج.

•••

في مايو ١٩٤٠م، بدأت ألمانيا الغارات على إنجلترا، غارات ليلية عنيفة، استمرت حتى مايو ١٩٤١م، مركزة ثمانية شهور، ومتباعدة أربعة شهور أخرى — ومنذ بدأت الحرب، وحتى نوفمبر ١٩٤٢م وإنجلترا لا تسمع إلا أنباء الهزائم، توالت الهزائم في ٣٨ شهرًا متصلة — كان التفوق لسلاح الجو الألماني منذ بداية الحرب إلى عام ١٩٤١م، وتعرضت المدن البريطانية لغارات جوية متلاحقة، وبالذات في صيف ١٩٤٠م، بعد انتصار الألمان في معركة فرنسا،٣٣ وطرحت الأسئلة نفسها: ماذا لو أن الألمان زادوا في إيقاع تطوير الطائرات النفاثة؟ وماذا لو أنهم أفلحوا في تطوير القذائف الصاروخية، بحيث تصبح العاصمة البريطانية خرابًا، ويصعب مرابطة الحلفاء في نورماندي؟ وماذا لو أن البحوث الألمانية الذرية أسفرت عن نتائج إيجابية قبل نهاية الحرب بفترة؟

•••

قال أحمد شوكت: «الظلام يطبق على العالم حقًّا، ولكن ما دام هتلر لم يهجم على بريطانيا فثمة أمل في النجاة.»٣٤
لكن الألمان حوَّلوا هجومهم ضد الإنجليز، وبلغ من عنف الغارات الألمانية على بريطانيا أن عدد الطائرات المغيرة بلغ ثمانمائة طائرة في غارة واحدة،٣٥ وهدد هتلر بأنه سيقضي على بريطانيا بألف طائرة كل يوم،٣٦ و«ظهر للعالم أن في ألمانيا أعظم بعث عسكري مرعب عرفته البشرية.»٣٧
كانت طائرات هتلر تنشر الموت، وكشَّافات الإنجليز تمسح السماء بحثًا عنها،٣٨ وكتب اللورد كيلرن في مذكراته: «في ذلك الوقت — ١٩٤١م — اشتدت الغارات على المدن المصرية، وخاصة الإسكندرية ومدن القناة، وأصبح الموقف سيئًا بسبب الصعوبات التي نجمت عن هذه الغارات،٣٩ صارت المصابيح ضريرة، وصفارات الإنذار تولول في الليل، والذعر يتملك الناس وهم يسرعون إلى المخابئ، وأغاني السكارى تجرح هدوء الليل.٤٠ ووفدت إلى مصر وجوه لا حصر لها، حمراء وسوداء وصفراء، ولا لون لها، من كل الجنسيات،٤١ وقال الرجل (المسافات): «إنهم يحاربون بعضهم في بلادنا.»٤٢
ولم يكن الحال — كما يشير اللورد كيلرن في ذكرياته — أفضل في سوريا ولبنان، «حيث توجد قوات الفيشي الفرنسية التي استسلمت لألمانيا، وفي العراق تدهور الموقف عندما حاصر الكولونيل رشيد علي الكيلاني المعادي لبريطانيا قواتنا هناك.»٤٣ وفي بضعة أشهر استطاع الألمان اجتياح يوغوسلافيا واليونان، «وانسحبت قواتنا من جزيرة كريت في مايو، وفي نهاية هذا الشهر أيضًا بدأ الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي، وكانت مشكلتي الأولى في القاهرة — والكلام للورد كيلرن — كيف نخفف من وقع هزيمتنا على الرأي العام المصري حتى لا ينقلب ضدنا؟»٤٤

•••

في ١٠ يونيو ١٩٤٠م أعلنت إيطاليا الحرب على إنجلترا وفرنسا، وقال موسوليني في خِطابه الخطير الذي أعلن فيه الحرب: «ليس في نية إيطاليا أن تجر في أذيال النضال جاراتها سويسرا ويوغوسلافيا واليونان وتركيا ومصر، ويتوقف هذا على مسلك تلك الدول.»

وفي مساء اليوم نفسه، أعلنت الحكومة المصرية قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا: «أما وقد أعلنت إيطاليا الحرب على بريطانيا وفرنسا، فقد تطور الموقف، وأصبح على مصر مسئوليات أضخم مما كانت، وعلى سكان البلاد أن يطمئنوا إلى أن حضرة صاحب الجلالة الملك وحكومته والبرلمان، عامِلون جميعًا على توفير سلامتهم، والسهر على مصلحتهم، لا يحول حائل دون بلوغ غايتهم، وإنني أهيب بهم أن يتذرعوا بالهدوء والحكمة حتى تمر الحوادث المحزنة التي بعثت الشقاء والبؤس في العالم بسلام.»٤٥
وطالبت الحكومة رعايا إيطاليا بتسجيل أسمائهم ومحال إقامتهم، وصادرت أملاكهم، وأصدر مجلسا البرلمان قرارًا «بالموافقة على سياسة الحكومة بتقديم كل مساعدة ممكنة إلى الدول الديمقراطية المناضلة في سبيل العدالة والحرية.»٤٦

أما بالنسبة لدخول مصر الحرب ضد إيطاليا، فقد حدده علي ماهر في ثلاث حالات:

  • إذا بادرت القوات الإيطالية بالتوغل في الأراضي المصرية.

  • إذا ضربت الطائرات الإيطالية مدن مصر.

  • إذا قامت الطائرات الإيطالية بغارات على مواقع الجيش المصري.٤٧

توقع المصريون غارات إيطالية من المطارات الواقعة تحت سيطرة الإيطاليين في ليبيا، كما نشأت احتمالات نتيجة الوجود العسكري الإيطالي في البلد المتاخم لمصر، واحتمالات أشد خطورة نتيجة الوجود الإيطالي في الحبشة، عند منابع النيل.

ويقول رضوان ياسين (السكرية): بدخول إيطاليا الحرب، أصبح الموقف بالنسبة لمصر شديد الخطورة.

– ربما تحوَّلت هذه الغارات الاسمية إلى غارات فعلية.

– ولكن هل لدى الإنجليز قوة كافية لصد الزحف الإيطالي المتوقع؟ لا شك أن هتلر سيترك مهمة الاستيلاء على قناة السويس لموسوليني.

– هل تقف أمريكا متفرجة؟

– مفتاح الموقف الحقيقي في يد روسيا.

– لكنها حليفة هتلر.

– الشيوعية عدوة النازية، ثم إن الشر الذي يتهدد العالم بانتصار الألمان أضعاف ما يتهدده بانتصار الديمقراطيات.٤٨

ثم قام خلاف بين علي ماهر والسلطات البريطانية، قدَّم رئيس الوزراء — على إثره — استقالته، وخلفه في الحكم حسن صبري باشا.

وفي أول اجتماع لمجلس وزراء حسن صبري (٢٧ يونيو ١٩٤٠م) قرر المجلس دخول الحرب إذا وصلت القوات الإيطالية مرسى مطروح، أول وأكبر ميناء مصري في الصحراء الغربية.٤٩
وفي ١٢ سبتمبر ١٩٤٠م، عبرت القوات الإيطالية الحدود المصرية، بدأت هجومها الذي أعدَّت له من يونيو، وكانت قد سبقته غارات جوية مكثفة على المدن المصرية، ووصلت قواتها إلى سيدي براني، وإن تعرضت لخسائر عظيمة من سلاح الجو البريطاني، كما تعرضت المراكز الإيطالية على طول الساحل الليبي لضربات مدمرة من الأسطول البريطاني.٥٠
وطرح الزحف الإيطالي على مصر قضية إعلان مصر الحرب على إيطاليا، فقد كانت سياسة الدولة عدم الاشتراك في الحرب إلا إذا واجهت مرافق البلاد اعتداء مباشرًا، مع ذلك، فقد أعلنت الحكومة أن الغزو الإيطالي لا يغيِّر من الموقف شيئًا، وأثار ذلك الإعلان آراء متباينة، تبدأ بالمطالبة بوجوب الدفاع عن السلوم وبقبق وسيدي براني وكل حفنة من تراب مصر، التي هي في نظر المصريين جزء من الوطن الذي يقدسونه،٥١ وتنتهي بالقول إن الحرب تقع بين دولتين على أرض دولة ثالثة تحتلها إحداهما، وعلى ذلك، فإن «الزعم بأن الاعتداء موجَّه إلى مصر غير صحيح، والمصريون لا تنقصهم الوطنية، بل هم مستعدون للذود عن حياض بلادهم، ولكن الهجوم لم يصل إلى حدٍّ يهدد مدننا أو قوتنا العسكرية، فلا شأن لنا بهذه الحرب.»٥٢

عمومًا، فقد عارضت الأحزاب القائمة فكرة دخول الحرب، فيما عدا السعديين — أحمد ماهر والنقراشي — الذي ظل على رأيه بوجوب إعلان الحرب فورًا (وسنعود إلى مناقشة هذه النقطة في فقرات تالية).

كانت إيطاليا طامعة في مصر، وكما يقول جان فيجول: «لم تعُد مطامع موسوليني خافية على أحد.»٥٣ وانتشرت الشائعات الموجهة بأن إيطاليا ستغزو مصر، وأنها ستلقى تأييدًا من الشعب المصري الذي يحبها، ولا يأنف من مساعدتها.»٥٤ وراجت شائعات أن موسوليني أعد جوادًا أشهب ليمتطيه عند دخوله القاهرة.
كان بوسع إيطاليا — كما أعلن تشرشل فيما بعد — أن تدفع بقواتها المرابطة في ليبيا — عقب سقوط فرنسا مباشرة — إلى وادي النيل والسويس دون مقاومة، لكنها لم تفعل، مما أتاح للقوات البريطانية على الحدود المصرية والسودانية أن تدعم نفسها، وتحتفظ بمواقعها الهامة. وكان عدد القوات الإيطالية في ليبيا، في نهاية ١٩٤٠م، ١٤٠٠ ضابط و٤٠٠ ألف جندي، في حوزتهم ٢٠٠٠ مدفع ميدان، و١٥٠٠ مدفع ميكانيكي، و٢١ مليون قذيفة و١٫٥ مليون صندوق ذخيرة، و١٣٠ طنًّا من مواد الحرب، و٨٠٠ دبابة، و١٠٠٠٠ سيارة، بينما لم تكن قوات الحلفاء تزيد عن ٧٠ ألف جندي بين إنجليزي ونيوزيلندي وهندي، ومع ذلك فإن كفة الحلفاء ظلَّت راجحة.٥٥
قامت القوات البريطانية بهجوم مضاد على القوات الإيطالية التي وصلت إلى سيدي براني، فدحرتها، وقضت على حوالي ١٥٠ ألف جندي، وساقت أعدادًا هائلة من الأسرى إلى المعتقلات.٥٦ وواصلت القوات البريطانية التقدم إلى برقة، فاستخلصتها من الإيطاليين الذين ظلوا بها ٣٠ عامًا، وسلِمت مصر — نهائيًّا — من التهديد بالغزو الإيطالي.٥٧
قرر موسوليني — بعد أن أوقف زحف قواته — أن تنزل القوات الإيطالية على شواطئ اليونان، ونزلت بالفعل على شواطئ اليونان في ٢٨ أكتوبر من العام نفسه، وفي فبراير ١٩٤١م رأى هتلر أن الجيش الإيطالي عاجز تمامًا عن أن يغيِّر توازن القوى في الشرق الأوسط لصالح دول المحور، فضلًا عن أنه كان يرغب في إحراز نصر عاجل في أي ميدان، لتعويض هزائمه المتلاحقة في روسيا، وكان روميل — قائد القوات الأفريقية المدرعة — هو القائد الذي وضع فيه هتلر أمله لتحقيق ذلك.٥٨ وفي مارس ١٩٤١م ظهرت دبابات روميل على الأراضي الليبية.
قررت الحكومة وقف العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا في ٦ يناير ١٩٤٢م، وبررت قرارها بأن فيشي تقدم معاونة ملموسة لجيوش المحور في طرابلس عن طريق تونس، إضافة إلى أن سفن فرنسا التجارية تنقل إليها المؤن والذخيرة.٥٩
وبدأ اسم روميل يلمع، بعد أن حل الألمان محل الإيطاليين في القيادة،٦٠ وشنَّ روميل هجومه الكبير ضد القوات البريطانية في ٢١ يناير ١٩٤٢م.

وفي سبتمبر ١٩٤٣م، خرجت إيطاليا من الحرب، ووقَّعت معاهدة سلام مع الحلفاء.

•••

كانت خطة هتلر الاستراتيجية تسعى لاحتلال اليونان، وطرد البريطانيين من منطقة البحر المتوسط الشرقية، والاستيلاء على الشرق الأوسط بحركة تطويق ضخمة. وبينما كانت قوات روميل تحاول الاستيلاء — من ليبيا — على مصر، أطبقت قوات ألمانية أخرى على جزيرة كريت، وحاولت الاستيلاء على قبرص وسوريا والعراق.٦١
كان سقوط طبرق في قبضة القوات الألمانية، مؤشرًا بقرب غزوها مصر، وطغى حديث الهجوم الألماني — كما يقول أحمد حسين — على كل شيء، حتى على الطعام والشراب،٦٢ ثم أفلح روميل — وفق خطط عسكرية غير مسبوقة — في تحقيق نصر على قوات الإنجليز في الصحراء الغربية، وأباد وأسر فِرقًا بأكملها، وأسر القائد البريطاني أوكونور،٦٣
توالت أنباء اقتراب القوات الألمانية من مرسى مطروح، فبدا الشعب — على حد تعبير أحمد حسين — في شبه فرح وعيد، وكانت المقاهي والمجتمعات والأندية والشوارع والأزقة تغص بالمصريين الذين تتجلى الشماتة في أقوالهم، ويطفح البشر من وجوههم، ولا حديث لهم إلا اندحار الإنجليز، وقُرب دخول الألمان، «غير حاسبين حسابًا إلى ما قد يجرُّه ذلك عليهم من ويلات نتيجة المعركة الفاصلة.»٦٤
جاوزت قوات المحور مرسى مطروح، واستولت على فوكه والضبعة، وتقدمت إلى العلمين، وبدت الإسكندرية قريبة،٦٥ ونتيجة لهزيمة قوات الإنجليز في الصحراء الغربية، تكاثر جنودها في قلب العاصمة، يغطُّون انكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا في مكان،٦٦ ولجأت أعداد كبيرة من الإنجليز الموجودين في مصر إلى الفرار عبر الحدود المصرية السودانية، والمصرية الفلسطينية، وأخذ الأثرياء الذين ارتموا في أحضان الإنجليز — والتعبير للفنان — يعدون العدة للهرب إلى السودان،٦٧ كما لجأ أبناء الطبقة الوسطى، وما فوقها، إلى إخفاء جواهرهم وحليهم، وسحب ودائعهم من البنوك.٦٨
ساد الذعر أوساط المال والاقتصاد، وسحب معظم المودعين أموالهم من البنوك، وأصدرت وزارة المالية — للمرة الأولى — قرارًا بمنع تصدير الذهب من مصر إلى الخارج، (كان يوسف واحدًا من هؤلاء الذين فقدوا ثرواتهم في المضاربة بالبورصة)،٦٩ وترك أصحاب شركة صباغي البيضا إدارة شركتهم في يد إلياس أندراوس لحين عودتهم بعد زوال الخطر — وكانت المكافأة — بعد انتهاء الحرب — عضوية مجلس إدارة الشركة، إلى جانب عضوية مجالس شركات أخرى، ونفدت — في يومين اثنين — جميع الدراجات من محال بيعها في القاهرة.
ذاعت شائعة تقول إن الإنجليز سيحرقون مستودعات البنزين قبل انسحابهم، حتى لا تقع في أيدي الألمان، بحيث يستحيل استعمال السيارات في الانتقال.٧٠ وأشيع أن الإنجليز ينوون — عند انسحابهم — إطلاق الماء المالح في ترعة المحمودية، لكي تغرق جميع الأراضي الزراعية الواقعة على ضفتَيها،٧١ وانتشرت — بتقدم قوات روميل — شائعة أخرى، تقول إن الإنجليز طلبوا من الحكومة المصرية إغراق الدلتا إذا احتل الألمان الإسكندرية، فيصعب على الدبابات الألمانية التقدم.٧٢ يقول الراوي (الجنة العذراء): «انشغل فلاحو الوجه البحري بماء الفيضان، فقد كان النيل مرتفعًا يجري نحو الإسكندرية، وسمع الفلاحون همسات عن نية الإنجليز إغراق الوجه البحري بماء الفيضان لعرقلة تقدم الألمان، وكان هذا شيئًا مخيفًا.»٧٣

ويروي الفنان (الحصاد) أن عثمان دخل على سليم باشا شلبي، وقال له في ذعر: أرضينا كلها مهددة بالغرق.

– بالغرق؟! إنني لا أفهم شيئًا.

– بلغني أن مدير مكتب وزير الحربية دخل عليه، وقال له: إن الجنرال ستون في طريقه لمقابلة معاليه، وإن الجنرال قادم، ليطلب من معاليه التوقيع على أمرٍ بقطع جسور النيل، وإغراق مديرية البحيرة كلها، إذا دعت الضرورة إلى ذلك.٧٤
كان الإنجليز قد وضعوا خطَّين للدفاع في خططهم: خط عن يسار ترعة الزمر، وخط عند مصرف المحيط، وصادف الاستعداد لقطع الجسور قدوم فيضان النيل في أغسطس، وعلى الرغم من كل محاولات أصحاب الأراضي لمنع الإنجليز من الإقدام على تلك الخطوة، فإن المياه أطلقت بالفعل، وبدأ إغراق الأراضي، وغرق من المنصورية خمسة وأربعون بيتًا، ومن برقاش خمسة وخمسون بيتًا، وراحت المياه تزحف، وتبتلع، وتدمر، قبل أن تصدر الأوامر — متأخرة بعض الشيء — بوقف الإغراق، فلم تعد ثمة ضرورة لذلك بعد أن هُزم الألمان في العلمين،٧٥ وقيل إن الإنجليز سيدمرون خزان أسوان والقناطر الخيرية لكي يغرقوا أراضي الدلتا، ويحولوها إلى بركة هائلة من الطين تغوص فيها دبابات الألمان.٧٦
ظلَّت أسئلة الناس قائمة طيلة أعوام الحرب: هل يسحق هتلر قوات الحلفاء في العلمين، أو يهزمونه في النهاية؟ وهل ينتصر الوفد بزعامة مصطفى النحاس أو مكرم عبيد وكتلته الوفدية المنشقة؟٧٧ وكانت أحاديث جلسات السمر — في مدن الصعيد وقراه — عن أخبار المحاصيل والزراعات، ومبيعات البصل والفول، وتطورات الحرب، واكتساح جيوش هتلر أوروبا، وغزو باريس، وهزائم دنكرك، وتقدم قوات روميل، ونقص سماد نترات الشيلي نتيجة لصعوبة استيراده.٧٨
ومع أن القوات الألمانية كانت أقل من القوات الإنجليزية، فإن روميل تمكَّن من احتلال بنغازي في ثمانية أيام، وواصل تقدمه إلى طبرق، ثم سقطت طبرق، حصن الإنجليز في ليبيا،٧٩ في ٢١ يونيو ١٩٤٢م، بعد مقاومة لم تستغرق بضع ساعات، وكان مقدرًا لها ألا تسقط إلى الأبد،٨٠ وأسر أفراد حاميتها الذين بلغوا ٢٥ ألف ضابط وجندي، وكتبت «الجارديان» البريطانية: «الهزيمة شيء، والفضيحة شيء آخر.»٨١
كان سقوط طبرق إعلانًا بتدهور الأوضاع العسكرية لقوات الإنجليز، وسادت موجة من الفزع في صفوفهم، قابلتها موجة ابتهاج في صفوف الغالبية من الشعب المصري، مجرد هزيمة الإنجليز دون تدبُّر ما قد ينتهي إليه الأمر من نتائج أخرى، كان مبعث فرح للمصريين.٨٢
وفي ٢٩ يناير ١٩٤٢م سقطت بنغازي في يد قوات روميل، وانهارت خطوط الدفاع البريطانية في الصحراء، وأصبح الطريق إلى الإسكندرية مفتوحًا،٨٣ ونشرت الصحف: «روميل يزحف إلى الإسكندرية.»٨٤ ووصل الجيش الأفريقي إلى مرسى مطروح في ٢٦ يوليو، وكان معنى ذلك «هو الإشارة لكلٍّ منا في مصر بأن نهاية الإنجليز قد تحققت، وأن دخول الألمان مصر بات منتظرًا من ساعة لأخرى.»٨٥
ثم جاوزت قوات الألمان أبواب العلمين في أول يوليو، وأصبحت على مبعدة ٤٠ ميلًا فقط من الإسكندرية،٨٦ وانتشرت المدافع في شوارع الإسكندرية، وفوق أسطح البنايات العالية، كما انتشرت المناطيد،٨٧ وأحرقت السلطات البريطانية الكثير من أوراقها في مقر قيادة الشرق الأوسط في جاردن سيتي،٨٨ وسرت إشاعات بأن الإنجليز قرروا إغراق منطقة المكس وبعض مناطق غرب الدلتا، لتعويق زحف قوات روميل، والاستعداد للانسحاب من مصر،٨٩ وأنهم يدرسون بالفعل وسائل الجلاء عن القاهرة، ونقل قيادتهم إلى جهة أخرى.

•••

راجت أسطورة النازي والرايخ الذي لا يُهزَم، بعد أن اشتدت الغارات على المدن المصرية، وبالذات مدينة الإسكندرية ومدن القناة، وتدهورت الأوضاع في سوريا ولبنان، وحاصر رشيد علي الكيلاني قوات الإنجليز في العراق، واستطاعت القوات الألمانية اجتياح يوغوسلافيا واليونان، وانسحب الجيش الإنجليزي من جزيرة كريت، كما بدأ الغزو الألماني لأراضي الاتحاد السوفييتي.

بسط هتلر سيطرته على أوروبا من النرويج إلى اليونان، ومن شاطئ الأطلنطي إلى نهر الفولجا وجبال الأورال، أما في أفريقيا، فقد كانت قوات روميل تدق أبواب مصر من الصحراء الغربية. فبعد أن استولى المحور على اليونان، أعدَّ خطة تهدف إلى تحقيق ثلاثة أمور: شل حركة تركيا، وتخويفها، باحتلال أقرب الجزر إلى الدردنيل، وإغراء إسبانيا بالانضمام إليه في الهجوم على جبل طارق، وشن هجوم قوي في الصحراء الغربية، هدفه احتلال مصر.٩٠
نجح الإنجليز في إيقاف الهجوم الألماني على مشارف الإسكندرية والدلتا، وإن ظل الخطر جاثمًا، وتدفقت قوافل الإغاثة من كل القواعد العسكرية في العالم، وعزلت بريطانيا قادتها العسكريين في الشرق الأوسط، وعيَّنت قادة جددًا، أبرزهم مونتجمري الذي بدَّلت خططه واستراتيجياته تطورات الأحداث.٩١

وإذا كان الكثيرون قد ظنوا أن الحرب أوشكت على النهاية بانتصار الألمان في موقعة دانكرك، فإن موقعة العلمين بدَّلت الأمر تمامًا.

بدأ روميل هجومه العام في ٢ يوليو، لكن القوات البريطانية المصفحة — بمعاونة سلاح الطيران — استطاعت أن ترد الهجوم بهجومٍ مضاد — وحين واصل روميل هجومه في ٦ يوليو، انتهت النتائج إلى عكس ما كان يهدف إليه، فقد رد الجيش الثامن بهجومٍ عام مضاد.٩٢ وكما يقول الفنان فإن نفاد الوقود هو السبب في هزيمة الألمان؛ لقد اضطر هتلر إلى إصدار الأمر بأن يتوقف الفيلق الأفريقي حتى يحصل على حاجته من الوقود، وكان هذا التوقف سببًا في تدفق الإمدادات على القوات البريطانية، وصمودها حين تجدد القتال، ثم انهارت جيوش روميل، ووقع مئات الألوف من الجنود الإيطاليين أسرى في العلمين.٩٣ ويقول تشرشل: «كانت إنجلترا لا تحرز قبل العلمين أي انتصار، ولكنها لم تُصَب بعد العلمين بأية هزيمة.»
بعد موقعة العلمين، أخلت القوات الألمانية مواقعها في الأرض المصرية، موقعًا بعد الآخر، وقبل أن يعيد روميل تنظيم قواته، جاءته ضربة غير متوقعة بنزول القوات الأمريكية في مراكش (المغرب) والجزائر.٩٤

•••

حتى عام ١٩٤٠م لم تكن الحرب عالمية بالمعنى الدقيق للكلمة، فلم يكن في ساحات القتال سوى قوات فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فضلًا عن الدول التي كانت قد احتلتها ألمانيا في طريق هجومها على فرنسا، وهي النرويج وبلجيكا وهولندا، كانت حربًا أوروبية برغم أن دخول الكومنولث الحرب جعل تأثيرها يصل إلى معظم أنحاء العالم، وكانت القوتان المتصارعتان: ألمانيا التي تحاول أن تفرض سيطرتها على كل القارة الأوروبية، وبريطانيا وشعوب القارة التي تحاول منع تلك السيطرة.٩٥ وبدأت فرنسا وبلجيكا، ثم إنجلترا، في تجنيد رعاياها في مصر، وتدريبهم، وترحيلهم إلى جبهات القتال في أوروبا.٩٦

ثم تحددت عالمية الحرب — على نحوٍ مؤكد — بالهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي، في صباح الأحد ٢٢ يونيو ١٩٤٠م.

كانت كل التوقعات تشير إلى أن هتلر — بعد أن فرغ من احتلال يوغوسلافيا واليونان، وثبَّت مركزه في شرق أوروبا — سينقض على الجزر البريطانية، وكانت النتيجة الحتمية لذلك — فيما يشبه الإجماع — أن ينقلب مصير العالم كله، وأكد جان ليجول أنه لولا بحر المانش لما سلِمت بريطانيا هي الأخرى من براثن هتلر،٩٧ لكن هتلر دفع قواته نحو الشرق بدلًا من الغرب، نحو الهاوية التي ما لبثت أن ابتلعته.٩٨

أصيب الاتحاد السوفييتي — في البداية — بهزائم فادحة، وتنبَّأت التحليلات بقرب سقوطه، لكنه ما لبث أن استرد عافيته، وتوالت انتصاراته على النازي حتى دحرهم تمامًا، بعد أن كانت القوات الألمانية قد نجحت، في الفترة السابقة من الحرب، في الاستيلاء على النمسا وتشيكوسلوفاكيا والدنمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا ونصف بولندا ومعظم فرنسا والسواحل الغربية الأوروبية، من المحيط المتجمد إلى خليج بسكاي، وخلت القارة الأوروبية من أي أثر للقوات البريطانية.

أقدم هتلر — بعد السيطرة المؤكدة للقوات الألمانية على معظم القارة الأوروبية — على الغلطة التي كلَّفته القضاء على العسكرية الألمانية، وعلى حياته شخصيًّا، فقد فشلت خطته الاستراتيجية في الحرب الصاعقة التي حققت بها جيوشه انتصاراتها في الساحة الأوروبية، فشلت تلك الخطة في الساحة السوفييتية، وبخاصة بعد أن قررت الحكومة — في منتصف أكتوبر ١٩٤٠م — مد الاتحاد السوفييتي — الدولة الصديقة! — بالعتاد الحربي، وأحدث القرار تأثيرًا بالغًا في العالم كله.٩٩

استطاع السوفييت — باتِّباع سياسة حرق الأرض التي سبق لهم اتباعها ضد نابليون في ١٨١٢م — أن يوقِفوا الهجوم الألماني، وأن يدحروه. وقف الهجوم الألماني على أبواب موسكو في أواخر ١٩٤١م، وقدِم شتاء ١٩٤٢م والألمان يعانون ظروفًا جوية سيئة، إلى جانب تناقص قدراتهم القتالية على مدى ثلاث سنوات من الحرب.

انطلق الهجوم الألماني حتى وصل إلى مشارف مدينة ستالينجراد الواقعة على نهر الفولجا، وهو طريق المواصلات لنقل بترول القوقاز إلى مصانع روسيا في الشمال، لكن المقاومة الأسطورية التي أبداها السوفييت في الدفاع عن ستالينجراد دحرت الهجوم الألماني، وأجبرته على التراجع، حتى أصابته من الخلف بضرباتٍ قاتلة،١٠٠ وبعد أن كان الكرملين مهدَّدًا بخطر السقوط، تحوَّل الهجوم إلى الرايخ الألماني، وسقط بالفعل في عام ١٩٤٥م.

•••

تم لهتلر السيطرة على أوروبا الغربية — باستثناء الجزر البريطانية التي عجز عن غزوها — ثم استدار ناحية الشرق، وحوَّل قاذفاته إلى الجبهة الروسية — منذ بدأ القتال فيها في ٢١ يونيو ١٩٤١م — بدأ هجومه على الاتحاد السوفييتي في ٢٢ يونيو ١٩٤١م، وحدَّد هدفه بأنه «يجب القضاء على البلشفية، يجب أن تُمحى موسكو من على الأرض بمجرد الاستيلاء على ثرواتها.»١٠١
وتوالت الانتصارات الألمانية — على الجبهة الروسية — كما أشرنا — وحاصرت الجيوش الألمانية موسكو وليننجراد، واتجهت صوب آبار البترول في القوقاز، وتصوَّر الجميع — بمن فيهم قيادات الإنجليز — أن هتلر يحقق أهدافه في غزو العالم. مع ذلك، فإن هجوم هتلر على الاتحاد السوفييتي أظهر أن الحرب ستطول، وأكد أن إنجلترا كانت أبعد نظرًا حين قررت — في الأيام الأولى للحرب — فتح الاعتمادات اللازمة لحربٍ تدوم ثلاث سنوات.١٠٢
وفي الوقت الذي بدأ فيه هتلر هجومه على الاتحاد السوفييتي، أصدر رئيس وزراء إنجلترا ونستون تشرشل تصريحًا، أكد فيه وقوف إنجلترا بجانب روسيا ضد عدوان النازية الجديدة، ووجدت قوات الإنجليز في تلك الخطوة عاملًا في تخفيف العبء الكابوسي على قوات الحلفاء في ميدان شمال أفريقيا، وتواصلت الغارات على المدن الألمانية،١٠٣ وقال توفيق بك (موعد) وهو يلقي الجريدة جانبًا: «لا شيء إلا أنباء الحرب والغارات، كأنما خلت الدنيا مما يستحق أن يُروى.»١٠٤
كان تبرير هتلر لهجومه على الاتحاد السوفييتي أنه خشي من قوته التي تتهدد سلامته — هتلر — ومن ثَم عجَّل بمحاولة القضاء عليه،١٠٥ وكان إعلان الحرب على الاتحاد السوفييتي حماقة كبرى، بل إن التوقع العام — عقب اقتحام قوات النازي للأراضي الروسية وتقدُّمها فيها — هو هزيمة ألمانيا، ذلك لأن هتلر — على حد تعبير الدكتور خالد — قد فتح على نفسه جبهة عريضة قاتلة، وضاع آخر أمل في هزيمة إنجلترا في وقتٍ قريب، وضاع كلُّ أمل في إشعال الثورة ضدها في مصر.١٠٦
والواقع أن تحالف الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية لم يكن يعني — في أغلب التقديرات — تخلي الروس عن سياستهم التقليدية، سواء في عهد القيصرية أو البلشفية، وهي العداء شبه الطبيعي الموروث بين بلادهم وألمانيا في الغرب، واليابان في الشرق. وقد أكد ستالين ذلك فيما بعد، حين صرح بأن القصد من هذا التحالف، كان «ضمان فترة هدوء تتمكَّن فيها روسيا من الاستعداد.»١٠٧
حاول هتلر تبرير الغزو الألماني للأراضي السوفييتية، بإعلانه أن «روسيا — رغم التحالف — وقفت من ألمانيا موقفًا عدائيًّا؛ إذ طالب قوادها في أثناء الحرب البولندية بضم لتوانيا» وأخضعت روسيا لنفوذها فنلندا ودول البلطيق، وحشدت جيوشها على الحدود الألمانية بشكل يبعث على التهديد، مما اضطرت ألمانيا إزاءه إلى فعل المثل، «رغم أننا نعلم مبلغ ما يستفيد به الحلفاء من حجز قواتنا على حدودنا.» وأردف هتلر قوله: «إن روسيا طالبت بضم بسارابيا إلى ألمانيا، فاضطررت إلى إجابة جميع مطالبها، ولم أتخذ أي عمل إيجابي ضدها، مع ما لحظته في الانقلاب اليوغوسلافي من أنه كان بإيعازٍ من إنجلترا وروسيا متعاونتين … ولمَّا تمادى الكرملين في طلباته، وأصبح موقف البلقان مهددًا، نفد صبري.»١٠٨

وفي أواخر أغسطس ١٩٤٢م، وصلت القوات الألمانية إلى أبواب ستالينجراد، لكن القوات السوفييتية — بقيادة الجنرال زوكوف — أفلحت في حصارها، حتى اضطر القائد الألماني في تلك الجبهة المارشال فون باووس إلى الاستسلام بعد أن فقد معظم قواته.

وإذا كانت هزيمة الألمان في العلمين قد رجحت موقف الحلفاء في الحرب، فإن هزيمتهم في ستالينجراد جاءت أقرب إلى الضربة القاضية.١٠٩
يصف أحمد حسين ما أبداه أبناء ستالينجراد من مقاومة ضارية، أسفرت عن انتصارهم المؤكد على قوات الغزو الألماني: «كانت الحرب في ستالينجراد قد تحوَّلت إلى حرب شوارع وأزقة، وكانت البلاغات الرسمية تصدر متحدثة عن احتلال الدور الأرضي من العمارة الفلانية، وتتحدث عن القتال الجاري في أحد المصانع، وأن العدو قد احتل عنبر الغزل، ولا تزال المقاومة في عنبر النسيج، وكان ذلك آية ما وصل إليه الألمان من هوانٍ، بعد أن كانوا يجتاحون المملكة بأسرها في بعض أيام، بل وفي بعض ساعات، أصبحوا يقفون عاجزين أمام احتلال شقة من الشقق، أو بيت من البيوت، وأثبتت ستالينجراد أن الأسلحة الحديثة كلها هي أسلحة ميدان، ولكنها لا تفيد في قليل أو كثير في داخل المدن، وأن أعظم الجيوش بأسًا يمكن أن يجد في مدينة باسلة من المقاومة ما لا يجده من جيش ضخم. إن مقاومة ستالينجراد، وبسالة أبنائها، وبسالة الجيوش الحمراء بين أنقاضها، قد فاقت كل ما احتواه التاريخ القديم، أو الحديث، من أنباء المعارك والملاحم، وكل شجاعة في القديم، وكل بسالة، وكل تضحية وفدائية لا يمكن أن تقارَن، بحالٍ من الأحوال، بما تجلَّى في معركة ستالينجراد من بطولة الروس.» أردف الفنان: «طالت معركة ستالينجراد أكثر مما ينبغي، وفشل الألمان في القضاء على مقاومتها بعد أكثر من خمسة أو ستة أسابيع، وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى كارثة تحل بألمانيا، وقد حلَّت الكارثة، ولكن في مصر، حيث دارت الدائرة على الألمان في موقعة العلمين الثانية، فترتب على هذا الاندحار ما ترتب من جلاء ألمانيا من شمال أفريقيا، واستعادة الإنجليز للبحر الأبيض مما مكَّنهم بعد ذلك من غزو إيطاليا، وانهيار المحور بذلك.»١١٠
كانت القرى المصرية تتابع — من أحاديث أبنائها المتعلمين الذين يأتونها للزيارة، أو الإجازة — تحوُّل الموقف بعد معركة ستالينجراد، وزحف الجيش الأحمر، وانهيار جبهة الفاشيست في الصحراء الغربية.١١١ ودافع أحمد راشد (خان الخليلي) عن الروس، وأنهم لا بد أن ينتصروا، وقدَّر سيد عارف إن إنجلترا وروسيا ستسقطان معًا، فقال أحمد راشد: «الظاهر إنك تجهل حقيقة روسيا، روسيا الاشتراكية غير روسيا القيصرية، الشعب الاشتراكي كتلة من الصلب والإيمان والعزيمة، وهو ربما تقهقر ريثما يأخذ أنفاسَه، ولكنه لن يلقي السلاح أبدًا، ولن يسلم لدواعي الهزيمة.»١١٢
كانت معركة ستالينجراد — بالتحديد — عاملًا مهمًّا في إضعاف الدعاية المعادية للسوفييت «ورفعت اسم الاتحاد السوفييتي وسمعته، لدى جماهير المصريين.»١١٣
قدَّرت ألمانيا شهرين لإنهاء الحرب في الجبهة الروسية لمصلحتها، قبل حلول الخريف، وما يصحبه من أمطار تحيل الطرق إلى أوحال، تصعِّب من سير المصفحات والدبابات، وكان الهدف — بعد تحقيق الانتصار الحاسم — ضم روسيا إلى ألمانيا في حربها ضد الحلفاء، وبعد شهرين كان الألمان — بالفعل — على أبواب سمولنسك ونيفل، وكانت ليننجراد وكييف وأوديسا تحت الحصار، كما كان المدنيون قد أجلوا عن العاصمة موسكو. ثم حلَّ الشتاء في نهاية ١٩٤١م، وبدأت صورة المعارك في التغيُّر، فقد راحت القوات السوفييتية تكيل ضربات قاصمة للقوات النازية في روستوف وتجفين وعلى أبواب موسكو، فضلًا عن النشاط الهائل الذي قامت به القوات الخاصة السوفييتية وراء خطوط النازي.١١٤
وبعد أن تأزم الوضع في جبهات القتال، لجأ هتلر — في النصف الأول من عام ١٩٤٤م — إلى تجنيد كل الشبان الألمان القادرين على حمل السلاح، مما أدى إلى حدوث نقص حاد في العمالة، وإلى استعانة النظام النازي بالعمالة الأجنبية، وسجناء الحرب،١١٥ وعندما أصبحت الزبدة نادرة للغاية في ألمانيا، بدأ الألمان يتناولون «التوست» بحيث يتجه الجانب المدهون بالزبدة إلى أسفل، وهي طريقة كانت تتيح استخدام كمية قليلة من الزبدة، والاستمرار في تذوق طعمها.١١٦
كان هجوم القوات الألمانية على الاتحاد السوفييتي قضاء على التصور بأن تكون الحرب قصيرة الأمد،١١٧ ولم يكن ذلك في صالح ألمانيا، واعترف هتلر — في فبراير ١٩٤٥م — بأنه «كان يتعين عليَّ إنجاز كل شيء خلال سنوات قليلة ملعونة، بينما كان الآخرون يجدون الزمن كله تحت تصرفهم.»١١٨

والحق أن الفضل الأكبر في تحطيم القوة العسكرية الألمانية الرهيبة يعود إلى الاتحاد السوفييتي. تمكنت القوات الألمانية من اجتياح القارة الأوروبية كلها، والسيطرة عليها، لكن طبيعة النظام مكَّنت الاتحاد السوفييتي من الصمود أمام التفوق الذي حققته ألمانيا في الإنتاج، وميادين الإعداد والتسلح في مستهل الحرب، ومن الأسرار التي ظلَّت مخفية، إلى ما بعد أعوام من انقضاء الحرب، أن العسكريين الغربيين بحثوا — قبل عشرة شهور من إعلان انتصار الحلفاء — فكرة التحالف مع ألمانيا النازية لضرب روسيا التي بدأت في ذلك الحين في تحقيق انتصارات كاسحة في الحرب، لأن روسيا كانت تنظر إلى الحلفاء الغربيين بازدراء متزايد.

ومع بداية ١٩٤٣م ظهر للعالم أن السيادة في المستقبل ستكون لواشنطن وموسكو، وأن عصر السيادة الأوروبية قد انتهى.

•••

هزَّت العالم حادثة طيران الهر هيس نائب هتلر من ألمانيا، وهبوطه في إنجلترا، واعتقال الإنجليز له، وتعدَّدت الشائعات حول بواعث لجوء هيس إلى ألمانيا، ولعل أخطر تلك البواعث ما عقَّب به ستالين على ما حدث، بأن ألمانيا تحاول إثارة الانقسام الداخلي في إنجلترا، كما أثارته من قبل — بنجاح — في فرنسا، فأوفدت إليها هيس لإغراء ساستها على الانضمام إليها في محاربة السوفييت … لكن المؤامرة فشلت بإعلان انضمام بريطانيا والولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد السوفييتي.١١٩
ثمة ترجيحات أن «هيس» قد جُنَّ، وأن أعصابه اختلت، وقيل إنه فر هاربًا من عقاب هتلر كما حدث بالنسبة لقادة آخرين، وشائعات ترددت في الشارع المصري، ولم تستقر على معنًى محدد.١٢٠ أما عمدة جلاسجو، فقد قال للديلي ميل بأن هيس وفد على بريطانيا كسفيرٍ رسمي للنازيين، لاختبار الرأي العام البريطاني فيما إذا كان على استعدادٍ للتفاهم على عقد صلحٍ مع ألمانيا، ثم العودة بطائرته إلى برلين، وهو لم يحمل معه شروطًا مكتوبة، لكنه ذكرها شفاهًا، وكانت شروطه تتلخص في رد المستعمرات الألمانية إليها، وتسليمها جزءًا من القوات البريطانية البرية والجوية والبحرية، مع دفع تعويض ما، والموافقة على خضوع أوروبا لسلطة هتلر، واستيلاء ألمانيا على سواحل أفريقيا الغربية وسوريا وفلسطين وغيرها من المناطق، وانتقال رقابة ممر قناة السويس إلى برلين وروما، واستيلاء إيطاليا على تونس وكورسيكا، واستيلاء إسبانيا على مراكش (المغرب) وجبل طارق، على أن يُعقَد — بعد ذلك — صلح مع بريطانيا على هذا الأساس، فضلًا عن مراعاة مصالح ألمانيا الأخرى، وأضاف هيس إلى مطالبه إخراج ما سمَّاه عصابة تشرشل من الحكم، وإحلال حكومة أخرى بدلًا منها، تحسِّن التفاهم مع النازي؛ وكان رد الحكومة البريطانية على شروط الزعيم النازي إلقاء القبض عليه، وإيداعه السجن.١٢١

•••

لعلنا نجد تجسيدًا للمحاولات الإعلامية الأمريكية في الوطن العربي، منذ بداية الحرب، في كتاب أحمد توحيد العثماني «تاج الإمبراطوريات» الذي قصر غالبية مواده على «عظمة أميركا ومكانتها العالمية والدولية»، و«ديمقراطية الأميركيين وحريتهم»، و«ثروة أميركا الأولية وضخامة ماليتها»، و«عظمة أميركا المدنية والعمرانية»، و«أميركا وعظمتها الإنسانية»، و«ما تسديه أميركا للعالم والحلفاء والأمم المتحدة من بر وخير وإنقاذ» … إلخ.١٢٢
ومع أن جعفر خليل (المرايا) كان يرى الحياة الأمريكية حياة غريبة وعظيمة، وأن الأمريكي ذو مزايا لا يُستهَان بها، فإنه لم يستطع التخلص من إحساس عام بالنفور والكآبة بسبب قنبلة هيروشيما.١٢٣ أما عباس الأشرم، فقد أعلن أن هذا السلاح جاء نتيجة إحساس الإنسان بمركب النقص تجاه الطبيعة، بما تحدثه من أعاصير وبراكين وزلازل، فأراد أن يثبت بهذا الاختراع أنه في مثل جبروتها.١٢٤ أما طلبة مرزوق (ميرامار) فقد أكله الندم — فيما بعد — لأن أمريكا ترددت في الاستيلاء على العالم، عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذرية.

سأله عامر وجدي، زميله في فندق ميرامار: أتحسب أن الطوفان قد أهلك من البشر أكثر ممن أهلكتهم قنبلة هيروشيما؟

فقال طلبة مرزوق ساخطًا: ردِّد دعايات الشيوعيين أيها الثعلب، إن أكبر خطأ في حق البشرية قد وقع لدى تردد أمريكا في الاستيلاء على سلطان العالم، عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذرية.١٢٥
وحتى تضمن الولايات المتحدة عدم تقديم دول أمريكا اللاتينية، وغيرها، مساعدات من أي نوع إلى هتلر، فقد أسرفت في بذل وعودها لتلك الدول بمستقبلٍ متقدم.١٢٦ وكان الجيش الألماني الخامس، أو ما سُمِّي بالطابور الخامس، قد أفلح في شراء ١٤٠٠ مدرسة أدارها النازيون، بالإضافة إلى صحف وأندية وهيئات سياسية، كما استطاع أصحاب القمصان الذهبية في المكسيك أن يقلقوا الحكومة، وينشئوا حزبًا على نهج الخط النازي، وفي النرويج، حدثت خيانات من بعض القادة والرؤساء، وفي هولندا، لجأت الملكة إلى إقالة أحد كبار القادة، ومجموعة من الضباط.١٢٧

•••

في يونيو ١٩٤٤م نزل جنود الحلفاء نورماندي شمالي فرنسا، وتوالت هزائم الجيوش الألمانية، وانتهت بتوقيع وثائق الاستسلام للحلفاء في مايو ١٩٤٥م، وبذلك انتهت الحرب في أوروبا.

وفي ٩ يونيو ١٩٤٥م أعلن المارشال السوفييتي زوكوف انتحار أدولف هتلر وإيفا براون التي تزوجها يوم ٣٠ أبريل، قبل انتحارهما بستٍّ وثلاثين ساعة، وظل سر ذلك الزواج محجوبًا عن العالم.

المثير للغرابة والتساؤل أن مصير هتلر — بانتهاء الحرب — لم يُحسَم بصورة قاطعة، شكَّك السوفييت في واقعة انتحاره، وقالوا إنه هرب بطائرة إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية، وتكوَّنت لجنة تحقيق توصَّلت نتائج تحقيقاتها إلى تأييد واقعة الانتحار. وثمة شائعات بأن هتلر خشي من أن يعدمه الروس إذا وجدوه حيًّا عند دخولهم إلى برلين، فوضع جثتَين في مقر الحكم ليتصور الروس أنه — وإيفا براون — قد انتحرا، في حين لاذا بالفرار خارج ألمانيا،١٢٨ وشائعات تناقلها البسطاء الذين أسرفوا في التأثر بحياة الزعيم النازي، أن هتلر قد رُفِع إلى السماء،١٢٩ وكما يقول ثيودور درابر، فإنه «من المحتمل جدًّا أن موت هتلر، وليس فقدان برلين ذاتها، كان السبب الذي جعل الجنرالات الألمان يستسلمون.»١٣٠

وقع الفيلد ماريشال كيتل وثيقة استسلام على كل جبهات القتال في ٧ مايو ١٩٤٥م، وفي ٨ مايو ١٩٤٥م انتهت الحرب في أوروبا.

وفي الوقت الذي كان الشعب الألماني يلعق جراح الهزيمة والاستسلام غير المشروط، كان الرئيس الأمريكي ترومان يحتفل بعيد ميلاده الواحد والستين، واستسلام ألمانيا، في يومٍ واحد، هو ٨ مايو ١٩٤٥م، وسعى مئات الألوف من الفرنسيين إلى كنيسة نوتردام، يستمعون إلى الجنرال ديجول وهو يؤكد: كدولة، كقوة، كنظرية سياسية، فإن الرايخ الألماني قد تم تدميره تمامًا، واحتفل الشعب السوفييتي بالانتصار إلى الصباح، واستعرض ستالين في الميدان الأحمر ٥٨ ألف أسير ألماني.

•••

بلغ عدد الأسرى الألمان — في نهاية الحرب — ١٢ مليون جندي، من بينهم ٣٫٨ مليون جندي في أيدي القوات الأمريكية، و٣٫٧ مليون في أيدي القوات البريطانية، و٣٫٥ مليون في أيدي القوات الروسية، وكان نحو المليون في سجون فرنسا، وفقدت اليابان بين خمسة وستة ملايين نسمة، بما في ذلك ٥٥٤ ألف شخصٍ من المدنيين.١٣١
ونجح الاتحاد السوفييتي — خلال أعوام الحرب — في أن يضم إلى أراضيه التخوم الشرقية لبولونيا — نوفمبر ١٩٣٩م — وفرض إرادته على فنلندا، بدعوى تأمين ليننجراد والحدود الشرقية للبلاد، ذلك لأن «هذه الدولة الصغيرة ستكون حتمًا مخلب القط الاسكندنافي للرايخ.»١٣٢ واستولى كذلك على جمهوريات البلطيق،١٣٣ ففي ١٠ يوليو ١٩٤٠م أعلنت جمهوريات إستونيا وليتوانيا ولاتفيا انضمامها إلى الاتحاد السوفييتي، واستطاعت موسكو — دون إراقة قطرة دم واحدة — ضم ستين ألف ميل مربع من الأراضي إلى الاتحاد السوفييتي، ومنها أجزاء من رومانيا (أغسطس ١٩٤٠م) ومقاطعة بتسامو الفنلندية (١٩٤٤م) وأجزاء من تشيكوسلوفاكيا — ١٩٤٥م — فضلًا عن ٧٥٢ ميلًا مربعًا من شواطئ البلطيق التي تشتمل على موانٍ مهمة لا تجمد مياهها في فصل الشتاء، يقطنها حوالي ٢٣ مليون نسمة، وأصبح عدد سكان الاتحاد السوفييتي ١٩٣ مليون نسمة، كما أصبح طول الحدود بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا — بهذا الانضمام — ١٢٠ ميلًا على حدود لتوانيا وبروسيا الشرقية.١٣٤ كما امتدت السيطرة السوفييتية إلى جزر الكوريل وسخالين في الجنوب، واحتفظت موسكو لنفسها بالإدارة العسكرية على منشوريا، والتنظيم الدفاعي لميناء آرتور، وتنظيم الجمهوريات الشعبية على الحدود الصينية السوفييتية.١٣٥
أما يوغوسلافيا، فقد زادت مساحتها بإقليم «إيستري» الذي حصلت عليه من إيطاليا، كما زادت بلغاريا مساحتها بإضافة إقليم «دابرودجي» الجنوبي، وأما المجر والنمسا فقد حافظتا على حدودهما التي كانت قائمة قبل ١٩٣٨م، وإن حوَّلت الحرب مدينة فيينا إلى أطلال، واقتسمتها الدول المنتصرة، حوَّلتها إلى أربع مناطق: روسية وبريطانية وأمريكية وفرنسية، لا تفصل الواحدة منها عن أخرى غير لافتة صغيرة.١٣٦
وبالإضافة إلى انقسام ألمانيا إلى دولتين، فقد تقلصت مساحتها إلى حد كبير، أضاعت الأقاليم التي ضمَّتها عام ١٩٣٨م، وتنازلت بولونيا — بموجب معاهدة السلام — عن المنطقة الواقعة بعد خط أودر-نييس الغربي،١٣٧ وكان في مقدمة الخطوات التي اتُّخذت لعالم ما بعد الحرب، مؤتمر يالطة في فبراير ١٩٤٥م، وحضره روزفلت وستالين وتشرشل.

•••

أكد الهجوم الياباني على بيرل هاربور عالمية الحرب، ففي ٧ ديسمبر ١٩٤١م أغار الطيران الياباني على ميناء «بيرل هاربور» بجزر هاواي في المحيط الهادي، حيث دمر غالبية السفن الأمريكية الراسية في الميناء. أعلنت أمريكا الحرب على اليابان، وتلت إنجلترا وهولندا أمريكا في إعلانٍ مماثلٍ بالحرب على اليابان، ثم ما لبثت ألمانيا وإيطاليا أن أعلنتا الحرب على الولايات المتحدة، فلم يعُد ثمة مكان في العالم خلا من تأثيرات الحرب.

كان هدف القيادة اليابانية — بعد تدمير الأسطول الأمريكي — إحراز مكاسب سريعة، تملي من خلالها شروط المفاوضات المتوقعة.

وقد استطاعت القوات اليابانية أن تحرز العديد من المكاسب، في الفترة القصيرة التي تلت الإغارة على «بيرل هاربور». أدى الهجوم — وما تبعه من الغزو الياباني لهونج كونج — ليلة عيد الميلاد — إلى الاستيلاء على جزر الملايو والهند الصينية وبورنيو وجزر الباسفيك وجزر الهند الشرقية في ٩ مارس، والفلبين في ٩ أبريل، وأندامان وبورما.

وفي ١٥ فبراير ١٩٤٢م استسلم البريطانيون في سنغافورة، وأخذ اليابانيون ٨٥ ألفًا من الجنود البريطانيين أسرى، ثم بدأت القوات اليابانية زحفها إلى الهند.١٣٨
ثم بدأت «الانتصارات» الأمريكية في تقليص المد الياباني، بعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب، عقب ذلك الهجوم الياباني المفاجئ على الأسطول الأمريكي،١٣٩ وبعد استسلام ألمانيا، ظلَّت الحرب دائرة بين الحلفاء واليابان. وفي مايو ١٩٤٥م دُمِّر ما يقرب من نصف العاصمة طوكيو نتيجة للغارات المتواصلة عليها. ثم انتهت الحرب، وأعلن إمبراطور اليابان استسلام بلاده غير المشروط، بعد أن أُسقطَت القنبلتان الذريتان على هيروشيما ونجازاكي، وكما قال رئيس وزراء اليابان، فقد جعلت القنبلة الذرية كلَّ مقاومة عبثًا لا طائل تحته، واستسلمت القوات اليابانية الموجودة في الهند الصينية لقوات الإنجليز في العام نفسه.

كانت القنبلة الذرية هي الحل الوحيد الذي تملكه ألمانيا لحسم الحرب؛ من هنا جاء قول جوبلز في ٢٠ أبريل ١٩٤٥م — قبل انتحار هتلر، وانتحار جوبلز نفسه بعشرة أيام — إن النصر لم يكن أقرب إلينا منه اليوم، فقد كانت التجارب مبشِّرة على إنتاج القنبلة الذرية، لكن الحلفاء علموا بتلك التجارب، فأرسلوا جماعة فدائية بالطائرات دمَّرت معامل التجارب، واختطفت عددًا من العلماء الألمان.

•••

يقول الفنان (مصرع عباس الحلو) إن الموت شمل الكثيرين، قتلتهم روح الحرب التي ازدحم بها العصر، بعضهم غرق في البحر وأكلتهم الأسماك، وبعضهم قُتِل وجهًا لوجه أمام أخيه الإنسان، بعضهم جُنَّ، وبعضهم تشوَّه أو ترمَّل أو تثكَّل أو تيتَّم، وفي كل الأحوال فإن القتلة ظلوا مجهولين، مع أنهم معروفون للجميع، وتشمل القائمة زعماء وساسة وقادة عسكريين.١٤٠
وإذا كان هتلر قد واجه تهمة الجنون في إقدامه على تلك الحرب المستحيلة، فإن أحمد بهاء الدين لا يجد في تهمة الجنون التي أُلصقَت بهتلر، سببًا في إقدامه على محاربة العالم جميعًا. السبب الحقيقي — في تقدير بهاء — هو التقارير الكاذبة التي وصلت إلى زعيم النازي عن حجم قوته القتالية والصناعية والمادية مقابلًا لقوى الأعداء، كانت تقارير كاذبة، ومضلِّلة.١٤١

هوامش

(١) نجيب محفوظ، السكرية، مكتبة مصر، ٢٠٦-٢٠٧.
(٢) محمود دياب، أحزان مدينة، ١١٤.
(٣) محمد صبيح، من العلمين إلى سجن الأجانب، ٦٧-٦٦.
(٤) نجيب محفوظ، الهارب من الإعدام، بيت سيئ السمعة، مكتبة مصر.
(٥) جان ليجول، مصر والحرب العالمية الثانية، ت. عبد الرحمن فهمي، مطبعة مصر، ١٩٥٠م، ١.
(٦) عبد الحميد جودة السحار، الشارع الجديد، الطبعة الثانية، مكتبة مصر، ٣٧٩.
(٧) مصر والحرب العالمية الثانية، ٩.
(٨) أحمد حسين، الدكتور خالد، دار القلم، ١٩٦٤م، ٩٧.
(٩) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٠.
(١٠) المرجع السابق، ١٠.
(١١) عباس محمود العقاد، هتلر في الميزان، ١١٤.
(١٢) إدوار الخراط، على الحافة، عمل نبيل، هيئة قصور الثقافة.
(١٣) مصر والحرب العالمية الثانية، ٦.
(١٤) السكرية، ٢٢٧-٢٢٨.
(١٥) ١١ نوفمبر، صفحات من تاريخ مصر.
(١٦) ثروت أباظة، ثم تشرق الشمس، ١٧٤.
(١٧) يوسف الشاروني، زيطة صانع العاهات، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٨) الأهرام، ١٥/ ٤/ ١٩٤٠م.
(١٩) فخري لبيب، الأعشاش المهجورة، كنز الدخان، هيئة قصور الثقافة.
(٢٠) إبراهيم عبد المجيد، لا أحد ينام في الإسكندرية، ٥٧٠.
(٢١) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٩.
(٢٢) لا أحد ينام في الإسكندرية، روايات الهلال، ١٣١.
(٢٣) مصر والحرب العالمية الثانية، ٣٠.
(٢٤) المرجع السابق، ٢٠.
(٢٥) لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٣٢.
(٢٦) الأهرام، ١٤/ ١١/ ١٩٦٩م.
(٢٧) حبيب زحلاوي، يقظة ضمير، الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، ١٩٦٠م.
(٢٨) فرانسواز جير، آرثر متعة الحياة، ت. فاطمة خليل الدسوقي، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٥م، ١٠٩.
(٢٩) مصر والحرب العالمية الثانية، ٤٤.
(٣٠) المرجع السابق، ٤٥.
(٣١) المرجع السابق، ٤٦.
(٣٢) الحرس الوطني، فبراير ١٩٨٦م.
(٣٣) السكرية، ٢٤٥.
(٣٤) لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٦٣.
(٣٥) المصدر السابق، ١١٧.
(٣٦) المصدر السابق، ١٣٠.
(٣٧) محمود دياب، أحزان مدينة، هيئة الكتاب، ٣٠.
(٣٨) مع ذلك، فلم يكن أحد خائفًا في مصر — على حد تعبير الفنان — بل كانوا يذكرونها على أنها الزلزال البشري الذي سيغيِّر صورة الدنيا، ولكن — بالضرورة — بعد شيء من التدمير (الجنة العذراء، ٩٩).
(٣٩) يوسف جوهر، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب، ٢٠١٠م.
(٤٠) أحزان مدينة، ٣.
(٤١) إبراهيم عبد المجيد، المسافات، هيئة الكتاب، ١٢٧.
(٤٢) تدخلت إنجلترا في العراق عام ١٩٤١م لتحبط انقلاب رشيد علي الكيلاني، كما تدخلت إنجلترا — بالاتفاق مع الاتحاد السوفييتي — وخلعت شاه إيران رضا بهلوي، ونفته إلى جزيرة سيشل (مصر ما قبل الثورة، ٢٢٦).
(٤٣) كمال عبد الرءوف، الدبابات حول القصر، مذكرات لورد كيلرن عن ٤ فبراير ١٩٤٢م كتاب اليوم، ١٩٧٤م، ٦٠-٦١.
(٤٤) مصر والحرب العالمية الثانية، ٣١.
(٤٥) المرجع السابق، ٣٢.
(٤٦) عبد العظيم محمد رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر، دار الوطن العربي، ٢: ٥٧.
(٤٧) السكرية، ٢١٤.
(٤٨) محسن محمد، التاريخ السري لمصر، المكتب المصري الحديث، ١٩٧٣م، ١٤٣.
(٤٩) مصر والحرب العالمية الثانية، ٣٩.
(٥٠) المرجع السابق، ٤٠.
(٥١) المرجع السابق، ٤١.
(٥٢) المرجع السابق، ٤.
(٥٣) المرجع السابق، ٤.
(٥٤) المرجع السابق، ٣٣.
(٥٥) نجيب محفوظ، بذلة الأسير، همس الجنون، مكتبة مصر.
(٥٦) مصر والحرب العالمية الثانية، ٥٠.
(٥٧) المرجع السابق، ١٠٥.
(٥٨) المرجع السابق، ١٢٩.
(٥٩) المرجع السابق، ٨٠.
(٦٠) المرجع السابق، ١٠.
(٦١) أحمد حسين، وراء القضبان، كتب للجميع، ٨١.
(٦٢) محمد عودة، كيف سقطت الملكية في مصر؟، ٦٤.
(٦٣) وراء القضبان، ٨٣-٨٢.
(٦٤) نجيب محفوظ، خان الخليلي، مكتبة مصر، ٢٨٠.
(٦٥) محمود البدوي، الأصلع، صقر الليل، كتاب اليوم، العدد ٤٤.
(٦٦) محمود البدوي، البرج، السفينة الذهبية.
(٦٧) المصدر السابق.
(٦٨) ميشيل كامل، قصة يوسف، الطليعة، ديسمبر ١٩٧٢م.
(٦٩) مصر ما قبل الثورة، ٢٩٤.
(٧٠) المرجع السابق، ٣١١.
(٧١) لا أحد ينام في الإسكندرية، ٣٦٢.
(٧٢) محمد عبد الحليم عبد الله، الجنة العذراء، مكتبة مصر، ٢٠٠.
(٧٣) عبد الحميد جودة السحار، الحصاد، مكتبة مصر، ٩٨.
(٧٤) المصدر السابق، ١٧٨.
(٧٥) محمد التابعي، من أسرار الساسة والسياسة، كتاب اليوم، ٢٣٧.
(٧٦) كمال مرسي، اللبلاب، الدوامة، هيئة قصور الثقافة.
(٧٧) إدوار الخراط، صخور السماء، مركز الحضارة العربية، ٢٢١.
(٧٨) الدكتور خالد، ٣٩٥.
(٧٩) المصدر السابق، ٣٩٥.
(٨٠) محسن محمد، الشعب والحرب، ٦٣.
(٨١) وراء القضبان، ٨٠.
(٨٢) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ٧٦.
(٨٣) فخري لبيب، الأعشاش المهجورة، كنز الدخان، هيئة قصور الثقافة.
(٨٤) وراء القضبان، ٨٦.
(٨٥) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٠٩.
(٨٦) إدوار الخراط، عند الأشواك، العربي، فبراير ١٩٩٦م.
(٨٧) فتحي غانم، بنت من شبرا، روايات الهلال، ٧٧.
(٨٨) المصدر السابق، ٧٧.
(٨٩) مصر والحرب العالمية الثانية، ٦٨.
(٩٠) وراء القضبان، ١٠٨.
(٩١) مصر والحرب العالمية الثانية، ١١٨.
(٩٢) بنت من شبرا، ٨٠.
(٩٣) وراء القضبان، ١٦٦.
(٩٤) تاريخ العالم، ٢١٠.
(٩٥) مصر والحرب العالمية الثانية، ٢٨.
(٩٦) المرجع السابق، ٢٩.
(٩٧) وراء القضبان، ٣٤.
(٩٨) مصر والحرب العالمية الثانية، ٤٣.
(٩٩) وراء القضبان، ١١٢.
(١٠٠) الرأي العام (كويتية)، ١٣/ ١١/ ١٩٨٩م.
(١٠١) وراء القضبان، ٣٦.
(١٠٢) الحرس الوطني، فبراير ١٩٨٦م.
(١٠٣) محمود تيمور، موعد، إحسان لله، مكتبة الآداب، ١٩٥٩م.
(١٠٤) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٠١.
(١٠٥) الدكتور خالد، ٢٩٣.
(١٠٦) مصر والحرب العالمية الثانية، ٧٣.
(١٠٧) المرجع السابق، ٧٤.
(١٠٨) وراء القضبان، ١١٢.
(١٠٩) المصدر السابق، ١١٣.
(١١٠) عبد الرحمن الشرقاوي، قلوب خالية، الكتاب الفضي، ٨٣.
(١١١) نجيب محفوظ، خان الخليلي، مكتبة مصر، ١٠٠.
(١١٢) رفعت السعيد، اليسار المصري، ٢٧٨.
(١١٣) مصر والحرب العالمية الثانية، ٨٧-٨٨.
(١١٤) رمسيس عوض، محرقة اليهود، مكتبة الأنجلو المصرية، ٢٠٠٦م، ٤٤.
(١١٥) آن تيلر، كوكب مدمر، ت. عبد الحميد الجمال، مراجعة ماهر شفيق فريد، المجلس الأعلى للثقافة، ٣٦٨.
(١١٦) وراء القضبان، ٣٦.
(١١٧) الأخبار، ٢٩/ ٦/ ١٩٨٢م.
(١١٨) مصر والحرب العالمية الثانية، ٧.
(١١٩) وراء القضبان، ٢٤.
(١٢٠) مصر والحرب العالمية الثانية، ٧٠.
(١٢١) أحمد توحيد العثماني، تاج الإمبراطوريات، مطبعة الأنوار بالقاهرة، ١٩٤٣م.
(١٢٢) نجيب محفوظ، المرايا، مكتبة مصر، ٨٢.
(١٢٣) عبد العال الحمامصي، الصعايدة، للكتاكيت أجنحة، هيئة الكتاب.
(١٢٤) نجيب محفوظ، ميرامار، مكتبة مصر، ٣٣.
(١٢٥) جون كينيث جالبريت، الفوز، ت. محمد محب عبد الغفار، هيئة الكتاب، ١١٠.
(١٢٦) الحرب العالمية الثانية، دار الكاتب العربي ببيروت، ١٩-٢٠.
(١٢٧) عبد الرحمن فهمي، تاريخ حياة صنم، مختارات فصول.
(١٢٨) سعيد عبد الفتاح عاشور، السيد البدوي، أعلام العرب، ٤٩.
(١٢٩) مجلة الثقافة الأجنبية، ١٩٨٧م، ٢.
(١٣٠) الأهرام، ٤/ ٣/ ١٩٩٥م.
(١٣١) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٨.
(١٣٢) لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٣٢.
(١٣٣) مجلة «أكتوبر»، ٢٢/ ٧/ ١٩٩٠م.
(١٣٤) الحرس الوطني، مارس ١٩٩٠م.
(١٣٥) جراهام جرين، الرجل الثالث، روايات الهلال، ١٥.
(١٣٦) الحرس الوطني، مارس ١٩٩٠م.
(١٣٧) تاريخ العالم، ٢١١ وما بعده.
(١٣٨) محمد التابعي، مصر ما قبل الثورة، دار المعارف، ٢٢٦.
(١٣٩) بعد إعلان اليابان الحرب على الحلفاء، نُقِل المعتقلون المصريون من سجن الأجانب إلى معتقل الزيتون، ليقيم في السجن رعايا أجانب (أحمد حسين، وراء القضبان، ٧٧).
(١٤٠) يوسف الشاروني، مصرع عباس الحلو، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٤١) أحمد بهاء الدين، أفكار معاصرة، كتاب الهلال، ٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥